أنس المحبة

قال البوصيري:

«كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله ، منها ما كان اقترحه عليَّ الصاحب زين العابدين يعقوب بن الزبير. ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل نصفي، ففكَّرتُ في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكرَّرتُ إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسَّلت ونمت، فرأيت النبي ، فمسح على وجعي بيده المباركة، وألقى عليَّ بردة، فانتبهت، ووجدت فيَّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكُن أعلمت بذلك أحدًا، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحتَ بها رسول الله ، فقلت: أيُّها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشَد بين يدَي رسول الله، فرأيت رسول الله يتمايل، وأعجبته، وألقى على مَن أنشدها بردة. فأعطيتُه إيَّاها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام، إلى أن اتصل بالصاحب بهاء الدين بن حنا، فبعث إليَّ، وأخذها، وحلف ألَّا يسمعها إلَّا قائمًا حافيًا مكشوف الرأس، وكان يحب سماعها هو وأهل بيته، ثم إنه بعد ذلك أدرك سعد الدين الفار في الموقع رمد، أشرف منه على العمى، فرأى في المنام قائلًا يقول له: اذهب إلى الصاحب، وخذ البردة، واجعلها على عينَيك، فتعافى بإذن الله عز وجل. فأتى إليَّ الصاحب، وذكر منامه، فقال: ما أعرف عندي من أثر النبي بُرْدة، ثم فكر ساعة وقال: لعل المراد قصيدة البردة التي للبوصيري. يا ياقوت، افتح الصندوق الذي فيه الآثار، وأخرج القصيدة التي للبوصيري، وأْتِ بها، فأخذها سعد الدين، ووضعها على عينَيه، فعُوفي … ومن ثَم سُمِّيَت البردة، والله أعلم.»

صحا، فوجد العتمة قد ملأت الحجرة.

تحسَّس المنبه على الكومودينو. دقَّق، فلم يستطِع تبيُّن الوقت.

فز متسائلًا: هل جاء الرجل؟

مضى ناحية الباب.

ضغط زر النور، فتوضَّحَت المرئيات. اكتشف أنه لم يبدِّل ملابسه. نام بالقميص والبنطلون والحذاء.

وجَّه الدعوة إلى إبراهيم سيف النصر لمجرد المجاملة. لم يتصوَّر أنه سيلبِّيها. انقطعت الزيارات عن البيت، منذ أصبح وحيدًا. حتى زيارات الأقارب من بركة غطاس، تباعدت، ثم انتهت.

شغله التفكير: كيف يستقبل الرجل؟ أين يجلسان؟ ماذا يقدم له؟ وهل يبدأ الكلام، أو ينتظر البداية التي يحددها إبراهيم سيف النصر؟ وماذا ستكون نظرة الرجل إلى الشقة؟ هل تبدو مرتبة، أو أنه سيلحظ ما غاب عن انتباهه؟ هل يؤكد على أنسية فتأتي في موعد الزيارة، وتزيل ارتباكه؟

اعتزم دعوته — بمجرَّد أن يدخل الشقة — للجلوس في الشرفة المُطلَّة على سيدي البوصيري. مدخل للتحدُّث عن صاحب المقام: قرأ عن ولي الله ما يُعينه على الكلام لساعات متواصلة. إذا جاءت سيرة السياسة، خاض بحارها وهو لا يقوى على مجرَّد العوم. يُنصت إلى أحاديث الرياضة والفن. حتى قضايا الدين يفضل الإنصات حين تناقش أمامه.

قال إبراهيم سيف النصر وهو يتأمل ما حوله: شقة واسعة.

ثم وهو يتجه إليه بنظرة متصعبة: تحيا بمفردك.

اغتصب ابتسامة: مَن كانوا يقيمون معي … استقلوا بحياتهم.

– أصدقاء؟

– لا … أُختان … تزوجتا.

– عقبالك.

أطلق من أنفه ضحكة مبتورة: فات القطار.

وتهدَّج صوته: يبدو أني سأظل في هذا السجن حتى الموت.

شعر بالرذاذ يتناثر من فمه. مسح شفتَيه بظهر كفه.

أعاد سيف النصر الكلمة: الموت!

وقطب جبهته: كلمة قاسية!

– إنه الصديق المتوقَّع لمَن يحيا وحيدًا.

بعد أن أغلق الباب، مضى إلى داخل الشقة — بخطوات متباطئة — ووقف وحيدًا في الصالة. كانت كل لمباتها مضاءة.

لم يتصوَّر أن حياته مع أختَيه تنتهي بهذه السرعة، هذه البساطة.

الزواج؟ ماذا يعني؟ وماذا تعني البداية والاستمرار إن كانت هذه هي النهاية؟ وماذا تعني الحياة والموت؟ تسرَّبَت أعوام العمر. غافلته ومضت، كأنها سرقته، أو سرقت منه.

أخلى سيف النصر وجهه للدهشة: السجن … الموت … تُسمِّي هذه الشقة الواسعة سجنًا؟

وهو يضغط على الكلمات: ما دمت تحيا بمفردك، فأنت في سجن.

وتنهَّد: هذه تجربتي.

كان يرتدي بنطلونًا أزرق، وفانلة من الصوف سوداء بلا رقبة، وبأكمام طويلة، ويضع طربوشه على الترابيزة بجانبه. فإذا ارتداه، حرص أن يطمئن إلى اتساقه على رأسه، وأن يكون الزر في الخلف تمامًا. يمدُّ إصبعَين — بين حين وآخَر — إلى جيب البنطلون العلوي، الصغير، يخرج الساعة ذات الكاتينة، يتأكد من الوقت، ثم يُعيدها. وكان الرجل — مع لثغته الواضحة — يخطف الكلمات. أعطاه انتباهه. وربما اكتفى بالمعنى الكلِّي لما يقول، لا يتوقَّف عند كلمة أو عبارة.

هزَّ رأسه، وسرح في الفراغ: مفروض أن أبدأ في زيارة مقبرة العائلة في العامود.

هتف إبراهيم سيف النصر: يا رجل … يأخذك الموت وأنت حي؟!

قال الكاشف: ما دمت قد فُصلت من الحياة، فإن عليَّ أن أُعنَى بالموت!

ثم بلهجة متصعبة: منذ أُحِلت إلى المعاش … بدأ العد التنازلي!

قال سيف النصر: كيف تواجه الأمر لو طال العد؟

قال الكاشف: خيل الحكومة تواجه القتل في نهاية أيامها … أما موظفو الحكومة فإنهم يكتفون بإحالتهم إلى المعاش.

استطرد سيف النصر: لأن الله يحرم قتل البشر.

– يعني لولا التحريم، فالمفروض أن نُقتل!

تدلَّت يداه المضمومتان: زرتك للمسامرة لا للتكلُّم في الموت.

ورسم على شفتَيه بسمة عابثة: هل قرأت الصحف؟

– لا … لماذا؟

– صدر أمر عسكري بإلغاء البغاء.

جاراه في الابتسام: الزنا مكانه كوم بكير وليس في حي أولياء الله!

•••

وجد في مكتبة البوصيري ما لم يكُن قرأه. أزمع أن يقضي الوقت — منذ صلاة الظهر إلى موعد الوظيفة — للعودة إلى البيت. المكتبة مبذولة لمَن يريد القراءة. مكتبة أبو العباس في حجرة مُغلَقة، المخطوطات وكتب التراث وُضع القفل عليها، فلا يتيسَّر إلَّا قراءة القرآن، وبعض كتب الأوراد.

كان يفضل الوضوء في البيت.

ينزل بكامل ثيابه إلى الجامع. يدخل من الباب الخلفي، المطل على شارع الأباصيري. يا دوب يعبُر الشارع الضيِّق من البيت إلى الباب المواجه. ربما أطال الوقفة أوسط الصحن المكشوف. يتأمل الميضأة السداسية الشكل من رخام المرمر الأبيض، ثبتت في جنباتها الحنفيات. يُعيد قراءة آيات القرآن، والبردة المنقوشة في الجدران الأربعة أعلى صحن الجامع. مكتوبة بخط فارسي جميل، موشَّى بالذهب، في إطارات مستطيلة، ذات إزارات زرقاء. عرف — لطول تأمُّله أبيات البردة — موضع كل بيت في مكانه. الخدوش التي لحقت به، وتساقط الطلاء.

أعادته سيرة البوصيري — بقوة — إلى أيام الوظيفة القريبة. هل بدل مضي مئات الأعوام بين الوظيفة، وما صارت إليه؟ هل كانت وظائف الدولة مطلوبة، مثلما هو الحال عليه في هذا الزمان؟

تمنى لو أُتيحَت له الحياة في رحاب الماضي الجميل، العهود التي مضت، وفراديس الأسلاف. القرن السابع الهجري، قرن اليقين الديني والصوفية والأقطاب: الشاذلي وأبو العباس والدسوقي والبدوي والصباغ والدريني وغيرهم. حتى الارتحال بالذاكرة عشقه، امتدادات التصوُّر إلى ما لا يدرك كنهه. دخل صحن الجامع. هدوء ما بعد صلاة الظهر. مسحت عيناه أعلى الجدران:

يا أكرم الرسل ما لي مَن ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العَمِمِ
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تحلَّى باسم منتقمِ
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلمِ

الكواكب الدرية في مدح خير البرية.

لم يعرف أن البردة هو اسمها. حفظه الأول في المطولات. استمع إليها في ليالي المولد النبوي، وفي موالد البوصيري وأبو العباس وياقوت العرش، وتمايل بها الذاكرون في الحضرة. يفرغ المصلُّون من صلاة الجمعة. يبقى المريدون. يتقابلون جلوسًا في صفين، في يد كل مريد نسخة من البردة، مطبوعة بخط النسخ، ومشكولة بخط واضح. تعلو الأصوات بتلاوتها. الصوت خفيض في البداية. يعلو ويعلو. تردد صداه جدران الصحن الواسع. قرأ الأبيات التي حفظها. عرف أن ما حفظه هو البردة. تقرأ في الفجر، وفي المساء المتأخر، وتقرأ في كل حين. هي البرأة لأن تلاوتها تشفي من الأمراض، وتفرِّج الكروب. شرط قراءتها الطهارة والوضوء واستقبال القبلة. تعقد لقراءتها الحلقات في المساجد، وفي حفلات عقد القِران، وحفلات الزفاف، وفي الجنازات، تسير الجنازة في شارع الميدان إلى نهايته. تؤدي الصلاة على الميت في جامع الشيخ إبراهيم، ثم تمضي إلى مقابر العامود، يتقدَّمها المنشدون، تعلو أصواتهم بأجزاء من «دلائل الخيرات» وبردة البوصيري، تنشد في لحظات دفن الموتى. حتى العتاقات التي يقيمها أهل الموتى في ليلة الأربعين، كانت قراءة البردة هي التالية لتلاوة القرآن ودلائل الخيرات.

تخلى عن حرصه في الوضوء قبل أن يغادر البيت. استعاذ بالله من الشيطان، وبسمل وحوقل، وتوضَّأ بغير عجلة. لم يكُن الوقت وقت صلاة. ولم يدخل الجامع لهدف. بدَت الأمور في داخله غامضة، ومشوَّشة. يُعاني الوحدة، والحزن الذي لا يدري بواعثه. ما يشبه الهم يناوش النفس، خواء يمتد بالتآكل إلى داخل الصدر.

طاف حول المقام، وقرأ الفاتحة.

من تحدث للمرة الأولى عن الحدث الذي لم يشهد بحري — وربما الإسكندرية كلها — قبله، ولا بعده؟ إمام أبو العباس؟ إبراهيم سيف النصر؟ أدهم أبو حمد؟ من أضاف إلى الحدث، وحشاه بالتفصيلات التي ربما لم تحدث؟

لم يعُد حلمًا أو يشبهه. هو معجزة، كرامة، تضاف إلى الكثير الذي تحقق في حياة سلطان الإسكندرية، وبعد وفاته.

هل استغاث به السلطان — فعلًا — فلم يُجبه؟ هل طلب العون من ياقوت العرش ونصر الدين والأولياء في الميدان، فلم يغادروا أضرحتهم؟

رفض التصور أن ولي الله يرفض الغوث. هو الذي أمضى حياته محرومًا من العمل، أو منفيًّا في قرية نائية، يعاني الوظيفة الصغيرة، ومؤامرات الموظفين الكبار. يخشون أذاه، يحرِّضونه أن يكون واحدًا منهم، يواجهون رفضه بالتآمُر، حتى يواجه — وأسرته — مصيرًا مؤلمًا. لم تكُن الحياة مركبًا يسهل الإبحار فيه. كانت تثقله المطالب، ونفقة العيال، وجذب خيط الرزق من ثقب إبرة. حتى حمارته الصغيرة، استعارها ناظر الشرقية، فلم يُعِدها. أيقن أنه يستطيع أن يحصل على ما يريد من موظفيه. لم يُدركه خوف، وكتب قصيدة على لسان الحمارة، تعترض على ما فعل الناظر. تابعت قراءاته سعيه الدءوب للالتحاق بوظيفة في الدولة، حتى أصبح مباشرًا في بلبيس. بعد أن دفع وظيفته ثمنًا لدعوته إلى تطهير الدواوين والإدارات، أعيد إلى الوظيفة، كاتبًا مباشرًا بالمحلة الكبرى، ولم تتغيَّر صورة الوظيفة عما كانت عليه في بلبيس. دواوين الدولة قضية البوصيري التي سبقت ما عداها من قضايا. همه مهاجمة الموظفين والولاة، كشف المفاسد والانحرافات.

الأوابد.

قصائد لم ينظم مثلها شاعر. تعبير عما شعر به الناس في زمان حياته. أثمرت القصائد في أيام المنصور قلاوون، ثم جفت الثمار بعد وفاته. خمسة عشر سلطانًا، توالت عهودهم، والبوصيري يمارس الوظيفة، وينتقدها:

وما أخشى على أموال مصر
سوى من معشر يتأولونا

حين يظهر الرسول في منام امرئ، فإنه يكون قد ظهر فعلًا، لا حلم ولا توهُّم. هو الرسول حقيقة، وما يقوله هو قول الرسول. «مَن رآني في المنام، فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثَّل بي.» يصدق رواية التوسل بالقصيدة للشفاء من الشلل الذي أصاب جنب البوصيري الأيمن، هي أقرب إلى الصواب. وشُفي كذلك كثيرون ممَّن أوشكوا على العمى، فهي البردة لأنها باعث شفاء. يسلم نفسه لتصور النبي وهو يخلع على البوصيري بردته. ينشده القصيدة، فيخلع عليه البردة — في الحلم — مثلما فعل مع كعب بن زهير في اليقظة. كان الشلل قد هد الجسد المتعب، وأبطل نصفه. عجز عن التقلب في الفراش من جانب إلى آخَر. فكَّر في أن يكتب بردته. كتبها، واستشفع بها إلى الله أن يعافيه، وكرَّر إنشادها، وبكى، ودعا، وتوسَّل، ونام، فرأى الرسول في رؤيا كالحلم. أنشد البوصيري أبياتًا من البردة، وعندما بلغ القول: فمبلغ العلم فيه أنه بشر، توقف. هل أتم الرسول بعض أبيات القصيدة — بالفعل — في الرؤيا، حين لاحظ إخفاق الشاعر في إتمامها؟ فماذا عن قول القرآن: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ؟

قال الرسول: قُل يا إمام.

قال البوصيري: إني لم أُوفَّق للمصراع الثاني.

قال الرسول: قل يا إمام: وإنه خيرُ خلقِ الله كلهم.

ومسح وجه البوصيري بيده، وتفل في عينَيه، وخلع عليه بردته. صار — بما حدث — إمام الواصلين. رُقِّي إلى مرتبة لم يبلغها أحد من السادة الأولياء، أو ذوي الكرامات. رؤية الرسول لا يُدانيها شرف.

قام من نومه مُعافى البدن. لقيه صوفي — صباح اليوم التالي — فقال: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله!

تساءل بالدهشة: أيها؟

قال الرجل: التي أنشدتها في مرضك.

وأعاد الأبيات الأولى من البردة، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشَد بين يدَي رسول الله، ورأيت رسول الله يتمايل، وأعجبته، وألقى على مَن أنشدها بردة.

أعطى البوصيري البردة إلى الصوفي. مضى في الشوارع والأسواق كما لو لم يكُن المرض أقعده شهورًا.

ذاعت البردة في مصر والشام والمغرب والحجاز واليمن. هي العمدة في حلقات الذكر والمدائح النبوية والإنشاد. صارت البردة، والبرأة. أسرف الناس في تبجيلها، وإن استحقت ما هو أفضل من التبجيل.

أشفق على هؤلاء الذين يضيعون الوقت والجهد في الطواف على الأولياء الذين يشغى بهم الميدان، والشوارع القريبة. لو أنهم قصدوا مقام سيدي البوصيري، عرضوا شكاياتهم وأحوالهم، وما يطلبون، فإن ولي الله سيقدم لهم من فيض كراماته ومكاشفاته ومدده، ما يحقِّق المأمول. لم يكُن شيخ طريقة. هو صاحب البردة. بلغ بها مقام الغوئية الكبرى … لكل بيت منها فائدة. بيت أمان من الفقر، وبيت أمان من الطاعون، وبيت يشفي من الصداع والأوجاع، ولها فوائدها في التمائم والأحجبة. تُعلق على الرءوس، وتحقِّق الكثير من أنواع البركة، وتلتمس الفرج من كل ضيق.

رفض التصور أن البوصيري يرفض إغاثة السلطان. حرص أن ينتقل إلى الإسكندرية، ليلزم أستاذه المرسي، يحضر مجالس شيخه، يفيد من علمه وفيوضه.

•••

قال إبراهيم سيف النصر: ولدت في بحري … ولا أتذكر أني الْتقيت بك!

كان يكره الجلوس في القهاوي. لم يجلس إلَّا على قهوة وادي النيل بميدان المنشية، مرَّتَين أو ثلاثًا، حين فاجأه بالزيارة — في الحقانية — أقارب من بركة غطاس. حتى سكان البيت لم يكُن يدخل معهم في كلام. يُلقي السلام أو يرد عليه، ويمضي. لا يزور ولا يُزار. وإذا فتح الباب جعله مواربًا. وكان يحرص على النظر إلى الأرض، فلا تقع عيناه على مَن يفاجئه بالتحية. يعقب التحية كلام، بداية طريق لا يعرف نهايتها، وإن كان — في كل الأحوال — لا يحبها.

قال: أنا من بحري … ولست منه!

قال له أبوه — يومًا — عن الأصول. تبدأ في المغرب، ثم قدمت بالحج إلى مصر، فاستقرت. هل ينتسب إلى أصول واحدة مع البوصيري محمد بن سعيد حماد، المكنَّى بشرف الدين؟

حدجه بنظرة متسائلة: كيف؟

– أحيا في الحي منذ مولدي … لكنني لم أخرج إلَّا إلى العمل.

تذكر أن أباه كان يُرسله إلى شارع الميدان، منذ أيام قليلة. يمنحه تعريفة ليشتري بقالة البيت من الخواجة ميخاليدس، على ناصية وكالة الليمون. هل غافله الزمن، وسرقه دون أن يدري؟!

ثم وهو يمسح اللعاب من جانبي فمه: أنا في الحقانية منذ المحاكم المختلطة.

قال سيف النصر كالمتذكر: ليس بعيدًا نقل سلطة المختلطة إلى المحاكم الوطنية.

وتأمله بنظرة دهشة: أليس لك أصدقاء؟!

افترت شفتاه عن ابتسامة هادئة: تعرفت إليهم في الفترة الأخيرة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤