الفصل الثالث

سيجموند فرويد: فقدان الشفافية

سيستند علم النفس على أساس جديد، أساس الاكتساب اللازم للقوى والقدرات العقلية عن طريق التدرج. (داروين، «أصل الأنواع» (١٨٥٩)، ٤٥٨)

(١) كوبرنيكوس وداروين وفرويد

يمتلك البشر ميلًا غريزيًّا لدرء المستجدات الفكرية. (فرويد، «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي» (١٩١٦أ)، ٢١٤)

كان فرويد يعرف أسلافه البارزين كوبرنيكوس وداروين على نحو تام. تعود الصورة الذاتية المهيمنة في القرن العشرين للبشر بأنهم «حالات نفسية» إلى حد بعيد إلى فرويد، الذي كان له تأثير كبير على لغتنا وفكرنا. اخترقت المصطلحات الفرويدية مفرداتنا، ووفرت لنا طرقًا مُحكَمَة ﻟ «فهم» الأحلام والزلات الفرويدية. على الرغم من طلبات فرويد بالاحترام على المستوى العلمي، فإن نظرية التحليل النفسي لم تُقبل بالإجماع كمساهمة في الفكر العلمي. وثمة أسباب وجيهة لهذا التردد. ينتمي فرويد إلى مجموعة من المفكرين في العالم الغربي كان تأثيرهم على طريقة تفكيرنا مهمًّا، لكن كان يُنظَر إلى إسهاماتهم في العلم بوصفها قليلة الأهمية. إذا كانت النظريتان الكوبرنيكية والداروينية ممثلتَيْن مقبولتَيْن للثورات العلمية، فإن نظرية فرويد مرشحة كثورة في الفكر؛ فقد ثارت الشكوك بشأن فرويد بانتظام في المقالات الرئيسية في مجلات الأخبار الدولية.

في ثمانينيات القرن التاسع عشر وصف إرنست هِيكل وإميل دو بوا ريمون داروين بأنه كوبرنيكوس العالم العضوي. وفي عام ١٨٧٧ أُطلقت دورية جديدة في ألمانيا تُدعى «كوزموس»، وكُرست من أجل رؤية كونية موحدة قائمة على أساس نظرية التطور لداروين. وفي طبعتها الأولى ربطت كوبرنيكوس وداروين: فقد سلب كلاهما البشر مكانتهم المتميزة في الكون. وفي الطبعة الخامسة عشرة من الموسوعة البريطانية نجد الادعاء بأن داروين أتم الثورة الكوبرنيكية؛ لأن داروين أخضع تنوُّع وتعقيد الحياة لقوانين الطبيعة.

لم يتفق فرويد مع هذا التوصيف؛ إذ اعتبر فرويد أن إسهامه الخاص هو الجزء الأخير المتمم للثورة الكوبرنيكية. يفسر فرويد أنه على المستوى الظاهري، ترجع مقاومة التحليل النفسي إلى عدم معرفته:

ولكن من خلال التأكيد على اللاوعي في الحياة العقلية استحضرنا أكثر أرواح الانتقاد شرًّا ضد التحليل النفسي. لا تتفاجأ بهذا، ولا تفترض أن المقاومة التي نقابلها قائمة فقط على صعوبة اللاوعي أو عدم القدرة النسبية على إجراء التجارب التي توفر دليلًا عليه. أعتقد أن مصدرها أعمق.

وهذا المستوى الأعمق هو الذي يفسر المقاومة؛ فالمستوى الأعمق له علاقة بالتاريخ الثقافي:

على مر القرون تعيَّن على حب الذات الساذج لدى البشر التعرُّض لضربتين كبيرتين على يد العلم. كانت الضربة الأولى عندما علموا أن أرضنا ليست مركز الكون ولكنها فقط جزء صغير من نظام كوني ذي اتساع لا يمكن تخيُّله. يرتبط هذا الأمر في عقولنا باسم كوبرنيكوس، على الرغم من التأكيد على شيء مماثل بالفعل في علوم الإغريق. وجاءت الضربة الثانية عندما دمرت الأبحاث البيولوجية مكانة البشر المفترضة بين الخلق وأثبتت تحدرهم من مملكة الحيوان وطبيعتهم الحيوانية التي لا يمكن استئصالها. وأُنجزت هذه الثورة في أيامنا على يد داروين ووالاس وأسلافهما، رغم المعارضة المعاصرة الأكثر عنفًا.

ستُعزَّز هاتان الضربتان — اللتان سميناهما «فقدان المركزية» و«فقدان التصميم الرشيد» — بضربة أخرى يضربها فرويد:

لكن جنون العظَمة البشري سوف يتلقى الضربة الثالثة والأكثر ضررًا من الأبحاث النفسية الحالية التي تسعى إلى أن تُثبت للأنا أنه ليس المسيطر حتى على زمام الأمور في جسده، وإنما يجب أن يرضى بالمعلومات الهزيلة بشأنٍ يجري في عقله على مستوى اللاوعي. لم نكن نحن — المحللين النفسيين — أول مَن طرح هذا الموضوع للنقاش ولسنا الوحيدين، ولكن يبدو أن مصيرنا هو منحه التعبير الأقوى ودعمه بالمواد التجريبية التي تؤثر على كل فرد؛ ومن ثم تنشأ الثورة العامة ضد علمنا، وتجاهل جميع اعتبارات الآداب الأكاديمية وتحرر المعارضة من كل ضوابط المنطق المحايد. (فرويد ١٩١٦ب، ٢٨٤-٢٨٥)

«الأنا المسيطرة على زمام الأمور في جسده» — الأنا مدفوعة بدوافع اللاوعي، التي لا يعلم عنها شيئًا. إن الدوافع ليست واضحة بالنسبة للاوعي، على الرغم من أن التحليل النفسي يدَّعي القدرة على كشفها؛ ومن ثم يعاني البشر من ضربة أخرى هي: «فقدان الوضوح».
كان أتباع فرويد سعداء للغاية على نحو مفهوم بهذا التسلسل من أفكار فرويد. سيُمجَّد فرويد ليس لاكتشافاته التجريبية وحسب، ولكن أيضًا لثورة الفكر التي سيُحدِثها:

على غرار كوبرنيكوس وداروين — الرجلين اللذين قارن نفسه بهما — سيُحدِث فرويد ثورة في نظرتنا لأنفسنا، ومثلهما قد يُنْظَر إليه على أنه صائغ للفكر أكثر من اعتباره مكتشفًا للحقائق. (براون ١٩٦٢، ٢)

المشكلة هي أن الكثير من الناس لا يتفقون مع ذلك. إن عدم وجود توافق في الآراء حول إنجازات فرويد العلمية دليل على أنه لا ينبغي معاملتها على أنها ثورة علمية من دون تحليل دقيق لنظريته. في عام ١٩٤٦، عبر فيتجنشتاين بإيجاز عما سيصبح بعد ثلاثين عامًا الرأي السائد:

من خلال تفسيراته الزائفة الخيالية (وتحديدًا لأنها عبقرية) سبب فرويد ضررًا كبيرًا. (فيتجنشتاين ١٩٨٠، ٥٥)

بعد انقضاء مائة عام على كلٍّ من النظرية الكوبرنيكية والداروينية، حدث توافق كبير في الآراء حول مصداقية كل منهما العلمية، لكن بعد مائة عام من النظرية الفرويدية لا يزال يوجد خلاف كبير حول مصداقيتها العلمية. وتُعزَّز الشكوك التي تُوَجَّه لإسهام فرويد في العلم من خلال المقارنة مع كوبرنيكوس وداروين. وتمثل دراسة الوضع العلمي لنظرية فرويد، وخاصة من وجهة نظر الممارسات الاستدلالية التي لاحظناها من قبلُ، أحد أهداف هذا الفصل. وتتعلق الأهداف الأخرى بالمكانة المعرفية للعلوم الاجتماعية. وكما سنرى، فإن نظرية فرويد تتخذ موقفًا وسطًا على نحو غريب بين الالتزام بالتجريبية والتفسيرية. وعلى الرغم من رغبة فرويد في ممارسة التحليل النفسي كعلم طبيعي، كان عليه باستمرار أن يقترض تقنيات من العلوم الاجتماعية. وفي هذا الفصل تكون الفرويدية بمنزلة منصة انطلاق للدراسة الفلسفية للعلوم الاجتماعية. وكما هي الحال في الفصول السابقة، نستخدم المواد الملموسة من دراسة الفرويدية من أجل تناول القضايا الفلسفية التي تنشأ عن مواقفها الإشكالية. سوف نهتم بتوضيح أوجه التشابه والاختلاف بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، وسيكون من الضروري الذهاب إلى ما هو أبعد من فرويد ودراسة مساهمات فيبر في منهجية العلوم الاجتماعية، كما سنعود أيضًا إلى مسألة الطبيعة البشرية، التي توفر رابطًا حقيقيًّا بين داروين وفرويد، بين التطور وعلم النفس.

(٢) بعض وجهات النظر بشأن الجنس البشري

وهكذا فإن الإنسان لا يمكن الوصول إليه إلا من الجانب الفكري أيضًا، بقدر ما هو قادر على توظيف الرغبة الجنسية نحو الأهداف (توظيف الطاقة النفسية) (…). (فرويد، «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي» (١٩١٦ب)، ٤٤٦)

لقد فسرنا زعم فرويد بإكمال الثورة الكوبرنيكية باعتباره فقدانًا للوضوح. وبما أن البشر يبدو أنهم لا يملكون زمام الأمور في أجسادهم، فإن ادعاء فرويد يتفق مع الرأي القائل بأن السلوك البشري يستند إلى عقلانية أقل مما كان مفترضًا حتى هذا الوقت. لا ينكر فرويد أن الدوافع العقلانية تلعب دورًا في السلوك البشري، لكنه اعترف بأفكار عقلية للسلوك البشري بقدر أقل من فلاسفة عصر التنوير، الذين كانوا مهتمين كثيرًا بالطبيعة البشرية، وقد عزا فرويد طوال حياته المهنية باستمرار إلى الدوافع دورًا في السلوك البشري أكبر من دور الأفكار العقلية، فكتب في نظريته الأولى بشأن الميول الجنسية:

غالبًا ما يكون سلوك الإنسان في الأمور الجنسية «نموذجًا أوليًّا» لطرقه الأخرى للتفاعل مع الحياة. (فرويد ١٩٠٨، ٩٣)

وكرر هذا الرأي في محاضراته في فيينا عن التحليل النفسي:

ولكن المعقول هو جزء فقط من الحياة العقلية، فثمة عدد من الأشياء التي تحدث ليست معقولة (…). (فرويد ١٩١٦أ، ٢١١)

وفي عمله المتأخر نسبيًّا عن تطور الثقافة ومستقبل المعتقدات الدينية، أكد مرة أخرى على ذلك:

لا يمكن الوصول للرجال عبر الحجج المعقولة، فالرجال تحكمهم الرغبات الغريزية تمامًا (…). (فرويد ١٩٢٧أ، ٤٧)

وبالنظر إلى اتساق وجهات نظره عن دور الدوافع اللاواعية في السلوك البشري، فلا شك في أن فرويد خرج عامدًا عن حركة التنوير في الفلسفة؛ ففي حين أنذر فرويد ﺑ «فقدان» الوضوح، أكد فلاسفة التنوير على «اكتساب» الوضوح. لنتناول بإيجاز بعض وجهات نظر التنوير بشأن الطبيعة البشرية ونتناول نيتشه كسلف لفرويد.

(٢-١) وجهات نظر حركة التنوير عن الطبيعة البشرية

رأى ديفيد هيوم أن دوافع الأفعال الإنسانية هي رغبات في الغالب، لا يستطيع العقل تغييرها. وباستثناء هيوم، كان معظم فلاسفة التنوير يعتبرون البشر محكومين عن طريق العقل على نحو أساسي. لم ينكروا أن الرغبات تلعب دورًا في السلوك البشري. على سبيل المثال، يعترف كانط أن البشر ممزقون بين الرغبات والمشاعر والعقل، ولكن العقل يستطيع التغلب على إملاء المشاعر. ومن المعروف أن كانط يُعرِّف التنوير بأنه «الخروج من عدم النضج الذاتي.» ويمثل عدم النضج الفكري «عدم القدرة على استخدام العقل دون توجيه خارجي.» ويعتبر كانط عدم نضج الأفراد ذاتيًّا؛ لأنه غالبًا ما يرجع إلى الكسل والجبن من جانبهم. واقترح كانط شعارًا للتنوير هو: «لتكن لديك الشجاعة لاستعمال عقلك» (كانط ١٧٨٤). ويعترف كانط بأن عدم نضج العامة غير المستنيرين يرجع أحيانًا إلى أغلال يفرضها المجتمع. فربما يوجد افتقاد للحرية السياسية، كما في الديكتاتورية، أو قد تكبت الموانع الاجتماعية والثقافية، التي يفرضها الاستبداد الديني أو الأيديولوجيات، ازدهار النضج، ومع ذلك، يعتقد كانط أن حرية استخدام عقل المرء الخاص، بدلًا من الثورة السياسية، «تسمح للعامة جميعهم بتنوير أنفسهم»، ولكن عمليات التنوير تلك تستغرق وقتًا. على المستوى الشخصي، يجب على الأفراد اعتناق شعار «لتكن لديك الشجاعة لاستعمال عقلك». وعلى المستوى المجتمعي، فإن ازدهار التعليم والثقافة شرطان مسبقان لدفع المجتمع نحو عصر مستنير. وينظر كانط إلى عرقلة هذا التقدم الثقافي والسياسي عن طريق حاكم سلطوي على أنه انتهاك للطبيعة البشرية. إن تحقيق مشروع التنوير — التغلب على الجهل، وعرقلة التقاليد العمياء، وزيادة المعرفة — حق أساسي من حقوق الإنسان بالنسبة لكانط.

figure
إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤).

تأتي تسمية عصر التنوير بهذا الاسم استغلالًا لسمة من سمات الضوء. يعني تسليط الضوء على موقف ما أن الموقف يصير أوضح. والهدف العام من وراء التنوير هو أن اكتساب المعرفة يزيل الفرضيات المظلمة، التي تعرقل التقدم. تأمَّل مسألة المرض؛ فما دامت لا توجد معرفة تجريبية بما يسبب مرضًا معينًا، فإن علاج المرض يكون مسألة عشوائية، وتعتمد العملية كليًّا على افتراضات جامحة بشأن أسباب المرض، ولكن عندما اكتشف باستور في عام ١٨٧٩ أن البكتيريا تسبب المرض، أصبح التطعيم وسيلة ضبط فعالة ضد أنواع معينة من الأمراض. ربما تكون الحالة التي تتطلب إضاءة أيضًا سياسية أو مجتمعية أو دينية. يتطلب التنوير تسليط الضوء على سلطة غير مُبرَّرَة، على افتراضات لا مبرر لها. إن المطالبة بمبررات السلطة السياسية أو الدينية هي المطالبة بأسباب وجودها. وطلب تبرير الافتراضات غير المبررة يُعد طلبًا للأسباب الكامنة وراء الافتراض. وتوفير الأسباب يجعل الافتراضات أكثر شفافية، كما رأينا، شككت المدرسة الباريسية في الافتراضات التي لا جدال فيها وراء نظرية الحركة الأرسطية، وشكك داروين في الافتراضات الكامنة وراء «سلسلة الوجود العظمى». في رأي كانط، تمنح سيادة العقل الوضوح للسلوك البشري. على المستوى الشخصي شجاعة المرء لاستخدام عقله ستجعل الدوافع وراء سلوكه أقل غموضًا. وعلى الصعيد المجتمعي، سيجعل استخدام العقل الافتراضات التي تستند إليها حياة المجتمع أكثر شفافية، كما كان يعلم كانط، كان مشروع التنوير مفهومًا فلسفيًّا مثاليًّا. لم يكن كانط يعتقد أن مجتمعه البروسي في القرن الثامن عشر قد وصل إلى عصر مستنير، ولكن وفق قوة تطور العلم وفلسفة التنوير كان يعتقد أنه عاش في عصر التنوير. اعتقد كانط — بسذاجة إلى حدٍّ ما — أن المسيرة العامة نحو عصر مستنير لا يمكن وقفها، ولكن ألقى فرويد بظلال الشك الخطيرة على الافتراض العقلاني للتنوير. يبدو أن الضوء لا يمكنه أن يخترق الأعماق المظلمة لفضاء دوافع الفرد. وفقًا لفرويد، نحن مدفوعون بدوافع ديناميكية لاواعية. ويبدو أن العقول تلعب دورًا صغيرًا في إدارة شئوننا العقلية. إذا كان فرويد محقًّا بشأن القوى اللاواعية الكامنة وراء أعمالنا، فإننا نعاني من فقدان الوضوح كأفراد، ولكن ألا يُسترَد الوضوح بالمعرفة النفسية؟ ربما يكون صحيحًا أن كل فرد لا يكون المسيطر على زمام الأمور في جسده، لكن ألا يملك علم النفس الفرويدي القدرة على إنارة الضوء؟ يعتقد فرويد، والفرويديون، والعديد من المعلقين الثقافيين ذلك. ومما يُؤسف له أن هذه الادعاءات تثير الخلاف؛ فقد تعرَّض وجود قوى اللاوعي، والقيمة العلاجية للتحليل النفسي، وأساليب الدراسة الفرويدية كلها للهجوم.

(٢-٢) وجهة نظر نيتشه بشأن الطبيعة البشرية

لم يكن علم النفس موجودًا من قبلي. (نيتشه، «هو ذا الإنسان» (١٨٨٨)، «لِمَ أنا قدر»، الجزء ٦)

تجنب فرويد — باعترافه — قراءة أعمال نيتشه. على الرغم من أنه كان يحترمه احترامًا شديدًا من أجل رؤاه النفسية الحاسمة، فإنه كان حريصًا على تطوير وجهات نظره النفسية الخاصة دون انحياز (كوفمان ١٩٧٤). صور نيتشه نفسه كمفكر نفسي وتاريخي هدفه الأخلاق المسيحية؛ قيمها ومُثُلها. ويصف نفسه بأنه «اللاأخلاقي الأول»، وهو المدمر بامتياز (نيتشه ١٨٨٨، «لِمَ أنا قدر»، الجزء ٢). كان ما يهدف نيتشه إلى تدميره هو المثل العليا المُسلَّم بها في مجتمعه. وكان يعتبر الأخلاق المسيحية أخلاقًا منحلَّة، ورفض مُثُل السامري الصالح (نيتشه ١٨٨٨، الجزء ٤). واشتهر نيتشه بإعلانه موت الإله المسيحي. أصبح الإيمان بالأخلاق المسيحية مشكوكًا فيه: فلا ينبغي اعتبار الخير والشر قيمًا مطلقة. تُمثِّل هذه الأخلاق المطلقة طغيانًا ضد الطبيعة، وقدَّم نيتشه ثلاثة اعتراضات ضد المسيحية: إنها عقيدة، وإنها تقلل من شأن حياة الإنسان على الأرض، وأنها تدعو لتبعية الإنسان للإله. من الخطأ أن نفكر أن نيتشه ينكر كل القيم، فهو يزدري القيم التقليدية فقط، والتي في رأيه سببت انهيار الإنسان الغربي. ويطالب نيتشه بإعادة تقييم القيم، وليس التخلي عن جميع القيم؛ فمهمة الفيلسوف هي «إيجاد» القيم. ولا ينبغي اعتبارها ممنوحة من الإله وغير قابلة للتغيير؛ فالأخلاق، في رأي نيتشه، وسيلة للراحة، وليست مُثُلًا عليا. بل جميع القيم مشروطة. وينبغي للقيم الأخلاقية أن تعزز حياة البشر، ولا تعرقل وجودهم. يرى نيتشه — عالم النفس الفلسفي — أن شخصيات السامري الصالح والمسيحي الصالح ضعيفة وفاسدة. ويدَّعي أنه لم يوجد علم نفس قبله، لأنه يعتبر نفسه الفيلسوف الأول الذي يشكك في الأخلاق المسيحية والأنواع البشرية التي صنعتها:

لم يشعر أحد حتى الآن بالأخلاق المسيحية أدنى مرتبة منه، ولتحقيق هذه الغاية يلزم ارتفاعًا، ونظرة من بعيد، وعمقًا نفسيًّا شديدًا، وهي الأمور التي لا يُعتقد أنها ممكنة حتى هذه اللحظة. كانت الأخلاق المسيحية حتى الوقت الحاضر كالساحرة كيركا التي تغوي جميع المفكرين، فيعملون على خدمتها. مَن مِن الأشخاص قبلي نزل إلى الكهوف السرِّية التي يخرج منها الدخان السامُّ لهذا المثال الأعلى؛ هذا الافتراء على العالم؟ مَن الشخص الذي تجرأ حتى على افتراض وجود كهوف سرية؟ هل كان أحد من الفلاسفة الذين سبقوني عالِمًا نفسيًّا أصلًا، ولم يكن نقيضًا للعالِم النفسي؛ أي لم يكن «دجالًا بارعًا»، «مثاليًّا»؟ (نيتشه ١٨٨٨، «لِمَ أنا قدر» الجزء ٦)

figure
فريدريك نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠).
من ناحية، كان نيتشه أقرب إلى تنوير كانط من التحليل النفسي لفرويد. فيكشف افتقادًا للوضوح بشأن الأسس الأخلاقية للمجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر. ويدعو إلى إعادة تقييم النظام القيمي، الذي سيكون أقرب إلى الطبيعة البشرية (كما يراها نيتشه)؛ ومن ناحية أخرى، كان يرى نفسه صوتًا وحيدًا، أول عالِم نفسي يمتلك رؤًى فرويدية:

تقول ذاكرتي: «فعلت ذلك.» ويقول كبريائي: «لم أكن لأقدر على القيام بذلك.» ويظل عنيدًا. وأخيرًا، تستلم ذاكرتي. (نيتشه ١٨٨٦؛ قارن جيلنر ١٩٩٣، الفصل الأول)

وعلى نفس المنوال، رأى فرويد أن الثقافة تفرض أعباء الامتناع عن ممارسة الجنس التي لا يمكن تحملها تقريبًا على البشر. وفقًا لفرويد، جعلهم هذا يمرضون. وبينما نشأ نيتشه ككلاسيكي، نشأ فرويد كعالِم؛ فكان يهدف إلى ترسيخ التحليل النفسي كعلم جديد.

(٣) العلموية والنموذج الفرويدي للشخصية

ربما يُقال عن التحليل النفسي أنه إذا مد أي شخص خنصره نحوه، فإنه يجذب اليد بأكملها سريعًا. (فرويد ١٩١٦أ، ١٩٣)

تَلَقَّى فرويد تدريبه الطبي في أواخر القرن التاسع عشر. لقد كان قرن العلموية؛ أي الاعتقاد بأن معظم المشكلات في العلوم الطبيعية والاجتماعية يمكن معالجتها باستخدام أساليب الفيزياء. ليس من المستغرب أن فرويد، منذ أول غزواته في مجال علم النفس، اعتنق توجهًا ذهنيًّا علميًّا لدراسة الظواهر العقلية؛ فمن «مشروع علم النفس العلمي» (١٨٩٥) حتى كتاب «مخطط التحليل النفسي» (١٩٣٨)، يقارن فرويد بانتظام التحليل النفسي بالعلوم.١ ولكن لم يكن فرويد أول من صوَّر علم النفس كفرع من العلوم الطبيعية. فقد رأى داروين وهِيكل (١٩٢٩، الفصل السادس) أن النظرية التطورية مهدت الطريق لظهور نهج علمي لعلم النفس. وصف فرويد في محاضراته في فيينا مذهب التحليل النفسي بأنه بنية فوقية، سوف تُغرَس يومًا ما في أساس عضوي، لا يزال مجهولًا (فرويد ١٩١٦ب، ٣٨٩). سعى فرويد بطرق متعددة لمنح نظريته مصداقية علمية. وبمجرد تحمُّل مسئولية مثل هذا الالتزام، تبع ذلك بعض العواقب. ويجب أن تكون هذه العواقب متوافقة مع الالتزام الأصلي. إذا كان التحليل النفسي علمًا — وفقًا لفرويد — فإننا نتوقع رؤية مادية معينة للعقل. ونتوقع تقديم نماذج ميكانيكية، وافتراض حالات قياسية شرعية، وكمية معينة من الحتمية بشأن الأحداث العقلية. كان فرويد ثابتًا على مبدئه حيال قبول هذه العواقب المترتبة على التزاماته العلمية. ومع ذلك، بينما نلخص نموذج فرويد للعقل، نلاحظ أنه لم يتمكن من تجنُّب الأدلة الإنسانية في نظريته. وكما سنرى لاحقًا، طالب فرويد بتفسير الظواهر العقلية لكنه لم يستطع التخلي عن الأفكار المتعمدة.

(٣-١) نموذج فرويد للعقل

الإنسان باحث لا يكل عن السعادة. (فرويد ١٩٠٥ب، ١٢٦)

ترجع الصورة الذاتية المهيمنة في القرن العشرين ﻟ «الإنسان على المستوى النفسي» إلى حد بعيد إلى تأثير عمل فرويد. وُلد فرويد في ٦ مايو ١٨٥٦ في فريبيرج (مورافيا). وفي عام ١٨٥٩، في السنة التي نشر فيها داروين كتاب «أصل الأنواع»، انتقلت العائلة إلى لايبزيج وبعدها بسنة استقرت في فيينا. مكث فرويد في فيينا حتى عام ١٩٣٧، وهو عام الاحتلال النازي. كان فرويد يكره فيينا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى معاداتها للسامية، ولكنه تأثر أيضًا بمجتمع فيينا وتوجهه الذهني حيال الحياة الجنسية. وفي عام ١٨٧٣ بدأ فرويد عمله في مجال الطب وأصبح محاضرًا في علم الأمراض العصبية في عام ١٨٨٥. وفي أواخر ١٨٨٥، ذهب فرويد إلى باريس للعمل تحت إشراف جان مارتن شاركو. عرَّف عمل شاركو على ما يسمى «الهستيريا» فرويد باحتمالية أن الاضطرابات النفسية ربما يكون مصدرها العقل، وليس المخ. اعتقد شاركو أنه أثبت وجود رابط بين الأعراض الهستيرية — مثل شلل أحد الأطراف — والإيحاء التنويمي. واشتمل هذا الرابط ضمنًا على القوة العقلية. وفي وقت لاحق تصادق فرويد مع جوزيف بريور، الذي كانت مريضته برتا بابنهايم («آنا أوه») تعاني من أعراض هستيرية. استخدم بريور تقنية لفظية (تعرف أيضًا باسم «العلاج بالحديث» أو «العلاج الحواري») لعلاج أعراضها. وفي عام ١٨٩٦ صاغ فرويد عبارة «التحليل النفسي».

figure
سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٨).

(أ) ملخص لنظرية التحليل النفسي

تخلى فرويد عن التنويم المغناطيسي وطور تقنية جديدة هي «تداعي الأفكار الحر» (فرويد/بريور ١٨٩٥). تشجع هذه التقنية المرضى على التعبير عن أي أفكار عشوائية تطرأ ارتباطيًّا على أذهانهم. وتهدف هذه التقنية إلى الكشف عن المواد غير المعبَّر عنها حتى هذه اللحظة من عالَم النفس. واتباعًا للعرف القديم، سمى فرويد هذا العالم الخفي «اللاوعي». أشار فرويد إلى أن مرضاه واجهوا صعوبات في التداعي الحر للأفكار؛ فكان يحدث صمت مفاجئ، وتلعثم، ورفض لمواصلة جلسات التحليل النفسي. وأشارت هذه الأعراض إلى فرويد أن المادة التي تعاني من أجل التعبير عنها كانت مهمة. كانت لدى المرضى أيضًا دفاعات قوية ضد التعبير عن المواد الخفية. وكان من الضروري تدمير هذه العوائق (أو المقاومة) من أجل الكشف عن الصراعات الخفية. وعلى النقيض من شاركو وبريور، توصل فرويد إلى استنتاج أن المصدر الأكثر إصرارًا للمواد المقاوِمة كان جنسيًّا بطبيعته. والأهم من ذلك أنه ربط الأعراض العصبية بالصراع نفسه، بين المشاعر الجنسية والدفاعات النفسية. في رسالة مهمة إلى فيلهيلم فليس تخلى عما يُسمى نظرية الإغواء (فرويد ١٨٩٧). وخلص إلى أن المواد التي يجري تذكُّرها تحت التحفيز النفسي كانت أوهامًا، وأمنيات بدائية خفية، وليست خبرات حقيقية. وهذا يعني أن الأوهام والتوق الغريزي للطفل يُعد أصل الصراعات اللاحقة. وعلى مدى السنوات التالية، حُسِّن نظام فرويد وعُدِّل بعدة طرق:
  • رأى فرويد وفاة والده (١٨٩٦) بمنزلة الصدمة التي سمحت له بالتعمق في نفسه، وقدَّم التحليل الذاتي لفرويد رُؤًى مهمة لنظرية التحليل النفسي.

  • قدَّم فرويد في كتاب «تفسير الأحلام» (١٨٩٩) الأحلام كطريق ممهد لمعرفة اللاوعي.

    ومن ثمَّ تصبح دراسة الأحلام الوسيلة الأكثر ملاءَمةً للوصول إلى معرفة اللاوعي المقموع، الذي تُشكِّل الرغبة الجنسية المنعزلة عن الأنا جزءًا منه. (فرويد ١٩١٦ب، ٤٥٦)

تُفسَّر جميع الأحلام — باستثناء أحلام الأطفال — على أنها إرضاء لرغبات جنسية في الغالب. «من الواضح أن الحلم حياة عقلية أثناء النوم!» (فرويد ١٩١٦أ، ٨٨؛ ١٩١٦أ، الفصل الثاني). ويقدم فرويد ادعاءً سببيًّا: يمكن أن تُعزى معظم أحلام البالغين إلى رغبات جنسية صبيانية (فرويد ١٩٠١ب، ٦٨٢-٦٨٣)، حتى إن جميع الميول نحو الانحراف لها جذورها في مرحلة الطفولة (فرويد ١٩١٦ب، ٣١١). وبما أن الأحلام تعبيرات خفية عن إرضاء الرغبات، ميز فرويد بين المحتوى «الواضح» و«الكامن» للأحلام. ومحتوى الحلم الواضح هو تسلسل الصور الفعلي الغريب في كثير من الأحيان التي يراها الحالمون في أحلامهم. ويتضمن محتوى الحلم الكامن الدافع الخفي اللاواعي للحلم. ويشتبه فرويد في وجود صلة شرعية بين الطبيعة المربكة للأحلام الكامنة والصعوبات التي تواجَه في التعبير عن أفكار الأحلام (فرويد ١٩٠١أ، ٦٤٣). ويتمثل عمل الحلم في تحويل الأحلام الكامنة إلى أحلام واضحة، ومهمة التحليل النفسي هي عكس هذا التحول.

تُضطر الأحلام لإخفاء أشياء وتتخلى عن أسرارها للتفسير وحسب (…). (فرويد/أوبنهايم ١٩١١، ١٨١)

يمكن أن يحوِّل عمل الحلم الأحلام بعدد من الطرق: (١) التكثيف: مثلًا، يكون الحلم الواضح شكلًا مختصرًا مكثفًا للحلم الكامن. (٢) الإبدال: ويعني أن المعنى الكامن للحلم يظل مخفيًّا، ويركز عمل الحلم على العناصر غير المهمة أو النائية، وتلمِّح الأحلام الواضحة عن معناها الحقيقي على نحو غامض، ويُخفى المحتوى الكامن. (٣) التمثيل: ويعني حدوث تحوُّل للأفكار إلى صور (فرويد ١٩١٦أ، الفصل الحادي عشر).

  • يتناول كتاب «علم النفس المرضي للحياة اليومية» (١٩٠٠) ما أصبح يعرف باسم «الزلات الفرويدية». وهذه ليست مجرد زلات اللسان ولكن أيضًا زلات القلم، والقراءة الخاطئة للكلمات، ونسيان الأسماء.

  • في كتابه «ثلاثة مباحث في نظرية الجنس» (١٩٠٤-١٩٠٥)، نسب فرويد دوافع جنسية للأطفال، وشدد على القوة السببية للأوهام، وأثبت أهمية الرغبات المكبوتة. وسَّع فرويد في هذه المباحث مفهوم الحياة الجنسية لأبعد من استخدامه التقليدي كي يشمل مجموعة كبيرة من النزوات الشهوانية. وأصبحت الحياة الجنسية المحرك الرئيسي على الأقل — إن لم تكن المحرك الوحيد — لقدر كبير من الشئون الإنسانية، كما حدد فرويد أيضًا ثلاث مراحل في التطور الجنسي للطفل: المرحلة الفموية، المرحلة الشرجية، الطَّوْرُ الوَذَرِي. ويحدد فرويد علاقة سببية مباشرة بين مكونات الغريزة الطفولية وسمات الشخصية البالغة:

    يمكننا أن نضع صيغة للطريقة التي تتشكل بها الشخصية في شكلها النهائي من الغرائز التأسيسية؛ السمات الشخصية الدائمة هي إما امتداد لا يتغير للغرائز الأصلية أو تَسَامٍ عن هذه الغرائز أو تشكيل ردود فعل ضدها. (مقتبسة في وبستر ١٩٩٦، ٢٨٨)

  • في عام ١٩٠٨ تأسست جمعية فيينا للتحليل النفسي.

  • في أعماله اللاحقة، يحل نموذج العقل الثلاثي الأجزاء محل التقسيم الثنائي إلى وعي ولاوعي: تعمل «الهُوَ» وفق مبدأ اللذة، وتعمل «الأنا» وفق مبدأ الواقع، وتمثل «الأنا العليا» تجسيدًا للمعايير والقيم الاجتماعية المغروسة في عقل الطفل عن طريق التربية الثقافية. وفي أعماله اللاحقة، حدد فرويد أن الهو يتألف من جزءين: «أُمْنِيَة الموت» بالإضافة إلى «الغريزة الجنسية» الموجودة (فرويد ١٩٣٨؛ انظر وبستر ١٩٩٦، ٣٣٤-٣٣٥).

  • تشغل دراسات فرويد الاجتماعية والثقافية المرحلة الأخيرة من أعماله. درس فرويد أصل الظواهر الثقافية، التي تتبعها حتى آلية التسامي. قال فرويد: إن تقدير أو إنشاء المنتجات الثقافية متأصل في الدافع الجنسي البدائي الذي تغيَّر بطرق مقبولة ثقافيًّا. يُعد التسامي حلًّا للقمع دون صراع، يؤدي إلى الأعمال الثقافية المتاحة على نحو مشترك. ويعبِّر فرويد في أعماله اللاحقة «الطوطم والحرام» (١٩١٣) و«علم نفس الجماهير» (١٩٢١) عن كمية كبيرة من التشكك تجاه المعتقدات الدينية. يمكن أن تُعزى هذه المعتقدات في الألوهية في نهاية المطاف إلى الحاجة إلى عبادة أسلاف الإنسان. ولا يمكن لجميع الحضارات، مهما كانت جيدة التخطيط، أن توفر سوى راحة جزئية من الدوافع الجنسية؛ فالعدوان بين الرجال ليس بسبب علاقات الملكية غير المتكافئة أو الظلم السياسي؛ إذ يمكن إصلاح هذه المشكلات عن طريق الإصلاح الاجتماعي. بالأحرى هذا العدوان هو بسبب غريزة الموت عميقة الجذور. ويُعد التوفيق بين الطبيعة والثقافة أمرًا مستحيلًا؛ لأن ثمن أي عملية حضارية هو إنتاج شعور بالذنب لدى أعضاء هذه الحضارة. إن أي حضارة تقيد الغرائز الجنسية البشرية، وهذا الكبت للمتعة سيخلف مشاعر استياء تجاه المجتمع.

لقد رأينا أن الصورة الكوبرنيكية للعالَم ساهمت في ميكنة العالم؛ إذ شارك الكوبرنيكيون في الحركة التي تعاملت مع الطبيعة ككيان رياضي مجرد يتبع علاقات قابلة للقياس تشبه القوانين. إن الاعتقاد بأن جميع أشكال المعرفة يجب أن تقترب من الصورة المثالية للمعرفة الكمية يُعرف باسم «العلموية».

كان نجاح العلم في نهاية القرن التاسع عشر مثيرًا للإعجاب حتى إن العديد من الناس اعتنقوا «العلموية» كفلسفتهم الرسمية. وليس من المستغرب أن نرى فرويد يتبع الحجة نفسها. بل إنه ادعى في الواقع أن علم النفس يمكن وضعه على قدم المساواة مع الفيزياء. كيف برر هذا الادعاء؟

(ب) التناظر مع الفيزياء

بدأ فرويد بافتراض أن النفس يمكن صياغتها في صورة جهاز وظيفي موسع يحتوي على ثلاثة أجزاء: الأنا العليا، والأنا، والهو. ولكل مكوِّن من مكونات العقل هذه وظائف محددة، شرع فرويد في وصفها.

لنحلل معقولية الرأي القائل بأن علم النفس علم مُحكم مثل الفيزياء. كتب فرويد:

لا يوجد في تعبيرات النفس شيء تافه، أو شيء اعتباطي أو فوضوي. (فرويد ١٩١٠، ٢٢)

بعبارة أخرى، آمن فرويد أنه سيكون من الممكن اكتشاف قوانين التحليل النفسي (فرويد ١٩١٠، ١٩). وهذا هو أول افتراض له:
  • (١)
    حتمية الحياة النفسية: التي تنص على عدم حدوث أي أحداث عقلية غير مقصودة (براون ١٩٦٢، ٣). «الحتمية النفسية» هي افتراض فرويد أن كل ما نفعله أو نفكر فيه أو نشعر به له معنًى وهدف. فجميع أحداث الحياة النفسية محتومة؛ فزلات اللسان والإيماءات، والأحلام والعصاب كلها لها معنًى وأصول محددة في خبرة الفرد.

    لا شيء في العقل اعتباطي أو غير مقرَّر. (فرويد ١٩٠١ب، ٢٤٢)

    ولكن، بالطبع، لا يوجد في العقل شيء يُسمى حتمية اعتباطية. (فرويد ١٩٠١أ، ٦٨٠)

    (بالمعنى الدقيق للكلمة، فإن معظم السلوك له محددات متعددة، وفقًا لفرويد: تُعد الدوافع خليطًا من اثنين من القوى الأولية: الغريزة الجنسية وغريزة الموت.)

  • (٢)
    الافتراض الثاني: هو أن اللاوعي قوة ديناميكية، وليس مجرد سلة مهملات مليئة بالأفكار والذكريات:

    لم يعد «اللاوعي» اسمًا لما هو كامن في الوقت الراهن، فاللاوعي عالم عقلي محدد بدوافعه التواقة، وطريقة التعبير الخاصة به وآلياته الذهنية الغريبة التي لا تكون سارية في مكان آخر. (فرويد ١٩١٦أ، ٢١٢)

    انتقل فرويد بهذا التأكيد لما وراء الفهم التقليدي للاوعي باعتباره وعاءً سلبيًّا للمواد غير المرغوب فيها، كما تغلَّب أيضًا على المطابقة التقليدية بين العقل والوعي، التي تتضح على نحو بارز في ثنائية ديكارت. وتعني نظرية فرويد الديناميكية للاوعي أن اللاوعي يلعب دورًا مهيمنًا في الحياة العقلية، فهو يضفي معنًى على الأحداث التي تبدو عشوائية مثل الزلات الفرويدية والأحلام الغريبة.

  • (٣)
    يتمثل الافتراض الثالث في أن جزءًا كبيرًا من السلوك البشري مدفوع بدوافع لاواعية. ويعبِّر «الدافع اللاواعي» عن اقتناع فرويد بأن جزءًا كبيرًا من سلوكنا وأفكارنا ومشاعرنا تتحدد بدوافع لا نعلم عنها شيئًا. فلسنا المسيطرين على زمام الأمور في أجسادنا. عانى البشر من ضربة أخرى: فقدان الوضوح. وفقًا لنظرية الغريزة الجنسية، تُوجَّه كل السلوكيات نحو تلبية الاحتياجات البيولوجية، إما بطريقة جنسية مباشرة أو بطريقة متسامية. ثمة العديد من دوافع السلوك البشري مدفونة في اللاوعي (الهو)؛ ومن ثم فهي خفية عن الشخص. وتتمثل وظيفة الأنا في توجيه هذه الطاقة إلى أشكال تعبير تكون أكثر انسجامًا مع مطالب المجتمع (الأنا العليا). يُمثِّل الهو الجزء العميق الذي لا يمكن الوصول إليه من الشخصية، وهو على اتصال مباشر مع العمليات الجسدية، كما يُمثِّل مخزنًا لكل شيء موروث وثابت في العالم الحقيقي. لا يتصل الهو بالعالَم الحقيقي، ونتعرف على الهو من خلال تحليل الأحلام ومن خلال أشكال مختلفة من السلوك العصبي.٢ ثمة سبب لوجود الهو، وهو الإشباع الفوري للغرائز دون قيود. ويخضع الهو لمبدأ اللذة.

    الأنا هي مدير الشخصية؛ فالأنا هي نظام الشخصية المنظَّم العقلاني المدفوع بالواقعية. وتعمل وفقًا لمبدأ الواقع؛ فتُرجئ إشباع الدوافع الغرائزية حتى العثور على موضوع وطريقة مناسبين. وتُعد الأنا نفعية تمامًا وبلا قيم. وبينما يتمثل هدفها في إرضاء الهو، فإنها لن تفعل ذلك إلا في سياق مطالب الواقع، كما أنها مكلفة أيضًا بالحفاظ على استقامة الكائن الحي.

    تنشأ الأنا العليا من الأنا نتيجة التحرر من عقدة أوديب. وهي تُمثِّل أفكار المجتمع وقيمه كما تُقدَّم إلى الطفل من خلال كلمات وأفعال الوالدين. (تؤدي العقوبات إلى الضمير، وتؤدي المكافآت على السلوك إلى الأنا المثالية). باختصار، فإن وظيفة الأنا العليا هي إعلام الأنا بقيمة الأخلاق، فبدلًا من الاستسلام للشهوات أو النفعية، تُذكِّر الشخص بالسعي نحو الكمال.

  • (٤)
    الافتراض الرابع: هو أنه لا يمكن الكشف عن سبب أنماط السلوك الحالية للمرضى إلا باستخدام نهج تطوري أو تاريخي. يبدو أن الأعراض الحالية ترتبط بالتجارب السابقة (سواء كانت مُتخيَّلة أو حقيقية).٣ ويُعد هذا الافتراض الرابع مهمًّا لممارسات فرويد الاستنتاجية، لأن فرويد استنتج عمل اللاوعي من تجلياته الظاهرة في الحياة الحالية لمرضاه:

    بالنسبة للطفولة، فإن مصدر اللاوعي والعمليات الفكرية اللاواعية ليس سوى تلك الأفكار — تلك الأفكار وحسب — التي أُنتجت في مرحلة الطفولة المبكرة. (فرويد ١٩٠٥ب، ١٧٠)

لم يكن فرويد مهتمًّا بالكيفية التي عليها سلوك البشر وحسب، ولكنه كان مهتمًّا أيضًا بأسباب ذلك السلوك. يبدو أن أسباب السلوك البشري تكمن في تجارب الماضي، ولو كان الحال كذلك، فإن نظرية فرويد سوف تضطر إلى الاعتماد كثيرًا على استنتاج بعض البنيات العقلية الكامنة من البيانات الرصدية الحالية (براون ١٩٦٢، الفصل الأول). من أجل فهم علل مرضاه استدل فرويد على الأحداث الماضية من الأعراض الحالية، ولكن ليست كل أشكال السلوك البشري تؤدي إلى مثل هذه الاستدلالات. من خلال الإصرار على أن الأحلام هي المسار السهل للوصول إلى اللاوعي، يخبرنا فرويد أن أشكالًا معينة وحسب من الأعراض — إضافة إلى الأحلام، تمنح الزلات الفرويدية والسلوك العصبي مكانة أفضل — تقدِّم لمحات بشأن الأعمال اللاوعية للعقل، كما يفترض أن السلوك العادي يقدِّم القليل من اللمحات بشأن الدوافع الخفية للسلوك البشري.

نحن مدينون بالفضل لدراستنا للاضطرابات العصبية في الحصول على المؤشرات الأكثر قيمة لفهم الحالات العادية. (فرويد ١٩٣٠، ١٣٥)

على أساس هذه الافتراضات، يرى فرويد أن التحليل النفسي يقف على «قدم المساواة» مع الفيزياء. لنرَ كيف يجادل المحلل النفسي بالمقارنة مع الفيزيائي (مربع ٣-١أ، ٣-١ب).

تؤدي الفرضية الأولى في حجة المحلل النفسي إلى الاعتقاد بأن علم النفس كان فرعًا جديدًا من العلوم (فرويد ١٩٣٨، ١٩، ٥٢). هل هذه الفرضية صحيحة؟ من المهم أن نلاحظ أن فرويد يجادل بالقياس. وكما سنرى، كان التفكير التناظري في الواقع جزءًا مهمًّا من طريقة فرويد.

يبدو أن التناظر بين علم النفس والفيزياء يصمد في الخطوات القليلة الأولى، ولكن بينما توجد تشابهات توجد أيضًا اختلافات، يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار. ومع افتراض فرويد لعدم معرفة الواقع في حد ذاته، تبدأ حجة التناظر في التداعي. وبينما يستطيع الفيزيائي مواصلة تقديم الحجة، وخاصة اللجوء لاختبارات مستقلة، فإن المحلل النفسي عادةً ما يواجه صعوبة في تلبية معيار قابلية الاختبار المستقلة لفرضيات النظرية الأساسية (تذكَّر من الفصل الثاني، الجزء ٦-٥ أننا فسَّرنا قابلية الدحض على أنها قابلية الاختبار).

مربع ٣-١أ: يناقش المحلل النفسي والفيزيائي الوضع المنهجي للتحليل النفسي

المحلل النفسي الفيزيائي
يخضع اللاوعي للقوانين. تخضع الأنظمة الفيزيائية للقوانين.
يمكننا إعادة بناء هذه القوانين من الخصائص السلوكية، على سبيل المثال من الأشخاص الذين يعانون من العصاب. (فرويد ١٩٣٨، ٣٢، ٤٠) يمكننا إعادة بناء هذه القوانين من المشاهدات والتجارب.
يمكننا بناء نماذج للاوعي. يمكننا بناء نماذج للنظم الفيزيائية.
لا يمكننا أبدًا معرفة اللاوعي مباشرة. لا نستطيع أن نعرف «الواقع المادي» مباشرة، كما يقول فرويد.

مربع ٣-١ب: يواصل المحلل النفسي والفيزيائي مناقشتهما حول الوضع المنهجي للتحليل النفسي

المحلل النفسي الفيزيائي
حتى لو لم نتمكن من معرفة اللاوعي مباشرة، فإن لدينا تقنيات لفحصه. لدينا أساليب مختلفة ومستقلة لتأكيد النماذج والقوانين.
تشمل هذه التقنيات تحليل الأحلام والسلوك العصبي والزلات الفرويدية. على سبيل المثال، قطر شعر الإنسان يمكن قياسه مباشرة تحت المجهر، وعلى نحو غير مباشر من أنماط الانحراف التي يسببها عندما يُوضع في مسار ضوء الليزر.
«لكن سيحصل الفيزيائي على استثناء الآن.»
هذه التقنيات لا تكشف اللاوعي على نحو فريد ومستقل. لدينا اختبارات مستقلة للنماذج.
يمكننا تقديم تنبؤات عددية دقيقة.
يمكننا تقديم تفسيرات حقيقية لسلوك النظم المادية.
يمكننا أن نمتلك — ونحن نمتلك بالفعل — عددًا وافرًا من نماذج اللاوعي المتباينة، وأحيانًا حتى تكون متناقضة كثيرًا ما يكون لدينا دليل قاطع على أن نموذجًا ما أكثر مصداقية من النموذج المنافس.
كمثال على ذلك، يمكن للفيزيائي الاستشهاد بالكوبرنيكية والداروينية.

هل كان الفيزيائي ظالمًا للمحلل النفسي؟ أليس من الواضح أن الفيزياء تختلف عن التحليل النفسي؟ لا يجب أن نلوم الفيزيائي ولكن نلوم فرويد. ادعى فرويد طوال حياته العملية أنه يمكن وضع التحليل النفسي على قدم المساواة مع أي علم طبيعي؛ لذلك ربما لم يكن الفيزيائي يرغب في الانجرار إلى ذلك الجدال، لكن ادعاء فرويد هو الذي سبب المقارنة. رفض الفيزيائيون تلميح علم النفس أنه من الممكن استنتاج واقع اللاوعي من التقنيات المتاحة. ويؤكد الفيزيائي على الحاجة إلى قابلية اختبار «مستقلة». وعند هذه النقطة انهار التناظر. تُمثِّل قابلية الاختبار المستقلة سمة مهمة من سمات التفكير العلمي، وهي طريقة لتجنب التفسيرات «المُخصَّصَة»؛ وهي التفسيرات التي تُقدَّم فيها أداة توضيحية للتوفيق بين التفسير والمظهر الخارجي. على سبيل المثال، استخدم بطليموس أفلاك التدوير والمؤجلات والموازنات للتوفيق بين الافتراض المسبق بوجود حركة دائرية منتظمة والسرعات غير المنتظمة المرصودة للكواكب، ولكن لا يوجد دليل مستقل على وجود هذه الأدوات الهندسية. ويحافظ مذهب الخلق على نفسه من الدحض عن طريق الأدلة الحفرية الجيولوجية من خلال الادعاء بأن الخالق زرع الحفريات في لحظة الخلق منذ ٦٠٠٠ سنة. ويبدو أن فرويد عانى من المشكلة نفسها، فالدليل الوحيد الذي كان يمتلكه (على حد تعبير بوبر) للأسباب (اللاوعي) هو المُفسَّر نفسه (الزلات الفرويدية والأحلام الغريبة والسلوك العصبي (انظر المربع ٣-٢)). وفقًا لبوبر، فإن ما يجعل النظرية — المجموعة المتماسكة من البيانات — علمية هو قابليتها للدحض. يشترط بوبر أن يكون الشكل المنطقي للنظرية في صورة يمكن دحضها من خلال التجربة: فيجب أن يكون من الممكن لنظام علمي تجريبي أن يتعارض مع الحالة المادية للعالَم.

مربع ٣-٢: نموذج بوبر للحجج «المُخصَّصَة»

إليك مثال بوبر للحاجة إلى قابلية الاختبار المستقلة: إليك صورة مناظرة من التحليل النفسي:
البحر هائج اليوم. يعاني المريض من أعراض عصبية.
لماذا؟ لماذا؟
لأن (الرب) كوكب المشتري غاضب! لأن الخبرات الماضية قد أثرت على لاوعي المريض.
كيف تعرف أن المشتري غاضب؟ كيف تستطيع معرفة أن اللاوعي يؤثر على حياة المريض الحالية؟
ألا ترى أن البحر هائج؟ ألا ترى أن المريض يعاني من أعراض عصبية؟
ما نريده هو تأكيد تجريبي مستقل على أن كوكب المشتري في الواقع مسئول سببي عن حالة البحر، وسيكون من الصعب الوصول لذلك. للأسف، من الصعب أيضًا الحصول على تأكيد مستقل لفكرة فرويد بشأن الحتمية النفسية. والجزء الرئيسي لهذا التفسير هو افتراض وجود اللاوعي وخصائصه. هذا الشرط بوجود اللاوعي يطرح العديد من المشكلات؛ أولًا: يبدو مُخصَّصًا من وجهة نظر قابلية الاختبار. ثانيًا: يفشل هذا في تخطي طريقة الاستقراء الإقصائي (انظر أدناه). وهنا ينهار تحليل فرويد مع حيث تشابهه مع الفيزياء على نحو محزن. وكما يقول أحد النقاد:

تظاهر فرويد وخلفاؤه بأنهم يستمعون إلى «لاوعي» مرضاهم. في الواقع قد جعلوه يتحدث كما جعل الآخرون الأرواحَ تتحدث. (بورش-جاكوبسن ٢٠٠٥، ٣٨٨؛ ترجمة المؤلف)

لا يُمثِّل هذا الفشل كارثة إذا كنا على استعداد للتخلي عن الادعاء بأن التحليل النفسي علم دقيق. يمكننا التعامل معه بطريقة تعامل أوزياندر مع مركزية الشمس ومركزية الأرض. يمكننا القول إن التحليل النفسي التقليدي يُمثِّل نموذجًا محتملًا للحياة العقلية؛ فهو يقدِّم قصة متسقة، ولكن الاتساق ليس شرطًا كافيًا للتفسير الناجح. هذا الإقرار يساوي قبول وجود نماذج بديلة ومنافسة. ولسنا في وضع يسمح لنا بتحديد أي النماذج المتنافسة هو الأكثر ملاءمة في ضوء القيود المختلفة؛ فالأدلة التجريبية المتاحة متوافقة مع العديد من نماذج العقل المتنافسة، ولكن رغبتنا التي شعرنا بها بالفعل في حالة الكوبرنيكية، في أن نتحقق أكثر ونقيِّم نماذجنا من حيث مصداقيتها، يجب أن تظل دون إشباع؛ فمن الممكن أن تظهر في يوم ما أدلة من شأنها أن تساعدنا على إعادة توزيع المصداقية على مساحة النماذج النفسية، ولكن في الوقت الراهن، من الأفضل اتباع توجه ذرائعي واقعي. إذا كان لنموذج فرويد للعقل قيمة علاجية، يمكن استخدامه لإعادة الحالة النفسية للأشخاص للوضع الطبيعي. لا يهم هل كان النموذج صحيحًا أم لا، ما دام الناس الذين يعانون من العُصاب يُظهرون تحسنًا. ومن ثم فإننا نخلص إلى أن النموذج الفرويدي يتسم بالملاءمة التجريبية ولكن ليس بالصحة النظرية. فلا يمكننا الادعاء بأن النموذج «صحيح» أو «يفسر» الأعراض، ولكنه في أفضل الأحوال يساعدنا على فهم ما يحدث داخل المريض، فنعتبره نموذجًا تماثليًّا. ونقول — على مستوًى نفعي — إنه ناجح، ولكن لا يمكننا أن نحدد سبب نجاحه. ولو لم نفرض شروطًا كثيرة على أدائه الجيد، فإن نموذج فرويد يمكن أن يُقال إنه يشترك في منصة واحدة مع النموذج البطلمي للكون. فإذا لم نطلب الكثير من النموذج أرضي المَركز، فإنه يساعدنا على فهم الظواهر الكوكبية على نحو مبدئي. وعلى نحو مماثل يمنحنا نموذج فرويد صورة لما يمكن أنه يحدث في عقل المصاب بالعصاب، ولكننا في كلتا الحالتين لا نحصل على أي تفسير حقيقي. وفي الحالات التي تدعي فيها النماذج المنافسة أنها تفسر الأدلة، ولا تستطيع الأدلة أن تختار بينها، لن يكون لدينا تفسير حقيقي. لِنُقَرِّرْ إذن عدم اتباع فرويد في ادعائه الواثق بأن التحليل النفسي يمكن أن يكتسب المكانة السامية للعلوم الأساسية مثل الفيزياء. ينعكس هذا القرار سلبًا على نموذجه للعقل إذا تمسكنا بعقيدة العلموية التي انتشرت في القرن التاسع عشر، ولكن ربما نكون مهتمين بهذا النموذج دون التفكير في أنه يجب أن يفسر بنية العقل البشري.

(ﺟ) فرويد كمفكر تنويري

كما ذكر فرويد في ادعائه الكوبرنيكي، كان يوجد رد فعل «عدائي» تجاه مذهبه في فيينا في أوائل القرن العشرين. أغضبت العديد من سمات هذا المذهب الناس:

  • (١)

    افتراض وجود الحياة الجنسية في الطفولة، كجزء من تطور الشخصية.

  • (٢)

    افتراض وجود الدوافع الجنسية والعدوانية كدوافع رئيسية للسلوك البشري؛ أي الحتمية النفسية.

  • (٣)

    افتراض وجود اللاوعي والدور الديناميكي الذي يلعبه في سلوكنا.

كان يُرى أن فرويد يعمد إلى تقييد العقل المنطقي بدوافع غريزية. وافتراض وجود اللاوعي الديناميكي جعل العقل البشري غير واضح. لقد تحدَّث الناس عن «ثورة فرويدية». ولا بد أن تقتضي فكرته أن سلوكنا ليس نتيجة دوافع عقلانية (محضة). وهكذا يمكن اعتبار الثورة الفرويدية تقييدًا لصورة عصر التنوير بشأن عقلانية البشر.

هذه الصورة للعقلانية يمكن أن تُعزى إلى عدة عوامل، اثنان منها:
  • (١)

    تطور العلم ونموذج العقلانية الخاص به.

  • (٢)

    إرث التنوير ورؤيته للطبيعة البشرية.

كان تطور العلم من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مسيرة ناجحة للنيوتونية من الظواهر الميكانيكية، مثل حركة الكواكب، إلى ظواهر مثل الكهرباء والمغناطيسية والحرارة، وقد تسبب إضفاء الصبغة الميكانيكية والرياضية على العلم في رسم دوائر متزايدة باستمرار، بحيث أصبح العلم نموذجًا إرشاديًّا للعقل. وبسط التنوير هذا النموذج إلى عالَم المجتمع.

وكما رأينا مع كوبرنيكوس ونيوتن وداروين، فإن المعتقدات التقليدية قد صارت بالية بسبب اكتشافاتهم العلمية؛ أي معتقدات مركزية الأرض وسمو البشر على جميع الكائنات الأخرى. يؤكد النشاط العلمي على الجانب العقلاني للبشر؛ ومن ثَمَّ كان ثمة شعور بأنه مع زيادة العلوم، فإن البشر سيزيدون من سيطرتهم على العالم. وبينما دمر العلم المعتقدات التقليدية، فإنه أدى أيضًا إلى المزيد والمزيد من سيطرة الطبيعة، على سبيل المثال في:
  • (١)

    الثورة الصناعية وتطوير المحركات البخارية.

  • (٢)

    نظرية باستور الجرثومية للمرض، التي أدت إلى إنتاج أول لقاح للإنسان ضد داء الكَلِب.

وبهذا أكد نجاح العلم على أهمية العقلانية لدى البشر، وقد وجدت العقلانية بالفعل تفسيرًا فلسفيًّا فيما سُمِّيَ «عصر العقل» أو «عصر التنوير».

على الرغم من أن فرويد لم يَبْنِ أكثر من مجرد نموذج تماثلي للعقل، فلسنا بحاجة إلى أن نقلل من شأن إنجازاته. طبقًا لبعض منتقدي فرويد، فقد وضع رؤية متينة داعمة لا تعتمد على التخمين (جيلنر ١٩٩٣، ١٢٦). ورغم أنها لم تخضع لاختبار صارم، فإنها يمكن أن تخدم وظيفة ثقافية. كان لنظرية فرويد تأثير محرِّر على الثقافة الغربية (جيلنر ١٩٩٣، ٨٣؛ وبستر ١٩٩٦، ٢٨٣؛ سيوفي ٢٠٠٥، ٤٦؛ ريلير ٢٠٠٥ب، ٢٤١). ومن خلال تناوله الصريح وغير المتحيز للحياة الجنسية، ساعد فرويد على تحرير البشرية من سلاسل القمع الجنسي. وبقدر ما ألقى الضوء على الدوافع البشرية المظلمة، أصبح شخصية تنويرية. أظهر فرويد في كتابه «ثلاثة مباحث في نظرية الجنس» (١٩٠٥) صراحة وصدقًا بشأن الممارسات الجنسية التي من شأنها أن تكون مصدر فخر لأي مفكر تنويري. فوصف أشكال الحياة الجنسية في الطفولة بتفاصيل كبيرة وصادمة للجمهور في فيينا، وناقش ممارسة الجنس «الطبيعية» و«الشاذة» بانفتاح رائع. وفي مقال سابق عن الأخلاق الجنسية قال بالفعل إن «ثقافتنا تقوم على قمع دوافعنا الغريزية» (فرويد ١٩٠٨، ٨٢). وأشار إلى أن الطاقات الجنسية يمكن توجيهها نحو أشكال إشباع غير جنسية. وشكَّ في أن عمليةً تكمن في جذور الإنجازات الثقافية يُطلق عليها «التسامي». ويعود في كتابه «مستقبل الوهم» (١٩٢٧) إلى التعارض بين الطبيعة والثقافة. ويرى أن كل ثقافة تقوم على الإكراه والتخلي عن الغرائز (فرويد ١٩٢٧أ، ٧). الثقافة تحمينا من الطبيعة. ثمة أيضًا قبول مدهش بالنسبة لطلاب فرويد. فطالما أكد على أهمية الدوافع الغريزية في الشئون الإنسانية، ولكنه الآن يطالب بمبرر منطقي للامتثال للثقافة. يمكننا وحسب أن نحتوي طبيعتنا الغريزية عن طريق ذكائنا. وتُعد أولوية العقل مثالية نفسية؛ فعلى المدى الطويل لا شيء يمكن أن يصمد أمام العقل والخبرة. ويمكن تحسين شروط الوجود الإنساني من خلال توظيف المعرفة العلمية (فرويد ١٩٢٧أ، الجزء التاسع).

كانت نظرية التحليل النفسي بالنسبة لفرويد جزءًا من المعرفة العلمية. لقد رأينا بالفعل أن أحد ادعاءات فرويد لا أساس له؛ فالتحليل النفسي ليس على قدم المساواة مع الفيزياء؛ فالتناظر بين التحليل النفسي والفيزياء، الذي بناه فرويد، عبارة عن وهم. ولكن هذه الحجة التناظرية استندت إلى فهم خاطئ لكيفية عمل العلوم في المقام الأول. وعلم الأحياء التطوري كذلك — كما رأينا — ليس على قدم المساواة مع الفيزياء. فهل يوجد سياق آخر يمكن أن يبين هل كان التحليل النفسي لفرويد علميًّا أم غير علمي؟ ينبغي علينا تحليل إجراءات فرويد، وليس ادعاءاته البلاغية. ويجب أن نطبق منطق التقييم على مجموعة التحليل النفسي.

(د) المكانة العلمية للنموذج الفرويدي

ليس من السهل التعامل علميًّا مع المشاعر. (فرويد ١٩٣٠، ٦٥)

كيف يمكن للفرويديين أن يبينوا أن التحليل النفسي علمي؟ وكيف يمكن لنقادهم أن يبينوا أن نظرية فرويد لا تفي بالمعايير العلمية؟ تأمَّل أولًا أساليب فرويد ثم إجراء الاستقراء الإقصائي.

أساليب فرويد

نظرًا لتدريب فرويد الطبي، يجب ألا نستغرب أنه كان على علم تام بالمسائل المنهجية. ولن يكون من الخطأ القول إن فرويد دافع — على الأقل دون وعي — عن شكل من أشكال الاستقراء الإقصائي كأفضل أسلوب للعلوم. كثيرًا ما تحدَّث فرويد بالطبع عن «الاستدلالات» النفسية واللجوء إلى تفسيرات «بديلة». ويدَّعي أحيانًا أن الاستدلالات التي يجب على المحلل النفسي تقديمها يجب أن تؤدي إلى استنتاجات حتمية:

مما يبعث على الارتياح أن نتمكن من إعلان أن الملاحظة المباشرة (للأطفال) قد أكدت تمامًا الاستنتاجات التي توصل إليها التحليل النفسي، وهذا يُعد بالمناسبة دليلًا جيدًا على موثوقية هذا الأسلوب البحثي. (فرويد ١٩٠٥أ، ١٩٣-١٩٤؛ راجع ٢٠١، ٢٠٥)

تُعَدُّ إمكانية منح معنًى للأعراض العصبية من خلال التفسير التحليلي دليلًا راسخًا على وجود العمليات العقلية اللاواعية، أو ضرورة وجود فرضيتها، إذا كنت تفضل ذلك. (فرويد ١٩١٦ب، ٢٧٩)

ولكنه في أوقات أخرى لا يقدِّم ادعاءات ديكارتية بشأن يقين المعرفة النفسية. حتى إنه أظهر استعدادًا لقبول اللاوعي باعتباره مجرد فرضية (فرويد ١٩٠٥ب، ١٧٧-١٧٨). وتذمَّر — مؤكدًا مرة أخرى التناظر مع العلم — من أن الاستدلالات في الكيمياء تُقبَل بلا تشكك، ولكن الاستدلالات التحليلية النفسية تكون موضع خلاف. يقبل فرويد أنه لا توجد أدلة مباشرة على معنى الأحداث النفسية، ومع ذلك، ثمة «درجات من الاحتمالية» لتحليلات كل منها. ومن الواضح أنه يعتبر التحليل النفسي للأعراض أكثر احتمالًا من التفسيرات المنافسة، وقد يتذكر القارئ من الفصول السابقة أن كوبرنيكوس وداروين ادعيا أيضًا أنه من الممكن استخلاص استنتاجات لنموذج التفسير الأكثر احتمالًا من الأدلة المتاحة. واعتبراها استدلالات مقبولة. ويعتبر فرويد أيضًا — وإن كان على نحو أقل صراحة — أن الاستدلالات المستقاة من الأدلة الداعمة لنموذج التحليل النفسي للعقل بمنزلة أكثر الاستدلالات المقبولة احتمالًا (انظر شكل ٣-١).

تقدِّم الحياة العقلية للأفراد لنا — عندما يتعرضون للدراسة النفسية — التفسيرات التي يمكننا من خلالها حل عدد من الألغاز في حياة المجتمعات البشرية، أو على الأقل إظهار حقيقتها. (فرويد ١٩١٦أ، ١٦٨)

fig47
شكل ٣-١: اتجاه الزمن، من اليسار إلى اليمين. يوضح هذا الرسم البياني المستويات المختلفة المذكورة في الاستنتاجات الفرويدية (جيلنر ١٩٩٣، ٢٢٤): ٢ و٣ لا يمكن ملاحظتها مباشرة؛ ومن ثم لا يمكن نظريًّا اختبارها على نحو مستقل؛ أولًا: لأن النظرية تؤكد تفرُّد أداة الدراسة الخاصة بالتحليل النفسي، وثانيًا: لأنها تخضع للتفسيرات التي لا يمكن التحقق منها على نحو مستقل مقابل البيانات الأولية. ليست ٤ قابلة للاختبار بسهولة؛ فليست الأحداث العامة هي ما يهم ولكن معناها بالنسبة للمريض. ويمكن بسهولة بتر الروابط من ٤ إلى ٣ ومن ٣ إلى ٢ والتخلي عنها (المصدر: جيلنر (١٩٩٣)، ٢٢٤).

من ناحية، تساهم الاستدلالات في إضفاء بنية عقلية على الظواهر، كما هي الحال في أي علم طبيعي آخر (فرويد ١٩٣٨، ١٩٦). ومن الناحية الأخرى، فإن الاستدلالات لا تمتلك جميعها درجات متساوية من الاحتمالات. يعتقد فرويد بوضوح أن بعض الاستدلالات أكثر احتمالًا من غيرها في ضوء الأدلة. (فرويد ١٩١٦أ، ٥١، ٢٣٨؛ ١٩١٦ب، ٣٠٠–٣٠٢)

أبدى فرويد على الأقل فهمًا جزئيًّا للحاجة إلى النظر في النماذج المنافسة؛ ففي خلال عمله على الأحلام والنكات والحياة الجنسية وزلات اللسان والمحرمات درس النماذج المنافسة ولكنه وجد أنها غير ملائمة. وفقًا لفرويد، فإنها لا تفسر الأدلة على نحو كافٍ. وخلص فرويد، متعجلًا، من هذا الرفض للنماذج المنافسة إلى أن نموذجه التحليلي النفسي لا بد أنه النموذج الصحيح. ولسوء الحظ فإن الأساس الإثباتي لادعائه محدود للغاية؛ فهو يتألف من تفسير الأحلام والزلات الفرويدية وتحليل نتائج التداعي الحر، الذي ألهمه بناء نموذج التحليل النفسي في المقام الأول (فرويد ١٩١٠، ١٧-١٨). لا يقبع النموذج الفرويدي من حيث الممارسات الاستدلالية على نفس مستوى النموذجين الكوبرنيكي والدارويني؛ فهو يُخفق في استخلاص نتائج جديدة قابلة للاختبار من نموذج العقل. إنه مُنشأ بحيث يتوافق مع الحقائق المعروفة مسبقًا على نحو مستقل، وهي السلوك العصبي وزلات اللسان والأحلام الغريبة. وعلى مستوى نموذج الاستقراء الإقصائي، لا يوجد شيء خاطئ في بناء نموذج يتلاءم مع الحقائق المعروفة، ولكن نموذج العقل لفرويد لا ينبغي أن يدَّعي أنها أدلة داعمة له. ولا يمكن أن تكون الأدلة المذكورة داعمة للأسباب التالية: (أ) الفكرة الأساسية للاوعي ليست قابلة للاختبار على نحو مستقل. (ب) لا توجد أي حقائق معروفة على نحو مستقل — بخلاف تلك التي تُشكِّل أساس النموذج — متلائمة مع النماذج الفرويدية، ولم يبين فرويد قط أن نموذج التحليل النفسي مدعوم بوضوح بالأدلة المتاحة على حساب النماذج المنافسة، ولم يتبين أن النماذج المنافسة لا تتفق مع الأدلة. (ﺟ) لا تنبع نتائج استنتاجية من النموذج الفرويدي بسبب عدم اتساقه.

تذكَّر وجهات النظر المنهجية لهِيكل وهَكسلي بشأن المناهج الملائمة في علم الأحياء التطوري. ربما نستخدم خطوات استقرائية من الأدلة المتاحة لبناء نموذج، ولكن هذا يجعل النموذج مجرد فرضية، ويجب اختبار هذا النموذج بعد ذلك، وقد تأخذ الاختبارات شكل تنبؤات دقيقة، أو نتائج استنتاجية أو استقرائية، أو ملاءمة حقائق معروفة على نحو مستقل. كان فرويد بارعًا في صياغة نموذج معقول للعقل ولكنه كان سيئًا فيما يتعلق باختبار النموذج. ادعى فرويد أن نموذجه كان استدلالًا لأفضل تفسير، ولكنه ليس استدلالًا لأفضل تفسير «مقارن» (انظر سولواي ٢٠٠٥أ، ب).

اعتقد فرويد أنه يستطيع تعزيز مصداقية التحليل النفسي من خلال التناظر مع الفيزياء، ولكن التناظرات تأتي دائمًا بالترافق مع الاختلافات، وقد أخفق منطق فرويد لأنه لم يولِ اهتمامًا كافيًا للاختلافات مع الفيزياء.

إن نموذج فرويد للعقل نموذج تماثلي (في ضوء مناقشتنا السابقة لدور النماذج)، ولكن فرويد عامَل نموذجه للعقل كنموذج ميكانيكي واقعي. كان في محاضراته في فيينا يرى أن المحلل النفسي يجب أن يعمل مع اللاوعي كما لو كان «شيئًا ملموسًا بالنسبة للحواس» (فرويد ١٩١٦ب، ٢٧٩). ورسم نموذجه الثلاثي للعقل كبنية موسعة، جهاز عقلي، يحتل فيه الهو والأنا والأنا العليا مناطق محددة تحديدًا تامًّا (فرويد ١٩١٦ب، ٢٨٣؛ ١٩٣٨، الفصل الثامن؛ انظر شكل ٣-٢). إن مفهوم الفرويدية للعمق، كما يصفه أحد الكتاب:

يؤدي إلى خطأ؛ لأنه يشجعنا على تحويل النزعات والآليات المعرفية والعاطفية إلى مواد. (ريلير ٢٠٠٥أ، ٢٢٤، راجع ٢١٩، ٢٢٨، ترجمة المؤلف)

fig48
شكل ٣-٢: تمثيل من كتاب تعليمي للنموذج الفرويدي للعقل (المصدر: مقتبس من فاريس (١٩٨٨)، ٨٠).

إن دور الاستدلال التناظري واسع الانتشار كثيرًا في كتابات فرويد. على سبيل المثال، يدَّعي فرويد أن دراسة العصاب تقدِّم للمحلل النفسي أهم المؤشرات القيِّمة لفهم الحالة الطبيعية (فرويد ١٩٣٠، ١٣٥؛ ١٩٢٧ب، ١٦٥). لم يؤكَّد على دور التفكير التناظري بما فيه الكفاية في أعمال فرويد. لنلقِ نظرة على بعض الأمثلة:

  • (١)

    ثمة مقارنة بين «الاقتصاد النفسي» والمشاريع التجارية (فرويد ١٩٠٥ب، ١٥٦).

  • (٢)

    يوجد تناظر بين عمل الحلم وعمل النكات بسبب التشابهات في التقنيات (فرويد ١٩٠٥ب، ١٦٥، ١٧١؛ ١٩٢٧ب، ١٦٥).

  • (٣)

    يوجد تشابه بين الدين والعصاب لدى الأطفال؛ فيرى فرويد أن الطفل لا يمكنه أن يتطور نحو الثقافة دون المرور عبر مرحلة العصاب. وعلى نحو مشابه، لا بد أن تمر البشرية نفسها، في تطورها نحو الحضارة، عبر مرحلة دينية تشبه العصاب (فرويد ١٩٢٧أ، ٤٣، ٥٣).

  • (٤)

    يُقارن نظام اللاوعي بقاعة استقبال كبيرة، حيث تتصادم الدوافع العقلية بعضها مع بعض مثل الأفراد (فرويد ١٩١٦ب، ٢٩٥).

بالطبع لا شيء خاطئ في استخدام المنطق التناظري إذا كان يخدم أغراضًا استكشافية، ولكن لدى فرويد ميل لبدء منطقه بتناظر يتحول خلسة إلى تأكيد. فيميل إلى نسيان أن المنطق التناظري ليس «بديلًا» للإثبات.

طريقة الاستقراء الإقصائي، مرة أخرى

تذكَّر الإجراء العام للاستقراء الإقصائي؛ فمن بين عدد من النظريات التفسيرية المتنافسة، يختار الاستقراء الإقصائي النظريات التي تتفق على أفضل وجه مع القيود المتاحة. ويستند هذا إلى الفكرة الرئيسية القائلة بأنه ليس كل الحالات «الإيجابية» للنظرية تُمثِّل أيضًا حالات «داعمة» لتلك النظرية؛ فالحالات الإيجابية مجرد تطبيقات ملموسة للمبادئ العامة للنظرية، لكن النظريات المنافسة تدعي أيضًا أنها يمكن أن تفسر هذه الحالات. إن أي بناء لجسر جديد يُعد حالة إيجابية لميكانيكا نيوتن. وتختبر الحالات الداعمة ادعاءات النظريات. وبالنسبة لقابلية الدحض، يأتي ذلك في شكل تنبؤات من النظرية جديدة ودقيقة وقابلة للاختبار. تم التنبؤ بوجود كوكب نبتون من نظرية نيوتن. وعندما اكتُشف الكوكب، اعتبر ذلك حالة داعمة لميكانيكا نيوتن للأجرام السماوية. تخيَّل أنه لا يمكن إجراء مثل هذه التنبؤات الدقيقة؛ لأن المتاح هو عدد قليل فقط من النماذج التقريبية. سيظل من الممكن لأحد النماذج أن يجد الدعم في الأدلة على حساب النماذج الأخرى. (يمكن تشبيه ذلك بقائمة للمشتبه بهم في قضية قتل، وغالبًا ما تتجمع الأدلة المتزايدة حول أحد المشتبه فيهم وتُقصي الآخرين جميعًا.) قد تأتي الأدلة في صورة تجارب حاسمة، وتُقيَّم مصداقية عدد من النماذج المتنافسة مقابل وزن الأدلة التجريبية المستمدة من التجارب الحاسمة. من الناحية المثالية، يتوافق نموذج واحد فقط من النماذج مع الأدلة، في حين لا تتوافق النماذج الأخرى. وفي هذه الحالة، يُقال إن الأدلة «تدعم» النموذج المتبقي وتدحض النماذج المنافسة له. تدحض الأدلة نموذجًا ما؛ لأنه لا يستطيع أن يفسرها، وتدعم نموذجًا آخر؛ لأنه يستطع أن يفسرها. على سبيل المثال، إذا كانت توجد أدلة مؤكدة للغاية حول المدارات البيضاوية للمذنَّبات، فإن أي نماذج كوكبية، لا تستطيع تفسير هذه الأدلة، تعاني في مصداقيتها. وتعود هذه الأفكار الأساسية إلى فرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل.

ناقشنا مجموعة من «ملامح» هذا الشكل المتطور من الاستقراء في فصل سابق. وتتمثل السمات الرئيسية في:
  • التمييز بين الأدلة «الإيجابية» و«الداعمة».

  • استكشاف «فضاء الاحتمالات». وهذا هو المجال المفاهيمي للتفسيرات المتنافسة الفعلية أو المحتملة، التي يمكن أن تفسر البيانات التجريبية على نحو متساوٍ للغاية، وربما تكون هذه النظريات غير متوافقة بعضها مع بعض.

  • مشكلة «ملاءمة الحقائق المعروفة» مقابل «التنبؤ بحقائق جديدة».

  • تصور لما يشكل «التفسيرات المتنافسة» التي تتضمن مساحات قيود مختلفة، مقابل «التفسيرات البديلة» التي توجد في مساحة القيود ذاتها.

لنَقِسْ معيار نظرية فرويد من خلال طريقة الاستقراء الإقصائي. ويمكننا أن نفعل ذلك من خلال دراسة بنيات القيود، التي تبدأ منها عملية الإقصاء. على سبيل المثال، تأمَّل طريقة تطبيق الجانب العلاجي من نظرية فرويد.

تذكَّر أن فرويد ادعى تحقيق بعض النجاح العلاجي على الأقل لطريقته، ولكن طريقة الاستقراء الإقصائي تمنعنا من دعم عبارة أن التحليل النفسي علاجي وحسب؛ لأن بعض المرضى يتحسنون بعد العلاج (جرونباوم ١٩٧٧أ، ٢٢٢؛ ١٩٨٥). فلا يمكن إثبات هذا الادعاء القوي من خلال أسلوب الاستقراء الإقصائي. لا تقدِّم الحالات «الإيجابية» للمرضى الذين يتعافون من العصاب بعد تلقِّي العلاج؛ الدعم للقيمة العلاجية للعلاج الفرويدي، ربما يكون مجرد ارتباط وهمي، مثل ذلك الرابط بين تناول القهوة والتعافي من البرد. ولتجنب مثل هذه الارتباطات الوهمية علينا استبعاد النظريات المنافسة من بين مجموعة التفسيرات المحتملة؛ ومن ثم، فإنه من أجل إثبات التأكيدات القوية التي قدمها الفرويديون بشأن الفعالية العلاجية، ينبغي وضع عدد من إجراءات السيطرة موضع التنفيذ (جرونباوم ١٩٧٧أ):

  • العلاج الوهمي في المجموعات الضابطة.

  • أشكال علاج غير التحليل النفسي (على سبيل المثال، استخدام الأدوية).

  • دراسة الشفاء العفوي.

لم يضع الفرويديون إجراءات الضبط هذه موضع التنفيذ. وإذا لم تُستبعَد هذه التفسيرات المحتملة، فلا يمكن للعلاج الفرويدي أن يدَّعي مصداقية أكثر من منافسيه. إن ميل فرويد إلى الاستدلال على دقة منهجه من فشل النماذج المنافسة أمر غير منطقي ما دامت لا توجد أدلة داعمة للتحليل النفسي.

أظهرت الدراسات السريرية أن موثوقية العلاج بالتحليل النفسي ليست مثيرة للإعجاب كما يدَّعي الفرويديون (انظر ماير (٢٠٠٥)، الجزء الثالث والرابع)، ولكن لن يكون علميًّا من خلال طريقة الاستقراء الإقصائي؛ لأن الحالات الإيجابية لنجاح العلاج لم يثبت أنها حالات داعمة (للتحليل النفسي)؛ ومن ثم لم تزد مصداقية النظرية العلاجية الفرويدية وتنخفض مصداقية منافسيها. فقط مجموعة من الحالات الإيجابية، مع حالات فشل طرائق العلاج الأخرى غير التحليل النفسي وعدم وجود حالات شفاء عفوي وعدم تحقيق حالات العلاجات الوهمية للنتيجة نفسها، يمكن أن تُشكِّل حالات داعمة استقرائيًّا للنظرية العلاجية الفرويدية؛ ومن ثَمَّ فإن الاحتمالية المنطقية لهذه الحالات الداعمة تسير جنبًا إلى جنب مع الاحتمالية المنطقية للحالات الداحضة (جرونباوم ١٩٧٧أ، ٢٣٢؛ جيلنر ١٩٩٣، ١٩٩–٢٠٣، ٢٠٨-٢٠٩).

يبدو أن فرويد قد نسي درسًا أشار إليه بوضوح في بداية حياته المهنية:

أي شخص (…) يعمل علميًّا في بناء الفرضيات سوف يبدأ في أخذ نظرياته على محمل الجد فقط إذا كان يمكن ملاءمتها مع معرفتنا من أكثر من اتجاه واحد، وإذا كان يمكن تجنب «البناء المخصص» فيما يخص هذه النظريات. (فرويد ١٨٩٥، ٣٠٢)

ثمة نطاق آخر يغطي فيه المنطق التناظري الفرويدي البنية العميقة لنظامه بدلًا من الكشف عنها. إن التفكير من خلال التناظر مع العلوم الطبيعية ساعد فرويد على إخفاء حقيقة أن نظامه لا يستطيع الاعتماد على الأدلة التجريبية وحدها؛ بل يجب أن يقترض من علاقات المعنى، وهي سمة من سمات العلوم الإنسانية. وتتضح هذه الحاجة إلى اقتراض العلاقات الرمزية من حقيقة أن الأعراض العصبية والأحلام وزلات اللسان تخضع للتأويل.٤ وتسترشد التأويلات ﺑ «الصحة» المقبولة مسبقًا لنظرية التحليل النفسي.

(ﻫ) فرويد بين النماذج التجريبية والتفسيرية

في عصر العلموية كان فرويد متحمسًا على نحو مفهوم لترسيخ أوراق الاعتماد العلمية للتحليل النفسي، ولم يتوقف قط عن مقارنة التحليل النفسي مع العلوم ذات الثقل. وإذا لم تكن المقارنة مع الفيزياء، فهي مع الرياضيات:

التحليل النفسي في الواقع هو طريقة للبحث، أداة محايدة، مثل حساب التفاضل والتكامل. (فرويد ١٩٢٧أ، ٣٦)

إذن، وضع فرويد التحليل النفسي بقوة في جانب النماذج التجريبية للعلوم الاجتماعية؛ فهو علم — على غرار العلوم الطبيعية ذات الثقل — يعمل بالفرضيات، والأدلة التجريبية، والقوانين، والإثباتات. وفقًا لفرويد، فإن هذا الوضع للتحليل النفسي ممكن؛ لأن علمه يعتمد على الحتمية النفسية باعتبارها واحدة من أركانه. «العشوائية النفسية لا وجود لها» (فرويد ١٩٠١أ، ٦٨٠). إذا لم تكن العشوائية موجودة في الظواهر العقلية، يجب إذن أن نتوقع أنها خاضعة لقوانين الطبيعة، مثل الكواكب. وكما سنرى، فإن الاقتناع بأن السلوك البشري الذي تحكمه القوانين الاجتماعية والنفسية كان شائعًا لدى الآباء المؤسسين للنموذج التجريبي للعلوم الاجتماعية؛ فمن كتاب «تفسير الأحلام» (١٩٠١) الشهير إلى كتابه الأخير «الموجز في التحليل النفسي» (١٩٣٨)، يصر فرويد على أن الحياة العقلية تقوم على الانتظام القانوني؛ فمهمة التحليل النفسي هي اكتشاف القوانين النفسية، وقد تمثلت مشكلة فرويد في أنه لا الأحلام ولا زلات اللسان ولا أنماط السلوك تُشكِّل بيانات موضوعية خامًا؛ فيجب تأويل البيانات، والتحليل النفسي هو مجرد أداة واحدة لتقديم هذا التأويل. وتوجه الحاجة إلى تأويل المادة النفسية فرويد بوضوح نحو اتجاه النموذج التفسيري للعلوم الاجتماعية؛ ووفقًا لهذا النهج، فإن السلوك البشري له أبعاد رمزية، الأمر الذي يتطلب الحاجة إلى الفهم. ما الشكل الذي يأخذه الفهم لدى فرويد؟ إنه يأخذ شكل الاستدلالات. يستدل فرويد من الأعراض الملحوظة على سبب كامن، يمثله نموذج اللاوعي (شكل ٣-٢). وعلى الرغم من أن فرويد يدَّعي أن اللاوعي موجود كجزء من جهاز أكبر، فإن هذا النموذج يُمثِّل بالفعل تأويلًا، ولكن:

التأويل لا يسكن إلى نواة أخيرة من المواد اللاواعية، التي تكشف عن المعنى الكامل للحلم الذي لا جدال فيه. (كوهين، ٢٠٠٥، ٤١)

واعترف فرويد بهذه المشكلة على مضض عندما أشار إلى أن:

التحليل النفسي يصبح صعبًا من خلال حقيقة أنه لا يستطيع أن يصل إلى بياناته وكذلك استنتاجاته إلا باتباع طرق غير مباشرة. (فرويد ١٩٠٥أ، ٢٠١)

تذكَّر أن فرويد يقارن الإجراء التحليلي بإجراء مماثل في العلوم المادية. وفي كلا المجالين نحاول الوصول إلى فهم لبعض الظواهر من خلال بناء نموذج. تتمثل المشكلة في أن الفرضية الأساسية للنموذج الفرويدي لا يمكن اختبارها على نحو مستقل؛ فهي بطبيعتها مخبأة في أعماق العقل. ولا يستطيع التحليل النفسي تقديم حقائق صلبة كدليل على وجود اللاوعي، بل يستطيع وحسب تقديم بيانات قبل تأويلها، كما تكشف عن نفسها في الأحلام والزلات الفرويدية والسلوك غير الطبيعي. كان فرويد محقًّا في الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية أيضًا تقوم باستدلالات لأشياء غير قابلة للرصد. على سبيل المثال، يستدل العلماء على العمليات النووية في الشمس من التحليل الطيفي لأشعة الشمس على الأرض. واستدل كبلر على المدارات البيضاوية من بيانات براهي. لماذا تجذب الاستدلالات الفرويدية هذا العداء؟ من ناحية، قدَّم فرويد عددًا محدودًا من التقنيات وحسب، وأخفق في توضيح الكيفية التي تدعم بها الأدلة نهجه، بينما تدحض في الوقت نفسه النُّهُوج الأخرى. ومن الناحية الأخرى، لا يستطيع فرويد ترسيخ أوراق الاعتماد العلمية لنموذجه للعقل دون اقتراض تقنيات تنتمي إلى تحليل الكلام ذي المغزى في العلاقات الإنسانية، وقد استنتج هابرماس أن التحليل النفسي الفرويدي هو في الأساس مسألة تأويلية. إنه ليس علمًا تجريبيًّا ولكن مشروع تفسيري (هابرماس ١٩٦٨، الفصل الثالث، ١٠؛ ١٩٨٣، ٢١٤، ٢٣٠)، ولكن، كما سنقول، فإن العلوم الاجتماعية عمومًا، وليس فقط منهج فرويد، تقبع في موضع وسط بين النماذج التجريبية والتفسيرية.

(و) دور العقل في العالَم الاجتماعي

مشكلة العقول الأخرى هي محور العلوم الاجتماعية. (هوليس ١٩٩٤، ١٦٠)

أدى تقييم التحليل النفسي كعلم تجريبي إلى حكم سلبي؛ فبدلًا من التوجه نحو العلوم الطبيعية، يتوجه التحليل النفسي نحو العلوم الاجتماعية؛ ففي العلوم الاجتماعية نواجه جوًّا فلسفيًّا مختلفًا نوعًا ما. يتمثل السؤال الأساسي هنا هل كانت العلوم الاجتماعية تُشكِّل مجالًا للدراسة من تلقاء نفسها — كما يدَّعي النموذج التفسيري — أم هل كان مجال الدراسة هذا يظهر بعض التداخل مع العلوم الطبيعية؛ كما يشير النموذج التجريبي؛ ولذلك فإننا نمتلك مبررًا لدراسة فرويد في سياق العلوم الاجتماعية. وكما رأينا، لعب العقل اللاواعي دورًا رئيسيًّا في رؤية فرويد للشئون الإنسانية، وساعد على تفسير السلوك البشري الفردي وكان أساس الثقافة. وسواء اعتمدنا نهجًا تفسيريًّا أم نهجًا تجريبيًّا في العلوم الاجتماعية، فمن الصعب إنكار أن الأبعاد الرمزية تلعب دورًا مهمًّا فيهما. وسواء كان الأمر يتعلق بإيماءات بسيطة في اللقاءات اليومية أو في أطر مؤسسية كاملة، فإن السلوك البشري يميل إلى أن يكون أكثر من مجرد فعل مادي؛ فهو ينحو إلى أن يكون ذا معنًى بحيث يعمل الفاعل الاجتماعي باستمرار، ودون قصد، على تأويل سلوك البشر الآخرين. وكما يشير سيرل:

عندما ننخرط في أعمال إنسانية طوعية، نبدأ عادةً على أساس المبررات، وهذه المبررات تعمل سببيًّا على تفسير سلوكنا، ولكن الشكل المنطقي لتفسير السلوك البشري في سياق المبررات يختلف جذريًّا عن الأشكال المعيارية للسببية. (سيرل ٢٠٠٤، ٢١٢)

بإدراك دور العقول الأخرى في العالَم الاجتماعي فإنه يحين الوقت أيضًا لتخطي فرويد. يتألف العالَم الاجتماعي من الفاعل الرمزي الذي تُمثِّل تفاعلاته موضوع دراسة التخصصات المتنوعة مثل الأنثروبولوجيا والاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع. وهي تُشكِّل مجموعة التخصصات التي تسمى العلوم الاجتماعية. وعلى غرار العلوم الطبيعية تمامًا، فإنها تولِّد مشكلات فلسفية بارزة.

(٤) العلوم الاجتماعية بعيدًا عن فرويد

أمور العقل هي أمور العالم، وهكذا فإن دراسة بنية العالَم الغنية تمدنا بطريق ملحوظ بوضوح وممهد تجريبيًّا — إن لم يكن طريقًا سهلًا — للوصول لبلدان العقل الخفية. (توبي/كوزميدس، «الأسس النفسية للثقافة» (١٩٩٥)، ٧٢-٧٣)

إن التوتر الذي يمر عبر عمل فرويد يميز تاريخ العلوم الاجتماعية؛ فعلى غرار التحليل الفرويدي، ظهرت العلوم الاجتماعية في مناخ العلموية في نهاية القرن التاسع عشر، وقد طرح هذا الموقف الإشكالي على الفور تحديًا فلسفيًّا على متخصصي العلوم الاجتماعية. هل يجب أن تميل العلوم الاجتماعية — التي يتمثل موضوع دراستها في المجتمع — نحو العلوم الطبيعية أم العلوم الإنسانية؟ لا يزال هذا السؤال الفلسفي الذي لا مفر منه يحير العقول. ولكي نقدِّر الأبعاد الفلسفية للعلوم الاجتماعية، ونرى أوجه التشابه والاختلاف مع العلوم الطبيعية، من المهم أن نتجاوز التحليل النفسي ونُلقي نظرة على آراء أخرى للحياة الاجتماعية. سنناقش جذور ومبادئ نموذجين معياريين في العلوم الاجتماعية، وهما نموذجان مفاهيميان وُضعا تماشيًا مع العلوم الطبيعية ومعارضَيْن لها. وبعد هذه المناقشة سوف نوجه انتباهنا إلى بعض المشكلات الفلسفية النموذجية في العلوم الاجتماعية.

(٤-١) خلفية تاريخية لنموذجين معياريين للعلوم الاجتماعية٥

من الأمور الأساسية للعلم أن الآراء تكون مدفوعة بالأدلة. (إيرمان، «البايزية أو الإخفاق» (١٩٩٦)، ٢٠١)

أصبحت العلوم الاجتماعية متحررة من الفكر الفلسفي قُبيل نهاية القرن التاسع عشر؛ فكان المناخ الفكري في القرن التاسع عشر تهيمن عليه الفيزياء الكلاسيكية والداروينية وردود الفعل الفلسفية حيال التنوير. وتعكس النماذج الفلسفية للعلوم الاجتماعية — سماتها الأنطولوجية وأساليبها وأهدافها — هذه التيارات الفكرية. وبرز نموذجان متنافسان. (بين ثلاثينيات القرن العشرين وسبعينياته، ظهر نموذج ثالث هو النموذج النقدي، أو مدرسة فرانكفورت، الذي ربط بين المنهج الماركسي ومنهجية فيبر.) وسوف ندعو النموذجين المتنافسين «النموذج الطبيعي» و«النموذج التفسيري» على الترتيب. ويأتي كلاهما من أصول مختلفة. رأى النموذج الطبيعي — كان يُطلق عليه في بعض الأحيان أيضًا «النموذج التجريبي» — جذوره في الفيزياء الكلاسيكية، وقد رأى النموذج التفسيري — الذي كان يسمى أحيانًا «النموذج التأويلي» — أصله في مجال التاريخ. وسنركز في هذا الجزء على جذورهما ومبادئهما الأساسية.

(أ) النموذج الطبيعي

تكمن الجذور الفكرية للنموذج الطبيعي في فرنسا، في بداية القرن التاسع عشر (هايك ١٩٥٥، الفصل الثاني). كانت فرنسا قد خاضت نسختها الخاصة من التنوير. وركز فلاسفة التنوير الفرنسيون على التجريب كمصدر لكل المعرفة، وتقسيم القوى السياسية، وأعربوا عن إعجابهم القوي بالفيزياء النيوتونية. فرضت الثورة الفرنسية انقلابًا جذريًّا على الهيكل المؤسسي للمجتمع الفرنسي، وقدَّم اثنان من المفكرين الاجتماعيين في هذا المناخ أفكارهما بشأن نموذج فلسفي للعلوم الاجتماعية: هنري دي سان سيمون (١٧٦٠–١٨٢٥) وأوجست كونت (١٧٩٨–١٨٥٧).

ونجد في مخطط سان سيمون الخصائص الرئيسية لبرنامج طبيعي للعلوم الاجتماعية:
  • «وحدة الأسلوب»: توحيد المعرفة العلمية والأساليب في إطار برنامج واحد.

  • «المذهب الفيزيائي»: استخدام العلوم الفيزيائية وأدواتها كأدوات ملائمة للعلوم الطبيعية والاجتماعية.

  • «وحدة المنهج»: منهج للطبيعة والمجتمع على أساس المنطق العلمي.

كان منهج سان سيمون جديدًا: يجب أن تُعامل مشكلة التنظيم الاجتماعي «تمامًا بالطريقة نفسها التي يعامِل بها المرء الأسئلة العلمية الأخرى» (هايك ١٩٥٥، ١٣٥). توقَّع سان سيمون بوضوح الموضوعات التي كانت ستهيمن على الفكر في العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر. وفي عام ١٨١٣ أشار سان سيمون بالفعل إلى أن جميع العلوم يجب أن تصبح «إيجابية». تحدَّث أوجست كونت لاحقًا عن «الفلسفة الوضعية»، ووفقًا لبرنامج الوضعية، كان ينبغي أن يصبح علم الاجتماع علمًا طبيعيًّا (هايك ١٩٥٥، ١٣٨–١٤٢، ١٦٨–١٨٨؛ يوناس ١٩٦٨، المجلد الثاني، ٩٥–١١٥). ويعني أن يصبح علم الاجتماع وضعيًّا أنه يجب أن يتعامل مع موضوعه كنظام من الحقائق الطبيعية. وعلى هذا النحو فإنه يُجرَّد من النوايا والأغراض والقيم. كان أحد الموضوعات الرئيسية في هذه الحقبة هو البحث عن القوانين الطبيعية للسلوك البشري (جون ستيوارت ميل) أو التنمية المجتمعية (أوجست كونت، كارل ماركس، آدم سميث).

غير أن أوجست كونت يؤكد على أن الحقائق التي يشير إليها التفسير العلمي لا توجد إلا في ترتيب تاريخي معين. وفي إطار هذا الترتيب تُشكَّل كحقائق. ويجب أن تضع الفلسفة الوضعية القوانين الأساسية للترتيبات ذات الصلة التي توجد فيها الحقائق. ومفتاح علم الاجتماع بالنسبة لكونت هو فلسفة التاريخ. وميز كونت بين جزءين من علم الاجتماع: الاجتماع الثابت والاجتماع المتغير، وهما معًا يشكلان القانون الأساسي للنظام المجتمعي الذي يستند إليه التفسير الإيجابي (جدول ٣-١).
ثمة علاقة بين الاجتماع الثابت والفيزياء الاجتماعية. يصبح علم الاجتماع علميًّا من خلال إظهار كيف أن النظام الاجتماعي الحالي يُمثِّل نتيجة لتطور الحضارة. يرى كونت أنه «توجد قوانين واضحة تحكم تطور الجنس البشري مثل القوانين التي تحتم سقوط التفاحة» (كونت ١٨٥٣، الفصل الأول؛ هايك ١٩٥٥، ١٧٨، ١٣٨). وعلاوة على ذلك، فإن الطابع الأساسي في كل الفلسفة الوضعية هو اعتبار جميع الظواهر خاضعة ﻟ «قوانين طبيعية ثابتة». ويجب أن تكون القوانين، بدورها، موحدة في أصغر عدد ممكن (هايك ١٩٥٥، ١٧١، ١٧٥)، ومع ذلك، لم يكن كونت يعتقد أن جميع العلوم يمكن أن تُوحد عن طريق اختزالها إلى الفيزياء، بل بدلًا من ذلك، يوجد تسلسل هرمي وضعي بين العلوم. فظهور علم الاجتماع يفترض مسبقًا تطور الرياضيات وعلم الفلك والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء بترتيب خطي. وهكذا، فإن علم الاجتماع يرتبط مع الأحياء على نحو أكبر من الفيزياء، كما قد يشير استخدام مصطلحي «الكائن الاجتماعي» و«التكافل العضوي» في جدول (٣-١). لا يتشارك كونت في رأي سان سيمون في المجتمع باعتباره آلة حقيقية على أساس صناعي. وفي شرحه للفلسفة الوضعية، يلجأ كونت على نحو متكرر للظواهر المرصودة. ويرفض البحث عن أسباب «نهائية» أو «رئيسية». فجميع العلوم تتعامل مع الحقائق المرصودة. وشَكَّلَ هذا اللجوء بالنسبة لكونت تتويج علم الاجتماع كعلم وضعي. بيد أن هذا الرأي أصبح سببًا للخلاف. هل يمكن التعامل مع موضوعات العلوم الاجتماعية كحقائق خارجية؟ هل الحقائق الاجتماعية متطابقة مع الحقائق الطبيعية؟ هل يمكن أن تكون الحقائق الاجتماعية مرتبطة بنفس طريقة ارتباط الحقائق المادية؟ هل تَشرُّب العلوم الاجتماعية للعلوم المادية مناسب؟ يعتبر سايمون وكونت أنه من المسلَّم به أن هذه الأسئلة يمكن الإجابة عليها بالإيجاب، ومع ذلك، فإن هذه الأسئلة تخفي افتراضات، سرعان ما ستكون موضع شك. سعى النموذج التفسيري إلى جعل أساس العلوم الاجتماعية دراسة التاريخ، وليس فلسفة التاريخ. وغالبا ما أشار أنصار النموذج التفسيري في نهاية القرن التاسع عشر إلى العلوم الاجتماعية كعلوم أخلاقية أو دراسات بشرية أو علوم الروح. وتكشف هذه الدلائل البديلة رفض أنصار النموذج التفسيري معادلة الحقائق الاجتماعية مع الحقائق الطبيعية؛ ففي حين أن الحقائق الطبيعية خالية من المعنى والغرض والقيمة، فإن هذه الأشياء تُمثِّل سمات جوهرية للحقائق الاجتماعية.
جدول ٣-١: أوجست كونت: الاجتماع الثابت والفيزياء الاجتماعية.
الثبات الاجتماعي التغير الاجتماعي أو الفيزياء الاجتماعية
مرحلة المجتمع الحاضر المواد الضرورية والتطور الفكري للبشرية
المبدأ الأساسي التكافل العضوي قانون المراحل الثلاثة
الوحدات الأساسية الأفراد أو الأسرة أو المجتمع (كمجمل الأسر) أو الكائن الاجتماعي

المراحل:

«الدينية»: كل الظواهر تحكمها قوًى خارقة للطبيعة.
«الميتافيزيقية»: الأشياء لها جوهر، والطبيعة تحكمها مبادئ غير قابلة للرصد.
«الإيجابية»: البحث عن القوانين الحقيقية للظواهر المرصودة.
الآلية الأساسية تقسيم العمل الخلافة أحادية الاتجاه للمراحل الثلاث
البنية الاجتماعية السياسية الإذعان للسلطة الحكومية من الوجود العسكري إلى الصناعي

(ب) النموذج التفسيري

أعتقد أننا يجب أن نخلص إلى أن الفراغ التقنيني بين العقلية والمادية ضروري ما دمنا نتصور الإنسان حيوانًا عقلانيًّا. (ديفيدسون ١٩٧٠، ٢٢٣)

لكي نتعرف على أصل النموذج التفسيري، علينا الانتقال من فرنسا إلى ألمانيا، حيث كان للتنوير تركيز مختلف. في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، كانت ألمانيا موطنًا للمثالية. وفي منتصف القرن التاسع عشر، حدث نهوض للوعي التاريخي: فعارض ماركس المثالية الموضوعية الهيجيلية وانتقد نيتشه الإخلاص الأعمى للتقاليد. وشجع الوعي التاريخي على التفكير في دور اللغة والتاريخ في الشئون الإنسانية. وكان يتفق مع تقاليد التنوير الألمانية أن وضع الفلاسفة والمؤرخون الألمان تركيزًا قويًّا على مسألة الأسلوب. يشير مصطلح «التفسير» في الأصل إلى فن الفهم، ولا سيما تأويل النصوص المقدسة والوثائق التاريخية، ولكن شرع المؤرخون الألمان أيضًا في التفكير في طبيعة مجالهم. وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولادة «مذهب التاريخانية» في ألمانيا. أكدت التاريخانية على أهمية التطور التاريخي للأحداث، الذي كانت تراه فريدًا من نوعه. اعتُبرت الأحداث التاريخية والاجتماعية أحداثًا خاصة، بسبب ارتباطها بالتقاليد الثقافية والسياقات القومية. وكانت الدراسات البشرية — كما كانت معروفة — منشغلة في ذلك الوقت بالمناقشات الفلسفية للطرق المناسبة لمجالها. وبالنسبة لفلسفة العلوم الاجتماعية، تبرز مساهمات رجلين؛ أولهما كان يوهان درويسن، الذي ربما كان أول من يميز بين مصطلحي التفسير والفهم (درويسن ١٨٥٨؛ أبيل ١٩٧٩، ١٥-١٦؛ جادامر ١٩٧٥). عمل هذا التمييز على التفرقة بين العلوم الطبيعية — خاصة الفيزياء الرياضية التي كان يُعد هدفها «التفسير» — والعلوم التاريخية التي كان يُعد هدفها «الفهم». وفقًا لدرويسن، يُعد الفهم استدلالًا من التعبيرات الخارجية على الأحداث الداخلية. اتبع فرويد، بطبيعة الحال، إجراءً مماثلًا؛ وهو أن البشر يُعبِّرون عن أحداث عقلية بأقوال خارجية أو عامة بحيث إن كل «قول يعكس حدثًا داخليًّا.» وتستخدم هذه الأقوال العامة وسيلة اللغة، تمامًا مثل الوثائق التاريخية. ويستدل عالِم الاجتماع من التعبيرات العامة معناها المقصود. وتتضمن كل من الأقوال العامة والوثائق التاريخية أبعاد المعنى.

figure
يوهان جوستاف درويسن (١٨٠٨–١٨٨٤).

ومع ذلك، يقع مؤوِّل العبارات العامة في «دائرة تفسيرية»؛ إذ تُفهم عبارة ما (أو «تُشتَق») من سياق كلي، ويُستدل على معنى هذا السياق الكلي (أو «يُستنتَج») من هذه العبارة (أو عدد من هذه العبارات). وربما يشير «السياق الكلي» إلى ثقافة أو لغة أو حتى نموذج أو رؤية كونية. ومن ثَمَّ، يجب أن يُفهم الرمز أو الإيماءة ضمن الثقافة المندمجة فيها، ويجب إعادة بناء «الثقافة» من تعبيرات مفردة عنها. ليست هذه الدائرة التفسيرية مجرد سمة غريبة لمنهج درويسن. إنها من السمات المهمة للظواهر العقلية، كما يقول ديفيدسون: «نحن نفهم معتقدات معينة فقط لأنها تتحد مع معتقدات أخرى، مع تفضيلات، مع نوايا وآمال ومخاوف وتوقعات وما إلى ذلك. (…) إن محتوى التوجه الافتراضي مستمد من مكانه في النمط» (ديفيدسون ١٩٧٠، ٢٢١؛ راجع جادامر ١٩٧٥، الجزء الثاني، الفصل الأول).

في معارضة مباشرة للوضعية، قدَّم درويسن ادعاءً بالاستقلالية «المنهجية» للعلوم التاريخية؛ فالبحث التاريخي لا يسعى إلى التفسير؛ أي استنتاج الأحداث اللاحقة من أحداث سابقة بمساعدة القوانين «الضرورية». فلو أمكن اختزال البحوث التاريخية إلى التفسير، فإن الحياة التاريخية والاجتماعية ستكون من دون أبعاد أخلاقية، ومن دون حرية ومسئولية.

كان الرجل الثاني في فلسفة العلوم الاجتماعية هو فلهلم دلتاي. وهو الشخص الذي أثار نغمة نقاش التفسير-الفهم (دلتاي ١٨٨٣؛ ١٨٩٤؛ ١٩٠٦). إن تفكير دلتاي في موضوع «الفهم» مهم لسببين: (١) تسعى فلسفة دلتاي لتبرير ادعاء الاستقلال للعلوم الاجتماعية. (٢) تغيَّر موقف دلتاي من وجهة نظر ذاتانية مبكرة إلى وجهة نظر موضوعية لاحقة بشأن مفهوم الفهم. ونتيجة لهذا التغير انتقل نموذجه للعلوم الاجتماعية من علم النفس الاستبطاني إلى التاريخ الموضوعي.

figure
فلهلم دلتاي (١٨٣٣–١٩١١).
لنتناول أولًا مبرر دلتاي لادعاء استقلال العلوم الاجتماعية. يرى دلتاي أن ثمة فارقًا جوهريًّا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. ويمكن رؤية الفارق من خلال التفكير في العلاقات البنيوية التي يتمتع بها متخصصو العلوم الطبيعية والاجتماعية، على الترتيب، بموضوع دراستهم. وتُقدِّم تفاصيل المصفوفة مبرر دلتاي لاستقلالية العلوم الاجتماعية (جدول ٣-٢).
جدول ٣-٢: مصفوفة دلتاي.
العلم القائم بالدراسة هدف الدراسة العلاقة البنيوية المنهج
العلوم الطبيعية عالِم الطبيعة الكائنات الحية والجمادات علاقة القائم بالدراسة-هدف الدراسة التفسير
العلوم الاجتماعية عالِم الاجتماع الشئون الإنسانية الرمزية علاقة القائم بالدراسة-هدف الدراسة الفهم
من ناحية، هناك علاقة القائم بالدراسة بهدف بالدراسة، التي تُعتبر من سمات العلوم الطبيعية. يشكل عالِم العلوم الطبيعية جزءًا من مجموعة من الأشخاص الذين يتشاركون نموذجًا فكريًّا مشتركًا. وفقًا لكون، يتكون النموذج الفكري من تعميمات رمزية، وحلول لمشكلات تمثيلية، ووجهات نظر معينة حيال الطبيعة والواقع، ونظام قيمي مرتبط بالعلم. وباستخدام النموذج الفكري، يدرس العالِم العالَم الطبيعي بمساعدة بعض الخرائط الرمزية من أجل وصف وتفسير العمليات الطبيعية. ويمكننا أن نفكر في جهد العالِم كمحاولة ﻟ «ملاءمة» الفكر الرمزي — الذي يُعبَّر عنه في النظريات والنماذج والقوانين الرياضية — مع النظام الطبيعي. وكما نعلم من كبلر، فإن النظم الطبيعية تخضع لانتظام معين نسميه قوانين الطبيعة. يدرس العلماء هذا الانتظام ويُعبِّرون عنه في صورة رمزية (على سبيل المثال، ). وهذه التعبيرات الرمزية هي قوانين العلم. ويدرس العلماء أيضًا النظام السببي للطبيعة: لماذا تبقى النجوم مستقرة؟ ولماذا تتحرك الكواكب في مدارات؟ ولماذا يحدث تنوُّع الأنواع؟

وفقا لدلتاي، فإن ما يميز العلوم الطبيعية عن العلوم الاجتماعية ليس أنها «تغطي نطاقات حقائق مختلفة» (دلتاي ١٩٠٦؛ ١٨٨٣). يتناول علم الأحياء والكيمياء وعلم وظائف الأعضاء جوانب بشرية، مثل العلوم الإنسانية، ومع ذلك فهي علوم طبيعية. ليس الأمر أن العلوم الاجتماعية والطبيعية تتعامل مع أهداف دراسة متباينة تمامًا؛ بل إن طريقة ارتباط هذه التخصصات بأهداف الدراسة — حقائقها — هي التي تحدد الفرق.

ولا تنطوي دراسة العالَم «المادي» إلا على جوانبه الخارجية، مثل دراسة انتظامه القانوني ونظامه السببي. ويسمي دلتاي هذه الجوانب «الواقع الخارجي» (دلتاي ١٩٠٠، ٢٤٧).

من ناحية أخرى، تنخرط الدراسات البشرية في علاقة قائم بالدراسة-قائم بالدراسة. فعالِم الاجتماع يشكل أيضًا جزءًا من مجموعة من الأشخاص الذين يتشاركون نموذجًا فكريًّا مشتركًا، ولكن في العلوم الاجتماعية، تكون هذه النماذج أقل تجانسًا بكثير وتفرض سيطرة أقل مما هي عليه في العلوم الطبيعية. يدرس عالِم الاجتماع أيضًا العالَم الاجتماعي بمساعدة بعض الخرائط الرمزية (أنواع مثالية) من أجل وصف وفهم العمليات الاجتماعية. ويتأثر المنهج الذي يتبعه عالِم العلوم الاجتماعية تأثرًا شديدًا بالموقف المنهجي المُعتَمَد مسبقًا. وتُوَضَّح هذه المواقف المنهجية في النماذج الطبيعية أو التفسيرية أو النقدية على الترتيب، ولكن في رأي دلتاي ترتبط العلوم الاجتماعية بالعالَم الاجتماعي على نحو مختلف عن ارتباط العلوم الطبيعية بالعالَم الطبيعي.

تتضمن دراسة «العالَم البشري» جوانبه الداخلية؛ دراسة معناه الرمزي ونظامه الهادف. ويقصد دلتاي بالنظام الهادف «الواقع العقلي الداخلي» للبشر، الطبيعة المتعمدة للأفعال البشرية. حدد فرويد مكانَ كثيرٍ من النظام الهادف للسلوك البشري في اللاوعي الخفي. والهدف من الدراسات البشرية أو العلوم الاجتماعية يكمن في «فهم» الظواهر الاجتماعية. وتشمل هذه العملية فئات مختلفة تمامًا، منها المعنى والغرض والقيمة والتطور والمثل العليا (دلتاي ١٩٠٦، ١٧٢، ٢٣٥-٢٣٦). يرى دلتاي الفهم «تقنيةً» جديدة ومهمة في العلوم الاجتماعية. أولًا: ثمة سبب لاعتماد الدراسات البشرية على الفهم؛ ففي الفهم فقط يمكن استيعاب العلاقة بين الحياة الداخلية وتعبيراتها الخارجية؛ لأن الأفعال البشرية تتأثر — أو كما يقول فرويد «تتحدد» — من خلال بنية الحياة العقلية. ووفقًا لدلتاي، فإن البنية العقلية هي ما يشكل الموضوع المنطقي للعلوم الاجتماعية. ويستخلص عالِم الاجتماع «بنية الخبرات هذه من نمط حياة الإنسان» (دلتاي ١٩٠٦). وبسبب كون الواقع الداخلي وراء التعبيرات الخارجية للحياة فإن العلوم الاجتماعية تنخرط في علاقة في قائم بالدراسة-قائم بالدراسة؛ فالمعنى الرمزي يقابل معنًى رمزيًّا.

يتعامل متخصصو العلوم الطبيعية والاجتماعية على حد سواء مع النظام. ويحاول كلاهما ترتيب البيانات الرصدية في مخطط مفاهيمي (نموذج أو نظرية) (دلتاي ١٩٠٦، ١٧٣–١٧٥). يظهر الفرق بينهما في هدف الدراسة (جدول ٣-٣).

يشكل إصرار دلتاي على عالَم اجتماعي «عقلاني البنية» فارقًا مهمًّا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية (دلتاي ١٩٠٦، ١٩١–١٩٥). واللجوء إلى عالَم اجتماعي عقلاني البنية مهم لأهدافنا؛ ففي توصيف العالَم الاجتماعي باعتباره عالَمًا عقلي البنية، يكشف دلتاي عن تحول مهم من وجهة نظر ذاتانية إلى وجهة نظر أكثر موضوعية بشأن فكرة الفهم.

ادعى درويسن أن دراسة العالَم البشري تنطوي على استنتاج الأحداث الداخلية من التعبيرات الخارجية. وهو يشير إلى «الجوانب الداخلية» من حياتنا العقلية، كما قال دلتاي. إذا كان ينبغي على العلوم الاجتماعية الاستدلال على البنية المتعمدة للفعل البشري، فإن فكرة الفهم تأخذ دلالة نفسانية (انظر أبيل ١٩٤٨). أكد دلتاي في أعماله الأولى أن الدراسات البشرية وجدت مرسًى ثابتًا فقط في الخبرة الداخلية، في حقائق الوعي (دلتاي ١٨٨٣، ١٦١). واستند فهم الفاعلين الاجتماعيين الآخرين إلى الخبرة المكتسبة وفهم الذات (دلتاي ١٩٢٧، ١٢٣)، ومع ذلك، خفف دلتاي في أعماله اللاحقة تركيزه على استبطان معرفة الذات كنموذج للدراسات البشرية (دلتاي ١٩٠٦، ١٧٦). وبدلًا من ذلك، يجب أن يُفهم البشر من خلال ما هو مشترك بينهم وبفضل ترابطهم (دلتاي ١٨٩٤، ١٣١). يتخذ السياق المشترك، الذي يوجد فيه البشر، أشكالًا موضوعية، وذلك بسبب استخدام اللغة الرمزية وإنشاء المؤسسات الاجتماعية. وتشمل الأشكال الموضوعية، التي يطلق عليها دلتاي «الروح الموضوعية» (دلتاي ١٩٢٧، ١٢٦)، أنماط الحياة، وأشكال التفاعلات الاقتصادية، والإظهار العام للأخلاق، ووجود القانون، والدولة، والدين، والفن، والعلوم، والفلسفة. بعض هذه الأشكال أكثر موضوعية من غيرها؛ ربما يكون من الصعب تحديد طريقة الحياة الفرنسية ولكن يمكن ترتيب أشكال التفاعلات الاقتصادية على طول سلسلة متصلة من الأسواق الحرة إلى الاقتصادات الموجهة. وكثيرًا ما تُكتَب اللوائح الأخلاقية والقانونية في صورة عامة دستورية، وتعمل الدولة والأديان والفنون والعلوم والفلسفة في أطر مؤسسية واضحة. ويُحافَظ على أشكال الحياة الجماعية هذه وتُعدَّل في الوقت الحاضر ولكن جذورها تعود إلى الماضي ووجودها يمتد إلى المستقبل. يجب الإشارة إلى إن دلتاي لم يحرر نفسه تمامًا من وجهة النظر القائلة بأن «الفهم يعتمد على علاقة تعبيرات الحياة بالمعنى الداخلي، الذي يأتي معبرًا عنه فيها» (دلتاي ١٩٢٧، ١٣٧)، ولكنه لم يغرق في النزعة النفسانية. ويؤكد دلتاي أن العالَم عقلي البنية هو نظام من التفاعلات يخلق قيمًا ويحقق أهدافًا. وفي هذا الصدد، فإن العالَم الاجتماعي ليس نظام طبيعة سببيًّا. إن كل حقيقة اجتماعية مصطنعة عن طريق البشر؛ فلها بُعد تاريخي (دلتاي ١٩٠٦، ١٩٢؛ راجع جادامر ١٩٧٥). تكشف عملية الفهم «إضفاء طابع الشيئية» على الحياة؛ أي الجوانب الخارجية وليس الداخلية. ويمكن أن تصبح النوايا البشرية — «الجوانب الداخلية» للوجود البشري — خارجية. ويتضح إضفاء السمات الخارجية في العديد من أنواع النظم البنيوية؛ فالنظم الثقافية والاقتصادية والسياسية مُتضمَّنة في أطر مؤسسية واضحة.

جدول ٣-٣: الفرق بين العلوم الطبيعية والاجتماعية وفقًا لدلتاي.
العلوم الطبيعية العلوم الاجتماعية
تتعامل مع عالَم محدد مسبقًا من النظم المادية المترابطة. تتعامل مع عالم عقلي البنية من النظم الاجتماعية المترابطة.
تتعامل مع نظام سببي. تتعامل مع نظام هادف.
تحدث التغيرات المادية نتيجة لقوى عمياء، وتوصف بقوانين العلم. تحدث التغييرات الاجتماعية نتيجة للتدخلات الإنسانية الواعية ولكنها لا تستند إلى قوانين.

توقَّع موقف دلتاي في العلوم الاجتماعية العديد من الموضوعات الرئيسية في فلسفة العلوم الاجتماعية في القرن العشرين. يؤكد العديد من الفلاسفة على استقلالية العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية بحكم طبيعة الوجود البشري القائمة على السبب (هوليس ١٩٩٤، ١٦٠؛ ديفيدسون ١٩٧٠، ٢٢٣؛ سيرل ٢٠٠٤، ٢١٢)، ولكن بدأ علماء وفلاسفة الاجتماع التشكيك في رأي دلتاي بأن الفهم هو «التقنية» التي تحدد إجراءات العلوم الاجتماعية. وبدلًا من ذلك، وصفوا الفهم ﮐ «أسلوب» للوجود الاجتماعي (هابرماس، جادامر، جيدنز). ما العواقب المترتبة على ذلك بالنسبة للوضع المنهجي للعلوم الاجتماعية؟ ثانيًا: كان عجز دلتاي عن إزالة الصفات النفسية لفكرته بشأن الفهم يُرى أنه يؤدي إلى التهديد بظهور مذهب النسبوية في العلوم الاجتماعية (أبيل ١٩٧٩، ٣٦). هل مذهب النسبوية مشكلة لا يمكن التغلب عليها في العلوم الاجتماعية؟ وثالثًا: طُرح سؤال بشأن مدى كون تقسيم دلتاي للتفسير والفهم توصيفًا مناسبًا لأوجه التشابه والاختلاف بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. وفي ضوء هذه المناقشة يمكننا أن نرى أن فرويد لم يستطع تجنب محاوَلة الموازنة بين نموذج تجريبي ونموذج تفسيري. وبالنظر إلى الجذور التاريخية للعلوم الاجتماعية (في فرنسا وألمانيا، على الترتيب) لم يكن من الممكن تجنب محاوَلة الموازنة؛ فهي تكمن في منطق الموقف الإشكالي الذي توجد فيه العلوم الاجتماعية. وثمة عدد من الأسئلة «الكلاسيكية» نشأ عن هذا الموقف:

  • (١)

    هل يمكن القضاء على التوتر بين التفسير والفهم؟

  • (٢)

    هل يتعين على العلوم الاجتماعية أن تعتنق النسبوية أم أنها يمكن أن تتبنى الواقعية؟

  • (٣)

    هل يمكن أن تكون العلوم الاجتماعية نشاطًا خاليًا من القيمة؟

  • (٤)

    من أي وجهة نظر يجب أن تفسر العلاقات الاجتماعية (الفردية أم الشمولية)؟

إننا نتناول هذه الأسئلة من خلال دراسة السمات الأساسية للإصدارات الحديثة من النماذج الطبيعية والنماذج التفسيرية، على الترتيب. وبمجرد أن ننتهي من مناقشة هذه السمات الأساسية، تظهر أسئلة منهجية أخرى كعواقب للموقف الإشكالي للعلوم الاجتماعية:

  • (٥)

    مسألة استقلالية العلوم الاجتماعية في ضوء دور العقل في العالَم الاجتماعي.

  • (٦)

    دور التنبؤات والتفسيرات في العلوم الاجتماعية.

  • (٧)

    دور النماذج في العلوم الاجتماعية.

  • (٨)

    مسألة وجود قوانين في العلوم الاجتماعية.

  • (٩)

    مسألة نقص إثبات نماذج العلوم الاجتماعية بالأدلة فيما يتعلق بالأدلة التجريبية.

  • (١٠)

    وجود علاقات سببية في العلوم الاجتماعية.

(٤-٢) السمات الأساسية لنماذج العلوم الاجتماعية

تلقت النظرة التفسيرية للتحليل النفسي دعمًا فلسفيًّا عن طريق التمييز بين الأسباب والعلل. (ستيفنسون/هابرمان، «عشر نظريات» (٢٠٠٤)، ١٧٠)

ظهرت النماذج الطبيعية والنماذج التفسيرية في مناخ العلموية، وهي ردود فعل لنجاح العلوم الطبيعية، لا سيما الفيزياء الكلاسيكية، وعلم الأحياء التطوري بدرجة أقل. ويشهد تذبذب موقف فرويد بين التفسير والفهم على هذه المشكلة. ويقع عالم الاجتماع الحديث في نفس موقف فرويد؛ فالالتزام الفلسفي بنموذج للعلوم الاجتماعية أمر لا مفر منه (روزنبرج ١٩٩٥)، وهذا الالتزام يكمن في منطق العلوم الاجتماعية. إن موضوعها الرئيسي على نحو عام هو المجتمع، وبذا فإن مسألة كيفية التعامل مع هذه المسألة الكائنة تظهر على الفور. وكما رأينا، فإن السؤال سبَّب انقسامًا بين علماء الاجتماع من البداية. بالنسبة للنموذج الطبيعي، كان النهج الصحيح هو اتباع مسار العلوم الطبيعية واعتماد أساليب العلوم الطبيعية، مع إدخال تعديلات عليها. وبالنسبة للنموذج التفسيري، فإن أساليب العلوم الطبيعية لا تتفق مع الموضوع الرئيسي للعلوم الاجتماعية. تتطلب العلوم الاجتماعية أسلوبًا مميزًا، وصفه أنصار هذا النموذج بأنه «الفهم». وتلت جميع المشكلات الفلسفية للعلوم الاجتماعية على الفور هذا الاختيار الأساسي للاتجاه. وكما سنرى، حاول ماكس فيبر والكتَّاب اللاحقون مثل بوبر اتخاذ موقف وسط، وهو ما أدى إلى صورة ضعيفة من مذهب الطبيعانية. فمنهجيتهم الأساسية هي منهجية الأنماط المثالية.

(أ) السمات الأساسية للنموذج الطبيعي

السمة الحاسمة «الأولى» للنموذج الطبيعي أو التجريبي هي الالتزام ﺑ «وحدة الأسلوب». ونعني بهذا الاعتقاد أن أساليب العلوم الطبيعية والاجتماعية متشابهة. ويعني هذا التشابه ضمنًا أن التعديلات المناسبة يمكن أن تحول أساليب العلوم الطبيعية إلى أساليب مناسبة للعلوم الاجتماعية؛ ومن ثم يشترط دوركايم، كقاعدة أولى وأساسية لعلم الاجتماع، اعتبار الظواهر الاجتماعية كأشياء، أي أشياء خارجية (دوركايم ١٨٩٥، الفصل الثاني، ١). بالنسبة لدوركايم لا توجد حاجة لوضع الحالات المتعمَّدة للأفراد الفاعلين — دوافعهم وأسبابهم — في الاعتبار. يجب أن يكون تحليل المجتمع موضوعيًّا، ويجب استخدام مفاهيم موضوعية يمكن تحديدها كميًّا، كما يجب على عالِم الاجتماع أن يسعى جاهدًا لوصف المظاهر العامة للحياة الاجتماعية وليس المظاهر الفردية. وتُشكِّل البنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلًا عن المؤسسات القانونية والدينية، أهدافًا للأبحاث الاجتماعية. ويُعَدُّ الالتزام بوحدة الأسلوب سمةً مشتركةً للعديد من مؤيدي النموذج التجريبي. ويؤكد بوبر أنه ربما توجد اختلافات في الدرجة بين العلوم الاجتماعية والطبيعية ولكن لا توجد اختلافات في النوع (بوبر ١٩٥٧). ويتبنى كلاهما أسلوب الفرضية الاستنتاجية المستوحى من النموذج الاستدلالي الطبيعي أو النموذج الاستقرائي الإحصائي للتفسير.

لا يمكننا أن نفترض، كما فعل الآباء المؤسِّسون للنموذج التجريبي، أن العلوم الاجتماعية تمتلك تعميمات متاحة تُشبه القوانين. غالبًا ما تعمل العلوم الاجتماعية بتعميمات إحصائية؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للاقتصاديين أن يحددوا النسبة المئوية للأسر في بلد معين تحصل على راتب متوسط وأن يحددوا متوسط الراتب. غالبًا ما تكون هذه التعميمات محلية الطابع وتعج باستثناءات. تأمَّل — على سبيل المثال — تفسيرًا طبيًّا تكون فيه الاحتمالية p، للتعافي R، للمرضى S، الذين يتعاطون البنسلين P كعلاج، مرتفعة للغاية p(R, S.P) > 0.8. تخيَّل فترتين زمنيتين: T1 وهي لحظة في عام ١٩٥٠ وT2 وهي لحظة في عام ٢٠٠٠. من المعروف أن احتمالية التعافي بالعلاج بالبنسلين انخفضت من T1 إلى T2. يُعزى هذا الانخفاض إلى تطور البكتيريا المقاومة للبنسلين. بينما في الفترة الزمنية الأولى توجد بالفعل علاقة احتمالية كبيرة بين P وS وR، فإن هذه الاحتمالية ربما تكون قد انخفضت بنسبة تصل إلى ٥٠ بالمائة. توجد حالات مماثلة في العلوم الاجتماعية. غير أنها عبارات من نوع عام، مثل الدورات الاقتصادية، ومنحنيات إجمالي العرض والطلب، ونزعات الانتقال لدى السكان، وتصنيف الأسر وفقًا للمعايير الاجتماعية والاقتصادية. وعلى أساس هذه التعميمات، يقدِّم علماء الاجتماع تنبؤات نموذجية. وهذه التنبؤات هي:

تنبؤات ببعض السمات العامة للبنيات التي ستشكل نفسها ولكنها لا تحتوي على عبارات محددة عن العناصر الفردية التي ستشكل هذه البنيات. (هايك، مقتبس في بارو/تبلر ١٩٨٦، ١٤٠؛ راجع وودوارد ٢٠٠٣، الفصل ٦.٤)

ولكن يجب ترسيخ حالة هذه الأنماط: هل تشبه القوانين في العلوم الطبيعية؟

تتمثل السمة الحاسمة «الثانية» للنموذج التجريبي في إصراره على «التحليل السببي». أصر دوركايم — مؤسس علم الاجتماع الحديث — بالفعل على الحاجة إلى تحليل سببي. ويؤكد مؤيدو النموذج التجريبي على أن العلوم الاجتماعية يجب أن تكون قادرة على تقديم تفسيرات سببية للظواهر الاجتماعية تمامًا مثلما تقدِّم العلوم الطبيعية التفسيرات. تعامل فرويد بالتأكيد مع الأحلام وزلات اللسان والأعراض العصبية كآثار للظروف السببية الماضية في حياة الفرد. وبالمثل، يسعى علماء الاجتماع إلى شرح وجود تقسيم العمل في العديد من المجتمعات وأشكال التقسيم الطبقي الاجتماعي. يبني الاقتصاديون نماذج لتفسير سلوك المستهلكين وأنواع مجتمعات السوق، والغرض من هذه البنيات هو الإجابة على الأسئلة التي تبحث عن السبب. ويمكن للتحليل السببي في العلوم الاجتماعية أن يغطي ظواهر متنوعة للغاية. على سبيل المثال:

  • في عام ١٩٩٩، توقعت وزارة الداخلية في بريطانيا أن عدد جرائم السطو والسرقات سيزداد بمقدار الثلث تقريبًا في فترة قصيرة من سنتين إلى ثلاث سنوات. وسيكون الارتفاع المتوقع في الجريمة نتيجة لارتفاع عدد الشباب الذكور في بريطانيا. لدينا في هذه الحالة تحليل سببي وتنبؤ في عبارة واحدة. يعود السبب في زيادة عدد عمليات السطو والسرقات إلى زيادة عدد الشباب وتزايد كمية السلع القابلة للسرقة. وهذه العبارة الأخيرة هي الظروف السببية التي يُقال إنها تؤدي إلى التأثير، إذا لم تتداخل أي ظروف أخرى.

ناقشنا في فصل سابق نماذج التفسير السببية، ولكن ما نموذج السببية الأكثر ملاءمة للعلوم الاجتماعية؟ يُظهر التفكير للحظة أننا لا يمكن أن نفسر الأحداث الاجتماعية سببيًّا باستخدام نموذج السببية الميكانيكية للأحداث المادية. يسعى هذا النموذج إلى تتبُّع الظروف الفيزيائية التي تؤدي من الظروف السببية السابقة إلى التأثيرات الميكانيكية اللاحقة. ربما يفسر نموذج السببية الميكانيكية سبب دوران كوكب ما حول الشمس، ولكن لا يستطيع أن يفسر سبب وقوع الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، فإن المثال السابق يوضح أن علماء الاجتماع يبحثون عن تفسيرات سببية للأحداث الاجتماعية. وتُعد مسألة صياغة نموذج فلسفي سببي مناسب يمكن من خلاله التعبير عن هذه النتائج مسألة منفصلة.

قبل أن نتناول مثل هذه الأسئلة حول كون القوانين «الاجتماعية» موجودة أم لا أو كيف تحدث السببية في العالم الاجتماعي، يطرح سؤال آخر نفسه. فهل تنبع التغييرات التي نرصدها، نتيجة للتطورات التاريخية أو الاجتماعية الطويلة الأجل أو القصيرة الأجل، على المستوى الفردي أم الجماعي؟ تُوجهنا هذه السمة «الثالثة» إلى التمييز بين النزعة «الفردية» و«الشمولية». تَبَنَّى العديد من الباحثين موقف الفردية. وتتمثل الفرضية في وجود انتظام (سببي) كامن وراء الظواهر الاجتماعية، التي تعكس الحقائق بشأن الأفراد. تُعبِّر هذه الحقائق بشأن الأفراد عن نواياهم وأسبابهم ودوافعهم. ويفترض بعض الباحثين، مثل جيه إس ميل وفرويد، أن «القوانين» النفسية موجودة على مستوى الأفراد، ولكن مناقشة أعمال فرويد جعلتنا نشك في مثل هذا الافتراض (انظر ديفيدسون ١٩٧٠؛ ليتل ١٩٩١، ١٨). وتعد الفردية بالتالي نهجًا تصاعديًّا. ويقال إن أي آثار اجتماعية واسعة النطاق يمكن أن تقتصر على الحقائق المتعلقة بأفراد المجتمع. وعلى المستوى الفردي، ربما تكون الآليات النفسية نافذة، مثل تجنب التنافر المعرفي أو رغبة الفرد في تحسين ظروفه الاجتماعية.

لم يعتقد دوركايم أن من شأن تفسير سببي فردي أن يكفي، واتخذ توجهًا شموليًّا. فرفض دوركايم فكرة أن جميع التغيرات الاجتماعية الكلية يمكن اختزالها إلى عوامل فردية، وأشار إلى أن النشاط الاقتصادي للمجتمع لا يمكن أن يُقصَر على رغبة الأفراد في اكتساب الثروة (دوركايم ١٨٩٥، الفصل الخامس). لا يمكن تفسير الحقائق الاجتماعية بالرجوع إلى حقائق فردية أو حتى مجموعة من الحقائق الفردية. إذا لم يكن ممكنًا تفسير الظواهر الاجتماعية واسعة النطاق «من أسفل إلى أعلى»، فإن الفردية لا يمكن أن تفسر الظواهر الاجتماعية. وفضَّل دوركايم نهجًا من أعلى إلى أسفل. وأشار إلى أن الظواهر الاجتماعية تفرض ضغوطًا على الأفراد؛ ومن ثم لا بد أن يكون لها طبيعة خاصة بها. ويجب التماس تفسير الحقائق الاجتماعية في طبيعة المجتمع؛ فالمجتمع يتجاوز الفرد في المكان والزمن، والكل أكبر من مجموع أجزائه. على سبيل المثال:

  • زُعم وجود علاقة سببية بين انخفاض معدل الجريمة وتقنين الإجهاض (ساينتيفيك أمريكان، ديسمبر ١٩٩٩). اقترح اثنان من الاقتصاديين الأمريكيين الفرضية السببية القائلة بأن الانخفاض السنوي في معدلات الجريمة، الذي لُوحظ في جميع أنحاء الولايات المتحدة منذ أوائل التسعينيات، يرتبط سببيًّا بتقنين الإجهاض في عام ١٩٧٣. أدى التقنين إلى خفض عدد الأطفال غير المرغوب فيهم، ووفقًا للاقتصاديين، فإن الأطفال غير المرغوب فيهم أكثر عرضة لارتكاب الجرائم.

لجأ فرويد إلى تفسيرات مماثلة لفهم سلوك الجماعة. وبما أن الجماعة تمارس تأثيرًا على سلوك الأفراد، فإن سلوك الجماعة يختلف نوعيًّا عن السلوك الفردي. ويرى فرويد أن الأفراد في الجماعة يُظهرون «افتقادًا للمبادرة وضعفًا في القدرات الفكرية وافتقادًا لضبط النفس العاطفي والتأخير والميل إلى تجاوز كل حد في التعبير عن العواطف.» و«الإنسان ليس حيوانًا يعيش في قطيع، ولكنه يعيش في جماعات»؛ أي إن الأفراد يقودهم رئيس (فرويد ١٩٢١، ١١٧، ١٢١). ولا يزال يتعين مناقشة هل كان يجب أن تعامل الشمولية المجتمع والمؤسسات الاجتماعية ككيانات منفصلة أم لا (القسم ٤-٤، و).

(ب) السمات الأساسية للنموذج التفسيري

في الحقيقة، ليس من الممكن تقديم وصف يتمتع بصلاحية عامة. فنجد أشد ردود الفعل اختلافًا لدى الأفراد المختلفين، ويمتلك الفرد نفسه توجهات ذهنية معاكسة جنبًا إلى جنب. (فرويد ١٩٣١، ٢٣٣)

يقف النموذج التفسيري (أو التأويلي) — كما لاحظنا من قبل — في موقف مُعارِض للنموذج التجريبي في العديد من الأمور المحددة، ويمكن أن تُستمد هذه المعارضة — جزئيًّا على الأقل — من المعارضة العامة لوحدة الأسلوب. يرى مؤيدو النموذج التفسيري أن من الخطأ تحليل المجتمعات البشرية والعلاقات الإنسانية في سياق القوانين العامة والعلاقات السببية. وهذا أمر خاطئ لأن المفاهيم التي نفسر في سياقها الأحداث الاجتماعية لا تتفق منطقيًّا مع المفاهيم التي نفسر في سياقها الأحداث الطبيعية (وينش ١٩٥٨، ٩٥)، وقد أشار فلهلم دلتاي — أحد الآباء المؤسسين لهذا النهج — إلى أن الحياة البشرية لا يمكن فهمها إلا في فئات لا فائدة منها في معرفة العالم المادي. يجب فهم السلوك البشري في سياق فئات ذات معنى؛ أي «الغرض» و«القيمة» و«النمو» و«المثالية» (دلتاي مقتبَسَة في هوليس ١٩٩٤، ١٧).

يمكننا استخلاص عدة نقاط من هذا الموقف العام، وهي تتعارض مع تلك التي قُدمت لصالح النموذج الطبيعي:

  • (١)

    يجب ألا تُعتبر الظواهر الاجتماعية بمنزلة أشياء خارجية، كما رأى دوركايم. فالعلاقات الاجتماعية علاقات داخلية، ويبني الفاعلون الاجتماعيون صورًا ذهنية لسلوكهم في سياق المفاهيم الهادفة. ويجب على عالِم الاجتماع تضمين هذه المفاهيم في وصفه للحياة الاجتماعية. ويُعد مفهوم الفهم ضروريًّا في هذا الوصف. إذا لم تفهم معنى الفعل الاجتماعي، فإنك لن تفهم الحياة الاجتماعية. وينبغي تحليل الظواهر الاجتماعية في سياق النوايا والأسباب والقواعد الاجتماعية والمعايير والأعراف (وينش ١٩٥٨، ٤٢). وتمثل المفاهيم الرمزية التي يصف علماء الاجتماع الظواهر الاجتماعية من خلالها جزءًا من العمل الاجتماعي نفسه، كما يُعد مفهوم فعل اجتماعي معين، مثل التحية المتعمدة — وأيضًا شبكة المفاهيم التي تحيط بمفهوم السلوك المدني — جزءًا داخليًّا من الفعل الاجتماعي للأفراد، الذي يصف علماء الاجتماع وجوده بأنه «مدني». ومن ثم فلا بد من وجود تداخل بين مفردات عالِم الاجتماع والفاعل الاجتماعي. يجب أن يكون عالِم الاجتماع راصدًا مشاركًا؛ فالفاعل الاجتماعي يتصور فعليًّا الفعل الاجتماعي، بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود عالِم الاجتماع، ويجب على علماء الاجتماع التعرف على هذا التصور.

  • (٢)

    في هذا الصدد، يؤكد مؤيدو النموذج التفسيري على مزيد من التمييز بين علاقات مثل السبب والنتيجة، وهي «خارجية»، من ناحية، وعلاقات مثل الدافع والفعل، وهي «داخلية»، من ناحية أخرى. ويُقال إن الأحداث الطبيعية تحكمها علاقات السبب والنتيجة، في حين يُقال إن السلوك البشري يحكمه علاقات الدافع والفعل. وتتمثل الفرضية في أن ما يحفز السلوك البشري هو الدوافع، وليس أسبابًا ميكانيكية (ريان ١٩٧٠، ١١٧–١٢٢). إن العلاقة بين السبب والنتيجة في الأحداث الطبيعية تختلف تمامًا عن العلاقة بين الدافع والفعل. يساعد هذا التمييز مرة أخرى في التأكيد على الفرق بين النهج الطبيعي والنهج التفسيري. ووفقًا للطبيعانية، فإن الرابط بين الدوافع (الرغبات والمعتقدات) والفعل رابط «سببي». ووفقًا للتفسيرية، فإن الرابط بين العمل والدافع رابط «منطقي».

    يربط الرابط المنطقي بين الدوافع والأفعال. وتعمل الدوافع على تفسير سبب حدوث الفعل: «رفعت ذراعها لأنها ترغب في تحية شخص ما.» «تحدَّث بوقاحة لأنه كان ينوي إهانة شخص ما.» إن تقديم الدافع يُمثِّل إعادة وصف للفعل. يبدو أن الدافع والفعل ليسا مستقلَّين منطقيًّا أحدهما عن الآخر، كما يجب أن يكونا إذا كانا سببًا ونتيجة، ولكن على الرغم من أنه قد يكون صحيحًا أنه لا يمكن فصل الفعل عن محتواه المقصود؛ فعندما نعيد وصفه، لا يعني هذا أن الدوافع لا يمكن أن تلعب دورًا سببيًّا في حدوث الفعل. يتسبب الدافع في قيام العنصر بالفعل. غالبًا ما يكون في الدوافع عنصر سببي (روزنبرج ١٩٩٥، الفصل الثاني؛ ديفيدسون ١٩٦٣؛ ماكي ١٩٨٠، ١٢٠-١٢١، ٢٨٧–٢٩٦؛ ليفيسون ١٩٧٤، الفصلان الرابع والخامس).

    إن مؤيدي النموذج التفسيري محقُّون بشأن وجود اختلافات بين الدوافع والأسباب، ولكن لا ينبغي لنا أن نستنتج من هذه الاختلافات أن السلوك البشري لا يمكن تفسيره سببيًّا. تذكَّر أمثلة التفسيرات السببية المذكورة في الجزء الخاص بمناقشة النموذج التجريبي (العلاقة بين الارتفاع المتوقع في معدلات الجريمة والزيادة في عدد الذكور الشباب أو انخفاض معدل الجريمة وتقنين الإجهاض، على الترتيب). تضع التفسيرات السببية فرضيات بشأن العلاقات الاحتمالية، وليس العلاقات الحتمية، مشيرة إلى المجموعات الاجتماعية وليس العناصر الاجتماعية الفردية، ولكن يبدو أن لدينا مجموعة من الشروط الكافية، التي ربما تكون غير كاملة، وتُعد مرشحة كشروط سببية سابقة تجلب نتائج مترتبة قابلة للرصد (انخفاضات أو ارتفاعات في معدلات الجريمة)، في ظل ثبات الافتراضات الأخرى. تشير الأمثلة إلى أنه من الممكن تمامًا في العلوم الاجتماعية أن تشير إلى شروط كافية، تميل إلى زيادة احتمالية النتيجة.

    لدينا في الأفعال المتعمدة العادية شرطان ضروريان: (١) يجب أن توجد علاقة منطقية بين الدافع والفعل. فنِيَّة القيام بالفعل «س» والقيام بالفعل «س» يرتبطان منطقيًّا، ونصوغ هذه العلاقة في إعادة وصفنا للفعل، ولكن عزونا النية إلى العنصر يمكن أن يكون خاطئًا. (٢) يجب أن يكون الدافع قد لعب دورًا سببيًّا في حدوث الفعل. وربما لا يكون هذا العنصر السببي في الدافع مطابقًا للدافع المعلن من قبل العنصر الاجتماعي. في حالة حدوث الفعل، ثمة عنصر سببي في تفسير الدافع. وعلاوة على ذلك: (٣) يمكن أن تكون لدينا نية للقيام بالفعل «س» ولا نفعله. «الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.» (٤) يقوم الأفراد والجماعات الاجتماعية في كثير من الأحيان بالأفعال لأنهم ببساطة يتبعون المعايير والقواعد الاجتماعية (برايبروك ١٩٨٧، الفصل ٣؛ سالمون ٢٠٠٣). وهي توجد على نحو مستقل عن الفاعل الاجتماعي الفردي.

    يخطئ نموذج دوركايم التجريبي الصارم في إهمال عنصر المعنى في التفسيرات السببية. ويخطئ النموذج التفسيري النقي أيضًا في إهمال العنصر السببي في تفسيرات الدوافع. ثمة حاجة إلى نموذج للعلوم الاجتماعية مدروس على نحو أكبر، يكون قادرًا على الجمع بين معنى العلاقات وإسناد الأسباب. سوف نقابل هذا النموذج التوفيقي في منهجية فيبر للأنواع المثالية.

    ثمة بعض الاختلافات الملحوظة الأخرى بين المناهج الطبيعانية والتفسيرية.

  • (٣)

    ينكر المنهج التفسيري وجود ظواهر اجتماعية عالمية أو مشتركة بين الثقافات، وهو يقر فقط بالتفاوت الثقافي للنظم الرمزية (ليتل ١٩٩١، الفصل الرابع). فبدلًا من البحث عن وجود قوانين اجتماعية، أو انتظام اجتماعي، يصر هذا المنهج على أهمية القواعد المحلية. كثيرًا ما يفسر السلوك الفردي بالرجوع إلى نوايا معينة، ولكن السلوك الاجتماعي يفسر بالرجوع إلى القواعد والمعايير والأعراف الاجتماعية، التي تخص كل مجتمع بمفرده؛ فعلى سبيل المثال، ربما يكون الفعل الاجتماعي حالة من اتباع القواعد (برايبروك ١٩٨٧؛ ليتل ١٩٩١). تخلق هذه المعارضة تباينًا بين الشمولية الكامنة في النموذج الطبيعي وخصوصية النموذج التفسيري.

  • (٤)
    على الرغم من أننا أصبحنا الآن متفقين تمامًا بشأن جانب الفهم، فإنه لا يزال من الممكن التساؤل هل كان ينبغي أن يستند التحليل إلى المستوى الشمولي أم الفردي. والسؤال المطروح هو هل كان فهمُنا للظواهر الاجتماعية ينبغي أن يرتكز على الأفعال الفردية أم المؤسسات الاجتماعية. يميز فيبر بين الفعل الهادف والفعل الاجتماعي، ويعتبر الفعل الاجتماعي مجموع الأعمال الهادفة للأفراد.٦ ومن الممكن أيضًا اتباع النهج الشمولي ووصف السلوك الهادف بأنه اجتماعي بطبيعته. ولا يمكن أن يكون هادفًا إلا إذا كان محكومًا بقواعد، وتفترض القواعد وجود بيئة اجتماعية (وينش ١٩٥٨، ١١٦). وهكذا فإن التقسيم نفسه بين «الفردية» و«الشمولية» موجود كما هو موجود في المنهج التجريبي.

بالنظر إلى الاختلافات بين النموذج الطبيعي والنموذج التفسيري، فإننا نرى إلى أي مدًى وازن فرويد بين هذين الموقفين؛ فمن ناحية، أظهر فرويد ميولًا للطبيعانية؛ فالحقائق النفسية حقائق خارجية، تخضع لقوانين اللاوعي الديناميكي، ولكن هذا النهج لم ينجح لأن فرويد قام باستنتاجات خاطئة ولم يستطع الاعتماد على مجموعة من البيانات الخام الموضوعية؛ ومن ناحية أخرى، كان ينبغي على فرويد اللجوء إلى تقنيات التفسير. كانت نظرية فرويد للمعنى الخفي محاولةً لتفسير السلوك الفردي — الأعراض العصبية والزلات الفرويدية ورموز الأحلام — في سياق الدوافع الجنسية الكامنة. ومن ثَمَّ يعكس العصاب القمع غير الصحي للهُوَ من قبل الأنا. يجب أن تُكشف الرغبات الجنسية للشخص في تحليل المعنى من أجل تفسير سلوكه الحالي. ووسع فرويد هذا النهج لتفسير وجود العديد من المؤسسات الاجتماعية والأشكال الثقافية. وفسَّر فرويد وجود المنتجات الثقافية — إضفاء طابع الشيئية لدلتاي — كنتيجة لفعل التسامي. وتُوصف عملية التسامي بأنها القدرة على تحويل الطاقة الجنسية من الإشباع الجنسي المباشر إلى أشكال غير مباشرة من الإشباع. وتُظهِر هذه الأشكال غير المباشرة نفسها كمنتجات ثقافية.

من الواضح أنه توجد حاجة إلى موقف توفيقي يكون قادرًا على نسج خيوط من النهجين التجريبي والتفسيري في نموذج متماسك للعلوم الاجتماعية. وبينما ننتقل إلى التساؤلات بشأن المنهجية، سنرى أن نهج فيبر المثالي للعلوم الاجتماعية يُمثِّل حلًّا توفيقيًّا بنَّاءً.

(٤-٣) تساؤلات بشأن المنهجية

من الأفضل في العمل العلمي مهاجمة كل ما هو أمام المرء مباشرة، وتوفير فرصة للبحث. (فرويد ١٩١٦أ، ٢٧)

يظهر من مناقشتنا أن استخدام الخرائط الرمزية أمر ضروري لعالِم الاجتماع كما هي الحال بالنسبة لعالِم الطبيعة. إن العالَم الاجتماعي معقد على نحو غير عادي، ولذلك يجب على عالِم الاجتماع أن يستخدم إضفاء المثالية والفصل من أجل وصف الواقع الاجتماعي وتفسيره. تثير الخرائط الرمزية التي يستخدمها عالِم الاجتماع عددًا من الأسئلة المنهجية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلوم الاجتماعية. يتعلق أحد الأمور بمحاولات توضيح فكرة «الفهم». وثمة مسألة أخرى يتعين تناولها هي نوع النماذج التي تستخدمها العلوم الاجتماعية. لقد أوضحنا بالفعل استخدام التفسيرات السببية في العلوم الاجتماعية، ولكن ما الشكل الذي يأخذه النموذج الفلسفي للسببية في العلوم الاجتماعية؟ يرتبط هذا السؤال ارتباطًا وثيقًا بمسألة القوانين الاجتماعية. ويؤثر وجود هذه القوانين من عدمه بدوره على دور التفسيرات والتنبؤات في العلوم الاجتماعية. وأخيرًا، تُطرَح أسئلة حيال مسائل الواقعية والنسبية ونقص الإثبات بالأدلة، فضلًا عن مسألة الوظيفية والاختزالية.

(أ) ما الفهم؟

أوضحنا بالفعل أن الفهم في النموذج التفسيري يعني أنه يجب تحليل الفعل الاجتماعي بالرجوع إلى القواعد الاجتماعية (المعايير والأعراف) والفعل الفردي بالرجوع إلى النوايا (الدوافع والأسباب)، ولكن إذا كان الفهم منهجًا في العلوم الاجتماعية، كما قصد دلتاي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: «ما هذه العملية التي تُسمى الفهم؟» ثمة ثلاث طرق لتوصيف الفهم: (أ) في سياق التعاطف. (ب) وفي سياق الأنماط المثالية. (ﺟ) وفي سياق الظروف الاجتماعية.

لنتناول بإيجاز هذه الطرق الثلاث لفهم «الفهم». إن نموذج التعاطف (أ) له جذوره في النظرية التاريخية للقرن التاسع عشر. وكما أكدنا، فإن التاريخية هي الرأي القائل بأن مختلف العصور والثقافات يجب أن تُفهَم وفق شروطها الخاصة. والطريقة المُوصَى بها لتحقيق هذا الهدف هي «التعاطف». التعاطف هو القدرة المفترضَة على عودة المرء للماضي وغمر نفسه في ثقافةٍ وحامليها وفهمهم من الداخل (أبيل ١٩٤٨)؛ فنحن نفهم موقفًا بشريًّا معينًا — سواء كان فعلًا فرديًّا أو ارتباطًا بين أحداث عامة — إذا استطعنا أن نطبق عليه تعميمًا يستند إلى التجربة الشخصية. رأينا بالفعل ضعف هذا النهج من المرحلة المبكرة من فكرة دلتاي بشأن الفهم. والاعتماد على المعرفة الشخصية هو وجه القصور الأول لهذا النهج. فسيظل معظم التفسيرات مجرد تعبير عن الرأي، لا تخضع إلا ﻟ «اختبارات» المقبولية. أما وجه القصور الثاني لهذا الاستخدام للفهم فهو أنه ليس وسيلة للتأكيد. وكما علمنا من تناولنا لفرويد، لا يمكننا أن نستنتج من تأكيد الاستدلال المسموح به أنه استدلال مقبول أيضًا. يقدِّم فرويد وصفًا متماسكًا للظواهر النفسية، رابطًا محتملًا بين الأعراض الحالية والظروف السابقة، لكنه فشل في إيضاح أنه أيضًا رابط محتمل. من وجهة نظر نموذج التعاطف، أي علاقة محتملة بين الدوافع والأفعال تميل إلى أن تكون رابطًا مؤكدًا. وعلى أي حال، فإن اختبار الاحتمال الفعلي للتفسير يستدعي تطبيق أساليب رصد موضوعية، مثل التجارب والدراسات المقارنة والحسابات الإحصائية (أبيل ١٩٤٨).

وضع ماكس فيبر نموذجًا مختلفًا للفهم (ب)، لا يعتمد على التعاطف. غير أن ما يثير الاهتمام هو أن مفهوم الفهم لا يُهجَر ببساطة؛ ويصر فيبر على أن هذا المفهوم محوري للعلوم الاجتماعية. يبدأ فيبر بالقول إن الفعل الاجتماعي يتسم بالانتظام، ولكن ما يميز الانتظام في الفعل البشري هو أنه يُظهر معنًى رمزيًّا، يجب تفسيره، ولكن، كما يشير فيبر، عزو معنًى للفعل البشري — وادعاء «فهم» هذا الفعل — لا يبين رغم ذلك أن له صلاحية تجريبية. فيمكن أن يستند نوعان متطابقان من الأفعال، يمكن رصدهما، إلى دوافع مختلفة تمامًا، ولا يكون الدافع الأكثر وضوحًا بالضرورة هو الدافع الفعلي؛ لذلك يطالب فيبر بأن تُوازَن طريقة الفهم عبر طريقة الإسناد السببي. وتتضمن هذه الطريقة وصف أنواع الدوافع العقلانية للفعل (فيبر ١٩١٣، ٩٧). ولتحقيق هذه التفسيرات السببية، نحتاج إلى بنيات عقلانية أو أنماط مثالية مع الإشارة إلى الواقع التجريبي الذي تمت مقارنته (فيبر ١٩١٤، ٣٠٣-٣٠٤). تخيَّل على سبيل المثال خبيرًا اقتصاديًّا يرغب في فهم السلوك الشرائي للعناصر الاقتصادية. سيضع الخبير الاقتصادي نموذجًا استنادًا لفهمه للسلوك البشري في مجتمع معين، الذي يفترض أن العناصر الاقتصادية العادية لها تفضيلات مستقرة، وتستفيد من المعلومات المثلى عن السوق، وأن هذه السوق في حالة توازن (بيكر ١٩٨٦). تجدر الإشارة إلى أن نموذج العنصر الاقتصادي يقدِّم بيانًا بشأن ما سيفعله المستهلكون النموذجيون في مثل هذه الحالات المثالية بافتراض ثبات العوامل الأخرى. وعالِم الاجتماع يهدف إلى بناء بنيات مثالية افتراضية يمكن مقارنة الواقع التجريبي معها في سياق الانحرافات (فيبر ١٩١٤، ٣٠٤-٣٠٥). يجب تأكيد الافتراضات التي يقوم بها الخبير الاقتصادي لأنها قد لا تكون صحيحة في جميع الأسواق. باختصار، هذه هي منهجية فيبر للأنماط المثالية (انظر القسم ٤-٣، ب).

figure
ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠).

وفقًا لفيبر، تحتاج العلوم الاجتماعية إلى فهم قواعد وقيم مجتمع معين، وعلى هذا الأساس تَبْنِي سلوكًا مثاليًّا نموذجيًّا. ثم تُقارَن هذه الأنماط المثالية بالواقع التجريبي. إذا كانت تنحرف عنها كثيرًا، فإن النماذج تحتاج إلى تعديل. ويقترح فيبر سلسلة من المثاليات التي يمكن من خلالها دراسة الحالات التجريبية. وهي تقدِّم «درجات فهم» للأفعال الاجتماعية (مومسن ١٩٧٤، ٢٢١). تأمَّل واحدًا من أهم أنماط مثاليات الفعل الاجتماعي (بصرف النظر عن السلوك العاطفي والتقليدي):

  • الفعل العقلاني المتعمد. وفي هذا النوع من الأفعال:

    ربما يستخدم العنصر توقعاته لسلوك الأشياء الخارجية وغيره من البشر ﮐ «شروط» أو «وسائل» لتحقيق أهدافه التي يلاحقها على نحو عقلاني ومحسوب. (فيبر ١٩٧٨، ٢٨؛ قارن فيبر ١٩٦٨، ٢٤–٢٦)

    وفقًا لنظرية الاختيار العقلاني، فإن العنصر الاقتصادي يدرك بوضوح الأهداف ويختار الوسائل التي يعتبرها ذاتيًّا أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف. ويُعامَل سلوك الاستفادة القصوى لدى العناصر الاقتصادية أو الشركات الفردية في السوق المحددة كما لو كان يسعى بعقلانية لتحقيق أقصى قدر من العوائد المتوقعة (فريدمان ١٩٥٣، ٢١). ووفقًا لفيبر، يمتلك فهم الفعل البشري في سياق العقلانية الهادفة أعلى درجة من «الأدلة» (فيبر ١٩١٣، ١٠٧؛ مومسن ١٩٧٤، ٢٢١).

تتمثل وظيفة الأنماط المثالية في فهم الفعل الاجتماعي في سياق هذه النماذج. ويجب تقييم السلوك الفوضوي للعناصر الاجتماعية الفعلية في ضوء الأنماط المثالية:

على سبيل المثال، عند تفسير حالة من الذعر في البورصة، يكون من المناسب أولًا تحديد طريقة تصرُّف الأفراد المعنيين لو لم يتأثروا بدافع عاطفي غير منطقي، ثم يمكن دمج هذه العناصر غير العقلانية في التفسير كاضطرابات. (فيبر ١٩٧٨، ٩؛ ١٩٦٨، ٦)

يُعَد النمط المثالي بمنزلة نموذج افتراضي يمكنه أن يفسر الحالات التجريبية، عندما يحدث الفصل من الانحرافات، بسبب عوامل غير عقلانية (نزوات عاطفية، أخطاء. فيبر ١٩١٣). ولا يمكن للعلوم الاجتماعية، التي تهدف إلى وصف وتفسير الجوانب العامة للحياة الاجتماعية، أن تجمع ما يفعله الأفراد الفعليون؛ إنما يجب أن تصل لمعدل متوسط لما يفعله الأفراد العاديون ويفكرون فيه. وتهتم العلوم الاجتماعية بالمستهلك العادي، والسائق العادي، والناخب العادي، الذي يصاغ في الأنماط المثالية.

يأمل فيبر في تحقيق الفهم التفسيري من خلال الجمع بين التفسير والفهم (فيبر ١٩١٣، ١٠٧–١٠٩؛ فيبر ١٩٦٨، ٨؛ قارن ١٩٧٨، ١١). ويتمثل الهدف من عمل فيبر في صياغة موقفٍ وسطٍ بين النماذج التجريبية والنماذج التفسيرية. يرفض فيبر التضاد بين التفسير والفهم الذي أشار إليه دلتاي، والذي كان من المفترض أن يكون الفرق المميز بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. تأمَّل فعلًا اجتماعيًّا يحدث بتكرار معين، كدخول عدد كبير من الناس مبنًى معيَّنًا ومغادرته بانتظام يمكن التنبؤ به. إن ذكر هذا التكرار من خلال الأعداد لا يساعد على فهم هذا الفعل. وبناء نمط مثالي من السلوك العقلاني الهادف لا يفسر شيئًا بشأن تكرار الفعل في المجتمع. يجب على عالِم الاجتماع الجمع بين كلا الجانبين. ويعتبر التكرار الإحصائي لفعل ما «مُفسَّرًا» عند فهم معناه وتوضيحه. ربما يكون المبنى المذكور جامعة، وهذا يحدد الإطار الرمزي الذي تكون فيه حركة الناس منطقية. إن تفسير السلوك الهادف، حتى عندما يبدو واضحًا، يكون في البداية مجرد فرضية، تخضع للاختبارات (فيبر ١٩١٣، ١٠٨). ونحقق الفهم التفسيري للفعل الاجتماعي بطريقتين: إما في سياق الدوافع المنطقية التي يعزوها النموذج للأفراد والتي يُصدَّق عليها على نحو عام، أو في سياق المعايير والقيم الاجتماعية التي تحكم المجتمع وتوجه الفعل الاجتماعي عادةً. كتب فيبر:

يشير مصطلح «الفهم» في كل هذه الحالات إلى الفهم التفسيري لمعنًى أو نمط من المعاني، يكون إما (أ) مقصودًا حقًّا في حالة معينة (كما هو طبيعي في الدراسة التاريخية)، أو (ب) مقصودًا من قبل العنصر العادي بدرجة من التقريب (كما هي الحال في الدراسات الاجتماعية للمجموعات الكبيرة) أو (ﺟ) مبنيًّا علميًّا بغرض ملاءمة نوع «نقي» أو «مثالي» لظاهرة تحدث على نحو متكرر (وهذا يمكن أن يُسمى معنًى «مثاليًّا-نموذجيًّا»). (فيبر ١٩٧٨، ١٢؛ ١٩٦٨، ٩)

(ﺟ) في الإسهامات الأخيرة في منهجية العلوم الاجتماعية، انتقل التركيز على الفهم من مفهوم دلتاي المبكر كطريقة كان من المفترض أن تكون مُميِّزة للعلوم الاجتماعية، إلى تفهُّم جديد للفهم كطريقة عامة لجميع التفاعلات الاجتماعية (جيدنز ١٩٩٣؛ هابرماس ١٩٧٠ (١٩٨٨)؛ ١٩٨١ (١٩٨٤)؛ جادامر ١٩٧٥). لا يزال هناك تباين بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولكنه ليس تباينًا في الأساليب، بل تباين بين تفسير منفرد ومزدوج.

إذا كان للفعل الاجتماعي معنًى رمزي، يجب إذن أن تمتلك العلوم الاجتماعية سمات غائبة عن العلوم الطبيعية. تأمَّل التباين بين «الطبيعة» و«المجتمع» وعلى نطاق أوسع بين العلوم الطبيعية والاجتماعية (جيدنز ١٩٩٣، ٢٠-٢١، ٩، ٨٦-٨٧؛ هابرماس ١٩٧٠، ٨٧ (١٩٨٨، ١٣-١٤)). إذا كنا نفهم من مصطلح «الطبيعة» مجموعة العمليات الطبيعية التي تتطور بغضِّ النظر عن الإرادة والتخطيط البشريين، فإن الطبيعة ليست منتجًا بشريًّا؛ فهي لم تنشأ عن فعل بشري.

كتب داروين أنه كان يقصد بالطبيعة «العمل الكلي والناتج عن العديد من القوانين الطبيعية» (كرومبي ١٩٩٤، المجلد الثالث، ١٧٥٢). وإذا كنا نفهم من مصطلح «المجتمع» مجموعة العلاقات الاجتماعية التي يتمتع بها البشر، فإن المجتمع ينشأ ويعاد إنشاؤه من خلال المشاركين في كل علاقة بشرية. ويتضمن هذا الإنتاج للحياة الاجتماعية عن طريق الفاعل العادي إطارات للمعنى. وهذا المعنى الرمزي مُستَمَد من التقاليد الثقافية في المجتمع، كما أنه يستمر أيضًا ويتغير بتفاعل الفاعل الاجتماعي (جادامر ١٩٧٥، الفصل الثاني).

وبالتالي فإن البيانات التي تتعامل معها العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، على نحو منفصل، ليس لها نفس البنية. تتعامل العلوم الاجتماعية مع عالم سبق تفسيره؛ فهي تكون في علاقة «قائم بالدراسة-قائم بالدراسة» فيما يخص «مجال دراستها». ويتمثل مجال دراستها في عالَم الفاعل الاجتماعي الذي سبق تفسيره؛ فالفاعل الاجتماعي يدعم ويطور العالَم الاجتماعي الرمزي، ويدخل العالَم الرمزي للفاعل الاجتماعي في بناء وإنتاج هذا العالَم. وبهذا المعنى، فإن بناء النظرية الاجتماعية ينطوي على تفسير مزدوج (جيدنز ١٩٩٣، ١٥٤؛ هابرماس ١٩٨١، ١٥٩، ١٦٢ (١٩٨٤، ١٠٧، ١١٠)). ويجب على عالِم الاجتماع أن يفسر العالَم الاجتماعي الذي يُظهر بالفعل معنًى رمزيًّا. وبهذا المعنى يجب أن يصبح عالِم الاجتماع راصدًا مشاركًا. تنشأ مشكلة الفهم بالفعل تحت عتبة إعادة البناء النظرية للبيانات. وتظهر هذه المشكلة على مستوى إنتاج البيانات والحصول عليها. إن حالة التفسير المزدوج، التي تواجهها العلوم الاجتماعية، لها تأثير على التوجه الذهني لعلماء الاجتماع تجاه موضوع دراستهم؛ أولًا: يجب على عالِم الاجتماع أن يرسم بنياته الرمزية (الأنماط المثالية) على أطر المعنى التي ينطوي عليها إنتاج الحياة الاجتماعية من قبل الفاعلين العاديين. ثانيًا: يمكن إعادة طرح المفاهيم والنظريات التقنية التي اخترعها علماء الاجتماع بدورها مرة أخرى في العالَم الاجتماعي. وتصبح عناصر أساسية في موضوع الدراسة ذاته الذي كانوا يصوغونه من أجل وصفه، ومن خلال هذه الرمزية، يغيرون سياق تطبيقهم (جيدنز ١٩٩٣، ٨٦)؛ أي إن المصطلحات التقنية (الطبقة الاجتماعية، العولمة)، التي اخترعها عالِم الاجتماع لفهم الواقع الاجتماعي، يمكن أن تُخَصَّص في العالَم الاجتماعي، لتصبح جزءًا من التعاملات الرمزية للعوامل الاجتماعية. وتعتمد المفاهيم التي يستخدمها علماء الاجتماع على فهمٍ مسبق لتلك التي يستخدمها الناس العاديُّون للحفاظ على عالَم اجتماعي هادف (جيدنز ١٩٩٣، ٥٩، ١٥٥–١٦٢). ومن ثَمَّ، لا يمكن للراصد الاجتماعي بناء قاموسٍ تقني للغة الاصطلاحية غير متصل بفئات اللغة الطبيعية (هابرماس، ١٩٧٠، ٢٠٢، ٢٦٣ (١٩٨٨، ١٠٥، ١٥٢)).

وفقًا لجيدنز، لا يوجد لهذا التفسير المزدوج نظيرٌ في العلوم الطبيعية (جيدنز ١٩٩٣، ١٥٤)؛ فهي تعتمد على علاقة القائم بالدراسة بهدف بالدراسة في مجال دراستها. والعالَم الطبيعي ليس عالَمًا مُسبق التفسير مغمورًا بالمعاني الرمزية. يتكون العالم الطبيعي من نظم طبيعية، وعمليات بيولوجية وفيزيائية، خالية من الأبعاد الرمزية. يحدد عالِم الطبيعة ملامح البنيات الرمزية (معادلات ونماذج ونظريات) لهذا العالَم. ولهذا السبب يُمثِّل هذا التحديد «تفسيرًا مفردًا». وتُعد المعادلات والنماذج والنظريات بنيات رمزية ولكنها تُرسَم على العالَم دون أبعاد رمزية (الشكل ٣-٣أ، ب).
fig52
شكل ٣-٣: (أ) التفسير البسيط. (ب) التفسير المزدوج.

إذا كان الفهم التأويلي ظاهرة كلية الوجود في الحياة الاجتماعية، وإذا كان هذا ينعكس على عمل عالِم الاجتماع، فكيف يمكن أن تظل العلوم الاجتماعية موضوعية؟ يجب أن تُوازَن الحاجة إلى دراسات موضوعية في العلوم الاجتماعية مع الحاجة إلى الفهم التأويلي. وكما يضيف فيبر، يجب أن تُوازَن أيضًا مع الفهم التفسيري. سنتناول في الجزء التالي أولًا منهجية فيبر للأنماط المثالية، ثم نتناول مسألة توافق الفهم مع الموضوعية.

(ب) منهجية فيبر للأنماط المثالية

إن «النمط المثالي» وفق فهمنا (…) ليس له أي صلة على الإطلاق بأحكام القيمة، ولا علاقة له بأي نوع من الكمال إلا من الناحية «المنطقية» البحتة. ثمة أنماط مثالية لبيوت البغاء وكذلك للأديان (…). (فيبر ١٩٠٤، ٩٨-٩٩)

وفقًا لفيبر، ينقسم الهدف من العلوم الاجتماعية إلى أربعة أهداف: (أ) دراسة الواقع الاجتماعي في سياقه الثقافي، وتفسير السلوك الاجتماعي بمساعدة الانتظام الافتراضي. يبدو أن فيبر ينكر وجود قوانين صارمة في العلوم الاجتماعية؛ لذلك فإن أي انتظام اجتماعي له طابع افتراضي فقط. (ب) من سمات الفعل الاجتماعي أن انتظامه ذو معنى. يمكننا أن نفهم الفعل الاجتماعي عندما نفهم معناه الرمزي، ومع ذلك، قد نخطئ في تفسير الفعل الاجتماعي؛ مثلًا أن نعزو معنى أو نية خاطئة له. ويجب أن يخضع عزو المعنى عن طريق عالِم الاجتماع، أو حتى فاعل اجتماعي عادي، لبعض الاختبارات التجريبية. وفقًا لفيبر، من الممكن أن نفهم بعض الأفعال الاجتماعية من خلال عزو دوافع عقلانية لها. ويميز فيبر بين دوافع عقلانية عديدة، لكنه يرى أن العقلانية المقصودة تتمتع بأعلى قدر من الأدلة (فيبر ١٩١٣، ٩٧؛ مومسن ١٩٧٤، ٢٢١). إذا كان العزو يعين عقلانية مقصودة للفعل، بموجبها يسعى العنصر الاجتماعي إلى أفضل الوسائل لتحقيق غاية ما، ينبغي أن يكون من الممكن اختبار هذا العزو للمعنى. هذا هو مزيج فيبر للأنماط التجريبية والتفسيرية من العلوم الاجتماعية. ويفيد النمط التجريبي في تفسير الفعل الاجتماعي مع مساعدة من الانتظام الافتراضي المؤكَّد. ويفيد النمط التفسيري في تقديم معنًى لهذا الانتظام الاجتماعي (فيبر ١٩٠٤، ٢١٦؛ هابرماس ١٩٧٠، ٨٣–٩١ (١٩٨٨، ١٠–١٦)). عمم هابرماس لاحقًا هذه الفكرة بالادعاء بأن جميع الأفعال الاجتماعية ترتبط بادعاءات صحة (انظر ما يلي). (ﺟ) ثمة هدف آخر للعلوم الاجتماعية هو تقديم تفسير تاريخي لظهور النظم الاجتماعية. وتمثل أطروحة فيبر الشهيرة للعقلانية محاولةً لتفسير ظهور الرأسمالية الحديثة من اعتماد نمط الحياة البيوريتاني (فيبر ١٩٠٤-١٩٠٥؛ تاوني ١٩٢٢). (د) أخيرًا، يرى فيبر أن العلوم الاجتماعية قادرة على تقديم تنبؤات محدودة بشأن الآثار المستقبلية للأفعال الاجتماعية. يتنبأ علماء الاجتماع بارتفاع معدلات جرائم الأحداث، ويتنبأ الاقتصاديون بتأثير انخفاض أسعار الفائدة على الاقتصاد. إنها ليست تنبؤات طويلة الأجل، وتأتي مرفقة بشرط ثبات جميع العوامل الأخرى.

يرى فيبر بوضوح «الفهم» كشرط للحياة الاجتماعية، ولكن حتى إذا كانت الأبعاد الرمزية ترتبط بالحياة الاجتماعية مثل شبكة العنكبوت، يجب أن يكون الفهم أيضًا عملية موضوعية، وهي ليست منهجًا مقتصِرًا على العلوم الاجتماعية؛ فعمل عالِم الطبيعة يتطلب بالفعل فهم الظواهر الطبيعية في سياق بناء النموذج (فاينرت ٢٠٠٤، الفصل الثالث). ويشارك عالِم الاجتماع في بُعد تفسيري مزدوج يرسم فيه المعنى على بنًى رمزية موجودة مسبقًا. يمنحنا محور التفسير المنفرد/المزدوج وسيلة لتفسير إصرار فيبر على الفهم «التفسيري». يجب أن نتصور الفهم كبنية نموذج. ونحن نجد استخدامًا واسع النطاق له في العلوم الطبيعية والاجتماعية على حد سواء، وفي العلوم الاجتماعية يتخذ شكل الأنماط المثالية.

يعتبر فيبر الأنماط المثالية بنيات نظرية؛ فهي «أنواع نموذجية» سواء من الناحية المنطقية أو العملية (فيبر ١٩٠٤، ٩٧؛ انظر الفصل الأول، القسم ٦.٥). ولا يُقصد من الأنماط المثالية أن تكون وصفًا للواقع الاجتماعي. ولا تكون بمنزلة مخططات يمكن بموجبها تصنيف موقف أو فعل حقيقي كحدث واحد (فيبر ١٩٠٤، ٩٢؛ فاينرت ١٩٩٦). بل تُعد بمنزلة نماذج تسمح لعالِم الاجتماع أن يصرف نظره عن التفاصيل غير ذات الصلة أو الخاصة؛ من أجل التركيز على السمات الأساسية لظاهرة ثقافية أو اجتماعية. وهذه الأنماط تُمثِّل إضفاءً للمثالية من حيث التركيز على بنية الظاهرة الاجتماعية قيد الدراسة. ووفقًا لفيبر، عالِم الاجتماع مهتم بما هو نموذجي بشأن عنصر اجتماعي، أو موقف اجتماعي، أو نظام اجتماعي معين. يُبرز النمط المثالي النواة الأساسية لظاهرة اجتماعية ما مثل السلطة أو الرأسمالية أو الإقطاعية. تسمح الأنماط المثالية بوضع توصيف منهجي لما هو مشترك بين العديد من الحالات الفردية في العالَم الاجتماعي. وتبرز ما هو مهم بنيويًّا في الظواهر الاجتماعية. وتتميز الأنماط المثالية بالاتساق المنطقي والدقة المفاهيمية، وهي أنواع «نقية»؛ على سبيل المثال:

«السلطة الكاريزمية» تشير إلى سيطرة على الناس، سواء أكانت سيطرة خارجية أم سيطرة داخلية، يخضع فيها الأشخاص المحكومون بسبب إيمانهم بالسمات الاستثنائية ﻟ «الشخص» المعني. (فيبر ١٩١٥، ٢٩٥-٢٩٦)

يشير فيبر إلى أن استخدام الأنماط المثالية إلزامي لاستخراج المعاني الثقافية من التفاعلات الاجتماعية (فيبر ١٩٠٤، ٩٠–٩٣)؛ ومن ثَمَّ فإن العملية التي تُسمى «الفهم» تُفهم على النحو الأمثل بوصفها عملية بناء للنماذج؛ ومن ثم يصبح النمط المثالي نوعًا ما من «النماذج».
يميل فيبر إلى اعتبار الأنماط المثالية مجرد أدوات إرشادية، وهي محددة بدقة، ولكنَّ نقاءها يأتي بتكلفة. فليس مهمًّا هل كان الواقع التاريخي أو الاجتماعي يتوافق فعليًّا مع الأنماط المعنية أم لا؛ فالأنماط المثالية مقاييس يمكن من خلالها تقييم الواقع التاريخي أو الاجتماعي على أنه انحراف. ووفقًا لفيبر، للأنماط المثالية أربع وظائف:
  • تسلط الضوء على العناصر الأساسية للظواهر التاريخية والاجتماعية («الإقطاعية»، «الإمبريالية»، «السلطة»، «العقلانية»، «العلمانية»).

  • تعمل كمفاهيم محدِّدَة. فتُعد المجتمعات الغربية الحديثة «أسواقًا حرة» أو لديها «بنية سياسية ديمقراطية» في حدود الظروف المثالية. ويمكننا أن نحدد نموذج المجتمع الديمقراطي بمبادئه الأساسية المتمثلة في الحرية والمساواة. ويمكن وصف المجتمعات الملموسة بأنها تقريب للمفهوم المحدِّد. وتقترب المجتمعات المختلفة من المفهوم المحدِّد بدرجات متفاوتة، ولكن لا يوجد مجتمع مطابق للنمط المثالي للمجتمع الديمقراطي.

  • تعمل على إعادة بناء «التسلسل التطوري» للأحداث في التاريخ. كرس فيبر الكثير من عمله لإعادة بناء نمو الرأسمالية الحديثة من الأخلاق البروتستانتية. وحاول ماركس إعادة بناء تطور المجتمع من الإقطاع مرورًا بالرأسمالية ثم الاشتراكية. ورأى كونت تطور المجتمع من اللاهوتية إلى الميتافيزيقية إلى الموضوعية.

  • تساعد على تحديد مفهومَي «السببية الكافية» و«الاحتمالية الموضوعية» في العلوم الاجتماعية. يعتقد فيبر، مع مؤيدي النموذج التجريبي، أنه كان من الممكن وضع تفسيرات سببية في العلوم الاجتماعية. ويسعى علماء الاجتماع إلى الوصول إلى تفسيرات سببية للأحداث الاجتماعية. وكما سنرى، فإن الاعتقاد بوجود تفسيرات سببية في العلوم الاجتماعية يعتمد على ملاءمة نماذج السببية الفلسفية. هل كانت دكتاتورية هتلر هي الشرط السببي الذي أسقط العالَم في الحرب العالمية الثانية؟ كما سنذكر، فإن فكرة فيبر للسببية الكافية تغلف نموذجًا فلسفيًّا للسببية في سياق الشروط الضرورية والكافية، التي تسمح للمؤرخ بالتحدث عن الشروط السببية التي دفعت ألمانيا نحو الحرب. بهذا المعنى، توضح الأنماط المثالية الحالات الممكنة موضوعيًّا.

كان فيبر يدرك جيدًا الطبيعة المتغيرة للأنماط المثالية. وكما هي الحال في العلوم الطبيعية، يجب أن تكون النماذج في العلوم الاجتماعية قابلة للتكيف مع الأدلة الجديدة؛ ولذلك لا يمكن أن تكون الأنماط المثالية مجرد أنماط مفروضة على البيانات الاجتماعية من جانب عالِم الاجتماع. وعلى غرار النماذج في العلوم الطبيعية، يجب أن تكون نماذج الفرضيات في العلوم الاجتماعية قابلة للتكيف مع العالَم الاجتماعي المتغير. قد تكون الأنماط المثالية، مثل «المجتمع الطبقي»، ملائمة في بريطانيا الصناعية في القرن التاسع عشر، ولكن تغيَّر العالَم الاجتماعي إلى حد أن هذه المصطلحات لم تعُد ناجحة في نمذجة المجتمع البريطاني على نحو ملائم (دهرندورف ١٩٥٩). وعلى النقيض من ذلك، فإن ظاهرة جديدة مثل العولمة تتطلب بناء نمط مثالي جديد قادر على نمذجة تلك الظاهرة. تتغير الظروف الاجتماعية، وهذا يجب أن ينعكس في اختيار عالِم الاجتماع للنموذج. وفي حين تمكَّن علماء الاجتماع في الماضي من وصف المجتمعات الأوروبية من حيث التسلسل الهرمي للطبقات الاجتماعية، فإن نظراءهم المعاصرين يفضلون وصف مجتمعاتهم من حيث التقسيم الطبقي الاجتماعي. ويعكس هذا التغير في المفاهيم تغيرًا في الواقع الاجتماعي. ولا يختلف هذا من حيث المبدأ عن تعديلات النموذجين الكوبرنيكي أو الدارويني مع ظهور المزيد من الأدلة.

على غرار العلوم الطبيعية، تستخدم العلوم الاجتماعية عددًا من النماذج المختلفة. يُمثِّل منحنى العرض والطلب للاقتصادي نموذج «دالي»، لأنه يبين كيفية اعتماد متغير واحد (السعر) داليًّا على التفاعل بين متغيرين آخرين (العرض والطلب). وحيثما يلتقي منحنيَا العرض والطلب، يحدد هذا التقاطع السعر (شكل ٣-٤). استخدم فرويد التفكير «التماثلي» ونماذج ميكانيكية «مصغرة» للعقل، كما رأينا، وجادل على أساس التماثل مع الفيزياء لصالح الصحة العلمية للتحليل النفسي، ولكن استخدم فرويد أيضًا البنية الثلاثية للعقل كنموذج مصغر. ومن المفترض أن يكون نموذجًا ميكانيكيًّا يتضمن روابط ديناميكية بين الأجزاء الثلاثة. وبما أن فرويد يتحدث غالبًا عن الطاقة الجنسية، التي يجب على الجهاز النفسي أن يوجهها ويسيطر عليها، فإن التشبيه المناسب لهذا الجهاز هو المحرك البخاري (انظر ريلير ٢٠٠٥ﺟ، ٤٣٠؛ فرويد ١٩١٦ب، الفصل الثاني والعشرون).

أي نوع من النماذج تُعد أنماطًا مثالية؟ الأنماط المثالية نماذج بالمعنى الافتراضي؛ فهي نماذج من نوعية «كما لو». وهي ترسم ملامح الواقع الاجتماعي والاقتصادي «كما لو» كانت تتألف «فقط» من المتغيرات المدرجة في النموذج. «الكائن الاقتصادي» و«الكائن الاجتماعي» و«الكائن النفسي» جميعًا «تختزل» البشر إلى عدد قليل من المتغيرات التي تُعتبر ذات صلة بالأغراض الوصفية والتفسيرية لعالِم الاقتصاد، أو عالِم الاجتماع، أو عالِم النفس؛ فهي جميعًا مجردة من سمات البشر غير ذات الصلة، وتضفي المثالية على السمات ذات الصلة لدرجة تمنحها الأهمية، وتنظم المتغيرات ذات الصلة لتشكيل تفسير متسق لجوانب السلوك البشري. عند فهم الأنماط المثالية كنماذج فرضيات، ربما تعبِّر عن بنية جبرية، ولكنها تتعلق في الغالب بالبنية الطوبولوجية التي تشبه بنية الواقع التجريبي.

على الرغم من تأكيدنا على تشابه النماذج في العلوم الاجتماعية والطبيعية، فإن مشكلة الإغلاق في العلوم الاجتماعية تفرض بعض القيود على هذا التشابه؛ أولًا: من الأصعب كثيرًا الوصول إلى تمييز بين السمات الأساسية والسمات العرضية، بين الظروف ذات الصلة وغير ذات الصلة، في العلوم الاجتماعية. غالبًا ما يكون الفيزيائي التجريبي في وضع يحدد فيه الظروف التجريبية ذات الصلة وغير ذات الصلة؛ فعلى سبيل المثال، اكتشف رذرفورد وزملاؤه في بداية القرن العشرين نواة الذرة، وفعلوا ذلك عن طريق قياس تبعثر ذرات الهيليوم المتأينة عبر ذرات الذهب الموجودة في رقيقة من الذهب. واستطاعوا افتراض أن وجود الإلكترونات داخل الذرات الذهبية ليس له أي تأثير على المسار المقيس لذرات الهيليوم المشتتة، وقد بُرر هذا الافتراض من واقع اعتبارات الطاقة في الفيزياء الكلاسيكية. ويؤكد فيبر أن وظيفة النمط المثالي هي «مقارنته بالواقع التجريبي من أجل تحديد الاختلافات أو أوجه التشابه» (فيبر ١٩١٤، ٤٣)، ولكن أنماط فيبر المثالية ليست مفاهيم علمية كمية. لن يوجد في كثير من الأحيان أكثر من مجرد إجماع نوعي بين المؤرخين — على سبيل المثال — بشأن العوامل التي يرجح أن تكون ذات صلة بالحالات التاريخية الملموسة. وكما سنرى، فإن هذه المشكلة خطيرة على نحو خاص في الاعتبارات السببية في العلوم الاجتماعية، ومع ذلك، غالبًا ما ستساعد الأدلة التاريخية المؤرخين على تحديد مجموعات العوامل المهمة، مع بعض التداخل بينها؛ ولذلك ينبغي أن نتوقع وجود بعض القيود التجريبية على مقبولية النماذج المثالية. ثانيًا: من الصعب تحديد هل كانت بعض الانحرافات في النموذج عن الواقع التجريبي انحرافات حقيقية أم ظاهرية. عندما ترفع الرياح ورقة شجرة خلال نسيم الخريف، فمن الواضح للفيزيائي والشخص العادي، على حد سواء، أن مسار الورقة يُمثِّل فحسب انحرافًا واضحًا عن قانون نيوتن للجاذبية. إن مسار الورقة متوافق مع قانون الجاذبية. لا تسمح القوانين المادية الحازمة باستثناءات حقيقية. وفي حين أن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الانتظام الاجتماعي، فإنه ليس من الواضح إن كانت تشكِّل قوانين حقيقية أم لا. وكما سنتناول لاحقًا، فإن هذا الانتظام الاجتماعي مجرد نزعة، ولكن النزعات تتفق مع الاستثناءات الظاهرية والحقيقية. عندما يحدث استثناء من نزعة ما، يصعب القول ما إذا كان يشكِّل انتهاكًا لنمط الانتظام أم لا. وأخيرًا، فإن درجات المثالية والتقريب التي يمكن أن يحققها النموذج ترتبط بمدى إمكانية فصل العوامل ذات الصلة عن العوامل غير ذات الصلة. في مختبر الفيزياء، تخضع العوامل إلى حد بعيد لسيطرة مُجري التجربة، بما في ذلك وجود «الضوضاء»، ولكن عالِم الاجتماع لا يتمتع بهذا المستوى من السيطرة على العوامل. هذه هي مشكلة الإغلاق. وحتى في التجارب المختبرية التي تنطوي على البشر لا يمكن تحديد جميع العوامل التي تدخل في بيئة التجربة والسيطرة عليها. فللبشر في هذه الحالات تاريخ ويشكلون جزءًا من تقليد لا يمكن تقدير آثاره على الحالة الراهنة بسهولة. تصور النماذج ما سماه فيبر الحالات «النموذجية». وفي غياب المعلومات الكمية، يصعب قياس درجات التقريب والمثالية؛ فعلى سبيل المثال، من المستهلك النموذجي؟ وكم ينحرف المستهلك الحقيقي عن المستهلك النموذجي؟

رغم عدم القدرة على القياس الدقيق في بناء النماذج في العلوم الاجتماعية، فإنه توجد طرق موضوعية — كما يؤكد فيبر — لبناء أنماط مثالية ونماذج أخرى في العلوم الاجتماعية. تعتمد النماذج الدالية على البيانات الإحصائية على نحو صرف، وقد بُنيت نماذج الفرضيات عن طريق التجارب النفسية، وكذلك من خلال الأدلة الإحصائية، ومقارنة العمليات التاريخية والمعاصرة (شريف ١٩٣٦؛ ميلجرام ١٩٧٤؛ فيبر ١٩٠٤-١٩٠٥). يعتبر فيبر بناء النماذج عملية موضوعية؛ ومن ثَمَّ فإن الفهم التفسيري في علم الاجتماع التأويلي قابل للمقارنة مع منهجيات العلوم الطبيعية. وخلافًا لنتائج النماذج التجريبية والتفسيرية، يجب أن نخلص إلى أن العلوم الاجتماعية تتسم ﺑ «طبيعانية ضعيفة» (ليتل ١٩٩١، الفصل الحادي عشر؛ بوبر ١٩٥٧، ١٢١–١٢٣). وهي تُعَدُّ طبيعانية ضعيفة لأنها (على عكس النموذج الطبيعي) لا تفترض وجود قوانين اجتماعية وانطباق النموذج الاستدلالي الطبيعي التفسيري والنموذج الاستقرائي الإحصائي التفسيري. ثمة بعض الترابط بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، على الرغم من الاختلافات الواضحة، وهو يكمن في استخدام بعض البنيات النموذجية المثالية التي تنطوي على انتظام افتراضي. وهي توفر للعلوم الاجتماعية الفرصة لتقديم فهم تفسيري للظواهر الاجتماعية.

(ﺟ) الفهم والموضوعية

أنشأ فيبر علاقة منطقية بين الفهم والتفسير. عمل الفهم كوسيلة لبناء أنماط مثالية للفعل الاجتماعي، لا سيما الفعل العقلاني الهادف. يوفر الفهم تكوينًا فرضيًّا، يجب تأكيده تجريبيًّا. ويجب الوصول إلى الحقائق الاجتماعية من خلال علم الاجتماع التأويلي (هابرماس ١٩٧٠، ١٦٤ (١٩٨٨، ٧٣-٧٤)). وبمجرد تأكيد النمط المثالي تجريبيًّا، فإنه يشير إلى انتظام اجتماعي، يكون بمنزلة تفسير للأفعال الاجتماعية (هابرماس ١٩٧٠، ٨٤ (١٩٨٨، ١١))؛ ومن ثم فإن الفهم ليس بديلًا عن تفسير الفعل الاجتماعي (هابرماس ١٩٧٠، ١٤٦ (١٩٨٨، ٥٩)).

إذا كانت المعاني الرمزية تتخلل الحياة الاجتماعية، فكيف يمكن للعلوم الاجتماعية أن تأمَل في تقديم بيانات موضوعية عن العالَم الاجتماعي؟ يجيب علم الاجتماع التأويلي بأن عالِم الاجتماع يجب أن يضع افتراضات عقلانية، ويُعبَّر عنها في التكوينات الفرضية، مثل فئات فيبر للأفعال الاجتماعية. ومن المفترض أن توضح دوافع ونوايا العنصر الاجتماعي «العادي». وفي توسيع لنهج فيبر، يربط هابرماس مختلف أنواع الفعل الاجتماعي بمختلف جوانب العالَم. فيميز بين عالَم «موضوعي» و«اجتماعي» و«ذاتي». تفترض الأنواع المختلفة للفعل الاجتماعي مسبقًا أنواعًا مختلفة من العلاقات مع العالَم المعني. وتحدد طريقة ارتباط الفاعل الاجتماعي بجوانب العالَم المختلفة جوانب العقلانية المختلفة وعقلانية تفسير هذه الأفعال عن طريق الباحث الاجتماعي (هابرماس ١٩٨١ (١٩٨٤)، الفصل الأول؛ قارن فاينرت ١٩٩٩).

على سبيل المثال، ينطوي الفعل الغائي/الاستراتيجي على علاقة بين الفاعل وعالَم موضوعي من الحقائق. وثمة نوعان من العلاقات العقلانية لهذا العالم ممكنة: (أ) يمكن للفاعل أن يقدِّم تأكيدات بشأن هذا العالَم، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، ويمكن الحكم عليها عقلانيًّا وفقًا ﻟ «صحتها». (ب) يمكن للفاعل أيضًا أن يتدخل في العالَم الموضوعي لتحقيق أهداف محددة، ويمكن أن يفشل تدخله أو ينجح. ويمكن الحكم عليه وفقًا ﻟ «فعاليته». إن العقلانية التي ينطوي عليها هذا النوع من الفعل تذكِّرنا بفعل فيبر الهادف الموضوعي والهادف العقلاني، على نحو منفصل، ولكن أحد الانتقادات التي وجهها هابرماس إلى فيبر هو أن هذا الأخير قد ضيَّق أنواع العقلانية إلى العقلانية المقصودة أو عقلانية الوسيلة والغاية. ووفقًا لهابرماس، فإن تصنيف فيبر للفعل الاجتماعي يقمع بعض جوانب العقلانية التي كانت جزءًا من مشروع التنوير. وهكذا، فإن هابرماس يميز بين الأفعال المنظَّمة والدراماتورجية والتواصلية ويربطها بالصحة المعيارية والصدق الذاتي والتوافق الجماعي العقلاني كمعيار لصلاحيتها على الترتيب.

كيف يمكن لدور المشارك الافتراضي الخاص بعالِم الاجتماع الإجابة على شرط الموضوعية في فهمه للتفاعل الاجتماعي؟ (هابرماس ١٩٨١، ١٦٨ (١٩٨٤، ١١٤)). يفترض هابرماس وجود صلة بين الأنواع الأساسية للفعل الاجتماعي ومنهجية فهم الأفعال الاجتماعية. ويقترح أن مشكلة العقلانية تطرح نفسها مع إمكانية الوصول التأويلي إلى مختلف أنواع العوالم (هابرماس ١٩٨١، ١٥٢، ١٥٧ (١٩٨٤، ١٠٢، ١٠٦)). إن الجوانب العقلانية للأنواع الأساسية للفعل الاجتماعي — إحالة الأفعال الغائية/الاستراتيجية، والمنظَّمة، والدراماتورجية، والتواصلية إلى العوالم الموضوعية والاجتماعية والذاتية، على الترتيب — مفتوحة أساسًا أمام حكم موضوعي من جانب الفاعل الاجتماعي والراصد الاجتماعي على حد سواء. من أجل فهم الفعل الاجتماعي أو الشكل اللغوي المعادل له، يجب على المُفسِّر أن يفهم شرط صلاحيته. يجب أن يفهم الشروط التي في ظلها يكون ادعاء الصلاحية المرتبط بالفعل — الصحة الظرفية، والصحة المعيارية، والصدق الذاتي، والتوافق الجماعي — مقبولًا. وهذا يعني أنه يجب على المُفسِّر أن يفهم الأسباب التي يدافع بها الفاعل الاجتماعي عن صلاحية أي فعل إذا طُلب منه ذلك (هابرماس ١٩٨١، ١٦٩ (١٩٨٤، ١١٥)). ويجب عليه أن يفسر الفعل الاجتماعي عقلانيًّا فيما يتعلق بادعاء الصلاحية المرتبط به؛ فعلى سبيل المثال، يمكن قياس فعالية الفعل الاستراتيجي مقابل الهدف الذي يسعى إليه. ولإبراز موضوعية الفهم أكثر، يدَّعي هابرماس أن أنواع العقلانية (الفعالية والحقيقة والصحة، وما إلى ذلك) لها أبعاد عالمية (هابرماس ١٩٨١، ١٨٨، ١٩٣، ١٩٧-١٩٨ (١٩٨٤، ١٣٠، ١٣٤، ١٣٧-١٣٨))، كما يميز بين «عالمية» ادعاءات الصلاحية المستقلة عن السياق، والوسائل اللغوية الملموسة التي تعتمد على السياق والتي يُصاغ من خلالها ادعاء الصلاحية (هابرماس ١٩٨٨، ١٧٩، ١٨٢ (١٩٩٢، ١٣٩، ١٤٢)). يجاهر الفاعل الاجتماعي بادعاء الصلاحية أو يضمره في مواقف ملموسة، وبأفعال كلامية ملموسة، وهذه الادعاءات تُقبل أو تُرفض على حد سواء في مواقف ملموسة، ولكن أيًّا كان السياق وأيًّا كانت وسيلة التعبير عنها، فإن ادعاءات الصلاحية هذه تتجاوز هذه المواقف الملموسة. وهذا أكثر وضوحًا في ادعاءات الصحة: فأيًّا كانت الوسيلة اللغوية التي يُعبر بها عن الحقيقة «ص»، فإن «ص» صحيحة أو خاطئة، وهذه الحقيقة تتجاوز الموقف الكلامي المحدد. وبهذه الطريقة يعارض هابرماس جميع أشكال النسبوية، وهي الأمر المقدس في التفكير ما بعد الحداثي. وهو يعيد التأكيد على التمييز بين سياق الاكتشاف وسياق التبرير؛ فادعاءات الصلاحية تنتمي إلى سياق التبرير. وكما سنرى، يستخدم هابرماس «عالمية المنطق في تنوُّع أصواته» كحجة ضد النسبوية.

بدأنا هذا الفصل بمناقشة ظهور نموذجين في العلوم الاجتماعية وعناصرهما الأساسية. وقد نبعت هذه المناقشة طبيعيًّا من دراسة التوازن بين التفسير والفهم في منهجية فرويد. أدت دراسة مفهوم الفهم من تجسيده المبكر بوصفه تعاطفًا، إلى أحدث تجسيد له كشرط للحياة الاجتماعية لا مفر منه. وبمجرد أن تتضح كلية وجود البعد الرمزي للحياة الاجتماعية، فإن مسألة الموضوعية في معرفة العلوم الاجتماعية تفرض نفسها. ينبع جواب هابرماس بشأن ادعاءات الصلاحية من وجهة نظر التنوير حيال الطبيعة البشرية. وهو يُلزم علماء الاجتماع بدراسة جوانب العقلانية في الأفعال البشرية، عندما يكونون مهتمين كثيرًا بعواقب السلوك البشري غير العقلاني.

من المفترض أن يكون علم الاجتماع التأويلي قادرًا على التعامل مع المشكلات التي وصفها دلتاي بتشيؤ الحياة الاجتماعية: عمل المنظمات المؤسسية وعجزها عن العمل، وعلاقات القوة، وكفاح الفئات الاجتماعية المختلفة ضد «السلطات» (جيدنز ١٩٩٣، الفصلان الرابع والخامس). ربما يرى هابرماس أنواع العقلانية وادعاءات الصلاحية، المتأصلة في أنواع الفعل الاجتماعي، كأنماط مثالية (فيبر) أو طريقة الصفر (بوبر)، التي يمكن قياس الانحرافات بالمقارنة معها. وكثيرًا ما ستكون هذه «القياسات» نوعية وليست كمية، بسبب انتشار البنيات الرمزية في الحياة البشرية. إن وجود عقول أخرى أو عناصر بشرية أخرى أمر أساسي في العلوم الاجتماعية؛ لأنه لا يؤثر فقط على النهج التأويلي للعلوم الاجتماعية في تناول الحياة الاجتماعية، بل يؤثر أيضًا على بناء الأنماط المثالية وموضوعيتها، كما أنه يمد روافده، كما سنناقش الآن، إلى عدد من المسائل المنهجية الأخرى، التي تنشأ عن الموقف الإشكالي المحدد للعلوم الاجتماعية. إن مسألة كون البيانات في العلوم الاجتماعية صحيحة بالنسبة لعالَم نموذجي وليس لعالم خاضع للنمذجة أكثر أهمية مما هي عليه في العلوم الطبيعية بالفعل.

(٤-٤) السببية في العلوم الاجتماعية

كما لاحظنا سابقًا، فإن النموذج التجريبي أو الطبيعي يؤكد أن التحليل السببي للأحداث الاجتماعية ليس مرغوبًا فيه فحسب، بل هو أساسي للعلوم الاجتماعية، وقد ناقشنا بعض الأمثلة على التفسيرات السببية، المعتمدة على افتراضَي الفردية والشمولية على حد سواء. والسؤال هو: كيف يمكننا التفكير في السببية في العلوم الاجتماعية من وجهة نظر فلسفية؟ إذا كنا نعتنق وجهة النظر الميكانيكية بشأن السببية، التي تُشَكَّل وفقًا لها عمليات الجذب والدفع المادية وآثارها السببية المناسبة القابلة للتتبع، فإن تقييمنا للتفسيرات السببية في العلوم الاجتماعية سوف يبدو قاتمًا إلى حدٍّ ما. يجب ألا نعتنق أفكار السببية الفلسفية التي تؤدي إلى نتائج خاطئة عند تطبيقها على أبحاث العلوم الاجتماعية. يبدو أن علماء الاجتماع لا يملكون أي شكوك بشأن ربط حدثين في التاريخ أو المجتمع — على سبيل المثال — بحيث يكون الحدث السابق الوقوع مؤهلًا كسبب للحدث اللاحق الحدوث، الذي يكون مؤهلًا لأن يُعتبر نتيجة. قدَّم فيبر مساهمة كبيرة في هذا الموضوع من خلال مفهوم السببية الكافية كنموذج للسببية في العلوم الاجتماعية.

(أ) أعمال فيبر حول السببية

كما أوضح فيبر، فإن إعادة بناء النظرية أو الأنماط المثالية في العلوم الاجتماعية يمكن أن تغطي ظواهر متنوعة مثل أنواع السلطة، وتسلسل الأحداث التاريخية، والسلاسل السببية للأحداث. وفي ضوء اعتقاده أن العلوم الاجتماعية يمكنها ترتيب بعض الأحداث في صورة تسلسل تفسيري، ابتعد فيبر كثيرًا عن النموذج التفسيري الخالص للعلوم الاجتماعية، ولكن غالبًا ما يكون التفسير مرتبطًا بتوافر الانتظام. بعد ذلك تُطرح أسئلة بشأن طبيعة هذا الانتظام في العلوم الاجتماعية، ووجود القوانين الاجتماعية، وتوافر التفسيرات السببية. وبمجرد أن نُجيب على هذه الأسئلة، ستكون مناقشة طبيعة التفسير والتنبؤ في العلوم الاجتماعية أيسر. ويثير هذا الجانب المزيد من التساؤلات حول الواقعية والنسبوية، وكذلك الاختزالية والوظيفية.

يقترح فيبر فكرة «السببية الملائمة»، التي يعتبرها وجهة نظر مناسبة للسببية في العلوم الاجتماعية. تقوم هذه الفكرة بالنسبة إلى فيبر على منهجيته للأنماط المثالية، كما رأينا، يمكن فهم الأنماط المثالية على أنها نماذج افتراضية (أو نماذج «كما لو») في العلوم الاجتماعية (فيبر ١٩٠٥؛ فاينرت ١٩٩٦). ويؤكد استخدام الأنماط المثالية حاجة عالِم الاجتماع لاستخدام الفصل وإضفاء المثالية في إعادة البناء السببية للحدث الاجتماعي. وفي حين أن هذه العمليات تجعل النماذج تشير إلى بنية عالم نموذجي، فإن النموذج يقدِّم أيضًا ميزة ربط عدة عوامل على نحو قابل للإدارة. ويسعى النموذج السببي إلى ربط حدث ما في العالَم الاجتماعي، يعتبر نتيجة، بظروف سببية سابقة. وبالنظر إلى عمل فيبر نفسه، فإن محاولته لتفسير ظهور الرأسمالية في الغرب نتيجة لاعتماد أنماط الحياة البيوريتانية؛ مثال واضح للتحليل السببي في العالَم الاجتماعي، ولكن يسعى علماء الاجتماع أيضًا إلى تفسير أمور مثل منشأ تجارة الرقيق، واندلاع الحرب العالمية الثانية، وجنوح الأحداث، والأداء التعليمي المتفاوت. يتمثل الهدف في كل حالة في عزل العوامل المحددة الفعلية بأكبر قدر ممكن، التي من المحتمل أنها تسببت في حدث ما في التاريخ أو في العالَم الاجتماعي. غير أن النظم الاجتماعية ليست منغلقة. يواجه عالِم الاجتماع مجموعة من العوامل المُحدِّدَة المحتملة، التي يمكن أن تكون ظروفًا سببية ممكنة. ومن بين مجموعة العوامل المُحدِّدَة المحتملة، يجب على عالِم الاجتماع أن يستخرج مجموعة من العلاقات السببية، التي «يجب أن تتطور إلى مجموعة سببية «حقيقية»» (فيبر ١٩٠٥، ١٧٣). يتحدث فيبر عن «السببية الملائمة» عندما يلبي نموذج العلوم الاجتماعية عدة شروط: (أ) عزل عالِم الاجتماع عددًا من الشروط التي تُعتبر ذات صلة إحصائية بالنتيجة المعنية. (ب) من المحتمل أن تعزل إعادة بناء الحدث الاجتماعي أو التاريخي، من جانب عالِم الاجتماع، «السبب المحتمل لحدث تاريخي فعلي أو أحداث من هذا النوع.» ومن ثم، فإن نموذج الأنماط المثالية للتسلسل السببي للأحداث الاجتماعية يُظهر احتماليةً موضوعيةً؛ أي إنه من الممكن موضوعيًّا — وربما حتى من المرجح — أن تكون الظروف المعزولة مسئولة سببيًّا عن وقوع الحدث. ويقدم نموذج عالِم الاجتماع، الذي يدَّعي بعض الاحتمالية، الظروف السببية الأكثر ملاءمة التي من المرجح أن تكون قد أدت إلى الحدث الاجتماعي المعني. كيف يمكن لعالِم الاجتماع أن يكون متأكدًا نسبيًّا أن النموذج السببي المقترح — على سبيل المثال، اندلاع الحرب العالمية الثانية — يقدِّم الظروف الأكثر ملاءمة التي من المرجح أن تكون قد سببت هذا الحدث؟ يصرُّ فيبر على أنه «من الممكن أن نحدد، حتى في مجال التاريخ، الظروف التي من المرجح أن تؤدي إلى نتيجة ما أكثر من غيرها بدرجة معينة من اليقين» (فيبر ١٩٠٥، ١٨٣). ويتمثل طريق تحقيق هذا الهدف في إخضاع نموذج النمط المثالي الخاص بتسلسل سببي ما إلى المعرفة الواقعية لحدث تاريخي أو اجتماعي. وهكذا يختبر فيبر النموذج مقابل الواقع. ويأمل فيبر بهذه الطريقة أن يلقي الضوء على «الأهمية التاريخية» للعوامل المُحدِّدَة الفعلية في ظهور حدث تاريخي ما. من المعروف أن المؤرخين وعلماء الاجتماع يختلفون حول العوامل ذات الصلة التي يمكن أن تكون مسئولة عن بعض الأحداث في التاريخ أو المجتمع. وستكون بعض العوامل غير محتملة بحيث يمكن حذفها من التفسير السببي؛ فعلى سبيل المثال، من غير المعقول أن انفجار بركان كان له تأثير على اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ ومن ناحية أخرى، فإن البيانات التجريبية الجديدة المتعلقة باندلاع الحرب العالمية الثانية قد تُثبت أن بعض العوامل عوامل ذات صلة وتنفي عواملَ أخرى باعتبارها غير ذات صلة.

ناقشنا في القسم ٦-٧، ج، من الفصل الثاني السببية في سياق مجموعة من الشروط الضرورية والكافية. ومن المتوقع من طبيعة العلوم الاجتماعية والاهتمام بالعوامل المسببة الفعلية أن يهتم التحليل السببي في العلوم الاجتماعية غالبًا بالشروط الكافية. هذه هي الظروف الفعلية التي وقعت قبل وقوع الحدث والتي يجب إعادة بناء التفسير السببي منها. غير أن فيبر رأى أن الأنماط المثالية يمكن أن توضح أيضًا الشروط الضرورية للظواهر الاجتماعية مثل الإقطاع والسلطة. على سبيل المثال، في غياب الإيمان ﺑ «الصفات الاستثنائية» للقائد، لم يكن فيبر ليتحدث عن «السلطة الكاريزمية».

على الرغم من إمكانية تفسير الأفعال الاجتماعية سببيًّا في سياق الشروط الضرورية والكافية، فثمة اختلافات بين التفسيرات السببية في العلوم الطبيعية والاجتماعية:
  • (١)

    في العلوم الاجتماعية نتعامل مع الدوافع بدلًا من الأسباب الميكانيكية. والدوافع هي الأسباب، ولكن لا يمكننا أن نصوغ القوانين الحتمية أو حتى الاحتمالية التي تربط الدوافع بالأفعال (ديفيدسون ١٩٧٤؛ ولكن انظر فاي ١٩٩٤ للحصول على تقييم بديل). أي انتظام في العلوم الاجتماعية يأخذ شكل اتجاهات بدلًا من كونه انتظامًا يشبه القانون. (كما نذكر فيما يلي، ما الاتجاهات إلا أوجه انتظام تجريبي جرى توليدها على نحو استقرائي، وهذا يسمح بوجود استثناءات وانعكاسات على حد سواء).

  • (٢)

    لا يسعنا أن نذكر مجموعة مغلقة من الشروط الضرورية والكافية اللازمة للتصرف على أساس من الأسباب. سيتفق علماء الاجتماع على عدد من الشروط «الكافية» التي تفسر على نحو معقول وقوع حدث اجتماعي، ولكن سيوجد خلاف حول القائمة «الكاملة» لهذه الشروط الكافية. سيكون من المستحيل إثبات أن جميع الشروط المتفق عليها كانت ضرورية وكافية معًا لهذا الحدث، وتمنع مشكلة الإغلاق التقييم الكمي للعوامل التي تدخل في الحالة السببية.

  • (٣)

    لنفترض أن علماء الاجتماع وافقوا على مجموعة من الشروط التي يعتبرونها التفسير السببي الأكثر احتمالًا لحدث اجتماعي ما. تظل هذه الاحتمالات مختلفة عن الأحداث الاحتمالية في العالَم الطبيعي. تمتلك مجموعة من ذرات الراديوم احتمال ٥٠ بالمائة للتحلل خلال ١٦٠٠ سنة. ليس من الممكن التنبؤ بالذرات المحددة التي سوف تتحلل في فترة زمنية معينة، ولكن من الممكن القول، وفقًا لما يُسمى قانون التحلل، إن نصف مجموعة الذرات سوف تتحلل خلال ١٦٠٠ سنة، ولكن في العالَم الاجتماعي لا توجد مثل هذه القوانين التي تسمح لنا بالقول إنه في ظل شروط معينة سابقة، فإن الحدث اللاحق سيحدث باحتمالية معينة. كل ما يمكننا قوله هو أن مجموعة معينة من الشروط تجعل الحدث الاجتماعي أكثر احتمالية على نحو كمي.

يمكننا أن نلخص نقاشنا بالقول إن علماء الاجتماع يحاولون عزل مجموعة من الشروط الضرورية والكافية التي يعتبرونها كافية لتفسير وقوع حدث معين في التاريخ أو المجتمع باعتباره نتيجة تعقُّب شروط سابقة. هذا النموذج يبين إمكانية موضوعية، وسيتأثر اختيار الشروط السابقة باهتمام عالِم الاجتماع، لكن أصرَّ فيبر على أن هذا الاختيار لا يجعل التفسيرات السببية في العلوم الاجتماعية ذاتية، ويسلِّم فيبر أنه ليس من الممكن إقامة علاقات عددية بين الشروط السببية ذات الصلة المختارة واحتمالية حدوث النتيجة، كما أنه ليس من الممكن تقييم تأثير الظروف المحيطة كميًّا، في المجال السببي، ومع ذلك:

نستطيع (…) تقدير درجة «الدعم» الذي تتلقاه نتيجة معينة من «شروط» معينة؛ رغم أننا لا نستطيع فعل ذلك على نحو لا لبس فيه تمامًا أو حتى وفقًا لإجراءات حساب الاحتمالات. (فيبر ١٩٠٥، ١٨٣)

في تقديرنا لدرجة احتمال أن تكون شروط سببية معينة مسئولة موضوعيًّا عن نتيجة ما، فإننا نسترشد بمعرفتنا التجريبية بوقائع حالة تاريخية أو اجتماعية معينة، ونحصل على مزيد من المساعدة من:

معرفة بعض القواعد التجريبية المعروفة، ولا سيما تلك المتعلقة بالطرق التي يكون البشر عرضة للاستجابة بها في ظل حالات معينة. (فيبر ١٩٠٥، ١٧٤)

يشير فيبر بوضوح إلى قدرة عالِم الاجتماع على «تفهُّم» السلوك البشري من خلال اللجوء إلى عملية «الفهم»؛ فهي تمكِّن عالِم الاجتماع من فهم النوايا، وتحفيز السلوك الفردي، وفهم المعايير والقيم، وتحفيز السلوك الجماعي؛ حينئذٍ يمتلك البشر معرفة القواعد التجريبية العامة التي تسمح لهم باجتياز طريقهم عبر الحياة الاجتماعية. لدينا — كما أكد بالفعل دلتاي — توقعات استقرائية حول الثبات النسبي للعالَم الاجتماعي من حولنا. ما البنية التي نتوقع أن تكون لهذه التعميمات التجريبية؟ هل هي مماثلة للانتظام القانوني في العلوم الطبيعية، أم أنها أشبه بالقواعد والأعراف الاجتماعية التي يلتزم بها الفاعلون الاجتماعيون؟ وبالحديث عن القواعد التجريبية العامة (فيبر ١٩٠٥، ١٧٤، ١٨٧)، يبدو أن فيبر يميل نحو الرأي القائل بأن عالِم الاجتماع يتعامل مع العموميات التجريبية بدلًا من الانتظام «المجرد» (فيبر ١٩٠٥، ١٦٨). والمسألة التي نحتاج إلى معالجتها هي هل كانت توجد قوانين اجتماعية أم لا.

(ب) حول وجود قوانين اجتماعية

ثمة نهج قديم في الفكر الاجتماعي يلتزم بالرأي القائل بأن العالَم الاجتماعي يخضع بالقدر عينه للانتظام القانوني شأنه شأن كواكب النظام الشمسي. أشار فرويد — كما رأينا — في «التعبير عن النفس» إلى أنه لا يوجد «شيء عبثي، ولا اعتباطي ولا فوضوي»؛ فالنفس تخضع لقوانين نفسية حتمية، وكان فرويد حريصًا على اكتشافها. وقف فرويد وحسب في سلسلة طويلة من المفكرين — بدأت من عصر التنوير — الذين اعتبروا أن العالَم الاجتماعي والفردي خاضعين لقوانين الطبيعة المتعددة. آمن ماركس وكونت بوجود تسلسل للأحداث التاريخية يشبه القانون، وكذلك فعل آدم سميث؛ ولذلك ليس التفكير هل كان من الممكن اعتبار الانتظام التجريبي الموجود في العالَم الاجتماعي بمنزلة قانون من قوانين طبيعية مسألة تافهة. والعديد من الأسئلة الفلسفية الأخرى، التي تظهر في العلوم الاجتماعية، تطرح مسألة هل كان يوجد انتظام قانوني في العالَم الاجتماعي أم لا. وهذا يؤثر على مسائل السببية، وعلى المنهجية، وعلى التنبؤات والتفسير.

تناولنا بالفعل الآراء الفلسفية بشأن قوانين الطبيعة في فصل سابق. وعلى وجه التحديد، ميزنا بين «قوانين الطبيعة» و«قوانين العلم»؛ فالأولى هي الانتظام القانوني في العالَم الطبيعي، بغضِّ النظر عن معرفتنا بها. والأخيرة تشكِّل التمثيل الرمزي لقوانين الطبيعة كما نجدها في كتب العلوم. ودافعنا عن أطروحة أن قوانين الطبيعة تشكِّل قيودًا بنيوية على سلوك النظم الطبيعية. كان يطلق على هذا الرأي النظرية «البنيوية» للقوانين. ووفقًا لهذا الرأي، فإن قوانين الطبيعة تصوغ السمات البنيوية للنظم الطبيعية (فاينرت ١٩٩٣؛ ١٩٩٥). تُعبِّر «قوانين العلم» عن علاقات رياضية بين مترابطات الأنظمة، كما أشرنا أيضًا إلى أن الأنواع المختلفة من النماذج تُمثِّل البنية (الجبرية والطوبولوجية) للنظم الطبيعية. وكانت وظيفة النماذج فصل عوامل النظم وإضفاء المثالية عليها وتنظيمها. يمكن إذن اعتبار قوانين العلم بيانات محددة، فهي تعمل في ظل شروط مثالية معينة أو لنماذج مبسطة، وقد تفقد صلاحيتها لصالح أنظمة معقدة جدًّا ذات شروط غير مُمثَّلة في النموذج. هل يمكن تطبيق هذا التوصيف على الانتظام الاجتماعي؟ الفكرة العامة هي أن القوانين الاجتماعية يجب أن تُعتبر بيانات محددة (كينكيد ١٩٩٤؛ ماكنتاير ١٩٩٤؛ انظر فاينرت ١٩٩٧). ربما نجد في كتاب اقتصادي مثل هذه الادعاءات:

تحاول العلوم الاقتصادية — على غرار العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية الأخرى — العثور على مجموعة من قوانين الطبيعة. (باركين/كينج ١٩٩٢، ٢٣)

تتمثل وجهة النظر في أن العلوم الاجتماعية قادرة على صياغة بيانات عامة مرشحة على نحو حقيقي لأن تكون بمنزلة انتظام قانوني في العالَم الاجتماعي. وتعد هذه البيانات أكثر من مجرد تعميمات تجريبية أو اتجاهات إحصائية؛ فهي تعبِّر عن تعميمات شبيهة بالقوانين في العالَم الاجتماعي، وإن كانت ذات شكل مثالي.

ربما تكون القوانين الاجتماعية بيانات محددة، ومع ذلك، فإن هذا لن يضمن أنها قوانين حقيقية. ثمة رأيان يناهضان الرأي القائل بأنه ينبغي قبول البيانات العامة في العلوم الاجتماعية كبيانات قانونية حقيقية: (١) ربما تكون «القوانين الاجتماعية» مجرد تعميمات تجريبية تصف عددًا كبيرًا من الحالات. ويمكن ببساطة أن تكون ناتجة استقرائيًّا من الشروط الأولية٧ (بوبر ١٩٥٧؛ فاينرت ١٩٩٧؛ قارن وودوارد ٢٠٠٣، الفصل الرابع). إذا كان من الممكن إيجاد هذه الحالة، فإننا سنشهد اتجاهات اجتماعية وليس قوانين حقيقية. من سمات الاتجاهات أنها تُمثِّل تعميمات استقرائية على عدد من الحالات المرصودة. وإذا كانت تعتمد على الشروط الأولية، فلا ينبغي اعتبارها قوانين حقيقية. ثمة عدة مؤشرات على أن التعميمات الاجتماعية تحمل معالم الاتجاهات. ومن أمثلة هذه العلامات أن التداخل مع الظروف الأولية سيغير طبيعة الانتظام. إذا كانت هذه هي الحال، فإن هذا يشكل تناقضًا صارخًا مع القوانين المادية. عندما تختلف الشروط الأولية من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة، فإن الانتظام الاجتماعي يتغير معها. والقوانين الحقيقية، على غرار قوانين كبلر، لا تعتمد على الشروط الأولية؛ فالشروط الأولية تكون ببساطة مثالًا عليها. استغل بوبر (١٩٥٧، ١٢٨) اعتماد الانتظام الاجتماعي على الشروط الأولية كي يطرح أن هذا الانتظام اتجاهات وليس قوانين حقيقية. وينبع من هذا الاعتماد فرق آخر بين القوانين الحقيقية والاتجاهات الاجتماعية؛ إذ يمكن أن تتغير الاتجاهات، وربما حتى تنعكس، في حين أن القوانين الحقيقية لا يمكن تغييرها أو عكسها. ويمكن استخدام المعرفة بالظروف الاجتماعية في خدمة تغيير الاتجاه الاجتماعي؛ فعلى سبيل المثال، إذا كان من المتوقع حدوث زيادة هائلة في معدل الجريمة نتيجة لزيادة عدد الأطفال، يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية لكسر هذا الرابط. قد يكون للفرص التعليمية وفرص العمل للشباب تأثير على سلوك الشباب الجانحين المحتملين. الأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو أن معرفة الاتجاهات الاجتماعية يمكن أن تُستخدم لعكس هذا الاتجاه ذاته. وإذا وضع علماء الاجتماع علاقة بين الاستهلاك المفرط للكحوليات وزيادة الوفيات على الطرق، يمكن لصناع القرار السياسي أن يستخدموا هذا الرابط نفسه للتدخل في هذا الاتجاه وعكسه، ولكن لا يمكن لأي تدخل بشري أن يغير قانونًا طبيعيًّا على نحو مادي. وفي حين أن قوانين الطبيعة تُمثِّل قيودًا بنيوية على سلوك النظم المادية، فإن الاتجاهات الاجتماعية تُمثِّل قيودًا «عملية» في معظم الحالات، ولكن الانتظام الاجتماعي يتأثر كثيرًا بالأبعاد الرمزية والاجتماعية للحياة البشرية مثل تأثره بالعلاقات الاجتماعية الأخرى. وعلى وجه الخصوص، فإن الانتظام الاجتماعي يخضع للتفسير المزدوج. ومن ثَمَّ، فإن أي انتظام لا يكون مؤهلًا لأن يُمثِّل قانونًا حقيقيًّا.

(٢) من المسلَّم به عمومًا أن التعميمات في العالَم الاجتماعي «مليئة بالاستثناءات». وعلى غرار الاتجاهات، يتوافق الانتظام الاجتماعي مع الاستثناءات بطريقة لا تتوافق بها القوانين الحقيقية معها. لا تسمح القوانين الحقيقية إلا بالاستثناءات الظاهرية، التي يمكن تفسيرها من خلال انتظام آخر. (لا تسقط الريشة على الأرض بنفس سرعة سقوط الحجر لأن الأمر يخضع لمقاومة الهواء). يجب أن تظل استثناءات القوانين الحقيقية متوافقة مع القوانين، ولكن الاتجاهات تسمح باستثناءات حقيقية لا يمكن تفسيرها من خلال تعميمات أخرى. حافظ فرويد على وجود قوانين ديناميكية نفسية بين سلوك الشخص وحالاته العقلية. رغم ذلك، فقد قَبِلَ أنه «من الصعب تقديم وصف يتمتع بصلاحية عامة» (فرويد ١٩٣١، ٢٣٣).

وبالتالي توجد اختلافات حقيقية بين العلوم الاجتماعية والطبيعية. ووفقًا لجون سيرل:

عندما ننخرط في أعمال إنسانية طوعية، فإننا نشارك عادةً على أساس من الأسباب، وهذه الأسباب تعمل على تفسير سلوكنا سببيًّا، ولكن الشكل المنطقي لتفسير السلوك البشري في سياق الأسباب يختلف جذريًّا عن الأشكال القياسية للسببية. (سيرل ٢٠٠٤، ٢١٢)

ومع ذلك، توجد أيضًا أوجه تشابُه كافية بين العلوم الطبيعية والاجتماعية للدفاع عن وجهة نظر «الطبيعانية الضعيفة»، كما هو موضح في الجزء التالي. وعلى الرغم من عدم وجود قوانين اجتماعية حقيقية، فإن العلوم الاجتماعية لديها القدرة على تفسير الأحداث الاجتماعية والتنبؤ بها.

(ﺟ) التفسير والتنبؤ في العلوم الاجتماعية

كما رأينا في القسم ٦-٦ من الفصل الثاني، من الممكن تفسير الأحداث دون التمكن من التنبؤ بها. وبالمثل، من الممكن التنبؤ بالأحداث دون التمكن من تفسيرها. وعدم وجود قوانين حقيقية في العلوم الاجتماعية سيكون له تأثير على قدرتها على تفسير الأحداث الاجتماعية والتنبؤ بها. وإذا لم يوجد أي انتظام تجريبي على الإطلاق، فإن التفسير والتنبؤ سيكونان مستحيلَين تقريبًا، ولكنْ ثمة اتجاهات وأنماط اجتماعية ذات موثوقية جيدة إلى حدٍّ ما. وعلى أساس هذه التعميمات الاجتماعية، يمكن للعلوم الاجتماعية أن تفسر وتتنبأ على حد سواء.

مثلما تُعد الأنماط المثالية نماذجَ في العلوم الاجتماعية، فإن أنواعًا مختلفة من التفسير متاحة لعلماء الاجتماع. يضع استخدام النماذج الوظيفية التركيز على التفسيرات «الوظيفية». ويوجد النوع الأكثر مباشرة من التفسيرات الوظيفية في الاقتصاد. ويُعد تحديد الأسعار من خلال تقاطع منحنَيَي العَرض والطلب أوضح مثال على ذلك (شكل ٣-٤). يوجد أيضًا نماذج وظيفية للطبقية الاجتماعية في المجتمع، التي يؤدي التقسيم الطبقي الاجتماعي وفقًا لها وظيفة إيجابية للحفاظ على المجتمع. تستفيد العلوم الاجتماعية أيضًا من التفسيرات «النظرية» (أو تفسيرات كما لو). على سبيل المثال، أشار فيبر إلى تحليل السلطة في سياق الانقسامات المثالية إلى سلطة كاريزمية وتقليدية وعقلانية. تستند السلطة العقلانية إلى القواعد والأنظمة والبنيات المؤسسية. وفي هذه النماذج تُعامل السلطة «كما لو» أنها تتألف فقط من العناصر التي ينسبها النموذج لهذا النوع. والعلوم الاجتماعية قادرة أيضًا على استخدام التفسيرات «البنيوية»، التي تقوم على النماذج البنيوية. ما بنية مجتمع السوق الحرة، الرأسمالية؟ تهتم هذه الأسئلة بالبنية الطوبولوجية أكثر من اهتمامها بالبنية الجبرية. وبما أن البنية تتكون من العلاقات والمترابطات، فإن التفسير البنيوي للرأسمالية سوف يفسر كيفية ارتباط العناصر الاقتصادية أحدها مع الآخر في المجتمعات الرأسمالية. وإذا قبلنا فكرة فيبر عن السببية الكافية، يمكن للعلوم الاجتماعية أن تدعي وجود تفسيرات «سببية» للأحداث الاجتماعية. ويتحقق ذلك من خلال وجود اتجاهات موثوقة وأنماط عقلانية في العالَم الاجتماعي. وعلى الرغم من التمييز المنطقي بين التفسير والتنبؤ، فإنه يوجد بالطبع بعض الارتباط بينهما؛ فتوافُر التفسيرات يُسهِّل القيام بالتنبؤات. إذا أظهر العالَم الاجتماعي وفاعليه أنماطَ انتظام، فإن العلوم الاجتماعية تستطيع بناء ما سماه عالِم الاجتماع روبرت ميرتون «نظريات المدى المتوسط» (ميرتون ١٩٦٨، الجزء الأول، الفصل الثاني).
fig53
شكل ٣-٤: منحنى العرض والطلب.

تؤدي هذه النظريات إلى استنتاجات، مثل ما يمكن أن يطلق عليه «تنبؤات المدى المتوسط» المستمدة من أنماط الانتظام في الحياة الاجتماعية. على سبيل المثال، يتنبأ الاقتصاديون بدورات اقتصادية واتجاهات سوقية بقدر معين من الموثوقية على المدى القصير. وبهذا المعنى يمكن مقارنة القدرة التنَبُّئية للعلوم الاجتماعية مع علم الأحياء التطوري. ليست التنبؤات دقيقة كميًّا، كما هي الحال في علم الفلك مثلًا، ولكنها تؤدي إلى تنبؤات بأنماط ذات درجات متفاوتة من الموثوقية.

ولكن ينبغي على العلوم الاجتماعية أن تعالج مشكلة محددة، سماها بوبر مشكلة «التخطيط غير المخطط له» (بوبر ١٩٥٧، الفصل ٢١). استخدم بوبر حجة التخطيط غير المخطط له كاعتراض على إمكانية التخطيط للاتجاه المستقبلي لمجتمع كامل؛ ففي سياق دفع المجتمع إلى اتجاه سياسي معين، مثلًا تجاه مجتمع شيوعي، سوف تحدث مشكلات لم تكن متوقعة في الخطة الأصلية. تُجبر هذه المشكلات غير المتوقعة السلطات السياسية على تعديل خطتها الأصلية لمراعاة الاضطرابات غير المتوقعة. وبطبيعة الحال، فإن الخطة الجديدة المعدلة ستواجه أيضًا مشكلات التخطيط غير المخطط له، التي تجعل فكرة التخطيط الطويل المدى لتطوير مجتمع بأكمله غير مجدية، كما أشار بوبر. وضمنيًّا، فإن التنبؤات الطويلة المدى مستحيلة لنفس السبب؛ التداعيات المستمرة على الدوام للفاعلية الإنسانية. تأمَّل على وجه التحديد مشكلات مثل النبوءات «ذاتية التحقق» و«ذاتية النفي» وصنع القرار في غياب توازن مستقر. تحدث النبوءة ذاتية التحقق عندما يجعل التنبؤ الناس تتصرف بطريقة تجعل التنبؤ يتحقق. (الشائعة بأن أسعار الخبز سوف ترتفع تجعل الناس يشترون مزيدًا من الخبز ونتيجة لذلك يرتفع سعر الخبز.) وتحدث النبوءة ذاتية النفي عندما يجعل التنبؤ الناس تتصرف بطريقة تجعل التنبؤ لا يتحقق. (يأمل معظم الناس في أن التحذيرات العلمية بشأن آثار الاحترار العالمي سوف تجعل الناس يتصرفون على نحو يمكِّن من تجنب الكارثة. ميرتون ١٩٦٨، الفصل الثالث عشر). يمكن أيضا أن يكون لصنع القرار في غياب التوازن المستقر تأثير على التنبؤ بالسلوك. على سبيل المثال، عدم وجود خيارات أفضل واضحة بشأن أفضل استراتيجية لتحقيق هدف ما سيجعل التنبؤ بسلوك الإنسان صعبًا. ويمكن أيضًا أن تصير الخيارات العقلانية مبهمة، كما أشار فرويد، من خلال وجود دوافع غير منطقية في السلوك البشري (إلستر ١٩٨٩، الفصل الرابع). تحدث هذه المشكلات بسبب عدم اليقين الكامن في الفاعلية الإنسانية؛ فهي تحدث لأن التنبؤات في العلوم الاجتماعية تقوم على الاتجاهات، وليس قوانين حقيقية، وتحدث بسبب التفاعل المعقد بين الراصد والمرصود في العلوم الاجتماعية.

(د) نقص الإثبات بالأدلة

ناقشنا مشكلة نقص الإثبات في الفصل السابق، واقترحنا أيضًا بعض الحلول لهذه المشكلة في سياق توافر القيود. وكما رأينا، كان فيبر مدركًا تمامًا للحاجة إلى توفيق بنياته المثالية مع البيانات المتوفرة، ولكن تتضاعف مشكلة نقص الإثبات في العلوم الاجتماعية بسبب عدد من العوامل؛ أولًا: توجد مشكلة التفسير المزدوج. يصوغ عالِم الاجتماع النماذج على عالَم موجود بالفعل، وهذا العالم مليء بالمعاني الرمزية. وعلاوة على ذلك، فإن انتظام العلوم الاجتماعية يعتمد على الشروط الأولية ومن ثَمَّ فهو يعتمد على محض اتجاهات. تتفق هذه الاتجاهات مع استثناءات غير قابلة للتعليل. وكما أظهر تناولنا لفكرة فيبر بشأن السببية الكافية، يجب على عالِم الاجتماع فرض التفسير السببي الأكثر احتمالًا على البيانات المتاحة دون أن يكون قادرًا على التعامل مع النظم المغلقة. تعني هذه المشكلات أن العلوم الاجتماعية تعاني من درجة من نقص الإثبات بالأدلة أعلى من علم الفلك أو علم الأحياء التطوري على سبيل المثال. ثمة قيود أقل لإقصاء النماذج غير المناسبة. فلا توجد قوانين حقيقية في العالَم الاجتماعي، ولن يتفق علماء الاجتماع إلا على قلة قليلة من المبادئ النظرية الأساسية. تنشأ القيود المفروضة على النماذج في الغالب من الأدلة التجريبية، ومع ذلك، فإن تقدُّم العلوم الاجتماعية يجب تقييمه على نحو تفاضلي؛ فهناك العديد من العلوم الاجتماعية، منها الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والاقتصاد. وفي علم النفس يتنافس العديد من النماذج المتباينة بعضها مع بعض دون أي علامة على التقارب. يبدو أنه في الذكرى المائة والخمسين لميلاد فرويد (٦ مايو ٢٠٠٦)، أخذت الأفكار الفرويدية تستعيد مكانتها (انظر ساينتيفيك أمريكان ٢٠٠٦)، لكنها لا تزال بعيدة عن إجماع آراء الخبراء. ومن ثَمَّ، فإن التقدم المعرفي ضئيل فيما يتعلق بالوضع العلمي للتحليل النفسي في سياق الترجيح التفاضلي للأدلة، ومع ذلك، يمكن القول إن دراسة الظواهر الاجتماعية يمكن أن تشهد تقدمًا بسبب زيادة حجم الأدلة، التي يمكن مقارنتها مع النماذج المثالية للواقع الاجتماعي؛ ومن ثَمَّ فإن تراكم الأدلة سيؤدي إلى حدٍّ ما إلى التخفيف من الشكل المتطرف لنقص الإثبات بالأدلة لنماذج العلوم الاجتماعية. وكما هي الحال في مجالات العلوم الأخرى، فإن الأدلة المتزايدة تميل إلى توزيع المصداقية على نحو تفاضلي على النماذج المتنافسة. إن موضوع العلوم الاجتماعية، كما رأينا، قد يمنعها من تحقيق الحالة الموجودة في الفيزياء حيث يحدث إجماع بين الأدلة على نموذج محتمل واحد على نحو عام. تُستكمَل الأدلة التجريبية في الفيزياء بمبادئ نظرية قوية، مثل القانون الثاني للديناميكا الحرارية أو مبادئ النسبية. ويمكن رؤية هذا التقارب منطبقًا في قصة الكوبرنيكية والداروينية، ولكن هذا لا يعني أن العلوم الاجتماعية يجب أن تتخلى عن موضوعية نماذجها تمامًا. يزداد الوضع تعقيدًا جراء طبيعة العالَم الاجتماعي، ولكن البنيات المثالية تخضع إلى حد بعيد للاختبار مثل النماذج في العلوم الطبيعية.

تؤثر مشكلة نقص الإثبات بالأدلة على مسألة الواقعية مقابل النسبوية، وذلك بسبب العوامل التي تسببها. لم يهرب دلتاي قط على نحو تام من النسبوية الكامنة وراء وجهة نظره، رغم إصراره على تشييء النظم الاجتماعية. وعلى الرغم من أن العلوم الاجتماعية أكثر عرضة لمشكلة النسبوية، فمن الممكن الدفاع عن وجهة نظر واقعية في العلوم الاجتماعية.

(ﻫ) الواقعية والنسبوية

تنشأ مشكلة النسبوية في العلوم الاجتماعية أساسًا من خلال حقيقة أن الفاعلين الاجتماعيين يتشاركون معنًى رمزيًّا؛ فهي تنشأ من التفسير المزدوج. وهذا يجعل عالِم الاجتماع راصدًا مشارِكًا، راصدًا يشارك في التفسير المزدوج. ورغم أن دلتاي في وقت لاحق من حياته أكد على عمليات تشييء الحياة الاجتماعية، فإنه لا يزال ينظر لها ككيانات تحددها الثقافة. وأشار إلى أن لكل مجتمع «نقطة تركيز» خاصة به. ومن ثَمَّ، فإن المعنى في الحياة الاجتماعية يختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن عصر إلى عصر. يُطرَح تساؤل هنا هل كانت هذه المعاني الرمزية قابلة للترجمة، وقابلة للنقل، وقابلة للمقارنة مع السياقات الاجتماعية الأخرى أم لا. وتربط جميع أشكال النسبوية المعتقدات التي يعتنقها الناس بإطار أو خلفية غير عامة تعتبر هذه المعتقدات صحيحة.

يجب أن يُحكَم على صحة هذه المعتقدات في مقابل معتقدات الخلفية المحلية أو الإطار المحلي. ربما يكون هذا الإطار حقبةً تاريخية معينة (العصور القديمة، العصور الوسطى) أو شكلًا من أشكال الثقافة (المجتمع البدائي، المجتمع الصناعي). يوجد العديد من أشكال النسبوية (المفاهيمية والأخلاقية والإدراكية)، وتعد النسبوية المفاهيمية ذات صلة في السياق الحالي؛ إذ تنظم المخططات المفاهيمية العالَمَ الطبيعي أو الاجتماعي وفقًا لمعاييرها الخاصة، ولا يمكن الحكم على صحة هذه المعايير من خارج المخطط المفاهيمي. من وجهة نظر معاصرة، كان لداروين وجهات نظر عنصرية نوعًا ما حيال التسلسل الهرمي للجماعات العرقية، وقدَّم فرويد آراء فيكتورية بشأن المرأة. وفي نظر النسبوية، سيكون من المفارقات التاريخية اعتبار هذه الآراء «خاطئة»؛ لأنها مستوحاة من الفرضيات المسبقة التي قبلها الناس في عصرهم. وهكذا، فإن معظم الناس قبلوا، من العصور القديمة وحتى التنوير، الرق وتجارة الرقيق بوصفهما «طبيعيين». وبالمثل، فإن ما يعتبر «حقيقيًّا» في ثقافة ما لا يمكن اعتباره «حقيقيًّا» في ثقافة أخرى، بل لا يمكن أن توجد أحكام مشتركة بين الثقافات بشأن ما هو «حقيقي». إذا كانت الأفلاك السماوية بالنسبة لأرسطو «حقيقية» فإننا نقبل حكمه. قد يكون هذا مثالًا سيئًا للدفاع عن النسبوية، حيث لم يكن هناك توافق بين الإغريق حول «واقعية» الأفلاك. وتعرض هذا الاعتقاد لانتقاد شديد من قبل الفلاسفة العرب، ومع ذلك، يقدِّم بيتر وينش (١٩٦٤) الدفاع النسبوي التالي بشأن «الواقع» و«العقلانية»: ما يعتبر «حقيقيًّا» و«عقلانيًّا» يعتمد على السياق والثقافة.

موقف النسبوي من العقلانية هو أن معتقدات الثقافات الأخرى عقلانية وفق رؤية هذه الثقافات لها؛ لأن هذه الآراء تستند إلى مبادئ مرتبطة بالسياق. قارن هذا الرأي مع وجهة نظر الواقعي حيال عقلانية المعتقدات؛ فهي:
  • تخضع لقواعد المنطق (نظم البيانات يجب أن تكون غير متعارضة، ومتسقة، ومتماسكة، وصحيحة).

  • تخضع للاختبار والتأكيد التجريبي.

  • تخضع للتمييز بين عالَم خارجي (طبيعي أو اجتماعي) مستقل عن العقل ومعرفتنا العرضة للخطأ بهذا العالَم.

  • بنيات اجتماعية تمتلك استقلالية نسبية عن اعتقادات الأفراد، كما أكد دوركايم؛ لأن لديها سمة «الشيئية».

يختلف الواقعي والنسبوي في تقييمهما للمعتقدات الحقيقية والخاطئة، للمعتقدات العقلانية وغير العقلانية. بالنسبة للواقعي، ثمة تمييز مهم بين المعتقدات الحقيقية والعقلانية من ناحية، والمعتقدات الخاطئة وغير العقلانية من جهة أخرى، بغضِّ النظر عن السياقات المحلية. وكلاهما يتطلب تفسيرات مختلفة. يمكن اعتبار المعتقدات العقلانية صحيحة؛ لأنه يمكن تبريرها بالأسباب. وربما تكون المعتقدات غير العقلانية ذات مصداقية بالنسبة لأولئك الذين يعتنقونها، ولكن معتقداتهم تتطلب تفسيرات نفسية أو اجتماعية. اعتقد فرويد بالتأكيد أن زلات اللسان والأحلام والسلوك العصبي يمكن تفسيرها من خلال اللجوء إلى الدوافع اللاواعية. بالنسبة لفرويد، كانت معتقدات مرضاه ذات مصداقية على خلفية سماتهم النفسية، ولكن الخوف المروِّع من المساحات المفتوحة أو الذئاب ليس سببًا يبرر هذه المخاوف.

وبالتالي فإن الواقعي يميز بشدة بين سياق «الاكتشاف» وسياق «التبرير». يشمل سياق الاكتشاف الطرق العقلانية أو غير العقلانية التي قد تطرأ بها الأفكار في أذهاننا. ربما يوجد دور لجميع أنواع الدوافع غير المنطقية، التي تنتج أفكارَ الشخص، ولا يمكن تكرار هذه الدوافع. خرج أرخميدس من حمَّامه وصرخ: «وجدتها». كان هذا هو سياق اكتشافه. ولكن لا يمكن أن يكون حمامه مبررًا لاكتشافه أن كتلة معينة من مادة ما تساوي الحجم المُزاح. يتطلب التبرير سياقَ تدقيق عقلانيًّا، يكون متاحًا من حيث المبدأ للجميع. هذا هو سياق التبرير. وكما رأينا، فإن هذا يفسر جزئيًّا الصعوبات التي تواجه نموذج فرويد للعقل. وبالنسبة للنسبوي، لا يوجد تمييز شديد بين سياق الاكتشاف وسياق التبرير. يجب التمييز بين المعتقدات الموثوقة والصحيحة في مقابل افتراضات خلفية محلية؛ فما هو مقبول ويُعتبر أسبابًا إنما يتحدد من خلال ما هو مقبول في السياقات المحلية. على سبيل المثال، فإن الإصرار على «قابلية الاختبار بين العناصر»، التي تُعد سمة مميزة للعلوم الحديثة، يصبح حينئذٍ قيمة محددة في العلوم الحديثة، كما أن ما يعتبر دليلًا إنما يستند هو ذاته إلى افتراضات محلية. على سبيل المثال، تأمَّل الثقة في الخبرات الشعورية عبر العصور. بالنسبة للإغريق، لدى الغالبية العظمى، كانت الرؤية العينية مصدرًا جديرًا بالثقة يدعم ثبات الأرض. وبالنسبة للاهوتيين الطبيعيين، قبل داروين، كشفت الحواس عن التعقيد البارع للعالَم الطبيعي. إن سياق الاكتشاف — استخدام ملاحظات العين المجردة — يتداخل مع سياق التبرير؛ فيبدو أن ملاحظات العين المجردة شاهدة على ثبات الأرض ووجود الغرض الإلهي.

ربما لا يُقنع الواقعيُّ النسبويَّ المتشدد، ومع ذلك ثمة عدد من الحجج المؤيدة للواقعية. وثمة ملاحظة عامة ربما تكون مناسبة. إن تطور المعرفة عملية ديناميكية. وحتى داخل ثقافة معينة أو مجتمع معين توجد غالبًا أصوات معارضة. لم يؤمن الإغريق بأكملهم بالرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض، كما لم يكن هناك توافق عام مناهض للتطور بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر. يوجد دائمًا نماذج تفسير متنافسة، مما يؤدي إلى وجهات نظر متباينة إزاء الكون.

ثمة نقطة مناهضة للنسبوية هي «الحجة القوية». تمتلك كل الثقافات جوهرًا مشتركًا من المعتقدات الحقيقية وأنماط استدلال مبرَّرَة منطقيًّا. في دراسة حديثة، قارن علماء النفس في جامعة هارفرد القدرات الهندسية للأمريكيين مع قدرات القبائل البدائية. ووجد الباحثون أن الأحكام الهندسية للمجموعتين لا تختلف اختلافًا كبيرًا؛ فالاستدلالات الأولية حول الظواهر الطبيعية — الغيوم الكثيفة تبشر بهطول المطر — يجري التوصل إليها أيضًا على نحو مستقل عمومًا عن السياقات الثقافية. توجد حقائق مستقلة بشأن العالم، مهما كان حكم الناس بشأنها. ومن المؤكد أن هذه الحقائق المستقلة ستؤدي إلى تلاقي أحكام الناس في جميع أنحاء العالم. يبدو أن الحقائق الاجتماعية تفتقر إلى الاستقلال عن الإرادة الإنسانية الذي يبدو أن الحقائق الطبيعية تتمتع به، ومع ذلك، فإن تشييء المؤسسات الاجتماعية يعني أنها تتمتع باستقلال نسبي عن الأفعال اليومية للعناصر الاجتماعية. تظل معظم المؤسسات الاجتماعية قائمة بعد شاغليها الحاليين. وتتمتع معظم المؤسسات الاجتماعية باستقلال نسبي عن الأفراد الذين يحافظون عليها في أي وقت معين (ساير ٢٠٠٠، ٣٣–٣٥).

تستند «حجة التطور» إلى وجود سلف مشترك لجميع البشر. ثمة استجابة مماثلة للضغوط البيئية تقدِّم المادة الأساسية التي تضمَن التكافؤ بين الثقافات. فيكمن تشابه في تحدُّر اللغات الحديثة من اللغات القديمة. ونجد في أعمال داروين وهَكسلي وتِلر دفاعًا عن فكرة أن المخ البشري تطور استجابة لظروف بيئية مماثلة. وتؤدي أحجام المخ الكبيرة إلى وظائف ذهنية أعلى، مثل تطوير لغات رمزية. وكما سنرى لاحقًا، فإن علم النفس التطوري يشير إلى أن الأصل المشترك للجنس البشري أدى إلى بنيات مخية نموذجية عامة. وقد طوَّر البشر قدرات حل المشكلات استجابة للبيئة المشتركة.

وأخيرًا هناك حجة «ادعاء الصحة». فيشير الواقعيون إلى وجود تمييز أساسي بين «المقبولية الاجتماعية» و«الصحة العقلانية» للأفكار (هابرماس ١٩٨٨ (١٩٩٢)، الفصل الثالث). تأمَّل بعض الأفكار الرئيسية التي ناقشناها. اعتُبرت مركزية الأرض صحيحة لمدة ألفي سنة، ويمكن أن تفخر «سلسلة الوجود العظمى» بتاريخ مماثل. ومع ذلك، فالمغالطة الأساسية (الاحتكام للأغلبية) هي الاعتقاد بأن بعض الأفعال أو الأفكار لا بد أنها صحيحة لأن غالبية الناس يؤيدونها؛ فمقبوليتها الاجتماعية لا تُثبت صحتها العقلانية، وإلا سيكون من الصعب فهم كيف يمكن أن تحدث اكتشافات تتعارض مع التوقعات. تظهر استقلالية العقل عن العالَم على وجه التحديد من خلال قابلية خطأ معرفتنا (ساير ٢٠٠٠، الفصل الأول؛ باسكار ١٩٧٨، الفصل الأول). يضع الواقعي تمييزًا أساسيًّا بين الحقائق والمفاهيم، بين العالَم الخارجي ومعرفتنا به القابلة للخطأ. ودون هذا التمييز الأساسي سيكون من الصعب تفسير التحسينات المفاهيمية التي رأيناها في قصص الكوبرنيكية والداروينية. ويعترف الواقعي بأن مخططاتنا المفاهيمية توجه وجهات نظرنا إزاء العالَم. وغالبًا ما تحمل مخططاتنا المفاهيمية فرضياتنا الأساسية، التي قد لا تتعرض للتشكيك لفترات طويلة. ومع ذلك، فإن مخططاتنا المفاهيمية لا تحدد طريقة رؤيتنا للعالَم؛ ففي نهاية المطاف واجهت مخططات ما قبل الكوبرنيكية وما قبل الداروينية تناقضات واسعة بين الحقائق والمفاهيم. صاغ هابرماس عبارة «المنطق الموقفي» لتسمية هذا التوجه غير الحاسم (هابرماس ١٩٨٨، ١٧٩ (١٩٩٢، ١٣٩))؛ فالمنطق يعتمد على السياق في استناده إلى اللغة وتكوين المفاهيم. يُظهر نمو المعرفة العلمية أن الأدلة الجديدة كثيرًا ما تتطلب مفاهيمَ جديدة (فاينرت ٢٠٠٤، الفصل الأول)، ولكن في خضم إثبات ادعاء الصحة، يجب اعتبار المنطق مستقلًّا عن السياق. «تكمن وحدة المنطق في تنوُّع أصواته.» وتُعد بعض الادعاءات أكثر ملاءمة إدراكيًّا من غيرها في مواجهة الأدلة. ويتضح ذلك على نحو لافت للنظر في قصة الكوبرنيكية والداروينية. حتى العلوم الاجتماعية التفسيرية — كما دأب فيبر على تكرار ذلك — قادرة على تقديم بيانات موضوعية؛ فمطلوب من الأنماط المثالية أن «تتلاءم» مع البيانات التجريبية. وكما يشير هابرماس، فإن الملاءمة المعرفية للمخططات المفاهيمية تنعكس أيضًا في الطريقة العملية للحياة (هابرماس ١٩٨١ (١٩٨٤)، المجلد الأول، الفصل الأول). يجب أن يثبت المخطط المفاهيمي قدراته من خلال التعامل مع التباينات والتناقضات التي قد تواجهه على المستوى العملي.

إذا كانت الملاءمة المعرفية للمخططات المفاهيمية لها تأثير ملموس على الطريقة التي نعيش بها حياتنا، فينبغي أن تكون هذه حجة داعمة للواقعية في العلوم الاجتماعية. يمكن استخدام المعرفة التي تنتجها نظريات العلوم الاجتماعية للتدخل في الحياة الاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال، ربما تساعد على عكس الاتجاهات الاجتماعية غير المستساغة؛ ولذلك فإنه من المهم تحديد هل كانت تُفسَّر بالمعنى الواقعي أم الذرائعي. وبما أن نظرية فرويد للتحليل النفسي تفشل أمام نقد الرؤية الواقعية للعقلية، فقد نادينا بأنه ينبغي قراءتها على نحو ذرائعي، ولكن عمومًا، إذا كانت العلوم الاجتماعية تهدف إلى فهم تفسيري، يجب أن تُقرأ نظرياتها بمعنًى واقعي؛ فهي بيانات عن العالَم الاجتماعي الحقيقي، وملاءمتها المعرفية مهمة للغاية من أجل القرارات المتعلقة بالسياسات.

ولكن ما دام التساؤل ظل مُثارًا عن استقلالية العلوم الاجتماعية، بالنسبة للنموذج التفسيري، فإن استقلالية العلوم الاجتماعية تفرض نفسها من خلال التفسير المزدوج. ولكن الأمور أقل وضوحًا بالنسبة للنموذج التجريبي. توقَّع الداروينيون وضع علم النفس تحت مظلة علم الأحياء التطوري. لم يعتقد أنصار الوضعية — على غرار أوجست كونت — أن علم الاجتماع يمكن وضعه تحت مظلة الفيزياء؛ لأنهم يفترضون وجود تسلسل هرمي إيجابي بين العلوم.

بينما نظرنا في الأجزاء السابقة إلى الفردية والشمولية كمستويات توضيحية للتفسير، فإن الجزء التالي يدرس هل كان يمكن إخضاع العلوم الاجتماعية لاستراتيجيات الاختزالية أم لا.

(و) الاختزالية والوظيفية

كان فرويد اختزاليًّا متطرفًا، بمعنى مزدوج. اعتقد فرويد أن جميع السلوك البشري يمكن اختزاله ميكانيكيًّا إلى قوى الديناميكا النفسية الكامنة، كما آمن فرويد أيضًا أن علم النفس يمكن أن يُختزل في نهاية المطاف إلى علم الأحياء إن لم يكن للفيزياء. لقد ناقشنا بالفعل «حسد فرويد للفيزياء»؛ رغبته في وضع التحليل النفسي على قدم المساواة مع الفيزياء. حتى إنه اعتبره وسيلةً تُضاهي حساب التفاضل والتكامل للقيم متناهية الصغر (فرويد ١٩٢٧أ، ١٣٦)، كما نجد أيضًا في كلمات فرويد تكرارًا لتنبؤ داروين إذ قال إن «علم النفس سوف يوضع على أساس جديد.» ومن ثم أشار في محاضراته في فيينا إلى أن:

البنية النظرية للتحليل النفسي (…) هي بنية فوقية، يجب أن تُوضع يومًا ما على أساسها العضوي، لكننا ما زلنا جاهلين بذلك. (فرويد ١٩١٦ب، ٣٨٩)

رأينا أنه من الحتمي أن تُخفق اختزالية فرويد الصرفة؛ فلكي ينفذ فرويد برنامجه التحليلي النفسي، يجب أن يلجأ للنهج التفسيري. ونظرًا لدور العقل في العالَم الاجتماعي وفشل الإغلاق في العلوم الاجتماعية ووجود الاتجاهات البحتة، فإن أي اختزال للعلوم الاجتماعية إلى الفيزياء يبدو وكأنه علاقة يائسة. مع ذلك، فتأسيس علم النفس على أساس تطوري خيار يسعى إليه بنشاط برنامج علم النفس التطوري (انظر الجزء ٥)، ولكن إذا كان مقدرًا لهذا المشروع أن ينجح، يجب أن يُفسَّر ظهور العقل في العالَم المادي. رأى الداروينيون هذا التحدي بوضوح، كما أشرنا سابقًا. وقبل أن نعود إلى هذه المسألة، ثمة شكل أكثر قابلية للاختزال يمتد موضوعه عبر العلوم الاجتماعية. إنه مسألة «الفردية» و«الشمولية».

figure
تشارلز داروين، مُطلِقًا لحيةً مثيرة للإعجاب مثلما كان شائعًا في عصره.

كمحلل نفسي، يميل فرويد على نحو طبيعي نحو الفردية (ريلير ٢٠٠٥ج، ٤٣٨). وبصفة عامة، فإنه يفسر الظواهر الجماعية في سياق ما يفعله الأفراد، ويختزل ما يفعله الأفراد إلى دوافعهم اللاواعية. على سبيل المثال، يفسر فرويد الإنجازات الثقافية كنتيجة لانحراف الدوافع الجنسية بعيدًا عن الإرضاء المباشر. ويرجع هذا الانحراف إلى عملية التسامي، كما يتبع فيبر أيضًا مذهب الفردية الذي يختزل «الظواهر الاجتماعية» إلى «الأفعال الفردية» (فيبر ١٩١٣، ١١٠). وبالنسبة لمتبع الفردية، وباستخدام المصطلحات التي استخدمناها من قبلُ، فإن «الظواهر الاجتماعية تلي الأفعال والمعتقدات الفردية» هناك «قابلية تحقق متعددة» للظواهر الاجتماعية بسبب اعتمادها على الأفراد (إلستر ١٩٨٩، الفصل الثاني والخامس عشر؛ ليتل ١٩٩١، الفصل التاسع؛ هوليس ١٩٩٤، الفصل الخامس)، ولكن تحليل فرويد لعلم النفس الجماعي يظهر أيضًا أنه ليس من السهل التعامل مع السلوك الجماعي كمجموع بسيط للسلوك الفردي؛ فالعديد من الظواهر الاجتماعية تختلف نوعيًّا عن السلوك الفردي. ويعترف دوركايم بأن الأفراد عناصر ضرورية ولكن ليست كافية لتشكيل النظم الاجتماعية. تتألف الكيانات الاجتماعية من الأفراد والعلاقات الاجتماعية بينهم. وتُظهِر ديناميات سلوك المجموعات أن السلوك الفردي يتأثر بشدة بسلوك المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. في الواقع، ما يفعله الأفراد ويفكرون فيه يتأثر أيضًا بثقافتهم المحيطة. عكست آراء داروين الإمبريالية بشأن الأجناس البشرية ووجهات نظر فرويد القديمة إزاء الجنس الأنثوي ببساطة المواقف الثقافية السائدة في حياتهما. إن طريقة ظهور الناس وتقديم أنفسهم تعكس ثقافتهم. وفي كتابه عن علم النفس الجماعي، ينحرف فرويد عن النزعة الفردية؛ فيفسر السلوك الجماعي من خلال تأثير الجماعة على الاقتصاد النفسي للفرد (فرويد ١٩٢١، ١١٧). ويشير إلى أن السلوك الجماعي يختلف نوعيًّا عن سلوك الأفراد، حتى لو نتج عن العديد من الأفراد. وتُنتِج طريقة تفاعل الأفراد بعضهم مع بعض فرقًا في سلوكهم، يمكن ملاحظته كسلوك جماعي أو كسلوك للمجموعة. لا يختلف فرويد — مؤلف كتاب «علم نفس الجماهير» (١٩٢١) — على نحو أساسي مع دوركايم بشأن هذه النقطة. ويمكننا تفسير رأي دوركايم بالقول إن السلوك الجماعي «ينبثق» من السلوك الفردي. وهو يتبع قواعده الخاصة، ولا يمكن اختزاله إلى انتظام فردي. وهكذا فإن دوركايم يتبنى موقفًا وسطًا بين الفردية النقية وشكلًا مشكوكًا فيه من الشمولية الأفلاطونية.

يمكن أن توجد المؤسسات الاجتماعية والتقاليد والنظم القيمية مستقلة عن أي عناصر فردية معينة نتيجة التشييء. لاحظ أن المؤسسات الاجتماعية يمكن أن توجد حتى في غياب أي شاغل لها، على الأقل لفترة قصيرة. وتستطيع المؤسسات الاجتماعية مثل الديمقراطية البقاء في عالم الأفكار، من دون أي تفعيل من جانب العناصر في أي مرحلة زمنية معينة. ويرى دوركايم أن وجود مؤسسات اجتماعية أو سياسية يتطلب إيجاد تمثيل لها من جانب العناصر الاجتماعية الفردية. إن وجود العناصر الاجتماعية ضروري ولكن ليس كافيًا لوجود نظم اجتماعية.

غالبًا ما يقال إن نوعًا غير مرغوب فيه من الشمولية يُمثِّل التكلفة التي تُدفَع مقابل اعتناق الوظيفية (انظر ناجل ١٩٦١، الفصل الرابع عشر؛ هابرماس ١٩٧٠، الفصل الثاني؛ هوليس ١٩٩٤، الفصل الخامس؛ روزنبرج ١٩٩٥، الفصل الخامس). وتؤكد الوظيفية على أن العناصر الاجتماعية — الأفراد والجماعات والمؤسسات — تسهم في عمل وصيانة المجتمع بأسره؛ فالعناصر أو المنظمات الاجتماعية التي لا تسهم في أداء المجتمع ككل تُعتبر مختلة وظيفيًّا. تأمَّل، على سبيل المثال، التفسير الوظيفي للطبقية الاجتماعية أو تقسيم العمل؛ فهو يفسر التقسيم الاجتماعي لمجموعات الأفراد وفقًا للدخل والسلطة والعوامل الأخرى كمساهمة مفيدة في عمل النظام بأكمله. وبهذا المعنى يبدو أن الوظيفية تتطلب وجود كيان يتخطى الأفراد يُسمى «المجتمع»، يوزع الوظائف اللازمة لبقائه. ويفسر دوركايم (١٨٩٧) معدلات الانتحار بالرجوع إلى مستويات التماسك الاجتماعي. يبدو أن وجود المجتمع يفرض المهام التي سيقوم بها الأفراد. ويبدو أننا نواجه نفس المشكلة، التي واجهناها في النقاش بين الربوبيين والتطوريين (الفصل الثاني، القسم ٢-١، ب)؛ فقد اشترط الربوبي أن الوظيفة تأتي أولًا من خلال الإرادة الإلهية، بحيث يُصمَّم العضو خاصة لها، لكن تعيَّن على التطوري أن يعتمد على آلية الانتقاء الطبيعي من أجل تفسير طريقة اضطلاع الأعضاء بوظائف معينة مع مرور الوقت.

هل التزمت الوظيفية بنوع ميتافيزيقي من الشمولية، يفترض مسبقًا وجود كيانات اجتماعية في عالم خاص بها؟ من وجهة النظر الدوركايمية، لا توجد الكيانات الاجتماعية كمجموعات مجردة من الأفراد؛ فالعناصر الاجتماعية ضرورية للكيانات الاجتماعية. وبدلًا من التفكير في المجتمع ﮐ «كائنات» يُمثِّل أعضاؤها من الأفراد «أجهزتها»، فإن علم الأحياء يقترح التفكير فيها على أنها «أنظمة ذاتية التنظيم»:

يمكن التخطيط للمنظمات الاجتماعية وتوجيهها، ولكنها بعد ذلك تقوم بإعادة إنتاجها نفسها في صورة أنظمة ذاتية التنظيم. (…) وتوفر المنظمات الاجتماعية نموذجًا للإطار النظري لأبحاث النظم. (هابرماس ١٩٧٠، ١٧٠ (١٩٨٨)، ٧٧)

هذه الكيانات الاجتماعية، إذا أضفنا رؤية دلتاي الحاسمة، يرتبط بعضها ببعض من خلال سلاسل رمزية. وبما أن الكيانات الاجتماعية رمزية إلى حد بعيد في طبيعتها، فإن متبع الشمولية لا يحتاج إلى اللجوء إلى تفسير تطوري لنمو المجتمعات من أجل تفسير خلق الوظائف المجتمعية؛ فالتفسير متأصل في البُعد التفسيري. لا شك أن المؤسسات الاجتماعية تمارس وظائف مختلفة؛ فمهمة السلطة التشريعية (على غرار البرلمان) هي سن تشريعات، ووظيفة السلطة التنفيذية (مثل الشرطة) هي الحفاظ على عدم انتهاك القوانين، ووظيفة السلطة القضائية (مثل المحاكم) هي معاقبة مخالفي هذه القوانين. وعندما بدأ فلاسفة التنوير بالتفكير في تقسيم السلطة إلى أذرعها الثلاثة (لوك، مونتسكيو)، كانت هذه الوظائف المنفصلة موجودة فقط في أذهانهم، أو على الورق. إن العقل البشري يستطيع خلق سيناريوهات وهمية وتوقع المستقبل. احتاج الربوبيون إلى افتراض وجود كائن أسمى ملأت أعماله الإبداعية العالَم الطبيعي بوظائف بيولوجية. يستطيع الفيلسوف الاجتماعي أن يعتمد على إبداع العقل البشري؛ فيخلق العقل البشري الوظيفة توقعًا لتحقيقها. ويستطيع عالِم الاجتماع رصد تركيب هذه الوظائف في المجتمع، ويبدو أن هذا سمة عادية من سمات الحياة البشرية؛ أولًا: تخلق الأفكار مساحة احتمالات، ثم توضع الاحتمالات، التي يمكن توقُّع نتائجها، موضع التنفيذ. إذا أُخذت الأبعاد الرمزية للوجود البشري في الاعتبار، فإن الوظيفية لا تحتاج إلى افتراض كُلٍّ وظيفي موجود مسبقًا. توجد الوظائف كخطط، ثم تُنسب إلى الأدوار الاجتماعية. ولا تصبح الأدوار الاجتماعية فعالة إلا إذا قامت بها عناصر اجتماعية ملموسة. وخلال أداء أدوارهم الاجتماعية، تفي العناصر الاجتماعية بوظائفها. وبمجرد التخطيط للوظيفة — كما هي الحال في التشريع، أو تنفيذ القانون، أو القضاء، أو التدريس مثلًا — وإنشاء الأدوار الاجتماعية للقيام بهذه المهام — البرلمان، ضابط الشرطة، القاضي، المعلم — تظهر حاجة إلى أفراد حقيقيين لتنفيذ هذه الأدوار الاجتماعية، ولكن لاحظ أن الدور الاجتماعي لا يعتمد على أي فرد بعينه. وتشير هذه المهام المتوقعة أو المخطط لها ضمنيًّا أيضًا — وفقًا لمشكلة بوبر الخاصة بالتخطيط غير المخطط له — إلى أن التخطيط ربما يفشل. فلا ترقى الأدوار الفردية أو المؤسسية إلى توقعات الوظائف المتوقعة. وإذا أُريد الحفاظ على الوظيفة، فلا بد من إصلاح الأدوار الفردية والمؤسسية. يحدث كل هذا على مستوى الأفراد في المجتمع؛ مثلًا أعضاء البرلمان، ولكن تتمثل وجهة نظر دوركايم في أنه بمجرد تحديد الوظيفة والدور الاجتماعي، فإنه يتجاوز بعد ذلك إرادة شاغله.

هل توجد المجتمعات على نحو منفصل فوق مكوناتها الفردية؟ بالنسبة لمتبعي الفردية، يوجد الأفراد وأفعالهم وحسب، ولكن كما توضح مقدمة فيبر للأنماط المثالية، تعاني الفردية البحتة من صعوبات في تفسير سلوك المجموعة، وتعاني بدرجة أكبر في تفسير المجتمعات الحديثة المعقدة. فلا يمكن تفسير البنيات الاجتماعية بسهولة على أساس الأفعال الفردية. بالنسبة لمتبع الشمولية، البنيات الاجتماعية موجودة إلى جانب الأفعال الفردية، ولكن في أي سياق توجد هذه البنيات الفردية الفوقية؟ يتحدث ماركس عن بنية فوقية على قاعدة مادية، ويستخدم دوركايم الروح الجماعية. وإذا كان تحليلنا صحيحًا، فلا يمكن النظر لبنيات ماركس الفوقية ولا الروح الجماعية لدوركايم على أنها كيانات أفلاطونية. وتُعد القاعدة المادية والعناصر الاجتماعية الفردية شروطًا ضرورية لوجود الكُل الاجتماعي. لاحظ أن الوجود الأفلاطوني للكل الاجتماعي في مجال فوق فردي لا يتفق مع استنتاجنا أن أوجه الانتظام الاجتماعي توجد فقط كاتجاهات. فيتطلب اعتمادُها على الشروط الأولية وقابليةُ العكس تمثيلَها عن طريق العناصر الاجتماعية. وبهذا المعنى فإن العناصر الاجتماعية الفردية ضرورية للحياة الاجتماعية.

في ضوء كره الشمولية الأفلاطونية، ثمة موقف فلسفي يطرح نفسه؛ خلط الفردية «الأنطولوجية» مع الشمولية «المنهجية». على الأساس الأنطولوجي، يوجد الأفراد وحسب. ولكن وجود الأفراد لا يكفي لتفسير الانتظام الاجتماعي؛ ولذلك، فإننا نعتنق شمولية «منهجية». يستحضر علماء الاجتماع التعميمات الاجتماعية لتفسير الحقائق الاجتماعية دون حشد التعميمات «الفردية» المناسبة. فشلت العلوم الاجتماعية في الارتقاء إلى حلم ميل وفرويد باكتشاف القوانين النفسية التي يُفترض أنها تحكم السلوك الفردي، وقد أظهرت منهجية فيبر للأنماط المثالية كيف يمكن لعالِم الاجتماع تقديم بيانات عامة عن السلوك الاجتماعي برغم ذلك، ولكن هذه التعميمات الاجتماعية المثالية تُعتبر تعبيرًا عن أنماط «نموذجية» أو «معيارية» للسلوك. ولا يوجد أي ادعاء بأن التعميمات الاجتماعية تعكس الكيانات الاجتماعية التي يمكن أن توجد إلى جانب الأفراد في المجتمع، ولكن وجهات نظر ماركس ودوركايم تسمح باعتماد شمولية «ناشئة». يمكن للأنظمة الاجتماعية، بحكم طبيعتها القسرية، أن تدعي بعض الاستقلالية عن أفرادها الذين يشكلون مترابطات النظام الاجتماعي. فلا يظهر النظام الاجتماعي إلا عندما يبدأ أفراد المجتمع في الارتباط والتفاعل فيما بينهم.٨ فالكواكب منفردةً لا تُشكِّل نظامًا شمسيًّا حتى تدخل في علاقات تحكمها القوانين (كما هو معبَّر عنها رمزيًّا في قوانين كبلر). وبالمثل، فإن العناصر الاجتماعية منفردةً لا تُشكِّل نظمًا اجتماعية حتى تبدأ في ممارسة علاقات اجتماعية فيما بينها. ويمكن أن تترسخ هذه العلاقات في صورة عادات ومؤسسات واتجاهات وتقاليد؛ أي التشييء وفقًا لدلتاي. وتظل النظم الاجتماعية معتمدة على أعضائها الأفراد ولكن فقط بوصفهم مكونات ضرورية. تتخذ الكيانات الاجتماعية أشكالًا عديدة: جوهر اجتماعي (فرنسا)، وأنماط اجتماعية (رأسمالية)، وأحداث (انهيار وول ستريت في عام ١٩٢٩)، وعمليات (ذبول الإمبراطورية الرومانية)، وحالات اجتماعية (عبودية) (روبن ١٩٨٥، ٨-٩). ويمكن النظر إلى هذا على أنه أنظمة متداخلة (انظر مربع ٣-٣).

مربع ٣-٣: الأنظمة المتداخلة

من أجل إظهار عدم قابلية اختزال السمات الاجتماعية إلى سمات فردية، يوضح إتش دي روبن أربعة مكونات ضرورية وكافية على نحو متساوٍ للنظم المتداخلة (روبن ١٩٨٥، ١٠٥–١٠٧)، ويبدأ بادعاء أن:

الشرط الضروري والكافي للسمة العلائقية «ع» لكي تكون سمة علائقية اجتماعية يتمثل في أنه إذا كان «س» و«ص» يقفان في العلاقة «ع»، فإنه ينتج عن ذلك وجود نظام متداخل من المعتقدات والتوقعات المتشابكة.

وينتج عن ذلك أربعة عناصر ضرورية وكافية على نحو متساوٍ لنظام متداخل:

(١) إذا كانت توجد أي علاقات اجتماعية بين س وص، فإن س وص سيكون لديهما معتقدات وتوقعات متشابكة بشأن الأفعال.

(۲) توجد معتقدات وتوقعات من الدرجة الثانية.

هذان الشرطان كافيان لتفسير الفرق بين الجاذبية و«خوض حرب»، إذا عدنا إلى مثال وينش. إن سحب جاذبية الأرض للقمر لا ينطوي على معتقدات مشتركة بشأن الجاذبية ولا توقعات من الدرجة الثانية بأن الأرض ستواصل إبقاء القمر في مجال جاذبيتها، ومع ذلك، إذا كانت الدولة «س» في حالة حرب مع البلد «ص»، فستوجد توقعات بأعمال عدائية وتوقعات بإمكانية إحباط الفعل المتوقَّع، من خلال تدمير مواقع العدو مثلًا.

(۳) بعض العلاقات التناظرية موجودة بين مجموعة من المعتقدات والتوقعات. على سبيل المثال، يتأثر سبب تصرُّف عنصر اجتماعي ما بطريقة معينة جزئيًّا على الأقل بالطريقة التي يتوقع الآخرون أن يتصرف العنصر وفقًا لها. وتُعد هذه الحالة نموذجية للتوقعات أو المعايير المرتبطة بالأدوار الاجتماعية. سيواجه العنصر الاجتماعي، الذي يمارس دورًا اجتماعيًّا، توقعات اجتماعية بشأن كيفية التصرف في هذا الدور. وسيتوافق مع هذه التوقعات بأقصى درجة. وإذا فشل العنصر في الأداء وفقًا للشكل المتوقع للسلوك المرتبط بالدور، كأب أو ضابط مثلًا، فإن المجموعة الاجتماعية أو المجتمع سيفرض عقوبات على العنصر، يمكن أن تتراوح من اللوم الخفيف إلى السجن القاسي.

(٤) يعتقد «س» أن «ص» أحيانًا يفعل ما يفعله بسبب اعتقاد «ص» بشأن ما يعتقد «س» أن «ص» سيفعله، ويعتقد «ص» أن «س» أحيانًا يفعل ما يفعله لنفس الأسباب. وهذا يشير إلى توقعات الدرجة الثانية من جانب العناصر الاجتماعية. يتوقع العنصر الاجتماعي أن الآخرين يؤمنون ببعض المعتقدات بشأن كيفية تصرُّف العنصر والطريقة التي يجب أن يتصرف وفقًا لها ويُكيِّف سلوكه وفقًا لذلك. وتُعد معتقدات الدرجة الثانية هذه ضرورية للحفاظ على الثقة بين أعضاء المجتمع.

(٥) التطور والعلوم الاجتماعية

يرتبط علم الأحياء التطوري جوهريًّا بدراسة السلوك والفكر البشري؛ لأن نوعنا نتاجٌ لعمليات أرضية طبيعية — عمليات تطورية — وليس خلقًا إلهيًّا أو تدخلًا من خارج كوكب الأرض. (توبي/كوزميدس، «الأسس النفسية للثقافة» (١٩٩٥)، ٥٠)

ظلت العلوم الاجتماعية غير متأثرة نسبيًّا بنشر كتاب «أصل الأنواع» (١٨٥٩). تفاعل النموذج التفسيري سلبيًّا مع الطبيعانية الصارمة لهذا النموذج، لكنه ظل يتخذ الفيزياء كعلم نموذجي استرشادي. أكد مؤيدو النهج التفسيري على أهمية الأبعاد الرمزية في الحياة الاجتماعية. وكانت حجتهم من أجل استقلالية العلوم الاجتماعية تعني أنه لا يمكن الحصول على الإلهام من العلوم الطبيعية أو البيولوجية. في فرنسا، وضع النموذج التجريبي ثقته بالعلوم الفيزيائية. ويقر دوركايم بأن السمات العامة للطبيعة البشرية تلعب دورًا في الحياة الاجتماعية، ولكن العقل عنصر ثانوي في الشئون الإنسانية:

لا تمتلك التمثيلات والعواطف والاتجاهات الجماعية في أسبابها حالات معينة للوعي لدى الأفراد، بل الظروف التي توجد فيها الجوانب الاجتماعية ككل.

هذا هو تأييد دوركايم للشمولية. إنه يوافق على أن هذه الأفعال الاجتماعية لا يمكن تجسيدها إلا «إذا كانت الطبيعة الفردية لا تعارضها.» ومن ثَمَّ فإن الأفراد شرط ضروري لتشكيل الكيانات الاجتماعية، ولكنه ليس شرطًا كافيًا:

ولكن تُعد هذه الطبائع الفردية مجرد مسألة غير محددة يصوغها العامل الاجتماعي ويحولها. تتكون مساهمتها حصرًا من حالات عامة للغاية، واستعدادات غامضة ومن ثم طيعة، لا تستطيع بحد ذاتها أن تتخذ الأشكال المحددة والمعقدة التي تميز الظواهر الاجتماعية إذا لم تتدخل عناصر أخرى. (دوركايم ١٨٩٥، ١٣١)

هذا الإهمال للطبيعة البشرية مفهوم إلى حدٍّ ما، حتى من قبل تجريبي مثل دوركايم. على الرغم من أن التجريبية توصي العلوم الاجتماعية باتباع نهج مستوحًى من العلوم، فإنها لا تشكك في استقلال العلوم الاجتماعية. وطوال فترة القرن العشرين تقريبًا، كانت العلوم الاجتماعية — بصرف النظر عن النهج الذي اتبعته — تدير شئونها كتخصصات مستقلة، ولم تلعب وجهات النظر التطورية دورًا مهمًّا في أبحاثها. صحيح أن هابرماس — إضافة إلى آخرين — تناول مسألة هل كان يمكن تفسير نمو المجتمعات الحديثة في سياق تطوري أم لا (هابرماس ١٩٧٦، الفصل الثالث)، ولكن لم يُقدَّم أي اقتراح، حتى وقت قريب، لتطبيق المبادئ التطورية على موضوع العلوم الاجتماعية التقليدية. تغيَّر هذا فجأة في عام ١٩٧٥، عندما نشر إدوارد أوسبورن ويلسون كتابه «علم الأحياء الاجتماعي». في كتاب «أصل الإنسان» (١٨٧١)، استخدم داروين مبادئ تطورية لتفسير السمات الأخلاقية والاجتماعية للمجموعات البشرية. سبب كتاب ويلسون ضجة كبيرة لأنه حدَّث أفكار داروين.

(٥-١) «علم الأحياء الاجتماعي»؛ هل هو الثورة الرابعة؟

أعاد كوبرنيكوس الحياة للفكرة التي آمن بها إغريقي وحيد — أرسطرخس الساموسي — بأن الأرض لم تكن محور الكون. وجادل داروين على نحو مُقنِع أن أبناء الأرض يشتركون في أصل واحد مع جميع الكائنات الحية الأخرى. وآمن فرويد أنه دمر صورة الإنسان العقلاني النابعة من التنوير. هل أظهر عالم الحشرات الأمريكي إدوارد أوه ويلسون أن كل السلوك الاجتماعي لدى الحيوانات والبشر له جذور بيولوجية؟ لو كان علم الأحياء الاجتماعي قد حقق هدفه، لكان قد أحدث ثورة رابعة. كان ادعاء فرويد الجريء بالتنافس مع الثورة العلمية سيصبح سابقًا لأوانه، وكانت جائزة هذا الإنجاز ستذهب إلى ويلسون. وعلى الرغم من أن علماء الاجتماع يكتبون في ثقة كما لو أن الأساس البيولوجي للسلوك الاجتماعي قد أُثبِت بالفعل، فإن الواقع يبدو أقل طمأنة، وغالبًا ما تحل التكهنات الجريئة محل الأدلة التجريبية الصلبة. يبدو أن مسألة كون علم الأحياء الاجتماعي فرعًا من نظرية التطور الحديثة مسألة لا جدال فيها إلى حدٍّ ما (ويلسون ١٩٧٨، ١٦-١٧؛ كيتشر ١٩٨٥، ١١٨؛ روس ١٩٧٩، الفصل الثاني)، ولكن من غير الواضح هل كان هذا الفرع يستطيع أن يحمل التأكيد القوي الذي أُلقي عليه. لا سيما أنه لم تُحدَّد بعد الطبيعة الدقيقة للصلة التي يُفترَض وجودها بين السلوك الاجتماعي والبنية البيولوجية. ربما تعثَّر برنامج أبحاث ويلسون ولكن أفكاره تعيش في علم النفس التطوري.

وفقًا لإدوارد ويلسون، فإن علم الأحياء الاجتماعي هو «دراسة منهجية للأساس البيولوجي (لجميع أشكال) السلوك الاجتماعي (لدى جميع أنواع الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان)» (ويلسون ١٩٨٠، ٤؛ ١٩٧٨، ١٦). هذه عبارة عامة شاملة تحتاج إلى دعمها بتفاصيل تجريبية؛ فلا يمكن أن يعني ويلسون أن كل سلوك اجتماعي محدد وراثيًّا تمامًا أو على الأقل له جذور بيولوجية. إن الكثير من سلوكنا يتبع المعايير والتقاليد، وتلهمه قيمٌ اجتماعية (سالمون ٢٠٠٣). وتميل هذه التقاليد والمعايير والقيم إلى الاختلاف من مجتمع إلى آخر. يتناول الإنجليز الحلوى قبل الجبن، ويقدم الفرنسيون الجبن قبل الحلوى، ولا يريد أحد أن يدَّعي أن هذا الاختلاف في العادات الثقافية محدد جينيًّا. قد يكون فرويد محقًّا في قوله إن بعض سلوكنا تُسبِّبه دوافع خفية، ولكن الكثير من السلوك البشري يقوم على التقييم المدروس للأفعال البديلة. إذا كان دافع الفعل هو أيضًا سببه، فإنه ربما يكون سلوكًا عقلانيًّا (ديفيدسون ١٩٨٢). ولكي يحقق برنامج ويلسون النجاح، يجب أن يبقى بعيدًا عن الحتمية البحتة، التي تقضي بإسناد جين محدد لكل نوع من أنواع السلوك، كما يجب على علم الأحياء الاجتماعي أن يتجنب الوقوع في الفرضية المبتذلة التي مفادها أن تشكيلنا البيولوجي يفرض قيودًا على سلوكنا الاجتماعي (ستيرلني ١٩٨٨، ٥٣٩)؛ فبما أن البشر لا يستطيعون التسلق على نحو جيد للغاية، فإنهم يفضلون أكل وجباتهم تحت الأشجار وليس فوقها. يجب على علم الأحياء الاجتماعي القابل للتطبيق أن يشير إلى أكثر من تلك القيود البيولوجية. من الواضح إلى حدٍّ ما أن تشكيل كل كائن حي يضع قيودًا على مجال أفعاله؛ فما الاتجاه الأكثر فائدة الذي ينبغي اتباعه؟

كرس ويلسون نفسه من خلال تعريفه لعلم الأحياء الاجتماعي لبرنامج قوي، يشير إلى أن الرابط الوراثي دائمًا أفضل من التفسير غير البيولوجي. وبناء على ذلك:

لا يمكن استبعاد تأثير العوامل الوراثية في تبنِّي أدوار «كبيرة» معينة. (ويلسون ١٩٨٠، ٢٧٩)

على الرغم من وجود الكثير من التذبذب في كتابات ويلسون بشأن ثبات السلوك البشري، فإن التوصيف الأكثر تجانسًا مع برنامجه يكمن في الفكرة الإطارية:

لا تُملى التفاصيل الإثنوجرافية على نحو وراثي، مما يؤدي إلى قدر كبير من التنوع بين المجتمعات. ولا يعني هذا أن الثقافة تحررت من الجينات؛ فما تطور هو القدرة على صنع الثقافة؛ في الواقع، الاتجاه السائد لتطوير ثقافة واحدة أو أخرى. (ويلسون ١٩٨٠، ٢٨٤)

هذا التأكيد على «الفكرة الإطارية» لعلم الأحياء الاجتماعي يُذكِّرنا بآراء داروين في «أصل الإنسان»:

يُصاغ كل شخص من خلال التفاعل بين بيئته — لا سيما بيئته الثقافية — مع الجينات التي تؤثر على السلوك الاجتماعي. (ويلسون ١٩٧٨، ١٨)

ويفترض ويلسون أنه على الرغم من العدوانية الفطرية (المفترضة) لدى البشر، فإنه يمكن عكس تطور الحرب وإخضاعها لسيطرة الإدارة العقلانية للصراع (ويلسون ١٩٧٨، ١١٩-١٢٠). وهكذا، يبدو ويلسون نفسه متوجهًا نحو منطقة وسط بين الطبيعة والتنشئة (انظر بينكر ٢٠٠٤؛ ريدلي ٢٠٠٣). ويصوغ هذا الموقف الوسط الجينات في دور الإطار العام المتوافق مع الأنواع المختلفة من المظاهر الثقافية. على سبيل المثال، جميع البشر قادرون على تعلُّم لغة ما، ولكن اللغة التي يتعلمونها تعتمد على الظروف الثقافية. لم يتتبع ويلسون عواقب هذا الموقف الوسط. كان هذا من شأنه أن يؤثر على فهمه للجذور البيولوجية للسلوك الاجتماعي. ومن شأنه أيضًا أن يؤدي إلى تعديل أطروحاته المتطرفة بشأن دمج العلوم الاجتماعية في علم الأحياء الاجتماعي. يميل متخصصو علم الأحياء الاجتماعي المؤمنون بأفكار ويلسون إلى إساءة فهم موضوع العلوم الاجتماعية؛ إذ يفشلون على سبيل المثال في التمييز المناسب بين أنواع السلوك المختلفة.

تأمَّل التمييز بين السلوك «القهري» و«الاجتماعي»؛ فالسلوك الاجتماعي وحده له بُعد أخلاقي ورمزي؛ لأنه يحتوي على عنصر اختيار الفعل. يستطيع البشر تقييم النتائج المحتملة لأفعالهم. وحيثما تؤثر اختياراتهم على رفاهية الآخرين، يمكن اعتبار أفعالهم صحيحة أو خاطئة أخلاقيًّا. ويُعد السلوك الاجتماعي أيضًا قابلًا للتكيف مع البيئة الطبيعية والثقافية، ومن ثمّ يمكن تعلمه. بيد أن السلوك القهري يفتقر على نحو رئيسي إلى هذا البعد الخاص بالاختيار والقدرة على التكيف؛ فمن غير الصحيح الإشارة (كما هي الحال لدى روس (١٩٧٩)) إلى أن الفصام والاكتئاب الهوسي أمثلة للسلوك الاجتماعي الذي يقدِّم دليلًا إيجابيًّا لعلم الأحياء الاجتماعي. لا شك في امتلاك هذين المثالين للسلوك القهري مكونات وراثية قوية ولكنهما ليسا من أنواع السلوك الاجتماعي؛ فهما لا يتغيران بتغيُّر البيئة ولا يمثلان موضوعين لعمليات التعلم، وهما ليسا جزءًا من أنظمة داخلية.

بعد أن تدربنا على سرد حجج النهج التفسيري، يمكننا إعادة بناء رد عالِم الاجتماع على علم الأحياء الاجتماعي. عارض عالِم الأنثروبولوجيا مارشال سالينز علم الأحياء الاجتماعي مشيرًا إلى أن الحدث الرمزي يُمثِّل انقطاعًا جذريًّا بين الثقافة والطبيعة (سالينز ١٩٧٦، ١٢). يُعرَّف البشر في سياق الصفات الرمزية، بحيث يوجد تداخل أساسي بين الطبيعة البشرية وتعبيرها الثقافي (سالينز ١٩٧٦، ٦١). إذا كانت الثقافة عبارة عن «بيولوجيا بالإضافة إلى قدرات رمزية»، كما يقترح سالينز، فإن البيولوجيا ليست إلا شرطًا ضروريًّا — وليس شرطًا كافيًا أبدًا — للسلوك الاجتماعي لدى البشر (سالينز ١٩٧٦، ٦٥–٦٧).

يبدو أن ويلسون في العديد من فقراته يستبق الموقف الوسط الذي يقترحه العديد من نقاده (انظر روس ١٩٧٩، ٨–٢؛ ستيرلني ١٩٨٨، ٥٥٢–٥٥٤؛ بينكر ٢٠٠٤؛ ريدلي ٢٠٠٣). الفكرة مقنعة؛ فالجينات لا تحدد السلوك الاجتماعي أو حتى أنواع السلوك الاجتماعي؛ بل توفر القدرات التي يمكن في إطارها ملاءمة مختلف مظاهر السلوك. يرى اللغوي نعوم تشومسكي أن البشر يمتلكون قدراتٍ لغويةً فطرية، تُظهر نفسها بمئات من الطرق الملموسة المختلفة للتحدث بلغة بشرية. وهكذا، فإن الجينات تصوغ القدرات البشرية، في حين تحدد الثقافة السمات الفردية:

وهكذا يمكن النظر إلى السلوك البشري على أنه تكيُّف بيولوجي، وهو ما يريده متخصصو علم الأحياء الاجتماعي، ولكنه يتأثر سببيًّا على نحو حيوي بالتعلم، وهو ما يريده مؤيدو الثقافويَّة. (روس ١٩٧٩، ١٦٠)

وتتكرر هذه العبارات في أعمال ويلسون؛ إذ يقول:

يتحدد شكل وشدة الأعمال الإيثارية إلى حد بعيد ثقافيًّا. ومن الواضح أن التطور الاجتماعي البشري ثقافي أكثر من كونه وراثيًّا. المغزى هو أن المشاعر الكامنة، التي تجلَّت بقوة في جميع المجتمعات البشرية تقريبًا، هي ما يتطور عن طريق الجينات. (ويلسون ١٩٧٨، ١٥٣)

تفرض الجينات قيودًا على السلوك الاجتماعي البشري؛ لأنها «تربط الثقافة برسن طويل» (ويلسون ١٩٧٨، ١٦٧). يجب فصل العام عن الخاص، مثلما تتمايز القواعد اللغوية العامة — التي يتشارك فيها جميع البشر المتكلمين — إلى قواعد لغاتنا الأم الخاصة. يكمن الضعف القاتل لبرنامج ويلسون الشامل في تذبذبه بين المواقف غير المتوافقة: هل تفرض طبيعتنا البيولوجية قيودًا قوية أم ضعيفة على السلوك الاجتماعي؟ لنقُل إن الفكرة الإطارية تظل قائمة: الجينات مسئولة عن القدرات، ولكن الجينات لا تحدد السلوك العقلاني. يمكن لعلماء الاجتماع التسليم بهذه النقطة دون الاعتراف بأن هذا القبول يقلل من أهمية العلوم الاجتماعية. على العكس من ذلك؛ فالقدرات تحتاج إلى صياغة، والعلوم الاجتماعية ستحتاج إلى توضيح جميع الشروط الكافية اللازمة لتحويل القدرات إلى أشكال ثقافية. وخلافًا لاقتراح ويلسون (١٩٨٠، ٤) فالعلوم الاجتماعية ليست «الفروع الأخيرة لعلم الأحياء التي تنتظر أن تُدرَج في النظرية التركيبية الحديثة.» ومع ذلك، فإنه من المفيد متابعة مسألة هل كان السلوك الاجتماعي له جذور بيولوجية أم لا. في نهاية ثمانينيات القرن العشرين لم تكن ثورة «علم الأحياء الاجتماعي» بادية في الأفق. وسرعان ما فقد علم الأحياء الاجتماعي جاذبيته؛ فقد كان في العقلية الشعبية حافلًا للغاية بالحتمية الوراثية، ولكن أفكار هذا البرنامج لم تذبل. وسريعًا عاد البرنامج تحت مسمًّى جديد: علم النفس التطوري. وحمل مشعل الدفاع عن علم الأحياء الاجتماعي. وفي عملية التكيف هذه، قدَّم التزامات فلسفية أكثر اتساعًا.

(٥-٢) علم النفس التطوري

(…) كل شيء — من أكثر الفروق دقة في أداء ريتشارد شتراوس الأخير للسمفونية الخامسة لبيتهوفن إلى وجود أملاح الكالسيوم في عظامه عند الولادة — محدد تمامًا وبالدرجة نفسها بالضبط وراثيًّا وبيئيًّا. (توبي/كوزميدس ١٩٩٥، ٨٣-٨٤)

لم يكن لدى علماء الاجتماع أمثال دوركايم وفيبر مساحة لعلم الأحياء في نظرياتهم الاجتماعية. على النقيض من ذلك، يبدو أن فرويد استمع إلى تنبؤ داروين؛ فقد قدَّم التحليل النفسي كنظرية تستند في النهاية إلى أسس بيولوجية. يدين علم النفس التطوري بالفضل كثيرًا للمبادئ الداروينية. ويسعى علم النفس التطوري إلى إنشاء رابطة وثيقة بين التطور والعلوم الاجتماعية. في الواقع، يلتزم كلٌّ من علم الأحياء الاجتماعي وعلم النفس التطوري بتوحيد العلوم الاجتماعية مع علم الأحياء التطوري. لا يزال حلم الثورة الرابعة حيًّا؛ فإذا أصبحت العلوم الاجتماعية فرعًا متخصصًا في علم الأحياء، فإن الاستقلال التقليدي للعلوم الاجتماعية سينتهي. هل ينجح علم النفس التطوري فيما فشل فيه برنامج ويلسون بسبب التذبذب؟ على المستوى الفلسفي، يستخدم علم النفس التطوري إجراءً أكثر كفاءة، رأينا تطبيقه من قبلُ. يدَّعي علم النفس التطوري أن العلوم الاجتماعية التقليدية قد فشلت. ما الخطأ في نموذج العلوم الاجتماعية القياسي؟ كما رأينا، فإن الفرضية المركزية للعلوم الاجتماعية هي أن الحقائق الاجتماعية تصوغ طبيعة بشرية مرنة. بالنسبة لنموذج العلوم الاجتماعية القياسي فإن التنشئة أكثر أهمية بكثير من الطبيعة. ولا يلتزم نموذج العلوم الاجتماعية القياسي بالضرورة بوجهة نظر لوك التي تقضي بأن العقل البشري سجل فارغ، تترك الثقافة بصماتها عليه. تحت فكرة ويلسون الإطارية يستطيع نموذج العلوم الاجتماعية القياسي أن يقر بوجود آليات ذات أغراض عامة في العقل، ومع ذلك، فهذه القدرات الوراثية العامة لا تصرف الانتباه عن دور الثقافة، ولكن وفقًا لعلم النفس التطوري، تواجه العلوم الاجتماعية التقليدية مشكلة لا يمكن التغلب عليها؛ فلا يستطيع نموذج العلوم الاجتماعية القياسي أن يفسر كيف تحل العناصر الاجتماعية مجموعة من المهام المعقدة. استخدم نعوم تشومسكي حجة مماثلة في نقده للتفسيرات السلوكية لتعلُّم اللغة. وقال تشومسكي إنه لا يمكن تفسير إتقان طفل صغير اللغة البشرية في سياق آليات التغذية الراجعة والاستجابة. وتتمثل العقبة التي تعترض سبيل آليات التعلم هذه في التعقيد النحوي والدلالي للغات البشرية. ويستنتج أنصار علم النفس التطوري من الفشل المزعوم لنموذج العلوم الاجتماعية القياسي الحاجة إلى نموذج جديد للعلوم الاجتماعية، ويطلقون عليه «النموذج السببي المتكامل». ما القدرات والملكات البشرية التي تمكِّنهم من حل المهام المعقدة في العالم المادي والاجتماعي؟ يذكر أنصار علم النفس التطوري (كوزميدس/توبي ١٩٩٨، ٩، ١١؛ توبي/كوزميدس ١٩٩٥، ١٢١، ١٢٣) القدرات الآتية على سبيل المثال:
  • القدرة على تعلُّم اللغات الرمزية.

  • القدرة على التفكير واستخلاص الاستنتاجات.

  • القدرة على فهم العالم المادي.

  • القدرة على توقُّع المستقبل.

  • القدرة على تنظيم الحياة الاجتماعية.

  • القدرة على ممارسة تفضيلات التزاوج وتناول الأطعمة.

  • قدرة الرضع على التعرف على الوجوه.

يتمثل الادعاء المعرفي لعلم النفس التطوري في أن النموذج السببي المتكامل وحده هو الذي يستطيع تفسير المهام المعقدة التي يقوم بها البشر على نحو روتيني.

قبل أن نتناول الادعاءات الواقعية لعلم النفس التطوري، لنتناول بإيجاز نسخة «معدلة» من نموذج العلوم الاجتماعية القياسي. ينبغي أن نلاحظ أن ثمة مجالات واسعة من الحياة الاجتماعية يمكن دراستها بعيدًا عن أي أسس بيولوجية للطبيعة البشرية (الحياة الاقتصادية، البنية الاجتماعية، المؤسسات الثقافية). تقبل هذه النسخة المعدلة — التي ظهرت بالفعل كرد فعل تجاه علم الأحياء الاجتماعي — أن الطبيعة البشرية ربما يكون لها دور أكبر في العلوم الاجتماعية من الدور الذي كان دوركايم على استعداد لقبوله. تخضع الحيوانات لسيطرة تامة من قبل طبيعتها البيولوجية (الغرائز)، ولكن السلوك البشري تحدده الثقافة إلى حد بعيد، وإن كان ذلك في حدود القيود البيولوجية. وفي هذا السياق، تُعرف الثقافة على نحو فضفاض بأنها وجود نظم من القواعد والقيم والرموز مستقلة إلى حد بعيد. يكون بعض هذه المنتجات الثقافية محددًا في سياق معين، ولكن كما أظهرت الحجج ضد النسبوية، تتشاطر الإنسانية أيضًا مجموعة مشتركة من القدرات والممارسات؛ فالبنية الجينية للبشر تفرض قيودًا، تقدِّم نفسها كقدرات ونزعات تتطلب مدخلات ثقافية كي تُظهر نفسها. ثمة سبب للاعتقاد بأن وجهة النظر المعدلة تلك بشأن نموذج العلوم الاجتماعية القياسي يمكن أن تؤدي المهمة المطلوبة منها (ريدلي ٢٠٠٣).

هذه هي النواة المشتركة للقدرات البشرية التي تركز عليها ادعاءات علم النفس التطوري. يرى علم النفس التطوري أن العلوم الاجتماعية التقليدية فشلت بسبب إهمالها للأبعاد البيولوجية للوجود البشري؛ ولذلك ينبغي أن تستند العلوم الاجتماعية إلى نظرية التطور، ولكن بينما اعتنق علم الأحياء الاجتماعي التزامات فلسفية بالاختزالية غامضة إلى حدٍّ ما، يُعد علم النفس التطوري أكثر دقة فلسفيًّا لسببين؛ أولًا: يتبنى أنصار علم النفس التطوري التوجه الذهني الاستدلالي الصحيح؛ فمن وجهة نظر الاستقراء الإقصائي، الاستدلال على النموذج السببي المتكامل يُمثِّل استراتيجية صحيحة، إذا فشل نموذج العلوم الاجتماعية القياسي بالفعل (شكل ٣-٥)، ولكن فشل نموذج ما، مثل نموذج العلوم الاجتماعية القياسي، لا يعطي تلقائيًّا مصداقية للنموذج المنافس. يحتاج النموذج المنافس، مثل علم النفس التطوري، إلى تقديم أدلة مستقلة على ادعاءاته؛ أدلة لا تتفق مع النموذج المنافس. فرَّقنا في فصل سابق بين «الاستدلالات المقبولة والمسموح بها». واعتبرنا الاستدلال على التصميم الذكي استدلالًا مسموحًا به لكنه غير مقبول؛ لأنه لا يمكن أن يوجد دليل تجريبي على وجود مصمم ذكي. وبما أن علم النفس التطوري يستند إلى نظرية التطور، فإنه يسمح لنفسه باستدلال مقبول من السلوك «المرصود» إلى بنيات عقلية «غير قابلة للرصد». إذا كان يمكن إثبات أن الأدلة تنفي مصداقية نموذج العلوم الاجتماعية القياسي وتؤكد مصداقية النموذج المنافس — علم النفس التطوري — فإن هذا يُمثِّل استدلالًا مقبولًا، ومع ذلك، فإننا نتذكر من المناقشات المنهجية لهَكسلي وهِيكل أن النموذج المفضل يجب أن يجد أدلة داعمة، على سبيل المثال في شكل نتائج استنتاجية أو استقرائية.
fig55
شكل ٣-٥: استدلالات من الأدلة للنماذج المتنافسة.
ثمة سبب آخر وراء كون علم النفس التطوري حل محل علم الأحياء الاجتماعي، وهو أنه يقر بفلسفة للعقل. وفلسفته للعقل افتراض مسبق، منفتح على النقد. ويمكن التعبير عن وجهة نظره إزاء العقل على أفضل وجه عن طريق القياس؛ وجهة نظر تعدد الاستخدامات حيال العقل (دينيت ١٩٩٥). ووفقًا لهذا الرأي، جُهِّز المخ البشري بالعديد من الآليات ذات الأغراض المخصصة (دوائر عصبية)، وتُسمى أيضًا «وحدات». يؤيد علم النفس التطوري أيضًا المادية القوية للداروينيين. ويدَّعي الداروينيون أن هذه الآليات تطورت لحل المشكلات التكيفية التي واجهها أسلافنا في ماضينا التطوري. تأمَّل على سبيل المثال غريزة التفكير. تطورت هذه الغريزة كاستجابة لمشكلات معينة في بيئة أسلافنا البعيدين:

العقل هو مجموعة من آلات معالجة المعلومات التي صممها الانتقاء الطبيعي لحل المشكلات التكيفية التي واجهها أسلافنا الذين عاشوا على الجمع والالتقاط. (كوزميدس/توبي ١٩٩٨، ١؛ انظر روز/روز ٢٠٠١ للاطلاع على هجوم مستمر على علم النفس التطوري من وجهات نظر مختلفة.)

شُحذت الدوائر العصبية — أو الوحدات — المختلفة لحل مشكلات التكيف المختلفة. إن افتراض وجود شبكة من الدوائر العصبية في المخ أبعد ما يكون عن قبول الآليات ذات الأغراض العامة في النسخة المعدلة من نموذج العلوم الاجتماعية القياسي. بسبب بطء التطور، تأوي جماجمنا، الحديثةُ، عقلًا من العصر الحجري؛ ولذلك فإن مؤيدي علم النفس التطوري يعتبرون أن بنيتنا الذهنية نصَّبتها القوى التطورية. إن تدرُّج الآلية التطورية يجعل الحضارة الغربية الممتدة على مدار ألفي عام مجرد طرفة عين في السياق التطوري. وفي استناد واضح لفرويد، يرى أنصار علم النفس التطوري أيضًا أن معظم ما يدور في أذهاننا مخفي عن نظرتنا الواعية، ولكن اللاوعي ليس شيطانًا شريرًا، بل هو عبارة عن شبكة من الدوائر العصبية.

كان فرويد سيتعاطف مع العالمية المتأصلة في هذا الرأي؛ فكل الأنواع لديها بنية عالمية نموذجية متطورة. إنها بنية فطرية، بمعنى أن التطور هو الذي صاغها. إن علم النفس التطوري موقف يتبنى رأي كانط لكن في عباءة تطورية؛ لأنه يفترض وجود بنيات «فطرية» عالمية سابقة الوجود (انظر راتكليف ٢٠٠٥، ٥٣-٥٤)، ولكن يتجنب علم النفس التطوري شكلًا صريحًا من أشكال الحتمية. تتطلب البنية الذهنية العالمية خصوصية معينة لتنفيذها. وتؤدي الظروف الاجتماعية المختلفة إلى مظاهر ثقافية مختلفة لعلم النفس الأساسي الناشئ. إن علم النفس التطوري يتبع نهجًا يسير من أسفل إلى أعلى، تكون فيه البنية الناشئة هي الأساس الذي تقوم عليه الخصائص السلوكية.

إن الإجراء المنهجي الذي اعتمده أنصار علم النفس التطوري يذكرنا بالممارسات الاستدلالية في تاريخ العلم. يُدَّعَى أن علم النفس التطوري استدلال لأفضل تفسير. وكما رأينا، توصل فرويد لاستدلالات مماثلة: من السلوك المعقد الظاهر إلى البنية الذهنية اللاواعية، كما أوضحت حجج فرويد أيضًا الخطأ الكامن في الاستدلال لأفضل تفسير؛ فيجب ألا يكون استدلالًا لأفضل تفسير وحسب، ولكن لأفضل تفسير مقارن.

يتأثر علم النفس التطوري على نحو خطير بمشكلة الكيانات غير المرصودة، مثل قريبه الفرويدي. وهو على شفا انتهاك مبدأ شفرة أوكام: «الكيانات لا يجب أن تتضاعف أكثر مما هو ضروري.» بعبارات حديثة، تتلخص شفرة أوكام في التوصية بأنه يجب على الباحثين اختيار أبسط فرضية تناسب الحقائق. ويضاعف المدافعون عن علم النفس التطوري الوحدات العقلية لتتبع القدرات البشرية. ربما كان صحيحًا أنه لا يمكن فهم العقل دون علم الأحياء، ولكن ثمة طرق بديلة لقبول هذا الاكتشاف. يتورط علم النفس التطوري في مغالطة مركزية (دوبري ٢٠٠٥، ٨١–٨٧). تَذَكَّرْ أن أحد الانتقادات الموجهة ضد التصميم الذكي — المستوحى من نيتشه — هو أننا لا نستطيع أن نستدل من وظيفة عضو بيولوجي اليوم على ما كانت عليه وظيفته الأصلية. وعلى نحو مماثل، لا يمكننا أن نستدل بسهولة من سمة «متكيفة» على التطور الجيني؛ فبالقيام بهذا الاستدلال نستبعد إمكانية التطور «الثقافي»؛ أي انتقال السلوك والصفات من خلال عمليات التعلم. ومن خلال تبنِّي وجهة نظر وظيفية في فلسفة العقل كفرضية مسبقة، فإن علم النفس التطوري يفترض وجود تطابق بين الدوائر العصبية والقدرات البشرية الخاصة بحل المشكلات بنسبة واحد إلى واحد. المرء «يستطيع أن ينظر إلى المخ على أنه مجموعة من أجهزة كمبيوتر مصغرة مخصصة «تتكامل عملياتها وظيفيًّا» لإنتاج السلوك» (كوزميدس/توبي ١٩٩٨، ٨-٩). ومع ذلك، هذا يستلزم وجود ثنائية العقل والمخ بدلًا من حلها. يُعرَّف البشر إلى حد بعيد في سياق الصفات الرمزية. ولا يمكننا ببساطة أن نفترض ربط جزء من الآلة العصبية بنوع معين من البنيات العقلية، مما يؤدي إلى سلوك اجتماعي هادف. يُمثِّل علم النفس التطوري برنامجًا بحثيًّا بديلًا لا يزال مضطرًّا لتقديم أوراق اعتماده.

(٦) فرويد وثورات الفكر

هذا الرجل العجوز (…) كان لديه بصر حاد، فلم يخدعه إلا وهْمُ الإيمان المُبالَغ فيه بأفكاره. (أينشتاين متحدثًا عن فرويد، مقتبسة في بايز ١٩٨٢، ٥١٥)

ثمة تناقضات مذهلة في استقبال الجمهور للأفكار الخاطئة في تاريخ العلم، ومن النادر أن تجتذب فكرة علمية منزوعة المصداقية انتباه الصحفيين، وقد تعرضت شخصيات مهمة في تاريخ العلم، مثل بطليموس ولامارك، للتجاهل لصالح أبطال العلم الرسميين. يُظهر الاستعراض الأخير لأفكار فرويد — بمناسبة الذكرى المائة والخمسين لميلاده (٦ مايو ١٨٥٦) — أن فرويد اكتسب تاريخه الصحفي الخاص. لم يُثْنِ الوضع العلمي المشكوك فيه لأفكار فرويد الكتَّاب الصحيفين وفي المجلات عن الاحتفاء بإنجازات فرويد؛ فعلى مدى سنوات عديدة أخبرت المجلات الإخبارية الدولية — لو بوينت، ودير شبيجل، وداي زيت، وتايم — وصحيفة صانداي وساينتيفيك أمريكان القراء بثروات نظرية فرويد. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية كان الاتجاه العام هو إعلان زوال نظرية فرويد، وقد دفع نشر كتاب «الكتاب الأسود للتحليل النفسي» (ماير ٢٠٠٥) مجلة لو بوينت إلى طرح سؤال: «هل ينبغي أن نتخلص من فرويد؟» ولكن المقالات التي نُشرت بمناسبة الذكرى المائة والخمسين لميلاد فرويد قدَّمت تقييمًا أكثر تفاؤلًا. على ما يبدو أن أفكار فرويد أصبحت أكثر رواجًا مرة أخرى. من المتفق عليه أن بعض أفكاره، مثل آرائه بشأن الحياة الجنسية للأنثى، منزوعة المصداقية، ولكن يُقال إن بعض أفكاره الأساسية قابلة للاختبار (انظر سولمز ٢٠٠٤؛ كروز ١٩٩٧؛ جرونباوم ١٩٧٧أ، ب؛ ١٩٧٩). على سبيل المثال، يرجع الفضل إلى فرويد في اكتشاف الآليات اللاواعية للكثير من سلوكنا. ويدَّعي بعض الباحثين، مثل مارك سولمز (٢٠٠٤)، أن نظرة فرويد للأحلام على أنها إشباع للرغبات ربما تكون صحيحة رغم كل شيء. ما أُنقذ من فرويد هو إطار عام؛ نموذج. فعلى سبيل المثال، يتحدث علماء النفس التطوريون عن الآليات العصبية الكامنة وراء سلوكنا الواعي، لكن تفاصيل نماذجهم تختلف كثيرًا عن أفكار فرويد الأصلية، والبعض الآخر لا يزال معاديًا لفرويد كما كان دائمًا. بالنسبة لهم إعادة إحياء أفكار فرويد لا تستحق الجهد المبذول؛ فقد جُرِّدَت من المصداقية وحريٌّ بنا أن نبدأ بداية جديدة.

figure
أحدث نشر هذا الكتاب في عام ٢٠٠٥ تحولًا كبيرًا في فرنسا بعيدًا عن القبول الأعمى للتحليل النفسي لفرويد.

مهما كان الموقف الذي يتخذه الفرد تجاه فرويد «العالِم»، فمن المتفق عليه عمومًا أنه كان شخصية عظيمة في تاريخ الأفكار. أعلن توماس مان أن «فكرة التحليل النفسي فكرة مغيِّرة للعالم» (مان ١٩٣٦، ١٥٠). ترك تأثير فرويد كصائغ للأفكار آثارًا في عالم الفنون (جيمس جويس، وفيرجينيا وولف). لو أن فرويد أعاد رسم الخريطة النفسية للطبيعة البشرية، فهل سيُعتبر — رغم كل شيء — ركيزة من ركائز فكر التنوير، وليس مخادعًا بالعلوم الزائفة؟ (سيوفي ١٩٧٠). عُنون هذا الفصل بأكمله بعنوان فرعي هو «فقدان الشفافية». كان هذا العنوان الفرعي يشير إلى أن فرويد قلَّص مجال التفكير العقلاني — بوصفه مسرحًا للفعل الإنساني — إلى حجم وجده العديد من فلاسفة التنوير غير مقبول، ولكنْ هابرماس والمعلقون الثقافيون غالبًا ما يربطون إنجاز فرويد بمشروع التنوير (هابرماس ١٩٦٨؛ ١٩٧٠). تكمن أهمية نموذج فرويد بالنسبة لهابرماس في طريقة جمعه بين الفهم والتفسير؛ فمن ناحية، يوجد مستوى التأويل، الذي يدفعه المظهر الرمزي للدوافع اللاواعية؛ ومن ناحية أخرى، هذه الدوافع ليست متاحة للمريض على نحو واعٍ؛ فوفقًا لفرويد، تُعد هذه الدوافع بمنزلة أسباب تتطلب تفسيرًا (هابرماس ١٩٦٨ (١٩٧٢)، الجزء الثالث، الفصلان العاشر والحادي عشر؛ ١٩٧٠، ٢٩٧-٢٩٨ (١٩٨٨، ١٨٠-١٨١)؛ ١٩٨٣، ٢١٤). ليس «الفهم» في حد ذاته منهجًا كافيًا، بل إنه في الواقع ليس منهجًا خاصًّا بالعلوم الاجتماعية على الإطلاق، ولكن التفسير لا يمكن أن يكون كافيًا لموضوع العلوم الاجتماعية أيضًا، بسبب كلية وجود التفسير المزدوج في العالَم الاجتماعي (هابرماس ١٩٧٠، ٢٨١، ٢٨٩ (١٩٨٨، ١٦٧، ١٧٤))، ولكن هابرماس يأخذ إصرار فرويد على الطبيعة العلمية لنموذج الشخصية الخاص به على محمل الجد كثيرًا. وكما رأينا، فإن مستوى تفسير البيانات يسبب بالفعل مشكلات كبيرة؛ لأن تفسير الأحلام والأعراض الأخرى للاضطرابات النفسية ليس ثابتًا، ولا تخضع الدوافع اللاواعية لعلاقات إثباتية غير مفسرة.

ولكن ربما يتواصل عزو الفضل إلى فرويد في أنه بيَّن لنا كيفية إجراء حوار متحرر وخالٍ من الشعور بالذنب بشأن الحياة الجنسية البشرية دون خجل، كما حررنا من أغلال القمع الجنسي، وقد فتح تحليله النفسي أعيننا على الدافع اللاواعي للسلوك البشري، الذي غالبًا ما يكون دافعًا جنسيًّا؛ فرغم كل شيء، كان تسليط الضوء على الأركان المظلمة في وجودنا هو التركيز الرئيسي للتنوير. بأي معنًى إذًا يمكننا أن نتكلم عن فقدان الشفافية؟ يوجهنا الجواب على هذا السؤال مرة أخرى إلى تقييم الوضع العلمي لنظرية فرويد. الفرويديون الجدد يعاملون نظرية فرويد على الأقل كنظرية إطارية جادة، كنموذج يقدِّم شيئًا إضافيًّا من أجل تأمُّل الذات (هابرماس ١٩٦٨ (١٩٧٢)، الجزء الثالث؛ سولمز ٢٠٠٤). ويرى مناهضو الفرويدية أن جهود فرويد ليست سوى خداع مبني على علم زائف. مَن على حق؟ تجنبنا في هذا الفصل تقديم إجابة مسبقة على هذا السؤال. لقد درسنا ممارسات فرويد الاستدلالية ووجدنا أنها ناقصة. ذهب فرويد إلى أن دراسات حالته قدَّمت أدلة داعمة لنموذجه التحليلي النفسي، ولكن دلائله ضعيفة وغامضة على حد سواء؛ فالزلات الفرويدية، وتحليل الأحلام، والتداعي الحر ليست لاواعية ولا تحدث بين العقول الواعية، وبيانات الأحلام ليست حقائق تجريبية صلبة؛ فالحلم يظل في حاجة إلى تفسير. وإذا كان التفسير يقدمه التحليل النفسي، فإن بيانات الحلم لا يمكن أن تكون بمثابة تأكيد أو نفي. كان فرويد سيسهم في تحقيق اكتساب للشفافية بدلًا من فقدان الشفافية لو كانت آراؤه قد حظيت بالمصداقية العلمية، ولكن كما يتضح، لم يقدِّم فرويد أي دليل داعم لنظريته. يمكن الحصول على مثل هذه الأدلة يومًا ما في المختبر، ولكن ما دمنا لم نشهد هذا اليوم بعدُ، يبقى فرويد ثوريًّا في تاريخ الفكر وليس تاريخ العلم.

(٦-١) ثورات في الفكر مقابل ثورات في العلم

تناولنا في الفصلين السابقين بعض معايير الثورة العلمية، وتفي الفرويدية ببعض هذه المعايير؛ أولًا: غيَّر فرويد المنظور؛ فقال إن علينا أن ننظر إلى البشر من وجهة نظر دوافعهم اللاواعية، وليس من ناحية عقلانيتهم. وحقق ابتكارًا مفاهيميًّا غير مسبوق، حيث أشار إلى أن اللاوعي يتسم بالدينامية. ثانيًا: بالمعنى الواسع، يمكن القول إن فرويد قدَّم بعض التقنيات الجديدة في دراسة الظواهر العقلية، لكن بالحديث عن العلاج، فإن التداعي الحر والتفسيرات إجراءات نوعية محفوفة بالصعوبات. لا يبدو أن هذه التقنيات مستقلة عن النظرية التي تستخدمها لدعم ادعاءاتها. وفيما يتعلق بهذه المعايير، فإننا أشرنا إلى وجوب أن تكون النظرية الجديدة تفسيرية أيضًا؛ فيجب أن تحل بعض المشكلات المعلقة، وتقدم بعض المكاسب التفسيرية. كانت قدرة نظرية فرويد على حل المشكلات هي التي جذبت الكثير من الانتقادات. وتؤثر ندرة الأدلة الداعمة لادعاءات فرويد على توزيع المصداقية على مساحة النموذج. تفشل الأدلة النوعية في إضفاء المصداقية على النموذج الفرويدي مع نزع المصداقية عن النماذج المنافسة. ولا يمكن أن يُوصف نموذج فرويد بأنه نموذج تفسيري. ويتعلق الجانب الثالث من الثورة العلمية بظهور نهج جديد من خلال تحولات تسلسل الاستدلال، ومع ذلك، يفتقر هذا النهج الجديد إلى قدرات حل المشكلات التي تتمتع بها الكوبرنيكية والداروينية. رابعًا: كان يوجد تقارب بين آراء الخبراء بشأن النهج الجديد. تختلف حالة فرويد عن حالة كوبرنيكوس وداروين؛ فبعد مائة وخمسين عامًا على ميلاد فرويد، لا يزال العالم منقسمًا إزاء ادعاءاته، وهذا يعني أن الجانب الرئيسي لتقارُب الآراء لا يزال مفقودًا من تاريخ نظرية فرويد. ولا تُجمع الأدلة على صحة نموذج فرويد ولا على صحة أي نماذج بديلة على الأقل في المجتمع العلمي. إذا فشل فرويد بوصفه صاحبَ ثورة علمية، فقد نجح بوصفه صاحب ثورة في الفكر؛ فقد اخترقت مصطلحات فرويد وأفكاره بالتأكيد المجال الثقافي، وأوجد فرويد «الإنسان النفساني».

أسئلة مقالية

  • (١)

    اشرح فرضية فرويد بشأن «الحتمية النفسية»، وقيِّم الآثار المترتبة على هذه الفرضية بالنسبة للمكانة العلمية للتحليل النفسي الفرويدي.

  • (٢)

    هل يفي «النموذج الفرويدي» للعقل بأي معايير للمكانة العلمية؟

  • (٣)

    اشرح وقيِّم «ادعاء فرويد» بأنه أكمل الثورة الكوبرنيكية.

  • (٤)

    اشرح بنية «الفرويدية». ما الذي يدعم النظرية وما الذي يناهضها؟

  • (٥)

    هل تُوصف الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية على نحو أفضل عندما توصف بأنها مثال على «قابلية الدحض» أم «الاستقراء الإقصائي»؟

  • (٦)

    ماذا يعني الالتزام ﺑ «العلموية» بالنسبة لنظريات فرويد للتحليل النفسي؟

  • (٧)

    لماذا يوجد خلاف بشأن كون «نظرية فرويد» علمية أم لا؟

  • (٨)

    ألا يمكن أن نعتبر نظرية فرويد مجرد «نموذج»؟ ما الآثار المترتبة على هذا القرار بالنسبة لمكانة التحليل النفسي؟

  • (٩)

    ناقش على نحو نقدي «ادعاء فرويد» أننا «لسنا مسيطرين على زمام الأمور حتى في أجسادنا».

  • (١٠)

    ناقش على نحو نقدي فكرة «اللاوعي» في سياق نظرية فرويد.

  • (١١)

    هل من المعقول التمييز بين «الثورات العلمية» و«الثورات الفكرية»؟ اشرح إجابتك.

  • (١٢)

    اشرح الإنجازات الرئيسية «للثورات الكوبرنيكية» و«الداروينية» و«الفرويدية»، على الترتيب.

  • (١٣)

    اشرح كيف تنشأ قضايا «الذرائعية» و«الواقعية»، على نحو منفصل، في الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية.

  • (١٤)

    لماذا تظهر قضية «الواقعية مقابل الذرائعية» في الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية على حد سواء؟

  • (١٥)

    حلل التحدي الذي يطرحه النموذج الفرويدي للعقل على آراء «التنوير» بشأن الطبيعة البشرية.

  • (١٦)

    اشرح بنية «علم النفس التطوري».

  • (١٧)

    اشرح لماذا يؤكد «علم النفس التطوري» على عالمية العقل البشري.

  • (١٨)

    ناقش أوجه التشابه والاختلاف بين «علم الأحياء الاجتماعي» و«علم النفس التطوري».

  • (١٩)

    اذكر الاختلافات الرئيسية بين النموذج «التفسيري» والنموذج «التجريبي» في العلوم الاجتماعية، وقيِّم نقاط القوة والضعف في كل منهما.

  • (٢٠)

    ناقش ووضح أهمية «الأنماط المثالية» كأداة في العلوم الاجتماعية. كيف ترتبط الأنماط المثالية بالنموذج «التجريبي» و«التفسيري»؟

  • (٢١)

    استخدم أمثلة من علم الفلك وعلم الأحياء والعلوم الاجتماعية لتقييم مدى ملاءمة الاستقراء الإقصائي.

  • (٢٢)

    ناقش مشكلة «نقص الإثبات بالأدلة» فيما يتعلق بثلاث ثورات في الفكر.

  • (٢٣)

    كيف تنشأ مشكلة «النسبوية» في سياق العلوم الاجتماعية؟ هل هي مشكلة زائفة؟ أم أن لها تأثيرًا على العالَم الاجتماعي؟

  • (٢٤)

    ناقش على نحو نقدي التمييز بين «التفكير الذرائعي» و«التفكير الموضوعي» في «النموذج النقدي» للعلوم الاجتماعية.

  • (٢٥)

    ناقش على نحو نقدي آراء فيبر بشأن «الموضوعية» و«حياد القيم» في العلوم الاجتماعية.

  • (٢٦)

    هل سيكون صحيحًا أن نقول، وفقًا للشمولية: إن «المجتمع أكبر من مجموع أعضائه»؟

  • (٢٧)

    هل سيكون صحيحًا أن نقول، وفقًا للفردية: إن «المجتمع ليس سوى مجموع أعضائه»؟

  • (٢٨)

    هل من الممكن الإجابة على «الأسئلة السببية» في العلوم الاجتماعية؟

  • (٢٩)

    ناقش ما تعنيه «العلموية»، كما دافع عنها كونت ودوركايم. تناول مسألة ما إذا كانت نهجًا مناسبًا للعلوم الاجتماعية أم لا.

  • (٣٠)

    اشرح منهج «الفهم» لدلتاي.

  • (٣١)

    ما الآثار التي قد تترتب على «النسبوية» في ممارسات العلوم الاجتماعية؟

  • (٣٢)

    تناول بالشرح المبادئ الرئيسية «للنموذج النقدي» في العلوم الاجتماعية وناقش هل كان بإمكانه تقديم مساهمات أكثر من النماذج القياسية.

  • (٣٣)

    اشرح «النموذج الاستدلالي الطبيعي» و«النموذج الاستقرائي الإحصائي» للتفسير العلمي. هل يمكن استخدامهما في العلوم الاجتماعية؟

  • (٣٤)

    لماذا يجب أن يشعر علماء الاجتماع على نحو خاص بالقلق إزاء التمييز بين «الحقائق» و«القيم» في البحث الاجتماعي؟

  • (٣٥)

    هل يمكن أن توجد «قوانين» في العالَم الاجتماعي؟

قراءت إضافية

  • Abel, Th. [1948]: “The Operation called Verstehen,” American Journal of Sociology 54, 211–18.
  • Apel, K. O. [1979]: Die Erklären: Verstehen-Kontroverse in transzendetnal- pragmatischer Sicht. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
  • Barrow, J. D./F. J. Tipler [1986]: The Anthropic Cosmological Principle. Oxford: Oxford University Press.
  • Becker, G. [1986]: “The Economic Approach to Human Behaviour,” in J. Elster ed. [1986], Rational Choice. London: Blackwell, 108–22.
  • Bhaskar, R. [1978]: A Realist Theory of Science. Sussex: The Harvester Press.
  • Borch-Jacobsen, M. [2005]: “La querelle de la suggestion,” in C. Meyer [2005], 381–8.
  • Braybrooke, D. [1987]: Philosophy of Social Science. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall.
  • Brown, J. A. C. [1962]: Freud and the Post-Freudians. Harmondsworth: Penguin.
  • Bunge, M. [1996]: Finding Philosophy in Social Science. New Haven, CT: Yale University Press.
  • Cioffi, C. F. [1970]: “Freud and the Idea of a Pseudo-Science,” in Explanations in the Behavioural Sciences. F. Cioffi/R. Borger eds. Cambridge: Cambridge University Press, 471–515.
  • Cioffi, C. F. [2005]: “Freud, était-il un menteur?”, in C. Meyer [2005], 42–6.
  • Cohen, J. [2005]: How to Read Freud. London: Granta Books.
  • Comte, A. [1853]: Cours de Philosophie Positive. Paris: Bachelier.
  • Cosmides, L./J. Tooby [1998]: “Evolutionary Psychology. A Primer.” Available at (http://cogweb.ucla.edu/ep/EP-primer.html).
  • Crews, F. et al. [1997]: The Memory Wars—Freud’s Legacy in Dispute. London: Granta Books.
  • Crombie, A. C. [1994]: Styles of Scientific Reasoning in the European Tradition. 3 vols. London: Duckworth.
  • Dahrendorf, R. [1959]: Class and Class Conflict in an Industrial Society. London: Routledge.
  • Davidson, D. [1963]: “Actions, Reasons and Causes,” reprinted in D. Davidson [1980], 3–19.
  • Davidson, D. [1967]: “Causal Relations,” reprinted in D. Davidson [1980], 149–62.
  • Davidson, D. [1970]: “Mental Events,” reprinted in D. Davidson [1980], 207–25.
  • Davidson, D. [1974]: “Psychology as Philosophy,” reprinted in D. Davidson [1980], 229–39.
  • Davidson, D. [1980]: Essays on Actions and Events. Oxford: Clarendon Press.
  • Davidson, D. [1982]: “Paradoxes of Irrationality,” in R. Wollheim/J. Hopkins eds. [1982], Philosophical Essays on Freud. Cambridge: Cambridge University Press, 289–305.
  • Delanty, G./P. Strydom eds. [2003]: Philosophy of Social Science. Philadelphia, PA: McGraw-Hill.
  • Dennett, D. [1995]: Darwin’s Dangerous Idea. London: Penguin.
  • Dilthey, W. [1883]: An Introduction to Human Sciences, in W. Dilthey [1976], 159–67. [Translated from Gesammelte Schriften, Vol. I, xv–xix, 14–21].
  • Dilthey, W. [1894]: “Ideas Concerning a Descriptive and Analytic Psychology,” in Descriptive Psychology and Historical Understanding, transl. M. Zaner/K. L. Heiges. The Hague: Martinus Nijhoff [1977], 21–120 [Translated from Gesammelte Schriften, Vol. V. 139–240].
  • Dilthey, W. [1900]: “The Development of Hermeneutics,” in W. Dilthey [1976], 247–63. [Translated from Gesammelte Schriften, Vol. V. 317–37].
  • Dilthey, W. [1906]: “The Construction of the Historical World in the Human Sciences,” in W. Dilthey [1976], 168–245 [Translated from Gesammelte Schriften, Vol. II, 79–88, 130–66, 189–200; Vol. VII, 228–45].
  • Dilthey, W. [1927]: “The Understanding of Other Persons and their Expressions of Life,” in Descriptive Psychology and Historical Understanding, transl. M. Zaner/K. L. Heiges. The Hague: Martinus Nijhoff [1977], 123–44 [Translated from Gesammelte Schriften, Vol. VII, 205–27].
  • Dilthey, W. [1976]: Selected Writings. H. P. Rickman ed. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Droysen, J. G. [1858]: Grundriß der Historik. Reprinted in Historik. R. Hübner ed. München: Oldenburg.
  • Dupré, J. [2005]: Darwin’s Legacy. Oxford: Oxford University Press.
  • Durkheim, D. [1895/1982]: The Rules of Sociological Method. London: Macmillan.
  • Durkheim, D. [1897]: Suicide. Paris: Felix Alcan [English translation: Suicide. London: Routledge & Kegan Paul, 1952].
  • Earman, J. [1996]: Bayes or Bust? A Critical Examination of Bayesian Confirmation Theory. Cambridge, MA: MIT Press.
  • Elster, J. [1989]: Nuts and Bolts for the Social Sciences. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Elster, J. [2007]: Explaining Social Behavior. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Fay, B. [1994]: “General Laws and Explaining Human Behaviour,” in M. Martin/L. C. McIntyre eds. [1994], 91–110.
  • Freud, S. [1953–74]: The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud. James Strachley ed. London: The Hogarth Press.
  • Freud, S. [1895]: “Project for a Scientific Psychology,” Vol. I. [1966], 295–387.
  • Freud, S. [1897]: “Letter to Fliess” (September 21, 1897), Vol. I [1966], 259-60.
  • Freud, S. [1900]: The Interpretation of Dreams, Vols. IV-V [1953], 1–338, 339–621.
  • Freud, S. [1901a]: “On Dreams,” Vol. V [1953], 631–686.
  • Freud, S. [1901b]: The Psychopathology of Everyday Life, Vol. VI [1960], 1–279.
  • Freud, S. [1905a]: Three Essays on Sexuality, Vol. VII [1953], 130–243.
  • Freud, S. [1905b]: Jokes and their Relation to the Unconscious, Vol. VIII [1960], 9–236.
  • Freud, S. [1908]: “‘Civilized’ Sexual Morality and Modern Nervousness,” Collected Papers II, transl. J. Riviere. London: Hogarth Press [1957], 76–99.
  • Freud, S. [1910]: “The Origin and Development of Psychoanalysis,” transl. in A General Selection from the Works of Sigmund Freud. J. Rickman ed. New York: Liveright Publishing Corporation [1957], 3–36.
  • Freud, S. [1913]: Totem and Taboo, Vol. XIII [1953], 1–161.
  • Freud, S. [1916a]: Introductory Lectures on Psycho-Analysis, Part I, II, Vol. XV [1961], 9–239.
  • Freud, S. [1916b]: Introductory Lectures on Psycho-Analysis, Part IIII, Vol. XVI [1963], 243–463.
  • Freud, S. [1921]: Group Psychology and the Analysis of the Ego, Vol. XVIII [1955], 69–143
  • Freud, S. [1927a]: The Future of an Illusion, Vol. XXI [1961], 5–56.
  • Freud, S. [1927b]: “Humour,” Vol. XXI [1961], 161–6.
  • Freud, S. [1930]: Civilization and its Discontents, Vol. XXI [1961], 64–145
  • Freud, S. [1931]: “Female Sexuality,” Vol. XXI [1927–31], 221–43.
  • Freud, S. [1937]: “Constructions in Analysis,” Vol. XXIII [1937–39], 257–69.
  • Freud, S. [1938]: An Outline of Psychoanalysis, Vol. XXIII [1964], 144–207.
  • Freud, S./J. Breuer [1895]: Studies on Hysteria, Vol. II [1955], 1–305.
  • Freud, S./E. Oppenheim [1911]: “Dreams in Folklore,” Vol. XII [1911–13], 180–203.
  • Friedman, M. [1953]: “The Methodology of Positive Economics,” in Essays in Positive Economics. Chicago: University of Chicago Press, 3–43.
  • Gadamer, H. G. [41975]: Wahrheit und Methode. Tübingen, Germany: Mohr [English translation: Truth and Method. London: Sheed and Ward, 1979].
  • Gellner, E. [21993]: The Psychoanalytic Movement. London: Fontana Press.
  • Giddens, A. [1993]: New Rules of Sociological Method. Cambridge: Polity Press.
  • Grünbaum, A. [1977a]: “How Scientific is Psychoanalysis?” in R. Stern/L. S. Horowitz/J. Lynes eds. [1977], Science and Psychotherapy. New York: Haven Publishing Corp., 219–54.
  • Grünbaum, A. [1977b]: “Is Psychoanalysis a Pseudo-science?” Zeitschrift für philosophische Forschung 31, 333–53.
  • Grünbaum, A. [1979]: “Is Freudian Psychoanalytic Theory Pseudo-Scientific by Karl Popper’s Criterion of Demarcation?” American Philosophical Quarterly 16, 131–41.
  • Grünbaum, A. [1985]: The Foundations of Psychoanalysis—A Philosophical Critique. Berkeley: University of California Press.
  • Habermas, J. [1968]: Erkenntnis und Interesse. Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation: Knowledge and Human Interests. London: Heinemann, 1972].
  • Habermas, J. [1970]: Zur Logik der Sozialwissenschaften. Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation: On the Logic of the Social Sciences. Cambridge, MA: MIT Press, 1988].
  • Habermas, J. [1976]: Zur Rekonstruktion des historischen Materialismus. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
  • Habermas, J. [1980]: “Rekonstruktive versus verstehende Sozialwissenschaften,” in J. Habermas, Moralbewußtsein und kommunikatives Handeln. Frankfurt a./M.: Suhrkamp 1983, 29–51.
  • Habermas, J. [1981]: Theorie des kommunikativen Handelns. Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation: The Theory of Communicative Action. Vol. 1: Reason and the Rationalization of Society. Boston: Beacon Press, 1984).
  • Habermas, J. [1983]: Die Neue Unübersichtlichkeit. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
  • Habermas, J. [1988]: Nachmetaphysisches Denken. Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation: Postmetaphysical Thinking. Oxford Polity Press, 1992).
  • Haeckel, E. [1929]: The Riddle of the Universe. London: Watts & Co. [Translation of Die Welträtsel, 1899].
  • Hayek, F. A. [1955]: The Counter-Revolution of Science. New York: The Free Press.
  • Hollis, M. [1994]: The Philosophy of Social Science. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Jonas, F. [1968–9]: Geschichte der Soziologie. 4 vols. Hamburg: Rowohlt.
  • Kant, I. [1784]: “Was ist Aufklärung?” Berlinische Monatsschrift (Dezember 1784), 481–94 [English translation: “What is the Enlightenment?” in Immanuel Kant, Political Writings. Cambridge: Cambridge University Press, 1991].
  • Kaufmann, W. [41974]: Nietzsche: Philosopher, Psychologist, Antichrist. Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Kincaid, H. [1994]: “Defending Laws in the Social Sciences,” in M. Martin/L. C. McIntyre [1994], 111–30.
  • Kitcher, Ph. [1985]: Vaulting Ambition: Sociobiology and the Quest for Human Nature. Cambridge, MA: MIT Press.
  • Levison, A. B. [1974]: Knowledge and Society. New York: Pegasus.
  • Little, D. [1991]: Varieties of Social Explanation. Boulder, CO: Westview Press.
  • Mackie, J. L. [1980]: The Cement of the Universe. Oxford: Clarendon Press.
  • Mann, Th. [1936]: “Freud und die Zukunft,” in S. Freud, Abriß der Psychoanalyse/Das Unbehagen in der Kultur. Frankfurt a./M.: Fischer 1970, 131–51.
  • Martin, M./L. C. McIntyre eds. [1994]: Readings in the Philosophy of Social Science. Cambridge, MA: MIT Press.
  • McIntyre, L. C. [1994]: “Complexity and Social Scientific Law,” in M. Martin/L. C. McIntyre [1994], 131–43
  • Merton, R. K. [1968]: Social Theory and Social Structure. New York: The Free Press.
  • Meyer, C. et al. [2005]: Le Livre Noir de la Psychanalyse. Paris: Les Arènes.
  • Milgram, S. [1974]: Obedience to Authority. New York: Harper Torchbooks.
  • Mommsen, W. [1974]: Max Weber: Gesellschaft, Politik und Geschichte. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
  • Motley, M. T. [1985]: “Slips of the Tongue,” Scientific American 253 (September), 114–8.
  • Nagel, E. [1961]: The Structure of Science. London: Routledge & Kegan Paul.
  • Nietzsche, F. [1888]: “Ecce Homo,” in The Complete Works of F. Nietzsche. O. Levy ed. Vol. 17. New York: Russell & Russell [1964].
  • Nietzsche, F. [1886]: “Beyond Good and Evil,” in The Complete Works of F. Nietzsche. O. Levy ed. Vol. 12. New York: Russell & Russell [1964].
  • Papineau, D. [1979]: For Science in the Social Sciences. New York: St. Martin’s Press.
  • Parkin, M./D. King [1992]: Economics. Reading, MA: Addison-Wesley.
  • Pais, A. [1982]: Subtle is the Lord. Oxford: Oxford University Press.
  • Phares, E. J. [1984/21988]: Introduction to Personality. New York: HarperCollins.
  • Pinker, S. [2004]: “Why Nature and Nurture Won’t Go Away,” Dædalus (Fall), 1–13.
  • Popper, K. [1957]: The Poverty of Historicism. London: Routledge & Kegan Paul.
  • Popper, K. [31971]: “Die Logik der Sozialwissenschaften,” in Th. W. Adorno et al., Der Positivismusstreit in der deutschen Soziologie. Neuwied/Berlin: Luchterhand 1971, 103–23 [English translation: The Positivist Dispute in German Sociology. London: Heinemann, 1976, 87–104].
  • Ratcliffe, M. [2005]: “An Epistemological Problem for Evolutionary Psychology,” International Studies in the Philosophy of Science 19, 47–63.
  • Ridley, M. [2003]: Nature via Nurture. London: Fourth Estate.
  • Rillaer, J. van [2005a]: “La mythologie de la thérapie en profondeur,” in C. Meyer [2005], 216–33.
  • Rillaer, J. van [2005b]: “Psychanalyse populaire et psychanalyse pour initiés,” in C. Meyer [2005], 235–41.
  • Rillaer, J. van [2005c]: “Les mécanismes de défense de la psychanalyse,” in C. Meyer [2005], 414–41.
  • Rose, H./S. Rose eds. [2001]: Alas, Poor Darwin: Arguments Against Evolutionary Psychology. London: Vintage.
  • Rosenberg, A. [21995]: Philosophy of Social Science. Boulder, CO: Westview Press.
  • Rosenberg, A. [2004]: “Lessons from Biology for Philosophy of the Human Sciences,” Philosophy of the Social Sciences 35, 3–19.
  • Ruse, M. [1979]: Sociobiology: Sense or Nonsense? Dordrecht: Reidel.
  • Ruben, D. H. [1985]: The Metaphysics of the Social World. London: Routledge & Kegan Paul.
  • Ryan, A. [1970]: The Philosophy of the Social Sciences. London: Macmillan.
  • Sahlins, M. [1976]: The Use and Abuse of Biology. An Anthropological Critique of Sociobiology. Ann Arbor, MI: University of Michigan Press.
  • Salmon, M. H. [2003]: “Causal Explanations of Behaviour,” Philosophy of Science 70, 720–38.
  • Sayer, A. [2000]: Realism and Social Science. London: Sage.
  • Searle, J. [2004]: Mind. Oxford: Oxford University Press.
  • Sherif, M. [1936]: The Psychology of Social Norms. New York: Harper Torchbook, 1966
  • Shils, E. A./H. A. Finch eds. [1949]: The Methodology of the Social Sciences: Max Weber. Glencoe, IL: The Free Press.
  • Smith, M. J. [1998]: Social Science in Question. London: Sage.
  • Solms, M. [2004]: “Freud Returns,” Scientific American (May), 56–63.
  • Sterelny, K. [1988]: “Critical Notice. Kitcher, Philip, Vaulting Ambition 1985,” Australasian Journal of Philosophy 66, 538–55.
  • Stevenson, L./D. L. Haberman [42004]: Ten Theories of Human Nature. New York: Oxford University Press.
  • Sulloway, F. J. [1979]: Freud, Biologist of the Mind. Cambridge, MA: Harvard University Press 1992.
  • Sulloway, F. J. [1991]: “Reassessing Freud’s Case Histories: The Social Construction of Psychoanalysis,” Isis 82, 245–75.
  • Sulloway, F. [2005a]: “Freud recycleur: cryptobiologie et pseudoscience,” in C. Meyer [2005], 49–66.
  • Sulloway, F. [2005b]: “Qui a peur de l’homme aux loups?” in C. Meyer [2005], 81–6.
  • Sulloway, F. [2005c]: “L’Homme aux rats comme vitrine de la psychanalyse,” in C. Meyer [2005], 95–100.
  • Tawney, R. H. [1922/1990]: Religion and the Rise of Science. London: Penguin.
  • Thomas, D. [1979]: Naturalism and Social Science. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Tooby, J./L. Cosmides [1995]: “The Psychological Foundations of Culture,” in The Adapted Mind. J. H. Barkow/L. Cosmides/J. Tooby eds. Oxford: Oxford University Press 1995, 19–136.
  • Weber, M. [1904]: “Die ‘Objektivitat’ sozialwissentschaftlicher Erkenntnis,” in M. Weber [1973], 186–262 [English translation: “Objectivity in Social Science,” reprinted in E. A. Shils/H. A. Finch, 1949, 50–112].
  • Weber, M. [1904-5]: Die protestantische Ethik und der Geist des Kapitalismus [English translation: The Protestant Ethics and the Spirit of Capitalism. London: Unwin University Books, 1930].
  • Weber, M. [1905]: “Objective Possibility and Adequate Causation in Historical Explanation,” reprinted in E. A. Shils/H. A. Finch, 1949, 164–88.
  • Weber, M. [1913]: “Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie,” in M. Weber [1973], 97–150.
  • Weber, M. [1914]: “Der Sinn der ‘Wertfreiheit’ in den Sozialwissenschaften,” in M. Weber [1973], 263–310 [English translation: “The Meaning of Ethical Neutrality,” reprinted in E. A. Shils/H. A. Finch, 1949, 1–49].
  • Weber, M. [1915]: “The Social Psychology of World Religions,” reprinted in From Max Weber: Essays in Sociology. H. H. Gerth/C. Wright eds. London: Routledge & Kegan Paul, 1948, 267–301.
  • Weber, M. [1968]: Economy and Society. New York: Bedminster Press [English translation of Wirtschaft und Gesellschaft. Tübingen, Germany: J. C. B. Mohr, 51972].
  • Weber, M. [51973]: Soziologie, Universalgeschichtliche Analysen, Politik. J. Winckelmann ed. Stuttgart: Körner.
  • Weber, M. [1978]: Selections in Translation. W. G. Runciman ed. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Webster, R. [1996]: Why Freud was Wrong. London: Fontana Press.
  • Weinert, F. [1993]: “Laws of Nature: A Structural Approach,” Philosophia Naturalis 30/2, 147–71.
  • Weinert, F. [1995]: “Laws of Nature—Laws of Science,” in F. Weinert ed. [1995], Laws of Nature. Berlin: Walter de Gruyter, 3–64.
  • Weinert, F. [1996]: “Weber’s Ideal Types as Models in the Social Sciences,” in A. O’Hear ed. [1996], Verstehen and Humane Understanding. Royal Institute of Philosophy. Supplement: 41. Cambridge: Cambridge University Press, 73–93.
  • Weinert, F. [1997]: “On the Status of Social Laws,” Dialectica 51, 225–42.
  • Weinert, F. [1999]: “Habermas, Science and Modernity,” in A. O’Hear ed. [1999], German Philosophy Since Kant. Royal Institute of Philosophy Supplement: 44. Cambridge: Cambridge University Press, 329–55.
  • Weinert, F. [2004]: The Scientist as Philosopher: Philosophical Consequences of Great Scientific Discoveries. New York: Springer.
  • Wilson, E. O. [1978]: On Human Nature. Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Wilson, E. O. [1980]: Sociobiology.The Abridged Edition. Cambridge, MA: The Belknap Press.
  • Winch, P. [1958]: The Idea of a Social Science and its Relation to Philosophy. London: Routledge & Kegan Paul.
  • Winch, P. [1964]: “Understanding a Primitive Society,” American Philosophical Quarterly I, 307–24, reprinted in Rationality. B. R. Wilson ed. London: Blackwell 1979, 78–111.
  • Wittgenstein, L. [1980]: Vermischte Bemerkungen/Culture and Value. Oxford: Blackwell.
  • Woodward, J. [2003]: Making Things Happen. Oxford: Oxford University Press.
  • Wright, G. H. von [1971]: Explanation and Understanding. Ithaca, NY: Cornell University Press.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤