الفصل الثاني عشر

تأثيرات وسائل الإعلام: الحجم، والمخاطر، والثقافة الإعلامية

كما كشفت الفصول السابقة، يتأثر الرضع والأطفال والمراهقون على نحو واضح بوسائل الإعلام التي يستهلكونها. وفي حين أن بعض هذه التأثيرات مفيدة للشباب، فإن لبعضها الآخر القدرة على أن يكون ضارًّا. ولكن، إلى أي مدًى ينبغي على أولياء الأمور والمعلمين والسياسيين أن يمتدحوا النتائج الإيجابية وأن يشعروا بالقلق إزاء النتائج السلبية؟ بعبارة أخرى، ما مدى التأثير الكبير الذي تمارسه وسائل الإعلام المحيطة بالنشء في حياتهم؟ وللمساعدة في الإجابة على هذا السؤال، يستفيد متخصصو العلوم الاجتماعية من المفهوم الإحصائي للتباين. التباين هو النسبة المئوية للمتغير التابع التي تُفسَّر عن طريق متغير مستقل. في أبحاث وسائل الإعلام تمثل المواقف والأفكار والمشاعر وإثارة المشاعر والسلوك المتغيرات التابعة، وتمثل مختلف أشكال وسائل الإعلام (على سبيل المثال، العنيفة والجنسية والأكاديمية والاجتماعية الإيجابية، وما إلى ذلك) المتغيرات المستقلة. وهكذا، فإن أبحاث تأثير وسائل الإعلام تحاول الكشف عن نسبة السلوكيات والأفكار والمشاعر، وما إلى ذلك، التي يمكن أن تُعزى إلى استخدام وسائل الإعلام.

على سبيل المثال إذا اعتبرنا كعكة ما متغير تابع قيد الدراسة، فإن المتغيرات المستقلة هي المكونات التي تشكل تلك الكعكة. وبطبيعة الحال، عند صنع الكعكة، تكون بعض المكونات أكثر بروزًا من غيرها؛ أي إنها تشكل نسبة مئوية أكبر من الكمية الإجمالية للمكونات المستخدمة، وهذا هو الحال في التباين، حيث تفسر بعض المتغيرات المستقلة متغيرًا تابعًا أكثر من تفسير المتغيرات المستقلة الأخرى له. على سبيل المثال، عند دراسة السلوك الجانح لدى النشء، يفسر الأقران ٢٥٪ من التباين، في حين أن جودة العلاقات الأسرية تمثل ٣٪ من التباين. وعادة ما تفسر الآثار الصغيرة حوالي ١٪ من التباين، وتفسر الآثار المتوسطة حوالي ١٠٪، وتفسر الآثار الكبيرة ٢٥٪ على الأقل. ولكن حتى عندما تصل نسب التأثير إلى الحد الذي يُعتبر كبيرًا، فإن ٧٥٪ من التباين يبقى غير مُفسَّر من قبل العوامل المشمولة في الدراسة. وفي معظم الأحيان، في أبحاث العلوم الاجتماعية، لا يمكننا أن نفسر تمامًا أسباب التأثير قيد الدراسة. وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة غير مرضية، فإنها ليست مستغرَبة، حيث إن تعقيد السلوك البشري هائل. وعلاوة على ذلك، في أبحاث النمو، نادرًا ما تفسِّر متغيرات مفردة ما يكفي من التباين لتُعتبر «سببًا» رئيسيًّا للتأثير. ومع ذلك، فإن المتغير المستقل الذي يفسِّر أي مقدار من التباين، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، يقرب العلم خطوة إلى تفسير الظاهرة قيد الدراسة (كيرش، ٢٠٠٦).

(١) التحليل البعدي

نادرًا ما تتكرر الدراسات التجريبية على نحو متطابق. بل تميل الأبحاث الجديدة إلى تكرار جوهر العمل الأصلي، مع إجراء تعديلات على العينة والتصميم والمتغيرات المستقلة والتابعة. ولكن مع استخدام العديد من الدراسات لعينات مختلفة الحجم، وأعمار مختلفة، وأساليب مختلفة، وما إلى ذلك، فإن تقديم تقدير للتباين لأي تأثير من تأثيرات وسائل الإعلام يمكن أن يكون صعبًا. لحسن الحظ، حتى مع وجود عدد كبير من الاختلافات المنهجية بين الدراسات، لا يزال من الممكن إجراء تقييمات منهجية للتباين من خلال الإجراء الإحصائي المعروف باسم التحليل البعدي. يجمع التحليل البعدي النتائج العددية من مشاريع الأبحاث المستقلة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين الدراسات. ومن خلال الجمع بين مشاريع بحثية منفصلة في دراسة واحدة، فإن نقاط الضعف الموجودة في الدراسات الفردية (على سبيل المثال، حجم العينة الصغير أو ضعف القدرة على تعميم النتائج) تصبح أقل إثارة للقلق. ويكون التحليل البعدي مفيدًا على نحو خاص عندما تشير دراسات متعددة إلى نتائج متناقضة؛ وهذا يعني جوهريًّا أن التحليل البعدي يصنع عينة كبيرة من عدد من العينات الأصغر، ومن ثَم يزيد القدرة على كشف الاختلافات الحقيقية، إذا ما كانت موجودة بالفعل (مثل قوة النتائج). ويساعد التحليل البعدي أثناء القيام بذلك في توضيح التأثيرات التي لم تكن نتائجها حاسمة في السابق (كومستوك وشارر، ٢٠٠٣).

وإضافة إلى تحديد وجود التأثير من عدمه، يقيس التحليل البعدي أيضًا حجم هذا التأثير. وللقيام بذلك، يستخدم الباحثون في كثير من الأحيان ارتباط حجم التأثير (r+)، الذي يشير إلى متوسط قوة العلاقة بين المتغير المستقل والمتغير التابع. وتعتبر معاملات ارتباط حجم التأثير صغيرة عند حوالي ٠٫١٠، ومتوسطة في نطاق ٠٫٣٠، وكبيرة عندما تكون في حدود ٠٫٥٠. وأخيرًا، يمكن أن يوفر التحليل البعدي تقديرًا لمجموع التباين الذي يفسره أي عامل منفرد.

ثمة عديد من الأمور المهمة التي يجب مراعاتها عند تقييم دراسة تحليلية بعدية: على سبيل المثال، يمكن أن يتسبب الإفراط في إدراج دراسات متعددة ذات مشاكل منهجية ملحوظة في جعل آثار مهمة إحصائيًّا بدون قيمة. وعلى العكس من ذلك، فإن إدراج العديد من الدراسات ذات المنهجية الضعيفة يمكن أيضًا أن يجعل من الصعب العثور على دليل على التأثير. وكمثال على ذلك، تأمل ما يلي: كشفت دراسة أندرسون (٢٠٠٤) التحليلية البعدية لتأثير ألعاب الفيديو العنيفة على الأفكار العدوانية والمشاعر والسلوك أن أحجام التأثير كانت في أكبر حجم لها عندما اسْتُخْدِمت الدراسات ذات «أفضل الممارسات» فقط في التحليلات (أي تلك الدراسات التي لا تتضمن سوى عدد قليل من العيوب المنهجية). على الرغم من أن الإحصاءات الخاضعة للتحليل البعدي موضوعية، فإن الباحثين ما زالوا مطالبين باتخاذ قرارات ذاتية بشأن المقالات التي يضمنونها في الدراسة وكيفية تصنيف الجوانب المختلفة للدراسة (مثل العاطفة أو مستوى إثارة المشاعر). على سبيل المثال، في تقييمٍ لآثار التليفزيون على السلوك الاجتماعي الإيجابي، أدرج هيرولد (١٩٨٦) اقتراض الكتب من المكتبة كفعل اجتماعي إيجابي. وبالنظر إلى أن السلوك الاجتماعي الإيجابي يُعرف بأنه أعمال مباشرة من المساعدة والمشاركة والتعاون مع الآخرين، فإن قرار هيرولد تعرض للتشكيك لاحقًا (ماريس ووودارد، ٢٠٠١).

بالإضافة إلى ذلك، تتردد العديد من مجلات العلوم الاجتماعية في نشر المقالات التي تورد نتائج «بلا دلالة إحصائية». وعلى هذا النحو، فإنه من الأكثر احتمالًا أن تكون الدراسات المدرجة في التحليل البعدي مائلة نحو وجود التأثير أكثر من غيابه. ويُشار إلى هذه الظاهرة عادة باسم «تحيز النشر». على الرغم من أن الباحثين قد يحاولون تعقب الدراسات غير المنشورة التي انتهت في درج الملفات، فإنه من المستحيل معرفة ما إذا كانت جميع الدراسات ذات الصلة أُدرجت أم لا. ومع ذلك، فمن الممكن تقدير تأثير تحيز النشر على نتائج التحليل البعدي. ثمة طريقة تُسمى «أسلوب تحديد العدد اللازم لإثبات النقص» تحسب عدد الدراسات الإضافية غير ذات الدلالة الإحصائية اللازمة لجعل النتيجة ذات الدلالة الإحصائية تصبح غير ذات دلالة إحصائيًّا. وبالنسبة للتحليلات البعدية، عندما يكون العدد اللازم لإثبات النقص عاليًا، فإنه يلزم وجود العديد من الدراسات غير ذات الدلالة الإحصائية لتغيير النتائج. وفي مثل هذه الحالات، يُعتقد أن تأثير تحيز النشر ضئيل. وعلى النقيض من ذلك، عندما يكون العدد اللازم لإثبات النقص منخفضًا، فلا حاجة إلا إلى عدد قليل من الدراسات للتأثير على النتائج، مما يزيد بشكل كبير من احتمالية تأثير تحيز النشر على النتائج (فيرجسون، ٢٠٠٧).

(١-١) نتائج التحليلات البعدية على أبحاث آثار وسائل الإعلام

من حيث الحجم، تشير نتائج العديد من التحليلات البعدية إلى أن وسائل الإعلام تفسر ما بين ١٪ إلى ١٤٪ من التباين، اعتمادًا على المتغير التابع قيد الدراسة. وكما هو مبين في شكل ١٢-١، يبدو أن وسائل الإعلام عبر النشأة لها أكبر تأثير على السلوك الاجتماعي الإيجابي والعدوانية والتدخين. وعلى النقيض، يبدو أن وسائل الإعلام لها تأثير أقل بكثير على وزن الجسم والنشاط البدني (ديزموند وكارفيث، ٢٠٠٧؛ جروز وليفين ومورنِن، ٢٠٠١؛ كلاسن وليانج، تجوزفولد وكلاسن وهارتلينج، ٢٠٠٨؛ ماريس ووودارد، ٢٠٠٧؛ مارشال وبيدل وجوريلي وكاميرون وموردي، ٢٠٠٤؛ أوبليجر، ٢٠٠٧؛ ويلمان وشوجارمان وديفرانزا ووينيكوف، ٢٠٠٦). ومع ذلك، لا توجد دراسات تحليلية بعدية تقارن بين أحجام تأثير وسائل الإعلام وقوة التأثيرات البيئية الأخرى عبر النشأة (مثل أولياء الأمور والأقران والأشقاء). ربما يرجع الأمر إلى أنه مقارنةً بالعوامل البيئية الأخرى، يتضح أن لاستخدام وسائل الإعلام تأثيرًا أكبر على نتائج معينة أكثر من غيره. وعلى هذا النحو، تتطلب المخاطر والمنافع النسبية لوسائل الإعلام، في سياق العوامل البيئية الأخرى، مزيدًا من الدراسة.
fig10
شكل ١٢-١: النسبة المئوية للتباين المُفسَّر عن طريق وسائل الإعلام.
 تشير الأقواس إلى أن التحليل البعدي كان مقصورًا على نوع معين من وسائل الإعلام.

ثمة حاجة إلى بعض التحذيرات عند تفسير هذه البيانات؛ أولًا: لا توجد تحليلات بعدية حالية عن آثار وسائل الإعلام على تعاطي المخدرات، أو تعاطي الكحول، أو النشاط الجنسي. ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن وسائل الإعلام تفسر عادة ما بين ٥٪ و١٠٪ من التباين في هذه النطاقات (راجع على سبيل المثال دراسة سارجنت وآخرون، ٢٠٠٦). ثانيًا: فإن العدد اللازم لإثبات النقص بالنسبة لبعض مجالات الأبحاث المتعلقة بالإعلام، مثل العنف الإعلامي، ضئيل نسبيًّا، مما يشير إلى احتمالية وجود تحيز في النشر في الدراسات السابقة (فيرجسون، ٢٠٠٧). ثالثًا: ربما تخفف التأثيرات الثقافية من تأثيرات وسائل الإعلام على النشء. على سبيل المثال، أحجام التأثير للتعليم بمساعدة الكمبيوتر أكبر بكثير في تايوان (حجم التأثير = ٠٫٥٥) مما هي عليه في الولايات المتحدة (حجم التأثير = ٠٫١٣؛ لياو، ٢٠٠٧). وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن وسائل الإعلام لا تؤثر على النشء بطريقة التأثير التام أو عدم التأثير نهائيًّا، بل يحدث تأثيرها في سياق العوامل البيئية الأخرى. ويلزم إجراء أبحاث إضافية لمعرفة مدى اختلاف تأثيرات أنواع وسائل الإعلام المختلفة (مثل التليفزيون وألعاب الفيديو وما إلى ذلك) والفئات (مثل الجنس والعدوانية والمخدرات) حسب الثقافة أيضًا.

جدول ١٢-١: التصنيف العمري المستخدم عادة في أبحاث النمو.
فترة النمو النطاق العمري المرتبط
الرضع من الميلاد إلى سنة واحدة
مرحلة تعلم المشي ١–٣ سنوات من العمر
الطفولة المبكرة ٣–٥ سنوات من العمر
الطفولة المتوسطة ٦–١٢ سنة من العمر
المراهقة ١١–١٩ سنة من العمر
رابعًا: عبر مجموعة متنوعة من الفئات، لم تجد معظم الدراسات التحليلية البعدية أدلة ثابتة على الفوارق العمرية. على سبيل المثال، فشل التحليل البعدي للعنف في وسائل الإعلام — عبر النشأة — في دعم الزعم بأن تأثير العنف الإعلامي على العدوانية يختلف وفقًا لاختلاف العمر (أندرسون وبوشمان، ٢٠٠١). ومن الواضح أن عدم وجود فوارق عمرية يثير الدهشة نظرًا إلى أن التركيز الأساسي لهذا الكتاب هو تقييم التأثير التفاضلي لوسائل الإعلام على الأطفال والمراهقين. ومع ذلك، حتى الآن، فإن معظم الدراسات التحليلية البعدية لم تقيِّم على نحو كافٍ التأثيرات الإعلامية باستخدام تقسيمات عمرية مناسبة من منظور النمو. بدلًا من ذلك، تميل الأبحاث إلى تقسيم النشء على أساس الفئات العمرية الإجمالية وهي الأطفال الرضع، والأطفال في مرحلة تعلم المشي، ومرحلة الطفولة المبكرة، ومرحلة الطفولة المتوسطة، ومرحلة المراهقة (انظر جدول ١٢-١). ولكن لماذا يكون جمع البيانات عشوائيًّا من الأطفال الذين يشكلون جزءًا من الفئة العمرية نفسها غير ملائم؟ الجواب بسيط، ولكن غالبًا ما يُغفَل: يحدث الكثير من التطور داخل الفئات العمرية. على سبيل المثال، فإن الأطفال في سن ٦ سنوات و١٠ سنوات جميعهم ينتمون لمرحلة الطفولة المتوسطة. ولكن، كما ستعرف من أي شقيقين في عمر ٦ و١٠ سنوات، فهما مختلفان على المستوى الجسدي والإدراكي والاجتماعي والعاطفي. على سبيل المثال، عندما كان ابني في السادسة من عمره، كان يفتقر إلى عنصر أساسي في فهم المزاح القائم على اللغة، والمعروف باسم «الوعي ما وراء اللغوي»، الذي يمكن تعريفه على نطاق واسع بأنه التفكير في الجوانب الرسمية للغة (على سبيل المثال، بناء الجملة والنحو: ديهارت وسروفي وكوبر، ٢٠٠٤). وعلى هذا النحو، قال النكتة التالية: «افتح لي الباب.» «مَن هناك؟» «أنا الموز.» «أي موز؟» «الموز البرتقالي!» وبينما كان ابني مشغولًا بالضحك الشديد، قالت شقيقته البالغة من العمر ١٠ سنوات، التي اكتسبت حسًّا متطوِّرًا من الوعي ما وراء اللغوي: «حسنًا، هذا لا معنى له.» بالطبع كانت على حق، وفي معظم الحالات، يكون إنشاء مجموعة واحدة من الأطفال أو المُراهقين الذين يتفاوَتُون في السنِّ بمعدَّل يزيد عن ٢-٣ سنوات غير منطقي. فثمَّة كثير من التغيُّرات الجسدية والإدراكية والاجتماعية والعاطفية التي تحدُث في غضون فترة قصيرة من الزمن. وربما يُؤدِّي الفشل في وضع هذه الفروق في الاعتبار إلى بيانات مُختلِطة مع حالة النمو.

عادةً ما تَستلزِم الضرورة إنشاء مجموعات كبيرة على أساس العمر في الأبحاث التحليلية البُعدية. وكما اتَّضح، ثمة اتساق قليل نسبيًّا بين الدراسات التي تستخدم الفئات العمرية أو المجموعات المنشأة على أساس العمر. على سبيل المثال، في حين أن دراسة ما ربما تقيِّم الأطفال من ٦ إلى ١٠ سنوات، فإن دراسة أخرى ربما تستخدم عينة من الأطفال في عمر ٨ إلى ١٠ سنوات. وبسبب القيد الناتج عن التداخل القائم على العمر، فإن الطريقة الوحيدة للجمع بين هاتين الدراستين هي إنشاء مجموعة عمرية كبيرة تتراوح بين ٦ و١٠ سنوات. ونتيجة لذلك، فإن أي اختلافات في النمو واضحة بين سن ٦ و١٠ تختفي في البيانات. وللأسف، نظرًا لعدم وجود قواعد منهجية تحدد أي الأعمار تُعتبر مناسبة من ناحية النمو للجمع بينها، فإن هذا النوع من التداخل أمر شائع. وعلى هذا النحو، يضطر الباحثون إلى استخدام فئات أكبر على أساس العمر، تنشأ عبر فترات نمو ممتدة.

وأخيرًا، كثيرًا ما يشير منتقدو أبحاث التأثيرات الإعلامية إلى أن كمية التباين التي تفسرها وسائل الإعلام في أي نتيجة واحدة تكون صغيرة نسبيًّا. وكما ذُكر سابقًا، حتى التأثيرات الكبيرة تترك ٧٥٪ من التباين غير مُفسَّر. ومع ذلك، في العالم الحقيقي، حتى التأثيرات الصغيرة يمكن أن يكون لها تأثير كبير على المجتمع. على سبيل المثال، كمية التباين التي يفسرها الأسبرين في الوقاية من النوبات القلبية ليست سوى حوالي ١٪. ومع ذلك، يُعتبر وصف الأسبرين يوميًّا إجراءً معروفًا في برامج الرعاية الصحية بأنه يقلل من خطر الإصابة بالنوبات القلبية. وبالمثل، لم يعد يُسمح باستخدام الرصاص في الطلاء أو إضافته في البنزين على الرغم من أن التعرض للرصاص يفسر حوالي ٢٪ من التباين في معدل ذكاء الأطفال. وعلى الرغم من أنه لا يفسر سوى ٤٪ من التباين، فإن استخدام الواقي الذكري يُعتبر عاملًا مهمًّا في الوقاية من فيروس العوز المناعي البشري المنقول جنسيًّا. وهذه الأمثلة، التي تُعتبر شائعة في الأبحاث الصحية، توضح كثيرًا أهمية التأثيرات «الصغيرة» على الصحة العامة والسياسة العامة. ومن ثَم، عند التفكير في تأثير وسائل الإعلام على النشء، فإن نسبة ١–١٤٪ من التباين التي تفسرها وسائل الإعلام ليست فقط ذات أهمية إحصائية، ولكنها أيضًا ذات أهمية مجتمعية (أندرسون وبوشمان، ٢٠٠١؛ أندرسون وجينتايل وباكلي، ٢٠٠٧).

(٢) عوامل الخطر والعوامل الوقائية والعوامل المفيدة

يمكن لوسائل الإعلام أن تؤثر على النشء بثلاث طرق مختلفة: كعامل خطر، وكعامل وقائي، وكعامل مفيد. وفي حين أن عوامل الخطر تزيد من احتمال حدوث نتائج سلبية، فإن العوامل الوقائية تقلل من هذا الاحتمال. وبدلًا من الوقاية من النتائج السلبية، تعزز العوامل المفيدة النتائج الإيجابية. على سبيل المثال، في المعركة ضد أمراض القلب، حُددت السمنة كعامل خطر مهم، حيث إن الأشخاص الذين يعانون من السمنة المفرطة أكثر عرضة لأمراض القلب من الأفراد ذوي الوزن الطبيعي. ويُعد تناول دواء لخفض الكولسترول عاملًا وقائيًّا، لأنه يمنع التراكم الطبيعي للويحات الدهنية على جدران الشرايين. ويمثل إجراء جراحة مجازة الشريان التاجي عاملًا مفيدًا؛ لأنه يجعل القلب الضعيف يعمل على نحو أفضل (لكنه لا يمنع انسداد الشريان في المستقبل). وفي بعض الأحيان، يمكن أن تتسم العوامل بأنها مفيدة ووقائية على حد سواء. فممارسة التمارين وتناول الطعام الصحي عاملان مفيدان، حيث إنهما يعززان صحة القلب (أي حجمه وقوته) ويُعدان عاملين وقائيين لأنهما يقللان من خطر الإصابة بأمراض القلب (مثل انسداد الشرايين؛ إم إم كيرش، مراسلات شخصية، يونيو ٢٠٠٨).

وفيما يتعلق بتأثير وسائل الإعلام، من المهم أن نتذكر أنه لا يوجد عامل خطر واحد يؤدي إلى نتيجة سلبية. وبالمثل، لا يمكن لأي عامل وقائي واحد أن يضمن عدم حدوث نتيجة سلبية. ولا يؤدي عامل مفيد واحد دائمًا إلى النتيجة الإيجابية المرجوة. تأمل الأمثلة التالية: مشاهدة أفلام الجنس على شاشة التليفزيون لن تجعل المراهق شديد التدين يصبح فجأة فاسد الأخلاق، ومشاهدة برنامج «عالم سمسم» أو لعب لعبة الكمبيوتر «جامب ستارت فيرست جريد» لن يضمن النجاح الأكاديمي. وحتى البرنامج التليفزيوني الأكثر عنفًا ووحشية على الإطلاق لن يتسبب في تصرف الأطفال بعدوانية. بل إن تراكم عوامل الخطر وعوامل الوقاية والعوامل المفيدة مع مرور الوقت هو ما يؤدي إلى كل من النتائج الإيجابية والسلبية. وكمثال على ذلك، وجد أندرسون وزملاؤه (٢٠٠٧) أن القدرة على التنبؤ بالعدوانية في العالم الواقعي زادت على نحو كبير مع وضع كل عامل خطر إضافي بعين الاعتبار. وعلاوة على ذلك، لا نحتاج في هذا الصدد إلا لثلاثة عوامل خطر فقط — من بينها التعرض للعنف الإعلامي — لتوليد درجة عالية من الدقة التنبؤية.

وفقًا لجاربارينو (١٩٩٩)، فإن معظم النشء قادرون على التعامل مع عامل أو عاملين من عوامل الخطر دون عواقب سلبية، ولكن عند وجود ثلاثة عوامل خطر أو أكثر، فإن حدوث النتائج السلبية أكثر احتمالًا من عدم حدوثها. ومع ذلك، ولأن العوامل الوقائية تستطيع تخفيف التأثير السلبي لعوامل الخطر المتعددة، فإن المجموع الكلي لعوامل الخطر والعوامل الوقائية هو ما ينتج النتيجة المرصودة. ومن ثَم، فإنه من المرجح أن تؤثر وسائل الإعلام تأثيرًا سلبيًّا على النشء الذين يمتلكون كثيرًا من عوامل الخطر وقليلًا من العوامل الوقائية. ومرة أخرى، ربما تكون بعض عوامل الخطر (أو العوامل الوقائية) أكثر تأثيرًا من غيرها. ومن ثَم، بالإضافة إلى كمية عوامل الخطر والعوامل الوقائية الموجودة، ينبغي أن يُؤخذ في الاعتبار التأثير النسبي لكل عامل. وهنا يأتي دور التباين، حيث إن مقدار التباين الذي يمثله أي عامل خطر أو عامل وقائي يقدم تقديرًا لتأثير هذه العوامل. على سبيل المثال، عند النظر إلى شكل ١٢-١، من الواضح أن مشاهدة وسائل الإعلام العنيفة لساعات طويلة يمثل عامل خطر للعدوانية أكبر بكثير من البدانة كعامل خطر لها.

(٣) الحد من الآثار السلبية لوسائل الإعلام من خلال محو الأمية الإعلامية

إننا نعيش في عالم مشبع بوسائل الإعلام، وللأسف، فإن الكثير من المحتوى الذي يتعرض له الأطفال والمراهقون يعرضهم لخطر حدوث نتائج سلبية. ومع ذلك، وكما ذُكر سابقًا، فإن العوامل الوقائية تخفف من الآثار الضارة المحتملة لوسائل الإعلام على النشء. ويتمثل أحد العوامل الوقائية في «الوساطة». تشير الوساطة إلى مجموعة من استراتيجيات التدخل التي تحاول الإخلال بآثار استخدام وسائل الإعلام على الأطفال والمراهقين. خضعت ثلاثة أنواع مختلفة من الوساطة للدراسة على مدى السنوات الثلاثين الماضية: الوساطة بمشاركة الاستخدام، والوساطة النشطة، والوساطة التقييدية. تتضمن الوساطة بمشاركة الاستخدام مشاركة الآباء والمعلمين، وما إلى ذلك في تجربة وسائل الإعلام مع الأطفال. يتسم هذا النوع من الوساطة بأنه سلبي، حيث لا تُقدَّم أية تعليقات بشأن محتوى وسائل الإعلام قبل أو أثناء أو بعد استخدامه. وتشير الوساطة التقييدية — التي تحدث في المنزل عادة — إلى الوضع الذي توضع فيه قيود على كمية و/أو نوع وسائل الإعلام التي يُسمح للشباب بمشاهدتها. على سبيل المثال، ربما يحظر الوالدان على أطفالهما في مرحلة ما قبل المراهقة لعب ألعاب الفيديو المصنفة بأنها غير مناسبة لأقل من ١٧ عامًا أو مشاهدة الأفلام التي تحمل تصنيف مقيَّد. أما الوساطة النشطة فتشير إلى عملية التحدث إلى الأطفال والمراهقين عن محتوى وسائل الإعلام. على سبيل المثال، أثناء الوساطة النشطة لمحتوى إعلان ما، يشرح أحد الوالدين أو المعلم للشباب الهدف الإقناعي للإعلان، وآليات تحقيق ذلك الهدف (على سبيل المثال، المبالغة)، وفي الوقت نفسه تقديم تعليقات وأحكام سلبية بشأن الإعلانات.

وخلافًا للوساطة بمشاركة الاستخدام والوساطة التقييدية، تحاول الوساطة النشطة زيادة الدفاعات الإدراكية لدى الأطفال والمراهقين وتغيير استجاباتهم العاطفية لوسائل الإعلام. وتشير الدفاعات الإدراكية إلى العوامل التي تساعد النشء على فهم الطبيعة الحقيقية لوسائل الإعلام التي يجري استخدامها؛ على غرار واقعيتها ونواياها وتصوير المتواجدين بها. على سبيل المثال، كثيرًا ما تفشل تجسيدات العنف الإعلامية في إظهار صور واقعية لنتائج العنف (مثل الألم والمعاناة). وترى بجوزين وزملائها (بجوزين وفان دير مولين وسونديج، ٢٠٠٧) أنه رغم امتلاك الأطفال دفاعات إدراكية مع بلوغهم الثامنة، فإنهم لا يستخدمونها بمفردهم حتى سن ١٢ عامًا. ومع ذلك، من خلال تدخل الكبار، يمكن تفعيل الدفاعات الإدراكية واستخدامها في وقت سابق لذلك بكثير. ولكن حتى عندما تكون الدفاعات الإدراكية متاحة للاستخدام خلال مرحلة المراهقة المبكرة، لا يستخدمها جميع المراهقين على نحو فعال. بيد أن أولئك الذين يستخدمونها يجنون ثمار ذلك. على سبيل المثال، كان المراهقون الذين ينتقدون الإعلانات التجارية أقل عرضة لشرب الكحول من المراهقين الذين لا يمتلكون مهارة مقاومة وسائل الإعلام هذه (إبشتاين وبوتفين، ٢٠٠٨). وكما ذُكر سابقًا، تشير الاستجابات الوجدانية إلى الإعجاب بوسائل الإعلام المستخدمة والتوجه الذهني حيالها. وعلى هذا النحو، تحاول الوساطة النشطة الحد من المشاعر الإيجابية وزيادة التوجهات الذهنية السلبية تجاه وسائل الإعلام.

ويشير مصطلح «محو الأمية الإعلامية» إلى تنمية القدرة على تحليل وسائل الإعلام وتقييمها. وتُعد الوساطة النشطة العنصر الرئيسي في حملات محو الأمية الإعلامية التي تستهدف الأطفال في الأماكن الرسمية، مثل المدارس والأماكن الدينية. وتركز العديد من برامج محو الأمية الإعلامية على المكونات الواقعية للإنتاج الإعلامي، وتناقش القضايا المتعلقة بالتأثيرات الخاصة وزوايا الكاميرا وخطوط الحبكة، وما إلى ذلك. وأحد المبادئ الأساسية لمحو الأمية الإعلامية هو أنه إذا أوضحت للشباب كيف تُنشأ وسائل الإعلام، فإنهم سيكونون أقل عرضة للتأثر بها. ومن ثَم، تتضمن تدخلات محو الأمية الإعلامية تأثيرَيْن مستقلَّيْن: (أ) تغيير الفهم الإدراكي لوسائل الإعلام لدى النشء، (ب) الحد من التأثير السلبي لوسائل الإعلام على النشء. وأظهر العديد من الدراسات بوضوح أنه بدءًا من رياض الأطفال، فإن الفهم الإدراكي لوسائل الإعلام لدى الطفل يمكن تغييره بنجاح من خلال برامج محو الأمية الإعلامية في المدرسة؛ فعلى سبيل المثال، عرَّفت حملات محو الأمية الإعلامية النشء بواقع وسائل الإعلام المفضلة لديهم على نحو فعال وطرق الإنتاج المستخدمة في إنشائها (ناثانسون، ٢٠٠٢). وهكذا، تستطيع محو الأمية الإعلامية بوضوح أن تغير تجربة استخدام وسائل الإعلام. ولكن هل يمكن أن تغير تأثيراتها أيضًا؟ تختلف الإجابة حسب نوع الوساطة المستخدمة وعمر الطفل المعني.

(٣-١) الأبحاث المتعلقة بالوساطة بمشاركة الاستخدام

من الصعب التفكير في استخدام الوساطة بمشاركة الاستخدام كمحاولة فعلية للحد من تأثير وسائل الإعلام، حيث لا يتم تقديم أي تعليقات نقدية (أو إيجابية) خلال العملية. فببساطة يلعب الشخص البالغ أو يشاهد أو يقرأ أو يستمع إلى وسائل الإعلام التي يستهلكها الطفل. وبالقيام بذلك، فإن الشخص البالغ يوافق ضمنيًّا على المحتوى الذي يُستهلك، مهما كان. ولا يوجد سوى عدد قليل نسبيًّا من الأبحاث الجديدة بشأن تأثير الوساطة بمشاركة الاستخدام. ومع ذلك، يشير هذا العدد القليل إلى أن هذا النوع من الوساطة لا يخفف من آثار استخدام وسائل الإعلام. كمثال على ذلك، وجد ناثانسون (١٩٩٩) أن المشاركة في مشاهدة البرامج التليفزيونية العنيفة مع الآباء كان مرتبطًا بمستويات أعلى من السلوك العدواني لدى الأطفال. ثمة شيء واحد واضح، من المرجح أن يشارك أولياء الأمور في الوساطة بمشاركة الاستخدام إذا كانوا يعتقدون أن آثار وسائل الإعلام المستخدمة مفيدة للنشء، أو على الأقل ليست ضارة. وفي المقابل، عندما يُعتقد أن وسائل الإعلام المستخدمة ضارة، فإنه من المرجح أن يستخدم أولياء الأمور الوساطة التقييدية أو النشطة (نيكين ويانز، ٢٠٠٦).

(٣-٢) الأبحاث المتعلقة بالوساطة التقييدية

في بعض الأحيان، ارتبطت الوساطة التقييدية بتخفيض التأثير السلبي لوسائل الإعلام على النشء. على سبيل المثال، وجدت سكولر وزملاؤها (سكولر وكيم وسورسولي، ٢٠٠٦) أن النشء الذين وضع أولياء أمورهم قيودًا أكثر على مشاهدة التليفزيون عمومًا كانوا أقل خبرة جنسية من غيرهم من النشء. ومع ذلك، تُعد نتائج سكولر وزملائها استثناء أكثر من كونها قاعدة؛ إذ وجدت الأبحاث التجريبية والترابطية بشأن تقنيات الوساطة (في كل من المنزل والمدرسة) أن المستويات العالية من الوساطة التقييدية عادة ما تفشل في الحد من تأثير الإعلانات التجارية أو العنف الإعلامي على النشء. وعدم قدرة الوساطة التقييدية على الحد من تأثير وسائل الإعلام على النشء أمر مثير للدهشة إلى حد ما؛ لأنه، بصرف النظر عن مرحلة النمو، لا يمكن أن يتأثر الأطفال والمراهقون بمشاهد وسائل الإعلام التي لا يستطيعون رؤيتها أو سماعها ظاهريًّا. ودعمًا لجهودهم التقييدية، يمكن للوالدين شراء أجهزة تحكم عن بعد تقصر القنوات إلى «قنوات صديقة للطفل»، أو تفعيل «الشريحة V» على أجهزة التليفزيون الخاصة بهم لمنع الوصول إلى المحتوى العنيف، أو استخدام برامج «نت ناني» أو ما شابه لمنع الوصول إلى المواد الإباحية على الإنترنت، أو ببساطة منع استخدام وسائل الإعلام و/أو الحد منها. عندما كنت صغيرًا، استخدم والداي مفتاحًا يمكن إدراجه في جهاز استقبال قنوات التليفزيون المدفوع لمنع الوصول إلى قنوات السينما (والبرامج المحتوية على بعض المشاهد الإباحية الأقل درجة التي تعرض ليلًا). ومع ذلك، «عندما توجد الإرادة، فلا يوجد مستحيل.» كثيرًا ما يستهلك النشء الذين يواجهون منزلًا شديد التقييد محتوى وسائل الإعلام المحظور دون معرفة آبائهم (ناثانسون، ٢٠٠٢). على سبيل المثال، في حالتي، تمكنت من العثور على المفتاح واستخدمته بحرية عندما خرج والداي. ومع ذلك، يمكن استخدام كميات معتدلة من الوساطة التقييدية بنجاح للحد من التأثير السلبي لاستخدام وسائل الإعلام. وعلى سبيل المثال، بالمقارنة مع النشء الذين يعيشون ضمن مستويات منخفضة أو عالية من الوساطة التقييدية، فإن النشء الذين يعيشون ضمن مستويات متوسطة من الوساطة التقييدية يميلون إلى أن يكونوا أقل عدوانية من الأطفال الآخرين (ناثانسون، ١٩٩٩).

ثمة سبب آخر لتجنب المستويات العالية للغاية من الوساطة التقييدية هو أنه غالبًا ما يسبب ضغائن بين الطفل والوالدين. وقد أظهرت الأبحاث أنه من المحتمل على نحو أكبر أن يتخذ الأطفال توجهات ذهنية سلبية تجاه والديهم إذا كانوا يواجهون قدرًا كبيرًا من تقييد وسائل الإعلام، وعلى حد قول أكثر من شاب: «هذا ليس عادلًا.» وعلاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي الوساطة التقييدية إلى تأثير «الفاكهة المحرمة». ووفقًا لنظرية الفاكهة المحرمة، فإن الحظر والتحذير (على غرار العلامات التحذيرية على الألبومات الموسيقية) تزيد من جاذبية وسائل الإعلام للنشء. على سبيل المثال، يفضل الأولاد في مرحلة ما قبل المراهقة مشاهدة البرامج التليفزيونية الموصوفة بأنها غير مناسبة لأعمارهم على مشاهدة البرامج الموصوفة بأنها مناسبة لهم (سنيجاس وبلانك، ١٩٩٨). ومع ذلك، يبدو أن النمو ونوع الجنس يخففان من تأثير الفاكهة المحرمة. تزيد العلامات التحذيرية وعلامات الحظر من الرغبة في استخدام وسائل الإعلام المحظورة أكثر بالنسبة للبنين وللأطفال الذين تزيد أعمارهم عن ٨ سنوات، مقارنة بالفتيات والأطفال الأصغر سنًّا (بوشمان وكانتور، ٢٠٠٣). وعلى النقيض من ذلك، فإن التحذيرات والحظر، بالنسبة للفتيات والأطفال الصغار، تنتج «تأثير الفاكهة الملوثة»، مما يؤدي إلى تجنبهم لوسائل الإعلام المحظورة.

وتجدر الإشارة إلى أن الاختلافات بين الجنسين المذكورة آنفًا والمتعلقة بآثار الفاكهة المحرمة والملوثة يمكن أن تعكس الطريقة التي يُوجَّه بها الفتيان والفتيات اجتماعيًّا؛ ففي حين أن الأولاد يميلون إلى التوجه في المجتمع نحو اكتساب خصائص الدور الأداتي، فإن الفتيات يملن إلى التوجه في المجتمع لتبني الأدوار التعبيرية. ونتيجة لذلك، في محاولة للاستقلال، من المرجح أن يكون الأولاد غير ملتزمين بمطالب الآباء والأمهات؛ أي يقومون بما يريدون القيام به، وليس بالضرورة ما طلب الوالدان منهم فعله. وعلى النقيض من ذلك، يؤدي الدور التعبيري الذي تتربى عليه المرأة إلى تجنب وسائل الإعلام المحظورة، حيث تتعاون «الفتيات الصالحات» وينفذن توجيهات الكبار.

(٣-٣) الأبحاث المتعلقة بالوساطة النشطة

مقارنة بنتائج الوساطة بمشاركة الاستخدام والوساطة التقييدية، تَحَقَّقَ قدر كبير من النجاح في الحد من الآثار السلبية لوسائل الإعلام مع الوساطة النشطة (بوجزين وفالكنبرج، ٢٠٠٥؛ روبنسون وسافير وكريمر وفارادي وهايدل، ٢٠٠١). في الواقع، بالنسبة لأنواع معينة من وسائل الإعلام، يمكن للوساطة النشطة التأثير على الدفاعات الإدراكية والاستجابات العاطفية خلال مرحلة الطفولة المتوسطة. على سبيل المثال، يمكن للوساطة على الإعلانات أن: (أ) تحسن فهم الأطفال للهدف الإقناعي للإعلان، (ب) تزيد شكوك الأطفال إزاء الإعلانات التجارية، (ﺟ) تخلق توجهًا ذهنيًّا سلبيًّا على نحو أكبر تجاه المنتجات المعلن عنها. ويمكن أن تؤدي الوساطة النشطة إلى تقليل طلبات الأطفال للمنتجات من الآباء (بيجمولت وآخرون، ١٩٩٨؛ بوجزين وآخرون، ٢٠٠٧؛ براساد وآخرون، ١٩٧٨). وتوافقًا مع هذه الدراسات، وجد ناثانسون (٢٠٠٢) أن عبارات الوساطة على غرار: «هذا المسلسل مخطئ؛ فالكثير من الفتيات يفعلن أشياء أخرى إلى جانب طلاء أظافرهن ووضع الماكياج.» و«هذا المسلسل مخطئ؛ فالكثير من الفتيات يحببن التخييم ولا يشتكين طوال الوقت.» تؤدي إلى تقييمات أقل إيجابية للشخصيات التليفزيونية النمطية. وكانت آثار الوساطة النشطة قوية على نحو خاص بالنسبة للأطفال الأصغر سنًّا (من سن رياض الأطفال حتى الصف الثاني) وللنشء في سن المدرسة الابتدائية الذين لم يراقب أولياء أمورهم عادة أنشطة مشاهدة التليفزيون لأطفالهم. وأظهرت أبحاث إضافية أنه عندما يتحدث المراهقون مع والديهم عن المحتوى التليفزيوني، فإنهم يظهرون نشاطًا جنسيًّا أقل، مقارنة بالوضع في حالة عدم حدوث مثل هذه المحادثات (سكولر وآخرون، ٢٠٠٦).

على النقيض من نتائج الوساطة النشطة عند مشاهدة الإعلانات والصور النمطية للجنسين، فإن تغيير الدفاعات الإدراكية أثناء الوساطة على العنف الإعلامي كان غير فعال نسبيًّا في الحد من النتائج العدوانية. وهكذا، فإن إخبار النشء بعبارات على غرار: «إن هؤلاء الممثلين لا يضرب أحدهم الآخر حقًّا» و«هذا ليس دمًا حقيقيًّا»، لا يبدو أنه يؤثر على العدوانية الناتجة بعد المشاهدة. وفي بعض الأحيان، أدى التركيز على الجوانب الواقعية للعنف الإعلامي إلى زيادة السلوك العدواني، بدلًا من تقليله (دوليتل، ١٩٨٠). من ناحية أخرى يبدو بالفعل أن تقنيات الوساطة التي تركز على الاستجابة العاطفية — على غرار «ما هذه الفظاعة؛ إن ضرب الآخرين خطأ» و«طعن شخص ما أمر مرعب» — تقلل من السلوك العدواني بعد مشاهدة العنف الإعلامي (كانتور وويلسون، ٢٠٠٣). ومرة أخرى، توجد اختلافات تتعلق بالنمو، حيث تنتج الوساطة المركزة على الاستجابات العاطفية آثارًا أقوى على السلوك أثناء مرحلة الطفولة المتوسطة مقارنة بالطفولة المبكرة. وربما يفسر الجمع بين الوعي بالحظر المجتمعي للسلوك العدواني وامتلاك تحكم أفضل في الاندفاعات سبب إظهار الأطفال الأكبر سنًّا لانخفاض أكبر في العدوانية بعد الوساطة، مقارنة بالأطفال في سن ما قبل المدرسة (كيرش، ٢٠٠٦).

ومن المثير للاهتمام أن الأبحاث التي تركز على تأثير الوساطة على العنف الإعلامي على «التوجهات الذهنية» تجاه العنف كشفت عن نمط نمو معارض مباشرة لذلك الذي ظهر في أبحاث الوساطة على «السلوك» العدواني. وسواء كان القائم بالوساطة هو أحد الوالدين أو شخصًا بالغًا آخر، يبدو أن الوساطة النشطة تجعل السلوك العدواني غير طبيعي وأقل قبولًا لدى معظم النشء. لكن يبدو أن عبارات الوساطة تؤثر على الأطفال الأصغر سنًّا أكثر من الأطفال في مرحلة ما قبل المراهقة. ربما يكون السبب أن الأطفال الأكبر سنًّا يرون أن عبارات الوساطة، على غرار «القتل أمر خاطئ»، تخاطبهم بأسلوب متعالٍ، مما يؤدي إلى «رد فعل عنيف» تجاه التوجهات الذهنية المناهضة للعنف. أو ربما يكون السبب ببساطة أنه من أجل تفادي فاصل من الوعظ والتوبيخ، فإن الأطفال الأكبر سنًّا «يسدون آذانهم» عن سماع عبارات الوساطة المناهضة للعنف (ناثانسون ويانج، ٢٠٠٣). ومن أجل التحايل على رد فعل العنيف تجاه الوساطة، ربما يكون التركيز على مشاعر الضحايا، بدلًا من خطأ السلوك العنيف، أكثر فائدة للأطفال الأكبر سنًّا. على سبيل المثال، وجد ناثانسون وكانتور (٢٠٠٠) أن توجيه الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ٧ و١١ عامًا للتركيز على مشاعر الضحية قبل مشاهدة كارتون عنيف أدى إلى تصنيفات أقل لمستوى الفكاهة والإعجاب بالبرنامج، مقارنة بالنشء الذين لم يتلقوا هذا التوجيه. وعلاوة على ذلك، اعتبر الأولاد (وليس الفتيات) استخدام العدوانية أقل قبولًا عندما تلقوا هذا النوع من الوساطة المركزة على نحو فعال.

وعلى الرغم من نجاحها العام، فإن الوساطة النشطة أدت أحيانًا إلى آثار غير مرغوب فيها. فكما ذُكر آنفًا، وجد دوليتل (١٩٨٠) أن الوساطة المركِّزة على الجانب الإدراكي خلال البرامج العنيفة أدت إلى زيادة السلوك العدواني بين الأطفال. وبالمثل، أظهرت الأبحاث المتعلقة بآثار الوساطة على تعاطي الكحوليات أنه عندما يتحدث الآباء مع أطفالهم الصغار عن استخدام الكحول، تزداد المعرفة بأنواع المشروبات الكحولية (أوستن وناش فيرجسون، ١٩٩٥). أما الأكثر إثارة للقلق فهي الأبحاث بشأن صورة الجسد واضطرابات الأكل، التي اكتشفت أن المشاهدة الناقدة لمحتوى البرامج التليفزيونية (على سبيل المثال، مناقشة نحافة الممثلة) ارتبطت بمستويات أعلى من اضطرابات صورة الجسد خلال فترة المراهقة. عندما يتحدث الآباء مع أطفالهم عن البنية الجسدية للممثلين، بصرف النظر عما إذا كان الكلام إيجابيًّا أو سلبيًّا، ينتهي الحال بالمراهقين بمقارنة أجسادهم بتلك التي رأوها على الشاشة. نتج عن هذا مشاعر سلبية وأصبح المراهقون أكثر عرضة لاكتساب دافع قوي للنحافة وأعراض فقدان الشهية (ناثانسون وبوتا، ٢٠٠٣). وهكذا، فإن مجرد معرفة أن وسائل الإعلام تعرض العالم بطريقة غير واقعية لا يعني دائمًا أنه يمكن التخفيف من الآثار الناتجة عن استخدامها.

(٣-٤) وسائل الإعلام المضادة

في محاولة للحد من الآثار السلبية لاستخدام وسائل الإعلام على الأطفال والمراهقين، استخدم الباحثون والمنظمات المعنية بالصحة العامة وسائل الإعلام المضادة. يرسل هذا النوع من التدخل رسائل إعلامية تعارض مباشرة تلك التي يواجهها النشء عادة؛ فعلى سبيل المثال، استخدمت حملة «قل لا للمخدرات» إعلانات تليفزيونية ووسائل إعلام مطبوعة لتناقض الصور الإيجابية لتعاطي الكحوليات والمخدرات التي كثيرًا ما نشاهدها على شاشات التليفزيون وفي الأفلام. وحتى الآن، شملت الأبحاث المتعلقة بتدخلات وسائل الإعلام المضادة التحيز والقوالب النمطية للجنسين والسلوك الجنسي وتعاطي الكحوليات والمخدرات والسجائر.

(أ) القوالب النمطية للجنسين

أُجريت الغالبية العظمى من الأبحاث على وسائل الإعلام المضادة للقوالب النمطية للجنسين قبل عام ١٩٩٠، وشملت عرض أشرطة فيديو وإعلانات تجارية وكتب تُظهِر الذكور والإناث في أدوار غير تقليدية، وتضمنت في ذلك الوقت ممرضين من الذكور وطبيبات من الإناث، على جمهور من النشء. وأثناء مراحل النمو، أظهرت الأبحاث نتائج مختلطة، حيث لم يجد سوى عدد قليل من الدراسات دليلًا على أن وسائل الإعلام المضادة للقوالب النمطية نجحت في تقليص القوالب النمطية للجنسين (دوركين، ١٩٨٥). يتمثل أحد أكثر التدخلات طموحًا في مشروع باسم «فري ستايل» في أواخر سبعينيات القرن العشرين، حيث عُرض على النشء من سن ٩ إلى ١٢ عامًا سلسلة من البرامج التليفزيونية. وطوال هذه السلسلة المكونة من ١٣ جزءًا، تعرض النشء لمجموعة متنوعة من الرسائل المضادة للقوالب النمطية، مثل انخراط البالغين في أدوار غير التقليدية بالنسبة لجنسهم. وأظهرت النتائج أن البرامج كانت أكثر فعالية في الحد من القولبة النمطية للجنسين عند مشاهدتها في المدرسة، وحدوث مناقشة بعد المشاهدة؛ بينما فشلت مشاهدة البرامج دون مناقشة، أو في المنزل، في إحداث أي تغييرات مهمة في القولبة النمطية للجنسين. وهذا ليس مستغربًا نظرًا لنموذج عوامل الخطر والعوامل الوقائية والعوامل المفيدة المذكورة سابقًا. فكلما ازدادت العوامل الوقائية والمفيدة التي يتعرض لها النشء، زاد احتمال جنيهم لفوائد وسائل الإعلام المضادة.

(ب) القوالب النمطية للعرق

على غرار الأبحاث المتعلقة بالقوالب النمطية للجنسين، ثبت أن تطوير وسائل الإعلام المضادة للقوالب النمطية للعرق الفعالة أمر صعب. وأشار بيجلر (١٩٩٩) إلى أن التقنيات العادية المضادة للقولبة النمطية — مثل تقديم دروس عن التنوع العرقي والإثني، والاستعاضة عن الكتب المحتوية على قوالب نمطية للعرق بكتب لا تحتوي عليها، وتعريض النشء لبرامج مكافحة العنصرية — لم تكن فعالة في الحد من معتقدات القوالب النمطية والتحيز العنصري لدى الأطفال والمراهقين. ومع ذلك، ثمة قصص نجاح، على الأقل خلال مرحلة الطفولة المتوسطة. وكان أحد أبرز هذه النجاحات برنامج التدخل المعتمد على المدرسة، «بشر مختلفون ولكنهم متساوون: سلسلة فيديوهات لتقليل التحيز»، الذي استخدم دمًى لبشر متعددي الأعراق لتقديم نماذج للسلوك (مثل حل المشكلات ومقاومة ضغط الأقران)، وعمليات التفكير (مثل تحدي القوالب النمطية)، والتوجهات الذهنية الخالية من التحيز العنصري. وكان كل مقطع فيديو يدور حول موضوع ذي صلة بالعرق (على سبيل المثال، إطلاق الأسماء المهينة، والهوية الثقافية، واتخاذ موقف ضد التحامل)، وكان مصحوبًا بدليل لمساعدة معلمي الفصول الدراسية على إدارة هذه السلسلة بفعالية. وكشف تقييم لأطفال الصف الثالث من مختلف الأعراق (أمريكيون من أصل أفريقي وآسيوي وإسباني وقوقازيون) أن النشء الذين تعرضوا لسلسلة مقاطع الفيديو والمناقشات المرتبطة بها في الفصول الدراسية أظهروا انخفاضًا ملحوظًا في التوجهات الذهنية والمعتقدات الخاصة بالقوالب النمطية مقارنة بمجموعة الضبط. بالإضافة إلى ذلك، كان النشء في المجموعة التجريبية أكثر عرضة لتقديم المساعدة لطفل من عرق مختلف، وأكثر عرضة لعقد صداقات مع الأعراق الأخرى، وأكثر عرضة للإشارة إلى معرفة كيفية التعامل بفعالية مع صراع بين أشخاص من أعراق مختلفة (جريفز، ١٩٩٩).

(ﺟ) السلوك الجنسي

وفي محاولة لوقف موجة حمل المراهقات والأمراض المنقولة جنسيًّا، استخدمت حملات إعلامية جماهيرية لتعزيز السلوك الجنسي المسئول والامتناع عن ممارسة الجنس بين المراهقين. فتقدم مواقع إلكترونية والأقراص المدمجة والبرامج التليفزيونية — وما شابه ذلك — للنشء وسيلة للتعرف على «الجنس الآمن»، أو كيفية رفض ممارسة الجنس، في بيئة خالية من الحرج وغير انتقادية. وفي طليعة هذه الحملات توجد الحملة الوطنية لمنع الحمل في سن المراهقة والحمل غير المرغوب فيه، التي ظلت تُنتج مواد إعلامية (برامج تليفزيونية ومواقع إلكترونية ومجلات) متعلقة بالوقاية لأكثر من عقدين من الزمان. وفي الآونة الأخيرة، تشاركت مع قناة إن بي سي في برنامج تليفزيون الواقع «ذي بيبي بورووارز»، الذي يُكلَّف فيه خمسة أزواج في سن ١٨ إلى ٢٠ عامًا برعاية أطفال رضع أو في مرحلة تعلم المشي أو في مرحلة ما قبل المراهقة أو مراهقين أو أشخاصًا كبارًا في السن أمام الكاميرا. وظهرت حقيقة وجود أطفال ترعاهم (بإيجابياتها وسلبياتها على حد سواء) بوضوح، وكانت الرسالة العامة للبرنامج «لا تحملي». وقُدم دليل إرشادي قابل للتنزيل من الإنترنت لمساعدة الآباء في التحدث مع أطفالهم بشأن محتوى البرنامج. وأجريت مناقشات عبر الإنترنت للنشء أيضًا.

وعُرضت في جميع أنحاء العالم إعلانات عن الواقيات الذَّكرية وحبوب منع الحمل من أجل خفض معدلات حمل المراهقات والإصابة بفيروس العوز المناعي البشري (براون وستراسبورجر، ٢٠٠٧). ورغم وجود عدد قليل من الدراسات واسعة النطاق على المراهقين الأمريكيِّين، فإن الدراسات التي أُجريت تشير إلى أن الرسائل الإعلامية المتعلقة بالصحة الجنسية يمكن أن تغير التوجهات الذهنية والسلوكيات الجنسية لدى المراهقين؛ فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة استقصائية لتقييم فعالية حملة إعلامية مشتركة بين مؤسسة «إم تي في» ومؤسسة عائلة كايزر (التي تشمل المواقع الإلكترونية، وإعلانات الخدمة العامة، والكتيبات، والأقراص المدمجة، ومقاطع الفيديو، والتغطيات التليفزيونية الخاصة) أن ٦٦ بالمائة ممن تتراوح أعمارهم بين ١٦ و٢٤ عامًا ذكروا بأنه كان من المحتمل أكثر أن يؤجلوا ممارسة الجنس بعد قراءة مواد الحملة. وبالنسبة إلى المراهقين الناشطين جنسيًّا بالفعل، ذكر أكثر من ثلثيهم أن حملة وسائل الإعلام المضادة جعلت استخدام الواقي الذكري أكثر احتمالًا، وجعلتهم يخضعون لفحص الأمراض المنقولة جنسيًّا، والتحدث مع الطرف الآخر بشأن الجنس الآمن (مؤسسة عائلة كايزر، ٢٠٠٣). ووجدت دراسة أخرى أن مقاطع الفيديو التفاعلية خفضت حالات تجاهل استخدام الواقيات الذكرية التي ذكرها المراهقون وحالات الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًّا لدى الفتيات المراهقات بعد ٦ أشهر من التدخل (داونز وآخرون، ٢٠٠٤). وبالمثل، انخفضت معدلات الجماع والحمل لدى طلاب المدارس المتوسطة بعد التعرض لحملة للامتناع عن ممارسة الجنس بعنوان «لا ليس الآن» (دونيجر وآخرون، ٢٠٠١). وقد أظهرت الأبحاث أيضًا أن حملات وسائل الإعلام الجماهيرية يمكن أن تزيد على نحو فعال من احتمال تحدث الآباء مع أبنائهم عن الجنس (دورانت وآخرون، ٢٠٠٦).

(د) تعاطي السجائر والكحوليات والمخدرات

في أواخر فترة مراهقتي، شاهدت إعلان خدمة عامة مناهضًا لتعاطي المخدرات أنتجته حملة «من أجل أمريكا خالية من المخدرات». تضمَّن الإعلان رجلًا يحمل بيضة ويقول: «هذه البيضة تمثل مخك.» بعد ذلك، التقط مقلاة ساخنة وقال: «وهذه هي المخدرات.» ثم كسر البيضة وأسقط ما بداخلها على المقلاة الساخنة، حيث امتلأت بالفقاعات وأصدرت أزيزًا. انتهى الإعلان بتوجه الرجل نحو الكاميرا وقوله: «هل توجد أية أسئلة؟» أتذكر أني كنت أفكر قائلًا: «نعم، هل يوجد لدينا أي بيض؟ لأن هذا الإعلان أشعرني بالجوع.» على الرغم من أن ملايين الدولارات أُنفقت على الإعلانات المناهضة لتعاطي المخدرات، فإنه لا يوجد سوى قليل من الأبحاث التي تدعم الزعم القائل بأن إعلانات الخدمة العامة المناهضة لتعاطي المخدرات تقلل فعليًّا من تعاطي المخدرات بين المراهقين؛ فعلى سبيل المثال، أُجري مؤخرًا تقييم للحملة الإعلامية الوطنية لمكافحة تعاطي المخدرات لدى النشء — التي وضعت إعلانات مناهضة لتعاطي المخدرات على اللوحات الإعلانية وفي الإذاعة وشبكة الإنترنت وأغلفة الكتب المدرسية، ولوحات النتائج في مباريات كرة السلة، ودور السينما، والتليفزيون (بما في ذلك القناة الأولى في المدارس) وفي الصحف والمجلات — ولكنه فشل في العثور على أدلة على أن تعاطي المراهقين للمخدرات انخفض بسبب هذه الحملة الشاملة. في الواقع، حدث تأثير معاكس بالنسبة لتعاطي الماريجوانا، مع التعرض المتكرر لوسائل الإعلام المضادة المرتبطة مع بدء تعاطي الماريجوانا (أوروين وآخرون، ٢٠٠٦). وأظهرت أبحاث إضافية أنه عندما يوجد المراهقون في غرف الدردشة على شبكة الإنترنت، من المرجح أن تؤدي الإعلانات المناهضة لتعاطي الماريجوانا إلى توجهات ذهنية إيجابية حيال استخدام الماريجوانا، وليس توجهات ذهنية سلبية (ديفيد وآخرون، ٢٠٠٦).

وعلى غرار عدم فعالية حملات وسائل الإعلام المناهضة لتعاطي المخدرات، لم تحقق الحملات الإعلامية لمكافحة تعاطي الكحوليات لدى القاصرين نجاحًا أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، وجد فلين وزملاؤه (٢٠٠٦) أن إعلانات وسائل الإعلام لمكافحة تعاطي الكحوليات لم تؤثر على تعاطي الكحول بين النشء في بدايات المراهقة. ومع ذلك، يمكن للحملات الرامية إلى الحد من القيادة تحت تأثير الكحوليات بين المراهقين أن تنتج آثارًا كبيرة. وفي الواقع، كشف استعراض للدراسات السابقة أن هذه البرامج خفضت الحوادث المرتبطة بتعاطي الكحوليات بنسبة مدهشة بلغت ١٣٪ (إلدر وآخرون، ٢٠٠٤). ومع ذلك، لا توجد أبحاث حالية تشير إلى أن إعلانات مكافحة تعاطي الكحوليات تؤثر على استخدام الكحوليات لدى المراهقين (سبوث وآخرون، ٢٠٠٨).

وعلى الرغم من عدم قدرة وسائل الإعلام على الحد من تعاطي الكحول والمخدرات في مرحلة المراهقة، فإن حملات مكافحة التدخين يمكن أن تؤثر على كل من نية التدخين وبدء عملية التدخين لدى المراهقين. على سبيل المثال، على مدى سنتين، حيث أطلقت فلوريدا حملة إعلانية لمكافحة التدخين (مصممة بمشاركة من المراهقين)، انخفض معدل التدخين الحالي (أي خلال الثلاثين يومًا الأخيرة) بنسبة ٥٤٪ بين طلاب المدارس المتوسطة و٢٤٪ بين طلاب المدارس الثانوية. وعرض أحد الإعلانات حفل «توزيع جوائز في الجحيم» حيث ربح جائزة أكبر عدد من الوفيات إلى المدير التنفيذي لشركة سجائر (رويز، ٢٠٠٠). ليست جميع إعلانات مكافحة التدخين فعالة، وعادة ما تركز الإعلانات الأقل فعالية على العواقب المرضية للتدخين. وفي بعض الأحيان، أدت مثل هذه الإعلانات إلى تأثير معاكس، حيث تبنى النشء المتعرض لهذه الإعلانات نية أكبر نحو التدخين، بدلًا من تقليل النية لذلك. وعلى النقيض من ذلك، تميل حملات مكافحة التدخين الأكثر فعالية إلى التركيز على العواقب الاجتماعية للتدخين، مثل التعرض للسخرية من قبل الأقران أو رفض المواعدة بعد إشعال سيجارة (تشاو وبيشمان، ٢٠٠٧).

بطبيعة الحال، لا تعمل حملات مكافحة التدخين في فراغ، ولرد فعل النشء عندما يتعرضون لوسائل الإعلام المضادة أهمية تعادل أهمية الإعلان نفسه. وإحدى السمات الفردية المهمة، والمعروفة باسم التركيز التنظيمي، لا تميز النشء أحدهم عن الآخر وحسب، بل تؤثر أيضًا على فعالية إعلانات مكافحة التدخين. يشير التركيز التنظيمي إلى مدى تركيز النشء على ترقية مكانتهم، والسعي إلى تحقيق إنجازات، أو التركيز على الوقاية، ومحاولة تجنب المخاطر. وفي البيئات الاجتماعية، بينما يسعى النشء المركزون على ترقية مكانتهم إلى تحقيق القبول لدى الآخرين، يحاول النشء المركزون على الوقاية تجنب الرفض الاجتماعي. وفيما يتعلق بإعلانات مكافحة التدخين، يتأثر المراهقون على نحو أكبر بالإعلانات التي تتناسب مع أسلوب التركيز التنظيمي الخاص بهم. ومن ثَم، فإن إعلانات مكافحة التدخين التي تشير إلى أن النشء أكثر عرضة لحيازة القبول الاجتماعي إذا لم يكونوا من المدخنين — مقارنة بالقبول الاجتماعي في حالة ما إذا كانوا مدخنين — تؤثر على نحو رئيسي على المراهقين المركزين على ترقية المكانة الاجتماعية. وعلى النقيض من ذلك، يتأثر النشء الذين يركزون على الوقاية على نحو كبير بالإعلانات التي تشير إلى أن التدخين يؤدي إلى الرفض الاجتماعي. ومن المثير للاهتمام أن الإعلانات التي لا تتطابق مع التركيز التنظيمي للمراهقين كانت تُعتبر غير ذات صلة، ولم يكن لها تأثير ملحوظ على سلوك التدخين (تشاو وبيشمان، ٢٠٠٧). وتشير نتائج هذه الدراسة بوضوح إلى ضرورة إعداد أكثر من نوع واحد من إعلانات مكافحة التدخين للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المراهقين بفعالية.

(٤) نقاط مهمة من منظور النمو

وبوجه عام، عند دراسة تأثير وسائل الإعلام على سلوك الأطفال والمراهقين وتوجهاتهم الذهنية ومشاعرهم، نجد أنها تفسر نسبة مئوية صغيرة نسبيًّا من التباين. ليست هذه الحقيقة مفاجئة، ولا مثيرة للقلق، فوسائل الإعلام ببساطة واحدة من العديد من عوامل الخطر والعوامل الوقائية والعوامل المفيدة التي تواجه النشء. وفي معظم الحالات، لا تُعتبر وسائل الإعلام أقوى عامل من بين عوامل الخطر أو الوقاية أو الإفادة ولا أضعفها. هل يمكن لاستخدام وسائل الإعلام أن يفيد النشء؟ هل استخدامها مدعاة للقلق؟ الجواب عن كلا السؤالين هو «نعم» لا لبس فيها؛ فوسائل الإعلام في حد ذاتها ليس لها تأثير قوي بما فيه الكفاية ليؤدي إلى نتائج إيجابية أو سلبية وحده. ومع ذلك، فإن تقليله أو تضمينه، بالتنسيق مع المتغيرات الأخرى، يمكن أن يؤثر كثيرًا على سلوكيات وتوجهات ومشاعر الأطفال والمراهقين. وتحتاج الأبحاث المستقبلية إلى توضيح الاختلافات في مخاطر وسائل الإعلام النسبية خلال مرحلة النمو أو قدراتها الوقائية أو فوائدها النسبية.

ربما يكون النشء أكثر تعرضًا لوسائل الإعلام (أو أنواع معينة من وسائل الإعلام، مثل الإعلام الجنسي أو العنيف) خلال مرحلة النمو في أوقات معينة أكثر من أوقات أخرى. وتُعد مرحلة المراهقة المبكرة من المراحل الباعثة على القلق على نحو خاص؛ وهي الوقت الذي تؤدي فيه التغيرات البيولوجية والنفسية والاجتماعية إلى وجود عدد من عوامل الخطر بالنسبة لجميع النشء تقريبًا. وبسبب تراكم عوامل الخطر خلال مرحلة المراهقة المبكرة، فإن إضافة وسائل الإعلام كعامل خطر آخر ربما ينطبق عليها القول المأثور «القشَّة التي قصمت ظهر البعير»؛ مما يؤدي إلى نتائج سلبية أكثر تكرارًا. هل ستكون العوامل المفيدة قوية على نحو خاص خلال هذه الفترة من النمو؟ من الصعب معرفة ذلك؛ إذ لم يقارن بين مراحل المراهقة المبكرة والمتوسطة والمتأخرة سوى عدد قليل من الدراسات. ومع ذلك، فإن النتائج التي توصل إليها لياو (٢٠٠٧) تشير إلى أن هذه الاحتمالية بارزة، حيث إن الفوائد في مجال الرياضيات المرتبطة بالتعليم بمساعدة الكمبيوتر كانت أكبر بكثير لدى مجموعة مشتركة من المراهقين في مرحلة المراهقة المبكرة والمتوسطة من الأطفال الأصغر سنًّا أو المراهقين في مرحلة المراهقة المتأخرة، ومن ثم فإن هذا يشير إلى وجود خصوصية لمراحل النمو.

وقد اقتصرت الأبحاث عن الوساطة النشطة والتقييدية على نحو رئيسي على الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ٥ و١٢ سنة. وعلى الرغم من وجود دراسات قليلة عن مرحلة ما قبل المدرسة والمراهقة، فنتائج عدة تجارب تشير إلى أن فعالية الوساطة تصبح محدودة عندما يدخل الأطفال مرحلة المراهقة. على سبيل المثال، تشير الأدلة المستمدة من الوساطة على العنف الإعلامي إلى أن الوساطة النشطة والتقييدية لا تنجح عادة مع المراهقين (كيرش، ٢٠٠٦). فيمكن بسهولة تخطي القيود المفروضة على المشاهدة عن طريق الذهاب إلى منزل أحد الأصدقاء أو فعل الممنوع خلسة في المنزل. وتفشل الوساطة النشطة في النجاح مع المراهقين؛ لأن التعليقات السلبية التي يقدمها مُنفِّذ الوساطة غالبًا ما يُنْظَر إليها على أنها نوع من التعالي، مما قد يخلق سلوكًا معاكسًا عنيفًا (ناثانسون ويانج، ٢٠٠٣). وبالإضافة إلى ذلك، تحتاج الأبحاث في المستقبل إلى معالجة مسألة المرغوبية الاجتماعية معالجة أكثر وضوحًا في أبحاث الوساطة باعتبارها سمة لمراحل النمو. وكمثال على ذلك، ربما كان تأثير الوساطة النشطة على التوجهات الذهنية العدوانية لدى الأطفال الأصغر سنًّا أكثر من الأطفال الأكبر سنًّا يعكس ببساطة رغبة هؤلاء الأطفال في إرضاء الباحث، ولا يعكس إحداث تغيير حقيقي في التوجه الذهني. وعلى النقيض من ذلك، فإن الطبيعة المتمردة للأطفال في مرحلة ما قبل المراهقة والمراهقة ربما تَحُول دون الاستجابة المرغوب فيها اجتماعيًّا مع تزايد العمر. وهكذا، بالنسبة للنشء الأصغر سنًّا، ربما جعلت المرغوبية الاجتماعية الوساطة تبدو أكثر فعالية مما هي عليه حقًّا.

وعلاوة على ذلك، أُجريت أبحاث الوساطة على النشء باستخدام وسائل إعلام تتضمن محتوى عنيفًا أو إعلانات تجارية في أغلب الحالات. مع ذلك، يوجد مزيد من الأبحاث المتعلقة بالوساطة المرتبطة باحترام الذات وصورة الجسد، والنشاط الجنسي. وعمومًا، يمكن أن يكون إنشاء حملة وساطة فعالة أمرًا صعبًا للغاية، حيث إن نجاحها يختلف حسب نوع الوساطة، والمحتوى الذي يخضع للوساطة، وعمر الأشخاص الخاضعين لها. وكما هو الحال مع أوضاع كثيرة في الحياة، فإن الاعتدال يُعد مفتاح نجاح الوساطة التقييدية. وفي نهاية المطاف سوف يتواجه النشء مع وسائل الإعلام المحظورة، لذلك، يجب على الآباء استخدام تقنيات الوساطة النشطة — بالإضافة إلى القيود المعتدلة — للمساعدة في إعداد النشء لهذه المواجهات التي لا مفر منها. ومن المثير للاهتمام أن الوساطة النشطة في الإعلانات تبدو أكثر فعالية عندما تؤثر على الاستجابات العاطفية للأطفال تجاه الإعلانات التجارية. على سبيل المثال، احتمالية طلب الأطفال من الوالدين المنتجات المعلن عنها في الإعلانات التجارية التي يحبها الأطفال هي الأعلى مقارنة بباقي المنتجات، وبصرف النظر عما إذا كانت دفاعاتهم الإدراكية مفعلة أم لا (بوجزين، ٢٠٠٧). وبالمثل، تبين أن الوساطة على العنف الإعلامي التي تركز على الاستجابات «العاطفية» تؤثر على توجهات النشء الذهنية وسلوكهم إلى حد أبعد بكثير من الأبحاث التي تركز على الاستجابات «الإدراكية». وعلاوة على ذلك، يلزم إجراء أبحاث لتحديد ما إذا كانت الوساطة التي تركز على العاطفة تقلل من الآثار السلبية المرتبطة بمواجهة القوالب النمطية العنصرية والقوالب النمطية للجنسين، وكذلك المحتوى الجنسي والمرتبط بتعاطي الكحوليات والسجائر والمخدرات، في وسائل الإعلام. وأخيرًا، لم تُختبر بعدُ فعالية الوساطة على المدى الطويل عبر النشأة. وربما يتمثل الأمر في أن التعرض المتكرر للوساطة يؤثر على النشء لفترات أطول من التعرض القصير المدى لها. ومع ذلك، فإن الوساطة المتكررة يمكن أن تؤدي أيضًا إلى تأثير معاكس عنيف، وخاصة في الأعمار المتقدمة. وعلى هذا النحو، ينبغي على أبحاث الوساطة في المستقبل أن تتناول نطاق نمو واسع، بدءًا من مرحلة ما قبل المدرسة وحتى مرحلة المراهقة المتأخرة.

وعلى الرغم من أن حملات «وسائل الإعلام المضادة» التي تستهدف المراهقين نجحت في الحد من تعاطي السجائر والنشاط الجنسي، فإنها لم تنجح في تقليل القوالب النمطية القائمة على العرق والنوع أو تعاطي المخدرات والكحوليات. ربما تتأثر التبعات الاجتماعية المتصورة لتعاطي السجائر والنشاط الجنسي بفعالية بوسائل الإعلام المضادة؛ لأن هذه التبعات تنطوي بطبيعتها على مزيد من الغموض الاجتماعي الذي يحيط بمدى ملاءمتها؛ أي إنه عندما يكون النشء غير متأكدين من طريقة استجابة أقرانهم لسلوكياتهم وتوجهاتهم الذهنية، تصبح وسائل الإعلام أداة مفيدة لمساعدتهم على استيضاح هذه المسألة. وعلى النقيض من ذلك، نظرًا لأن الأقران يلعبون دورًا مهمًّا في تعزيز القوالب النمطية، فإن وسائل الإعلام المضادة ربما تكون أقل تأثيرًا، حيث يضع الأقران علامات واضحة على ما يُعتبر توجهات ذهنية وسلوكيات مقبولة. وعلاوة على ذلك، لأن استهلاك الكحول ممارسة منتشرة للغاية، ولأن استخدام بعض المخدرات (على سبيل المثال، الماريجوانا) يُعتبر من الطقوس الانتقالية، فثمة قليل من الغموض يكتنف تأثير وسائل الإعلام المضادة. وبطبيعة الحال، تتطلب هذه الادعاءات تحققًا إضافيًّا من صحتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤