انحناءة

غالب تردُّده، قبل أن يخطو داخل الباب المفتوح.

ألف رؤية اللافتة تعلو الباب، في طريقه إلى المكتبات المتلاصقة خلف أبو العباس. نادى الحزب السعدي. توقف شاب نحيل القوام، يرتدي قميصًا وبنطلونًا، ويضع على عينيه نظارة طبية، عن الدخول بأوراق في يده إلى حجرة مغلقة.

– من تريد؟

وشى تهدج صوته بالارتباك: لا أحد! أريد أن أنضم إلى الحزب السعدي.

قال الشاب: عُد بعد السادسة مساءً … يلتقي بك المسئول عن حي الجمرك.

– ألا توجد استمارة لملئها؟

قال الشاب وهو يدفع الباب المغلق: سيدلك على كل شيء.

لم يناقش اختياره في الانضمام إلى الحزب السعدي. لم يدفعه إلى الاختيار أن السعديين آخر من كانوا في الحكم، ولا أن مبادئهم هي الأقرب إلى اقتناعه. أهمل المفاضلة بين الأحزاب، وإن أكد الجميع أن الوفد هو صاحب الأغلبية في الانتخابات القادمة. وجود مقر للسعديين بالقرب من البيت، سبب وحيد لإقدامه على طلب الانضمام.

السياسة!

تلاحقت أمواجها في حياته منذ رحيل «اللواء»: مقتل بطرس غالي، إعدام إبراهيم ناصف الورداني، فرار محمد فريد، الحرب العالمية الأولى، نفي الزعماء إلى سيشل، ثورة ١٩١٩، تقرير ملنر، تصريح ٢٨ فبراير، وفاة سعد زغلول، وزارة حزب الشعب، مظاهرات ١٩٣٥، معاهدة ١٩٣٦، الحرب العالمية الثانية، حادثة ٤ فبراير، هزيمة المحور وانتصار الحلفاء، مظاهرات ١٩٤٦ … أمواج متتالية يأتي بها المد، ويذهب الجزر، وهو في وقفته، يحرص على التأمل والمتابعة وإلقاء الأسئلة، لكنه لم يحاول الخوض بعيدًا عن الشاطئ.

مرة وحيدة، شارك في مظاهرات ١٩٣٥. نزل مع موظفي الحقانية إلى ميدان محمد علي الكبير والشوارع المتفرعة: يسقط هور ابن الطور … الاستقلال التام أو الموت الزؤام. أهمل التحذير من أن الرفت — وربما السجن — عقابه، إن لمحه موظفو الإنجليز في المحكمة المختلطة. ضربة شومة من عسكري، أعادته إلى البيت بتورم في ساعده.

شهقت علية بالفزع: تذكر أننا مسئوليتك بعد رحيل أبينا وأمنا.

وغالبت دموعها: لو أنك أوذيت — لا قدر الله — ماذا نفعل أنا ونبيلة؟!

عاد — ثانية — إلى وقفته على الشاطئ، يرقب الأمواج المتتالية، يأتي المد، ويذهب الجزر. يتأمل، ويتابع، ويناقش، ويلقي الأسئلة، ويبدي الرأي في الأحزاب القائمة، وفي الملك، وخروج الإنجليز من مصر … لا يخطر في باله أن يجاوز موضعه.

لم يكُن يفرق بين الأحزاب، ولا لماذا ترك النقراشي وأحمد ماهر حزب الوفد ليشكِّلا حزب السعديين، ولا لماذا استبدل مكرم عبيد حزب الكتلة بحزب الوفد، وأيهما الامتداد لمصطفى كامل: حافظ رمضان أم فتحي رضوان ونور الدين طراف وقادة الحزب الوطني الجديد؟

لماذا عاودته الرغبة في مغادرة الشاطئ؟ هل لأنه لم يعُد مسئولًا عن أحد؟ هل لأنه بلا عمل يشغله؟ هل هو الفراغ والوحدة والملل؟

في قهوة المهدي اللبان، هتف إبراهيم سيف النصر بدهشة: هل تنضم إلى حزب العملاء؟

أظهر زم شفتيه تأثره: أليسوا مصريين؟

– المصريون فيهم الصالح والطالح.

– إنها محاولة لشغل الوقت.

– اشغل وقتك بما يفيد … انضم إلى الوفد.

وهو يقاوم الحيرة: لا أعرف مقره.

أشار بيده ناحية شارع رأس التين: ليس بعيدًا عن بيتك … في الحجاري.

ورمقه بعينين متسائلتين: وماذا تريد من مقر الحزب؟ إنه مجرد مكان لتسجيل البيانات … ولن تذهب إلَّا في المناسبات.

قال عبد الله الكاشف: ألن أحضر ندوات أو محاضرات.

– هذه فروع أحزاب … وليست أندية ثقافية … نشاطها الحقيقي أيام الانتخابات.

أشاح الكاشف بيده: لا داعي إذَن للانضمام إلى أي حزب؟

داخل صوت سيف النصر نبرة تحريض: الوفد حزب كل المصريين … عضويته شرف!

قال الكاشف ضاحكًا: أنت وفدي متعصب.

اتسعت ابتسامته: أنا مصري متعصب!

ألقى حمادة بك السلام، وجلس.

لم يكُن يعرف المجاملات الاجتماعية قبل أن يشير عليه الحاج قنديل بدخول الانتخابات. لم يجامل في أفراح أو مآتم، ولا جلس على القهاوي إلَّا لإنجاز عمل. مجلسه المفضل رصيف قهوة التريانون. أمامه سعد زغلول والبحر، وعلى يساره الغرفة التجارية وفندق سيسل، وعلى اليمين ميدان محطة الرمل. وكان يجلس في ديليس ومونسنيور وباسترودس وأثينيوس.

أكثر من الجلوس على قهاوي النجعاوي بسوق المغاربة والمهدي اللبان وفاروق. يسكن الطابق الثاني في البيت الذي تقع أسفله قهوة فاروق، لكنه لم يكن يجلس في القهوة. يكتفي بقعدة العصر أمام دكان محمد صبرة، ودرس المغرب في أبو العباس. ربما جلس لإتمام صفقة في القهوة التجارية بالقرب من تمثال الخديو إسماعيل. ثم دفعه عباس الخوالقة — في ترتيبات الانتخابات الوشيكة — إلى الجلوس على قهوة الزردوني. لحظات، يستأذن بعدها لمشوار يدَّعيه. ثم نبهه المعلم نجيب المهدي إلى أن الدائرة الانتخابية تمتد من رأس التين إلى ما بعد المنشية، فتردد على القهاوي الأخرى.

قال عباس الخوالقة: أصوات الصيادين كثيرة … تضمن نجاحك لو أنك حصلت عليها.

قال حمادة بك: وكيف نضمن أصواتهم؟

– إنهم رجالنا يا حمادة بك.

استطرد متذكرًا: ما دام وقت الانتخابات لم يأت بعد … فسأحاول من الآن أن أنقل المقر الانتخابي لصيادي أبو قير إلى بحري.

وقال: علينا أن نفعل كل شيء لإنجاح حمادة بك.

قال عبد الوهاب مرزوق في لهجة متفاخرة: ربما استطعت أن أكلم حلمي بك حسين، فهو قريبي.

كان دائم التحدث عن قرابته لحلمي حسين. وكان يتردد عليه في معسكرات الحرس الملكي برأس التين، أيام الصيف، يتابع ترقياته من رتبة الصول إلى رتبة الأميرالاي.

قال عباس الخوالقة: حلمي حسين؟ أليس هو سائق الملك؟

قال عبد الوهاب مرزوق: هذه وظيفته المعلنة … والحقيقة أنه الثاني في أهميته بعد رئيس الديوان.

غلبت اللهفة حمادة بك: هل يمكن أن يساعد في الانتخابات.

قال عبد الوهاب مرزوق: لن يصعب عليه تخطي أوامر وزير الداخلية محمد هاشم بألَّا يتدخل أحد في عمله.

قال عباس الخوالقة: حتى الملك وعد بألا يتدخل في الانتخابات.

قال عبد الوهاب مرزوق: لو أن هذا حدث، فلن تصبح مصر هي مصر.

أقنعه نجيب المهدي بأن الصيادين لا يرجحون مرشحًا. في الدائرة موظفون وحرفيون وتجار وعمال. المرشح الذكي هو الذي لا تقتصر الأصوات المؤيدة له على شياخة أو اثنتين.

بدأ في الجلوس على قهوة المهدي اللبان. معرفته قديمة بالمعلم نجيب المهدي الكريتلي، قبل أن يوسع نشاط دكان الألبان، ويحيله قهوة. يجاري ذوي الأصل الكريتلي أصحاب معظم القهاوي في بحري. يقضي ساعة أو نحوها، عقب مغادرته البيت في الناحية المقابلة. أبعده عن المهدي حرصه على جلسة العصر أمام دكان محمد صبرة، ودرس المغرب في أبو العباس. عاد بصداقة المهدي القديمة. عرفه بأدهم أبو حمد. أكله الوفد لحمًا، ورماه عظمًا. يجاهر بعدائه للوفد منذ توقيع معاهدة ١٩٣٦، وخروج أحمد ماهر والنقراشي. يتعاطف مع الطليعة الوفدية والحزب الاشتراكي والتنظيمات السرية. لا يشغله مبادئها. يؤيد رفضها لوفد النحاس وسراج الدين. عرفه أبو حمد بعبد الله الكاشف وإبراهيم سيف النصر وفهمي الأشقر وأحمد أبو دومة وحمدي رخا والشيخ قرشي. أهمل وفديتهم المعلنة، وتمنى صداقتهم.

من يدري؟ ربما لو أنه فاز في الانتخابات، تقترب الجزر البعيدة، تمسك قبضة اليد بما لم تصل إليه من قبل، لا تقتصر الحياة على درس المغرب وجلسة العصر والسير بلا هدف في الشوارع. يتردد عليه أصحاب المصالح والشكاوى والمطالب. أسر ورجال ونساء. يتعرف إلى الممكن والمتاح. يهمس بما يطلبه، أو يمليه.

قال له عباس الخوالقة وهما ينصرفان من قهوة الزردوني آخر الليل: دخلنا في الجد … فحاذر من ألاعيب الخصوم.

فاجأته صورة سعيد النقيب وهو يعايره بمشكلته. يشير لها في جلساته على القهاوي، في نصف الدائرة الملتفة حول إمام أبو العباس، وهو يواجه جسده العاري في الحمام، وسط انشغاله في حجرة مكتبه المطلة على تمثال سعد زغلول وامتداد الأفق في الميناء الشرقية. لم تعد الانتخابات القادمة شاغله الوحيد. امتثل سعيد النقيب لإلحاح الرجال أن يكتم على الخبر ماجورًا. لا يلمح بسيرة ولا تهديد ولا معايرة. تعود الحياة الزوجية إلى صورتها الأولى.

هل كانت موافقة سعيد النقيب، للتخلص من إلحاح الرجال؟ وهل يفاجئه بضربة، ربما لم يعد لها نفسه؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤