أنسام منعشة

أيقظه رنين جرس الباب.

رفع الغطاء، وكتم آهة لاصطدام قدمه بالكومودينو. لاحظ أن الجريدة ملقاة على الطاولة الصغيرة منذ الصباح. نسي حتى تصفح العناوين قبل أن يسلم نفسه — ثانية — للنوم.

همس وهو يغالب المفاجأة: علية.

قالت من بين ابتسامتها: هل فاجأتك؟

نظر من فوق كتفها: أين عبد المنعم؟

– رافقني إلى باب البيت … ودخل البوصيري لصلاة العصر.

وهو يفسح لها الطريق: تصورت أنك نسيت الإسكندرية، ونسيتِني.

في صوت منفعل: ربما أنسى كل شيء … إلَّا أنت!

– كلام … أين أنت من زيارتك الأخيرة؟

لاحظ تأملها للمكان: كل شيء على حاله كما تركتِه.

أشارت إلى صورتها على الحائط: ما عدا هذه.

جاشت مشاعره: وضعتها لتذكرني بك.

اصطنعت الغضب: ألا تذكرني من نفسك؟!

– في بالي دائمًا أنت ونبيلة.

وعدته بأن تزوره مرة كل أسبوع. تنظف البيت، وتعد الطعام، وتعود مع زوجها آخر النهار. ثم تباعدت زياراتها، فلم يعد ينتظر قدومها.

حين انتقلت علية إلى بيت زوجها، أغمض عينيه، وتنهد. سبقتها بالزواج قبل ثلاثة أعوام أخته الصغرى نبيلة. أصر — لأعوام — أن يزوج الكبرى قبل الصغرى، وأهمل فكرة زواجه في حياة أبيه، وبعد وفاته، حتى تقدم العمر بالجميع. خشي أن يفوت الصغرى سن الخصوبة، فوافق على زواجها من فراج توكل زميله بالحقانية. اطمأن إلى حياة أخته الكبرى معه. لم يعُد يشغله زواجها ولا زواجه. فاجأه عبد المنعم الوكيل، جار الطابق الثاني، بطلب يدها. وافق بلا مناقشة. لم يناقش حتى وضعها مع أولاد ثلاثة وفتاة في الجامعة والثانوي. ماتت أمهم فهي ستصبح مسئولة عن رعايتهم.

قالت علية: لم أعُد أصلح للزواج.

حدجها بعينين قلِقتين: لماذا؟

– هذه مسائل نساء.

همس في قلقه: لا أفهم!

حاولت أن تجد الكلمات. قهرها الحياء، فسكتت، ومضت ناحية المطبخ.

جعلت من أم عثمان الغسالة — ثاني يوم — رسولًا يبلغه بما لم تستطع البوح به.

– علية في سن اليأس.

– الرجل يريد زوجة ولا يريد أبناء.

– وما قيمة المرأة بلا إنجاب؟

وهو يضغط على الكلمات: الرجل له أبناؤه بالفعل.

رفض جلوس عبد المنعم الوكيل مع علية — ليلة زفافهما — في كوشة. توقع ملاحظات المدعوين لتقدم سن الوكيل، ولتقدم سن علية أيضًا. رضخ لإصرار العروسين، وإن أصرَّ — من ناحيته — على أن يجلس مع زملاء الحقانية في الشقة، بينما سرادق الفرح في سطح البيت.

كانت أمنية أمه أن ترى ابنتيها في بيتيهما، ينجبان، وتسعد بخلفتهما. وكانت دائمة التحدث عن الجمال المهمل في البيت، والحظ المائل، والزمن الذي يعطي المختلطات بالرجال في الوظائف والأسواق. ظلت الأحوال على جمودها حتى لحقها الموت.

زيارات علية، المتقاربة، قللت من إحساسه بالوحدة. لما صحبها زوجها — عقب خروجه إلى المعاش — إلى قريته، وجد نفسه وحيدًا للمرة الأولى. انداحت — في داخله — مشاعر صعب عليه تحديدها. قلق، أو خوف، أو إحساس بالعزلة. ثم بدت له الشقة قبرًا يتهيأ لابتلاعه. راعه الإحساس بأن الحياة خاوية، وأنها عبء سخيف، لا معنى له.

حاول أن يقصِّر ساعات اليوم، بالقعود في الحقانية على ما كان يحمله إلى البيت من أوراق. يا دوب يتناول طعام الغداء، ويصلي المغرب، ويعيد قراءة جريدة الصباح. ثم يصلي العشاء، ويمضي إلى سريره. يبتلع قرصًا مهدئًا قبل أن يسلم نفسه إلى النوم.

وهو يدخل حجرة النوم، في نهاية الطرقة، يقف أمام الحجرة الملاصقة، المطلة على المنور الخلفي. يتأمل السكون الباقي: السريرين المتجاورين، والترابيزة الفاصلة بينهما، والكليم الأسيوطي، والنجفة المتدلية من أوسط السقف، واللوحة المعلقة على الجدار لصخور ترتطم بالشاطئ، والصمت، صمت يشي — لا يدري كيف — بأن ساكني المكان غادروه. عزل الحجرة — منذ رحلة علية إلى قرية زوجها — عن البيت. يعبرها بنظراته، أو يستعيد ما جرى بوقفة متأملة.

توقع التغيير باقتراب أيام المعاش، وإن غابت في باله ملامحه. الحدود أكثر اتساعًا مما كان يتصور. ربما تنتهي إلى اللاأفق.

قالت علية وهي تشير إلى أواني الطبيخ فوق الترابيزة: احرص على تسخينها حتى لا تحمض!

قال لنفسه: كم يكفي الطبيخ الذي أعددته؟ يومين … ثلاثة … فماذا عن بقية الأيام؟

صعد إلى الشقة، بعد أن ودع علية وزوجها.

عند الباب، بدا كل شيء مختلفًا عما كان قبله. الجدران الساكنة، والصمت. رأى أختيه تتربعان على سريره، تسألان ويجيب، تشرق الأحاديث وتغرب. ألفت كل منهما مناداته لها باسم الأخرى. يروي لهما ما واجهه في الحقانية، تحدثانه عن مشاهداتهما لحركة الطريق أسفل الشرفة المطلة على البوصيري، أو النافذة الصغيرة المطلة على ميدان أبو العباس. أدرك أن كل ما حوله جدران. حتى الباب لا بد أن يكون مغلقًا، والنوافذ صلة انفصال، مثلما هي صلة اتصال، بينه وبين الناس.

لاحظ يده تهتز بكوب الشاي: هل …؟

عندما دخل صيدلية الإسعاف، المقابلة للمحكمة الوطنية، لم يكن أعد نفسه لشيء، لا مرض يعاني منه، ولا دواء يطلبه.

تبين سخف الموقف لما واجه سؤال الصيدلي: أية خدمة؟

لجأ إلى يديه، يحاول التعبير عمَّا يعجز عن البوح به. ليست حالة محددة، ولا حتى روشتة يطلب ما فيها.

مد الصيدلي يده إلى موضع في الأرفف: ربما أفادك هذا الدواء.

هم أن يعيد علبة المهدئ إلى الصيدلي، لكنه أخرج النقود — بتلقائية — من جيب البنطلون. وضعها على المائدة، وغادر المكان.

قالت علية: كان العمل عزاءك بعد زواجنا.

واحتوته بنظرة حانية: لكنك الآن في المعاش.

وأظهرت التأثر: الوحدة قاتلة.

قال: تكيفت مع الوحدة.

هتفت علية بالتذكُّر: لماذا لا تعود إلى البركة؟

زوى ما بين عينيه: أية بركة؟!

– قريتنا … بركة غطاس.

همس: وهل يعرفني هناك أحد؟

– وهل يعرفك هنا أحد؟

فوت قسوة الملاحظة: كنت مشغولًا بنبيلة وبك.

فاجأته بالسؤال: لماذا لا تتزوج؟

– أنا؟!

– نعم … أنت!

استطردت في تلميح: لم يعد سبب قعودك بلا زواج قائمًا.

– فات القطار … وانتظاره سخف!

– الرجل غير المرأة … يجد عروسًا مناسبة في كل سن.

واتسعت ابتسامتها: هل تذكر إقبال … صديقتي؟

وقرصته من خدِّه برفق: لم تتزوج بعد … وكانت تعلن إعجابها بك.

لاحظت شروده في المدى: نسيتها؟

النسيان!

معاناة جديدة لم يكُن يتوقعها. يعد نفسه لمَّا يتذكر ظروفه. تبدو ملامح الصورة واضحة، لكنها تذوي، وتتلاشى. ينسى ما كان رتبه في ذهنه، ولا يعرف لماذا وقف في هذا المكان، ولا الشيء الذي جاء من أجله. ربما ترك حجرة النوم إلى الصالة. يقف في وسطها، يتنقل نظره بين الباب، والشرفة المطلة على البوصيري، والطرقة المفضية إلى الداخل. يتذكر ما ترك له الحجرة. يغمض عينيه، ويطيل التذكر. ثم يعود إلى الطرقة، أو يجلس في الشرفة، يحاول استعادة التفصيلات الغائبة.

قالت علية: إن وافقت … أخطب لك إقبال!

تخيل — لفترة — إقبال في الشقة، تمشي، وتجلس، وتطل من الشرفة، وتقف في المطبخ، وتحادثه في مائدة الطعام، وتقاسمه السرير. لازمته صورة إقبال كظله، ثم ذوت الصورة حتى تلاشت.

عاد إلى إغماض عينيه، يسلم نفسه للرؤى والتصورات والأطياف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤