رقصة لعرائس البحر

لما انتهت حلقة المسلسل الإذاعي في الخامسة والربع، تأكد الرجال أن حمادة بك لن يصل. تضاربت الآراء حول ما إذا كان قد قدم أوراق ترشيحه للانتخابات، أم أنه قد آثر الانسحاب قبل أن تبدأ المعركة.

كانت قهوة الزردوني قد امتلأت بالصيادين. من اعتادوا الجلوس عليها، ومن قصدوها لدواعي الانتخابات. حتى الحاج قنديل، عاد إلى القهوة بعد غيبة.

استند الكثيرون إلى الجدران، أو جلسوا على الرصيف. وتناثر رجال، إلى ناصية حارة أبو يوسف، يصيحون لمرأى أية سيارة. أجهدت الأعين تحديقها في القادمين من أول السيالة، ومن الشوارع الجانبية. ربما توقعوا مجيئه من ناحية البحر، فتتجه الأعين ناحية شارع فهمي الناضوري.

نفخ الحاج قنديل: هل فعلها الرجل؟!

قال عباس الخوالقة: ولماذا أنفق كل تلك الآلاف؟

قال خميس شعبان مطمئنًا: لعله قدم أوراق ترشيحه … ثم انشغل.

قال الحاج قنديل في ضيق: وموعده معنا؟

قال خميس شعبان: ما يهمنا هو أن يقدم أوراق ترشيحه قبل انتهاء الموعد.

قال الحاج قنديل: هذه مشكلته.

قال عباس الخوالقة: واتفاقنا معه؟

قال الحاج قنديل: اتفقنا لصالحه … لا لصالحنا!

وداخل صوته غضب: فعلها الرجل بعد أن شلحت جلبابي للنزول في البحر!

قال خميس شعبان مواسيًا: أنت الحاج قنديل … لا حاجة بك لحمادة بك ولا لأي نائب!

•••

جلس قبالة البحر، في كازينو الإبراهيمية. ترك للمحامي مهمة إنهاء أوراق الترشيح. يلتقيان قبل الثانية، لتقديم الأوراق.

كان يتطلع من النافذة الزجاجية، المفتوحة. البحر حصيرة، والمياه رائقة، شفافة، والموج يلامس الرمال ببطء، ويرتطم بجوانب الكازينو. وثمة طيور النورس وعصفور الليل والعصفور الأسود والعنزة، تحلق في امتداد الشاطئ.

فاجأته المرأة.

بدت بثيابها المتواضعة غريبة عن الشاطئ. نظراتها المتطلعة ناحيته، حيرته. تلفت، فتبين خلو المكان.

مضت خطوات حتى لامست قدماها الماء. تدافعت الأمواج، وامتدت. غطت قدميها وساقيها إلى قرب الركبة. هرولت عائدة بظهرها.

لاحظ أنها ترفع ساقيها بما قد لا يلامسه مد الأمواج.

خمن أنها تغويه. تعمَّد التحديق لتفهم أنه فهم.

دارت بطرف إصبعها على ثديها، ثم جرت أصابعها بالهرش في ساقيها.

غالب تردده، ولوح لها. ردت عليه بتلويحة من يدها. وتناهت إليه أصداء ضحكتها.

أشار إليها. همس بما يطلب. سبقته إلى الأوتوبيس المتجه للمنشية، ولحق بها. مالت من شارع السبع بنات إلى شوارع وحواري وأزقة. لكثرتها، ولتعدد الانحناءات، غاب المكان، وإلى أين يمضي.

أوغلت به في الانحناءات. تتسع وتضيق وتعلو وتهبط وتتلوى. نساء جالسات على الأبواب، والأفخاذ متعرية، والأثداء تلقمها أفواه الصغار، وأولاد يلعبون، وذباب وطين وكومات زبالة ومياه غسيل — أبطأ من خطواته حتى لا يتزحلق فيها — وقطط وكلاب وخنازير وروائح طبيخ ومجاري ونداءات باعة وزعيق وشتائم. وتترامى من داخل البيوت المغلقة أحاديث هامسة وضحكات وغنج وبكاء أطفال.

دخل وراءها طرقة ضيقة، مظلمة. تفادى أجولة وطسوتًا وأقفاصًا وعروقًا من الخشب.

فتحت حجرة مواربة.

الظلام الشفيف يتيح رؤية الأشياء. الحجرة واسعة، مرتفعة السقف. تآكلت جدرانها، وتقشر طلاؤها. وثمة نشع هائل، ابتلع الركن العلوي. لها نافذة خشبية مغلقة، يتسلل منها ضوء خافت.

وقفت في وسط الحجرة.

تأففت من الحر. نزعت الملاءة. كانت ترتدي قميصًا من الحرير الأسود الشفاف، بحمالتين من الدانتيلا، ويحيط به من أعلى الصدر نقوش جميلة ملونة. أميز ما فيها بشرة سمراء، وعينان واسعتان، مكحولتان، وحاجبان رفيعان، وصدر كبير، وشفة سفلى ممتلئة.

هل ظلَّا بمفردهما؟ هل دخل الحجرة آخرون؟ ولماذا تناهى الأذان في غير موعد؟

تداخلت الأصوات في الغابة، فغاب الصوت المحدد. وضعت ذراعيها حول خصرها، ومالت بأعلى جسمها. علت موجة فداهمتهما، طوتهما في لجتها. تمطت في مساحة الحجرة، وتواصل الزمان في لحظات مختلطة، متشابكة، وعلت أغنيات الفحيح، ومالت الجدران، وتراقصت، وترامت أغنيات قديمة، وومضت بروق المتعة، وتعالت صرخات النشوة والألم، وقالت الأم: إنه يبكي منذ طردت القط. وقال الأب: هذا أهون من خربشات القط له، وتحركت آلاف الأيدي والأقدام، وانطلقت — دون صوت — صيحات الاستغاثة، وحلقت طيور، وتراقص جان ومردة وعفاريت، وعلت الأمواج، وتلاحق المد والجزر، وتداخلت النوات، والتفت الأشرعة حول الصاري، فأدمته، ودار القارب حول نفسه، وهبط إلى القاع، فتلقفته عرائس البحر، والتمعت الأصداف ببريق أخاذ، وتطايرت الأسماك، ولثمت المياه رمال الشاطئ، وتأوهت الأقدام لنتوءات الحصى، وومض البرق، وهطلت الأمطار كالسيل، وانطلقت النيران من فوهة الفرن، ولطمته عروس البحر بذيلها السمكي فغاب في أعماق السحر، وانسدل شعرها على وجهه فغطاه، وتفجر الينبوع، وباحت الحياة بسرها، النشوة الحقيقية: سر الأسرار، ومبعث الوجود، وأخذ الوجد حلقة الذكر.

صحا — في حدائق الشلالات — على ذؤابات الشمس وهي تنسحب من فوق الأشجار. تبين أن المرأة تركت له ثيابه الداخلية وحدها.

أهمل صرخة نهى حين فتحت له الباب. مضى إلى حجرته، فلم يغادرها. رفض الإجابة عن الأسئلة. شدد على الخدم أن ينكروا وجوده. حتى فؤاد أبو شنب رفض استقباله. نقل إليه الخدم كلامًا عن نقص الدقيق والمازوت، فاكتفى بالقول: قولوا له يتصرف!

دوخته المرأة، فغاب عنه المكان.

لو أنه عرفه، هل يقوى على البوح؟ هل كانت المرأة تعرفه؟ هل دسها عليه خصومه؟ لو أنها تعرفه، فلماذا أخذت ما أخذت؟ ربما استعاد الأمر، ومنحها المزيد. اللاذكريات هي ما يتذكره. دخل البيت القديم فغفا، وصحا في حدائق الشلالات. لماذا؟ وكيف؟ وهل كانت نظرات المرأة موزعة، أو أنها اختصته بها؟

كتم الهواجس داخله، فلم يعلنها. صارح أنسية ففتح على نفسه طاقة جهنم. يقدِّر ويبني ويخمن ويفسر الأقوال والتصرفات. يخاف أنها روت ما حدث لسيد، أو لسواه.

•••

حاول أن يقدم أوراقه صباح اليوم التالي.

اعتذر مأمور قسم الجمرك بالأوامر. كان قد أبلغ الداخلية بأسماء المرشحين، وانتهى الأمر.

غادر مبنى القسم مذهولًا: هل انتهى الإنفاق والجولات المتعبة وجلسات القهاوي والوعود والاتفاقات والسيارات الأربع تطوف الحي، في كلٍّ منها مكبر يدعو لانتخابه … هل انتهى ذلك كله إلى نكتة سخيفة؟!

•••

قال قاسم الغرياني: خدمته الظروف! فلو أنه دخل الانتخابات ربما أخفق في استرداد التأمين.

قال حمودة هلول: كان يعتمد على تأييد المعلمين.

هتف الغرياني مستنكرًا: المعلمين؟! إنهم لن ينتخبوه نيابة عنَّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤