الفصل الأول

وسائل الإعلام في حياة النشء

خلال توجُّهي إلى غرفة الدرس سمعتُ تكتكة الكتابة التي لا تُخطئها الآذان على لوحة المفاتيح. كانت ابنتي ميشيل — التي كانت في ربيعها الثالث عشر — تَكتُب بسرعة على الكمبيوتر. ونظرًا لأن الساعة كانت الثالثة والنصف عصرًا فقد فوجئتُ ليس فقط بسرعة الكتابة ودقَّتها، بل أيضًا بأنها بدأت أداء فروضِها المنزلية دون حثٍّ مني. لكن الأدهى أنها كانت قادرةً على أداء فروضها المنزلية بنجاح وهي تَستمِع في الوقت نفسه لأغنية Grease على جهاز الأيبود، وتبعث الرسائل الفورية لأصدقائها، وتُتابع بريدها الإلكتروني وتُدير إسطبلًا من الخيول الافتراضية. كانت ميشيل، شأنها شأن العديد من المُراهِقين، مُنغمِسةً تمامًا في وسائل الإعلام. إلا أنَّ الانغماس في وسائل الإعلام ليس محدودًا بالمراهقة؛ إذ يَحدث في سنوات التشكُّل عند الأطفال. وأعتبر ما يلي نقطةً في بحر المواد الإعلامية التي يَستهلِكها النشء: يُعرَّض الرضَّع لموسيقى موتسارت لرفع قدراتهم العقلية، ويُشاهد الأطفال مقاطع مصورة لديناصور بنفسجي أليف أملًا في تعلُّم التمييز بين الألوان واكتساب بعض المهارات الاجتماعية، والصِّغار قبل مرحلة المدرسة يتمتَّعون بأفضلية في تعلم الأبجدية بسبب ألعاب الكمبيوتر، وتلاميذ المدارس يولون الرعاية الافتراضية لحيوان منزلي إلكتروني ويُطيحون بالأشرار في معارك افتراضية، والمراهقون يُراسلون بعضهم بعضًا باستمرار، ويَكتبون المدوَّنات عن حياتهم ويُحدِّثون صفحاتهم على فيسبوك. لقد ثبت أن هذا المقدار الهائل من استخدام وسائل الإعلام مثار اهتمام وقلق كبير للآباء والباحِثين وصُناع السياسات. لكن مثل هذه المخاوف ليسَت بالشيء الجديد؛ إذ إنها رافقت وسائل الإعلام منذ نشأتها.

(١) نبذة مختصرة عن قوة الإعلام المعروفة

اعتُبرت وسائل الإعلام لآلاف السنين ذات أثر على الذين يَستهلِكونها، وفي غالب الأحيان غلب الرأي بأن النتائج سلبية؛ ففي اليونان القديمة اعتُقد أن قيَم النشء ومعاييرَهم الأخلاقية أضحت فريسة للكلمة المنطوقة كما تُبَيِّن محاكمة سقراط وإعدامه. وفي القرن الثامن عشر وصَمت الكنيسة الكلمة المكتوبة بأنها مَكمن الشر، وهو الاعتقاد الذي استمر لقُرون. وفي أواخر القرن التاسع عشر اعتقد العلماء أن قراءة الروايات تؤدِّي إلى تضخُّم الخيالات، وإثارة زائدة للجِهاز العصبي وتشويش الرؤية للواقع. وكذلك اعتُقد أن الصُّحف تُسبِّب تحوُّلات غير طبيعية وسريعة في الاهتمام، وهو ما يضرُّ في النهاية بالصحَّة العقلية للقارئ. وعندما اقترنت الكلمة المكتوبة بالصور، كما حدث في رسومات الكاريكاتير في الصحف في بدايات القرن العشرين، ساد الاعتقاد بأنها تُشكِّل تهديدًا خاصًّا على القيم والآداب والصحة عند النشء. وفي ضوء التشابه مع رسومات الكاريكاتير في التصميم والمحتوى، سادت النظرة تجاه الرسوم الهزلية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بأنها تُمجِّد العنف وتُشجِّع على الشذوذ الجنسي وتُحفِّز أفكارًا غير صحية عن الجنس وتُمجِّد الآثام وتُشجِّع على خرق القانون. باختصار، طالَما وُصِمت الكلمة المنطوقة والمكتوبة عبر التاريخ «بأثرها السيئ» على النشء (ستاركر، ١٩٨٩). إلا أنَّ إيقاع السوء بالعالم لم يكن فعلًا مقصورًا على الخطب والصُّحف والروايات والرسوم الهزلية.

بحلول أوائل القرن العشرين نشرت الصحافة الموصومة مقالات تذمُّ أحدث وسيلة إعلام وقتها: السينما. كان يُعتقَد أنَّ الأفلام تُعلِّم الفسوق والانحلال، واعتُبرت السينما حلبةً لإعداد المُجرمين. وزاد القلق بشأن التأثير السَّلبي المُحتمل للأفلام في العقدَين التاليَين. بل إن أول دراسة تجريبية واسعة النطاق حول تأثير الإعلام على النَّشء — أُجريت عام ١٩٣٠ تقريبًا — تناولت تأثير مُشاهَدة الأفلام على صحة الأطفال والمُراهِقين وعواطفهم وسلوكهم وإدراكهم. وكانت النتائج سلبيةً بالأساس؛ حيث رُبِطَت مُشاهدة الأفلام بتشكيل صور نمطية سلبية واكتساب عادات نوم سيئة وانخفاض مُستَويات التعاون وزيادة القلق (جويت وجارفي وفولر، ١٩٩٦). إلا أن ظهور وسيلة جديدة من وسائل الإعلام لا يَستحِق وصف «التأثير السيئ»؛ حيث إن هذا المُصطلَح موجه بالأساس إلى أوسع وسائل الإعلام انتشارًا في الوقت المعاصر (ساتركر، ١٩٨٩). فالمِذياع مثلًا لم يُعتبَر خطرًا على النشء إلا بعد أن صارت أجهزة الراديو موجودة في ٩٠٪ من المنازل الأمريكية، بعد حوالي ٤٠ عامًا من طرحه للجمهور. عندها فقط أخذ العديد من النقاد يَشجُبون أشهر برامج الراديو وقتها مثل «الظل» (ذا شادو) و«سام سبايد» باعتبارها تُمجِّد الجريمة وتنشر بين النشء أفكارًا خطرة.

لقد كُرر ادِّعاء ستاركر (١٩٨٩) — أنه مع زيادة انتشار وسيلةٍ ما مِن وسائل الإعلام تزداد قوتها المَحسوسة وتأثيرها السَّلبي على النَّشء — مرات عديدة في الأعوام الخمسة والسبعين الماضية. وفيما بين عامَيْ ١٩٥٠ و١٩٨٠ كان التأثير السلبي الرئيسي على النشء يُعدُّ مَصدرُه التليفزيون، وبالأخص محتوى العنف (اللجنة الاستشارية العلمية لكبير الأطباء في الولايات المتحدة، ١٩٧٢). وفي تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة حلَّت ألعاب الفيديو محلَّ التليفزيون بوَصفها التهديد الأول للسلوك السوي والصحة العقلية عند النشء. ففي عام ٢٠٠٠ مثلًا جرت مناقشة بحث عن تأثير ألعاب الفيديو العنيفة في نَشر السلوك العدواني في جلسات استماع للجانٍ فرعية في مجلس الشيوخ الأمريكي (أندرسون، ٢٠٠٠). واليوم يبدو أن أحد أكبر الأخطار التي تُواجه النشء مصدره شبكة الإنترنت، في ظلِّ انتشار المتحرِّشين في غُرَف محادثات النشء ووجود المحتويات الإباحية على بُعد نقرة واحدة. بالقطع ليس «الإعلام» في ذاته جيدًا ولا سيئًا، بل إنَّ محتوى الإعلام هو ما يُؤثِّر على من يَستهلكونه. فبجانب الآثار السلبية، يَمتلك الإعلام القدرة على التأثير الإيجابي في النشء؛ فقد استُخدمت قصص الرسوم الهزلية على سبيل المثال في توعية النشء بمرض الإيدز، ويُمكن لمُمارسة ألعاب الفيديو في أثناء الفحوصات الطبية أن تُقلِّل من الشعور بالألم.

على مدار التاريخ كان خطر الإعلام المَحسوس على الأطفال والمُراهقين مبنيًّا على الحدس والحكايات. بمعنى أن الأضرار المسجَّلة التي لحقَت بالنشء من جراء قراءة الصحف ومُشاهدة الأفلام وغيرها مبنية على شهادات أو روايات غير مُثبَّتة لأخطاء النشء. إن الشهادات، على الرغم من قلَّة عددها، من المُمكِن أن تكون مُقنعة جدًّا كما يتَّضح من خزانتي المليئة بشتى المُنتَجات من الدمى المخصَّصة لإنبات المريمية الإسبانية مرورًا بحوض الأسماك المليء بحيوانات الروبيان البحرية الميِّتة ومسدَّس الصَّمغ الذي لم أستخدمه قط، لكن استغلال الشهادات والحكايات في الإعلانات منطقي؛ إذ يُحاول تجار التجزئة أن يبيعوا المنتجات، وعلى المشتري توخِّي الحذر على أي حال. لكن إن كان الدليل المبني على الحكايات معيبًا فلم يُستخدم باستمرار لذم الأشكال المُختلفة من الإعلام لمئات السنين. نتيجة لعمومية الحكايات ووضوحها فهي تتمتَّع بتأثير عاطفي؛ ومن ثَم قد يبدو أنها تدعم حجة معيَّنة، حتى وإن كانت «البينة» بلا أساس عِلمي. ففي غالب الأحوال تقدم الحكايات «رسائل جاهزة». فعبر مئات السنين كانت تلك الرسائل بسيطة: الإعلام قوي، والإعلام ضار بالنشء. وعلى المستوى التاريخي كانت الرسالة هي المهمَّة وليس البحث الذي بُنيَت عليه.

أما في مجتمعنا اليوم فالرسالة لا تَحتاج لأن تُبرِّرها الوسيلة. فعندما تقل احتمالية التحيُّز وعدم الدقة بشكل كبير، عندها فقط يُمكن القول إنه يمكن توضيح ظاهرة ما بشكل سليم. فالآن أصبحت الأدلة التجريبية على تأثير الإعلام على النشء وفيرة. وبعض الآثار الأحدث اكتشافًا كانت سلبية فعلًا، بينما البعض الآخر محمود. من هذه الدراسات — سيئة كانت أم جيدة — يُمكن أن نخرج باستنتاج واحد بسيط: أن التعرُّض للإعلام يؤثر بالفعل على الرضَّع والأطفال والمراهقين! فالإعلام له قوة، قوة محسوسة وحقيقية معًا.

(٢) دراسة آثار الإعلام خلال النشأة

قبل الغوص في البحث من المهم أن نَفهم مراحل النشأة المُرتبطة بالسن التي يَستخدمها العلماء؛ فمَرحلة الرضاعة تُشير إلى المرحلة التي تلي الولادة مباشرة وحتى سن ١٢ شهرًا. ومرحلة تعلُّم المشي يُميزها غالبًا المشي دون مساعدة، وتكون بين سن ١٢ شهرًا و٣ سنوات. أما أوائل الطفولة، وتُعرَف أيضًا بسنوات ما قبل المدرسة، فتكون بين سن ٣ و٥ سنوات. ويُصنَّف الأطفال في المدرسة الابتدائية بين ٦ و١٠ سنوات ضمن مرحلة الطفولة المتوسطة. وتُشير مرحلة المراهقة المبكِّرة إلى النشء فيما بين سن ١١ و١٣ سنة. والمراهقة المتوسِّطة تقع فيما بين ١٤ و١٦ سنة، أما أواخر المُراهَقة فتُشير إلى الأفراد فيما بين ١٧ و١٩ سنة. يُذكر أن الباحثين في دراساتهم يستخدمون مصطلحات الطفولة (من تعلُّم المشْي وحتى الطفولة المتوسطة) والمرحلة البينية (فيما بين ٨ و١٤ سنة)، والمُراهقة (أوائل المراهقة إلى أواخرها).

عند دراسة الأطفال، فإن إسقاط الملاحظات المُستمَدَّة من البالغين على النشء، أو تلك المستمدَّة من الأطفال الأكبر سنًّا على الأطفال الأصغر، يُمكن أن يؤدي إلى نتائج مضلِّلة؛ فعلى سبيل المثال، وفقًا لمسح الرنين المغناطيسي للدماغ فإن جزء المخ المسئول عن معالجة كلمة مفردة والأحكام الأساسية المتعلِّقة بالأرقام يختلف عند البالغين والأطفال (أنصاري وديتال، ٢٠٠٦؛ شلاجار وآخرون، ٢٠٠٢). كما أن صغار البالغين تَبَيَّنَ أنهم يعالجون المعلومات بضعفَيْ سرعة النشء في أوائل المراهَقة أو دونها (هيل، ١٩٩٠). وتقودنا نتائج هذه الدراسات وغيرها إلى الاستنتاج التالي: كلما زاد فارق السن بين البالغين والأطفال أو بين النشء الكبار والصغار زادت احتمالية اختلافهم من الناحية البدنية والإدراكية والاجتماعية والعاطفية. وعليه فإن من المُهم دائمًا أن نضع مرحلة النمو في الحسبان عندما ننظر إلى آثار الإعلام على الرضَّع والأطفال والمراهِقين.

ما النتائج الإيجابية والسلبية المُرتبطة باستخدام وسائل الإعلام خلال النشأة؟ هل النشء أكثر عرضة لتأثير الإعلام في سنٍّ معينة دون غيرها؟ ما حجم تأثير الإعلام على سلوك النشء وأفكارهم وعواطفهم؟ ليست هذه سوى بعضٍ من أسئلة عديدة سنَطرحها في الصفحات المُقبِلة. إذن من أين لنا أن نبدأ دراسة آثار الإعلام على النشء؟ سنبدأ باستعراض مِقدار المادة الإعلامية التي يَستهلِكها الرضَّع والأطفال والمراهقون فعلًا.

(٣) امتلاك المنتجات الإعلامية خلال النشأة

(٣-١) الإعلام في المنزل

تتوافر أجهزة التليفزيون ومُشغِّلات أشرطة الفيديو وأسطوانات الفيديو والراديو وأجهزة تشغيل الأقراص المُدمَجة في كل بيت تقريبًا في الولايات المتحدة. بل إنه عند الأُسَر التي بها مُراهقون يُعدُّ وجود منزل من دون أشكال الإعلام هذه في غاية الصعوبة؛ حيث يمتلك ٩٩٪ من هذه المنازل الأجهزة المذكورة، أما الأُسَر التي بها أطفال حتى سن العاشرة فإن عدد أجهزة التليفزيون والراديو ومشغِّلات الأقراص المدمجة يُماثل تقريبًا عددها المسجَّل لدى أسر المراهقين. لكن في الأسر ذات الأطفال حتى سن العاشرة — ولسبب غير معلوم — تقلُّ نسبة وجود مشغلات أشرطة الفيديو وأقراص الفيديو الرقمية ﺑ ٥٪ (٩٣٪).

يزداد انتشار أجهزة الحاسوب المتصلة بالإنترنت؛ إذ يستطيع نحو ثلثَي الأطفال تحت سن العاشرة و٧٥٪ من النشء في سن الحادية عشرة وما فوقها الاتصال بالشبكة العنكبوتية من المنزل. وسنجد نِسَبًا مشابهة لمِلكية منصات ألعاب الفيديو خلال فترة المُراهَقة؛ حيث يَمتلِك ٨٠٪ من النشء فيما بين سن الثامنة والثامنة عشرة منصة واحدة على الأقل. إلا أن ٥٠٪ فقط من الأُسَر ذات الأطفال الأصغر سنًّا يَمتلكون منصات ألعاب فيديو في منازلهم، ومع انخفاض تكلفة أجهزة الحاسوب والاتصال بالإنترنت وأنظمة الألعاب فمِن المُتوقَّع أن تَنتشِر هذه النواقل الإعلامية بصورة مُتزايدة في منازل الأسر الأمريكية، حتى الأسر ذات الأطفال الأصغر على الإطلاق؛ فعلى سبيل المثال زادت نسبة الأطفال تحت سنِّ السابعة الذين يَمتلكون جهاز كمبيوتر متصل بالإنترنت في منازلهم بمعدَّل ٦٪ في العامَين الأخيرَين. كما زادت نسبة المنازل التي تتَّصل بخدمة الإنترنت عالية السرعة بأكثر من الضِّعف — من ٢٠٪ إلى ٤٢٪ — في نفس المدة (رايداوت وهامل، ٢٠٠٦؛ روبرتس وفوير ورايداوت، ٢٠٠٥).

(٣-٢) وسائل الإعلام في غرف النوم

من المعروف أن معظم الأطفال والمراهقين يريدون وجود أجهزة التليفزيون والحاسوب ومنصات ألعاب الفيديو في غُرَف نَومِهم. بل إنه قبل كتابتي لهذا الفصل، طلب مني ابني ذو العشر سنوات أن أضع منصة ألعاب فيديو في حُجرته. وأجبت ﺑ «لا.» وجرَّبَت ابنتي ذات الثلاث سنوات طريقة أكثر تعقيدًا؛ إذ طلبت مني حصانًا، وعندما رفضتُ ذلك طلبت مني جهاز تليفزيون. مرةً أخرى أجبتُ ﺑ «لا.» لكن عدم وجود أجهزة تليفزيون أو منصات ألعاب فيديو في حجرات نوم ولديَّ يجعلهما ضمن قلَّة بين أقرانهما.

fig1
شكل ١-١: وسائل الإعلام في غرف النوم حسب السن (المصدر: رايداوت وهامل (٢٠٠٦)، وروبرتس وآخرون (٢٠٠٥)).

ملحوظة: ما من بيانات متاحة حول سن السابعة لمشكلات في جمع البيانات.

خلال مرحلة الرضاعة وتعلم المشي والطفولة المبكرة تَمتلِك نسبة قليلة من الأطفال الأصغر من ٤ سنوات (٥٪) منصات ألعاب فيديو في غُرفة النوم. لكن فيما بين ٤ و٦ سنوات ترتفع النسبة بأكثر من ثلاثة أضعاف (١٨٪) وبحلول سن الثامنة وما بعدها سيتمكَّن حوالي ٥٠٪ من الأطفال من مُمارسة ألعاب الفيديو في غرف نومهم، (انظر شكل ١-١) وهذا يَنطبِق بشكل خاص على الصِّبية؛ حيث يمتلك اثنان من بين كل ثلاثة صبية منصة ألعاب فيديو في غُرفة النوم. وبنسبة أكبر بكثير، تستقر احتمالية وجود تليفزيون في غرفة نوم طفل فيما بين ٨ و١٨ سنة عند حوالي ٧٠٪، في المقابل لا يَمتلك سوى ٣٣٪ من الأطفال الأصغر من ٦ سنوات أجهزة تليفزيون في غُرَف نومهم. الغريب أنه في أثناء مرحلة الرضاعة توجد أجهزة التليفزيون في واحدة من بين كل خمس غُرف نوم. أما أجهزة الكمبيوتر المتَّصلة بالإنترنت فهي الأقل من بين وسائل الإعلام في احتمال وجودها في غُرَف نوم الأطفال والمراهقين؛ إذ يمتلك أقل من ٣٠٪ من المراهقين فيما بين ١٥ و١٨ سنة القدرة على الاتصال بالإنترنت في خصوصية من غرف النوم. وليس من الغريب أنه كلما قلَّت سنُّ الأطفال قلَّت احتمالية قدرتهم على الاتصال بالشبكة العنكبوتية من غُرَف النوم. فالاتصال بالإنترنت مثلًا منعدم تقريبًا (٢٪) في غرف نوم الأطفال تحت سن السادسة. وخلال مرحلة النشأة والبلوغ تسود الاختلافات بين الجنسَين؛ حيث يمتلك الذكور قدرًا أكبر من وسائل الإعلام الشخصية (كالتليفزيون ومُشغِّلات الأقراص الرقمية والحاسوب المتصل بالإنترنت) في غرف النوم عن الإناث (رايداوت وهامل، ٢٠٠٦؛ وروبرتس وآخرون، ٢٠٠٥).

(أ) وسائل الإعلام في غرفة النوم تُساعد على النوم: خرافة ينبغي دحضها

بالمقارنة بباقي النشء، يظلُّ الأطفال والمراهقون الذين يملكون أجهزة تليفزيون في غرف النوم مستيقظين لساعة متأخِّرة من الليل، وينالون قسطًا أقل من النوم، ويُعانون من قدرٍ أكبر من اضطرابات النوم (كالاستيقاظ في منتصف الليل)، ويَشعُرون بقدرٍ أكبر من التعب في اليوم التالي. كذلك سُجِّلت مشكلات متعلقة بالنوم عند النشء الذين يُمارسون الألعاب الإلكترونية ويتصفَّحون الإنترنت ويَستمِعون إلى الموسيقى وقتَ النوم. والنشاط الوحيد المتعلِّق بوسائل الإعلام وقت النوم الذي يبدو أنه لا يتعارَض مع النوم هو القراءة (إجرمونت وفان دين بولك، ٢٠٠٦؛ دافونين وبينونين وروين وفالكونين ولاهيكاينين، ٢٠٠٦). كذلك فإنَّ امتلاك النشء بين ٨ و١٨ سنة لوسائل الإعلام في غرفة النوم يَزيد تعرُّضهم للإعلام بصورة عامة بساعتَين يوميًّا (روبرتس وآخرون، ٢٠٠٥).

(ب) لماذا يَسمح الآباء بوسائل الإعلام في غرفة النوم؟

هل تظن أن أيَّ أبوَين سيَسمحان لجارٍ لم يَرَوه قطُّ بالتحدُّث إلى ابنتهم ذات الأعوام الثلاثة عشرة عن الجنس أو بأن يُقدِّم لها محتوًى جنسيًّا مصوَّرًا؟ هل تظن أن أي أبوَين سيُريدان نفس هذا الجار أن يعرض على ابنهم ذي الأربع سنوات سريع التأثر صورًا تُمجِّد العنف وأن يُريَه صورًا صريحة ومُزعِجة عن الموت؟ ستكون الإجابة في الحالتَين هي «بالطبع لا!» لمَ إذن يَسمح الآباء بوسائل الإعلام التي تفعل معظم — إن لم يكن كل — الأنشطة السابقة المذكورة في غُرَف نوم أطفالهم؟

في دراسة حديثة أجراها رايداوت وهاميل (٢٠٠٦) سُئل آباء لأطفال (٦ سنوات أو أصغر) نفس هذا السؤال. وكانت أكثر إجابة شيوعًا (٥٥٪) هي أن وضْع التليفزيون في غرفة نوم يُحرِّر جهاز التليفزيون الرئيسي في المنزل. وبذلك يتمكَّن باقي أفراد العائلة من مشاهدة ما يريدون، ومن ثَم يُقلِّلون الخلافات العائلية حول اختيار البرامج واستخدام جهاز التحكُّم عن بُعد. بل إن ٢٣٪ من الآباء يقولون إن وضع تليفزيون في غرفة نوم الطفل يُقلِّل من الشجار بين الإخوة، وتقليل الخلافات والشجار بين أفراد الأسرة يعني تقليل التشاحُن الذي يتعامل معه الأبوان.

وكانت ثاني أكثر الإجابات تكرُّرًا (٣٩٪) هي أن وضع تليفزيون في غرفة نوم الطفل يُبقيه مشغولًا؛ ومن ثَم يسمح للوالدين بأداء مهام المنزل أو الحصول على بعض الراحة. باختصار، يَصير التليفزيون جليسة أطفال جاهزة. وأخيرًا يُبرِّر ٢٠٪ من الآباء وضْع تليفزيون في غرفة نوم الطفل بأن التليفزيون يعمل عمل مُنوِّم غير دوائي، ومن ثَم لا يُضطران بعد تمنِّي نوم هنيء للطفل أن يعودا إلى الطفل المُتملمِل ليُساعداه على النوم. وكما يُبيِّن أغلب أجوبة الآباء فإن وضع تليفزيون في غرفة نوم الطفل يُسهِّل حياة الوالدَين ويُقلِّل مِن المشاحنات فيها.

وعلى الرغم من أن العديد من الآباء يَسمحون باستخدام وسائل الإعلام دون إشراف في غرفة نوم الطفل، فإن اثنين من بين كل ثلاثة آباء أعربوا عن «قلقِهم البالغ» من تعرُّض النشء المُتكرِّر لمُحتوًى غير لائق عند استخدام وسائل الإعلام. فمثلًا يعتقد أكثر من نصف الآباء أنَّ الإعلام الجنسي يُؤثِّر بقدر «كبير» في سلوك المُراهقين الجنسي؛ ويعتقد ٤٣٪ منهم أن العنف في وسائل الإعلام يسهم بقدر «كبير» في السلوك العدواني. ومع أن الآباء يُعربون عن قلقهم إزاء تأثير الإعلام على النشء بصفة عامة فهم أقلُّ قلَقًا من تأثير الإعلام على أولادهم هم. بل إنَّ ٢٠٪ فقط من الآباء قَلِقون من تعرُّض أولادهم لقدر «كبير» من المحتوى الإعلامي غير المناسب للشباب (رايداوت وهاميل، ٢٠٠٦).

يَعتقِد الآباء أنه بمراقبة محتوى البرامج التليفزيونية وألعاب الفيديو والمُختارات الموسيقية والرسائل النصية والبريد الإلكتروني و«قوائم الأصدقاء» وغيرها يُمكنهم حماية أبنائهم بشكل فعَّال من المُحتوى الإعلامي غير اللائق. إن السيطرة المَلموسة على المحتوى هي التي تُعطي الآباء الثقة في أن أولادهم في مأمن من الإعلام الضار. لكن مع نموِّ الأطفال وتضاؤل قدرة الوالدَين على المُراقبة ومن ثَمَّ السيطرة على تعرُّض الأطفال للإعلام، فإن نسبة الآباء الذين يَعتقدون أن ذريتهم قد تعرَّضوا لمُحتوًى إعلامي غير لائق تزيد بأكثر من الضعفَين (١٤٪ للآباء لأطفال و٣٠٪ للآباء لمُراهِقين؛ رايداوت وهاميل، ٢٠٠٦). وعلى الرغم من هذه المَخاوف فإن أجهزة التليفزيون ومنصَّات ألعاب الفيديو وغيرها تظلُّ موجودة في غرف نوم الأطفال، ويظلُّ النوم مضطربًا.

(٤) استخدام المواد الإعلامية خلال النشأة والبلوغ

(٤-١) قياس استخدام وسائل الإعلام

قبل أن نورد أنماط استخدام وسائل الإعلام خلال النشأة والبلوغ من الضروري أن نَفهم كيفية جمع مثل هذه البيانات. فمن المُهم عند القارئ النقدي للأبحاث أن يُدرك مزايا وعيوب إجراءات التقييم المُستخدَمة في أي دراسة.

(أ) تقديرات الزمن العالَمية

عند استخدام استقصاء تقدير زمن عالَمي، فإن المُستجيب (كالطفل أو الأب) يجيب على مجموعة من الأسئلة بخصوص مقدار الزمن المُستغرَق في نشاط مرتبط بالإعلام خلال اليوم أو الأسبوع السابق. فمثلًا من بين الأسئلة النموذجية «كم ساعة قضيت أمام التليفزيون في الأسبوع الماضي؟» يَسهُل تطبيق هذا النوع من القياس الذي يحتاج لمَجهود قليل نسبيًّا من جانب المجيب. لكن سهولة الاستخدام يقابلها عدم دقة البيانات؛ إذ مطلوب في أقل من ٣٠ ثانية أن يستحضر المجيب كل التجارب المتعلِّقة بالإعلام، ويُقدِّر الوقت المنقضي في كل نشاط، ويُقدِّم جدولًا مُلخَّصًا (مجلس الأطفال والنشء والأسر، ٢٠٠٦).

هذا بخلاف أن هذه التقييمات عرضة للتأثُّر بالمقبولية الاجتماعية؛ وهو ما يُشير إلى موقف تُقدَّم فيه الأجوبة المقبولة اجتماعيًّا، وليس ما يراه المُشارك فعلًا أو يظنُّه أو يعرفه. فمُعظم الآباء يُريدون أن يَظهروا بصورة الأب المُهتم والمراعي لحسن حال أولاده. وبالنظر للسمعة السيئة المحيطة بآثار استخدام وسائل الإعلام على العدوانية والسِّمنة وغيرها، فمن المنطقي افتراض أن العديد من الآباء سيجيبون على الأسئلة المرتبطة بالإعلام بإجابات مقبولة اجتماعيًّا. نتيجة لذلك قد يسجل الآباء وقتًا أقلَّ مما يتعرَّض فيه النشء فعلًا للإعلام. أما المُراهِقون فإن العكس قد يَحدُث؛ فبدلًا من الإجابة بما هو مَقبول اجتماعيًّا، قد يُجيب المُراهِقون بإجابات غير اجتماعية. ومن بين أمثلة الردود اللااجتماعية اتباع أنماط معيَّنة في البيانات، والإجابة العشوائية، والإجابة بعكس ما يَشعُر به المشارك فعلًا. ولا يوجد حتى الآن أي أبحاث عن الأجوبة اللااجتماعية في أدبيات النشأة والنمو.

(ب) سجلات قضاء الوقت

على عَكس تقديرات الزمن العالَمية البسيطة وسهلة الاستخدام، فإنَّ سجلات قضاء الوقت تُقدم صورة أكثر دقة واكتمالًا لاستخدام الفرد اليومي من وسائل الإعلام في سياق أنشطة اليوم الواحد. فخِلال فترة ٢٤ ساعة يُسجل المشاركون كل أنشطتهم، بما في ذلك الأنشطة غير المُتعلِّقة باستخدام وسائل الإعلام (كلعب البيسبول). ويَكمن جمال سجلات قضاء الوقت في أنها تَعرض يوم الفرد كما ينكشف. وفي هذه الطريقة كثيفة المجهود، على المشاركين أن يُسجِّلوا النشاط الرئيسي الذي يُمارسونه (مشاهدة برامج التليفزيون مثلًا)، والزمن المُستغرَق (٥:٠٠–٥:٣٠ مثلًا)، والأشخاص الموجودين (أمي مثلًا)، وغيرها من الأحداث الجارية في أثناء النشاط الرئيسي (محادثة مثلًا). وعلى الرغم من أن سجلات قضاء الوقت مُفيدة في تسجيل الأنشطة الاعتيادية والأحداث اليومية فإنَّ المُشاركين يَرفضون ذكر الأنشطة التي يَعتبرونها خاصة (كتصفُّح المحتوى الإباحي على الإنترنت مثلًا). كذلك لا تقيس سجلات قضاء الوقت سوى الأنشطة الرئيسية والفَرعية، ولا تُسجَّل الأنشطة من الدرجة الثالثة وما بعدها. وأخيرًا فإنَّ عدم الالتزام بمُتطلبات المهمَّة (عدم تسجيل نشاط في السجل) يتم مع الأحداث ذات الفترة القصيرة، وخاصة تلك المتكرِّرة. فمثلًا، قد يقرر المشاركون أن تَسجيل كل مرة يَفحصُون فيها البريد الإلكتروني مهمَّة رتيبة ويَرفُضون تسجيل هذا النشاط. علاوة على ذلك، وكما الحال مع تقديرات الوقت العالَمية، فإن سجلات قضاء الوقت لا تُوفِّر معلومات بخصوص مُحتوى وسائل الإعلام المُستهلَكة. وبالنظر لصعوبات الحصول على البيانات، فمن النادر استخدام سجلات قضاء الوقت في أبحاث استخدام الموادِّ الإعلامية عند النشء. بل يَستخدِم الباحثون نسخة معدَّلة من سجلات قضاء الوقت: سجلات استخدام وسائل الإعلام.

(ﺟ) سجلات استخدام وسائل الإعلام

تُمثِّل سجلات استخدام وسائل الإعلام في جوهرها سجلات لقضاء الوقت تُتابِع استخدام وسائل الإعلام. ولأنَّ استخدام وسائل الإعلام مُستهدَف، فإن المُشاركين يُسجِّلون بسهولة استخدامهم لوسائل الإعلام عن طريق وضْع دائرة على جدول سهل الاستخدام. فمثلًا، يوجد على رأس الاستطلاع الذي تستخدمه مؤسَّسة عائلة كايزر لتقييم عادات استخدام وسائل الإعلام بين النشء (روبرتس وآخرون، ٢٠٠٥) فترات زمنية مقربة لأقرب نصف ساعة، مثل ٦:٣٠–٧:٠٠ و٧:٠٠–٧:٣٠. وفي أسفل الجانب الأيسر من الجدول توجد سلسلة من الأسئلة (مثل «ما نشاطك الرئيسي في استخدام وسائل الإعلام؟» و«ماذا كنت تفعل أيضًا؟») وفي تقاطُع السؤال مع الفترة الزمنية توجد خانة بها عدد من الأجوبة المحتملة. فمثلًا تحتوي خانة الإجابة على السؤال الخاص بالنشاط الرئيسي في استخدام وسائل الإعلام على أجوبة مثل «الاستماع إلى الموسيقى» و«مشاهدة التليفزيون». وكل ما يُطلَب من المُشارِك عمله بعد ذلك هو وضع دائرة على الإجابة المناسبة خلال الفترة الزمنية المُناسِبة.

تُشكِّل القدرة على القراءة عاملًا مهمًّا ينبغي وضعه في الاعتبار عند ملء الأطفال والمُراهِقين لسجلات استخدام وسائل الإعلام. فالنشء لا يُمكنهم تقديم أجوبة دقيقة ما لم يفهموا الأسئلة. ليسَت القدرة على الفهم وحدها مُهمة، بل سرعة القراءة مهمَّة هي الأُخرى؛ إذ يَجب أن يتمكَّن الأطفال من إتمام الاستطلاع قبل أن يَفقدوا تركيزهم. ولهذا السبب وخلال دراسة مؤسَّسة عائلة كايزر المذكورة قبل قليل (روبرتس وآخرون، ٢٠٠٥) ملأ الأطفال سجلًّا فيه أسئلة أقل من نظيره المخصَّص للمُراهِقين. وعندما تُستخدم سجلات استخدام وسائل الإعلام مع أطفال في سن الثامنة أو أقلَّ فإن الوالدَين عادة هما من يملأ الجدول. لذلك وكما هو الحال في تقديرات الوقت العالَمية يُمكن للمقبولية الاجتماعية أن تؤثر في رغبة الوالدَين في إظهار إجمالي استخدام أطفالهما لوسائل الإعلام. ثمة عقبة أخرى تُواجه منهج سجلات استخدام وسائل الإعلام؛ هي أنَّ الحد الأدنى من استخدام وسائل الإعلام الضروري ليُسجل يُحدِّدها الباحث. فجدول مؤسسة عائلة كايزر مثلًا يَطلُب من النشء أن يَضعوا دائرة حول الإجابة في الجدول في حال استغراقهم ١٥ دقيقة على الأقل من الفترة الزمنية المُمتدة لثلاثين دقيقة. وبهذا فإن استخدام وسائل الإعلام لعشر دقائق لا يُسجل. وتظل الاحتمالية قائمة بعدم تسجيل ٢٠ دقيقة من استخدام وسائل الإعلام في الساعة (١٠ دقائق لكل نصف ساعة). وأخيرًا وكما هو الحال مع مقاييس استخدام وسائل الإعلام السابقة فإن سجلات استخدام وسائل الإعلام لا تُسجِّل نوع المحتوى المُستخدَم.

(د) المراقبة الإلكترونية

بدلًا من الاعتماد على الأبوَين أو النشء لملء الجداول أو سجلات أنشطة استخدام وسائل الإعلام، فإنَّ أنظمة المراقبة الإلكترونية تجمع هذه البيانات تلقائيًّا؛ ففي هذه الأنظمة تُجمع البيانات من خلال مقياس ثابت متَّصل بجهاز التليفزيون أو مقياس أصغر متحرِّك يُمكن للفرد حمله. وكلا النوعَين يعمل عمل سجل استخدام وسائل الإعلام؛ حيث يسجل الوقت ومقدار المادة الإعلامية المستخدمة. إلا أن أنظمة المراقبة الإلكترونية تتجاوَز حدود تَقديرات الزمن العالَمية وسجلات قضاء الوقت وسجلات استخدام وسائل الإعلام؛ لأنها تُسجِّل نوع المُحتوى المُستهلَك (كالتصنيف مثلًا). وهذه أفضلية واضحة على الطرُق الأخرى؛ إذ إن المُحتوى المستهلَك لا يقل أهميةً عن المقدار الإجمالي للمادة الإعلامية المُستهلَكة في فهم أنماط استخدام المواد الإعلامية خلال النشأة والبلوغ. إلا أنَّ أنظمة المراقَبة الإلكترونية ليست خالية من العيوب؛ فمن أجل تحديد المُستهلِك الرئيسي لوسائل الإعلام ومقدار الوقت المُستغرَق في مُتابعتها، ينبغي للمشاركين أن يُسجِّلوا رموز دخول وخروج في جهاز القياس. وهذه هي نقطة ضَعف تلك الأنظمة؛ حيث يُمكن لعدم تسجيل الدخول والخروج أن ينتج بيانات غير صحيحة. كذلك فإن أنظمة المراقَبة الإلكترونية محدودة من حيث أنواع وسائل الإعلام المسجلة. فأجهزة الكمبيوتر ومنصَّات ألعاب الفيديو والأجهزة المحمولة في اليد ومُشغِّلات الأقراص المدمجة لا يُمكن متابعتها بأنظمة المراقبة الإلكترونية. وفي الوقت الحالي تُستخدَم أنظمة المراقَبة الإلكترونية في التقييمات التجارية لاستخدام الراديو والتليفزيون خلال مراحل النشأة والبلوغ، ونادرًا ما تُستخدَم لأغراض البحث العلمي الأكاديمي. إلا أنَّ مستقبل الأبحاث المتعلِّقة باستخدام المواد الإعلامية سيتضمن على الأغلب استخدام هذه الأجهزة في ضوء سهولة استخدامها وتقديمها لبيانات دقيقة عند استخدامها بصورة سليمة، ولأنها تَمتلِك القدرة على التخفيف من حاجز المقبولية الاجتماعية (فاندرووتر ولي، ٢٠٠٦).

(ﻫ) تقييم مقاييس استخدام وسائل الإعلام

لا يُعرف الكثير عن دقَّة أنظمة المراقبة الإلكترونية فيما يتعلَّق بالاستخدام الفعلي لوسائل الإعلام. إلا أنه عند مقارنة سجلات استخدام وسائل الإعلام بتقديرات الزمن العالَمية، فإن سجلات وسائل الإعلام تحظى بالأفضلية بكل تأكيد. فتقديرات استخدام وسائل الإعلام القائمة على ملْء السجلات مقارنة بتقديرات الزمن العالَمية هي الأشد اقترانًا بالتسجيلات الموضوعية لاستخدام التليفزيون في المنزل. لكن على الرغم من هذا فإن تقديرات استخدام وسائل الإعلام (على الأقل فيما يخصُّ التليفزيون) التي تُوضع باستخدام أنظمة المراقبة الإلكترونية وتقديرات الزمن العالَمية وسجلات استخدام وسائل الإعلام متسقة بدرجة كبيرة. وقد أشار فاندر ووتر ولي (٢٠٠٦) إلى أن تقديرات متوسِّط استخدام المراهقين للتليفزيون لا تتفاوَت بأكثر من نصف ساعة عبر وسائل القياس المُختلفة. وعلى الرغم من أن آلية القياس المُستخدَمة في تقدير الاستخدام العام لوسائل الإعلام تبدو غير مهمَّة، فهي مهمة عند وضع التنبؤات من خلال استخدام وسائل الإعلام بخصوص مُتغيِّر ناتج (كالسلوك الجنسي مثلًا)؛ لذا ذكر فاندرووتر ولي أن الباحثين الذين يُحاولون الربط بين استخدام المواد الإعلامية بالسلوك أو التوجُّهات الذهنية الفردية ينبغي عليهم تجنُّب تقديرات الزمن العالَمية لصالح أنظمة المراقبة الإلكترونية أو سجلات استخدام وسائل الإعلام.

(٤-٢) استخدام وسائل الإعلام خلال مراحل الرضاعة وتعلُّم المشي والطفولة المبكرة

توصلت دراسة حديثة أجرَتْها مؤسسة عائلة كايزر (روبرتس وآخرون، ٢٠٠٥) إلى أن الأطفال الصغار جدًّا يَستهلِكون قدرًا كبيرًا من المواد الإعلامية على أساس يومي. ففي اليوم العادي يستمع حوالي ٨٨٪ من الرضَّع (أكبر من سن ستة أشهر) للموسيقى، ويشاهد ٥٦٪ منهم التليفزيون، ويتسلى ٢٤٪ منهم بأقراص الفيديو الرقمية، ويستخدم ٢٪ منهم الكمبيوتر، ويستخدم ١٪ منهم ألعاب الفيديو، وبعد عام إلى عامين، يظلُّ استخدام الموسيقى ثابتًا؛ حيث يتعرَّض ٨٤٪ من الأطفال في مرحلة تعلُّم المَشي لها. لكن خلال مرحلة تعلُّم المشي يزداد استخدام المواد الإعلامية: ٨١٪ من الأطفال في هذه المرحلة يُشاهدون التليفزيون، و٤١٪ يشاهدون أقراص الفيديو الرقمية، و١٢٪ يستخدمون الكمبيوتر، و٨٪ يستخدمون ألعاب الفيديو. ويستمع الأطفال فيما قبل المدرسة للموسيقى، ويُشاهدون التليفزيون يوميًّا بمستويات تُكافئ مستويات أقرانهم في مرحلة تعلم المشي (٧٨٪ و٧٩٪ على الترتيب). إلا أن ثمة زيادة في نسبة الأطفال فيما قبل المدرسة الذين يَستخدِمون الكمبيوتر (٢٦٪) وألعاب الفيديو (١٨٪). ونتيجة لهذه الزيادة فإن نسبة النشء الذين يُشاهدون أقراص الفيديو الرقمية يَنخفِض بحوالَي ١٠٪ (ليصل إلى ٣٢٪).

جدير بالذكر أن ٣٩٪ من الأطفال تحت سنِّ سنتَين و١٢٪ من الأطفال في مرحلة تعلم المشي و١٠٪ من الأطفال قبل مرحلة المدرسة لا يَستهلِكُون أي مواد إعلامية مرئية (التليفزيون وأقراص الفيديو الرقمية وألعاب الفيديو). أما النَّشء الذين يستهلكون المواد الإعلامية فتنطبق عليهم البيانات التالية: يَستهلِك الأطفال الرضع ساعة واحدة يوميًّا من الإعلام المرئي. ويتضاعف هذا الرقم ليبلغ أكثر قليلًا من ساعتين يوميًّا من الإعلام المرئي بين الأطفال فيما بين سنتين وست سنوات. كذلك خلال مرحلة الرضاعة والطفولة المبكرة، يستمع الأطفال إلى الموسيقى لحوالي ساعة واحدة يوميًّا بينما يُقرأ لهم لمدة ٤٥–٥٠ دقيقة. وإن كنت تتساءل فإن الأطفال الأصغر من ٦ سنوات يقضون حوالي ساعة يوميًّا في اللعب خارج المنزل، هذا في حالة خروجهم من المنزل، حيث لا يخرج ٢٠٪ منهم من المنزل (رايداوت وهاميل، ٢٠٠٦).

(٤-٣) استخدام المواد الإعلامية خلال الطفولة المتوسطة والمراهقة

بصفة عامة، يزداد استخدام المواد الإعلامية من الطفولة المبكرة إلى الطفولة المتوسطة، ليستقر بعد ذلك. وتشير الأبحاث إلى أن النشء فيما بين ٨ و١٨ سنة يقضون حوالي ساعات يوميًّا في استخدام المواد الإعلامية، وهو أكثر من ضعفَي الوقت الذي يقضيه الأطفال الأصغر في نفس الأنشطة المرتبطة بالإعلام. أما النشء فوق سن الثامنة فيخصصون حوالي ساعة يوميًّا للإعلام المرئي (كالتليفزيون وأقراص الفيديو الرقمية والأفلام)، وساعة إضافية للإعلام المسموع والمقروء وألعاب الفيديو واستخدام الحاسوب. من اللافت أن نسبة النشء الذين يستهلكون الإعلام المرئي يوميًّا تتسق مع نسبتهم في السنوات السابقة (٨٥٪ يستمعون للموسيقى و٨١٪ يشاهدون التليفزيون و٤٢٪ يشاهدون أقراص الفيديو الرقمية). وكل النشء تقريبًا (٩٧٪) يستخدمون الألعاب الإلكترونية على الحاسوب أو أجهزة ألعاب الفيديو (لينهارت وآخرون، ٢٠٠٨؛ روبرتس وآخرون، ٢٠٠٥).

ثمة نتيجتان لهما صلة بالنمو يستحقان الذكر؛ الأولى: هي أن ممارسة ألعاب الفيديو تقل من الطفولة المتوسطة إلى المراهقة المتأخرة. والثانية: هي أن استخدام الحاسوب والاستماع إلى الموسيقى يزيدان انتشارًا. وبنهاية مرحلة الدراسة الثانوية يقضي المراهقون نفس القدر من الوقت — إن لم يزد — في الاستماع للموسيقى بقدر وقت مشاهدة التليفزيون. بل إن الموسيقى هي الوسيلة التي يختارها النشء أثناء الانخراط في أنشطة غير متعلقة بوسائل الإعلام كقضاء المهام الروتينية أو السير إلى المدرسة أو ركوب الحافلة المدرسية (فوير، ٢٠٠٦). ويشعر كثير من الباحثين بأن الموسيقى قد تكون الوسيلة ذات أكبر أهمية ملموسة عند المراهقين. ولدعم هذا الاعتقاد انظر لما يلي: عند سؤال المراهقين عن وسيلة الإعلام التي سيرغبون فيها إن علقوا في صحراء فإن الاختيار الأول هو الموسيقى (روبرتس وكريستنسون وجينتايل، ٢٠٠٣).

مع ذلك فإن أجهزة الكمبيوتر تقترب من الاستيلاء على عرش الموسيقى. فمع زيادة السن، يقضي المراهقون وقتًا أطول على أجهزة الكمبيوتر وعلى الإنترنت، وهو اكتشاف قد يفسر النقص المسجل في استخدام منصات ألعاب الفيديو وأجهزتها المحمولة باليد. وسواء كان النشاط كتابة بريد إلكتروني أو الدردشة مع صديق أو كتابة مدونة فإن أنشطة الحاسوب تزداد أهميتها للشباب في مراحل النشأة والبلوغ. ويبين تزايد استخدام الكمبيوتر بأكثر من الضعف من الطفولة المتوسطة إلى المراهقة المتأخرة الأهمية المتزايدة لأجهزة الكمبيوتر في حياة المراهقين. لكنهم بالإضافة إلى تصفح الإنترنت والانخراط في الحديث وإرسال الرسائل للآخرين بصورة متزامنة يمكنهم استخدام الكمبيوتر لممارسة نشاطهم الآخر المفضل: الاستماع إلى الموسيقى. فكيف لهم أن يؤدوا كل هذه المهام في آن واحد؟ الإجابة هي تعدُّد المهام في وسائل الإعلام.

(أ) تعدد المهام في وسائل الإعلام

يمارس النشء تعدد المهام الإعلامية (أي ممارسة أكثر من نشاط مرتبط بوسائل الإعلام في نفس الوقت) بتزايد مستمر. في الواقع وفيما بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٥ زادت نسبة ممارسة المهامِّ المُتعددة ﺑ ١٠٪ لتبلغ مستوًى إجماليًّا قدره ٢٦٪. وبحسب فوير (٢٠٠٦) فإن الأنشطة المتعلِّقة بوسائل الإعلام الأقل في احتمالية دخولها ضمن تعدُّد المهام التي يمارسها النشء هي مشاهدة التليفزيون وألعاب الفيديو، مع تصدر استخدام الكمبيوتر الأنشطة المتعددة. إلا أن ٢٠٪ من النشء فيما بين ٨ و١٨ سنة لا يُسجلون أي تعدد في المهام. وعامة يتميز الأطفال والمراهقون الذين يُمارسون المهام المتعدِّدة في وسائل الإعلام بواحدة على الأقل من السمات التالية: (أ) تحقيق مستويات عالية من استخدام وسائل الإعلام. (ب) يمكنهم مشاهدة التليفزيون في أثناء استخدام الكمبيوتر. (ﺟ) يتمُّ تشغيل التليفزيون في المنزل معظم الوقت. (د) لديهم شخصية تتميز بالبحث عن الأحداث المثيرة. (ﻫ) في حالة كونهنَّ إناثًا. تبدو الصفات الثلاثة الأولى منطقية؛ حيث تمنح كلٌّ منها النشء فرصة لتعدُّد المهام. كما أنه من المنطقي تمامًا أن النشء الباحث عن الأحداث المثيرة يُمارسون تعدد المهام بصورة أكبر من الآخرين؛ حيث يتضمن أداء المهام المتعدِّدة الشعور بالإثارة. لكن لماذا تزيد احتمالية تعدد المهام بين الفتيات أكثر من الفتيان؟ قدم فوير تفسيرين محتملَين لهذه الظاهرة؛ الأول أنه نتيجة للضغوط التطورية المرتبطة بكون الفتيات هن «جامع الثمار» ضمن مجتمع الصيد وجمع الثمار، فلديهن الاستعداد الفِطري لأداء مهام متعددة. والاحتمال الثاني أكثر اقتضابًا؛ إذ لا يتطلب أي افتراضات بخصوص تطبيق العمليات التطورية على الحياة المعاصرة؛ فالفتيات على وجه الخصوص لا يَمِلْن لتعدد المهام أكثر من الفتيان، إلا لأنهن يستهلكن بصورة أكبر مادةً إعلامية تسمح بتعدُّد المهام؛ فمثلًا يشاهد الفِتيان التليفزيون أكثر ويُمارسون ألعاب الفيديو أكثر من الفتيات (روبرتس وهينريكسن وكريستنسون، ١٩٩٩)، وكل وسائل الإعلام هذه تتطلَّب قدرًا قليلًا من تعدُّد المهام.

(٥) لماذا يستهلك النشء وسائل الإعلام؟

يُمارس الأطفال والمراهقون جلَّ أنشطتهم خارج المدرسة مع وسائل الإعلام. لكن لماذا يجذب استخدام المواد الإعلامية النشء من الناحية السيكولوجية؟ للإجابة على هذا السؤال طُرحت نظريتان: (أ) منظور الاستخدامات والإشباعات. و(ب) نظرية حرية الإرادة.

(٥-١) منظور الاستخدامات والإشباعات في استخدام وسائل الإعلام

طبقًا لمنظور الاستخدامات والإشباعات تُعد المتعة مفتاح فهم استخدام وسائل الإعلام. وعلى الرغم من أن احتياجات النشء متعدِّدة ومتنوعة، فقد حُددت «الأهداف» المتعدِّدة ومشاعر «الإشباع» المصاحب الناتج عن استخدام وسائل الإعلام، وتشمل أكثر الأهداف ومشاعر الإشباع المذكورة الإثارة والصُّحبة والهروب والتعود والتعلم وقضاء الوقت والاستجمام (سباركس، ٢٠٠١).

(أ) الصحبة

يرى النشء أن استخدام وسائل الإعلام له القُدرة على تعزيز روابط الصداقة والحفاظ على العلاقات؛ إذ يستطيع النشء مثلًا أن يُشاهدوا التليفزيون ويمارسوا ألعاب الفيديو ويستمعوا للموسيقى مع أصدقائهم. كما يَسمح الإنترنت بالحفاظ على العلاقات عن بُعد؛ حيث يُمكن للنشء أن يُراسلوا بعضهم بعضًا، ويدردشوا عبر الإنترنت مع ذويهم، ويُمارسوا ألعاب الإنترنت مع العائلة والأصدقاء. ويمكن للعلاقات التخيُّلية أيضًا مع شخصيات في الإعلام (حقيقية وخيالية معًا) أن يعطي النشء شعورًا بالصحبة، وهي ظاهرة يُشار إليها بالعلاقات شبه الاجتماعية (روبين وماكهيو، ١٩٨٧).

تُمثِّل العلاقات شبه الاجتماعية تعاملات من طرف واحد يشعر فيها الفرد برابطة عاطفية، بل حميمة، تجاه شخصية في وسائل الإعلام. كذلك يملك أصحاب العلاقات شبه الاجتماعية قاعدة معرفية ضخمة عن صديقهم شبه التخيُّلي لدرجة أنهم يعتقدون أنهم يعرفون كيف ستفكر الشخصية وبم تشعر وكيف تتصرف. ومع الوقت والاحتكاك بالإعلام، تقوى حدة العلاقة شبه الاجتماعية. فتلك العلاقات تبدو حقيقية لأصحابها لدرجة أنهم يُعانون من القلق والاكتئاب عندما «يفترقون» عن صديقهم التخيلي (بسبب إلغاء البرنامج التليفزيوني مثلًا أو عندما تموت الشخصية؛ إيال وكوهين، ٢٠٠٦). وللأسف لا يُعرف الكثير عن طبيعة العلاقات شبه الاجتماعية خلال الطفولة والمراهقة. إلا أن دراسة حديثة أُجريَت على مشاركين مراهقين توصلت إلى أن المراهقين الذين لديهم علاقات شبه اجتماعية متوسطة الحدة يرون أن علاقاتهم سيئة مع آبائهم وعلاقاتهم جيدة مع أصدقائهم؛ لذا فإن العلاقات شبه الاجتماعية قد تُقدِّم للمراهقين «أصدقاءً» يمكن النميمة حولهم دون أي تداعيات في العالم الواقعي. إلا أن النشء الذين يرتبطون بعلاقات شبه اجتماعية قوية وحادَّة يَميلون للشعور بالوحدة والنقص في علاقاتهم الواقعية. ويبدو لهؤلاء المراهقين أن العلاقات شبه الاجتماعية تحلُّ محل العلاقات الواقعية التي يفتقدونها. (جايلز ومولتبي، ٢٠٠٤). إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن العلاقات شبه الاجتماعية لا تُوفِّر نفس المزايا التي تُوفِّرها العلاقات الحقيقية للصحة والسلامة.

(ب) الهروب

يُمثل أداء المهام الروتينية وإتمام الواجبات المنزلية والتعامل مع الأشقاء المزعجين أحداثًا يومية عند النشء. ومن أجل التمتُّع بقسط من الراحة من أعباء هذا الواقع يَستهلِك النشء وسائل الإعلام؛ إذ يُمكن للأطفال والمراهقين أن يَهرُبوا إلى عوالم افتراضية في الفضاء الإلكتروني، ويَنغمسوا في كلمات أغاني مطربيهم المفضلين، ويلهوا بخلاف ذلك بمحتوى وسائل الإعلام التي يستخدمونها. فهل تُتيح وسائل الإعلام حقًّا للشباب الهروب من الواقع؟ مع أنه لا تتوافر أبحاث كافية تدعم هذا الاعتقاد، فإن ما أُجري منها يسير في هذا الاتجاه؛ إذ توصَّل جونستون (١٩٩٥) مثلًا إلى أنَّ العديد من المراهقين ذكروا أنهم يشاهدون أفلام الرعب ليتفادوا التعامل مع مشكلات عالم الواقع. إلا أن نفس هؤلاء المراهقين يستخدمون العقاقير لتفادي التعامل مع قضايا العلاقات الشخصية المؤرِّقة؛ لذا على الرغم من إمكانية استخدام وسائل الإعلام للهروب من الواقع، يظلُّ من غير المعروف إن كان هذا السبيل يقدم فوائد صحية للمستخدِم الشاب لوسائل الإعلام. في الواقع إذا صار استخدام وسائل الإعلام للهروب شائعًا فإنه يصبح عادة.

(ﺟ) التعود

أحيانًا ما يشاهد النشء التليفزيون ويُمارسون ألعاب الفيديو ويتابعون بريدهم الإلكتروني بسبب رغبة لا واعية في عمل ذلك، وبسبب مشاعر بالانفراج أو الارتياح عند ممارسة هذا النشاط. ويُبيِّن هذا السلوك اكتساب عادة إعلامية، وعندما تترسخ العادات المرتبطة بالإعلام بمرور الوقت من المُمكن أن يظهر على النشء أعراض خاصة بالإدمان (ماكيلريث وجيكوبفيتز وكوبيي وألكزاندر، ١٩٩١). ويُشكِّل إدمان وسائل الإعلام موضوعًا مثيرًا للجدل؛ إذ على عكس إدمان الكحول والمخدرات لا يدخل الجسد أي مواد كيميائية عند استخدام المخدرات «الكهربية» كالتليفزيون وألعاب الفيديو؛ لذا فإن إدمان وسائل الإعلام يماثل في طبيعته للاضطراب النفسي المعروف بإدمان المقامرة.

يتميَّز من يُعتقد أنهم مُدمنون لوسائل الإعلام بالخصائص التالية: (أ) يستخدمون وسائل الإعلام بكثافة. (ب) يستخدمون وسائل الإعلام بمعدل يزيد عما استهدفوه. (ﺟ) لا تَنجح معهم محاولات تقليل استخدام وسائل الإعلام. (د) يمنع استخدام وسائل الإعلام الفرد من الانخراط في أنشطة أخرى (مثل الواجبات المدرسية). (ﻫ) يَشعرون بأعراض الانسحاب النفسي (مثل الانزعاج والضيق) بمجرد توقف استخدام وسائل الإعلام. إلا أن الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين (إس باكشي، يوليو ٢٠٠٨، تواصل شخصي) لا تعترف حاليًّا بإدمان وسائل الإعلام مرضًا نفسيًّا حقيقيًّا. بل ترى الجمعية أن إجراء المزيد من الأبحاث ضروري لمعرفة هل «إدمان وسائل الإعلام» اضطراب عقلي يُمكن تشخيصه (موقع ScienceDaily.com، ٢٠٠٧). وبصرف النظر عن هذا فإن استخدام وسائل الإعلام عند بعض النشء يُمكن أن يعرقل ويؤثر في قدرتهم على أداء وظائفهم في عالم الواقع.

(د) التعلم

في بعض الأوقات يبحث الأطفال والمراهقون عمدًا عن وسائل الإعلام للحصول على معلومات. فبنقرة واحدة مثلًا يُقدم الإنترنت النشء للشباب فيضًا من مواقع المعلومات. بل قد حلَّ أحد هذه المواقع — وهو ويكيبيديا — محلَّ الموسوعات المطبوعة في العديد من المنازل. إلا أنه ليس كل التعلُّم القائم على وسائل الإعلام ذا تأثير إيجابي على النشء. على سبيل المثال، بيَّنت الأبحاث أن مُشاهدي العنف في التليفزيون «يتعلمون» أن العالم مكان كريه مع وجود احتمالية التعرض للأذى في كل مكان (أي نظرة العالم السيئ؛ جيربنر وجروس ومورجان وسينيوريللي، ١٩٩٤). لكن النشء لا يَبحثُون عن المحتوى العنيف في التليفزيون بنيَّة تعلم هذه «الحقيقة». بل كانت نظرة العالم السيئ نتيجة غير مقصودة لاستخدام وسائل الإعلام؛ لذا فإن التعلم قد يحدث في أثناء استخدام وسائل الإعلام حتى وإن كانت نية التعلم غائبة.

(ﻫ) قضاء الوقت

في قصيدة فان دايك «الزمن»، يتفاوَت إدراك الزمن باعتباره إحدى وظائف الحالة العاطفية للفرد؛ حيث إن «الزمن جد قصير عند السعداء.» و«جد طويل عند الحزانى.» وتدعم الأبحاث الحالية رأي فان دايك الشعري أن العاطفة تؤثر في الإدراك. وعلى وجه التحديد، بين كامبل وبرايانت (٢٠٠٧) أن الزمن يراه بطيئًا حديثو العهد بالقفز بالمظلات الخائفين من قفزتهم الأولى، ويراه سريعًا من يتطلعون للقفز. ومثلما هو حال الأفراد المتشوقين لقفزتهم الأولى، فإن استخدام وسائل الإعلام يجعل الزمن يمرُّ سريعًا (مع ميزة إضافية وهي عدم الحاجة للقلق من احتمالية ألا تفتح المظلَّة؛ راو وبينج ويانج، ٢٠٠٦). بل لقد توصَّلت دراسة حديثة إلى أن جميع المراهقين والبالغين تقريبًا (٩٩٪) الذين يُمارسون ألعاب الفيديو يسجلون فقدان الإحساس بالوقت (وود وجريفيثس وبارك، ٢٠٠٧). إذن ليس من المستغرب أن وسائل الإعلام رفيق مُعتاد للنشء الذين يَنتظِرون في الطوابير أو من يستقلون وسائل مواصلات تَنقُلهم بين الأنشطة أو حتى يشعروا بالملل. وبالإضافة إلى قضاء الوقت، يُمكن لاستخدام وسائل الإعلام أن يقلل من الإحباط والغضب والعدوانية المصاحبة للملل. (زيلمان، ١٩٩٨).

(و) الاستجمام

عندما يستنفد ولداي صبرهما (أي يُزعجانني) أرسلهما إلى غرفتيهما «ليسترخيا». ولكي تسترخيَ ابنتي تستمع للموسيقى أو تقرأ، بينما يلعب ابني بالمكعَّبات أو يستمع للكتب الصوتية المسجلة على أشرطة. ويشيع استخدام وسائل الإعلام من أجل الاستجمام عبر النشأة والبلوغ، وإن لم يتوفَّر الكثير من الأبحاث عن الأطفال والمُراهقين. جدير بالذكر أن مفتاح الاستجمام القائم على وسائل الإعلام هو اختيار وسيلة إعلام ذات مُحتوى يبعث على الاستجمام كالموسيقى الكلاسيكية. أما ألعاب الفيديو شديدة الإثارة وبرامج التليفزيون المُثيرة لن تؤدي إلى استرخاء المُستخدِم من ناحية الحالة النفسية. لكن علينا أن نتذكر مع ذلك أن الإعلام الباعث على الاسترخاء نفسه يُمكن أن يبقي الأطفال مُستيقظِين في الليل؛ حيث يرفضون أن يتركوا وسيلة الإعلام (أو يُطفئوها) إلى أن يَنتهي المحتوى.

(ز) البحث عن الإثارة

في صيف عام ٢٠٠٧، ثار غضب الجمهور بعد إذاعة الحلقة الأخيرة من سلسلة شبكة إتش بي أو «آل سوبرانوس» (ذا سوبرانوس). فهل ساءت المُشاهِدين مشاهد العنف غير المبرر في أثناء إطلاق النار المباشِر وما تلاه من تحطيم رأس أحد الأفراد من قِبَل سيارة رياضية يملكها زعيم عصابة نيويورك فيل ليوتاردو؟ لا. هل ألغى الناس اشتراكاتهم في قناة HBO لأن أنطوني جون سوبرانو بدا أنه يتغلب على حالة الاكتئاب التي أُصيب بها بمُواعدة فتاة صغيرة السن وتحوُّله إلى منتج مساعد؟ إن أنطوني جون شكاء بكاء قطعًا لكن ليس هذا السبب. بل السبب في غضب الجمهور هو أنه بعد فترة من التلميح والتشويق المصاحب لمقتل طوني سوبرانو اسودَّت الشاشة، وبهذا انتهت السلسلة. لقد كان غياب التشويق هو ما سبب الغضب لا وجوده؛ إذ يُريد مُستخدمو وسائل الإعلام أن تخفق قلوبهم ويتدفَّق الدم في عروقهم وتتعرَّق أيديهم. فاستخدام وسائل الإعلام يمكن أن يكون مثيرًا مشوقًا. ولِعَين هذا السبب، يسعى إليها الأطفال والمراهقون (زوكرمان، ١٩٩٤).

(٥-٢) نظرية حرية الإرادة

تركز نظرية حرية الإرادة (ديسي ورايان، ١٩٨٥) على العوامل التي تؤثِّر في التحفيز البشري. وقد طبَّق رايان وزملاؤه مؤخرًا (رايان وريجبي وبرزيبيلسكي، ٢٠٠٦) نظرية حرية الإرادة على استخدام وسائل الإعلام لتفسير جاذبية الإعلام التحفيزية؛ أي توضيح الأسباب التي تجعل الكثيرين مُنجذبين لوسائل الإعلام. ومن اللافت بصفة خاصة هو رأي نظرية حرية الإرادة القائل بأن استخدام وسائل الإعلام يُمكنه أن يساعد على إشباع ثلاثة احتياجات سيكولوجية، وأن يعزز خلال ذلك شعور المستخدم بحسن الحال (مثل الثقة بالنفس والعواطف الإيجابية والحيوية). وتُمثل الاحتياجات السيكولوجية الثلاثة الاستقلالية والتمكن والارتباط.

تشير الاستقلالية إلى شعور التحكم الذي يَنتاب الأفراد عند فعل شيء يخصُّهم؛ لذا فإن مشاعر الاستقلالية تظهر بصفة أساسية في أثناء الأنشطة التي يَختار النشء الانخراط فيها وليس تلك التي يُجبَرون على فعلها. وتشمل الأنشطة المرتبطة بوسائل الإعلام التي تولِّد الشعور بالاستقلالية استخدامَ جهاز التحكم عن بُعد في التليفزيون واختيار الأغاني لتشغيلها على جهاز أيبود والتحكُّم في تأثير المحتوى عند قراءة كتب الرسوم الهزلية وتوجيه الشخصيات في العالم الافتراضي. وعلى الرغم من عدم وجود أي دراسات تجريبية تشير إلى أن مشاعر الاستقلالية يولدها استخدام وسائل الإعلام؛ فإنه توجد أبحاث تُبيِّن أهمية الرؤية المستقلَّة للعالم (أي موضع السيطرة) لصحة الأطفال والمراهقين وسلامتهم؛ إذ اكْتُشف ارتباط الشعور بالاستقلالية بزيادة الإنجازات التعليمية وتحسُّن قدرات حل المشكلات لدى النشء (هولوران ودوماس وجون ومارجولين، ١٩٩٩).

أما الاحتياج السيكولوجي الثاني، وهو التمكُّن، فيشير إلى النجاح في إتمام المهام وخاصة الصعبة منها. وتشمل الأمثلة الإعلامية ذات الصلة تخطي كل مستويات لعبة من ألعاب الفيديو وحل لغز سودوكو على الإنترنت ومعرفة تفاصيل كل حلقات ستار تريك التي أُنتجت على الإطلاق وإنتاج فيديو خاص على موقع يوتيوب. وكما تُبيِّن هذه الأمثلة فإن بعض الأنواع المحدَّدة من التجارب المُرتبطة بوسائل الإعلام (مثل إتمام إحدى ألعاب الفيديو) يَخلق شعورًا فوريًّا بالتمكُّن في أداء المهام. أما بعض التجارب الأخرى في المقابل فلا تؤدِّي إلى الشعور بالتمكُّن إلا بعد مرور وقت طويل على استخدام المادة الإعلامية. فمثلًا لا تؤدِّي معرفة التفاصيل الدقيقة للحلقة الثانية من ستار تريك (تشارلي إكس) إلى الشعور بالتمكُّن إلا خلال مهرجان ستار تريك الذي قد يعقد بعد أعوام مثلًا.

ويُشبه التمكن كثيرًا مفهوم الكفاءة الذاتية المرتبط بالنمو وهو يشير إلى الشعور بأن الشخص قادر على إتمام مجموعة من المهام وحده. وقد بيَّنت الأبحاث على الأطفال والمُراهقين أن البراعة (أي التفوق في قُدرة ما) تجعل النشء يؤمنون بأنهم بالعمل والتدريب الجادَّيْن يُمكنهم أيضًا أن يؤدوا المهام المستقبلية بنجاح. وتشمل المزايا الإضافية المصاحبة لارتفاع مستويات الشعور بالكفاءة الذاتية تُحسِّن العلاقات بالأقران وانخفاض استخدام المخدرات وارتفاع معدلات الإنجازات التعليمية أو الأكاديمية (أوسبروكس وتوماس وويليامز، ١٩٩٥)؛ لذا فإن التمكُّن يبدو فعلًا أنه عامل مهم في سلامة النشء. لكن السؤال الذي يظلُّ مطروحًا هو هل يُمكن لاستخدام وسائل الإعلام أن يؤثر بصورة إيجابية على النشء. وحاليًّا تُشير البيانات إلى أن الشعور بالتمكُّن الذي يولده استخدام وسائل الإعلام قد يقتصر على وسيلة الإعلام المستخدمة ولا يُعزز الشعور العام بالتمكُّن.

منذ ما يَربو على عقد توصل فونك وبوكمان (١٩٩٦) إلى أن الفتيات اللائي سجَّلن القدر الأكبر من ممارسة ألعاب الفيديو قيَّمن أنفسهن الأقل تمكنًا في المجالات الأكاديمية والرياضية والاجتماعية. فما السبب في ذلك؟ أليس التمكُّن المرتبط بارتفاع مستويات ممارسة ألعاب الفيديو يؤدِّي إلى الشعور العام بالتمكن؟ ليس بالضرورة؛ فقد رأى هارتر (١٩٨٧) أن نتيجة تدني أداء النشء في المجالات التي يُقدرها المجتمع في العادة (كالمجال العلمي والرياضي) يُحاولون أن يُقلِّلوا إدراكيًّا (أي يخصمون) من أهمية هذه المجالات. وفي ذات الوقت يُحاول هؤلاء النشء أن يزيدوا من الناحية الإدراكية من أهمية التمكُّن في المجالات غير التقليدية التي يَبرعون فيها. فمثلًا قد يقلل شاب متدنٍّ في الأداء الرياضي من أهمية ممارسة الرياضة لمستقبله مُتذرِّعًا بأنه بارع في دمج وإنتاج الموسيقى. ويُعتقد أن المراهقين يمارسون عملية التقليل من الأهمية هذه لتساعدهم على تكوين صورة إيجابية عن النفس. لكن إن كان التمكُّن أو الكفاءة في المجالات التقليدية غير مقبول اجتماعيًّا فإن تقدير التمكُّن في المجالات غير التقليدية، مثل ممارسة ألعاب الفيديو، لا يُساعد في تعزيز الثقة بالذات. بل إنها كما تبين بيانات فونك وبوكمان (١٩٩٦) قد يُقلِّل منها.

يُمثل الارتباط في ضوء نظرية حرية الإرادة الاحتياج النفسي الأخير المهم للسلامة. ويشير الارتباط إلى الإحساس بالارتباط بالآخرين. وتشمل الأنشطة المعتمدة على وسائل الإعلام التي تؤدِّي إلى الشعور بالارتباط ممارسة ألعاب الفيديو على الإنترنت (التي تتضمَّن رسائل نصية أو سمعية) وتبادُل الرسائل عبر البريد الإلكتروني والمراسلة النصية والكتابة على المدوَّنات وكذلك الاشتراك في المناقشات المكتوبة والمرئية. وتبين الأبحاث على الطفولة المتوسِّطة والمراهقة أن النشء يُمارسون أنشطة ترابطية من خلال وسائل الإعلام، وأن هذا الاستخدام يُعزِّز العلاقات التبادلية الواقعية (كالأصدقاء مثلًا؛ فلكينبرج وبيتر، ٢٠٠٧أ). لكن وكما بين حديثنا السابق عن العلاقات شبه الاجتماعية فإن الارتباط قد يكون أُحاديَّ الجانب، من مستخدم وسائل الإعلام تجاه الشخصية الترفيهية.

(٥-٣) أسباب إضافية لاستخدام وسائل الإعلام

توجد فيما عدا نظرية حرية الإرادة ومنظور الاستخدامات والإشباعات ثلاثة أسباب إضافية طُرحت لتفسير الجاذبية السيكولوجية لوسائل الإعلام: تكوين الهُوية والحالة الاجتماعية وإدارة الحالة المزاجية. ونتناول كلًّا منها بالترتيب.

(أ) تكوين الهوية

قد يَستخدم الأطفال والمراهقون وسائل الإعلام لتُساعدهم على تكوين هُويَّتهم الفردية والاجتماعية أو الحفاظ عليها. وتُشير الهوية الفردية إلى السمات والصفات التي تُستخدَم لوصف النفس مثل الجمال والذكاء والانفتاح. أما الهوية الاجتماعية على الجانب الآخر فتَعني الزمرة الاجتماعية المختارة لينتمي إليها الفرد، والمغزى العاطفي من هذا الانتماء؛ لذا بينما تُتيح الهوية الفردية للنشء الإجابة على سؤال «من أنا؟» فإن الهوية الاجتماعية تُتيح لهم الإجابة على سؤال «أين أنتمي؟» فمثلًا قد يُساعد الاستماع لموسيقى الديث ميتال النشء على تبني نظرة لأنفسهم باعتبارهم منشقين (هوية فردية) وباعتبارهم أعضاءً في المُجتمع الثقافي ذي الطابع القوطي (هوية اجتماعية). وقد بيَّنَت دراسات عديدة أن استخدام وسائل الإعلام يُمكنه أن يؤثر في تكوين النشء، وخاصةً في المراهقة المبكرة (مثل هانترمان ومورجان، ٢٠٠١).

(ب) الحالة الاجتماعية

يبدأ الأطفال في مرحلة الطفولة المُتوسِّطة في تقييم ومقارنة أنفسهم بأصدقائهم في مجالات متعدِّدة كالتفوق العلمي والقدرات الرياضية والمظهر البدني؛ وهي ظاهرة تُعرف بالمقارنة الاجتماعية. وتُساعد عملية المقارنة الاجتماعية النشء على تكوين هُويتهم ومعرفة مكانهم في الجماعة الأكبر (مثل أفضل لاعب بيسبول). فعندما كان ابني في التاسعة من عمره كان يسألني باستمرار أن أشتري له ألعاب فيديو عنيفة تُصنَّف على أنها غير ملائمة للشباب تحت سن ١٧ عامًا (أي مصنفة للبالغين). وليدعم موقفه ذكر أن الكثير من أصدقائه مارسوا بالفعل ألعاب فيديو للبالغين (مثل دوم ٣ وهالو). فالواضح أن أصدقاء ابني خلال عملية المقارنة الاجتماعية كانوا يُباهون بتجاربهم مع ألعاب الفيديو في محاولة لرفع مستوى حالتهم الاجتماعية بين أقرانهم. وتُماشي هذه النادرة رأي زيلمان (١٩٩٨) أن الفتية، أكثر من الفتيات، يستخدمون وسائل الإعلام لمثل هذه الأغراض. إلا أنه لم يُجرَ الكثير من الأبحاث في هذا المجال، ولم يكن أي منها من منظور النمو.

(ﺟ) إدارة الحالة المزاجية

عندما كنت أدرس في الجامعة كان لي صديق رفضَتْه فتاة كان معجبًا بها. بعدها بقليل أخذ يستمع إلى موَّال فرقة ليد زيبلين الكلاسيكي «درجٌ إلى النعيم». ويعرض هذا المثال استخدام الإعلام باعتباره وسيلةً للتحكم في الحالة العاطفية للفرد (في هذه الحالة الحفاظ على الشعور بالحزن) وهي ظاهرة تُعرَف عمومًا بإدارة الحالة المزاجية. إلا أن المثال المذكور لا يَنطبِق عادةً على سلوك ضبط الحالة المزاجية عند المراهقين الذكور؛ حيث يميل الذكور إلى استخدام الموسيقى لمواءمة المزاج الغاضب. أما الفتيات في المقابل فيَمِلن إلى استخدام الموسيقى للحفاظ على المزاج الوقور (روبرتس وكريستنسون، ٢٠٠١). ورغم أن الغالبية العُظمى من الأبحاث في هذا المجال تناوَلَت تأثير الموسيقى على الحالة المزاجية فإن كل أشكال الإعلام يُمكن استخدامها لخلق أو تعديل الحالة العاطفية للفرد (زيلمان، ١٩٩٨). أما بخلاف مرحلة المراهقة فلا يُعرف الكثير عن استخدام وسائل الإعلام في إدارة الحالة المزاجية.

  • التنفيس: نظرة مِن زاوية إدارة الحالة المزاجية: من بين مجالات إدارة الحالة المزاجية التي تُهمُّ الباحثين في مجال وسائل الإعلام هو التخفيف من الغضب. فالغضب والنوازع العدوانية طبقًا لفرويد تتراكم عبر الزمن إن لم يتمَّ التنفيس عنها بشكل مناسب، وينتج عنها نوبات عنيفة. يُشير مصطلح التنفيس إلى موقف يتمُّ فيه إفراغ مشاعر الغضب والعُدوانية الحبيسة غير المستقرَّة، ومن ثَم منع العنف المستقبلي. ويُعتقد على نطاق واسع أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة ومُشاهَدة برامج العنف في التليفزيون تُتيح التنفيس للشباب وهو ما يؤدِّي إلى تقليل مشاعر الغضب والسلوك العدواني. ولحسن الحظ يُمكن إخضاع هذا الاعتقاد للاختبار، فعبر أكثر من ٦٠ عامًا لم يُقدَّم الكثير من الأدلة التجريبية التي تدعم هذا الرأي (بوشمان، ٢٠٠٢).

(٦) نقاط مهمة من منظور النمو

يَستهلك النشء كميات كبيرة من المواد الإعلامية عبر النشأة والبلوغ. وبصرف النظر عن نوع وسائل الإعلام المستخدمة فكلٌّ منها يَمتلك القدرة على إمداد الرضع والأطفال والمراهِقين بتجارب مُجزية (بامجرين ووينر ورايبيرن، ١٩٨٠). بالطبع ترتبط هذه المكافآت بالاحتياجات الخاصة للنشء. فمثلًا قد يمارس بعض النشء ألعاب الفيديو لأنهم يريدون أن يتخلصوا من الملل، بينما يُمارسها البعض الآخر بسبب الرغبة في صحبة الأصدقاء. وبصفة عامة فإن منظور الاستخدامات والإشباعات يُركز على التجارب الإشباعية والعواطف الإيجابية المرتبطة باستخدام وسائل الإعلام. إلا أن كل استخدام وشعور مصاحَب بالإشباع يتميز بالتفرد دون وجود نظرية شاملة تُفسِّر هذا التلازم. بل إن الأبحاث لا يزال عليها أن تدرس كيف تتغير استخدامات وسائل الإعلام ومشاعر الإشباع عبر مراحل النشأة والبلوغ. فضلًا عن ذلك يَشعُر الكثير من الباحثين بأن استخدام وسائل الإعلام يتعدَّى الإشباع المباشر؛ إذ ليست كل التجارب المُرتبطة بالإعلام إيجابية. فمثلًا يُمكن لعدم القدرة على تجاوز مستوًى في لعبة فيديو أن يتسبَّب في مشاعر إحباط وغضب لدى مُمارس اللعبة، ويمكن لأفلام الرعب أن تفزع مشاهدها ليلًا، ويُمكن للأفلام الوثائقية مثل «وانهارت السدود» (وين ذا ليفيز بروك) للمخرج سبايك لي أن يُشعر المشاهد بيأس جم؛ لذا فعندما ننظر لما سِوى الترفيه يتضح أن استخدام وسائل الإعلام يحدث نتيجة لقوًى ودوافع قوية كتلك التي تحددها نظرية حرية الإرادة. فالأفراد ينجذبون على نحو خاص إلى وسائل الإعلام التي يُمكنها أن تُولِّد الشعور بالاستقلالية والتمكُّن والارتباط.

على الرغم من أن نظرية حرية الإرادة تُوضِّح أكثر أسباب استخدام النشء لهذا الكم من وسائل الإعلام، فثمة العديد من القضايا التي لا تزال غير محسومة؛ أولها: كيف تتغير مشاعر الاستقلالية والتمكُّن والارتباط مع تقدُّم النشء في السن؟ ثانيًا: عبر النشأة والبلوغ، أي وسيلة إعلام (كألعاب الفيديو والتليفزيون) لها التأثير الأكبر على الاحتياجات السيكولوجية الأساسية؟ ثالثًا: أي هذه العمليات الثلاث (أي الاستقلالية والتمكُّن والارتباط) أكثر عُرضة للتأثر بالإعلام؟ رابعًا: هل فوائد استخدام المواد الإعلامية فيما يتعلَّق بحُسن حال الفرد تقتصر على السياق المحيط بالاحتكاك الإعلامي (مثل الشعور بالثقة بالنفس عند ممارسة ألعاب الفيديو)؟ خامسًا: كم عدد التجارب الضرورية لتحويل الفوائد قصيرة الأمد إلى تغيُّرات بعيدة الأمد في مستوى صحة وسعادة الفرد؟ وأخيرًا: تركز نظرية حرية الإرادة على استخدام وسائل الإعلام بصورة عامة، بصرف النظر عن المحتوى. فهل الفوائد المُفترَضة على الصحة تَنطبِق على المحتوى الإعلامي الذي يتضمَّن تعاطي المخدرات والإباحية والعنف؟

توجد أسباب عدة مختلفة تُفسر استخدام النشء لوسائل الإعلام. ولن يكون من الغريب إن كان كلٌّ من التفسيرات المذكورة أعلاه تُعلِّل استخدام الأطفال والمراهقين للإعلام في مرحلة معينة خلال النشأة. فضلًا عن أن فهم الاختلافات في الجاذبية السيكولوجية للإعلام من مرحلة الرضاعة وصولًا إلى المراهقة قد يلقي الضوء على الطبيعة المتغيرة لاستخدام وسائل الإعلام عبر النشأة والبلوغ. فمثلًا، على الرغم من أن «التعلم» قد يكون السبب الرئيسي لاستخدام وسائل الإعلام في سنوات ما قبل المدرسة فإن تكوين الهوية قد يُبرر جاذبية الإعلام خلال سنوات المراهقة. كذلك يُمكن لوسائل الإعلام المختلفة أن تخدم النشء بأشكال مختلفة. فمثلًا قد يُشاهد النشء برامج التليفزيون التعليمية بهدف التعلم، ويستمعون للموسيقى المتمرِّدة ليُشكِّلوا هويتهم، ويُمارسوا ألعاب الفيديو العنيفة ليَشعروا بالتمكن. فكما تُظهر هذه الأمثلة، فإن المحتوى المستخدَم (مثل الجنس أو المخدرات أو موسيقى الروك) يتمتع بنفس أهمية وسيلة الإعلام نفسها لفهم الجاذبية السيكولوجية للإعلام.

وأخيرًا قد يختلف التأثير المُحتمَل لاستخدام وسائل الإعلام على النشء تبعًا للأسباب المقدَّمة لتبرير استِخدامها. ويدعم هذا الاعتقاد اكتشاف جونستون (١٩٩٥) أن المراهقين الباحثين عن الإثارة بعد مُشاهدتهم أفلام الرعب سجَّلوا مشاعر أكثر إيجابية من الذين شاهدوا هذه الأفلام محاولةً منهم لتغيير حالتهم المزاجية؛ لذا فإن الإشباعات التي تُستهدف قبل استخدام وسائل الإعلام قد لا تقتصر على تفسير الجاذبية السيكولوجية لهذه الوسيلة بالتحديد، بل تتعدَّى ذلك لتأثيرها المُحتمَل على الفرد. إلا أنه لم يُجرَ الكثير من أبحاث النمو على تلك النقطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤