المسافر بلا زاد

قال الرسول :

«اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.»

قال عبد السلام بن مشيش لأبي الحسن الشاذلي:

«يا أبا الحسن، اهرب من خير الناس أكثر من أن تهرب من شرِّهم، فإن خيرهم يصيبك في قلبك، وشرهم يصيبك في بدنك. ولأنْ تُصاب في بدنك، خير من أن تُصاب في قلبك. ولَعدوٌّ تصل به إلى ربك، خير من حبيب يقطعك عن ربك.»

قال أبو العباس المرسي:

«والله لا يموت هذا الشاب، حتى يكون داعيًا يدعو إلى الله.»

فزَّ من كرسيه — بلا توقُّع — أمام دكان الحاج محمد صبرة. اكتفى بتحيةٍ من يده، وأشار إلى سيارة تاكسي: محطة الرمل؟

بدت له القعدة كابوسًا عليه أن يتخلَّص منه. لطمت الأمواج جزيرته التي أخفاها بسِنِي عمره، فكادت تُعلن أسرارها.

قال المعلم أحمد الزردوني: لماذا لا تزوج محمود؟

وومضت على شفتَيه ابتسامة: داير مثل الدايخ في شوارع بحري.

ربت عباس الخوالقة صدره: إذا حدث زواج في أسرتي … فسأكون أنا المتزوج!

قال حمادة بك: ربما الولد يحب الصرمحة … ولا يريد الزواج.

قال عباس الخوالقة: أعرف صديقًا خان زوجته مع العالمة ليلة الزفاف!

قال الزردوني: هذا أهوَن من رجل أعرفه يترك فراش زوجته ويتسلَّل إلى الخادمة في المطبخ.

قال عباس الخوالقة: حب الخادمات مبدأ يقتضيه حُب التنوُّع!

جاراهم في الضحك، وإنْ تراقص — في الأفق — سره الذي أخفاه بأعوام العمر. شقة الزردوني قبالة البيت المهجور. هل رأى تسلُّل أنسية إلى داخل البيت وهو يتبعها؟ هل يلمِّح بما يورِّطه، فيروي، ويفضح نفسه. أحسَّ باختناق، شيء لم يتبينه، ضغط على صدره، واعتصره.

بدَت له الجلسة مُقبِضة، فانصرف.

ميَّز جابر برغوت — في ميدان أبو العباس — يحرص على ارتداء زي المشايخ؛ القفطان والجبة والحزام الأخضر. ويُلقي على كتفه شالًا متآكِل الأطراف من الكشمير، ويضع على رأسه — موضع العمامة — طاقية شبيكة، ويدسُّ قدمَيه في قبقاب خشبي يُصدِر صوتًا ذي إيقاع، وإنْ تألَّق الوجه، والْتَمعَت العينان، وتبدَّت النشوة في المشية والتصرُّفات.

•••

تبدَّل حاله منذ ظهر له سيدي ياقوت العرش. انقلب وقته سكينة، لا يخترقها الزحام ولا الأصوات المتلاغطة من حوله. نوع من التبتُّل والتوجُّه إلى الذات المُطلَقة. الزهد الحقيقي هو فراغ القلب مما سوى الله. بادر إلى الطاعة، والانتهاء من كل ما قد يحمل شُبهة المعصية. أكثر من الندم والاستغفار والتوبة على كل ما فعل في أيام سالفة، ما يذكره وما لا يذكره، ما اعتبره صوابًا، لكنه — ربما — كان عين الخطأ. صفت الأوقات عن شوب الأكدار، وتطهرت السريرة، فلم يرَ آثار نفسه، ولا تعلَّق بالأسباب أو العلائق الخارجية. تجرَّد لعبادة الله، وانقطع لذكره، يذكره بقلبه لا بلسانه، ويؤدي الصلوات لأوقاتها، ويسجد فيطيل السجود والدعاء. يركب سفينة النجاة، تمضي فتستوي به على جودي الوصول، مسلوب الحول والقوة والإرادة والاختيار. زهد في الدنيا، وأعرضَ عن لذاتها، وعمرت النفس بحب الله تعالى، وعانى التألُّم من الذين أسرفوا على أنفسهم.

حرص على طلب العلم، ومجالسة العلماء، وصحبة أئمة المساجد، حتى يتعلَّم منهم ويسمع الخير. تنقل بين دروس المغرب في أبو العباس والبوصيري ونصر الدين وطاهر بك وعبد الرحمن وغيرها من جوامع الحي. حتى الزوايا التي عقد أئمتها حلقات الدرس، اختلف إليها. سأل، وأنصتَ، وناقش، وخرج بما يفيد.

بعدت به قدماه عن جامع ياقوت العرش. في باله صورة ولي الله، وإلحاحه في أن ينشد سيدي الأنفوشي … لكن نفسه منعته من العودة إلى الجامع بعد أن تكررت الرؤيا، تطلب المجاهدة والاشتغال بما هو أهم من فتح الجامع، وإغلاقه، والعناية بالمقصورة والصحن والميضأة.

لم يشغل نفسه بالقضية التي أمره سيدي ياقوت العرش أن يلتقي بولي الله الأنفوشي من أجلها: هل تخص عامة المسلمين، أو أهل بحري، أو ناسًا يعرفهم أو لا يعرفهم. قال القطب كلمته. عليه — وإن لم يكُن في مراتب الصوفية — أن يلزم الإنصات والخشوع والتلبية.

تألَّقَت فيوضات من النور لا يدري مصدرها، ولا إلى أين تتجه. غطس في بحر من الأضواء المتماوجة. أدرك أنه في قلب البحر دون أن يعرف السباحة. اجتذبته التصوُّرات اجتذاب المغناطيس للحديد. انطلقت أمامه — بلا حدود — عوالم التجلِّي والمكاشفة والطوالع واللوامع والتمكين، احتوته تمامًا، وإنْ فضَّل أن ينسحب على نفسه. وقف عند حظه من رحمة الله تعالى في مقام المعاملة والرياضة. مجرَّد سالك لا تؤهله ذاته لمشيخة ولا ولاية. تتستر عنه الأشياء، فلا يشاهدها.

لم يتمنَّ أن يشاهد الملائكة، ولا أرواح الأنبياء، أو يستمع إلى أصوات علوية. ولا دار في باله أنه يطير — يومًا — أو يمشي على الماء، أو يكلم الحيوان، أو يفعل المعجزات، ولا شغله إقبال الخلق، وتربية المهابة في قلوبهم. زهد في الدنيا، فلا يطلب الكرامة أو خوارق العادات. لم يعُد يشغله حتى البعث والقيامة والحساب والصراط والميزان والجنة والنار. هو ليس من الأولياء، ولا من الأبدال، ولا يملك القدرة على خير ولا شر ولا نفع ولا أذًى. ما يأمله، ويسعى إليه، أن ينفِّذ أوامر أولياء الله بالكلية، لا ينقص منها ولا يضيف إليها، ولا يبتدع.

استفرغ جهده وطاقته في طلب ولي الله الأنفوشي: ضريحه، أو مقامه، أو ما ينبئ عن وجوده بين أولياء الله في الحي. يشقيه أن ولي الله الأنفوشي لم يُعلن له عن موضعه، ولو في رؤيا منامية. لو أنه ظهر — حقيقة أو طيفًا — وقدَّم طلباته وأوامره، فسيفعل ما يؤمر به. ثمَّة رموز وإشارات لا يفهمها إلا الأقطاب — لهم الإجلال، والإعظام، والمحل الرفيع، والقول الجميل — ولا تُفشى إلا لهم. أجادوا السباحة في البحار العالية، ترشدهم منارات الأسرار الإلهية.

رحل قلبه من دنيا الناس. لم يبقَ فيه إلا محبة العلي القدير. لزم العزلة والصمت والجوع والسهر، وانفرد عن مخالطة أسرته. من تعود أفخاذ النساء لا يفلح. نهى الأقطاب السائر في الصوفية عن الزواج، فلا يخلو من علقة، ويمنع الهمة على الحق تعالى. المرأة تمنع من كثرة الاشتغال بالله وقيام الليل وصيام النهار، بتمكن خواطر النساء من باطنه. يتسلط على المرء خوف من الفقر وخشية على الأبناء، ويركن إلى الدنيا. أدرك أنه ليس من أهل التصوف، فلا تعنيه مقامات يدخلها، ولا أحوال يغازلها، أو يسكن إليها، ويعتنقها. أبقى على المرأة. تركها كأنها أرملة. أوكل أمرها وأمر عياله إلى الله تعالى، وإن حرص على القيام بفرضهم. ترك لها ما يعين الأولاد على مواجهة أيامهم، وانطلق إلى حيث ينشد تحقيق أوامر ياقوت العرش. تعلق بأكابر الأولياء. دخل تحت حضانتهم، ولزم عشهم، وتحبب إليهم، بدوام زيارة الجوامع والمقامات والأضرحة. قرأ الفاتحة، وطلب الرأي السديد أمام مقامات أبو العباس والبوصيري وياقوت العرش ونصر الدين وكظمان وبكير والعدوي والواسطي والراس والمسيري وأبو الفتح وعبد الرحمن وكشك والشوربجي والشيخ إبراهيم والشيخة مدورة. حتى مجموعة الأولياء الذين جمعوا في مقام واحد، أطال التوقف أمامهم، وطلب الرأي والمشورة. أرواحهم طيور الحضرة، تطير في الملكوت، يسكنون فيه، لا يخرجون منه أبدًا. لا يراهم، وإن لامسته أنفاسهم. مال إلى الذلة والانكسار والخشوع والسكينة والتخلص من رق الشهوات. أهمل ما تشتهيه النفوس من أنواع المآكل والمشارب والملابس والمراكب، حتى يلتقط أصدق الثمار. وعزف عن اللحم، خوفًا من عارض شهوة النساء. وكان يأخذ ما يعطيه الناس له. لا يمد يده حتى يتيقن أن المعطي هو الله. يرفض اعتبار ما يأخذ صدقة أو هبة. هذه هي الطريق التي اختارها أولياء الله. عليه أن يسلكها، لا تشغله أسئلة الناس، ولا مؤاخذاتهم، ولا ملاحظاتهم المعيبة.

رأى في إدبار الخلق عنه ما يدفعه إلى الإقبال على ما يحياه من المجاهدة. انقطع إلى العبادة، وتجرَّد إلى الصلاة والذكر والتلاوة، وأكثر من قراءة الأوراد والأحزاب. عُني بتنقية باطنه من الشواغل، وعوَّد نفسه رياضة النفس ومجاهدة الطبع، وتهيَّأ لقبول ما يقوى على تحمُّله من الأسرار والمواهب. هو من أهل الظاهر، ليس بوسعه أن يفهم ما لدى أهل الباطن. أفعالهم وأقوالهم أسرار لا يفهمهما إلا أهلها، لكنه إذا جد في السر وصل، وانتقل من ضِيق الأكوان، ورحل إلى حيث ينبغي أن يذهب، فيظفر بما تطلَّع إليه من أنوار المواجهة، أنوار المجاهدة والمكابدة، أنوار المشاهدة والمكالمة، أنوار الحقيقة، تكشف ظلمة البطالة والتقصير والمساوئ والعيوب. صار على المحجة البيضاء. انفرد القلب بالله. خلص مما سواه. حاول فهم الدقائق والغوامض التي لا يحسن استجلاء غوامضها. تتفضَّل القدرة بالنور. تشرق شموس الفهم والمعرفة، وينكشف الغطاء، وتنزل الرحمة، وترافقه الطمأنينة، وتتحقَّق المحبة، ويَسري الصدق في الكلمة. تنفرط حبَّات الضوء من عناقيدها، فيتألَّق المكان كالنهار.

خلَّف السيالة وراءه، ومضى إلى طريق الأحياء المائية وقلعة قايتباي.

كان الجو شتويًّا. السماء ملبَّدة بالغيوم، والأمواج ترتفع عاليًا، تتكسَّر فوق الحواجز الأسمنتية، وسور الكورنيش. يتناثر رذاذها على الرصيف، وامتداد الطريق، وطيور النورس تشكل قوسًا يندفع بامتداد الساحل.

قال له علي الراكشي: عرفت من الجد السخاوي أن ولي الله الأنفوشي يرقد في الضريح المسمى باسمه في قلعة قايتباي.

وهو يداعب ذقنه بأصابعه: قلبي يحدثني أن الضريح بلا ولي يرقد تحته.

بدا عدم الفهم في بحلقة عينَيه: لماذا؟

قال جابر برغوت: لا بد لكل ولي من كرامات في حياته، ومكاشفات بعد موته.

بطَّن الراكشي صوته بالود: لعلَّها حدثت وتحدث دون أن نعرف.

استعاد ما قاله علي الراكشي وهو يمضي إلى الضريح.

طال استناده إلى جدار غرفة الضريح الغارق في الظلمة. الضوء يغيب إلى مدخل القلعة، ظل — لدقائق — في زيارته الأولى، حتى توضحت — بالكاد — ملامح المكان. فتحت الغرفة عن آخِرها، فهي بلا باب. والضريح — في المدخل — من الحجر الجيري. تواصلت الأيام دون أن يبين الساكن في الضريح عن المعنى الذي يترقبه. يشرق المكان من نور ولي الله. تملأ بدنه، وتنبعث من وجوده. يمضي به في طريق الخصوص والعموم والحقائق والأسرار وحلاوة اللفظ ووجازته، والاشتمال على المعاني الكثيرة. يعرف ما لم يكُن يعرف من علم الأسماء والحروف والدوائر. تكوم زاد الترقُّب بتردُّد النسوة وقت صلاة الجمعة، شغلته الرسالة المرتقبة، فلم يعُد يؤديها، ينشدن الإنجاب والبرء من العلة والنصفة والمدد.

أهمل قول الموظف الشاب في جلسته على البوابة الخشبية الهائلة لمبنى القلعة. هو ولي الله الأنفوشي، يقصده الناس لطلب الكرامات. يرى ما لا يراه الناس، تتكشَّف له خبيئات نفوسهم، ويدلُّهم إلى الطريق: المعرفة بالله والخشية ودوام المراقبة والمتابعة والثقة بالله والمسارعة لامتثال أوامره وصدق التوكُّل عليه.

وهو يحاذر في عبور الطريق عند انحناءة الترام، ترامت الأصوات من ناحية القلعة. رأى الزحام والطاولات والطبالي. هنا كان يقف علي الراكشي يبيع ويشتري. لو أنه ظلَّ في الدنيا، لأصبح قطب غوث، يأخذ بأيدي المريدين وطالبي المدد، يدلُّهم على الطريق الصحيحة، وما يجب فعله. لو أنه ظلَّ إلى جواره، ربما منح أخذ العهد على يدَيه، وصار له أستاذًا، شيخًا يهتدي به، يرسم له طريق الوصول إلى الله. الأسرار الإلهية لا تهب نفسها إلا لمَن حفظ الألفاظ والإشارة والسر. يُسانده في مهمته الصعبة، وينصحه، ويرشده إلى ما فيه الصواب. هو ولي الله. دلَّه يوسف بدوي على الطريق، وإنْ سار فيها بمفرده، يتلقَّى الفيوضات من مصادر لا يراها أحد.

•••

نزل من التاكسي في طريق الكورنيش، قبالة حديقة سعد زغلول.

تأمل — بعفوية — مئذنة أبو العباس وامتدادات البيوت حتى قلعة قايتباي. ماذا قال جلساء القعدة بعد انصرافه المفاجئ؟ هل جاسوا في اتهامات سعيد النقيب، فتبدى المعنى الذي يضنيه، ويحرص على إخفائه؟ ولماذا لحقه عباس الخوالقة بالقول «الدنيا لن تطير» وهو يتابع خطواته السريعة، بعيدًا عن الساحة الترابية؟

غاب عنه المكان الذي يقصده: هل يذهب إلى الشقة المُغلَقة في الشاطبي، أو إلى بيت العائلة بالقرب منه؟ أو يكتفي بالجلوس — منفردًا — في على كيفك، أو التريانون؟

منذ صحت — في داخله — فكرة الترشيح للانتخابات، قصر جلساته على قعدة العصر أمام دكان الحاج محمد صبرة، ودرس المغرب في أبو العباس، وربما تردَّد على قهوة الزردوني. غاب عن أماكنه القديمة في أثينيوس والتريانون وديليس وباسترودس ومونسنيور. تعرف فيها إلى صداقات ظلَّت قائمة، أو تفرَّقت. بدت — بتوالي الأيام — كالأصداء البعيدة، لا يذكر ملامحها الواضحة.

عبر الطريق إلى الناحية المقابلة.

خلَّف وراءه الحديقة وموقف الحانطور وقضبان الترام والسيارات العابرة. مال ناحية مبنى الغرفة التجارية، إلى شارع سعد زغلول. بدا كمَن يبحث عن شيء محدَّد، وإن لم يدرك طبيعته تمامًا. توقف أمام الدكاكين الصغيرة المتجاورة. دفعه المعروض في الفاترينات إلى دخول الدكان المجاور لكافيتريا البن البرازيلي. طال تأمُّله للملابس المُعلَّقة على الشماعات، أو على الموديلات الخشبية. أهمل النظرات المتسائلة، وهو يتنقل بين الممرات الضيِّقة، على جانبَيها فساتين وبلوزات وجونلات وبِدَل نسائية.

داخلته نشوة وهو يتحسَّس — بأصابع متردِّدة — قميص نوم من الحرير. انداحت مشاعر موارة لا يدري كنهها، ولا كيف يتصرف.

تنبَّه لقول البائع: هل تريد شيئًا محددًا؟

لحقته صورة جلسته مع سعيد النقيب وسط الرجال، أمام دكان محمد صبرة، يفضحه بالثياب النسائية في دولاب غرفة نومه. تراخت يده الممدودة إلى جانبه، وعاد إلى الطريق.

تلفَّت — على الناصية — إلى صفية زغلول وامتداده إلى الكورنيش، وامتداد سعد زغلول إلى الميدان الواسع، يبين في زحام المدى مئذنة القائد إبراهيم.

لمح — من بُعد — ترام الرمل، يتوزَّع ركابه في المحطة النهائية.

أسرعت خطواته ليلحق — بصدره — استقبال راكبي التراموايات التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤