الفصل الثالث

الشعر من ذاتيَّة السرد إلى تعدد الأصوات

المبحث الأوَّل: القصيدة بين السرد الشخصي واللاشخصي

(١) ثمة طائفة من المصطلحات المتعالقة والمتداخلة والمترافقة أيضًا، تزدحم على هذا المبحث، تدور بين الشخصي واللاشخصي، بين الذاتي والموضوعي، بين القصة والخطاب، بين العلامات الإشارية واللاإشارية. ولعل هذا يبين وعورة الطريق في الوقت الذي يغرى بارتياده بغية محاولة فض الاشتباك، بين بعض المسائل أو التعامل النقدي مع بعض الظواهر من خلال هذه الاشتباكات (مع الأخذ في الحسبان التفاوت الزمني لظهور هذه المصطلحات واختلاف مفاهيمها عند البعض وكذا اختلاف الأهداف من وراء استخداماتها؛ ومن ثم فالمبحث معنِيٌّ بتشييد بناء إجرائي متماسك من مجمل المقولات لفحص النصوص محل الدراسة).

وما يحاول أن يكشف عنه هذا المبحث هو بعض وجوه تنظيم النص الشعري لأدوار الضمائر الثلاثة (المتكلم – المخاطب – الغائب) لبناء السردية في النص، أو بالأحرى الكشف عن جانب من هيئة انبناء السردية في النص من خلال جانب من جوانب تنظيم أدوار الضمائر أو الانتظام حولها بوصفها ركنًا ركينًا في اللغة.

إن استخدام الضمائر الشخصية فيما بين أيدينا من نصوص هو بطبيعة الحال إمكانٌ من إمكانات اللغة، ولكن على أي نحوٍ من الأنحاء تأتي تقاليد النوع وخصوصية النص التي يمكن من خلالها النظر — مقارنين بعصورٍ أخرى وشرائح مختلفة — لتطور الشعر العربي وتطور سرديته وأسلوبه بعامة.

ونتساءل هنا أيضًا عن الذاتية في النص الشعري والموضوعية تلك التي تبينها الصِّيغ الشخصية واللاشخصية في استخدام الضمائر في بناء السرد. وكذا كيف تتنابذ اللغات — تختلف وتتفرق — في القصيدة الجاهلية من خلال المفضليات؛ تتنابذ بين الموضوعية والذاتية، الخطاب والسرد، الشخصي واللاشخصي. كيف تتموَّج في نصوص المفضليات وفي لغة القصيدة الواحدة.

إزاء تصنيف الوقائع التي يتألف منها العالم التخييلي، التي لا تُقَدَّم لنا أبدًا في «ذاتها»، بل تُقَدَّم من منظور معين وانطلاقًا من وجهة نظر معينة؛ يقول «تودروف» إن الأخبار التي نَحْصُل عليها عن العالم المُتَخَيَّل إما أن تكون ذات طبيعة «ذاتية» أو ذات طبيعة «موضوعيَّة». ويخبرنا الإدراكُ عن المُدْرَك بقدر ما يخبرنا عن المُدْرِك، ويكون الإخبار «موضوعيًّا» عندما يكون إخبار الإدراك عن المُدْرَك، ويكون «ذاتيًّا» عندما يكون إخباره عن المُدْرِك.١
وهذان المَنْحيان في تقديم الأخبار يرتبطان بنظام العلامات الذي يعرفه السرد — وتعرفه اللغة بالأساس — وهو افتراق نظام العلامات في ضوء الشخصية إلى نظام «شخصي» وآخر «لاشخصي»، وهو افتراق لا يعتمد بالضرورة على المؤشرات اللغوية المرتبطة بالضمير الشخصي (أنا) والضمير اللاشخصي (هو)، «فقد توجد سرود، أو على الأقل فصول منها مكتوبة ومسندة إلى ضمير الغائب، لكن إسنادها الحقيقي هو إلى ضمير المتكلم».٢ ويجب ألا نخلط بين تقديم السرد بضمير المتكلم ومسألة الإخبار الذاتي والموضوعي كما يقول — تودروف — ﻓ «للسرد سواء أكان بضمير المتكلم [أم] ضمير الغائب أن يُقَدِّم هذا النمط أو ذاك من الإخبار».٣
ويقترح رولان بارت — الذي سبق تودروف إلى التنبيه على عدم كفاية معرفة هوية الضمير في تحديد الطبيعة العلاماتية للسرد من حيث شخصيته أو لاشخصيته؛ يقترح إجراءً يعيننا على هذا التحديد، إنه يقول: «يكفي أن نعيد كتابة السرد (أو المقطع) بتحويله من ضمير الغائب (هو) إلى ضمير المتكلم (أنا)؛ وما لم يترتب عن هذه العملية أي تحريف للخطاب سوى تغير الضمائر النحوية نفسها فمن المؤكد أننا نظل في إطار نظام خاص ﺑ الشخص».٤
ويمكن للطابع «الشخصي» أو «الذاتي» في السرد أن يُحَدد من خلال تأسيس بنفنيست ﻟ «الذاتية» في اللغة، تلك التي تضاء من خلال هذه المرتكزات التي تنظم العلاقات الحكائية والزمانية حول «الذات» المأخوذة باعتبارها نقطةَ للاستدلال، التي لا تتحدد إلا بالنسبة إلى تحقق الخطاب الذي تُنْتَج فيه، أي في ارتباطٍ بالضمير الذي يُتَلَفَّظ به في هذا الخطاب. ومن هذا القبيل ضمير المتكلم (أنا)، وبعض أسماء الإشارة والظروف من مثل «هذا، هنا، الآن، ذلك، الأمس، السنة الماضية …» وكذلك كل ما يرتبط بواقع إنتاج الخطاب وتحققه الفعلي.٥

ولعل مناقشة بنفنيست للإحالة في ضمير المتكلم تكشف عن هذه «الذاتية»؛ إذ يقرر بدايةً امتياز الضمائر عن كل التحديدات التي تفصلها اللغة بكونها: لا تحيل إلى مفهوم أو إلى فرد معين منفلتة في ذلك من قانون كل الأدلَّة الأخرى في اللغة؛ فلا يوجد «ضمير المتكلم» الذي يشغل كل ضمائر المتكلم التي يتلفظ بها في كل لحظة على أفواه كل المتكلمين بالمعنى الذي يوجد فيه مفهوم «الشجرة» الذي ترجع إليه كل الاستعمالات الفردية لكلمة شجرة.

إن ضمير المتكلم لا يدل على حقيقة معجمية، وإنما يحيل إلى «فِعْل الخطاب الفردي الذي يحتويه، كما يحدد المتكلم فيه». إنه لفظ لا يمكن أن يحدد إلا في «تحقق الخطاب»؛ ولا يملك إلا «إحالات آنيَّة»، والواقع الذي يحيل إليه هو «واقع الخطاب»؛ ففي أثناء تحقق الخطاب الذي يحدد فيه ضمير المتكلم المتحدث يعلن هذا الأخير نفسه باعتباره ذاتًا.٦
وإذا كانت الذاتية تتبدَّى من خلال مقولة «الضمير» كما يتبدَّى في ضمير المتكلم فإنها تتبدى أيضًا من خلال مقولة «الزمن» على نحو ما نجد في «الحال» أو «الحاضر»؛ إذ يحيل إلى «تقاطع الحديث الموصوف مع تحقق الخطاب الذي يصفه، ولا توجد نقطة الاستدلال الزمنية له إلا داخل الخطاب».٧
وإذا كانت «الذاتية» قرينة «ضمير المتكلم «أنا»» الذي تتمحور حوله الإحالة الكلامية للغة، حول عملية القول والتصاقها الحميم بصاحبها — فإن «الموضوعية» قرينة «ضمير الغائب «هو»» الذي يمثل حينئذٍ «صيغة الجذر الفعلي (أو الضميري) التي لا تحيل إلى فرد، لأنه يرجع إلى شيء يقع خارج الكلام.»٨ وهو أيضًا لا يوجد ولا يتميز إلا في تعارض مع ضمير المتكلم الذي يصنفه باعتباره «لاضمير»، عندما يتلفظ به».٩
وتتحدد الإحالة عند بنفنيست كما تُبين مريم فرنسيس في مَنحَيين:
  • الأول: علامات إشارية: وهو نمط ترتبط فيه العلامات (وجوبًا) بعلاقة «تجاور» مع مرجعها. والتجاور هنا تجاور في التخاطب وآلية الكلام، تجاور مع الكلام الذي يفترض بدوره تجاورًا مع المتكلم ومكان كلامه، وهو ما يُخْتَصَر في تعبير المتكلم ثلاثي الأطراف التالي: «أنا – الآن – هنا». وتنطلق الإحالة على هذا النمط من «أنا – الآن – هنا»، وتقاس بالمسافة التي تبعدها عنه. ويتحقق هذا النمط في نص «الخطاب أو الحديث».
  • الثاني: علامات لا إشارية: وهو نمط لا ترتبط فيه العلامات (وجوبًا) بعلاقة «تجاور» مع مرجعها. وهي سمة للنصوص التي تحيل إلى ماضٍ يبدو منقطعًا عن حاضر المتكلم، فلا يقاس بالمسافة التي تبعده عن هذا الحاضر، أو بواسطة ظروف قائمة على علاقة تجاور مع هذا الحاضر، وهو ما يتحقق في نص «القَص أو السَّرْد»١٠

وإذا كان بنفنيست يربط المنحى الأول «الإشاري» بالتعبير عن «الذاتية»، والمنحى الآخر «اللاإشاري» بالتعبير عن «الموضوعية» فإن مريم فرنسيس تضيف نمطًا ثالثًا للإحالة يختلف عما يؤسس للقصة أو الخطاب عند بنفنيست وهو نمط «الإحالة المطلقة» الذي يقف عندها قسيمًا للنمطين السابقين بوصفهما نمطين للإحالة المقيدة.

وتنطبق «الإحالة المطلقة» على تلك «الحال التي يتناول فيها المتكلم موضوعًا عامًّا، فيعالجه دون أن يربطه بزمان وكأنه حقيقة دائمة أو حال ثابتة.»١١ وهي تَتَجَسَّد بنصٍّ أو بوحدات نَصِّيَّة مبنيَّة بالدرجة الأولي على «الوصف»، حيث لا يُحَدُّ الموصوف بزمن معين وكأنه مرتبط بحقيقة ثابتة أو بحال دائمة. ويُدَلُّ على هذا الموصوف بتعابير اسمية معرفة أو بما ينوب عنها. والصيغة الفعلية المستعملة في الجمل المستقلة هي صيغة المضارع التي لا تشير — والحال هذه — إلى حاضر المتكلم، بل تشمل ما كان ويكون وسيكون. كما أن استعمال صيغة الغائب هي القاعدة العامة في مثل هذه النصوص. وقد تستعمل أيضًا صيغ المتكلم للجمع والمخاطب للمفرد أو للجمع، ولكنها لا ترتبط حَصْرًا بمتكلم أو بمخاطب محدد، بل تمثل الجنس الذي ينتمون إليه، غير أن هذا الاستعمال ليس مجانيًّا، فهو ينشئ فروقات دلالية وأسلوبية».١٢

وما يناقشه بنفنيست في ثنائية «الذاتية والموضوعية» ويراه متحققًا في «الخطاب والسرد» يعتمده رولان بارت في تفرقته بين الشخصي واللاشخصي الذي يتقاطع بدوره معه شاغلًا مساحةً واسعة من الاشتراك.

ويأتي جيرار جنيت ليتحدث بمصطلحي «السرد والخطاب». فيتكلم «بالخطاب» عما يتصل بالذاتية، السرد الشخصي. ويتكلم «بالسرد» عما يتصل بالموضوعية، السرد اللاشخصي.

إن الاختلافات بين القصة والخطاب تئول — عند جيرار جنيت — إلى تعارضٍ بين «موضوعية السرد» و«ذاتية الخطاب»، وهو ما يبين عنده من خلال مقاييس ذات طبيعة محض لسانية: «فالخطاب يكون ذاتيًّا كلما اندمغ ضمنيًّا أو تصريحيًّا بمثول ضمير المتكلم أنا «أو أحال عليه». غير أن هذه اﻟ «أنا» لا تتحدد خلافًا لهذا إلا من حيث كونها هي الشخص الذي يتحدث، تمامًا مثل المضارع «الحاضر»؛ زمن الصيغة الخطابية بامتياز، الذي لا يتحدد بوجه آخر إلا من حيث كونه لحظة الحديث، كما أن استعماله يطبع «مطابقة الحدث الموصوف لمقتضى الخطاب الذي يصفه».١٣
أما السرد فإنه يصفو تمامًا بعيدًا عن الذاتية، عندما لا يحيل مطلقًا على ركن الخطاب الذي يؤسسه، عندما تغيب مطلقًا أية إحالة على السارد. يقول جنيت متابعًا بنفنيست: «والحقيقة أنه لا وجود لأي سارد، فالأحداث تُعْرَض مثلما تقع، تبعًا لظهورها في القصة. لا أحد يتكلم هنا، والأحداث تبدو مرويَّة من تلقاء ذاتها.» إن النص يَمْثُل هنا أمام ناظرنا بدون أن يكون مقولًا من طرف أحد ما، وبدون أن تحتم (تقريبًا) معلومة من المعلومات التي يحتويها الرجوع إلى مصدرها لكي تكون مستوعبة أو مثمَّنة، هذا المصدر الذي يكتسب قيمته من جَراء ثنائية عن المتكلم وفعل الكلام أو تعالقه معهما».١٤

في الخطاب يتكلم أحد ما، وموقفه داخل فعل الكلام نفسه هو ما يُشَكل بؤرة الدلالات الأكثر أهمية. أما في السرد فلا أحد يتكلم — كما شَدَّد بنفنيست — ومن هنا لم يَعُد من حقنا، في أية لحظة، أن نسأل عَمن يتكلم (لا هويته ولا زمانه ولا مكانه …) لكي نتلقى دلالة النص تامَّة غير منقوصة.

(٢) في الشعر الجاهلي حيث الذات تبادر العالم عاريةً إلا من صدامها مع الأشياء والكون — وربما صدامها مع نفسها أيضًا — في مثل هذا الشعر يصعب على الكلام أن يكون شخصيًّا على الدوام، فمن حينٍ لآخر يهرب الشاعر من ذاتية لغته إلى لغة موضوعية أخرى لتتحدث بها القصيدة. إنه يتحول إلى الأشياء وإلى لغة مصوغة حولها لا تقدمه هو وتعود إليه، بل إنها لا تقدم أحدًا إلا الأشياء ذاتها، وقد صاغتها لغة لا تعود إلى متكلمٍ بعينه.

وإذا كانت اللغة — كما عند بنفنيست — هي «احتمال الذاتية»؛ لكونها تشمل دائمًا الأشكال اللسانية الملائمة للتعبير عنها باقتراحها، نوعًا ما، أشكالًا «فارغة» يمتلكها كل متكلم أثناء ممارسة الخطاب، وينسبها إلى «شخصه» مُحَدِّدًا في الوقت ذاته نفسَه باعتباره ضمير متكلم، وشريكه باعتباره ضمير مخاطب. إذا كانت اللغة كذلك، وكان الخطاب هو ما يثير انتشار الذاتية باعتماده على التحقق الحذر، الذي يغدو تحققه مكونًا لكل الترتيبات التي تحدد الذات؛ فإن ما هو شخصي يغدو على هذا النحو مركزًا لما هو لا شخصي، ما هو خطابي يغدو مركزًا لما هو سردي.

والقصيدة الجاهلية قصيدة ذاتية بامتياز في أغلب الأحوال تعتمد على «الخطاب» أو «السرد الشخصي» يتخلله أحيانًا سَرْد لا شخصي عن العالم والأشياء. إن ما هو شخصي، ما هو ذاتي يغدو هو لُب القصيدة الحكائي بوصفه مقولةً الشخص المتكلم بالنص. إن البحث عَما هو ذاتي، عَما هو شخصي تَحَسُّسٌ لمركز النص وبؤرته المرجعية.

(٣) ولعل أقصى ما يُحَمِّل القصيدةَ الجاهلية صيغَتَها الشخصية، كما تبدو من خلال المفضليات، طابَعُها «الخطابيُّ» الأصيلُ، من حيث لغتها وأسلوبها؛ إذ تبدأ كثرة كاثرة من القصائد وقد توجهت مباشرة لمخاطبٍ آخر، هذا الآخر قد يكون فعليًّا خلاف هذا الصوت الذي يتكلم بالنص، وقد يعود ليُضحي هو المؤلف نفسه، وقد جَرد من نفسه — كما يقول القدماء — شخصًا آخر يخاطبه.

كقول بشامة بن الغدير:

هَجَرْتَ أُمامةَ هَجْرًا طويلًا
وحَمَّلَكَ النَّأْيُ عِبئًا ثقيلًا
ﻣﻔ (١٠)

وكذا خطاب المُسَيَّب بن عَلَس لنفسه:

أَرَحَلْتَ مِن سَلْمى بغير مَتاعِ
قبل العُطاسِ وَرُعْتَها بَوداعِ
ﻣﻔ (١١)

وقول بشر بن أبى خازم:

ألا بانَ الخليطُ ولم يُزارُوا
وقَلْبُكَ في الظعائنِ مُسْتعارُ
ﻣﻔ (٩٨)

وكذا قول أبى ذُؤيب الهُذَلي:

أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِها تَتوَجعُ
والدَّهْرُ ليس بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
ﻣﻔ (١٢٦)

إن الإشارة اللغوية بالخطاب تبقى هي الإشارة بقطع النظر عن تأويلها بإعادتها إلى الذات، ليصبح المتكلم والمخاطب، الذات والآخر كيانًا واحدًا، فعلى الدوام هناك آخَرية عالقة بالذات وملازمة لها.

وما دام هناك خطاب فهناك «ذات» تدور حولها القصيدة وتتشكل بوصفها فعلًا يملك إحالاته الآنيَّة بالنسبة للمتكلم والمخاطب وسياق التلقي الذي هو واقع الخطاب. وهذه الإحالات الآنية تظل على الدوام تحمل شبح إنتاجها الأول، ولكنها في كل إعادة وتكرار تملك شروط إعادة إنتاجها.

وهذا الآخر الفعلي الذي تتوجه إليه كثرة من قصائد المفضليات قد يكون:

زوج الشاعر التي يختلف معها:

وكائِنْ مِن فتى سَوْءٍ تَرَيْهِ
يُعَلِّكُ هَجْمَةً حُمْرًا وجُونَا
المرَّار بن المنقذ، ﻣﻔ (١٤)

أو ابنه ﻣﻔ (١١٦)، ﻣﻔ (٢٧)، وقول عَبْدة بن الطبيب:

أبَنِيَّ إنِّي قَدْ كَبِرْتُ ورَابَني
بَصَرِي وفيَّ لِمُصْلحٍ مُسْتَمْتَعُ
عبدة بن الطبيب، ﻣﻔ (٢٧)

أو ابنته، شاكيًا إياها ما أصاب قومه من خطوب:

أأَسْماءُ لم تَسْألي عن أَﺑِﻴ
ـكِ والقومُ قد كان فيهم خُطُوبْ
ثعلبة بن عمرو، ﻣﻔ (٦١)

أو مخاطبًا حبيبته:

أفَاطِمُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِيني
ومَنْعُكِ ما سَألْتُ كأنْ تَبِيني
المثقب العبدي، ﻣﻔ (٧٦)

وكذا ﻣﻔ (٥٦)، ﻣﻔ (٦٦)

أو مخاطبًا الديارَ:

ألا يا ديارَ الحَيِّ بالبَرَدانِ
خَلَتْ حِجَجٌ بَعْدي لَهُنَّ ثمانِ
عَمِيرَة بن جُعَلَ، ﻣﻔ (٦٤)

وكذا يخاطب عاذلَيْهِ اللَّذين يلومانِه:

ألا لا تلُومَاني كَفَى اللومَ ما بِيَا
وما لَكُما في اللَّوْمِ خَيْرٌ ولا لِيَا
عَبْد يَغُوث بن وَقَّاص الحارثي، ﻣﻔ (٣٠)
إنكما صاحِبَيَّ لن تدَعَا
لَوْمِي، ومَهْما أُضِعْ فلَن تَسَعَا
ذو الأصْبَع العَدْواني، ﻣﻔ (٢٩)

هذا المخاطب قد يكون أيضًا مُخَاطَبًا مجهولًا، غير محدد، غير كونه وسيطًا مُكَلَّفًا بتبليغ رسالة، أو فلْنقُل بالأحرى مكلف بإذاعة الخبر ونشره، بقطع النظر عن إمكانية تفسيرها بكونها صيغة دعائية لإذاعة أمر. ومن هذا القَبيل، ﻣﻔ (١٢٩)، ﻣﻔ (١٧٠)، ﻣﻔ (٧١)، ﻣﻔ (٨٤)، ﻣﻔ (١٠٠):

قُلْ لِلمُثَلَّمِ وابنِ هِنْدٍ مالِكٍ
إن كُنْتَ رائِمَ عِزِّنا فاسْتَقْدِمِ
سِنان بن أبي حارثة المُري، ﻣﻔ (١٠٠)

وقد يكون المخاطب بالنص مُخاطبًا ما يوبخه أو يهدده أو يتوعده أو ينصحه، على نحو ما نجد في:

ﻣﻔ (٩٠)، ﻣﻔ (١٠٢)، ﻣﻔ (٧٢)، ﻣﻔ (٨٥)، ﻣﻔ (٨٨):

لا تقُولَنَّ إذا ما لم تُرِد
أن تُتِمَّ الوَعْدَ في شيءٍ نَعَمْ
المثقِّب العَبدي، ﻣﻔ (٧٧)

وعلى نُدْرَةٍ قد يُخاطب الشاعر ما هو مُجَرَّد على نحو ما فَعَل تأبط شَرًّا فيما أَورَد المُفَضَّل في صدارة مختاراته:

يا عيدُ ما لَكَ مِن شَوْقٍ وإيراقِ
وَمَرِّ طَيْفٍ على الأهْوالِ طَرَّاقِ
تأبط شَرًّا، ﻣﻔ (١)

(٤) إن فحص القصيدة الجاهلية — من خلال المفضَّليات — يُفضي بنا إلى القول بأن القصيدة الجاهلية سَرْد شخصي بالأساس يتخلله سرد لا شخصي وإن طال. فإذا كانت القصيدة الجاهلية في كثير تجاور للخطاب والسرد، للشخصي واللاشخصي، للذاتي والموضوعي، فإن الخطاب أو الذاتية هي ما يؤطر القصيدة ويدمج السرد أو الموضوعية في إطاره ليتحول السرد في النهاية إلى أحد عناصر الخطاب الشعري. إن السرد في الشعر يظل مشدودًا إلى عُرى الخطاب ليصبح مُكوِّنًا من مكوناته. ربما لا يكون هذا خَصيصة الشعر الجاهلي وحده، ولكن العكس ليس موجودًا فيما بين أيدينا من نصوص. إن الشعر الذي يتخلى عن طابع الذاتية لعله بعض مُنجَزات شعرنا الحاضر في بعض نماذجه، ولكنه أبدًا لم يكن الشعر الجاهلي. لقد كان الخطاب، كانت الذاتية هي المقوم الأكبر الذي يمنح هذا الشعر هويته في الوقت الذي يمنحُ الشاعرَ نَفْسَه هويته الخاصة بتشكله بين يديه.

والخطاب في القصيدة الجاهلية، أو ما هو شخصي هو إطارها وهيكلها ومَدَارُها الدلالي ونقطة انطلاقها التركيبي، وما هو سردي، ما هو لا شخصي هو لغة ملء الهوامش — إن جاز التعبير — لغة التفاصيل والاستطرادات. والخطاب على الدوام يمتص السرد ويحتويه دونما تكلفة أو حتى مواربة. يقول جنيت: «إن السرد المدمج في الخطاب يتحول إلى أحد عناصر هذا الأخير، أما الخطاب المدمج في السرد فيبقى خطابًا ويُشَكِّل صنفًا من الأورام، من السهل كثيرًا التعرف عليها، وتعيين مكانها وبالتالي فلا صعوبة بتاتًا في صيانة صفاء السرد مقارنةً مع صفاء الخطاب».١٥
هكذا يفتح الخطاب ذراعيه للسرد، وينأى السرد إذا أراد لنفسه أن يكون سَرْدًا خالصًا عن الانفتاح على الخطاب الذي لا يذوب فيه مطلقًا ويظل ناتئًا فيه. «إن أي تَدَخل لعناصر خطابية في صلب السرد لا بد وأن يتم الإحساس بها كتشويه لاستواء العنصر السردي عند الاقتضاء».١٦ ولكن هذا الخطاب الذي يمتلك القدرة الأصيلة على الاحتفاظ بصفاء عِرْقه يأبى إلا أن يلوذ من آنٍ لآخر بما هو سردي، بما هو لا شخصي.

إن بدايات النصوص بدايات شخصية على الدوام منذ البيت الأول، وما هو خلاف ذلك لا يلبث في البيت الثاني أو التالي له مباشرةً أن يُبديَ طابعه الشخصي.

يقول مُتَمِّمُ بنُ نُوَيْرة، ﻣﻔ (٩):

(١) صَرَمَتْ زُنَيْبَةُ حَبْلَ مَنْ لا يَقْطَعُ
حَبْلَ الخَليلِ ولَلأَمانَةَ تَفْجَعُ
(٢) ولقدْ حَرَصْتُ على قليلِ متاعِها
يومَ الرَّحيلِ فدَمْعُها المُسْتَنْفَعُ
(٣) جُذِّي حِبالَكِ يا زُنيْبَ فإنَّنِي
قد أسْتَبِدُّ بَوصْلِ مَنْ هو أَقْطَعُ
(٤) ولقد قَطَعْتُ الوَصْلَ يومَ خِلاجِهِ
وأخُو الصَّريمةِ في الأُمُورِ المُزْمِعُ
(٥) بِمُجِدَّةٍ عَنْسٍ …

تبدأ القصيدة بهذا السرد اللاشخصي عن «زُنَيبَة» التي قطعت وَصْل رَجُلٍ حَسَن الوفاء للأَخِلَّاء، لا يَفْجع الأمانة ولا يخون العهد. بهذه الحياديَّة يتم تقديمُ لُبِّ الإشْكالِ.

وعناصِرُه:
  • فعلُ صَرْمٍ وانقطاعٍ، هو المركز من الأحداث والعبارة.

  • «زُنَيبَة» التي هي المعارض، التي تُذْكر هكذا باسمها.

  • المحب الذي يُشار إليه بضمير الوَصْل الذي تؤديه «مَن»، الذي يتكلم بصوته في البيت التالي مباشَرةً.

لقد عَبَّرَ البيتُ الأولُ لاشخصيًّا عن هذا الانفصام والصَّرْم، وتلاشى صوت المحب الذي أُحِيلَ إليه بوصفه غائبًا عبر الموصول «مَنْ»؛ إذ يقول اللسانيون «أن الموصول يَدُلُّ على مُطْلَقٍ غائبٍ، من ثم يشبه ضمير الغائب في مجال الشبه المعنوي، ولا يكون له معنًى إلا مع ذكر موصوفه أو تقديره في ضوء المقام».١٧

وإذا كان البيت قد أَسْنَدَ ﻟ «زُنَيبة» فعلًا، فقد أسْنَدَ لهذا المحب — المفعول الدلالي هنا — وصفًا مقتضيًا فعلًا منفيًّا، فكأن جملة الصلة التي هي وَصْف لهذا المحب تنقضُ عدالة تَصَرُّف «زُنَيبة»؛ فقد قطعت من هو حَسَنُ الوفاء، هذا الوصف يقتضي أيضًا تصوير رَد فعل المحب تجاهها، الذي لن يعاملها معاملتها؛ فهو إذ جُبِلَ على الوفاء لن يقطع حَبْلَ وَصْلِها وإن قطعَتْه، ولن يخون وصالًا استودعهما الحبُّ إياه. وتُعلِّق الأبيات الوفاء بالوصال على الوفاء والأمانة، فلا ينتقض الوصل إلا عند خِلاجه الوصل، عند المخالفة والشك.

ومن هذه الصيغة اللاشخصيَّة في البيت الأول إلى صيغة شخصيَّة تمامًا في البيت الثاني يتكلم فيها المحب الذي أشيرَ إليه بضمير الوَصْل في البيت السابق، ويُشار إلى زُنَيبة بضمير الغياب لتتباعد هي في حين يحتل المتكلم مساحة البيت عبر مشهد الرحيل الذي لا يصوِّر إلا لوعتَه وحرصه على أقل القليل من الوصل والمتاع، حيث لم يكن منها إلا دَمعها. ثم يتحول السرد ليضمن خطابَ المحبِّ لزُنَيبة، وهنا نحن بين خيارين؛ إما أن يكون مقول القول هو: «جُذِّي حبَالكِ يا زُنيب»، وحينئذٍ سيكون بقية البيت: «فإنني قد أسْتَبِدُّ بَوصْلِ مَنْ هو أقْطَعُ»؛ سيكون من قبيل تعليق المتكلم على نفسه ووصف تَصَرفه، أو ربما كان البيتُ كله مقولَ القول، مخاطبًا به حبيبتَه، قاطعةَ الوَصْلِ. والبيت الرابع في هذا عودةٌ تامة في شطره الأول لسرده الشخصي مُقَرِّرًا فِعْلَ البَيْن: «ولقد قطعتُ الوَصْلَ يومَ خِلاجِه». إن صَرْمَها يُوْصَفُ لاشخصيًّا، أما صَرْمه هو فَسَرْدٌ شخصي.

إن هذا المقطع الشخصي على الإجمال يعود ليُخْتَم بهذا «السرد اللاشخصي»: «وأخو الصَّريمة في الأُمور المُزْمِعُ». ذلك السرد الذي يَدْخل مُعْتَرِضًا بين الجار والمجرور «بمجدة» وما يتعلق به «قطعتُ»، ب (٤). وتأخذ العبارة اللاشخصية شكل التعليق الختامي على رواية شخصية.

ويمكن تمثيل تناوب الضمائر في المقطع على النحو التالي:

البيت المحبوبة الشاعر
١ الاسم غائب
٢ غائب متكلم
٣ مخاطب متكلم
٤ متكلم

يحكي السرد اللاشخصي في البيت الأول عنه — عن الشاعر — وعَمَّن تُسَمى ﺑ «زُنَيبة»، وفي البيت الثاني يتحول إلى الصيغة الشخصيَّة ليتكلم الشاعر عنها بضمير الغائب، ثم يتحول هذا المتكلم في البيت الثالث ليخاطبها هي، تلك التي كانت في موقع الغياب، ثم يأتي البيت الرابع لِيُفْسِح المجال له — هو وَحْدَه — كي يتكلم: «ولقد قَطَعْتُ الوَصْلَ …»

ولعلها ليست فقط هذه البدايات التي تتصدر مقدمة القصائد هي ما يأخذ الطابع الشخصي؛ إذ يبدو أن هذه السمة تغلب على سائر الابتداءات الداخلية في كثير من أحوال، فكل بدايات الموضوعات داخل هذا النص على سبيل المثال بدايات شخصيَّة، فضلًا عن هذه الصيغ التكراريَّة التي تُلِح في الورود، سواء في بدايات الموضوعات الداخلية أو في الموضوعات نفسها. وحسبنا هذه الصيغة: «لقد + المضارع المُسْنَد إلى ضمير المتكلم» التي تتصَدر الشطر الأول في أبيات سبعة من مجموع أبيات النص الذي يبلغ خمسةً وأربعين بيتًا:

ب (٢): ولَقَدْ حَرَصْتُ على قليلِ مَتَاعِها
ب (٤): ولقد قَطَعْتُ الوَصْلَ يومَ خِلاجِهِ
ب (٢٠): ولقد غدوتُ على القَنِيص وصاحبي
ب (٢٨): ولقد سبقتُ العاذِلاتِ بشَرْبَةٍ
ب (٣٥): ولقد ضَرَبْتُ به فَتُسْقِطُ ضَرْبَتي
ب (٣٧): ولقد غُبِطتُ بما ألاقي حِقْبَةً
ب (٣٩): ولقد علمتُ، ولا محالةَ، أنني

البيت الثاني تحولٌ إلى السرد الشخصي الصريح أصلًا في النص بعد البيت الأول، ب (٤) هو نهاية موضوع الحب وبداية موضوع الناقة، وب (٢٠) بداية موضوع الفَرَس، ب (٢٨) بداية موضوع الخمر والنُّدمان. ولا يكاد يخرج عن هذه الطريقة الداخلية في الابتداء إلا بداية موضوع الضَّبع الذي يمثل الموت وإشكالية الإنسان معه.

(٥) وأحيانًا ما تبدأ بعض القصائد بداية لا شخصية ساردةً عن «القلب» الذي يعود مباشرة بآلية المجاز المرسل للشخص والذات، وما هو لا شخصي حينئذٍ مجرد قناع لما هو شخصي:

أجَدَّ القَلْبُ من سَلْمى اجتِنابَا
وأَقْصَرَ بعدما شابَتْ وشابَا
وشابَ لِداتُهُ، وعَدَلْنَ عنه
كما أَنْضَيْتَ من لُبْسٍ ثيابَا
فإن تَكُ نَبْلُها طاشَتْ ونَبْلي
فقد نَرْمي بها حِقَبًا صِيابًا
ﻣﻔ (١٠٥)، ب (١–٣)

إن كون «القلب» في البيت الأول مجازًا عن الشخص ليس فقط مجرد انحراف إشاري قائم على التجاور — كما تتحد آلية عمل المجاز المُرْسل — بل هو عدول تعدل به القصيدة سَرْدِيًّا عن الصياغة الشخصية المتوقعة لبدايات القصائد في التقليد الأدبي الشائع لنماذج الحقبة.

وكذا يقول المُمَزِّق العَبدي، ﻣﻔ (١٣٠)، ﻣﻔ (٨١) ببعض الاختلاف:

صَحَا عن تَصَابِيه الفُؤادُ المُشَوَّقُ
وحانَ من الحَيِّ الجميعِ تَفَرُّقُ
وأَصْبَحَ لا يَشْفِي غَلِيلَ فُؤادِه
قِطارُ السَّحابِ والرَّحيقُ المُرَوَّقُ
ﻣﻔ (١٣٠)، ب (٢،١)

التَّصابي: حنين واشتياق، وصحوة الفؤاد بناء للتكلف مع الفؤاد وازدياد في المعتاد، وصحوة الفؤاد عن تصابيه لا تحيلنا إلى سرد لا شخصي عن الفؤاد قدر ما تحيلنا إلى سرد شخصي عن هذه الأنا الممزقة شوقًا، لا يُسليها شيء، ولا يشفي غليلها.

وهذا السرد الشخصي المعطوف بعضه على بعض في ب (٢،١) يقطعه سرد لا شخصي يعلل لدواعي هذا السرد اللاشخصي: وحان من الحي الجميعِ تَفَرُّقُ. ويظل «الفؤاد» — وما تحيل إليه من ضمائر في البيت الثاني — لا يَخْلقُ سَرْدًا لاشخصيًّا. إن مَنْ يتدخل لينفي انطفاء حرارة القلب لا بد وأن تكون هي «الذات» حيث تتأسس الصيغة الشخصية.

وهنا لا يصبح مبدأ «إعادة الكتابة» الذي يقترحه رولان بارت كافيًا لتحديد ما هو شخصي، فملاحظة ما هو مجاز مرسل عن الشخص يخلق سَرْدًا شخصيًّا أيضًا مهما كانت صيغ التعبير عنه.

ولا يمنع هذا، كما هو معلوم، أن تأتي العبارات الشخصية مصوغة على ضمير الغائب — حتى لو كانت في بدايات القصائد — إذ يظل طابعها الشخصي الأصيل ثاويًا في عمقها، وما هو لا شخصي يسري كتقليد يُؤَوَّل على الدوام بما هو شخصي، على ما يتكلم سَلَمة بن الخُرْشُب، في بداية ﻣﻔ (٦)، يقول:

تَأوَّبَه خَيالٌ من «سُلَيْمَى»
كما يَعْتادُ ذا الدَّيْنِ الغَريمُ
فإن تُقْبِلْ بما عَلِمَت فإنِّي
بحَمْدِ اللهِ وَصَّالٌ صَرُومُ
ﻣﻔ ٦ (٢،١)

إن مجرد إشارة الضمير للغياب لا تحيل العبارة في البيت الأول مطلقًا إلى الصيغة اللاشخصيَّة، بل إن تأويب الخيال الذي لا شهيد عليه سوى الذات، وما يرافقه من أرق أفعال تقع ضمن مقولة الشخص. وعلاقة المشابهة مع اعتياد ذي الدَّين لغريمه تستدعي إلى جانب مظهر الملازمة دلالاتٍ نفسيَّة خاصة تنسحب على معاودة الخيال للشاعر، هذه الدلالات تدحض لاشخصية العبارة.

وفي البيت الثاني ينقلب الضمير للأصل المعدول عنه، على اعتبار أصلية المتكلم بالنسبة إلى الغائب، وعلى اعتبار أن القصيدة تعبير ذاتي عن متكلم يتحدث بنفسه وعن نفسه، والمساحة المفترضة بين التعبير بضمير الغياب والتعبير بضمير المتكلم هي مساحة لافتراض صِدْقٍ موضوعي يطمح إليه التعبير الشخصي الذي يكشف عن نفسه في البيت الثاني.

وإلى الصيغة اللاشخصية يتحول النص في البيت الثالث لوصف هذا المكان الذي غدا به الشاعر عاديًّا على فرسه:

ومُخْتاضٍ تَبِيضُ الرُّبْدُ فيه
تُحُومِيَ نَبْتُه فَهُوَ العَمِيمُ

إن الصيغة التي تُضْمِر «رُبَّ» تَضْرِبُ في أطناب اللاشخصيَّة، ومحاولة للتجرد والبُعْد عما تروي، لِتُلْقِيَهُ في حوزة المجموع أو حوزة الإطلاق، وهو تمامًا ما يحدث مع الفعل الذي يُبْنى للمجهول، ولعل تسمية النحاة «لما لَمْ يُسَمَّ فاعلُه» تبدو ذات دلالة في هذا السياق.

إن دلائل الوصف «مُخْتاضٍ»، «تُحُومي نَبْتُه» تأتي لاحقة لهما على الترتيب العبارتان: «تبيضُ الرُّبْدُ فيه»، «فهو العَمِيم». ويتحول الحديث إلى الشاعر ليثبت خوضه هذا المكان الموحِش «غدَوتُ به»، يتحول بعدها الحديثُ حديثًا عن الفَرس في صِيَغ لا شخصية إلى آخر النص، ب (٤–١٣):

(٤) غَدَوْتُ به تُدافِعُني سَبُوحٌ
فَرَاشُ نُسُورِها عَجَمٌ جَرِيمُ
(٥) مِنَ المتلفِّتاتِ بجانِبَيها
إذا ما بَلَّ مَحْزِمَها الحَمِيمُ
(٦) إذا كان الحِزَامُ لِقُصْرَيَيْها
أمامًا حيثُ يَمْتَسِكُ البَرِيمُ
(٧) يُدافِعُ حَدَّ طُبْيَيها وحِينًا
يُعادِلُهُ الجِراءُ فيَستقيمُ
(٨) كُمَيْتٌ غيرُ مُحْلِفَةٍ ولكنْ
كَلَوْنِ الصِّرْفِ عُلَّ بِه الأَدِيمُ
(٩) تَعَادَى مِن قَوائمِها ثلاثٌ
بِتَحْجِيلٍ وقائمةٌ بَهيمُ
(١٠) كأن مَسِيحَتَيْ وَرِقٍ عليها
نَمَتْ قُرْطَيْهِما أُذُنٌ خَذِيمُ
(١١) تُعَوَّذُ بالرُّقَى مِن غيرِ خَبْل
وتُعْقَدُ في قلائِدِها التَّمِيمُ
(١٢) وتُمْكنُنا إذا نحنُ اقْتَنَصْنًا
مِنَ الشَّحَّاج أسْعَلَه الجَمِيمُ
(١٣) هُوِيَّ عُقابِ «عَرْدَةَ» أشْأَزَتْها
«بِذِي الضَّمْرانِ» عِكْرِشَةٌ دَرُومُ

وحتى هذا الشطر الذي يَسْرُد بضمير الجمع «نحن» في البيت الثاني عشر — لا يعدو أن يكون صيغة لاشخصيَّة كذلك، فهو سرد لا شخصي عن الفَرس، عندما تُمْكِنُنا — وتُمْكِنُ غيرنا كذلك — من صيد الحمار الوحشي. إنه وصف لإمكاناتها وقدراتها.

(٦) وما هو شخصي ولا شخصي في النصوص لا يرتبط بحدود البيت أو الشطر، وإنما هو خاصية تتسرب في التراكيب تُوافِق الأشطر والأبيات أو لا توافقهما.

وفي الجدول الآتي نعيد كتابة ﻣﻔ (٢) بِنَصِّها بما يُبَيِّن توزيع الأبيات في قوائم تُصَنِّف السرد شخصيًّا ولاشخصيًّا وتميزه في ذات اللحظة عما هو خِطابي.

الصيغة خطاب سَرْد (شخصي) سَرْد (لا شخصي)
البيت (خ) (س ش) (س لا ش)
١ فإن تنجُ منها يا حُزيمَ بن طارق فقد تركت ما خلف ظهركَ بَلقعَا
٢ ونادى منادِي الحَيِّ أن قَد أُتِيتُمُ وقَدْ شَرِبَتْ ماءَ المزادةِ أجمعَا
٣ وقلتُ لكأسٍ: ألجميها فإنما نزلنا «الكثيب» مِن «زَرُودَ» لِنَفْزَعَا
٤ كأنَّ بِلَيْتَيْها وبَلْدةِ نَحْرِها مِنَ النَّبْلِ كُرَّاثَ الصَّريمِ المُنَزَّعَا
٥ وقَدْ جَعَلَتْنِي من «حَزِيمةَ» إصْبَعَا فَأدْرَكَ إِبْقاءَ العَرَادَةِ ظَلْعُها
٦ أمرتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ولا أَمْرَ للمَعْصِيِّ إلا مُضَيَّعَا
٧ إذا المرءُ لم يَغْشَ الكَرِيهةَ أَوْشَكَتْ حِبالُ الهُوَيْنَا بالفَتى أن تَقَطَّعَا

وقد توحي بعض صيغ التعميم والإطلاق — في مجرد سياقها اللفظي — بإحالةٍ قريبةٍ إلى بعض الشخوص المتعينة في النص، ﻓ «المعصِي» في ب (٦) وصف يُدْخل المتكلمَ بالنص ضمن دائرة من ينطبق عليهم هذا الوصف، إن لم يكن — سياقيًّا — أهمهم. وكذا تحيل كلمتا «المرء»، «الفتى» في ب (٧) إلى المتكلم نفسه بوصفه غَواشًا للمكاره.

(٧) ومن النماذج الأخرى التي نطالع فيها تفاعل ما هو شخصي وما هو لا شخصي قصيدة الأَسْوَد بن يَعْفُر ﻣﻔ (١٢٥). وتلفت القصيدة النظر بوصفها مقطوعة، أو على الأدق قصيدة قصيرة (في حساب القدماء؛ إذ تجاوزت حَدِّ المقطوعة ببضعة أبيات)، ومع هذا تحفل بتقاليد بناء القصيدة على النموذج المشهور، من صَرْم إلى شاعرٍ صَلْبٍ لا يَرْضى الخَسْف، وَصَّال صَرُوم، إلى تعليل الانبتات بالكِبَر والشَّيب، ثم وصف الجمال الظاهري للمحبوبة، وتحديدًا هنا ريقها، الذي يشبهه بالخمر، ثم رحيله على ناقة قوية في قفرٍ مهلكة، إنه يقول:

(١) قد أصْبَحَ الحَبْلُ، من أَسْماءَ، مَصْرومَا
بعدَ ائتِلافٍ، وحُبٍّ، كان مكتُومَا
(٢) واسْتَبْدَلَتْ خُلَّةً، مِنِّي، وقد عَلِمَتْ
ألَّا أَبِيتَ، بِوادي الخَسْفِ، مَذْمُومَا
(٣) عَفٌّ، صَلِيبٌ، إذا ما جُلْبَةٌ أَزَمَتْ
من خيرِ قَومِكَ، مَوجُودًا، ومَعْدُومَا
(٤) لمَّا رَأَتْ أنَّ شَيْبَ المرءِ شامِلُهُ
بعد الشَّبابِ، وكان الشَّيْبُ مَسئُومَا
(٥) صَدَّتْ، وقَالتْ: أَرَى شَيْبًا، تَفَرَّعَهُ
إنَّ الشَّبَابَ الذي يَعْلُو الجَراثِيمَا
(٦) كأنَّ رِيقَتَها، بعدَ الكَرَى، اغْتَبَقَتْ
صِرْفًا، تَخَيَّرَها الحانُونَ، خُرْطُومَا
(٧) سُلَافَةَ الدَّنِّ، مَرْفُوعًا نَصَائبُهُ
مُقَلَّدَ الفَغْوِ، والرَّيحانِ، مَلْثُومَا
(٨) وقَد ثَوَى نِصْفَ حَوْلٍ، أشْهُرًا جُدُدًا
ببابِ أفَّانَ، يَبْتارُ السَّلَالِيمَا
(٩) حتَّى تَنَاوَلهَا، صَهْبَاءَ، صَافِيَةً
يَرشُو التِّجَارَ، عَلَيها، والتَّراجِيمَا
(١٠) وسَمْحَةِ المَشْيِ، شِمْلَالٍ، قَطَعْتُ بها
أرْضًا، يَحَارُ بها الهادُونَ، دَيمُومَا
(١١) مَهامِهًا، وخُرُوقًا، لا أَنِيسَ بها
إلا الضَّوابِحَ، والأصْدَاءَ، والبُومَا

إن التعبير عن الحب وانقطاعه، وهو ربما يكون مما يقتضي اللوعة، يُعَبَّر عنه في البيت الأول من خلال إخبارٍ يحاول أن يكون موضوعيًّا، فَيُقَدِّم إخبارًا عن «المُدْرَك» في المقام الأول، وهو «الحب» لا المُحِب، إنه لا يغوص في ذاته كما يغوص على الحُب كعلاقة موضوعية تبدو للناظر خارجية بما يُمكن ملاحظتها وتقديرها والحكم عليها، على خلاف تلك القيم الذاتية التي يغدو فيها المتكلم مَرْجِعَها الأول والأخير.

ومن هنا تُبَنْيَن علاقة الحب من خلال تَصَوُّر الشيء المادي الملموس الذي تتجاذبه أطرافٌ ويعاينه الناظر، وهذا من خلال استعارة الحَبْل، ب (١)، هذه الاستعارة الشهيرة في الشعر العربي للتعبير عن الوَصْل، وبخاصَّة في سياق التردد بين القُرْب والهجر، بين الوصال والانْبِتَات. إن العلاقة التي تُمثَّل من خلال «الحبل» يُتَحَدَّثُ عنها في الشطر الأول باعتبارها حَبْلًا، وفي الشطر الثاني يُتَحَدَّث عنها بأصْلِ تَمَثُّلِها: «ائتلاف، وكتمان هوى»، وكلاهما أوصاف تندرج في هذا السرد اللاشخصي من خلال كونها قِيَمًا تُعايَن. والفعل الذي يُغَلِّف حاضر البيت هو الفعل «أصبَحَ» الذي يفيد مجرد التحوُّل، غير أنه يضيف فقط الانتقالة بين الصباح والمساء، بين نَوْمٍ على حُبٍّ وسكينةٍ، ويقظةٍ على هجر وبُعْدٍ، ولكن إثبات الشطر الثاني للحب والائتلاف لا يمنع من تقدير حال الإشراف على الانقطاع قبيل وقوعه، فلم يكن الأمرُ مفاجأة. يقول التبريزي: و«قد» حرف يدخل لإيجاب أمرٍ مُنْتَظَر. كأنه كان العهد بينه وبين صاحبه على شفا انقطاع، وتقدير انبتات، فلما وقع كان كَوَعْدٍ أُنْجِز.»١٨ وما تؤسس له الأداة هنا في أول البيت الأول يَبِين بعد ذلك في البيتين الرابع والخامس من خلال هذا الحدث السابق على حَدَث الانبِتات الذي يُسَوِّغ للهجر: حدث الشَّيب. وهذا التسويغ يُقَدَّم من خلال هذه النبرة الشخصيَّة التي تُقَدَّم من خلال صوت «أسماء» ب (٥)، ثم صوت الشاعر الذي يحكي وجهة نظر «أسماء» ب (٤) قَبْل أن يَعْرِض كلامها، هذه الوجهة التي يبدو أنه هو أيضًا يُقِرُّها.

وهذا السرد الشخصي بدأ أصلًا من البيت الثاني، وتحديدًا من قوله: «وقد عَلِمَتْ ألَّا أبيتَ بوادي الخَسْفِ مَذْمُومًا»، فَعِلْمُها أنه وَصَّالٌ صَرُوم لا يَرْضَى تجرعَ المكروه هو مَرْجعيةُ صِدْقِ هذا العِلم أو كذبه، فضلًا عن هذه الأنا التي تملأ الشطر الثاني بالرفض وتمتد للبيت الثالث مخبرةً عن بعض صفاته الأُخرى: عَفٌّ صَلِيبٌ.

وعندما يستطرد الشعر لوصف ريقها أو الناقة فإن الأوصاف تتراكم بعيدًا عن هذا الطابع الشخصي الذاتي، وعندما يُسْنِدُ لا إلى المُدْرَك الأول «الريق أو الناقة أو الصحراء» وإنما إلى ما يتعلق به مثل هذا الخَمَّار، الذي أقام مُدَّةً يَتَوَصل إلى بياع هذا الخمر الذي يشبه به الريق، حينئذٍ لا يتخلف السرد اللاشخصي أيضًا، وإنما يُرْوَى عن الخَمَّار كما يروى عن الخمر، إن ذات المُدْرك تظل قدر المستطاع خارج حدود الإخبار.

وفي نموذجٍ آخر تأتي ﻣﻔ (٣٧) لتكون مقُولًا واحدًا شديد التماسُك، شخصيًّا في جانب منه، ولاشخصيًّا في الجانب الآخر:

(١) سَلَا رَبَّةَ الخِدْرِ ما شَأْنُها
ومِنْ أيِّ ما فاتَنَا تَعْجَبُ
(٢) فَلَسْنا بأوَّلِ مَنْ فاتَهُ
على رِفْقِهِ بعضُ ما يَطْلُبُ
(٣) فكَائِنْ تَضَرَّعَ مِن خاطِبٍ
تَزَوَّجَ غَيْرَ التي يَخْطُبُ
(٤) وزُوِّجَهَا غَيْرُهُ دُونَهُ
وكانتْ لَهُ قَبْلَه تُحْجَبُ
(٥) وقَدْ يُدْرِكُ المَرْءُ غيرُ الأَرِيبِ
وقَدْ يُصْرَعُ الحُوَّلُ القُلَّبُ
(٦) أَلم تَرَ عُصْمَ رُءُوسِ الشَّظَا
إذا جاءَ قانِصُها تُجْلَبُ
(٧) إليْهِ، وما ذَاكَ عَنْ إرْبَةٍ
يكونُ بها قانِصٌ يَأرَبُ
(٨) ولكِنْ لها آمِرٌ قادِرٌ
إذا حَاوَلَ الأَمْرَ لا يُغْلَبُ

الواقعة التي تعبر عنها القصيدة تصوغها الأبيات (١، ٢) صياغة شخصية، ثم تعود الأبيات (٣–٨) لِتُدرج هذه الواقعة الشخصية في إطار لا شخصي مُسَوِّغةً لحدوثها عبر الانتقال إلى الحالة المعَممة التي تأتي فيها هذه الواقعة المسرودة سَرْدًا شخصيًّا لتكون إحدى تمثُّلاتها. ومن هنا ينصرف الأسلوب إلى الصياغة اللاشخصية؛ فلا متكلم أو مخاطَب في الأبيات (٣–٨) باستثناء قوله: «ألم تَرَ» ب (٦) الذي يعيد به تثبيت استراتيجية بناء النص القائمة في هيكلها الرئيس على «القول»، وليبدأ به مثالًا آخر ب (٦–٨)، هو الوعل يقطن أعلى الجبال، الذي يقف موازيًا للشاعر في هزيمته.

وتسويغه لهزيمته يأتي عبر عبارات ثلاث: الأولى ب (٣، ٤) حيث يظل الضمير يغوص في الإبهام بعودته على كلمة «كائن» التي لا تُعَيِّن أحدًا، حيث يظل الرجل والمرأة والآخر التي يتدخل فيفوز بها، يظل كل هؤلاء شخوصًا غير متعينة، تظل كل هذه الإحالات وظائف يمكن لأي أحد أن يشغلها. وهذا التعميم الذي لا يُعَيِّن هو نفسه ما يعمل داخل البيت الخامس ويُكسبه لاشخصيته ويكون تسويغًا ثانيًا يقدمه الشاعر. وتأتي الأبيات (٦–٨) لتقدم المسوغ الثالث؛ حيث تخلو بعد عبارة «ألم تَرَ» من أي إحالة شخصية تجعلنا نقبض على صوتٍ يتكلم. إن العبارة لا تُحَدِّد متكلِّمًا ما هو مركز لمصداقية المعنى، بل العبارة نفسها بإحالاتها هي مصدر هذه المصداقية.

وفي نموذج آخر: ﻣﻔ (٧٧) يبدو كيف تسهم استراتيجية التنافس بين محوري الخطاب والسرد في بناء النص. يقول المُثَقِّب العَبْدِي:

(١) لا تَقُولَنَّ إِذَا ما لم تُرِدْ
أنْ تُتِمَّ الوَعْدَ في شَيءٍ: «نَعَمْ»
(٢) حَسَنٌ قَوْلُ «نَعَمْ» من بَعْدِ «لا»
وقبيحٌ قوْلُ «لا» بَعدَ «نَعَمْ»
(٣) إِنَّ «لا» بَعْدَ «نَعَمْ» فاحِشَةٌ
ﻓَﺒِ «لا» فابْدَأْ إذَا خِفْتَ النَّدَمْ
(٤) فإِذَا قُلتَ «نَعَمْ» فاصبِرْ لَها
بِنَجَاحِ القَولِ، إنَّ الخُلْفَ ذَمّْ
(٥) واعْلَمَ انَّ الذَّمَّ نَقصٌ للفَتَى
ومَتَى لا يَتَّقِ الذَّمَّ يُذَمّْ
(٦) أُكْرِمُ الجَارَ وأَرْعَى حَقَّهُ
إنَّ عِرْفَانَ الفَتَى الحقَّ كَرَمْ
(٧) [أَنا بَيْتِي مِن مَعَدٍّ في الذُّرَى
ولِيَ الهامَةُ والفَرْعُ الأَشَمّْ]
(٨) لا تَرَانِي رَاتِعًا في مَجْلِسٍ
في لُحُومِ النَّاسِ كالسَّبْعِ الضَّرِمْ
(٩) إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَن يَكْشِرُ لي
حينَ يَلْقَاني وإنْ غِبْتُ شَتَمْ
(١٠) وكَلامٍ سَيِّئٍ قَدْ وُقِرَتْ
أُذُني عَنُه وما بي مِن صَمَمْ
(١١) فَتَعَزَّيْتُ خَشَاةَ أَنْ يَرَى
جاهِلٌ أَنِّي كما كانَ زَعَمْ
(١٢) ولَبَعْضُ الصَّفْحِ والإعْرَاضِ عَنْ
ذِي الخَنَا أَبْقَى وإنْ كان ظَلَمْ
(١٣) إنَّمَا جادَ بِشَأْسٍ خالِدٌ
بَعْدَما حاقَتْ به إحدَى الظُّلَمْ
(١٤) مِن مَنَايَا يَتَخَاسَيْنَ بهِ
يَبْتَدِرْنَ الشَّخْصَ من لَحْمٍ ودَمْ
(١٥) مُتْرَعُ الجَفْنَةِ رِبْعِيُّ النَّدَى
حَسَنٌ مَجْلِسُهُ غيرُ لُطَمْ
(١٦) يَجْعَلُ الهَنْء عَطايَا جَمَّةً
إنَّ بَعْضَ المالِ في العِرْضِ أَمَمْ
(١٧) لا يُبَالِي طيِّبُ النَّفْسِ بِهِ
تَلَفَ المالِ إذِ العِرْضُ سَلِمْ
(١٨) [أَجْعَلُ المالَ لِعِرْضِي جُنَّةً
إنَّ خَيْرَ المالِ ما أَدَّى الذِّمَمْ]

النص في تصوري يتنازعه دافعان هما بؤرتاه المولِّدتان له؛ دافع الإشادة ﺑ «خالد بن أنمار» لفعلته (ويجب أن نتوقف أمام فعل الكتابة حول خالد وما قام به بوصف هذا الفعل — الكتابة — رَدًّا «للجميل، وربما كان أوْفَى الرَّدِّ». ودافع التحدث بعلو الهمة ومناقب النفس والالتزام بما التزم به خالد).

وربما كان «خالد بن أنمار» بفعله الحَسَن هو دافع النص وشرارته، أو كان هو مقصد النص، ولكن الشعر لا يعرف الوقوف عند حدود المقاصد؛ إذ ربما كان التحديث بأمر الذات هو دافع النص ومقصده وأمر خالد أمْرٌ مُكمِّلٌ يَحُض على الخصال ذاتها التي يؤكد عليها لنفسه. وربما كان الأول أوجه، ولكنها أفكار تجعل القصيدة هيكلًا عاريًا.١٩ فالقصيدة جِماع أغراضٍ وأفكار تتنافذ وتتدافع، ويكبر الشعر عن المقصد الواحد وكذا عن المواجهة السافرة مع مقصدٍ، ولكن القصيدة — على العموم — يبرز فيها محوران:
  • محور الخِطاب «بالمعنى الإشاري النحوي»، ويحتل الأبيات (١–١٢)، ب (١٨). دون أن يعني هذا استسلام كل أبياته له، فقط إنه الطبيعة الغالبة.

  • محور السرد، ويحتل الأبيات (١٣–١٧)، التي تصفو تمامًا له.

ولعل التنافُس المُفْتَرض يأتي من تأويل النص وملاحظة تقنياته واستراتيجية بنائه.

ويقول محققو المفضَّليات في هامش القصيدة أنها قسمان: «القسم الأول منها وينتهي بالبيت (١٢)، هو من شعر الحكمة والخُلق … وفي القسم الثاني يمدحُ خالد بن أنمار بن الحارث …»٢٠

وهذا القول يهيئ له ما هم واجدوه من اختلافٍ بين القسمين سواء في الموضوع أو طريقة التعبير. وربما كانت مطالعة النص للوهلة الأولي تؤيد ذلك، غير أن إمعان النظر والانطلاق من داخل النص نفسه، والصدور عنه بوصفه وحدة كلية للتحليل لا تعرف التجزؤ؛ تُسلمنا إلى غير ذلك.

إن النص محصلة تجادُل هذين المحورين، محور الذات الساردة ومحور آخر مسرود عنه هو «خالد بن أنمار»، وقوام المحورين: بعص الخصال الحميدة الواجب توافرها في الشخص الكامل. وإذا كانت آلية الخطاب السردي تختلف فيما بين المحورين فإن الروح الحِكَمِيَّة التي تصبغ الأبيات جميعها تغدو هي القاسم الإحالي المشترك بين الأبيات جميعها، خطابًا كانت أو سَرْدًا.

في محور الذات يُقَدِّم الخطاب صورة مشهديَّة تنقل واقع المتكلمين وخطاب الشخصية:

لا تقولنَّ إذا ما لم تُرِد
أن تُتِم الوعدَ في شيءٍ: نعم

ويظل حضور المتكلم، والمتلقي مهما كان صامتًا ملازمًا للحالة المشهديَّة؛ إذ تُقَدِّم الصوت السردي بوصفه يَصْدُرُ «الآن». ولكن هذا الصوت الذي يَتَوجه إلى مُخاطَبٍ بتعزيز قيمة الالتزام بالوعد والوفاء به والحِرْص على رضا الناس ب (١–٦)؛ لا يلبث أن ينتقل إلى الفخر بالنفس والإشادة بالذات ب (٧–١٢)، في سَرْدٍ شخصي عن الذات، لا مجال لمرجعية الكلام فيه سوى شخص المتكلم:

أنا بيتي من مَعَدٍّ في الذُّرَى
وليَ الهامة والفَرْع الأَشَمّْ

بعده ينتقل النص إلى سَرْدِه عن «خالد بن أنمار» ب (١٣–١٧). ولكن اللافت أن السرد يعود ليختم القصيدة ببيتٍ واحدٍ هو سَرْدٌ عن الذات ب (١٨)، وكأنه بهذا يؤطِّر تمامًا الحديثَ عن «خالد» بحديثه عن نفسه استهلالًا وختامًا.

ومما تجدر الإشارة إليه في إطار التدقيق فيما هو شخصي وما هو لا شخصي كون النظام العروضي قد يوحي بانفصال الأبيات تركيبيًّا نتيجة لاستقلالها الإيقاعي، الأمر الذي قد يخفف من شكل ارتباطها معًا، فتفقد بعض الجُمل ارتباطها الظاهر بمرجعها أو تبتعد عنه. ومن هنا قد يختلف وصفها السردي بين الشخصي واللاشخصي، أو بالأحرى تُظَن لاشخصيتها رغم ارتباطها بضمير شخصي قد يَبْعُد عنها أو يَفْصِلُ بينهما فاصل. فالسرد في الأبيات (١٣–١٧) عن خالد سَرْدٌ شخصي، وعما يتعلق به وعما ليس هو مركز الجملة سَرْد لا شخصي.

والمُشَجَّر التالي يُبَيِّن تعالُق جمل المقطع:

إنما جادَ بشأسٍ خالدٌ:

فما في داخل المربع من قبيل السرد اللاشخصي، الأول سَرْد عن المنايا وفعلها ﺑ «شأس» وكذا فعلها ﺑ «الشخص» الذي قد يكون شأسًا أو الشاعر أو أي شخص آخر، حتى لو كان المسرود له نفسه. والآخر من قبيل الإحالة المطلقة على ما سنبين.

وبين البيتين (١٤)، (١٦) يأتي ب (١٥) ليواصل ما انقطع من سرد شخصي عن «خالد»، هذا السرد الذي يتوقف كثيرًا عند مظاهر خارجية تلحظها العين وترصدها، من قبيل: «مُتْرَعُ الجَفْنَةِ» «رِبْعِي النَّدَى»، «حَسَنٌ مَجْلِسُهُ» وبخاصة وأن المجلس يوصف بأنه مجلس سكون وحلم — هذا السرد لا يتوقف عند ذلك بل يرصد «حال النفس» وقت اتلاف المال صيانةً لِلْعِرْض أو في وجوهٍ بعيدة عن أن تُدَنِّسَه، وهي حالات لا تُعايَن من الخارج بل يتبنى فيها السارد وجهة نظر الشخصية ليتكلم باسمها.

وما يمثل قاسمًا مُشْتَركًا بين محوري النص هو هذه العبارات الحِكَمية مطلقةُ الإحالة، التي تمتد على طول النص وتبدو من آنٍ لآخر لتقدم خبرات وَعْظية تمثل تجارب ذاتية ناتجة عن معاينة سلوكٍ بعينه: ب (٨، ١٠، ١١) أو ربما خبرات مُتَحَصلة من تجارب الذات أو الآخرين تُجْتَرُّ كخبرة تمثل الحقيقة الكليَّة التي تتعالى على المتكلم أو المخاطب أو ربما الآخرين كما في الأبيات (٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ١٢) أو ما يقدمه ب (٩) الذي يبدو كما لو كان حَلًّا لحكمةٍ أو نقلًا لها من صيغة الإطلاق إلى ضمير التكلُّم.

ويطيب لي أن أعزل هذه الأقوال كما يلي:
  • إنَّ الخُلْفَ ذَمّْ. ب (٤)

  • ومتى لا يَتَّقِ [الفتى] الذَّمَّ يُذَمّْ. ب (٥)

  • إن عِرْفانَ الفَتى الحَقَّ كَرَمْ. ب (٦)

    ولَبَعْضُ الصَّفْحِ والإعْراضِ عن
    ذِي الخَنا أبْقى وإنْ كانَ ظَلَمْ
    ب (١٢)
  • إن بَعْضَ المالِ في العِرْضِ أَمَمْ. ب (١٦)

  • إن خَيْرَ المالِ ما أدَّى الذِّمَم. ب (١٨)

إن اكتناز مثل هذه العبارات بطاقةٍ دلاليَّةٍ تختزل خبرات السابقين وتُقَدِّمها للَّاحقين، تَلُمُّ الكونَ في بضع مفردات، تنفُذ إلى عمق الحقائق؛ أمور تقف في صدارة ما يَهَبُ النصَّ شِعريته.

فالحكاية هنا هي حكايتنا جميعًا، إنها سَرْدٌ عَنا بأعياننا ووقائعنا المتحققة، التي ستتحقق والقابلة كذلك للتحقق في كل لحظة. إنها خلاصة سُرود لا نهائية ماضية ترسبت خبراتُنا حولها في هذه العبارات، وإليها انتهت محصلتها.

والعبارات كما تبدو عبارات مؤكدة ﺑ «إن» أو ﺑ «اللام»، مبنية على التعبير الاسمي الذي يُضَمَّن حَدَثًا ما، فيأخذ الإطلاقُ من أصالة تعبيره العام عن الشيء. أما عندما انْبَنى التعبير على صيغة فعلية: «ومتى لا يَتَّقِ الذَّمَّ يُذَمّْ»، وعاد الفعل على «الفتى» لم يرتبط الفعل حَصْرًا بشخص وإنما بجنس، بمطلق الشخص.

وإذا ما كُنا مشغولين هنا بتصنيف لغة النص من حيث ما يؤسس للذاتيَّة وما يؤسس لموضوعيته، وكُنا بين علامات إشاريَّة تحيل على الذاتية وأخرى لا إشارية تحيل على ما هو موضوعي فإن الإحالة المطلقة رغم اختلافها عن العناصر اللاإشارية فإنها تؤدي في تصوُّري إلى عمق الموضوعية، ولا يشكك في ذلك كونُها خارج نمطَي الإحالة الإشارية واللاإشارية؛ إذ يكفي كونها غير إشارية بالأساس. بمعنى أن إحالتها لا تتحدد بالنظر إلى ارتباط العلامات اللغوية وجوبًا بمرجعها بعلاقة التجاور الذي هو تجاور في التخاطب وآلية الكلام. بعبارة أخرى لا تتحدد في ضوء العلاقة بالمتكلم إيجابًا أو سَلْبًا، هذا المتكلم الذي يغدو مركزًا للإحالة في اللغة، وبذا يتم الخروج من أَسر مقولات الشخص والزمان والمكان.

إن ما تحاول أن تفعله مثلُ هذه العبارات هو الالتفاف حول ما هو مركز للإحالة، وتحاول أن تمحو هذا المركز بتعميمه، تحاول أن تُلغِي هذا الثابت بتعويمه. إنها بدلًا من أن تجعل المتكلم مركز الإحالة تجعل الكلام ذاته هو المركز.

المبحث الثاني: التنوع الكلامي وتنافُذ اللغات: تمثيل الكلام

(١) يستقر في الأذهان تَصورٌ ذاتي عن الشعر، وعن لغته، التي هي حينئذٍ لغة عالية الصفاء في غنائيتها، في نسبتها للشاعر، وفي فردانيتها، متغاضين عن أنه خلف كل كلام تمثيلات للغات اجتماعية متعددة قارَّة فيه طبقًا لمنطقه الداخلي وضروراته، فكل تمثيل للغة — كي يجعلنا واعين لما تعنيه اللغة، وقادرين على تعيين مَنْ يتكلم داخلها — يضعنا — كما يقول باختين — على تماسٍّ مع المتلفِّظ بالكلام.٢١ إذ لا ينفصل كل كلام عن بُعْدٍ اجتماعي؛ فالتنوع موصولٌ — بالأساس — بالإنسان في المجتمع، ولعله بالمرء في تواصله الإنساني المتنوع. وهنا يبدو التصور الذاتي الصافي والمثالي للغةٍ ما تصورًا ميتافيزيقيًّا محضًا، ويبدو أمر الصوت الواحد والوحيد في النص، أو التصور الواحد والوحيد، وهمًا كذلك.
إن اللغة في اللحظة التي تؤسس فيها لذاتيتها تؤسس فيها أيضًا لعلاقتها مع آخر،٢٢ تؤسس لأُوْلى درجات حواريتها. يقول بنفنيست إن «الإنسان لا يستطيع أن يتكون باعتباره ذاتًا إلا في اللغة وعبرَها، لأن اللغة تؤسس وحدها مفهوم «الأنا» في الواقع؛ في واقعها الذي هو واقع الكينونة.»٢٣ ولا تتحدد الذاتية هنا — كما يقول بنفنيست — عبر الإحساس الذي يشعر به كل فرد عندما يَحُس بذاته، بل باعتبارها الوحدة النفسية التي تتعالى عن كل التجارب المعاشة التي تتضمنُها، التي تؤمن استمراريَّة الوعي، ولذلك فالذاتيَّة هي مقدرة المتكلم على طرح نفسه باعتباره «ذاتًا»؛ فالإنسان الذي يقول «أنا» هو الذي يُعتبر «أنا».
وعلى هذا النحو فالذاتية خاصية تتبلور من خلال اللغة وبها. وفي هذا الإطار لا يتأسَّس الوعي بالذات إلا من خلال التضاد، إلا من خلال وعي الآخر والإحساس بوجوده، «إذ لا أستعمل ضمير المتكلم إلا إذا كنت متوجهًا نحو شخص معين سيكون في كلامي عبارة عن ضمير مخاطَب. وشرط الحوار هذا هو المكون للشخصيَّة، لأنها تعني — وبطريقة تبادُليَّة — أنني أُصبح ضميرَ مخاطبٍ في كلام كُلِّ مَنْ سَيُحَدِّدُ نَفْسه بدوره عبر ضمير المتكلم.»٢٤ وعلى هذا النحو يصبح ضمير الخطاب شرطًا لضمير التكلم كما أن ضمير التكلم مُسْتَوجبًا لضمير الخطاب. «إن اللغة غير ممكنة إلا لأن كل متكلم يطرح نفسه باعتباره ضمير متكلم في خطابه. وبناءً عليه، يطرح ضميرُ المتكلم ضميرًا آخر، هو ذلك الذي يصبح صدًى لي أتوجه إليه، ويتوجه إليَّ عبر ضمير المخاطب، مع كونه خارجًا عَنِّي».٢٥

إن النظر إلى اجتماعيَّة الظاهرة اللغويَّة، واستحالة وجود أي كائن بصورة منفصمة عن علاقاته التي تربطه بالآخر وتحدده في ضوئه؛ يحيلُنا إلى اللغة في إطارها التداولي حيث علاقة تفاعلٍ بين أطرافٍ، وهو أيضًا ما يخرج بنا من عزلة الفرد المتوهمة إلى حقيقة التواصل والتفاعل. هو ما يخرج بنا من وهم وجودٍ سابق ومُقَدس للذات أو النص، إلى اللغة في تَبَدِّيها تفاعلًا بين شُرَكاء. وفي ضوء هذه الرؤية نَتَسَمَّعُ رَجْعَ الآخر في صوت الذات، نَتَلَمَّسُ حدودَ الآخَرين ووضعياتهم حتى في حوار النفس ومناجاة الذات. وكل نص أو عبارة بوصفها تواصلًا تُقَدِّمُ «حكايةً» أو «سَرْدًا» ما، وكُلُّ موضوع لمحمولٍ ما هو موضوعٌ لِسَرْدٍ، حتى مع انفراد الذات. حضورُ الآخر حضورٌ ضمنيٌّ ملازِمٌ لها في وجودها، وفي تعبيرها عن كينونتها، فالذوات توجد فقط عبر علاقات تُحَدِّدها الذوات الأخرى.

ولعل ميخائيل باختين يقف في صدارة مَنْ أَدْرَجَ «الآخَر» بقوة في حيِّز النظرية الجماليَّة لفعل الخلق والإبداع، حيث يرى أننا نتفحص تأملاتنا وتفكُّراتنا بحياتنا الخاصَّة ونتفهمها عبر وعي الأشخاص الآخرين، فالوعي الفردي لا يُنْجَزُ إلا في ضوء «الآخر»، عبر الآخر وبمعونته، إننا نخفق في النظر إلى أنفسنا ككليات، ولذا فإن الآخر ضروري، حتى ولوكان ذلك بصورة مؤقتة لاستكمال فهمنا لذاتنا، وهو أمرٌ يستطيع الفرد أن يتوصل إليه جزئيًّا فقط بالاستناد إلى ذاته هو.

إن فكرتنا الخاصَّة — وربما وهمنا — عن الشخصِ التام الوجودِ الناجزِ المكتمل، يمكن أن تأتي من إدراك شخصٍ آخر لا من إدراكنا نحن لأنفسنا. إن الصورة التي أراها في المرآة هي بالضرورة غير مكتملة، ومع ذلك، وبمعنًى من المعاني، فإنها توفر لنا نمطًا بَدئيًّا من إدراك الذات، ولكن شخصًا واحدًا يحدقُ فيَّ يمنحني الشعورَ بأنني أُشَكِّلُ وحدةً كليَّةً.٢٦
يقول باختين أيضًا: «إن الوجودَ الفعلي للإنسان يكمن في التواصل العميق. أَنْ نُوجَد يعني أن نتواصَل … أن نكون يعني أن نكونَ للآخَر، وبالنسبة له، ومن خِلالِه، أن نكونَ لأنفسنا … لا أستطيعُ أن أَفْعَل شيئًا دون الآخر، لا أستطيع أن أكونَ ذاتي أو دونَ الآخر؛ ينبغي أن أجِدَ نفسي في الآخر واجدًا الآخر فيَّ (في نوعٍ من الإدراك والتفكير المتبادلين). لا يمكن أن يكونَ التبريرُ تبريرًا للذات، كما لا يُمْكِنُ أن يكونَ الاعترافُ اعترافًا للذات. إنني أتلقَّى اسمي من الآخر، وهذا الاسم يوجد بالنسبة للآخر، فأن نُسَمِّي أنفسنَا يعني أننا نقوم باغتصاب [حق الآخر].»٢٧

وهنا سوف ننظر للقصيدة بوصفها مَجْلًى لهذه الآخَرية التي تؤسسُ لتعدُّديَّةٍ صوتية (بولوفونيَّة)، وتنازُع وجهات نظرٍ يهيئ بقوةٍ لقراءة النص قراءةً سَرْدية.

(٢) والحوارية (البولوفونية) تهتم — كما عند باختين — ببحث «الكلمة»، التي يعني بها حينئذٍ «اللغة في كيانها الحي الملموس»، اللغة وقد وُضِعَتْ على لسان شخوصٍ وأُفْعِمَتْ بالعلاقات الحوارية بين هؤلاء الشخوص، اللغة وقد أصبحت «مواقف» مُعَبَّرًا عنها بالكلمة، بما يهيئ لظهور علاقات حوارية بين الشخوص أطرافها التواصل. فاللغة لا تؤخذ حينئذٍ «بوصفها نظام مقولاتٍ صرفيَّة نحوية مُجَردة، بل اللغة الممتلئة أيديولوجيًّا، اللغة بوصفها نَظرة إلى العالم، بل حتى بوصفها رأيًا مُشَخصًا».٢٨

وحتى نتسنَّى لنا بَلْوَرةُ مفهوم الحوارية أكثر سوف نقدم مثالًا توضيحيًّا قَدمه باختين: إن عبارتين مثل: «الحياة طيبة»، «الحياة ليست طيبة» يمثلان رأيين اثنين يمتلكان شكلًا منطقيًّا مُحَدَّدًا، ومضمونًا محددًا له معنًى ملموس. بين هذين الرأيين اللذين يمثلان رأيين فلسفيين حول قيمة الحياة توجد علاقة منطقية محددة، وهي أن «أحدهما يُلغي الآخر بوصفه قضية ونقيضها». وعلى الرغم من أنهما يستطيعان أن يوفِّرا مادةً ملموسةً للمجادلة وأساسًا منطقيًّا لذلك إلا أنهما لا يمكن أن تقوم بينهما أي علاقة حوارية مهما كان نوعها، فهما لا يتجادلان أبدًا فيما بينهما.

ويتعين على كلا هذين الرأيين — من أجل أن تقوم بينهما أو تجاههما علاقة حوارية — أن «يَتَجَسَّدا»، أن «يُوَزَّعا» بين تعبيرين اثنين مختلفين لشخصين مختلفين، حينئذٍ فقط سوف تضحي بينهما علاقة ما حواريَّة. أما قولنا: «عبارتين من مثل «الحياة طيبة»، «الحياة ليست طيبة»» فإننا نصبح أمام رأيين اثنين متماثلين تمامًا، وبالتالي فهما في حقيقتهما رأي واحد ووحيد كُتِبَ أو «نُطِقَ به» من قِبَلِنا مرتين اثنتين، وهذا التعدد (مرتين اثنتين) ينتمي فقط إلى التجسيد اللفظي وليس إلى الرأي نفسه. وهنا يمكننا أن نتحدث فقط حول «العلاقة المنطقيَّة الخاصة بالتماثل» بين هذين الرأيين الاثنين، ولكن إذا ما عُبِّرَ عن هذا الرأي من قِبَل شخصين مختلفين فإن «علاقات حوارية» سوف تنشأ بين هذين التعبيرين في مثل هذه الحالة كعلاقات «التأييد، والاتفاق».

ومن هنا يتعين على العلاقات المنطقيَّة ذات المعنى الملموس — من أجل أن تصبح حواريَّة — أن «تتجسد»، أن تدخل في جَوٍّ جديدٍ من الوجود، أن تُصْبِحَ «كلمةً» أي «تعبيرًا»، وأن يكون لها «مؤلف»، أن يكون لها إرادة إبداعيَّة واحدة، وموقف مُحَدَّد يمكن أن يُسترشد به حواريًّا. «يقول باختين: إن العلاقات الحواريَّة تكون ممكنة ليس فقط بين التعبيرات الكاملة (نسبيًّا)، ولكن التناول الحواري ممكن حتى لأي جزء له قيمته الدلالية داخل هذا التعبير، وحتى لأي كلمة بمفردها، بشرط أن يتم استيعابها لا على أنه كلمة غير مسندة، بل على أنها علامة دالة على موقف ذي معنًى محدد يَخُص إنسانًا آخر، على أنها ممثلة لتعبيرٍ يَخُص إنسانًا آخر، أي بشرط أن نحسَّ فيها بوجود صوتٍ لإنسان آخر. ولهذا السبب فإن العلاقات الحواريَّة تستطيعُ التغلغُلَ إلى أعماق التعبير، وحتى إلى أعماق الكلمة المفردة، بشرط أن يصطدم فيها صوتان اصطدامًا حواريًّا».٢٩ ومن هنا فأي قول مُشَخص تقوله الذات «لا يَكْتَفي إلا باثنتين: لغتِهِ بوصفها تجسيده الكلامي المفرد، والتنوع الكلامي بوصفه شريكًا فَعَّالًا فيه. هذه المشاركة الفَعالة لكل قول في التنوع الكلامي الحي تحدد القوام اللغوي وأسلوبَه، لا أقل مما يحددهما انتماؤه إلى النظام المعياري الممركِز للغته الواحدة».٣٠

والتنوع الكلامي أو البولوفونية الحقَّة أو لنقل الصافية تتحقق لا بتعدد الأصوات وتنوع أشكال الوعي فقط، بل باستقلالها والجمع بينها غير ممتزجة أو متماهية، وعلى الرغم من ذلك يمكننا في أحايينَ فحص هذا التداخل واكتشاف تعدده القارِّ في العمق، أو اكتشاف مناطق تجاور الأصوات رغم مساحاتها الصغيرة والمتقاربة.

إن التنوع الكلامي وإن كان خَصِيصة نثرية لا يمتنع دخوله العمل الشعري إطلاقًا، أو اكتشافه فيه، فقط، يمثل دخولُه الشعرَ إمكانيةً محددة. يقول باختين إن الحوارية رغم أنها لا يمكن أن تتفتح وتتعقد وتتعمَّق، وبالتالي تبلغ الاكتمال الفني؛ إلا في ظروف الجنس الروائي، فإنها يمكن أن توجد في كل الأجناس الشعرية، وحتى في الشعر الغنائي، ولكن دون أن تُشَكِّل العنصر الحاسم في حقيقة الأمر.٣١ إن التنوع الكلامي أو التعدُّدية الصوتية سمة لا زمنية لا ترتبط بحقبة معينة، كما أنها تخترق سائر الأنواع بدرجات وأشكالٍ مختلفة.

والشعر بطبيعته ليس له هذه الخصيصة الأصيلة في الرواية التي تسمح بانفراد الأصوات وتمايزها فضلًا عن تعددها. في الشعر يسعى صوت المؤلف/السارد إلى حيازة سائر كلمات الشخوص وسائر أشكال وعيهم لتغدُوَ «موضوعاتٍ» لوعيه هو، لنصبح أمام وعي أيديولوجي عام ووحيد هو وعي المؤلف «الغنائي»؛ ومن ثَم فإننا نحاول أن نبحث عن هذه الأشكال المتعددة من الوعي قَبل تمثلها من قِبَل السارد، نحاول أن نبحث عن هذه اللغات وهذه التنوعات ووجهات النظر التي تَنْحَل إليها اللغة الواحدة والمتفردة للقصيدة، هذا الصوت الواحد والأصيل والمهيمن الذي يحاول — وهو يدخل في حوارٍ مع تغاير خِطابي خارجي — أن يحافظ على تجانس النص.

إن كل ما يدخل العمل الشعري، كما يقول باختين، عليه أن يَغْرَق في «الليتية» (نهر الجحيم في الأساطير اليونانية، ومعناه الحرفي «النسيان»). عليه أن ينسى حياته السابقة في السياقات الأخرى؛ فاللغة في السياقات الشعرية لا تستطيع أن تتذكر إلا حياتها. إن الشاعر محكوم بفكرة اللغة الواحدة والوحيدة، والقول الواحد المُغْلَق مونولوجيًّا. إن عليه على الدوام امتلاك لغته امتلاكًا شخصيًّا كاملًا وتحمُّل مسئولية واحدة متساوية عن كل لحظة من لحظاتها وإخضاعها كلها لمقاصده، ومقاصده وحدها.

ويجب ألا تكون هناك مسافة ما بين الشاعر وكلمته، وعلى كل كلمة أن تُعَبِّر تعبيرًا تلقائيًّا ومباشرًا عن قصد الشاعر. عليه الانطلاق من اللغة بوصفها كُلًّا قصديًّا واحدًا؛ فليس لأي تفكك أو تنوع كلامي — ناهيك عن التنوع اللغوي — أن يكون له أي انعكاس جوهري في العمل الشعري. وفي سبيل ذلك يُجَرِّدُ الشاعرُ الكلمات من المقاصد الغريبة، ولا يستخدم الكلمات والأشكال حين يستخدمها إلا بحيث تفقد صلتها بطبقات قصديَّة معينة من طبقات اللغة إلا قصديَّة الشاعر، تفقد صلتها بسياقات معينة فيها إلا سياقات الشاعر لتبقى نظرته الواحدة والوحيدة.٣٢

وما نحن بصدد دراسته أو فحصه الآن هو أن القصيدة الجاهلية لا تظل على الدوام على مونولوجيتها، على صوتها الوحيد، حيث لا صوت آخر إزاء صوت المؤلف أو بجانبه؛ فمن حينٍ لآخر يتكشف هذا الصوت داخليًّا عن تعددية صوتية، ويَبِينُ الصوتُ الوحيدُ عن لاتجانُسه.

نحن لا نسعى إلى اكتشاف بولوفونية السرد — تمامًا بالمعنى الباختيني — في النصوص محل الدراسة، وإنما نسعى إلى استكشاف تعدُّدية الأصوات التي يمكن لها أن تكون قد اخترقت النص مما يزين بين هذه الأصوات المتفاعلة أو المنحلَّة في بعضها البعض. وكذا نستكشف حاجة النص الأصلية — مهما بَعُدَ جِنْسُه عن السرد، أو مهما هيمنت عليه مقومات فنيَّة غير سرديَّة — نستكشف حاجته إلى تنازع وجهات نظرٍ مختلفة عن العالم وأشكالٍ عدَّة للوعي.

وإذا كان السرد البوليفوني يشترط تفاعل أشكال الوعي ووجهات النظر — دون أن تتفوق إحداها على الأخريات، بما يجعل كل أشكال الوعي مجرد إسهامات تتفاعل معًا وتتحاور — فإنه لا يغيب عن مقاربتنا أن القصيدة بما هي سرد، مهما تنافذت وجهات النظر داخلها، تئول إلى وعيٍ وحيد ومرجعية نهائية بالنسبة للعالم هي وعي السارد أو الشخصيَّة. ومن هنا فعملُنا هو الكشف عن مناطقَ يتنافذ فيها أكثر من وعي، وعن تباينِ وجهات نظر يتم تضمينها أو اقتباسها أو الإيماء إليها لإنتاج حوارٍ يُخَلِّقُ رؤًى أعمق وعيًا وأكثر نفاذًا. إننا نبحث هنا هذا التفاعل من خلال استحواذ كلام الآخرين ووجهات نظرهم وإعادة تمثيل كلامهم.

ولعل فحص التنوع الكلامي في نَصٍّ ما يبدو من خلال زوايا عِدَّة منها فحص طُرُق التعبير الخاصة ببعض الفئات، وكذا الإرغامات المهنية والثقافية والملامح اللَّهجية، أو أيضًا متابعة لغات الأحدث السياسية أو الاقتصادية أو غيرها من الموضوعات أو فحص اللغات سُلطويًّا؛ لغات ذوي النفوذ … إلى آخره من أنماط التنوع التي يمكن لها أن تبرز التعدد الكلامي وتنوعاته، بيد أننا سوف نفحص هنا خَصِيصة أكثر بروزًا في النص الشعري الجاهلي والنص الشعري بعامة، ألا وهي «أَسْلَبة الحوار» أو «أنماط تمثيل الكلام». إن أبسط «تلفظ» في نظر باختين هو «دراما» صغيرة، يضطلع بأدوارها الأقلِّ: المتكلم، والموضوع، والمستمع. والعنصر اللفظي هو السيناريو أو الشبكة التي تلعب من خلالها الدراما.٣٣ إن كل كلام علامةٌ على وجود فاعل، وإزاء كل تمثيل لخطابٍ أو حوارٍ نحن إزاء فاعلين متكلمين حقيقيين أو مُحْتمَلين، نحن إزاء تمثيل لحوارهم الذي لم يعد منه إلا حكاية الكلام. فالمؤلف «يستطيع أن يوظف كلمة الغير لأهدافه، حتى عن طريق إدخال نزعة اتجاهية دلاليَّة جديدة إلى الكلمة التي سبق لها أن كوَّنت لنفسها نزعتها الاتجاهيَّة الخاصَّة بها، وتعمل على المحافظة عليها. في مثل هذه الحالة فإن هذه الكلمة يجب أن تُحَس بحكم وظيفتها بوصفها كلمة الغير. في الكلمة الواحدة يطالعنا اتجاهان دلاليان اثنان، وصوتان».٣٤
إن خطاب المؤلف يحاول دومًا أن يُطَوِّق خطاب الشخوص ضمن حدوده ومعالمه، ففي نص الخطاب غير المباشر، على سبيل المثال، نلحظ حركيَّة تفاعل خطاب السارد وخطاب الآخر، وفي الخطاب غير المباشر الحُر يضطلع السارد بخطاب الشخصية، بل تتكلم الشخصية بصوت السارد، وبذلك يلتبس المقامان، وفي الخطاب المباشر يتلاشى السارد فتحل الشخصيَّة محله.٣٥

إن الشاعر (السارد) قد يلتمس صَوْن كلام الشخصية وكمال تفردها وحضورها مُمَثلًا في حضور صوتها في النص، إن لم يكن بوقائعيته المكتملة فبوقائعية المقُول، بعيدًا عن وقائعية تحققه. إن السرد يصدر عن حق الشخصية في الظهور إلى حيز الذوات المتساوية الحقوق، متجادلةً مع الذات الساردة باختلافها وبصوتها المتفرد في انتمائه الأصيل. حقها في أن تَصْدُر عنها كلمتُها، تَقُصُّ بكل قوةٍ عنها، تُصَوِّر وتُخْبر. وفي المقابل لا يفتأ صوت المؤلف/السارد يحوز سائر الخطابات ويهيمن عليها، وعلى حساب إضْعاف الإحساس المُتَعَمَّد بالصوت الآخر تكون سطوة الصوت الحاضر الذي يعيد صياغة أسلوب الغير.

يقول باختين: «إن التعدد اللساني ينتشر أيضًا ويتخلَّل خطاب المؤلف الذي يحيط بالشخصيات ويَلُفُّها خالقًا نطاقات خاصَّة بالشخصيات محددةً ومتميزة تمامًا. وتتشكل هذه النطاقات من أشباه خطابات الشخصيات، ومن أشكال متعددة من البث المستتر لخطاب الآخر، ومن الكلمات والتعبيرات المتناثرة في هذا الخطاب، ومن اقتحام العناصر المعبرة الغريبة لخطاب المؤلف (الحذف، الأسئلة، التعجب). ومثل هذا النطاق هو مجال فعل صوت الشخصيَّة الممتزج بطريقة أو بأخرى بصوت المؤلف».٣٦
(٣) يرى جيرار جنيت أن إنتاج الخطاب الخاص بالمُتَخَيل هو نفسه إعادة إنتاج خياليَّة، تقوم خياليًّا على التعاقدات نفسها وتطرح خياليًّا الصعوبات نفسها التي تقوم عليها إعادة الإنتاج الأصلية وتطرحها. إذ يُفْتَرَض في التاريخ، والسيرة، والسيرة الذاتية أن «تعيد إنتاج خطابات ملقاة فعلًا»، ويُفْتَرَض في الملحمة والرواية والخرافة والأقصوصة أن «تتظاهر بإعادة إنتاج خطابات مختلفة»، وبالتالي «تنتجها في الواقع»، كما يقول جنيت.٣٧ ومن هنا يشترك النمطان في التحليل الأخير من حيث التخييل في نمط إعادة إنتاج الأقوال وصعوباته، ومن ثم، سواء أكان ما يعاد إنتاجه في الشعر من أقوال حكائية أقوالًا ملقاةً حقيقةً، أو كان تظاهرًا بإعادة الإنتاج، وتظل إعادة الإنتاج هذه هي الواقعة الأولى فعلًا، فإن ذلك لن يُنْتِج فارقًا عمليًّا في التحليل السردي ما دمنا أمام حقيقة ذات طبيعة واحدة هي أننا فقط أمام نص وحيد هو كل ما لدينا من حقائق، وحتى لو افترضنا أننا أمام نصوص أخرى تُدَوِّن هذا المقول فنحن بصدد كل نص إزاء أشكالٍ أخرى من إعادة إنتاج مقُول لن يتطابق حرفيًّا إلا مع ذاته.
وتظل مشكلات إعادة الإنتاج خاصة بذلك النمط المسمَّى بالخطاب المباشر أو الخطاب المنقول أو المقتبس الذي يدَّعي كونه استشهادًا بنص الحوار رغم كونه «دائمًا مؤسلبًا، بطريقة أو بأخرى».٣٨ إذا كانت «حكاية الأحداث» مهما كانت صيغتها — كما يقول جنيت — هي حكاية دومًا، أي نقل لغير اللفظي (أو لما يُفْتَرَض أنه غير لفظي) إلى ما هو لفظي، ومن ثم لن تكون محاكاته أبدًا أكثر من إيهام بمحاكاة، يتوقف كأي إيهام على علاقة متقلبة غاية التقلب بين الباثِّ والمتلقي، وبعبارة أخرى. إذا لم يكن التقليد اللفظي لأحداث غير لفظية — في التحليل الأخير — سوى وهمٍ، فإنه يُمكن ﻟ «حكاية الأقوال» أن تبدو على النقيض من ذلك، وتبدو محكومًا عليها قَبليًّا بذلك التقليد المطلق.٣٩
ويقترح جيرار جنيت تقسيمًا ثلاثيًّا لأنماط تمثيل أقوال الشخصيَّة وأفكارها اللفظية المُصَرَّح بها، طبقًا لدرجة توسُّط السارد. وهي كما يلي:٤٠
  • (١)
    الخطاب المُسَرَّد أو المروي Narratized Discourse: وهو خطاب حول كلمات منطوقة (أو أفكار) يعادل خطابًا لا يدُور حول كلمات، وفيه يُقَدَّم كلام الشخصية أو أفكارها اللفظية بكلمات السارد بوصفها أفعالًا ضمن أفعالٍ أخرى. إن ما تتفوه به الشخصية من أقوال يتحول إلى حدَث على لسان السارد. فإذا ما قالت الشخصية مثلًا: «حسنًا، انتهى الأمر، سوف نلتقي غدًا مساءً»، فإن الخطاب المُسَرَّد يمكن أن يصوغها على أنحاء عِدَّة، منها مثلًا: «تواعدتْ على اللقاء».
  • (٢)
    الخطاب المُحَوَّل، بالأسلوب غير المباشر Transposed Discourse: وهو خطاب لا يكتفي فيه السارد بنقل الأقوال إلى جُمَل صُغْرى تابعة، بل يُكَثِّفُها ويدمجها في خطابه الخاص عادةً من خلال تحويل الأزمنة، والانتقال من ضمائر المتكلمين إلى ضمائر الغائبين.

    ومع أن هذا الشكل أكثر محاكاتية بعض الشيء من الخطاب المروي، وقادرٌ مبدئيًّا على الشمول، فإنه لا يُقَدِّم للقارئ أي ضمانة بالأمانة الحرفية للأقوال المُصَرَّح بها «في الواقع» أو أي إحساس بذلك؛ فحضور السارد فيه أكثر تجلِّيًا في تركيب الجملة، من أن يفرض الخطاب نفسه بالاستقلال الوثائقي الذي يكون لشاهد.

    وهذه بعض أنماط الخطاب المباشر وصورها مُحَوَّلةً إلى خطاب غير مباشر:
    • قالت عائشة: يجب عَلَيَّ أن أرحل ← قالت عائشة بأنه كان يجب عليها أن ترحل.

    • قلتُ: أريد أن أُلقي نظرةً على المكان ← قلت بأنني كنت أريد أن ألقي نظرةً على المكان.

    • صاحت جليلة: لقد قَتلتَ زوجي ← صاحت جليلة بأنه قتل زوجها.

    للخطاب غير المباشر نمطان:
    • (أ)

      خطاب غير مباشر مُؤطَّر: وهو خطاب يتضمن عبارة مؤطَّرة تصف الأقوال والأفكار المعروضة، مثل: قال إنِّ، فكرتُ أنَّ.

    • (ب)

      وخطاب غير مباشر حُرٌّ: وهو خطاب لا يتضمن مثل هذه العبارات المؤطرة أو الواصفة التي تجلو — على الأقل — بعض ملامح نُطق الشخصية.

  • (٣)
    الخطاب المنقول أو الخطاب المباشر Reported Discourse: وهو الشكل الذي يتظاهر فيه السارد بإعطاء الكلمة حَرْفيًّا لشخصيته، فَتُقَدَّم أقوال الشخصيَّة وأفكارها على أنها أقوال «مُقْتَبَسة» بالطريقة التي يُفْتَرَض أنها نطقت بها. قال عليٌّ: «لقد رأيته أمس».

والخطاب المباشر خطاب يحتفظ بتلك العلامات الدالة على وساطة السارد؛ كأن تؤطره كلمات السارد فتُحدد بعض خصائص الصيغة، أو تقوم بتعيين المتكلم، أو يحتفظ بعلامات التنصيص.

وبناءً على قدرة السرد المحاكاتية على إعادة إنتاج الأقوال يقترح «ماك هاله»٤١ نموذجًا ذا درجاتٍ سبع تتنامى فيه درجة المحاكاتية على النحو التالي:
  • (١)

    المُجْمَل القصصي أو التلخيص الحكائي: وهو أن يُذْكَر الفعل اللفظي دون أن يُخَصَّص مضمونُه.

  • (٢)

    المُجْمَل الأقل قصصيَّة تمامًا أو التلخيص الحكائي الأقل «صرفًا»: وهو أن يُخَصص المضمون، فيمثل إلى درجةٍ ما حَدَثًا كلاميًّا تُسَمى فيه مواضيع الحوار.

  • (٣)

    إعادة سَبْكٍ غير مباشرة للمضمون، أو صياغة جديدة له متجاهلةً الأسلوب أو شكل التلفظ الأصلي المُفْتَرَض.

  • (٤)

    الخطاب غير المباشر المحاكاتي جزئيًّا: وهو أن يكون الخطابُ أمينًا لبعض المظاهر الأسلوبيَّة للخطاب المُنْتَج (المعاد إنتاجه)، موهمًا الاحتفاظ بها، وليس مجرد نقل مضمون الخطاب.

  • (٥)

    الخطاب غير المباشر الحُرُّ.

  • (٦)

    الخطاب المباشر: وهو استشهاد بحوارٍ فردي أو حوارٍ ثنائي، خالقًا الإيهام بالمحاكاة الصِّرْف، رغم أنه دائمًا مؤسلب بطريقةٍ أو بأخرى.

  • (٧)

    الخطاب المباشر الحُرُّ: وهو الخالي من العلامات المميزة؛ كالتلميحات الإملائيَّة الاصطلاحية، وهو الحالة المستقلة للخطاب الفوري (المونولوج الداخلي بضمير المتكلم).

    والنمطان (١)، (٢) كما يقرر جنيت يوافقان لديه «الخطاب المُسَرد»، والأنماط (٣)، (٤)، (٥) توافق «الخطاب المُحَول»، أما النمطان (٦)، (٧) فيوافقان الخطاب المنقول.

وفيما يلي نستكشف ما سبق من مقولات في نص المفضليات:

(٤) يعتمد النص في قصيدة الجميح — ﻣﻔ (٤) — على «القول»؛ بمعنى تقديم الأحداث بواسطة الراوي (الذات المتكلمة بالنص)، متكلمًا عنها وملخِّصًا لها، ولا يلجأ ﻟ «العرض» إلا في محاولة لتمثيل الحوارات تمثيلًا مباشرًا. فالنص جماع أقوالٍ لشخوصٍ عِدَّة؛ أقوالٍ للسارد أو الراوي وأقوالٍ لأُمامة، وأقوال «المُحَرِّض» أو مَنْ يُريد أن يُفسد عليهما حياتهما ليطلقها الجُميح فيتزوجها هو.

أمْسَتْ أُمَامَةُ صَمْتًا ما تُكلِّمُنا
مجنونَةٌ أم أحَسَّتْ أهْلَ خَرُّوبِ
ب (١)

لقد كان السرد في البيت الأول على أُهْبَة الاستعداد لنَقْل كلام الشخصيَّة (أُمامة)، غير أنها خذلته ولم تنطق، فكان صَمْتُها فِعْلًا للإعْراضِ عن المتكلم وإشارةً للخصام. وإذا كان هذا الشَّطرُ حكايةَ فِعْل صمتٍ وامتناع عن الكلام من قِبَل أُمامة، فإن سياق السخط في البيت الثاني وتخمين الإعْراض كلاهما يومئ إلى فعل كلام مُضْمرٍ كان ابتداءَ حديثٍ بينهما، لعل موضوعاته كانت موضوعات الحياة اليومية، أو كان حوارًا حول ما هو يَومي وتواصُلي من أفعال وعبارات؛ الأمر الذي يغدو معه الإعراض فعلًا مُستفِزًّا مستنفِرًا للسخط. لقد أهْمِلت مواضيع الكلام وأُهْملَ فعل الكلام ذاته وبقي إعراضُها مثيرًا للغضب والريبة. وإمعانًا في تمثيل الجُرْم وتأكيد السارد لتفسيره والقطع بصحته طرحَ على قَدَمٍ سواءٍ «الجنون» أو «الإصغاء إلى تَحْريض» ليقصر عليهما إمكانية تفسير مثل هذا التغيُّر الذي شهدته أُمامة، فلمَّا يُنْكر الأَول (الجُنون) يثبت الآخر تمامَ الثبوت، هذا الذي يأخذ النص بعد ذلك في تبيان السيناريو المُتَخَيَّل له.

فالنص في تصوري يُقَدَّم على اعتبار أنه هو هذا السيناريو المُقْتَرَح لتجربة «تحريضٍ ونفار» يحاول فيها السارد تمثيل كلام الشخوص تمامًا، أو تحويل خطابها.

فالقول في البيت الثاني:

مَرَّتْ بِراكبِ مَلْهُوزٍ فقَالَ لهَا
ضُرِّي الجُمَيحَ وَمُسِّيهِ بتَعْذِيبِ
ب (٢)

القول فيه من قبيل الخطاب المباشر (خ. م) «يُقْتَبَس» فيه قول الشخصية. وتأتي الصياغة النحوية للمقُول على نحوٍ من الاختزال والطابع البَرْقي لتمثيل هذا التحريض: «ضُرِّي الجُمَيحَ وَمُسِّيه بتَعذِيبِ». ومما يبرهن على التزام السارد في النص — الذي هو هنا المتكلم باسم المؤلف — التزامه نَصَّ الحوار المتحول إلى الاسم داخِل المقول؛ فالنص يُقَدم «الفاعل» محكيًّا عنه باسمه داخل مقول الخطاب المباشر «الجميح»، ومن ثَمَّ يحكي الساردُ عن نفسه عندما كان محكيًّا عنه على لسان المُحَرض ومن نص كلام المُحَرِّض إلى نَص رَد أُمامة عليه: «إن الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ»، مصحوبًا بتعليق السارد الذي هو نفسه بشخصهِ وسلوكه موضوع النقاش بينهما. وردُّ «أُمامة» على هذا المُحَرِّض الذي يدعوها إلى أن تُضارَّ الجُميح رَدٌّ إيجابي في جانبِ الجميح وصالحه، ومُغْنٍ عن تدخله بالتعليق: «وهي صادقة»، خاصةً وأنه عندما عَلَّقَ على حوارهم لَمْ يخرج عن المعنى الذي قصدته في مقولها:

يأبَى الذَّكاءُ ويأبَى أنَّ شَيخَكُمُ
لنْ يُعْطِيَ الآنَ عن ضَرْبٍ وتأديبِ
ب (٤)

ففيم إذن هذا التَّدخل: «وهي صادقةٌ» إلا أن يكون التعليقُ توكيدًا «لنبرة المقول» بحذف احتمالات الشك فيها، أو تعديلًا لها بنقل النبرة من إقرارٍ مع ضيقٍ وضَجَر إلى إقرارٍ مصحوبٍ بعنادٍ وتحدٍّ. إن عبارةً ما لا يتم استيعابها بحق وَفْقَ ما تطرحه ألفاظها من معانٍ وإنما أيضًا وَفْقَ ما تُنْتَجُ فيه من سياقات وما يَتَلَبَّسُها من نبر. إن التعليقَ «وهي صادقةٌ» يصادر مبدئيًّا على أي نَبْر سلبي مُضْمَر تُكِنُّه أُمامةُ داخل وَصْفِها أو تعليقها الذي يقتبسه السرد مُحَمَّلًا باحتمالات نبرِه المتعددة. إن البيت الرابع على هذا النحو يتحول فيه السارد من الحكي عن «أُمامة» وعن هذا الراكب إلى خطابهما معًا لتكتمل مقولات الأطراف الثلاثة صاحبة الواقعة في الأبيات الثلاثة الأُوَل. ثم يعود السارد ليُرَغِّبها ويعدها حياةً أرغد وألْين في البيتين الأخيرين ب (١١، ١٢)، ومن هنا يتوجه إليها مباشرةً في خطابٍ مباشر يحمل صوته وكلامه ووعده وربما تخييره لها وترغيبه الأخير:

فإنْ تَقَرِّي بنَا عَيْنًا وتَخْتَفِضي
فِينَا وتنتَظِري كَرِّي وتَغْرِيبي
فَاقْنَي لَعَلَّكِ أنْ تَحْظَي وتَحْتَلِبي
في سَحْبلٍ من مُسُوكِ الضَّأنِ مُنْجُوبِ

(وجواب الشرط قوله: فاقني).

خمسة أبيات من إجمالي اثني عشر بيتًا هي أبيات القصيدة جاءت تمثيلًا لكلامٍ وحضورًا بحوارٍ أو حكايةً له، وما عدا ذلك كان حكاية أفعالٍ أو أفكارٍ يرويها السارد.

يأتي المقُول في المفضَّلية الأولى في إطار بيانِ مَنْ يستغيث به السارد أو الشاعر — ب (١٠–١٣) — إذا استغاث غيره بمثل هذا الراعي:

والمقُول يقدم نبرة التحقير والتعيير. والتقدير: أنتَ ذو ثُلَّتَين، ما لكَ والحَرْب. ويبدو هنا أثر «الوزن والإيقاع» في حذف المسند إليه (أنت) أو ما يُقَدر به؛ احتفاظًا بالمُسْنَد. ولكن مثل هذا الحذف على هذا النحو من إقطاع العبارة أحد ركنيها الرئيسيين ومع سهولة تقدير هذا الركن؛ تشي بشدة المحافظة على نمط المقول مع الإشارة الدائمة إلى كوننا في إطار تخييل شعري، مهما كانت محاولة الاحتفاظ بكلمات الآخرين ونبرهم. وإذا كان المقول لم يُثْبِت من اللفظ ما يحمل التحقير فإن السياق والدلالة الاجتماعية للمنطوق كفيلة بإثبات ذلك، ومن ثَمَّ يظل النبر التحقيري ملازمًا للمقول في كل إعادة كلامية أو حكاية قولٍ.

ومما يجعلنا هنا في إطار تنافُذ حواري هذه المحاجَّة حول صورة الرجل الكامل يُسْتغاثُ به، ويتحول الحِجاج من إثبات الصفات الإيجابية لمن ينحاز له السارد إلى قَدح نعوت من يُبَرِّزه الخَصْم، ويتحول الخِصام من النعوت: «ضافي الرأس، نَغَّاق، كالحِقف حَدأَه النَّامُون» إلى المقارعة بالهَجْو في خطابٍ مباشر: «ذو ثُلَّتَينِ وذو بَهْمٍ وأربَاقِ». وكأن النُّعوت لا تكفي لانتقاص الخصم، لإقصائه، لإلغائه، حتى يكون هذا الحوار، هذا الخطاب السِّبابي الذي يُضمنه السارد كلامه على سبيل الوصف.

ومن انفراد الصوت المهيمن على النص إلى هذه الحوارية في مخاطبة العاذِلة والسَّرد عليها، عبر هذا اللوم الذي ينشئ خصامًا يُضحي السجال فيه سجالًا موضوعاتيًّا تخاطُبيًّا. ولعل الحاجة الملِحَّة إلى وجود صوتٍ آخر يتناغم مع صوت السارد ويتفاعل معه، صوتٍ يكْسِبُ صوتَ السارد رصيدَه ووعيه وعمقه الحجاجي؛ هذه الحاجة هي التي دعت إلى تضمين الكلام خطاب العاذلة أو اصطناعه. إن هذا الصوت المفرد الذي يتردد في الفراغ بحاجة إلى هذه المصادمة وإلى هذا الحجاج كما يحتاج إلى هذه المبارزة الجدليَّة.

بلْ مَنْ لِعَذَّالةٍ خَذَّالةٍ أَشِبٍ
حَرَّقَ باللَّوْم جِلْدِي أيَّ تَحْرَاقِ
يقولُ: أهْلكْتَ مَالًا لَو قَنِعْتَ بِه
مِنْ ثوْبِ صِدْقٍ ومن بَزٍّ وأَعْلَاقِ
عَاذِلَتي إنَّ بعضَ اللَّوْمِ مَعْنَفَةٌ
وهَلْ مَتَاعٌ وإنْ أبْقَيْتُهُ باقِ
إنِّي زَعِيمٌ لَئِنْ لَم تَتْرُكُوا عَذَلي
أنْ يَسْألَ الحَيُّ عنِّي أَهْلَ آفَاقِ
أن يَسْأَلَ القَومُ عنِّي أهلَ مَعَرِفَةٍ
فلا يُخَبِّرُهُمْ عنْ «ثَابِتٍ» لاقِ
سَدِّدْ خِلَالَكَ مِن مَالٍ تُجَمِّعُه
حتَّى تُلاقِي الذي كلُّ امرئٍ لاقِ
لَتَقْرعَنَّ عليَّ السِّنَّ منْ ندَمٍ
إذا تَذكَّرتَ يومًا بعضَ أخْلاقِي

وهنا مع السارد والعاذلة نحن إزاء اختلافٍ في السلوك ومظاهر الحياة، قد يبدو على التضاد بشكلٍ ما، لكنه في التحليل الأخير موقف من الحياة والوجود الإنساني. إن العاذل يأمر بالبُخْل وإمساك المال، وعندما يأمر بهذا الإمساك فإنه يتمسَّك بما هو مُثَمن في الحياة الاجتماعية والسلوك اليومي، إنه يدعوه للتمسك بالسلاح والثياب الجيِّدة وكرائم الأموال، وكلها تحفظ على الشخص حياةً آمنة رَغْدة مُتْرَفة. وباطن هذا الاستمساك حرص على الحياة وتمسك بالعيش، إنها نظرةً تعتقد في الخلود وتتناسى لحظة الموت.

وفي رد السارد على العاذلة لا تُضحي الإجابة جدالًا حول الموضوع الظاهر للنقاش؛ إذ لا يناقش إفناءَ المال أو إبقاءه، وإنما يَعْمَد إلى مشكلة البقاء نفسها، التي ربما كانت هي جوهر مشكلة الشاعر الصعلوك وموضوعهم العميق، الذي كتبوا فيه، ربما، بما لم يكتب الكثيرون.

إن السارد يَرُد على النصيحة بسؤال استنكاري: «وهل متاعٌ وإن أبقَيتُه باقِ». إن مقاليد المال والأشياء — في اعتقاد العاذلة — لدى المخاطَب، لدى الإنسان، ولكنها عند الشاعر لدى هذه القوى القاهرة، الماضية في إفنائها الناس والأشياء والمال والموجودات؛ هل سَيَسْلَم المتاعُ على الدهر لو بخلتُ به وإن اجتهدتُ في تبقيته؟ فإن لم يكن الحالُ إلا كذلك فلنصرفَنه إلى ما يجلِب ذكرًا، ومن هنا يقول:

سَدِّدْ خِلالَكَ من مالٍ تُجَمِّعُه
حتَّى تُلاقِي الذي كُلُّ امرئٍ لاقِ
«سَدِّد خَصاصات مَفاقِرك، مما تُجَمِّعُه من مالك حتى ينزل بك ما الناسُ مشتركون فيه من الفناء».٤٢ والخطاب على هذا النحو — كما يقول التبريزي — «مخصوص به العاذل دون العاذلة، أو مخصوص به النفس إيذانًا بأن كلام العواذل لم يُكسبه إلا استمرارًا على ما هو فيه من الإتلاف».٤٣ وإذا كان الصوتان يتباينان عَذلًا وإجابةً؛ فإن السارد يجعل «نبرة» العاذل نفسها موضوعًا للرد والنقاش: «عاذِلَتي: إن بَعْضَ اللَّوْمِ مَعْنَفَةٌ»، ويهدد بالتباعد والانتقال إن لم يتركوا عذله:
إنِّي زَعِيمٌ لَئنْ لَم تَتْركوا عَذَلي
أن يَسْأَلَ الحَيُّ عنِّي أهْلَ آفاقِ
إنه ليس فقط لا ينصاع لكلام العاذلة، بل يهدد بالفراق وبأن يَهيم على وجهه ويُطْوَى خبرُه دون الجميع، أو أن يَقْتل نَفْسَه فيُريح اللائمين ويستريح.٤٤ وتباين الصوتين نابعٌ أيضًا من اختلاف التصوُّر حول الحياة؛ فالعاذلة كلامها مُصَوَّبٌ إلى الفرد في علاقته بالحياة المستمرة، أما السارد فَرَدُّه منطلِقٌ من الفرد في علاقته بالحياة في انقطاعها الحتمي الوشيك، بما في الانقطاع من تجربة جماعية. منطلقًا من تصورٍ يجعل الجَسَد عُرْضَةً للفناء، ويجعلُ الذِّكْرَ مُنَزَّهًا عن الاندثار. ولكن السؤال هل يبقى الذِّكْرُ أيضًا — وإن طالَ — أم أنه كذلك عُرْضةٌ للفناء والنسيان؟ حيث لا يَبْقَى إلا العدم، ولا تَبْقى إلا لحظة وحيدة معاشة تئول إلى زوال، لعلها هي مقصود البيت:
سَدِّدْ خِلالَكَ من مالٍ تُجَمِّعُه
حتَّى تُلاقِي الذي كُلُّ امرئٍ لاقِ

(٥) وفي المفضَّلية الثالثة يقول الكَلْحَبةُ العُرَني:

(١) تُسَائلُني بَنُو جُشَمَ بنِ بَكْرٍ
أَغَرَّاءُ «العَرادَةُ» أم بَهِيمُ
(٢) هيَ الفَرَسُ التي كرَّت عليهِم
عليها الشَّيخُ كالأَسَدِ الكَلِيمُ
(٣) إذا تمْضِيهُمُ عادَتْ عليهِم
وقَيَّدَها الرِّماحُ فَمَا تَرِيمُ
(٤) تَعَادَى مِن قوائِمِها ثلاثٌ
بتَحْجِيل، وقائمةٌ بَهيمُ
(٥) كُمَيْتٌ غيرُ مُحْلِفَةٍ ولكِنْ
كلَوْنِ الصِّرْفِ عُلَّ به الأَدِيمُ

إننا نطالعُ لونًا من الاستخدام التهكُّمي لمقول الآخر؛ فالمقول لا يُعاد إلا لنقل نزعة معادِية له. وحتى لو أعاد السارد نفس المقول بنصه اللفظي فإنه سوف يُحَمِّله إياه قيمةً جديدةً بإضافته «نبرته» الخاصة إليه تعبيرًا عن استيائه أو سخريته أو اعتراضه أو امتعاضه … إن تغييرًا حتميًّا في «النغمة» سوف يحدث، بحكم تناوب الشخوص على المقول، من متفوِّهٍ به إلى حاكٍ له. لقد أصبح سؤالُ بني جُشم بن بكر بانتقاله إلى لغة السارد/المؤلف، لغة الكلحبة العُرَني ساحةً لتصادم لغات ونبرات متعددة. لم يَعُد السؤال قاصرًا على تلك النبرات التي يمكن له أن يتحملها من قِبَل بني جُشَم، بل أصبح مُحَمَّلًا بتلك النبرات الأخرى التي يُحَملها عليه الكلحبة العُرَني.

لم يعُد السؤال مقصورًا على مجرد نبرةِ الاستفهام المطلقة التي يمكن للعبارة أن تتضمَّنها، أو نبرة التجاهل التي تقلل بها من شأن الكلحبة وفَرسه عندما تسأله بنو جُشَم عن مجرد لونها، وكأنهم يجهلونها تمام الجهل؛ لم يعد قاصرًا على ذلك، بل احتمل بإعادة صياغته — حتى مع افتراض الاحتفاظ بمنطوق اللفظ — نبرًا جديدًا، ربما كان قوامه السخرية والتهكم بذات السؤال، بذات المنطوق. لقد غدا السؤال على هذا النحو ساحة صراع صَوتَين متناقضين إلى حد العداوة. وربما لأن السؤالَ احتمل كلا النَّبرين معًا، وحَمل بإعادته نبرَ السارد كما حمل نبر السائل؛ كانت بقيةُ المقطَّعة إجابةً على السؤال في كلا نبريه:

فالأبيات (٤، ٥) إجابة على السؤال على مقتضى ظاهره، عاريًا من النبر السياقي، ومتسائلًا عن مجرد لون الفرس، ودونما إضمارٍ لمعنًى إنشائي آخر يقتضيه السؤال.

إن السارد فيها يقف على هيئة الفرس بدقَّة، قد لا يقف على مجمل تفاصيله الكثيرة، ولكنه في إيجازٍ شديد يُبَيِّن هيئة القوائم ولون الجسم، وفي كُلٍّ منهما يُمَثل «الوضوح» قاسمًا مشتركًا؛ فالقوائم ليست بَلْقاءَ؛ يتنازعها السواد والبياض، وإنما ثلاثٌ منها محجلة، وقائمة لا تحجيل فيها، واللون هو «الكُمَيت». ورغم أن هذا اللون، مطلقًا، هو بين السواد والحُمْرة إلا أنه هنا مَجْمَع اتزانٍ تام بينهما؛ فكأنه اللون في تحققه المثالي؛ إذ لم يزِد سوادُه حتى يصبح «كُمَيتًا أحْوَى»، ولم تزد حُمْرته حتى يصبح «كُميتًا أَحَمَّ». وهذه الصراحة في اللون لا تشتبه على ناظرٍ، ولا تُحْوِجُ أحدًا إلى الحلِف أنها ليست إلا كما يقول.

أما الأبيات (٢، ٣) فهي إجابة أخرى على السؤال بما يجعله سؤال تجاهل للفرس «العَرادة» وسؤال إنكارٍ لفِعالها. إنه سؤال مَنْ يتَبَجَّح بإنكار الهزيمة، بل بإنكار فروسية الشاعر وبأن تكون فرسه مما تَسَامع به الناس. ومن هنا يُذَكرهم بما تجاهلوه. وعندما يجيب على السؤال منبورًا بنبر التجاهل لا ينسى بلاءه فوق فرسه مكلومًا من خوض القِتال ثابتًا فوقه لا يَريم، ولا يأسو جراحَه التي لا تمنعه أن يُبليَ بلاء الأُسود «عليها الشيخُ كالأَسَد الكَلِيم» (والكليم هنا وصف للشيخ، والتقدير: عليها الشيخُ الكليمُ كالأسدِ).

أما عن الفَرس فأنَّى لهم ألا يعرفوا لونها، وهي لم تَنِ تمضي فيهم وتنفذ. وعُدِّيَ الفعل «مضى» بنفسه مع لزومه على تضمينه معنى الفعل «قتلَ»، فهي إذا تنفذهم في القتال تعودُ عليهم لتقتل بقيتَهم حتى لا تترك منهم أحدًا. أَنَّى لهم ألا يعرفوا لونها وهي لم تغادر مكان القتال، إما ذاهبَة آيبةً تقتل فيهم، أو ساكنةً لا تَريم وقد أثقلتها الجراح فلم تَبْرَح.

(٦) ويتحول الضمير في ﻣﻔ (١٠)، قصيدة بَشَامة بن الغدير، في مقطع واحد يتعلق بالحبيبة ب (١–٩)، وخلال الأبيات (١–٦) يتحول الضمير العائد على شخص المحب عِدَّة تحولات متتالية:
  • يتحول من الخِطاب (المخاطَب المذكر) «هَجَرْتَ أُمامةَ … حُمِّلْتَ منها …» ب (١، ٢).

  • إلى التكلم «بضمير الجمع»: «أتتنا تُسائِل … فقلنا لها …» ب (٤).

  • ومتحوِّلًا مَرَّةً أخرى داخل هذا التكلم من الجمع إلى المفرد: «وقُلْتُ لها …» ب (٥).

والمحب هنا ساردٌ مُشَخصٌ داخل العمل، فهو فاعل في أحداث النص وراوٍ لها.

وفي هذا الإطار تأتي الأبيات (١–٣) من قبيل الخطاب المباشر الحُر (خ م ح)، الحوار فيها حوارٌ داخلي وحديث نَفْس:

هَجَرْتَ أُمَامَةَ هَجْرًا طَويلًا
وحَمَّلَكَ النَّأْيُ عِبْئًا ثَقِيلَا
وحُمِّلْتَ منها على نَأْيِها
خَيَالًا يُوافِي ونَيْلًا قَلِيلَا
ونَظرةَ ذِي شَجَنٍ وامِقٍ
إذا ما الركائِبُ جَاوَزْنَ مِيلَا

هَجَرْتَ أُمَامَةَ هَجْرًا طويلًا، وحُمِّلْتَ منها على نأْيِها، ونظرةَ ذِي شَجَنٍ وامِقٍ. والخطاب هنا خطاب «يحكي أفعالًا»؛ لا يُمَثِّل أقوالًا، ولا ينوب هنا الراوي عن الشخصية في حكاية أفعالها؛ إذ لا يُعطي السَّرْدُ في القصيدة فُرصةً لظهور راوٍ خلاف الشخصيَّة التي سوف تحكي عن فعلها مع الحبيبة، وعن رحيلها على الناقة ب (١٠–٢٧)، وتُرْسِلُ مكتوبها إلى قومها ب (٢٨–٣٧). إنها هنا مَنْ يتولى أمر السَّرد.

ومن خطابٍ مباشرٍ حُر (خ م ح) إلى خطاب غير مباشر تحكيه الشخصية الراوية عن «أُمامة» هذه المُتَحَدَّث عنها في الأبيات (١–٣) بوصفها الغائب.

أتَتْنَا تُسَائِلُ ما بَثُّنَا
فقُلنا لها: قد عَزَمْنَا الرَّحيلَا

إن السارد الذي يتكلم — الذي هو الشخصية هنا — يحكي سؤالها الذي يبدو أنه لا يَتَصَرَّف في صيغته إلا بقَدر ما يُحَوِّلُ ضمائره ليناسب صيغة حكاية القول أو القول غير المباشر. وليس الأمر هنا حكاية مضمون كأن تقول: «أتَتْنا تسائِلُ عَنْ بَثِّنا»، وإنما يبدو الكلامُ صياغةً مُحَوَّلةً عن سؤال يُقَدَّر ﺑ «ما بَثُّكم» أو ما شابه. وما أنتجته الشخصية من قَولٍ تُعيد روايته مَرَّةً أخرى في حكايةٍ أُوْلى لهذا المقول المتفوَّه به في الماضي: «فقُلنا لها قد عَزَمنا الرَّحِيلا». بعدها يتوجه إليها بالعتاب وأيضًا في خطابٍ مباشرٍ تَسْرُدُ فيه الشَّخصِية قولًا قالته قبل ذلك:

وقُلْتُ لها: كُنْتِ، قد تَعلَميـ
ـنَ منذُ ثَوى الرَّكْبُ، عَنا غَفُولَا

إن السارد/الشخصية يشير إلى نفسه من خلال فعل القول «فقلنا لها، قلتُ لها»، ولذا يُعَد الكلام خطابًا غير مباشر. على أن هناك أشياءَ من موقف الرحيل بجُعبة الشاعر لا تزال صالحة للحكي، إنها بعض هذا الكلام بينه وبينها. ولكن هذا الكلام لا يحكيه وإنما يقدِّم عنه مُلَخصًا حكائيًّا:

وما كانَ أكْثَرُ ما نَوَّلَتْ
مِنَ القَولِ إلا صِفاحًا وقيلَا
ب (٧).

فلم يكن من نوالها في مقابلة العُتْب عليها ومواجهتها بغفلتها عن الشاعر مُدَّة إقامته عندهم ب (٥)؛ لم يكن إلا مصافحةً باليد للتوديع وبعضَ كلام زَيَّنته. وعلى اختيار أن «القول» ها هنا: الوَعْد، و«القِيل»: تحيَّة الوَّداع، و«الصِّفاح»: الإعراض؛ يكون الكلامُ أنها ما نَوَّلَتْ من مواعيدها المبذولة إلا الإعراض وتحية الوداع.

ولعل أنماط تمثيل الكلام لا تقف في هذا النص ذاته عند هذه الحدود فقط؛ بل نطالع في الأبيات (٢٨–٣٧) الشاعر وقد دَلَفَ في خطابٍ مُباشرٍ حُرٍّ إلى تحريض قومه بني سَهم بن مُرَّة على أن لا يخذلوا حلفاءهم «الحِرْقة» شادًّا الحلِف بينه وبينهم.

يقول في مطلع كلامه إليهم:

وخُبِّرتُ قومي — ولم أَلْقَهُمْ —
أَجَدُّوا على «ذي شُوَيْسٍ» حُلُولَا
فإمَّا هَلَكْتُ ولم آتِهِمْ
فأبْلِغْ أمَاثِلَ «سَهْمٍ» رَسُولَا
بأنْ قَومُكُمْ خُيِّروا خَصْلَتيـ
ـنِ كِلتاهما جعلُوها عُدُولَا
خِزْيُ الحياة وحَرْبُ الصَّديق
وكُلٌّ أُراهُ طعامًا وَبِيلَا
فإنْ لم يكُن غَيْرُ إحداهما
فسِيرُوا إلى المَوتِ سَيْرًا جَمِيلَا

الأبيات تَسْرُد أولًا عن قوم الشاعر وتجعل المخاطب أو المسرود له حينئذٍ هو المسرود له العام للنص ب (٢٨)، هذا المسرود له العام الذي ربما يكون مطلقًا وبَيِّنًا إلى الإقرار الذاتي أو حديث النفس، الذي قد يكون هو المسرود له العام في النص، الذي يأخذ وضع المفرد أحيانًا والجمع في أحيانٍ أخرى. غير أن هذا المسرود له يأخذ في البيت (٢٩) وظيفةً مادية أخرى خلاف كونه متلقيًا سلبيًّا أو مجرد كونه مُسَوغًا منطقيًّا للخطاب والسرد إلى «تبليغ رسالة ما» يُحَمِّلها له السارد.

وهنا يَنْماز بوضوحٍ هذا المسرود له الذي يُضْحي مخاطَبًا يشارك في الأحداث بوصفه «ممثلًا» أو «شخصيَّة» أخرى تحمل رسالة هي جزء من «موضوع» الفاعل أو البطل، ويسعَى لتبليغها، فيعمل في النص بوصفه مُسانِدًا له فعلَ ماديٍّ يُرْجى منه إنجازه. على أن ليس كلُّ قول تمثيلًا لكلامٍ أو حكايةَ أقوالٍ. فمثلًا يقول بَشَامة بن الغدير:

إذَا أقْبَلَتْ قُلتَ: مَذْعُورَةٌ
من الرُّمْدِ تَلْحَقُ هَيْقًا ذَمُولَا
وإن أَدْبَرَتْ قُلتَ: مَشْحُونةٌ
أطاعَ لها الرِّيحُ قِلْعًا جَفُولَا
وإن أعْرَضَتْ راءَ فيها البصيـ
ـرُ ما لا يُكَلِّفُه أنْ يَفِيلَا
ﻣﻔ (١٠) ب (٢٠، ٢١)
المقول هُنا ظَنيٌّ على التلفُّظ به، فالفعل «قال» هنا من باب ظَنَّ، وهو على التشبيه والتمثيل، وربما كان مضمُونًا مُفَكَّرًا فيه أكثر منه مقولًا مُتَلَفَّظًا به. إذ العربية تُضَمِّنُ «القول» معنى الظَّنِّ، وتَسْتَعْمِلُ «القولَ» مجازًا للدلالة على «الحال».٤٥ إن المقول هنا ليس بالضرورة خطابًا يُتَوَجَّه به لشخصٍ بعينه قدر ما هو «تعليق» ينسبه السارد إلى المخاطب باعتباره تعليقه الذي سوف يُعَلِّق به. إنه وجهة نظر السارد التي يَدَّعي على المخاطب الاعتقاد فيها.

(٧) وتنبني المفضلية (١١٠) على سَردٍ يعيد تمثيل كلامٍ قِيلَ من قبل، ويأخذ هذا الكلام المُمَثَّل سَرْديًّا حيز النص بأكمله. والصوت في النص هو صوت السارد (الشاعر الفارس) الذي يتكلم مباشرةً في ب (٢)، أو يعيد حَكْي كلامه وتمثيله في بقية النص ويعيد حكي كلام شخصيَّة أخرى غائبة، هي زوجته، تدعوه لبيع حصانه:

(١) باتَتْ تلُوم على ثادِقٍ
لِيُشْرَى، فقد جَدَّ عِصيانُها
(٢) ألَا إِنَّ نَجْواكِ في ثادِقٍ
سواءٌ عليَّ وإعْلانُها
(٣) وقالتْ: أغِثْنا به، إنَّني
أرى الخيلَ قد ثابَ أثمانُها
(٤) فقُلْتُ ألَمْ تَعْلمِي أنَّه
كريمُ المَكَبَّة مِبْدَانُها
(٥) كُمَيْتٌ أُمِرَّ على زُفْرةٍ
طويلُ القَوائم عُرْيانُها
(٦) تَراهُ على الخَيلِ ذا جُرْأةٍ
إذا ما تَقَطَّعَ أقَرانُها
(٧) وَهُنَّ يَرِدْنَ وُرُودَ القَطَا
عُمَانَ، وقد سُدَّ مُرَّانُها
(٨) طويلُ العِنَانِ قليلُ العِثَا
رِ خَاظِي الطَّريقَةِ رَيَّانُها
(٩) وقُلْتُ: ألم تَعْلمِي أنَّهُ
جميلُ الطُّلالَةِ حُسَّانُها
(١٠) يَجُمُّ على السَّاقِ بعدَ المِتانِ
جُمُومًا ويُبْلَغُ إمْكَانُها

يبدأ النص بالبيت الأول الذي هو ليس تلخيصًا حكائيًّا صِرْفًا يتوقف عند حَدِّ الإبانة عن حيز ضئيل من فعل التكلُّم ﺑ «اللوم»، بل تمتد التفاصيل لتُمَثِّل، إلى حَدٍّ ما، هذا الحدث؛ حيث يُسَمَّى من خلال الشطر الثاني موضوع التكلُّم والحوار «لِيُشْرَى».

وينقطع هذا السرد، هذا «القول»، هذا التقديم الذي يقدمه الراوي لنصبحَ إزاء قولٍ صريح في البيت الثاني يَعْرِضُ في تمثيلٍ مباشرٍ نَص الكلام الذي يُقَدَّم مُجَردًا تمامًا من أي تَدَخُّلٍ حكائي يجعله مظنة الأسْلَبة؛ إذ يقدم الكلام مُجَرَّدًا حتى عن فِعْل القول الذي قد يشي بحكاية القول أو بشبه أسْلَبة. وإذا كان هذا البيت — الثاني — يثبت إعلانها الملامة، تلك التي يصوغُ موضوعَها في البيت الأوَّل، فإنه يشي كذلك بمواقف أُخرى ومشاهد متعددة أومأت خلالها هذه اللائمة إلى وجهٍ من وجوه رغبتها أو بدت من فحوى تصرفاتها. هذه المواقف يتم اختزالها هنا، أو فقط يتم الإشارة إليها أو التعريض بها.

ومن «القول» في البيت الأول إلى مطلق «العَرْض» في البيت الثاني، يعود النص إلى القول في البيت الثالث الذي يستمر معه إلى نهاية النص. غير أنه فيها سوف يقول إما عن الآخر هي: «قالت»، أو عن نفسه هو «قُلْتُ». والأبيات من الرابع إلى العاشر (الأخير) كلها تُقَدِّم نعت هذا الفرس في مراكمة متتابعة لأوصافه، غير أن النص يقطع هذا الإيقاع الرتيب لهذا التوالي بتكرار فعل القول والتساؤل نفسه الذي يحتل الشطر الأول من البيت الثالث: «وقلتُ ألَم تعلَمي أنَّه» ب (٤)، ب (٩). وهذا لنِظَلَّ مشدودِين إلى عُرَى هذا القول المعروض، وليظل فعلُ حكايةِ القولِ نَفْسُهُ شديدَ الحضور خوفَ أن يُنَحِّيه المقول نفسه بسطوته وغزارته.

وإضافة لهذه التحولات ومتابعة انتقال النص بين القول والعرض؛ يبدو كيف يؤسلب السارد لغته التي يحكي بها أقواله هو بما يختلف عن اللغة التي يحكي بها قولها؛ فهو إما يتجاهل تمامًا شكل التلفُّظ الأصلي المفترض، ويتجاوزه مثبتًا فقط «اللوم» موضوع الحوار ب (١) — كما مَر — أو يثبت هذا الشكل في واقعة من وقائعه ب (٣)، وهو ما رَد عليه بالأبيات (٤–١٠)؛ هذا الشكل يثبته في نمطٍ أقرب إلى النثرية:

وقالت: أغِثنا بِه، إنني أَرَى الخيلَ قد ثابَ أثمانُها. ب (٣)

ويَبْعُدُ عن أي التفافٍ حول اللغة العادية، لغة لا تتأمل ذاتها ولا تحمل أكثر من الرغبة الواضحة في إنجاز مدلولاتها؛ شأن صاحبتها.

وعلى خلاف هذا يُصَنِّعُ السرد الشعري أقوالَ السارد المحكيَّة عبر صيَغٍ شعرية لا تلتفت إلى أحداثٍ تتعاقب أو تتوازى حول محور، وإنما مدارها على وصف قد يُحَيِّدُ فِعْلَ الزمن، أو يتحرك فيه أحيانًا عبر حَدَثٍ ما تُسْتَشف دلالته النهائية لتنضاف إلى حزمة الأوصاف المُصاغة حول المسرود عنه (الفَرَس). ومن قبيل هذه القيم الشعرية الأصيلة قيمة التوازي الذي يأتي من تدوير المُرَكَّب الإضافي لإنتاج الوصف على نحو: «كريم المكبَّة – طويل القوائم – طويل العنان – قليل العثار – خاظي الطريقة – جميل الطُّلالة». والمبدأ الذي يشتغل في هذه العبارات كلها هو اشتراكها في هيكل نحوي واحد. ومن قَبيل هذا الاشتراك أيضًا هذه الأوصاف التي تختم البيت في موقع القافية في هذا المقول، مضافًا إليها هاء الضمير: «عريانُها – مُرَّانُها – رَيَّانُها – حُسانُها»، فالمقولة النحوية — مقولة الصفة — هي مُقوم التوازي في هذه الصيغ جميعها، إضافةً لمقولة الضمير التي تنتظم القافيةَ كلها، وتعود — في النماذج السابقة على وجه الخصوص — على المضاف إليه مباشرةً: «كريم المكبة مِبْدانُها – طويل القوائم عريانُها – جميل الطُّلالة حسَّانُها».

ولا يتوقف التوازي عند هذا الحَد، بل يُجَمِّعُ بين بعض القيم السابقة وغيرها معًا على مستويات أعلى لِيُشَكِّل أنماطًا أُخْرى من التوازي على نحو ما نجد في الشطر الثاني من الأبيات (٤، ٥، ٩)، هذا فضلًا عن البيتين (٤، ٩) في كِلا شطرَيهما:

(٤) فقُلتُ: ألم تَعْلَمي أنَّه
كريم المَكبَّة مِبْدانُها
(٥) … … … …
طويلُ القوائمِ عُرْيانُها
(٨) … … … …
خَاظِي الطَّرِيقَةِ رَيَّانُها
(٩) وقُلتُ: ألم تَعْلَمِي أنه
جمَيلُ الطُّلالَة حُسَّانُها

ينضافُ إلى ما ذكرنا تقليصُ المقولات النحويَّة التي يتم من خلالها بناء السرد المباشر حول الفرس (المسرود عنه)، حيث تضحي المقولة الأُولى هي مقولة (الصفة)، وإن تنوعت بين الوصف بالمفرد أو بالجملة أو بشبه الجملة.

إن الشعر يَعْرِفُ كيف يُفَجِّر الدلالات الواسعة من ضِيقَ التركيب، كيف يغوصُ على مقولةٍ واحدةٍ نحوية ولكنه يعرف أيضًا كيف يستخدم إمكاناتها وطرائق تشكلها.

(٨) يقول الكَلْحَبَة العُرَني في ﻣﻔ (٢):

(١) فإن تَنْجُ منها يا حَزِيمَ بنَ طَارقٍ
فقد تَرَكتْ ما خَلْفَ ظَهْرِكَ بَلْقَعَا
(٢) ونَادَى مُنادِي الحَيِّ أنْ قد أُتِيتمُ
وقد شَرِبَتْ ماءَ المَزَادةِ أَجْمعَا
(٣) وقُلتُ لكأسٍ: ألجِمِيها فإنَّما
نَزَلْنَا «الكَثِيبَ» من «زَرُودَ» لِنَفْزَعَا
(٤) كأنَّ بِلَيْتَيْها وبَلْدَةِ نَحْرِهَا
من النَّبْلِ كُرَّاثَ الصَّريمِ المُنَزَّعَا
(٥) فأدْرَكَ إِبْقَاءَ العَرادَةِ ظَلْعُهَا
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حَزِيمَةَ إصْبَعَا
(٦) أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بمُنْعَرَجِ اللِّوَى
ولَا أَمْرَ للمَعْصِيِّ إلَّا مُضَيَّعَا
(٧) إذا المَرءُ لَم يَغْشَ الكَرِيهَةَ أَوْشَكَتْ
حِبَالُ الهُوَيْنَا بِالفَتَى أن تَقَطَّعَا

النصُّ تَجَمُّعٌ لعددٍ من الحوارات والنداءات اختزلها النصُّ، وتشَرَّبَ أصواتها واختزنها، منها ما اختزنه في صورته الفعليَّة وطزاجَتِه الماديَّة بعيدًا عن سلطة السارد الذي يعيد صياغة الخطاب حتى وإن أَوهمَ بحِياديته، على نحو ما نجد في البيت الأول؛ حيث الخطابُ الدراميُّ يحتفظ بزمنيَّة خطابه التي هي «الآن» وفي حاضر هذه اللحظة، فلا فارق زمنيًّا بين فعل هذا التلفظ وحاضر الصوت. والمخاطَبُ في النص ليس غائبًا أو في تقدير الغائب، وإنما هو أنتَ بكامل حضوره، بل هو متعين «حَزِيم بن طارقٍ». غير أن الخطابَ في مجمله بما هو تسجيل في نص شعري يُعادُ إنتاجه بروايته وتكراره لا يزال يفترضُ مَسْرودًا له آخرَ غير هذا المخاطَب هو هذا الجمهور الأوسع الذي يُشْهِده ضِمنًا على هزيمة «حَزِيم»، ولعله يصبح بعد هذا البيت هو المسرود له الأكثر أهميةً ومباشرةً وحضورًا. ذلك أنه هو ما يشكِّلُ التصور الأيديولوجي الذي يقدمُ الساردُ تصوراته طبقًا له، أو بعبارة أخرى هو ما يحمل أسئلةً ضمنيَّةً يُقَدِّمُ الساردُ إجاباتها، إنه هو ما يدفعُ السارد لأن يقدم تفسيراته وتحليلاته بناءً على أسئلته الضمنيَّة، كأن يتعلل بما فعلته «كأسٌ» مع فرسه، ويذكر إقدامه واقتحام فرسه، وكذا يذكر نُصحه لقومه وعدم إصغائهم له. إن ما يدفعه لكل هذه التسويغات والأفعال — وغيرها كثير — هو التصور الأيديولوجي المُفْتَرَض عن المسرود له. إن المسرود له هو الذي يُحَدَّدُ طبقًا له ما يُقال، وما ليس من الأهمية بمكان لكي يُقال.

وَيَتَضَمَّنُ النصُّ خطابًا مباشرًا يأتي على سبيل الاستشهاد:

وقلتُ لكأسٍ: ألجِمِيها فإنَّما
نَزَلْنَا «الكثيبَ» مِن «زَرُودَ» لِنَفْزَعَا

بيد أن هذا الخطاب يتحرك بين أن يكون خطابًا مباشرًا يُعادُ فيه الكلامُ نَصًّا دونما تحريفٍ خلا مُحَدِّداته المقامِيَّة التي لا يمكن إعادة إنتاجها، ولكنه فقط يحتفظ تمامًا بمفردات التلفُّظ وجُمَلِه. أو أن أجزاء من الكلام هي حوار مباشر — «ألجميها» — وبقية الكلام: «فإنما نزلنا «الكثِيب» من «زَرُودَ» لنفزعا» هي تعليلٌ ضِمْنيٌّ، قِيلَ أو لم يُقَل، هو جزءٌ من «أفكاره» لا «أقواله»، إنها مساحةٌ من المُفَكرِ فيه ينقلها إلينا السرد. المسرود له هنا ليست هي «كأس»، وإنما هي النفس بِعَدِّ العبارة نَسخًا لفظيًّا لأحداثٍ لا لفظيَّة؛ هي الرحيل، واختيار المكان «الكثيب»، والنزول به، والاستعداد منه للهجوم. وربما كان الكلامُ خطابًا غير مباشر يحاول فيه الخطاب أن يكونَ أمينًا للخطاب الآخر المُعاد إنتاجه. وحينئذٍ تختلف هذه الصياغة عن صياغة البيت الأول؛ فالبيت الأول خطاب، دراما، أما هذه العبارة فسرد، حكاية أقوال، حكايتها في زمن هو «الآن»، لكنها قيلت قبل هذا «الآن». صيغة ثالثة يتضمنها النص: «ونادى مُنادي الحَي أنْ قد أُتِيتُمُ»، هذه الصيغة تنصرف إلى الخطاب غير المباشر الذي يوهِم بالاحتفاظ بالكلام، غير أن الرابط «أن» يحيلنا إلى إعادة إنتاج الملفوظ في صورة أقرب ما تكون إلى صورته الأولى دون أن تكون ملزمة بالتطابق معها. ولكن العبارة بالصيغة التي جاء عليها الفعل (الماضي المبني للمجهول والمُسْنَد إلى المخاطب) قد تحيلنا إلى نفس التلفظ الذي قيل للتنبيه بالخطر. والخطاب غير المباشر الأخير يختلف بالتأكيد عن الصيغة الأولى على اعتبارها خطابًا مباشرًا: «ألجميها»، فالخطاب المباشر الأخير يتحرَّى الدقة في نقل الخطاب، وإن نُقِل بعضه، في حين لا يتحرَّاها الأول — غير المباشر — بالقدر الكافي، بل إنه ربما اختزل العبارة أو أعاد تكثيفها.

ويتضمن النص صيغة أخرى من أنواع عَرْض الكلام هي بمثابة «تلخيص حِكائي»: «أمرتُكُمُ أمْري بمُنْعرَج اللِّوى». وهو تلخيصٌ لا يتم فيه إعادة المقول، وإنما يشير فقط إلى أن فعلًا قد وقع، دون تحديدٍ لما قِيلَ، هذا الذي يُتَحَصَّل من دلالة الأبيات السابقة، وكأن الشاعر «كان يُحذِّر الحَيَّ مما اتفق عليهم من الغارة، ويأمرهم بقصد أعدائهم قبل أن يُقْصَدوا».٤٦ وإذا كانت الصيغة السابقة لا تحدد تمامًا هذا المقول الذي يستفاد من الأبيات فإنها تُشْهِد «المكان» على هذا الكلام الضِّمْني: «بمُنعَرَج اللِّوى»، يقول التبريزي: «وذكر المنعرج تنبيهًا على موضع العِظة، والأمكنة والأزمنة، لكونها أوعيةً للأفعال، تُجْعَل مواقيتَ لها».٤٧

(٩) وفي المفضليَّة (٧٦) يقول المُثقِّب العَبدي:

(١) أفاطِمُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِيني
ومَنْعُكِ ما سأَلْتُ كأَنْ تَبِينِي
(٢) فلا تَعِدِي مواعِدَ كَاذِباتٍ
تَمُرُّ بها رياحُ الصَّيْفِ دُوني
(٣) فإنَّي لو تُخالِفُني شِمَالي
خِلافَكِ ما وَصَلْتُ بها يَمِيني
(٤) إذن لَقَطَعْتُها ولَقُلْتُ بِيني
كذلِكَ أجتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي

تُقدِّم الصياغة المباشرة للخِطَاب المقول على أنه خطاب السارد دونما أي معالجة أو تَدَخُّلٍ، وما يجعلنا نُدرج هذا الخطاب في حيز الخطاب المباشر اندراجُه في حيزٍ سردي تخييلي، الأمر الذي يفرض عليه أن يكون مُؤَسْلَبًا بطريقة أو بأخرى، فكل ما قِيلَ من لغةٍ أُعِيدَ إنتاجه في لغةٍ أخرى حاولت أن تنقل اللغة الأولى، إننا أبدًا لا ننزل بحر العبارة مرتين. وعلى الرغم من ذلك يحفل المقول بالنداء: «أفاطِمُ …»، والأمر: «مَتِّعيني …»، والنهي: «فلا تعِدي …»، والتهديد: «فإني لو تُخالفني شمالي … إذن لقطعتُها …»؛ وكلها أمور تحفظ على العبارة حيويتها ووقعها النابض في الخطاب المباشر بها.

ومشهد الحوار المباشر هنا — أيضًا على الرغم من أنه يتجاوز كل التفاصيل عن المتكلم أو عمَّن تكون «فاطمة» هذه، أو وضعيتهما أو علاقتهما وطبيعتها — هو مشهدٌ مُغْنٍ بكل قوة عن سائر التفصيلات والمقدمات، مشهد كافٍ للإحساس ﺑ «الحرمان» والتمثيل له. ومَنْ كان يُقَدِّم الصلابة والحزم مع من تتأبَّى عليه حزمًا يصل حَدَّ التحدي والتهديد؛ يأبَى أن ينقل الكلام بِنَصه ولفظه ما أمكن، يأبَى إلا أن يَقْتَطِعَ مشهد ذروة الأزمة بينه وبينها أو يسجل ما دار فيه من حوارٍ أو طرف عبارات، وإنما يُقَدِّمُ ما قَدَّم ليُنبئ ذلك عن بقية السيناريو. ومثل هذا المقطع يغدو كافيًا تمامًا لفاطم التي تختفي تمامًا، أو تَنْدَرج في العام، في فتيات الظعائن في الأبيات (٩–١٩)، التي يأتي المقول الثاني في إطارها. ولا يَبْعُدُ الوضع مع فتيات الظعائن كثيرًا عما هو عليه مع «فاطمة» التي تصله وتفارقه، تَعِدُه وتُخْلِفُه ما وَعَدَتْ، تَصِلهُ وتَقْطع ما وَصَلَتْ؛ فهُن: «ظَهَرْنَ بكِلَّةٍ وسَدَلْنَ أُخْرى»، «أَرَيْنَ مَحَاسِنًا وكَنَنَّ أُخرى»، ورغم هذا: «على الظِّلام مُطلَّباتٍ». وهكذا حتى يشتركن معًا (فاطمة – الظغائن) في البَيْن والصَّرْم. وهكذا حتى يئول الموقف إلى هذا الخطاب:

(١٨) فقلتُ لِبَعْضِهِنَّ، وشُدَّ رَحْلِي
لِهَاجِرَةٍ نَصَبْتُ لها جَبِينِي
(١٩) لَعَلَّكِ إنْ صَرَمْتِ الحَبْلَ مِنِّي
كَذاكِ أكونُ مُصْحِبَتِي قرُونِي
فَلَعَله إن صَرَمَتْهُ يكون كذلك على هذه الحال من الاكتفاء والاستغناء، وتطاوعه نفسه على ذلك. وهو ما يَرُدُّنا مباشرة أيضًا إلى المقول الأول في الأبيات (٣، ٤). ولعل «الكِبرِياء وشجاعة الاستغناء» هي ما يقف خلف هذين المقولين معًا ويصل بينهما، فضلًا عن أن الموضوع لم يكَدْ يختلف. فهو في موقفه إزاء فاطمة «يشعر بالكِبرِياء في جوهر ذاته، بحيث يحُسُّ أن أعضاءه نفسها يمكن أن تكون على هامش هذا الجوهر، ومن ثم يمكن أن يمارس نحوها هذا الكبرياء.»٤٨ وهو كبرياء لا يَبْعُدُ عن هذا الذي يتصدى فيه «للطبيعة تصدِّيًا مليئًا بالحركة والشموخ: لهاجرةٍ نصبتُ لها جبيني»٤٩ وهذا الكبرياء ذاته هو ما لا يفارقه أيضًا في خطابه لعَمرو بن هِند:
(٤٢) فإما أن تكونَ أَخِي بحَقٍّ
فأَعْرفَ مِنكَ غَثِّي أوْ سَمِيني
(٤٣) وإلا فاطَّرحْني واتَّخِذْنِي
عَدُوًّا أتَّقِيكَ وتَتَّقِينِي

فرغم أن يدَ ابن هندٍ هي العُليا عطاءً وسخاءً؛ إذ الناقة التي يرحل عليها ويُسْهِبُ طوال النص في الوقوف أمامها — في واحدٍ وعشرين بيتًا — هي بعض صِلاته وحُمْلانه. وهذا الاعترافُ بالجميلِ أوَّل ما يبادر الشاعر بالتصريح به إزاء علاقته معه:

فَرُحْتُ بها (الناقة) … إلى عمروٍ، ومن عَمْروٍ أتتني. ب (٣٩، ٤٠).

رغم كل ذلك، ورغم ما يشيع في تقاليد مخاطبة الملوك يطلب منه بكُلِّ حَسْمٍ الوضوحَ في المعاملة، والاختيارَ الجازم بين الصداقة الحَقَّة والوفاء بِحقُوقها أو إعلان العداوة، وفي كل الأحوال كلاهما كفءٌ للآخر: «أتَّقيكَ وتَتَّقيني»، «أنْفُض مما بيني وبينك يَدَك، واتَّخِذني عدوًّا لك، أحترزُ منكَ وتحترزُ أنتَ مِنِّي، وينطوي كُلٌّ مِنا على ضِغْن صاحبه، والحَذَرِ من شَرِّه».٥٠

(١٠) لعل تمثيل الكلام الذي كان مداره على الخطاب المباشر في الأمثلة السابقة يتحول إلى نمطٍ آخَر، وصيغ ضميريةٍ أخرى في الأبيات التالية:

(٣٥) إذا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ
تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ
(٣٦) تقولُ إذا دَرَأْتُ لهَا وَضِيني
أهذا دِينُهُ أبَدًا ودِيني؟
(٣٧) أكُلَّ الدَّهْرِ حلٌّ وارْتِحالٌ
أما يُبْقي عَلَيَّ وما يَقِيني

الكلامُ في البيت (٣٥) يعيد إنتاج فعل هو «فِعلٌ تلفُّظي لغوي» يشير إلى تعبير شفوي مُمَثِّل لجانب من حالة سياق التَّلَفُّظ. هذا الفعل اللفظي تُعاد الإشارة إليه أو يُحْكَى بفعل آخر. فقوله: «تأوَّه آهةَ الرجلِ الحزين» يعيد فيه الفعل «تأوَّه» — حكائيًّا — ما قِيلَ لفظيًّا من نحو: «آهٍ» أو «آهْ، آهِ» أو نحو ذلك من كلمات تَوَجُّع وتَحَزُّن أو شِكاية. (الفعل «تأوه» فِعْل حكائي لفعل تلفظٍ بقوله: «آه»)، والنائب عن المفعول المُطْلَق وما أُضْيفَ إليه يُبَيِّنُ صَرَاحةً طبيعة هذا التأوُّه: «آهةَ الرجل الحزين». ولا تَخْفَى هذه المراوحة بين أفعال الشاعر وأقوال الناقة:

إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بِلَيْلٍ ← تأوَّهُ آهةَ الرجلِ الحزين.

إذا درأتُ لها وضيني ← تقولُ: أهذا دِينُهُ أبدًا وديني، أَكُلَّ الدهرِ.

إننا على هذا النحو بين الأفعال ومردوداتها؛ أفعال الشاعر الماديَّة، ومردودات الناقة اللفظيَّة مَحْكيَّةً من قِبَل الشاعر نفسه. وبعبارةٍ أُخرى أمام أقوال الناقة وسياقاتها الفِعْليَّة (من الفِعْل). على أن كلام الناقة يأتي أيضًا من قبيل الخطاب المباشر الذي تبدو فيه وساطة الراوي الذي ينجز الفعل «تقولُ»، الذي ينقل قول الشخصيَّة محاولًا أن يكون أمينًا في نقله، فيقتبس أقوالها بالطريقة التي يُفْتَرَض أن تكون قد صاغتها بها. ويظل مقولها محافظًا على ضمائره الشخصيَّة والإشاريَّة دونما تحويل، ويحفظ تعبيرُها عن الشاعر بصيغة الغائب في شكواها إياه تعَبها ونَصَبهَا، وهو ما يجعلنا نُدْرجُ هذا المقولَ في إطار المناجاة الداخليَّة لجعل الشكوى داخلية، بعيدًا عن أن يسمعها الشاعر، فهي دومًا لا تحيدُ عن مطاوعته على الرحيل، وتكبُّد المشقة، وعناء الأسفار؛ نقول: يحفظ هذا على التركيب حرارة الالتزام بالصياغة الفعلية، خاصةً وأن هذا الآخر الذي يتحدث عنه المقول بصيغة الغائب هو نفسه المتكلم بالصيغة المصاحبة «تقولُ»، بعبارةٍ أخرى هو راوي هذا المقول الذي من المفترض أن يتحول إلى متكلم داخل المقول لو أنه في صيغة الخطاب غير المباشر.

(١١) القصيدة (١٢٩) للمرقش الأكبر «مقول مباشرٌ» للنفس، أو المروي له العام، الذي يُشْرِكه المتكلم بتبليغ رسالة أو حَمْل تهديد أو نُصْحٍ وتحذير. ومن هنا فالقصيدة خطاب مباشر ينقل مقول القول (الذي سوف يقع)، هذا الذي يمتد هنا ليشمل القصيدة كلها.

ولعل هذا المخاطَب الأول في القصيدة (قُلْ …) يعمل بوصفه حيلةً وثوبًا مستعارًا ننتقل فيه مباشرة لسان الشاعر للمحبوبة إلى وَسَاطة مُخاطَبٍ آخر يُصْبح هو المروي له بدلًا من المحبوبة، التي سوف تنتقل حينئذٍ لموقع الغائب وتصبح مرويًّا عنها، فَيَحل اسمها محلها. ولكن داخل هذا المقول الذي يمتد على طول النص نَحُس مباشرة المخاطب الثاني إذ يحتفظ النص بكلام المتكلم بِنَصه بما لا يحتمل أي فاقد إلا خلاف ما يحتمله أي حوارٍ مباشرٍ من فاقد، أو ما يفترضه من بؤر اختلاف. وتشخيص هذا المخاطب (الوسيط) ليس مجرد حيلة شكلية فقط، فالمعنى والدلالة يرشحان له عبر انقطاع السُّبُل بين «أسماء» والسارد وإشراف الأخير على الهلاك:

(١) قُل لأَسماءَ أَنْجِزي الميعَادَا
وانُظُرِي أن تُزوِّدي منكِ زادَا
(٢) أينما كُنتِ أو حللتِ بأرضٍ
أو بلادٍ أَحْييتِ تلكَ البلادَا
(٣) إن تكوني تَركْتِ رَبْعَكِ بالشَّأْ
مِ وجاوَزْتِ حِمْيَرًا ومُرادَا
(٤) فارْتَجِي أنْ أكوَنَ منكِ قَريبًا
فاسْأَلي الصَّادرِين والوُرَّادَا
(٥) وإذا ما رَأَيْتِ رَكْبًا مُخِبِّيـ
ـنَ يَقُودون مُقْرَباتٍ جِيادَا
(٦) فَهُمُ صُحْبَتي على أرْحُلِ المَيْـ
سِ يُزَجُّونَ أيْنُقًا أفْرَادَا
(٧) وإذا ما سَمعتِ مِن نحوِ أرضٍ
بمُحِبٍّ قد ماتَ أو قِيل كَادَا
(٨) فاعْلَمي غيرَ عِلْمِ شَكٍّ بأنِّي
ذَاكِ، وابْكِي لَمُصْفَدٍ أنْ يُفادَى

والنص وإن كان يقدم بوضوح نص المخاطَب، نَص مقوله، حيث لم يُسْبَق المقول مثلًا ﺑ «أن»، بل تم تصديره بفعل الأمر مباشرةً «أنجزي …»؛ فليس ثمة ضامن لتَكراره بحرفيته، ليس ثمة ضامن أن المخاطب سوف يعيد المقول بفَصِّه، وبفَصِّه تمامًا لأسماء. إن المخاطب نفسه جزء رئيس في تلقي شكل هذا الخطاب، وليس «أسماء» فقط إنه لا يأخذ فقط موقع «الوسيط»، بل يأخذ كذلك موقع «الشاهد» و«الحَكَم» على هذه العلاقة. تنبني القصيدة كلها بعد البيت الأول على «آليَّة» واحدة، هي آليَّة التلازُم بين فعلين أو ركنين، يُشَكِّلُ كُلُّ تلازمٍ ما بؤرةً دلاليَّةً. هذه البؤر هي ب (٢)، ب (٣، ٤)، ب (٥، ٦)، ب (٧، ٨).

وهذا التلازم الذي يحكم الأبيات السابقة آليَّة تجرى عليها القصيدة كلها بما هي فعل خطابي شفاهي ينحو صوب التمدُّد والتراكم. وصيغة التلازم تأخذ في العمل كفاعليَّة تُجَمِّعُ معًا مساحةً واسعةً من وحدات المعنى مركِّزةً إياها ورابطةً بينها في سياج شرطي أو ظرفي.

بؤرتان من هذه البؤر التلازمية بؤرتان شرطيتان والأُخريان ظرفيتان، وإن كان في الأخيرتين معنى الشرط:
  • البؤرة التلازمية الأولى بؤرة شرطية تتمحض للمكان عبر أداة الشرط «أينما»، تُفْضي إلى تكرار الفعل (فِعْل إحياء البلاد) بتكرار الأماكن التي تَحُلُّ بها.

  • وتتحدد البؤرة التلازُميَّة الثانية، وهي بؤرة شرطيَّةِ علاقة المقيم بالمرتحل، وهي علاقة تتكشف عن فِعْلٍ ما وموقف السارد إزاءه.

  • أما البؤرتان التلازُمتيان الثالثة والرابعة فظرفيتان؛ إذ تبدأ كل منهما بالأداة «إذا» التي يقول عنها النحاة إنها في بدئها تدل على الظرف، غير أنها تتمحض للشرط إذا ضُمِّنَتْ معنى الجزاء.٥١

ومن هنا فالبؤرة الثالثة بؤرة ظرفيَّة لما في «إذا» من ملازمة لشحنةٍ ظرفيَّةٍ إطلاقًا. أما البؤرة الرابعة فبؤرة ظرفية شرطية؛ إذ تمتزج الشحنة الظرفيَّة باقتضاء شرطي، حيث يتوقف محتوى الجواب (فاعلمي بأنني ذاكِ، وابكي لمصفدٍ أن يُفادى)؛ يتوقف هذا الجواب على محتوى الشرط. إن هذا البناء الصياغي الهيكلي المتكرر هو أول آليات النص ضد الإيجاز، وأول نوافِذه على الثرثرة والسرد، فتتوزع الحكاية على الأطراف — أطراف التركيب الشرطي — وتُقدِّمُ الجملُ حكايةَ كُلِّ طَرَفٍ وتربطهم معًا بهذه العلاقة (علاقة التلازم)، فتجعلهم قوام حَدَثٍ ما أو تفاعُلٍ بعينه.

إن اللغة بهذه الثرثرة التركيبيَّة، بهذا الانبساط الذي يحتفي بالإعادة والتكرار الهيكلي؛ تتحرك لتتحلَّل من أعباء ذاتها حاملةً أعباء السرد، ﻓ «إن» الشرطيَّة تحيل السياق الشرطي العام إلى الاستقبال في ب (٤)، وهو استقبال بادئ من الحاضر: «فأرتجي أن أكون منك قريبًا»، من الآن وفي المستقبل. مع ملاحظة أنه يبدأ من الحاضر الذي يحوي فعلًا ماضيًا منقطِعًا: «تكوني تركتِ – تكوني جاوزتِ». ويأتي الشرط ﺑ «أينما» شرطًا في الماضي، صالحٌ سياقيًّا لإعادة تكرار التجربة في أزمنةٍ لاحقة؛ مضارعة ومستقبلة.

أما الشرط ﺑ «إذا» فهو شرطٌ في المستقبل يُنْتِجُ لنا سَرْدًا عنه، غيرَ أنَّ كُلَّ جوابٍ مشروطٌ بفعلٍ فيه — في المستقبل — فمعرفة «صُحبة السارد» لا تتأتى إلا برؤية ركب يخبُّ، يَبِينُ بَعْدَها أنهم صُحْبَتُه، وكذا فمعرفة موت الشاعر حُبًّا مرهونةٌ بسماع نبأ من أَحَبَّ فماتَ أو كادَ. وهنا نلحظ أن ما يُرْهَنُ للجواب ليس الفعل، بل تفسيره الذي يخلع على هذه الوقائع هويتها.

١  تزفيتان تودروف، الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت، رجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط٢، ١٩٩٠م، ص٥٢.
٢  رولان بارت، التحليل البنيوي للسرد، ص٢٧.
٣  تزفيتان تودروف، السابق، ص٥٢.
٤  رولان بارت، السابق، ص٢٧؛ وكذا مناقشة نقدية حول الربط بين هذه الظاهرة الأدبية وأسسها اللغوية في مقال ﻫ. فيراد سدونك، مفاهيم الأدب بوصفها أُطُرًا للإدراك النقدي، ص٤٣.
٥  إميل بنفنيست، الذاتية في اللغة، ترجمة: حميد سمير، عمر حلي، مجلة نوافذ، النادي الأدبي الثقافي بجدَّة، العدد ٩، ١٩٩٩م، ص٦٩.
٦  السابق، ص٦٧، ٦٨.
٧  السابق، ص٦٩، ٧٠.
٨  السابق، ص٧٥.
٩  السابق، نفسه.
١٠  انظر: السابق، ص٦١–٧٩.
انظر: مريم فرنسيس، محاور الإحالة الكلامية، ص١٨–٣٩.
١١  مريم فرنسيس، السابق، ص٢٧.
١٢  السابق، ص٣٥، ٣٦.
١٣  جيرار جنيت، ص٧٩.
١٤  جيرار جنيت، حدود السرد، ترجمة: بنعيس بوحمالة، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، ص٧٩ وما بعدها.
١٥  السابق، ص٨١.
١٦  السابق، نفسه.
١٧  د. تمام حَسَّان، الخلاصة النحوية، عالم الكتب، القاهرة، ط١، ١٤٢٠ﻫ/٢٠٠٠م، ص٩٣.
١٨  التبريزي، ٣: ١٦٧٦.
١٩  حول فكرة المقاصد والأغراض، انظر: د. مصطفى ناصف، خصام مع النقاد، ص١٩١–٢١٩، النادي الأدبي الثقافي بجدَّة، ١٤١١ﻫ/١٩٩١م.
٢٠  المفضليات، ص٢٩٣، الهامش.
٢١  تزفيتان تودروف، باختين؛ المبدأ الحواري، ص١٤٦.
٢٢  «لا بُدَّ من تَفَهُّم العلاقة الذاتيَّة على أنها كل معقد: أي علاقة نفسيَّة داخليَّة، بمعنى علاقة بين الحالات المختلفة التي تشكل «الفاعل»، وفي الوقت نفسه، علاقة بينيَّة الذاتيَّة، بمعنى علاقة بين فاعلَين (على الأقل) وهذان الجانبان لا يمكن فصلهما، كما أنهما في حالة صراع، ولا يمكن فصلهما لأن الذات لا يمكن أن تكون موجودة، كما لا يمكن أن تشكل نفسها بدون الآخر … وهما في حالة صراع لسببين على الأقل؛ فمن جهة، لأن العلاقة النفسيَّة الداخليَّة هي بالتحديد مساحة للصراع، الصراع الذي يقابل الذات بالمطالب المتناقضة والطاغية على نحو متكافئ «للأنا الدنيا» — التي تعبِّر عن ارتباطها بالجسد، وتُظهر دوافعه الكامنة — ومطالب «الأنا العليا» — التي تمثل تجذُّرها أو تأصلها في المجال الاجتماعي والثقافي. ومن جهة أخرى لأن هذا الفاعل الذي انقسم في داخل نفسه، يجب أن يجتاز تجربة إحداث مواجهة بين رغباته ورغبات الآخرين، الذين يتحتم عليه أن يعيش معهم.»
انظر: جون أ. جاكسون، حول الذاتيَّة في القرن السابع عشر، ترجمة: بهجت عبد الفتاح، مجلة ديوجين، المجلس الدولي للفلسفة والعلوم الإنسانيَّة، مركز مطبوعات اليونسكو، القاهرة، العدد ١٨٢/ ١٢٦، ص٤٧.
٢٣  إميل بنفنيست، الذاتية في اللغة، ص٦٤.
٢٤  إميل بنفنيست، ص٦٥.
٢٥  تزفيتان تودروف، باختين؛ المبدأ الحواري، ص٢١٢–٢١٥ …
٢٦  السابق، ص٢١٢، ص٢١٥.
٢٧  السابق، ص٢١٦.
٢٨  ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، ترجمة: يوسف حلَّاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٨٨م، ص٢١.
٢٩  ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، ترجمة: د. جميل نصيف التكريتي، مراجعة: د. حياة شرارة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ص٢٩٦.
٣٠  ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، ص٢٣.
٣١  السابق، ص٣٢.
٣٢  السابق، ص٥٦، ٥٧.
٣٣  تزفيتنان تودروف، باختين؛ المبدأ الحواري، ص١١٦.
٣٤  ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، ص٢٧٦.
٣٥  جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ص١٨٨.
٣٦  تزفيتنا تودروف، باختين؛ المبدأ الحواري، ص١٦٨.
٣٧  جيرار جنيت، عودة إلى خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط١، ٢٠٠٠م، ص٦٣.
٣٨  شلوميت ريمون كنعان، التخييل القصصي؛ الشعرية المعاصرة، ترجمة: لحسن أحمامة، دارسات الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط١، ١٩٩٥م، ص١٦٢.
٣٩  جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ص١٨١، ١٨٣، ١٨٤.
٤٠  حاولنا ألا نتصرف كثيرًا في نقل العبارات والتعريفات، بيد أننا اعتمدنا على أكثر من مصدر ومرجع منها:
جيرار جنيت: خطاب الحكاية، ص١٨٥–١٨٨.
جيرالد برنس، قاموس السرديات، ص٤٧، ٦١، ٧٥–٧٧، ١٣٣، ١٦٧، ٢٠٦، ٢٠٧.
٤١  انظر:
جيرار جنيت: عودة إلى خطاب الحكاية. ص٦٩، ٧٠.
شلوميت ريمون كنعان، التخييل القصصي، ص١٦٠، ١٦٢.
٤٢  التبريزي، شرح اختيارات المفضل، ص١٣٧.
٤٣  السابق، ص١٣٧، ١٣٨.
٤٤  السابق، ص١٣٦.
٤٥  المعجم الوسيط، مادة «قال».
٤٦  التبريزي، شرح اختيارات المفضل، ص١٤٨.
٤٧  السابق، ص١٤٨.
٤٨  د. محمود الربيعي، نظرة نقدية في قصيدة جاهلية؛ مقال ضمن كتاب: دراسات عربية وإسلاميَّة مهداة إلى أديب العربية الكبير أبي فهر محمود محمد شاكر بمناسبة بلوغه السبعين، القاهرة، ١٤٠٣ﻫ/١٩٨٢م، ص٥٢١.
٤٩  السابق، نفسه.
٥٠  التبريزي، ٣: ١٢٦٧.
٥١  ابن يعيش، شرح المفضَّل، مكتبة المتنبي، القاهرة، ج٤: ٩٦، ٩٧؛ ابن هشام: مُغني اللبيب، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ١٤١١ﻫ/١٩٩١م، ج١: ٩٢، ٩٥؛ عبد السلام المسدي والهادي الطرابلسي، الشرط في القرآن، الدار العربية للكتاب، ليبيا/تونس، ١٩٨٥م، ص٦٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤