الانتظار

قال أبو الحسن الشاذلي:

«احرص أن تصبح وتمسي مفوضًا مستسلمًا، لعله ينظر إليك، فيرحمك.»

«لا تختَر من أمرك شيئًا، واختر ألَّا تختار، وفِرَّ من ذلك المختار، ومن فرارك، ومن كل شيء إلى الله تعالى.»

«من آداب مجالسة الصديقين أن تفارق ما تعلم، لتظفر بالسر المكنون.»

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.

قرآن كريم

نادى في الصباح — من الشرفة — على بائع الصحف. طالبه بأن يصعد إليه بالأهرام كل صباح.

كان يهمل حلاقة ذقنه. يترك الشعر ينبت في شعره، فلما ظهرت الشعيرات البيضاء في الفودين وأسفل الذقن، حرص أن يحلق ذقنه كل صباح.

لاحظ وجهه في المرآة — للمرة الأولى — منذ فترة طويلة. انسحب الصلع إلى معظم رأسه، فيما عدا الفودين، تداخل سوادهما ببياض واضح، وتناثرت بقع سوداء على الصدغين، وأعلى الوجنتين. وثمة تجاعيد خفيفة حول العينين لم تكن موجودة من قبل، والشارب تهدل. قال إمام أبو العباس في خطبة الجمعة إن حياة المرء محطة قصيرة إلى الآخرة. هو يعرف ما في المحطة، لكنه لا يعرف ما في الآخرة. تغيب الملامح والوقائع إلا ما قرأه في مكتبة البوصيري، وما يتناثر في خطبة الجمعة، وكلمات زملاء الحقانية من قبل، وأصدقاء قهوة المهدي اللبان منذ عرف طريقه إليها.

أقسى اللحظات حين يخلو إلى الطعام بمفرده. يملؤه الشعور بالوحدة، يضايقه ويشقيه. يأخذ ويعطي مع الصمت والفراغ. يدهمه ما يشبه الإحساس باليتم. يفتح النافذة — إذا كان الوقت رائقًا — فتترامى إليه جلبة الطريق، أو يعلو بصوت الراديو إذا كان الوقت شتاء. لم يعُد يجلس على المائدة. ربما تناول الغداء في المطبخ، أو في الشرفة المطلة على سيدي البوصيري. واكتشف — ذات مساء — انه أكل ساندوتش فول — قبل أن يصل إلى البيت — اشتراه من الطنطاوي بشارع التتويج.

أعدَّ كوبين من الشاي. وضعهما على الطاولة في الشرفة المطلة على سيدي البوصيري. احتسى كوبه، ثم تذكر أنه أعد الكوب الثاني لعلية. وكانت قد أقامت في الشقة — لأيام — قبل أشهر، ثم عادت إلى بيت زوجها.

غلبه الشعور بالوحدة، وهو يتناول طعامه — ذات ظهر — فبكى.

أغمض عينيه، وضغط على شفته السفلى، لما خطرت على ذهنه كلمات إبراهيم سيف النصر: من حقك أن تنعم بالأيام الباقية لك.

اغتصب ابتسامة متوترة: وهل الزواج نعمة؟!

قال سيف النصر: المال والبنون زينة الحياة الدنيا.

علا صوته بالدهشة: البنون؟! هل أنجب طفلًا يتيمًا؟!

– الأعمار بيد الله!

تناثر الرذاذ من بين شفتيه: ربنا عرفوه بالعقل!

لو كان قد تزوج في شبابه … هل كانت حياته تبدَّلت؟

حين يدفع المفتاح في ثقب الباب. يتصور السكون الخامد في الداخل. السجن والزنزانة والحصار والعزلة، تسميات تفضي إلى معنى واحد، محدد. يمضه الشعور بالوحدة. أصوات أنفاس الوحدة تشاركه أنفاسه، تسري في نفسه بالوحشة والملل، والتفكير فيما لم يتصور — من قبل — أنه يفعله. يضبط مؤشر الراديو على محطة الشرق الأدنى، ثم يحرك مفتاح الصوت إلى نهايته.

همس لنفسه — ذات مساء — وهو يمضي من الصالة إلى حجرة النوم: هل أنتظر شيئًا؟

وعلا صوته كمَن يحادث شخصًا: هل هناك ما يستحق الانتظار؟

ضايقه ظلام الحجرة. انداحت فيها الوساوس والخيالات.

ضغط على زر الأباجورة. مسح ما حوله بنظرة سريعة: النافذة المواربة، ينفذ منها نسمات باردة، والمكتبة الصغيرة، وضعت فوقها الكتب دون ترتيب، والمكتب الخشبي الصغير الملاصق للجدار، ونتيجة الحائط التي أهمل نزع أوراقها منذ أشهر.

تكور على جنبه، وأغمض عينيه.

لم يعُد النوم يطيعه حين يضع رأسه على الوسادة. ذلك زمان انقضى. آخر عهده به وداعه لعلية وزوجها.

أضاف الاستيقاظ على أذان الفجر إلى عاداته. يتوضأ، ويصلي. يطيل الصلاة والدعوات. ربما يضع على كتفيه تلفيعة، ويمضي إلى جامع البوصيري.

اعتاد الطواف حول مقام السلطان عددًا وترًا من الدورات. ثلاثة، أو سبعة، أو تسعة، حتى يأخذه التعب. ربما طالت وقفته على باب ضريح البوصيري، ينتشي بملامسة الداخلين والخارجين، يتطلع إلى النقوش والمقرنصات وأبيات البردة. وكان يخلو إلى نفسه، إلى أختيه، إلى أهل ابتعد عنهم، وأصدقاء فارقوه. يناقشهم، يسألونه ويسألهم، يجيبونه على أسئلته ويرد على أسئلتهم، تتدافع في ذهنه مزق من الأحداث والكلمات، متداخلة ومتشابكة ومتقاطعة، لا يدري بواعث توضحها، ولا بواعث اختفائها. وكان يكلم أنسية، لا يختار كلامًا محددًا، مجرد أن يطرد — من داخله — الإحساس بالوحدة. أدرك أن الزمن قد انساب منه. مضى، فلم يشعر أنه قد صنع بحياته شيئًا. بدا له الموت — في لحظات الضيق — أمنية جميلة. لا قلق ولا توتر ولا توقع. بلغت الأعوام مرحلة لا بد أن يواجه فيها الموت. أحيل إلى المعاش، فهو قد أحيل إلى الانتظار. زائر مجهول من المستحيل أن يزيد من دوران العجلة، بدلًا من الدوران البطيء، قبل أن تتوقف تمامًا.

لم يعُد يجد في القهوة ما يغريه، أو يشدُّه إليه. ترصد له الملل. ملل من الأحاديث المتشابهة، كسخونة شمس الصيف الحارة، اللزجة. راعه الإحساس بالوحدة وهو بين أصدقاء القهوة. الأحاديث لا تنتهي. تشرق وتغرب. خيط البداية في حادثة قديمة، أو ذكرى شخصية، أو نبأ نشرته الصحف. يعلو سؤال، أو ملاحظة، أو تعقيب. تتلوه الأجوبة، متفقة ومختلفة. يتواصل نقاش الموضوع الواحد، أو تتلاحق الدوائر — بتحريك الماء — وتتسع. يشارك في المناقشات، يلقي سؤالًا، يرد على سؤال، توقظه عبارة من الجزيرة التي يحيا فيها بمفرده. كل الأشياء قديمة، ومعادة، ومكررة. حفظ المفردات والتعبيرات ونبرة الصوت. كتاب مل قراءته، يتصور وقع الحدث قبل أن تعلو الأصوات، وتتناثر الأسئلة والأجوبة والتوقعات. تتكرر، تصطدم بجدران قريبة. لا شيء يجتذبه أو يستولي على اهتمامه. الأحاديث السياسية وحدها تعلو بالإيقاع، وتمضي في مسارب غير متوقعة. ضايقته ملاحظة سيف النصر عن الزبد الذي يتكوم في جانبي فمه وهو يتحدث. رماه بنظرة استياء، ثم جرى بالمنديل على شفتيه. وضايقه — حين دخل القهوة — توقف الرجال عن الكلام. خمَّن أنهم كانوا يتحدثون عنه. وكان يضايقه باعة اليانصيب واللب والسوداني والفستق وماسحو الأحذية والمتسولون.

كان يتنبه من نفسه، أو يعود — بسؤال — عن شروده من الأحاديث التي يتبادلونها. يرحل إلى جزر بعيدة، تختلط فيها الغيطان والسواقي وسراي الحقانية وسوق راتب والطريق الزراعي وصحن البوصيري وميدان المنشية والكتاب وليلة زفاف نبيلة وقهوة النجعاوي والكورنيش وتمثال الخديو إسماعيل وسوق الخيط والنافذة الخلفية.

يتنبه لاسمه.

يدرك أن السؤال قد وُجه إليه، ولا بد أن يشارك في الكلام. يستعيد السؤال، ويحاول الفصل بين مجلسه في القهوة والجزر البعيدة. ربما أدركه تلعثم في البداية، لكنه يطمئن إلى لم الخيوط، ويتحدث. يبدي رأيه، وإن كتم المخالفة. يسترجع لحظات الوحدة في الشقة، فيدرك أن صداقة القهوة أفضل — في كل الأحوال — من الحياة وحيدًا.

كان يفز من كرسيه، ويمضي إلى غير هدف، لا يتلفت ولا يتأمل. يواصل السير حتى يلحقه التعب. يستقل الأوتوبيس أو الترام إلى نهايته، ويعود. وربما نزل في ميدان المنشية، لا يستوقفه رقم الأوتوبيس. يجلس يمين النافذة، يتأمل الشوارع والبنايات والناس. يظل في كرسيه حتى يعود الأوتوبيس إلى المنشية.

لمح في زحام سوق راتب صلاح الزفزافي يفاصل في شروة جندوفلي. التقت العينان، وارتفعت يده لإلقاء التحية، لكن عيني الرجل خذلته بتصنع عدم رؤيته. غالب حرجه، وواصل السير.

هل نسيه الرجل؟

تعرف إليه في الحقانية. زاره، وأنهى له — دون معرفة — أوراقًا. عاود التردد مشفوعًا بالصداقة الطارئة، وجلس. ارتشف القهوة، وباح بدخائل في نفسه، ومشكلات، وفضفض بما يرويه الأصدقاء.

هل نسيه، أو أنه لم يعُد له مصلحة في معرفته؟!

توقف الترام في محطة البوصيري.

هم بالقيام، ثم عاد إلى مكانه: لماذا لا يظل في الترام حتى نهايته أمام مدرسة إبراهيم باشا، ثم يعود على قدميه؟ البيت ينقصه أشياء. وقد يلتقي بزملاء من الحقانية، أو أصدقاء شباب، يدعونه إلى القهاوي المتناثرة في شارع رأس التين.

فكر في رد الزيارة لجلساء القهوة. يزورهم في بيوتهم، مثلما زاروه في بيته. مع أن إبراهيم سيف النصر أشار إلى شقته في البيت المقابل لسيدي علي تمراز، فإنه لم يدعه لزيارته. أدهم أبو حمد زاره مرة واحدة. ضايقه بما تعمد الخوض فيه. خشي — إن زاره في غيبة مناقشات القهوة — أن يعود إلى الحديث القديم. تذكر زيارته، حين تحدث عن تلبُّك معوي عانى منه الصغير طيلة الليل، فلم ينَم.

قال إبراهيم سيف النصر مهونًا: هكذا الأطفال.

لاحظ سيف النصر نظرة الدهشة في عيني الكاشف. كتم كلماته حتى قال له وهما يفترقان — أول الليل — على ناصية ميدان الخمس فوانيس: أدهم أبو حمد تزوج على كبر، وخلف طفلًا وحيدًا منذ عامين.

لماذا خوَّفه من الشيخوخة إذَن؟!

اخترق الشوارع والحواري إلى طريق الكورنيش. قبالة سراي رأس التين، وحدوة النجيل الهائلة الممتدة أمامها.

تسلل إلى نفسه شعور مقبض، وهو يرى قرص الشمس يغطس في الأفق. تحل الظلمة بعد قليل. تذوي الظلال وتتلاشى. تصطبغ المرئيات برمادية. يبدو الناس أشباحًا التفوا في أردية داكنة. يقذف البحر بهواء الليل المشبع برائحة الطحالب والأعشاب.

تلفت حوله، ثم أمسك حصاة ملقاة على سور الكورنيش. ألقى بها في المياه بآخر ما عنده. أحدثت دائرة صغيرة، اتسعت حتى اختفت.

عاود التلفت. ثم التقط حصاة ثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤