الأنس والوحشة

قال إبراهيم سيف النصر وهو يزيح الجريدة جانبًا: لم تعُد كل خلفة فاروق بنات … أنجبت له ناريمان ولي العهد.

اتجه فهمي الأشقر بعينيه إلى الشيخ أحمد أبو دومة: هل تمنح تلاميذ كتابك إجازة بهذه المناسبة مثل بقية التلاميذ؟

قال أبو دومة: كتابنا يخضع لإشرافي لا لإشراف المعارف!

قال إبراهيم سيف النصر: دوران العداد هو ما يشغل الشيخ أبو دومة في المسألة كلها.

قال فهمي الأشقر: أي عداد؟

– الرواتب التي تدفعها أسر الأولاد.

بدا كأنه قد نسي تمامًا وفاة وحيده، فهو يتكلم ويثرثر ويطلق النكات، لكن عين الكاشف المختلسة، المتأملة، لاحظت أنه يكابد من الألم ما يغالب في كتمه وصوته يعلو بالتعليقات والمداعبات. حتى النكات التي يطلقها وهو يضحك.

قال سيف النصر: المصيبة أن المظاهرات لم تتوقف … زادوا على الهتاف بسقوط الملك، هتافات بسقوط الملكية!

المظاهرات — أسفل البيت — نقلت الانتخابات إلى بيته. يعرفه المتظاهرون التابعون لجمال كاتو. يلوحون له، ويمضون.

قال حمدي رخا: لا اعتراض على هذا … أما مسألة الاصطدام بالبوليس وقلب عربات الترام وإشعال النيران، ففيها نظر.

قال الشيخ أبو دومة: الحمد لله أن الكتَّاب ليس تابعًا لوزارة المعارف … وإلَّا خرب بيتي!

قال فهمي الأشقر وهو يأخذ أوراق اليانصيب من المرأة ذات الوقفة المتأودة، والعينين المكحولتين، والشفتين الممتلئتين، يعلوهما أنف أفطس. تدلَّت خصلة من شعرها المخضب بالحنَّاء على جبهتها، وحجبت عينها اليمنى، ولصوتها غنَّة واضحة. ترتدي فستانًا أسود شفافًا، مشغولًا بخرج النجف والترتر والخرز الملون، وتضع في ساعدها أساور زجاجية ملونة، تحدث صوتًا إذا تحركت يدها.

– خذ لك ورقة يا عبد الله أفندي.

غالب الحرج بالغمغمة بما لم يتبينه هو نفسه، وسكت.

همس سيف النصر: إذا كان زكي بشارة يدمن الخمر … فإن اللوترية عند صديقنا الأشقر إدمان آخَر.

كان الأشقر يعرف رأي سيف النصر في اليانصيب، والمرأة، وإن لم يحاول مناقشة الأمر. المصادفة أغرته بشراء الورقة الأولى. اقتناها للتخلص من إلحاح المرأة. عادت إليه — عصر اليوم الثالث — ببشرى المكسب. عشرين جنيهًا، طرف خيط قاده إلى توقعات الأيام التالية.

ضحك سيف النصر في أذن عبد الله الكاشف: بدأ بإدمان بائعة اليانصيب … ثم أدمن اليانصيب وبائعته!

قال أدهم أبو حمد: أنا أرفض الحياة في الوهم!

واغتصب ابتسامة: قراءة صفحة الوفيات أجدى لمَن هم في أعمارنا.

تنبه الكاشف إلى أن صفحة الوفيات بالأهرام هي أول ما يطالعه. لم يكن يقرؤها من قبل، لا يعرف الراحلين إلَّا من الملصقات على جدران البيوت والدكاكين وأبواب الجوامع. متى بدأ القراءة؟ ولماذا؟ لا يتذكر على وجه التحديد. ربما حين رحل صديق، وأشارت أحاديث القهوة إلى نعي الأهرام. بحث عن النعي المحدد، مرة واثنتين وثلاثًا، ثم بدأ في البحث عن أسماء الراحلين، ربما يجد فيهم من يعرفه. يتصفح عناوين الصفحة الأولى، ويقلب الصفحات، إلى أعمدة الوفيات. يقرأ كل نعي إلى آخره. وكانت الأعمار تشغله. يسأل: هل كان مريضًا، أو اختطفه الموت؟ تقلقه وفيات الأعمار القصيرة. يفزعه انتهاء الأجل في عمره، أو قبله. تداخله راحة لصاحب السن المتقدمة وهو يمشي، ويتكلم، ويعلو صوته بالتذكر، وبالآراء الصائبة.

لماذا الإنسان — وحده — يعرف النهاية؟ هل يعرف الحيوان والطير نهاية حياته؟ هل يعي — مثل الإنسان — ما يطرأ عليه من تغيرات طارئة، وضرورية، تقوده إلى النهاية، آخرها الشيخوخة. ضيف ثقيل يفرض علينا صداقته، ويقودنا إلى ما نتوقعه.

تنبه لنفسه: ها أنا ذا أصبحت عجوزًا متفلسفًا!

•••

وهو يميل من شارع الميدان إلى الموازيني، لمح الرجل. تأمله. حلق لحيته، وأسدل شاربه على شفتيه، وفرق شعر رأسه من النصف. وكان يرتدي بنطلونًا، وقميصا شتويًّا، ألوانه مربعة، وحذاء من الأجلاسيه اللميع.

– الشيخ يوسف بدوي؟

رمقه الرجل بنظرة متوجسة: هل تعرفني؟

قال إبراهيم سيف النصر: كنت أصلي بعض الأوقات في زاوية الأعرج.

غمغم الرجل بما لم يتبينه. لماذا تخلص من لحيته؟ عرفه من اتساع عينيه، والتماعهما. بدَّل إزالة اللحية من ملامحه.

تردد قبل أن يلقي السؤال: هل تركت المشيخة؟

عاود الرجل كلماته المدغمة.

وشت لهجته بود: لم نعُد نراك في الزاوية.

قال يوسف بدوي بصوت هامس: تركت الإمامة لمَن يعينه وقته.

أردف في لهجة هادئة: كانت الزاوية بيتي … لما تزوجت صعب أن يكون لي بيتان!

قال سيف النصر: هل تركت الإسكندرية أيضًا؟

– أتردد عليها لإنجاز بعض أعمالي.

وعبر بيديه: أشرف على زراعة أرض لي في بلدتي … عزبة خورشيد.

روى إبراهيم سيف النصر ما حدث لأصدقاء القهوة. ثنى إلى الجالسين نظرة طويلة، يتأمل وقع ما روى.

لم يبدُ أنهم تذكروا الرجل.

دس يده — بتلقائية — في جيبه، أخرج منديلًا. مسح به وجهه، وجانبي فمه.

وظلَّ صامتًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤