أزمة!

لم يكُن المصلون قد ألفوا ما حدث. أخذتهم الدهشة، وصاح البعض بالخوف.

كان الصمت قد لف صحن سيدي علي تمراز وميدان الخمس فوانيس والشوارع المتفرعة. تحدث الشيخ عبد الحفيظ عن زواج الأميرة فتحية من رياض غالي. علا صوته بالغضب والانفعال. أفاضت الصحف فيها، لكن الإمام كأنه تحدث عنها للمرة الأولى: الإسلام لم يكسب رياض غالي … والمسيحية لم تخسر بتحوله!

اتجهت إلى المنبر مشاعر المصلين. غلبها القلق لما خنقت العبرة صوت الإمام، وتخبلت عليه الخطبة. تقضت اللحظات بطيئة. غابت عن الجميع وسيلة التصرف.

همس الإمام: ساعدوني على النزول.

تسابقت الأيدي تعينه على ما يريد.

دُعي الطبيب الأرمني من البيت المجاور. نبهه إبراهيم سيف النصر، فخلع حذاءه. أخلى حجرة الإمام بالقرب من ضريح سيدي علي تمراز، إلَّا من الشيخ قرشي، وعم سلطان خادم الجامع. تفحصه بأصابعه، وبالسماعة. لم يلمح المؤذن والخادم في وجهه أمارات قلق.

قال الشيخ قرشي: خيرًا.

قال الطبيب: لعله أجهد نفسه.

قال عم سلطان: هل ننقله إلى المستشفى أو إلى البيت؟

قال الطبيب: فليظل هنا حتى تستقر الحالة … ثم أعاود الكشف عليه.

قال إبراهيم سيف النصر، وهو يستقر في مجلسه على الكرسي: هذا رجل همه الصراحة، ومواجهة الأعور بما بعينه.

قال الشيخ قرشي: إنه دائمًا يحبكها.

وبَّخَه الشيخ عبد الحفيظ ليلة أمس — عقب صلاة العشاء — لأنه يرفع صوته بالصلاة والتسليم على النبي بعد الأذان، وإن لم يأخذ عليه محاولة تحسين صوته. قال: هذه بدعة … والبدعة ضلالة.

كانت له طريقته في تلاوة القرآن ورفع الأذان، يبدأ التلاوة بنغمة واطئة، ثم يفرد راحته بجانب فمه، ويطيل عنقه، فتبدو العروق نافرة. يبدأ صوته في الارتفاع. تردد صداه جدران الجامع، ويسمعه — من خلال الميكروفون — سكان المناطق القريبة. ويحرص — في الأذان — على أن يجعل إصبعيه في أذنيه، ويلتفت برأسه وعنقه ناحية اليمين، في القول: حي على الصلاة، ويلتفت ناحية اليسار في القول: حي على الفلاح دون صدره وقدميه، ليحافظ على استقبال القبلة. ويقف في جوانب المئذنة، ليصل صوته إلى النواحي الأربعة، ويطيل في أهازيج السحر، وفي التواشيح ومدائح الرسول. وكان يجيد تقليد كبار المقرئين: الشيخ سكر، والشيخ ندا، والشيخ رفعت، والشيخ على محمود. يقلد الصوت وطريقة الأداء. يستدعي صورهم في الجوامع التي استمع إلى قراءاتهم فيها. له مع محمد عبد الوهاب حكاية أعاد روايتها مرات كثيرة: التقى به في سان استيفانو. غنَّى أمامه. استعاد عبد الوهاب الأغنية، ثم قال: لو أنك تحولت إلى الغناء، فسأخشى منافستك!

قال فهمي الأشقر: رأيت صورة رياض غالي في الصحف … وسيم — يشهد الله — ومصقول الشعر، وشديد الأناقة.

قال إبراهيم سيف النصر: فليغر بأناقته.

قال الشيخ قرشي: نعم … الإسلام لم يخسر كثيرًا.

قال سيف النصر: ولا المسيحية … أسلم الأفاق كي يتزوجها.

قال فهمي الأشقر: يعني هو الآن … لا مسلم ولا نصراني.

قال عبد الله الكاشف: ذكرت الصحف أن الملكة نازلي هاجمت رجعية الشعب المصري.

قال فهمي الأشقر: أحسن الملك بحرمان أخته من لقبها.

قال الشيخ قرشي: الرجل أعلن أنه يعتبر رياض غالي مجرد نصاب.

قال إبراهيم سيف النصر: حتى مجلس البلاط، لم يأخذ بإسلامه … اعتبره تغطية لهدف دنيء.

قال أدهم أبو حمد: أنا لا أبرئ النحاس … ألم يرجع إلى الملك في عيد ميلاده كل الفضائل؟

وجاش انفعاله: أي فضائل يقصدها هذا الرجل؟

أهمل حمدي رخا صمته المحايد: لم يعد الوفد هو الوفد منذ عاد إلى الحكم.

وزفر في أسى: نحن لا نرى إلا حكومة تلبي كل ما يطلبه الملك.

ألف خلوته لنفسه. حتى لو شارك بسؤال، أو بتعقيب، فإنه يعود إلى نفسه. محارة تلوذ بصدفتها. يتابع المناقشات بعينين متأملتين، أو شاردتين. ربما أخذه ما لا يتبينه أحد إلى ما لا يرى. بدا غريبًا عن المجموعة. حتى أدهم أبو حمد يخرج عن صمته برأي أو اعتراض.

قال فهمي الأشقر: وأين الملك؟ إنه الآن فؤاد باشا المصري في رحلته الأوروبية!

قال الشيخ قرشي: ربما يريد أن يجعل مصيف دوفيل عاصمة الحكم!

قال إبراهيم سيف النصر: لو أنك تجيد رفع الأذان مثلما تجيد التعليقات السياسية؟

لاحظ أن الشيخ قرشي أخطأ مرتين في أذان الفجر. نسي — مرة — تكرار «حي على الصلاة»، ونسي — في المرة الثانية — قول «الصلاة خير من النوم». إذا تذكر الشيخ بداية صداقتهما أعاد القول: ما محبة إلَّا بعد عداوة. حين لزمت ابنته الفراش بحمى قاسية، أخفق علاج الأطباء، حتى بدأت تخرِّف في كلامها. دعا الشيخ قرشي إلى قراءة أوراد وتلاوة قرآن فوق رأسها.

سحب الشيخ يده لما حاول أن يقدم له ما لم يتبينه: هذا واجب.

– وهذا حقك.

ربت الشيخ كتفه بود: مرتبي أتقاضاه من وزارة الأوقاف … والظروف ميسورة.

تحول الارتباك — بإصراره على دفع المقابل — إلى غضب. امتدت جلساتهما في قهوة المهدي اللبان. كلَّمه الشيخ قرشي عن العسيرات، قريته القريبة من سوهاج، وعن سبعة فدادين يديرها أشقاؤه لحسابه، وبيت يدرُّ عليه إيرادًا ثابتًا. جاوزت معرفة أصدقاء القهوة له حد الإنصات لتلاوة القرآن، ولرفع الأذان والتواشيح وأهازيج السحر. وجدوا فيه متابعة للأحداث وقدرة على الحوار. فاجأهم بآراء تعكس فهمًا للأوضاع السياسية في الداخل والخارج. حتى زيُّه كان يختلف عما يرتديه قراء الجوامع. وحين قرر أن يفرغ للقراءة، تعلم أصولها في صورة صحيحة. حفظ الكثير من الأشعار، ومرن صوته على النغمات المختلفة، وعود نفسه احتساء ملعقتين من عسل النحل كل صباح، وتجنب الأطعمة والسوائل الحريفة والتدخين والكحوليات. وكان يحرص على أن يؤدي وظيفته بمفرده. يتلو القرآن قبل صلاة الجمعة والعيدين، ويؤذن للأوقات الخمسة، وينشد أهازيج السحر.

قال حمدي رخا: فلندخل إلى القهوة.

لاحت مظاهرة قادمة من طريق الكورنيش، سبقها الأولاد يتقافزون. اختلطت الأجسام والهتافات والأعلام ولافتات القماش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤