نفحات الوصال

وضع ربطة الطير على الطاولة. عصافير ودقانيش وبروبيو.

قال عبد الله الكاشف: من شارع الميدان؟

قال إبراهيم سيف النصر وهو يسحب كرسيًّا: لا … من ميدان المنشية.

وضم أصابعه على شفتيه: أطعم من السمَّان.

– لا أحبها ولا أحب السمَّان.

لم يكن يأكل اللحم ولا البيض ولا الطير. كان السمك طعامه المفضل، لكنه كان يرفض شراءه من الحلقة. تقرفه الأوساخ في الأرض والطبالي. ينتظر قدوم البلانسات في الفجر، يساوم على شروة.

قال إبراهيم سيف النصر وهو يجري على جبهته بمنديل: هذا هو زعيم الشعب … من أجل مصر وقعت معاهدة ١٩٣٦، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها.

كان يوم أمس حارًّا بالنسبة له. وجد نفسه وسط المتظاهرين الذين استقبلوا النحاس في عودته من أوروبا. علت الهتافات: ألغِ المعاهدة يا نحاس. جلس إلى الراديو في المساء ينصت إلى النحاس وهو يعلن إلغاء المعاهدة.

قال أدهم أبو حمد: هذه خطوة لتغطية إخفاق حكومة الوفد في مفاوضاتها مع الإنجليز.

وهز إصبعه في تأكيد: ظني أن النحاس أراد أن يقوي مركزه أمام الملك حتى لا يقيل حكومته.

هتف سيف النصر: تاني؟!

قال أبو حمد: رائحة فسادها زكمت الأنوف.

أطلق سيف النصر — من أنفه — ضحكة مبتورة: جلالته هو الذي سيقضي على الفساد.

قال الشيخ قرشي: ربما يرفض شيخ المنسر أن يرفض القسمة.

ومض في عيني سيف النصر استياء: لست عضوًا في الوفد كما تعرفون … لكنني لا أتصور أن يصبح نضال الوفد فعل عصابة!

قال أدهم أبو حمد: يثيرني أنك وفدي أكثر من الوفد … الفساد ظاهرة الفترة.

قال سيف النصر: وهل كانت الناس تتنبه لولا ما تنشره الصحف؟ وهل كانت الصحف تنشر لولا حرية الصحافة؟!

قال فهمي الأشقر: ولماذا لا يجد الملك في إلغاء المعاهدة مطلبًا أراده الناس؟

قال عبد الله الكاشف: من حق النحاس أن يلغي المعاهدة … لكن الإلغاء سيظل من طرف واحد.

واستطرد بالتذكر: أذاعت الشرق الأدنى تصريحًا لوزير خارجية بريطانيا رفض فيه إلغاء المعاهدة، وهدد باستخدام القوة.

قال إبراهيم سيف النصر: هل يفرضون علينا صداقتهم؟

قال فهمي الأشقر: هذه سياسة … لا شأن لها بالعواطف!

قال أدهم أبو حمد: أخشى أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة.

قال الشيخ قرشي: ماذا تقصد؟

قال أبو حمد: لا تنسوا الملك وقوات الإنجليز في القناة.

قال سيف النصر: الملك أضعف من أن يواجه زعامة النحاس … وعلى الإنجليز أن يدافعوا عن احتلالهم للقناة.

قال زكي بشارة: هل يفعلها النحاس؟

قال الكاشف: هذه المعاهدة … إما أن تجلي الإنجليز … أو تضيِّع كل شيء!

اتجه فهمي الأشقر إلى أحمد أبو دومة، ربما ليبدِّل الحديث: ألست أبًا يا مولانا؟

قال الشيخ أبو دومة: ولي من الأولاد خمسة.

قال الأشقر: كيف تمنع الولد من الخروج إلى دورة المياه؟

– أي ولد؟

قال الأشقر: ابني … رءوف.

قال أبو دومة: لا آخذ بالي.

قال المهدي اللبان: ذكرتني … هل يصح يا رجل أن تلوي أذن الولد فكدت تنزعها؟!

هتف أبو دومة: ابنك أنت أيضًا؟ هذه حملة منظمة إذن؟ أنا لا أعاقب الأولاد عمالًا على بطال … ولا بد أن الولد أخطأ.

قال المهدي اللبان: فرق بين عقاب الكبير وعقاب من يصل إلى ركبتك.

قال إبراهيم سيف النصر: قل إلى صدرك … فالشيخ — كما ترى — في طول طفل!

فاجأ زكي بشارة عبد الله الكاشف بالسؤال: هل ما زلت على صلة بالحقانية؟

قال الكاشف: أتردد عليها … وإن لم يعد لي فيها صداقات.

– أريد خدمة.

استطرد لنظرة الترحيب في عيني الكاشف: تسجيل عقد ابتدائي لقطعة أرض اشتريتها في المحمودية.

تدخل إبراهيم سيف النصر: ألا تترك هذه الأشياء لموظفيك؟

– إنها بيع وشراء لأكبر الأولاد … لو علم إخوته فستحدث مشكلات لا داعي لها.

لم يكن يتحدث عن أسرته في دمنهور، ولا حياته الخاصة. أجاب على النظرات المتسائلة عن أيام إقامته الطويلة في الإسكندرية: أنا أترك كل شيء للموظفين … مهمتي تسلم الإيرادات.

ذوت الأسئلة في الأعين. اطمأنوا إلى تفسيره، وتوقع أنهم لن ينشغلوا بحياته الخاصة. هي سره الذي يرفض أن يعرفه أحد. لو أنه باح بما في داخله لسيف النصر فسيمضغ سيرته، ثم يبصقها. الحائط الشفيف عازل يريده، يطمئن إليه. حياته الخاصة جزيرة لا يأذن لأحد بدخولها.

صحا عبد الله الكاشف في الموعد القديم للحقانية. رغم اعتدال الجو فإنه حرص على ارتداء بدلة كاملة، تأكد من المنديل في الجيب العلوي، وأطال التأمل إلى هيئته أمام المرآة. البدلة، والقميص ذي الياقة المنشَّاة، والكرافتة، والطربوش. جرى على تسريحة شعره، ولامس بإصبعه طرفي شاربه، ومسح الزبد الأبيض على جانبي فمه المبلل دائمًا.

استعاد ما كان نسيه من تثاؤب حركة الطريق. شمس الصباح تلامس أسطح البيوت، والنوافذ أغلق معظمها، والشوارع هادئة، ومقام سيدي خضر — يقرأ له الفاتحة — بابه، ونافذته العلوية القصيرة المتقاطعة بالخشب المخروط، ينفصل عن المسجد المصمت الواجهة، فيما عدا نوافذ علوية، وحيدة الضلف، والمستلقون جوار المسجد يطوون أغطيتهم. وتغطت بالمشمع عربات اليد على الرصيف، وعلى جانبي الشارع، وبائع الصحف أمام أجزخانة جاليتي، المغلقة. وثمة ولد يركب بسكليتة، ويحمل لوحًا مرصوصًا بأرغفة الخبز، وقبالة الطريق إلى سوق الخيط، عربة امتلأت حتى الحواف بالترمس، وأحيطت بقصاري الحلبة الصغيرة، والقلل، وقصاري العتر والورد.

رأى زكي بشارة جالسًا بمفرده في زاوية الرصيف المقابل لسيدي علي تمراز.

دعاه إلى كوب شاي بالحليب قبل أن يمضيا إلى الحقانية.

قال الكاشف: الأفضل أن نبكر في الذهاب لننهي أوراقنا قبل الزحام.

قال زكي بشارة في دهشة: طبعًا … ما دمنا معًا فلن نواجه عقبات.

تنبه إلى المعنى، فقال بسرعة: طبعًا … طبعًا.

لم يُخفِ انتشاءه وهو يرد التحية على زملاء عملوا معه، وإن رافقه الحرج منذ صعد الدرجات الرخامية إلى داخل المبنى العالي. ملأ الاستمارات، وأعد أوراق الملكية، وتنقل بين الأرشيف والخزينة والتوثيق.

– أشكرك.

تصافحا أسفل الدرجات الرخامية. اتجه زكي بشارة ناحية ميدان محمد علي، ومضى هو عائدًا من شارع فرنسا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤