مواصلة المدد

صحت على مواء قطة من المنور الخلفي: داوووود.

حتى القطة! ولماذا ليس أنا؟

كان اليأس قتلها وهي تغادر بيت الشيخة نبيهة بشارع الكناني. قالت الشيخة إنه لم يبقَ لها حيلة. نصحتها أن تقصد الطبيب، ربما يفلح.

قالت: زرت مستشفى الملكة نازلي حتى تعبت.

قالت الشيخة: اتركي المسألة على الله … هو الشافي بإذن الله.

اعتادت الكشف، والتحليل، واختلاف التشخيص.

قالت للطبيب: تكرر حملي … وفي كل مرة أصاب بنزيف في الشهر الثاني أو الثالث …

قاطعها الطبيب: وتفقدين الجنين.

وسألها: هل تحملين أشياء ثقيلة؟

– لا.

استطردت: منذ الحمل … لا!

قال الطبيب: سأعطيك أدوية … أثق أن النزيف سيتوقف!

ودفع لها بروشتة: هذه أدوية تساعد على تثبيت الحمل.

ثم بلهجة محذرة: خذيها … ولن يتكرر الاجهاض.

شكت لجارة الطابق العلوي من الماء المتساقط على غسيلها. ذكرتها المرأة بعقمها. قالت إنها ميتة حية، وإنها كالشجرة التي لا تثمر، حلال قطعها.

أصعب اللحظات حين يأتيها الحيض. الحلم بعيد … فمتى يتحقق؟

قرأت الفاتحة، والصمدية، وقل أعوذ برب الفلق، قبل أن يشلح سيد جلبابه ليهم بها.

لجأت إلى التعاويذ والتمائم، وزارت الأولياء، وتناولت الأعشاب والأدوية الشعبية، ولزمت السرير — على ظهرها — لفترات طويلة، وصلَّت في الأوقات. حتى صلاة الفجر صحت لأدائها.

قالت للشيخة نبيهة: أريد ولدًا.

قالت المرأة: فإذا جاءت طفلة؟

– كل ما يأتي به الله خير.

– أنا مجرد وسيلة … قد لا تبلغ نهايتها.

طوت النقود، ودسَّتها في يد المرأة: لا يهمني ما تفعلين … يهمني أن أنجب!

أعطتها ورقات مطوية، طلبت وضعها في وعاء مملوء بالماء الممزوج بماء الورد، وتدليك الجسم بالمزيج ليلة الجمعة. ثلاثة أسابيع. تفد — بعدها — أعراض الحمل.

نصحت المرأة — في زيارة تالية — بأن تغطس في مياه البحر. السحر سبب مشكلتها. ربما وضع عمل لأذيتها. كتابة سحرية على جسم قرموط، قذف به في ماء البحر. إذا غطست في الأنفوشي، لا بد أن يبطل مفعول السحر. الماء الجاري لا تقربه الأرواح الشريرة، فيبطل السحر، ويقي من الحسد.

كتب لها الشيخ مكي، قارئ سيدي نصر الدين، سبع سور من القرآن، تقرأ سورة منها كل يوم. تعود إلى بدايتها في بداية الأسبوع. ثلاثة أشهر، فلا يسقط الحمل. نزلت البحر عقب أذان الفجر، قبل أن يصحو الشاطئ. تقدمت في المياه حتى بلغت ركبتيها. واصلت التقدم، فغمرت المياه فخذيها. ثم خاضت حتى وصلت المياه عنقها. لم تكن تحسن العوم، فاكتفت بتغطيس رأسها مرة واحدة، سريعة، ثم رفعتها. استحمت في الخلة والرجلة. دخلت مجيرة عم سعد بشارع إسماعيل صبري في عز النهار. فاجأت الرجال المتناثرين في المجيرة، وخرجت. لحست بطن الترسة. ذبحت حمامة، ومشت — حافية — سبع مرات في دمها الساخن. عدت على النار سبع مرات. تلقت في حجرها فأرًا ميتًا، وثعبانًا منزوع الأنياب. مرت فوق صينية بخور سبع مرات. خطت فوق دم ترسة مذبوحة حالًا. طلعت السلم بالمندار. ذبحت ديكًا منقوشًا. لبست لفافة من الحلبة والعسل، تمتص الرطوبة من بيت الولد، فيتحقق الحمل. ارتدت الصوفة. دهنت صدرها بماء عقد العقيق. جاءت على نفسها، واستعارته — لليلة — من أم محمود. وتحممت بالماء المتخلف من حلاقة سيد لذقنه، ورشفت من ماء الاستحمام بعد اختلاطه بإصبع الكافر. مشت على قضبان السكة الحديد، وعلى رأس حمار ميت، ومشت من تحت جمل، وفوق سحلية. رفضت التمدد في نعش. أبدت فزعها لمجرد التصور. وإن شقَّت المقابر، وزارت المساخيط في عامود السواري، ودفعت لحارس المساخيط بالقرب من سراي رأس التين. أذن لها بأن تقف — لدقائق — في ظلمة الليل. كتمت الخوف حتى جاوز احتمالها، فطارت من الباب الحديدي الموارب. ذكَّرَت نفسها في فجر الأيام الثلاثة الأخيرة، في الشهر العربي. تدخل المقابر. تعود من طريق أخرى، لا تسلِّم ولا تردُّ السلام، حتى تعود إلى البيت.

قال سيد: أي مكان في الدنيا، لن «يسبب» الخوف أكثر من خرابة سيدي داود.

لاحظت البسمة على جانب فمه، فتشجعت: بيت وليس خرابة.

– لولا أنك كنت تسبقينني إليه … ما دخلته أبدًا.

غالبت ارتعاشة وهي تستحم بليفة، غُسِّل بها ميت. تمرغت — قبل صلاة العصر — حول ضريح أبو العباس. استغاثت بولي الله، وطلبت المدد.

عانت القلق لتغير عادة سيد. عاد إلى قهوة الزردوني. يغادر الكشك إليها. يشارك في القعدات، ويلعب الكوتشينة. ربما ظل حتى نهاية الليل. يدخل البيت في الظلمة. يتمدد على كنبة الصالة، حتى يتنبه لصحو أنسية، فيكمل نومه داخل الحجرة. لا يكلمها إلَّا لضرورة. ويجيب على أسئلتها بكلمات سريعة، مدغمة، وإن حرص ألَّا تفلت منه عبارة شتم، أو معايرة. ما يعنيه أن ينعكس في مرآة حياتهما إصراره على أن ينجب الولد.

احتضنها بنظرة محرضة: وحق الموج ومن سيَّره … إذا أنجبت ولي العهد … أعدك برحلة مثل التي قضاها الملك مع ناريمان.

قالت: سافرا إلى خارج مصر … فإلى أين تأخذني؟

– إلى حيث تشائين.

– آخر مكان نستطيع الذهاب إليه هو العجمي.

ثم وهي تضحك بعصبية: حتى العجمي لا تستطيع اصطحابي إليه … سيدي العجمي يكره النساء!

تشاغل بالنظر من النافذة المطلة على البلقطرية، وهي تضع الورقة المكتوبة في كوب ماء. راقبت ذوبان الكلمات، ثم صبَّت الماء في براد الشاي.

•••

استوقفت الحاج محمد صبرة — مترددة — لما رأته في شارع الموازيني.

– أنا في عرضك يا حاج.

– أرسلي سيد … وليفعل الله ما فيه الخير.

همست بالخوف: لا تخبره بأني لجأت إليك.

– اطمئني … سأبعث في طلبه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤