إيقاع فعل الموت

اختار كرسيًّا في زاوية الرصيف، وجلس.

كانت هذه هي المرَّة الأولى التي يجلس فيها على قهوة. انتظر في قهاوي من قبل، وجالَسَ أناسًا، وأنهى أعمالًا تتصل بالعمل، أو بالبيت، لكنه لم يجلس إلى أصدقاء، ولا لإزجاء الوقت.

أغلق كتابًا في الصوفية قبل أن يُتم قراءته، وأطلَّ من النافذة المُطِلَّة على سيدي البوصيري. لاحظ كُشكًا جديدًا للسجائر على ناصية الطريق المُفضي إلى الميدان.

تسلَّقَت شمس العصر الساخنة جدران الشرفة، حتى احتوتها تمامًا.

فتح الباب، فترامت نداءات، وصيحات، وهبَّت نسائم من ناحية الميناء الشرقية، محمَّلة برائحة الملح واليود والطحالب والأعشاب. ترامى — من بُعد — صوت مد البحر وجزره، كالوشوشة. وثمة بائع أمام الباب الخلفي لجامع البوصيري، يحمل على صدره صفًّا من الكتب، يسنده بيد، ويهزُّ كتابًا باليد الأخرى، وينادي بكلمات منغَّمة.

رفرفت يمامة، وتركت موضعها على الماسورة الملاصقة لجدار الشرفة. حلقت، وطارت إلى الأفق البعيد.

دخل، وتمدد على السرير. استعادت يده كتاب الصوفية. وضعه بجانبه، ودندن بأغنية، يحفظ لحنها، وإنْ غابت الكلمات.

غالبَ تردُّده، ثم قام.

ارتدى القميص والبنطلون، ودس قدمَيه في حذاء صيفي، كان يستعمله في الحقانية. لاحظ نشعًا لم يكُن رآه من قبل، أعلى الطرقة الموصِّلة إلى الحمام، وحجرتَي النوم. قرَّر أن يتأكد منه.

فتح الباب، ونزل إلى الطريق بخطوات متمهِّلة.

اتجهت قدماه — بتلقائية — إلى باب جامع سيدي البوصيري، المقابل.

صلَّى العصر، وقرأ الفاتحة لصاحب المقام، وأعاد قراءة أجزاء من البردة المحيطة بأعلى الصحن.

مضى خطوات إلى الباب الرئيسي في شارع التتويج، ثم عاد إلى الباب الخلفي.

واجه التردُّد في السير إلى الميدان، أو ناحية الترام حتى الميناء الشرقية. فضل السير في شارع الأباصيري. اعتاد السير فيه إلى الحقانية كل صباح، والعودة بعد الظهر. تعمَّد إبطاء خطواته، فلا شيء يشغله. حتى ذهنه كان خاليًا مما يسلم إليه تفكيره.

طالعه ميدان «الخمس فوانيس» باتساعه، وجامع سيدي علي تمراز، وبقايا سوق العيد. الفوانيس الخمسة توسطت الميدان، لم يعُد منها إلَّا التسمية. تحطَّمَت الأغطية الزجاجية، وانتزعت اللمبات. وقفت بالقُرب منها عربة حانطور، خلَت من سائقها، ودسَّ الحصان وجهه في مخلاة الطعام. في أقصى اليسار شارع الأباصيري، ينتهي إلى سيدي البوصيري وميدان المساجد. يسبقه شارع الشيخ البنا، وشارع سراي محسن باشا، يفضيان إلى الموازيني. ثم شارع رأس التين، إلى الحجاري وأبو وردة وباب الجمرك رقم واحد، ثم الشارع الخلفي لسيدي علي تمراز، وعلى اليمين شارع إسماعيل صبري، يمتد من الكورنيش إلى شارع الميدان والترسانة البحرية، وشارع فرنسا ينتهي إلى ميدان المنشية.

تابع خناقة بين سيدتين أول شارع سراي محسن باشا. قذفت إحداهما الأخرى بحذائها، ففضَّل السير بعيدًا.

مضى إلى قهوة المهدي اللبان.

اختار كرسيًّا على الزاوية بين شارع رأس التين وإسماعيل صبري، وجلس.

ألِف رؤية القهوة في ذهابه إلى الحقانية، والعودة منها. حفظ أبوابها، ونقوشها، والنصبة ناحية الشارع الخلفي، والكراسي، والطاولات المصفوفة في الداخل والخارج. ألِف حتى سحن الجالسين. غالبيتهم يرتدون القمصان والبلوفرات والبنطلونات والبدل وجبب المشايخ.

مسح المكان بعينَين متأملتين.

أحسَّ بالوحدة وسط مناقشات الجالسين وصيحات الجرسون. كيف أصبحوا أصدقاء؟ هل هم أصدقاء من الأصل، أو جيران، أو زملاء عمل؟ أو أن القهوة كانت بداية تعارُفهم؟ وهل بوسعه أن يجلس بالقُرب منهم، يشارك في المناقشات، يرد على الأسئلة المُثارة، يأتي— في الأيام التالية — إلى أصدقاء يعرفهم، ويعرفونه؟

قطع الأُفَّ المتململة صوت هامس:

– أستأذن.

كان الرجل قد جلس بالفعل على الكرسي المجاور. في نحو الخامسة والخمسين. يرتدي فانلة قطنية رمادية وبنطلونًا، وينتعل شبشبًا جلديًّا. أهم ما يميِّزه حاجبان كثيفان، وشارب اختلط سواده ببياضه، وتهدَّل على فمه. وعلى جانب وجهه الأيسر وحمة، امتدَّت إلى قُرب العين. لما تكلَّم، بدا غياب السنتَين الأماميتين أعلى الفم، سببًا في لثغته الواضحة.

– أول مرة تجلس في القهوة؟

غالب ارتعاشةً في صوته: هذا صحيح.

أشعلَ الرجل سيجارة، ونفث دخانها: بداية … أم مرَّة والسلام؟

قال في ارتباكه: لم أتخذ قرارًا.

تهلَّل وجه الرجل بانبساط: إذَن حلَّ بيننا صديق جديد.

سأله عن اسمه، ثم اتجه بصوت مرتفع نحو الجالسين: عبد الله أفندي الكاشف … صديق جديد.

فاجأه التصرُّف، وضايقه، وإنْ لم تفارقه ابتسامة مجاملة شاحبة.

قال الرجل: إبراهيم سيف النصر … موظف بمعهد الأحياء المائية.

أردف وهو يومئ إلى الجالسين: هذه القهوة تكاد تقتصر على الموظفين … ومن الواضح أنك كذلك.

داخلَ صوتَه تهدُّج: كنت … قبل أربعة أيام.

زوى إبراهيم سيف النصر ما بين حاجبَيه: كيف؟

– المعاش!

ثم وهو يحاول إخفاء انفعاله: كنت رئيسًا للعاملين … تابعت — بحُكم عملي — خطوات إحالتي إلى المعاش … لكنني فوجئت بالخطاب … كأنه ورقة إعلان وفاة مثل التي نقرؤها على الجدران!

قال إبراهيم سيف النصر: الحياة تبدأ بعد الستين!

أغمض عينَيه في تأثُّر: كلام نعزِّي به أنفسنا … الحياة على الهامش مما لا يطيقه إنسان اعتاد العمل.

لم يُفاجئه خطاب إحالته إلى المعاش. يعرف تاريخ ميلاده، وتاريخ الْتِحاقه بالحقانية، ومدَّة الخدمة بالسنين والأشهر، وتاريخ الإحالة إلى المعاش، وموعد تسلُّم خطاب إنهاء الخدمة … لكن الشعور الغريب الذي انداح داخله، فاجأه. يعرف أن راتبه سينقص كثيرًا، بعد أن يصبح معاشًا. لم يجد في ذلك ما يُخيفه. المرتَّب الأقل يكفيه وزيادة، وإيراد الفدانين في بركة غطاس، يكفل له الأمن من احتمالات المستقبل. أكَّد في رسائله إلى أختَيه، وقال لمَن معه في سراي الحقانية إنه أدَّى رسالته، ومن حقه أن يستريح.

مع أنه كان يحفظ الصيغة جيدًا، فإنه أعاد قراءة الخطاب. بدا له مختلفًا عمَّا اعتاد كتابته وقراءته. عبد الله أفندي محمود الكاشف. هذا هو اسمه. الخطاب يبلغه بالإحالة إلى المعاش، بالرفت.

الرفت؟!

كتب التعبير عشرات المرات، وقرأه. لم يلحظ سخفه إلَّا هذه المرة. هل تنتهي خدمة خمسة وثلاثين عامًا بالرفت؟! لماذا لا تكتب صيغة أكثر تهذيبًا؟! نهنئكم ببلوغكم سن الستين … نتمنى لكم حياة جديدة مُوفَّقة … نشكركم على خدماتكم … أي شيء أفضل من هذا التعبير الصارم!

الرفت؟!

إيقاع فعل الموت، ونفس عدد الحروف.

فاجأه تهامي بائع الخبز: أريد خدمة من الحقانية.

تشاغل بعدِّ الأرغفة: لم أعُد أذهب إلى هناك.

ثم بصوت متقطِّع النبرة: أُحِلتُ هذا الأسبوع إلى المعاش.

قال تهامي وهو يُلقي بقفة الخبز على كتفه: هل أظل على هذا الموعد أو أتأخر؟

تساءل في دهشة: لماذا تتأخر؟

في لهجة مترفِّقة: ربما تريد النوم براحتك!

ضايقَتْه الكلمات. تنبَّه — في اللحظة التالية — إلى خطئه: ماذا لو استكمل الرجل تعريفه؟ وما شأن الجالسين إن كان موظفًا أم أنه خرج إلى المعاش؟

هزَّ إبراهيم سيف النصر رأسه في فَهم، وقال: أطال الله عمرك!

وأعاد الكلمات: الحياة تبدأ بعد الستين … هكذا يقولون!

سرحت عيناه في الفراغ: إذا وجد الإنسان شيئًا يشغله.

قال سيف النصر بلهجة مستحثة: وما يمنعك؟ كما أرى، فأنت بصحتك … ابحث عن وظيفة مناسبة، أو شارِك في تجارة.

رفت على شفتَيه ابتسامة مهزومة: أما التجارة، فليس لي فيها … وأما الوظيفة، فيدي على كتفك.

حدجه بنظرة مُستفهِمة: أين كنت تعمل؟

وهو يشير بيده ناحية شارع فرنسا: في سراي الحقانية.

– عرضحالجي؟

– لا … رئيس قلم.

وهو ينفض بإصبعه دخان السيجارة: لك خبرة إذَن بالقانون والقضايا … قد تجد وظيفة مناسبة في مكتب أحد المحامين.

– وكيل المحامي وظيفة لها شروطها.

ارتفع صوته بالدهشة: ومَن يتوظَّف على شروط الوظيفة؟!

واقترب بفمه من أُذنه: حكومة السعديين ستذهب إلى حالها، وتجري انتخابات جديدة.

أضاف في صوته الهامس: يتردَّد أن خمسة محامين على الأقل ينوون الترشيح لدائرة الجمرك … إذا لجأت إلى أحدهم، فلن يتردَّد في إلحاقك بمكتبه أو بمكتب محامٍ زميل.

– لا بد أن أدخل إلى المحامي المرشَّح من باب السياسة … ولا شأن لي بها.

علا صوته بنبرة محرِّضة: هو لن ينتظر منك إلا أن تعطيه صوتك … وتدعو الآخَرين لإعطائه أصواتهم.

وربت ظهر كفه: لا تغلق الباب قبل أن تحاول فتحه … ودَعنا نرَ!

تعالى أذان الظهر من جامع سيدي علي تمراز.

صمَتَا، واكتفيا بتأمُّل حركة الميدان.

قال إبراهيم سيف النصر: أنا أسكن هذا البيت.

وأشار إلى الناحية المقابلة. ثلاثة بيوت متلاصقة، تُعاني القِدم، وتساقُط الطلاء، وتآكُل قِطَع الطوب. النوافذ خشبية، أقرب إلى المشربيات، وإن أطلت مناشر، تدلَّت منها قطع الغسيل.

أشار — ثانيةً — إلى الناحية المقابلة: أوسط البيوت الثلاثة.

أعاد النظر.

البيت في مواجهة الباب الرئيسي لعلي تمراز. من ثلاثة طوابق. شكَّل الطوب الأحمر تكوينات من طلائه المتساقط. وثمَّة مقرنصات متكسِّرة، وأفاريز تشوَّشَت كتاباتها بطمس الكثير من الحروف والكلمات.

قال الكاشف: أسكن في شارع الأباصيري … أمام الباب الخلفي لجامع البوصيري.

قال سيف النصر: كان موظفًا مثلنا … لكن الرسول خصَّه ببركته، فصار من الأولياء.

وأسند ظهره إلى الكرسي: أرتاح قليلًا بعد الغداء … ثم أنزل إلى القهوة … لا أغادرها قبل السلام الملكي في الراديو.

خمَّن حياة الرجل الأسرية. تصوَّرَه زوجًا لسيدة لزمت البيت، وأبًا لثلاثة أبناء. ولدَين وفتاة، أو فتاتَين وولد. دخلوا الجامعة، وإنْ لم ينهوا التعليم.

قال الكاشف وهو يحتسي ما تبقى من فنجان القهوة الثاني: أسعد الله أوقاتك!

قال إبراهيم سيف النصر: وسيُسعدنا بك إن شاء الله!

ثم وهو يتأهَّب للقيام: ألن تصلِّي الظهر؟

وأبطأ من قومته في تذكُّر: أين تؤدي صلاة الجمعة؟

ارتبك الكاشف في مفاجأة السؤال: في أبو العباس أو البوصيري … وأحيانًا في نصر الدين!

وهو يهز إصبعه: إذا صلَّيتَ الجمعة القادمة في علي تمراز … فستحرص على سماع خطب الشيخ عبد الحفيظ.

ووشى صوته بإعجاب واضح: لولا أنه لا يدَّعي الولاية … لاعتبرناه وليًّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤