حجاب الأنوار

علت الهتافات، وانطلقت زغرودة من نافذة تطل على شارع السيالة.

السرادق بعرض شارع السيالة، وإن ترك حيز للسير بين الرصيف والجدران. فتح ناحية ميدان المساجد، صفت الكراسي والسجاجيد، وغطيت الأرض بالرمال الحمراء، وتدلَّت اللمبات والكلوبات من سقف السرادق، وتعالت الأصوات من الميكروفونات المبثوثة في جوانب السرادق. تنقل تلاوة القرآن والخطب والهتافات وعبارات التأييد. وغنى عزت عوض الله:

يا زايد في الحلاوة عن أهل حيِّنا
ما تبطل الشقاوة وتعالى عندنا.

صور المرشحين ملصقة على الجدران. الهواء يتلاعب باللافتات، تغطي شرفات البيوت، وتعلو الأعمدة الخشبية، وعلى الحوائط.

علا الإيقاع بالجولات الانتخابية، والسرادقات، والجلوس في القهاوي، والاتهامات المتبادلة، والوشايات، والشتائم، والشكاوى الكيدية، والمعارك الصغيرة، تتداخل الكلمات الطيبة فلا تتسع.

أخذ حمادة بك المنشور الانتخابي من عباس الخوالقة. قرأه بنظرة غير متأملة، وطواه، ورده إلى الخوالقة.

لم يعُد يشغله من رشح نفسه، ومن انسحب. أهمل التردد على درس المغرب في أبو العباس وقهوة الزردوني. اكتفى بقعدات طياري أمام دكان محمد صبرة، وفي قهوة فاروق بشارع إسماعيل صبري.

كان المعلم أحمد الزردوني يعاني حرجًا باعتزام حمادة بك ترشيح نفسه. وفديته قديمة بدايتها في أحداث ثورة ١٩١٩. شارك في المظاهرات، وهتف بالجلاء، وترصد لجنود الإنجليز في الشوارع المظلمة.

بركة يا جامع.

قالها حين بلغه نبأ تأخر حمادة بك عن آخر موعد للترشيح. غالب الحرج، واستعاد وفديته القديمة. أعلن تأييده لجمال كاتو، مرشح الوفد، وأصر أن يقيم سرادق السيالة على نفقته.

قال جمال كاتو في صوت متأثر: لا أريد أن تشق على نفسك … يهمني أصوات الصيادين.

قال الزردوني في تأكيد: اعتبرهم في جيبك.

لم يكُن عم سلامة يعرف الفرق بين الوفد والأحرار الدستوريين والوطني. كلها أحزاب تسعى للجلوس على مقاعد الحكم، والحصول على مكاسب لأعضائها. من حقه — ما دام يساعدها في الفوز — أن ينال قضمة من الرغيف.

وافق أن يعلق كل المرشحين أوراق دعايتهم على جدران المطعم. قال: هذا مولد … حرام أن نطلع منه بلا حمص!

قال المعلم الزردوني: حمادة بك صديقنا … كان أولى.

ثم في لهجة غاضبة: من قال له يتأخر عن تقديم أوراقه؟!

•••

رفض عبد الناصر السوهاجي صاحب قهوة مخيمخ أن يقرأ الفاتحة مع جمال كاتو ما لم يعد بأن تقتصر التلاوات في سرادقاته على قراء القهوة.

تأمل عبد الله الكاشف التسمية: ابن الدايرة!

قال: هذا التعبير حمال أوجه، فلماذا لا نغيره؟

قال المعلم الزردوني: جمال كاتو ابن الدائرة فعلًا.

نفض الكاشف رأسه: المعنى حمال أوجه!

لم تعد أيدي الرجال تمتد إلى الجيوب. اعتادوا قدوم المرشحين والخطب وهتافات التأييد، وبذل الوعود، ودفع أثمان المشاريب نيابة عن الجميع.

ضايق إسماعيل سعفان صوت الميكروفون. اخترق الضجيج رأسه، ثقبه. تلاوة قرآن وخطب وهتافات. تداخلت الأصوات فلا يميز شيئًا، تلاغط لا حد لصخبه يخترق أذنيه. حتى زجاج النوافذ اهتز لشدة الصوت.

أمسك الكرسي بيد مرتعشة، واقترب، واقترب.

الناس — في الداخل — مشغولين بما يجري على المنصة، والخطب، والهتافات، والزغاريد.

بآخر ما عنده، رفع الكرسي، وطوح به في الظهور المتساندة. أيقظته الفوضى التي أعقبت الصخة المتأملة: قنبلة!

انتتر الجالسون، وتدافعوا إلى الشارع. توزعت الأقدام. دفعته في اندفاعها خارج السرادق. حاول اتقائها بيديه … لكن الموجات الخائفة، الغاضبة، ابتلعته.

تعالت الكراسي، ونزلت، وتكسرت، وتناثرت، وتطايرت الزجاجات الفارغة، وتطوح الشوم، والتمعت الخناجر والسكاكين، واهتزت الكلوبات واللمبات، وانطفأ معظمها.

•••

قال عبد الوهاب مرزوق لإسماعيل سعفان، وهم يقلونه في عربة البوكس: يا رجل … ابنك لم تأخذه عروسة بحر ولا بر.

أضاف في نفاد صبر: ابنك أكله السمك.

بحلقت عيناه، لا تطرفان. تجمد على هيئته. غابت التصورات. بدت الصدمة أقوى مما يحتمله. كان يرفض — في أعماقه — الحكايات الغريبة، لا يصدقها، لكنها الأمل في أن يعود البهاء. المستحيل هو الجدار المصمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤