أسفار الصبح

قال الشيخ قرشي: الإمام الجديد جعل منا تلاميذ في مدرسة!

أردف للدهشة المتسائلة في عيني أدهم أبو حمد: لم نعُد ندخل إلَّا من الباب الخلفي.

أمر الإمام بإغلاق أبواب علي تمراز، فيما عدا باب الميضأة بشارع رأس التين. يدخله المصلون أولًا. يخلعون أحذيتهم، وما علق بها من طين، ثم يدخلون — بعد الوضوء — صحن الجامع.

أغلق عبد الله الكاشف — من الداخل — باب القهوة: هل عرفتم ما حدث؟

اندفعت من الباب — لحظة فتحه — دفقات من الهواء البارد. وكانت بقايا شمس النهار تعلو جدران البيوت. وصنع توالي هطول الأمطار بركًا طينية في جوانب الشوارع.

أفسح لنفسه موضعًا: القاهرة احترقت.

فز سيف النصر من جلسته: ماذا؟

قال الكاشف: القاهرة احترقت … والملك أقال وزارة النحاس.

– كيف؟

وهو يفسح لنفسه موضعًا خلف الطاولة، عليها براد من الصاج، وثلاثة أكواب، ولبانة صغيرة، وسكرية.

– خرجت مظاهرات للاحتجاج على مذبحة البوليس في الإسماعيلية … تدخلت عناصر فأحرقت كل ما صادفته.

هتف سيف النصر: تقصد … القاهرة احترقت … احترقت كلها؟

ارتفع صوته لإصغاء الجالسين. حتى المهدي اللبان مال برأسه من وراء البنك، وأصاخ سمعه: بنايات كثيرة وسط البلد … دور سينما وكازينوهات وبنوك وفنادق ومحلات تجارية.

قال أدهم أبو حمد: أنا لا أصدق أن المتظاهرين أحرقوا القاهرة.

ثم وهو يغالب انفعالًا واضحًا: لا بد من محرض.

قال الكاشف: ألا تكفي مذبحة الإسماعيلية؟

قال سيف النصر: قلبي يحدثني أن ما حدث لم يكن مجرد رد فعل.

ثم علا صوته بتساؤل: أليس غريبًا أن الحريق حدث في يوم استئناف الدراسة؟

وخبط جبهته بأصابعه كالمتذكر، واتجه بابتسامة مغتصبة إلى أدهم أبو حمد: زعيمك في السجن الآن.

اهتزت النظارة الطبية بالقلق: من؟

– أحمد حسين.

ثم في نبرة تأكيد: هو المحرض على حرق القاهرة.

قال أدهم أبو حمد بنبرة لم يعهدها الكاشف في صوته: ولماذا لا يكون الملك هو الفاعل؟ لماذا لا يكون الإنجليز؟ لماذا لا يكون الوفد نفسه؟

قال فهمي الأشقر: مستحيل أن يكون الحريق من فعل المصريين.

قال عبد الله الكاشف: ما حدث ليس مفاجأة … قرأت صحف الأمس … مذبحة ضحيتها عشرات الجنود فقدوا حياتهم في ظروف سخيفة.

قال إبراهيم سيف النصر: هذا عملهم.

قال الكاشف: لا تضع في يدي مطواة … وتطالبني بمقاتلة أسد!

قال أدهم أبو حمد: النحاس قائد دفع قواته إلى الأمام دون أن يؤمن مؤخرته!

نظر أدهم أبو حمد عبر الباب الزجاجي المغلق إلى حركة الطريق. سريعة بتأثير البرد الشديد، ومحاولة الفرار من الأمطار التي استمرت منذ الصباح.

وشى صوته بحزن: المهم أن عمليات الفدائيين في القناة انتهت.

قال إبراهيم سيف النصر: كدنا نجني ثمرة إلغاء الوفد للمعاهدة.

أعاد عبد الله الكاشف الكلمة: كدنا!

وهز رأسه في تأثر: الحقيقة أن حكومة الوفد تدفع ثمن إلغاء المعاهدة.

وتباطأت الكلمات: أعلنت الطوارئ وذهب الوفد.

التفتت النظرات — بتلقائية — إلى عفريت الليل، ينتقل بسرعة من مصباح إلى آخَر، يضيئها، ويواصل الجري، حتى غيَّبه الطريق. وكانت قطرات المطر تصطفق بزجاج النافذة المغلق.

قال الشيخ أحمد أبو دومة: هل يمنعون الناس من السير في الشوارع؟

قال المهدي اللبان: ويغلقون أبواب الدكاكين والمحلات العامة … من السادسة مساء إلى السادسة صباحًا.

– يعني لن نسهر في القهوة.

وأردف متذكرًا: كيف نشتري ما نحتاجه؟

قال المهدي اللبان: عندك النهار بطوله.

قال إبراهيم سيف النصر: تصورت أن الحكومة اكتفت بمنع المظاهرات والإضرابات والتجمهر.

المظاهرات!

ألِف السير وسط المظاهرات، وإن لم يشارك فيها. شارك في مظاهرات التأييد — هل يعتبرها كذلك؟ — لجمال كاتو. إن جيت للحق جمال أحق. لا هتافات ضد الإنجليز أو السراي أو الحكومة. الفرق في نوعية الهتافات وتوقع الخطر في المظاهرات التي امتلأت بها الإسكندرية. لوريات البوليس والخوذات والدروع الحديدية والهراوات والصدامات الدامية.

مال الكاشف على إبراهيم سيف النصر: جئت هذه المرة للوداع.

أردف للنظرة المتسائلة: أعد نفسي للعودة إلى القرية.

قال سيف النصر: قلت لي إن مدافنكم في الإسكندرية.

أردف في لهجة معتذرة: أقصد أن حياتك استقرت هنا.

مرات قليلة، زار فيها القرية، خلال الأعوام الأخيرة: حضور واجب عزاء، المشاركة في عقد قران، زيارة مريض عرف اشتداد حالته، يقضي النهار، أو يعود صباح اليوم التالي. يلزم بيت العائلة، لا يغادره إلَّا لأداء الواجب. ربما استقبل — بابتسامة مجاملة — من يعلمون بمجيئه القرية، إلى ما بعد موعد نومه بساعة، ثم ينفتح فمه بالتثاؤب.

قال الكاشف: أسافر إلى القرية لأحيا فيها.

أسفر الأفق عما أغراه بالمضي ناحيته. بدت له ثمار الاحتمالات قريبة. البيت في نهاية الغيطان، يطل على الخلاء من كل جوانبه، لا يحوي إلَّا الضروري من الأثاث، وتظلل حديقته الصغيرة أوراق اللبلاب، وعلى سطحه عشَّة للبط والدجاج، وبرج للحمام.

تنحنح ليخلص صوته من بحة: كنت قد اعتدت الوحدة … لما جاءت أيام الانتخابات ومضت … شعرت أن الوحدة مستحيلة!

وسرح بنظرته: تصور شخصًا دعا الآلاف إلى حفل في بيته … فلما انصرفوا، فوجئ بنفسه وحيدًا بلا أنيس.

لاحظ أنه انشغل — في الفترة الأخيرة — بما يجري في القرية. ينتظر زيارة القادمين منها. يحملون الزواد والأخبار والشائعات. يسأل، وتشغله الإجابة. يتكلم فيما قد يفاجئ القادم، وأنه ليس في أيامه. تصور اللافتة التي وضعت على الطريق باسم القرية. ماذا طرأ على بيوتها وشوارعها؟ وهل يظل دكان البقالة في موضعه على داير الناحية؟ وشجرة الجميز المطلة على الترعة … هل لا تزال في موضعها، أو أنها اجتثت؟ وهل يذكره العجائز؟ هو الآن عجوز. ربما رحل من يكبرونه في السن. كانوا يتحدثون عنه باسم أمه: ابن عزيزة … هل يذكرونه؟ هل يذكره أحد؟

تملكه حنين لا يدري بواعثه. بدت بركة غطاس كالأصداء البعيدة، الجميلة، كالحلم الذي تمنى أن يحياه. تومض في ذاكرته مشاهد متشابكة، ومختلطة. تنثال دون محاولة للاستدعاء: خلاء الغيطان الممتدة، البيوت الطينية، الواطئة، الشوارع الضيقة، الأرض الترابية الجافة، المشققة، أكوام القش وأحمال الحطب فوق أسطح البيوت، الأشجار، الترعة، الطريق الزراعي، ليالي الحصاد، الساقية، النورج، الشادوف، الكتَّاب، التقاط الثمار المتساقطة من الأشجار … ناوشت ذاكرته حتى الأصوات المترامية إلى حجرته المطلة على الغيطان. صرير الجنادب، ونقيق الضفادع، ونباح الكلاب، وترامي صوت ماكينة الطحين في طرف القرية.

طالت جلسته في الشرفة. يتأمل الداخلين إلى البوصيري، والخارجين منه. هل يعود إلى الشقة، والنافذة، والمشاهد التي أحبها: حركة الطريق، والميضأة المرمرية، وأبيات البردة، وحلقات الذكر، والأذان. ومن السطح، تبدو قلعة قايتباي، ولسان السلسلة، وحاجز الأمواج، والأشرعة البيضاء في الميناء الشرقية، والبواخر الضخمة والروافع والمخازن والحاويات داخل الجمرك، والعلم يرفرف على السارية العالية فوق سراي رأس التين.

غلبه تأثر، لم يقوَ على كتمه.

انسحب إلى داخل الشقة. ارتدى ملابسه، وغادر الشقة إلى القهوة.

نفث إبراهيم سيف النصر دخان سيجارته. تصاعد في فراغ القهوة المغلق. اصطدم بالسقف. تشكلت غمامات رمادية مستديرة.

قال سيف النصر: أنا شخصيًّا أفكر كثيرًا في أن أقيم في القرية بعد رحلة المعاش … أبتعد عن الدوشة والزحام، وأغسل أعصابي بالهدوء.

قال الكاشف في شروده: ما قريتك؟

– سامول … بالقرب من المحلة الكبرى.

ثم علا صوت سيف النصر فيما يشبه الصراخ: ماذا تفعل يا شيخ زفت؟!

كان جابر برغوت قد نزع جلبابه أمام النصبة، وقذف به في أرضية القهوة. بدت ثيابه الداخلية متهرئة، ومثقوبة.

قال جابر برغوت: طلعت من هدومي!

قال سيف النصر: اطلع من هدومك، أو مت … استر نفسك!

قال جابر برغوت: استروا أنفسكم أولًا، أو يحل عليكم غضب سيدي الأنفوشي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤