أصوات الأحلام القديمة

أمِن تَذَكُّر جيران بذي سلَمِ
مزجتَ دمعًا جرى من مُقلةٍ بدَمِ
أم هبَّت الريحُ من تِلقاءِ كاظمةٍ
وأومضَ البرقُ في الظلماءِ من إضَمِ
فما لعينَيكَ إنْ قلتَ اكفُفَا هَمَتَا
وما لقلبك إن قُلْتَ اسْتفِق يَهِمِ
أيحسبُ الصَّبُّ أن الحبَّ مُنكَتِمٌ
ما بين مُنسجِمٍ منه ومُضطَرِمِ
لَوْلا الهوى لم تُرِقْ دمعًا على طَللِ
ولا أَرِقتَ لذِكرِ الْبانِ والعَلَمِ
من «بردة البوصيري»

صعد الدرجات الرخامية، المُفضية إلى الباب الرئيسي، المُطلَّة على شارع التتويج. مالَ إلى غرفة الضريح. المقصورة الخشبية، تتداخل فيها قِطع النحاس المزخرف. قرأ الفاتحة والشهادتين.

كان يحلو له أن يزور — عقب صلاة العصر، في يوم يختاره — جوامع الحي ومساجده وزواياه، وأضرحة أولياء الله الصالحين. تشغي بهم ميادين الحي وشوارعه وأزقته. يبدأ بصلاة العصر في البوصيري المواجه للبيت. يصعد الدرجات، ويعبُر الحاجز الخشبي القصير من الخشب المعشق. يخلع حذاءه في نهاية الصحن المكشوف، والقباب الثلاث المُلحَقة به. صحن الجامع الواسع، مغطًّى بسقف مُزيَّن بالنقوش العربية، وفي الوسط قبة على أعمدة من الحديد الزهر. يتلمَّس طريقًا إلى الضريح في غرفته الجانبية، بين الأدعية، والابتهالات، وطلب المدد، ولثم العتبات، وتقبيل النوافذ والحوائط والمقصورة، وتقديم النذور، يُلقي السلام على صاحب الضريح، ويقرأ الفاتحة. تعلو حوائط الصحن والضريح إزارات زرقاء، مكتوب عليها برقائق الذهب، بخط فارسي بارز أبيات البردة، وبالخط الثلث آيات من القرآن. يغادر الجامع من الباب الخلفي إلى أبو العباس. ينزل إلى أسفل الصحن الواسع. يقرأ الفاتحة، في الجانب الغربي، أمام المقابر الثلاثة للسلطان، وولديه أحمد ومحمد، ويقرأ الفاتحة، في الجانب البحري، أمام الأضرحة الستة لأولياء الله. يصعد الدحديرة إلى المسجد الصغير خلف جامع السلطان، يضم أضرحة الأولياء الثلاثة: سيدي بركات، سيدي علي الفتح، السيدة رقية الشاذلية، ومنه إلى أضرحة الأئمة الاثني عشر، جمعها — في المكان — الشيخ صالح، رجل ذو كرامات، استمع في رؤيا منامية إلى صوت يقول: أنا محمد إمام الحرمين … أريد أن تبني مقبرة للشيخ محمد بن وكيع. بعد بضعة أشهر، قال الصوت: أنا محمد إمام الحرمين … أريد أن تبني مقبرة للشيخ محمد أبو وردة. ظل الصوت يتناهى كل بضعة أشهر، باسم ولي جديد، حتى وصلت الأسماء إلى اثني عشر من أولياء الله الصالحين: محمد إمام الحرمين، محمد أبو وردة، يوسف الجعراني، محمد الشريف المغربي، محمد الغريب، ابن وكيع، محمد إجابة، محمد المطرودي، محمد الشريف، محمد بركة، محمد الغريب اليمني، محمد الحلواني. يمضي — من الناحية القبلية — إلى ياقوت العرش ونصر الدين والمسيري وعلي تمراز وطاهر بك … يطيل الوقوف أمام كل ضريح. يقرأ الفاتحة، ويتهدَّج بدعوات. حتى سيدي كظمان، كان يتهدَّج أمامه بالتلاوة والأدعية. شُلَّت الأيدي التي حاولت أن تطول مقامه. ترفعه من موضعه لتفسح الطريق. عاملوه كما عاملوا سيدي أبو الدرداء. أُضيئَت على مقصورته الشموع، وقُدِّمَت النذور، واطمأن الناس إلى مكانته مع أولياء الحي.

كان بلا مسجد. كلها بيوت الله.

زار أضرحة أولياء الله في أحياء الإسكندرية: الشاطبي وابن الحاجب والقباري وجابر الأنصاري والطرطوشي وعبد الله الراس والسماك وغيرهم. إذا تعالى الأذان، قصد المسجد القريب، لكن التردُّد على جوامع الحي ومساجده كان همه الذي يحرص عليه. يحرص على زيارة المساجد ذات الأضرحة. يتأمَّل في مدد أولياء الله وشفاعتهم. يُطيل الوقوف أمام مقام السلطان. أولياء الله في الميدان الفسيح نجوم، لكن لا ضوء لهم في ضوء الشمس. سيدي المرسي أبو العباس. في يمينه تلميذه البوصيري، وفي يساره تلميذه وخادمه وزوج ابنته ياقوت العرش … عم مدد السلطان سائر الورود، فائتنس الأولياء — في النومة الأخيرة — بقربهم من ضريح القطب المبجل، يرتوون من بركاته ومكاشفاته. يزورهم بعد زيارته للمرسي. البركة الجماعية تتحقَّق بالمجاورة.

عرف أن أولياء الله — سيدي محمد صلاح الدين، سيدي محمد المنفعي، سيدي محمد مسعود — أبناء سيدي علي زين العابدين، أحفاد الإمام الحسين، السلالة الطاهرة العطِرة. أصبح يُطيل الوقوف أمام النوافذ المُطلَّة على أضرحتهم، يقرأ الفاتحة، ويدعو بما يسعفه به لسانه.

– أنسية!

لمحها تخطو في الميدان، من الموازيني إلى قلب السيالة. تبدَّلت ثيابها، وإنْ عرَفَها من خطواتها الطفلة، وجسمها الذي تؤكد الملاءة استدارته، والمنديل بأوية يغطِّي الرأس، وتنزلق منه خصلات الشعر الأسود.

كانت ترتدي ملاءة، أحكمت لفَّها حول جسمها، فلا يبين إلا الوجه. وغطى البرقع ملامح وجهها فلا يكاد يبين منها شيء. ودست قدمَيها في حذاء من الكاوتش.

عرف — لا يذكر الراوي — واقعة ظهور المرسي للإمام وجلساء درس المغرب. غابت أنسية بعدها. ذهبت بها الشائعات إلى أكثر من مكان. لما رآها تصحب سيد الفران في زحام شارع الميدان، تأكد من شائعة زواجهما. ألِف تردُّدَها — فيما بعد — على كشك سيد في ناصية الموازيني والدحديرة الخلفية لجامع أبو العباس.

حين الْتَقى بها في شارع سراي محسن باشا، جاءت عيناها في عينَيه. سألها عن حالها. تمهَّلَت في خطواتها وهي تُحدِّثه عن زواجها من سيد.

قال بعفوية: لم تعودي إذَن تعملين في البيوت.

كأنه وارب بابًا مُغلَقًا: أنا لا أرفض أي عمل أساعد به زوجي.

سبقته الكلمات: لماذا لا تعودين؟

تمنَّى لو أنه تدبَّر السؤال قبل أن يوجِّهه إليها.

فاجأته بصوت هامس: متى؟

جرى بالفرشاة على أسنانه — للمرة الأولى — منذ أيام، وضبط ياقة القميص والكرافتة، واطمأن إلى انسجام لون الكرافتة مع البدلة، وعُنِي بكَيِّ الطربوش، وتلميع الحذاء.

انتظرها في الموعد. تشاغلَ بالقراءة في الشرفة. حاول أن يمتطي التذكُّر، أو الشرود … لكن أذنيه استكانتا لحركة المرأة داخل البيت.

زاد ما كانت تتقاضاه من قبل. أعدَّ نفسه لتلقِّي شكرها، أو سؤالها، لكنها دسَّت النقود في صدرها، دون أن تراها.

توقَّع المفاتحة، في المرة التالية، لكنها لم تُشِر إلى الأمر. دخلت، وأغلقت عليها الحمام. خلعت الملاءة والشبشب، وظهرت بالفستان المشجر، الطويل. استبدلت به الجلابية الباتستة، وانصرفت إلى عملها داخل الشقة.

لم يعُد ينظر إليها، أو يكلِّمها. يلزم حجرة النوم، أو الشرفة المُطلَّة على سيدي البوصيري. يقرأ، أو يستمع إلى الراديو. ربما ترك لها الشقة، فيعود بعد نزولها. وكانت تأتي بخضار، تعدُّه له، ويصرُّ على دفع ما أنفقته. تظلُّ حتى تغسل الأطباق، وتستأذن. أغنَتْه عن الكثير مما كان يصعب عليه فعله، ولا يتصوَّر أنه يفعله. غسلت الملابس والأطباق، وكنست الشقة، وأزالت الغبار المتراكم على الأثاث.

آخِر النهار، دسَّت ما أعطاه لها — دون أن تنظر إليه — داخل صدرها. عدَّت المبلغ — لا بد — في السلم، أو في الطريق، أو في بيتها، لكنها لم تتكلم في الزيادة، حتى لا تفتح — ربما — باب الكلام بينها وبينه.

لم يكُن سيد يشكو الحال، ولا أظهر ضيقًا … لكن تعبيراته الساكنة، الحزينة، كانت تشي بما يمور في داخله.

أصحاب البلانسات يشترون من متاجر وكالة الليمون. لا يقصده إلَّا صيادو السنارة، أو الذين يتعجَّلون رحيل البلانس. حرص أن يملأ الكشك بكل أدوات الصيد: اللبانات، المخاطيف، الحبال، الكنار، الغزل، المداري، الملخ، البوص، السنار، الطعم، القفف، القار، البكر.

غالبت الحيرة.

لن يسهل عليها دخول بيت يعرف أصحابه ما كانت تفعله. لم تحادثه في الأمر حتى لا تثير ما قلبت عليه ماجورًا. اجترَّت المرارة، وتطلَّعَت إلى المستقبل. رنت — بالأمل — إلى عبد الله الكاشف. شجعته — بابتسامة — على السؤال والكلام. زغردت الفرحة في أعماقها، عندما انتزع السؤال من ارتباكه الواضح.

انقطعت عن التردد عليه، فشكَّ أنها سرقَتْه، واختفت … لكنه الْتَقى بسيد في طريقه إلى الحقانية: حضرتك عبد الله أفندي الكاشف؟

حدجه بنظرة متسائلة.

– أنا سيد … زوج أنسية.

أومأ برأسه يستحثُّه على الكلام: أعرف.

قال سيد: أنسية مشغولة في البيت.

لا يذكر إنْ كان قد أعطى الشاب نقودًا أم لا، لكنه تمنى لأنسية التوفيق في حياتها.

توالى تردُّد النساء على الشقة. يهمس بملاحظاته، فتُبدي المرأة التذمُّر. يعلن غضبه، فتغادر البيت، ولا تعود. يبعث له الجيران — أو سعاة الحقانية — بمَن يتردَّدن على الشقة لأوقات، تطول أو تقصر، ثم تنقطع أرجلهن. أهملَ التفكير في أن يستقدم امرأةً من بركة غطاس. تعدَّدَت الزيارات، وتعدد التلميح والمصارحة بأن زواج علية ونبيلة يُنهي المسئولية.

كان قد أهمل الشقة. ظلَّت النوافذ مُغلَقة، والغبار متراكمًا على الأثاث والجدران. حتى الأكلمة علاها التراب، وتناثرت في الجدران — بتأثير الرطوبة — بقع ملحية، وتقشر الطلاء عن أشكال وتكوينات، وترامت رائحة عطن من ناحية الطرقة المفضية إلى المطبخ والحمام ودورة المياه وحجرتَي النوم.

أقبلت أنسية ناحيته.

زايله الحرج حين قالت في صوتها الهامس: ازيك يا عبد الله أفندي!

شجعه تصرُّفها.

سأل عن صحتها، وأحوالها، وزوجها، وهل أنجبت. قال مدفوعًا بالجرأة التي تلبَّسَتْه: لماذا لا تعودين للخدمة عندي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤