الفصل الثالث

الوظيفة والتكيُّف

إحدى السمات اللافتة في العلوم البيولوجية هي كثرة نزوعها إلى مفهوم «الوظيفة». تأمل العبارات التالية. وظيفة قوقعة السلطعون هي حماية أحشائه؛ وظيفة كليتَي الإنسان هي تنقية الدم؛ وظيفة رقص ذَكَر طائر الجنة هي جذب الإناث للتزاوج. إن عبارات من هذا النوع، التي من الممكن أن نُسميَها «عبارات إسناد الوظيفة»، من الممكن أن نجدها في أيٍّ من مراجع علم الأحياء، وعادةً ما تمرُّ دون أن نلتفت إليها. وهي في ذلك تتباين تباينًا لافتًا مع العلوم غير الحيوية التي تكاد تخلو من أي حديث عن الوظيفة. فعلماء الجيولوجيا لا يناقشون وظيفة الأنهار الجليدية؛ وعلماء الفلك لا يناقشون وظيفة الكواكب؛ وعلماء الكيمياء لا يناقشون وظيفة الروابط التساهمية. ولو ناقشوا ذلك فلن يُفهَم قصدُهم بسهولة. فلماذا إذَن يَكثُر حديث علماء الأحياء عن الوظيفة، وما المقصود بها بالتحديد؟

الإجابة السطحية عن هذا السؤال تقول إن الحديث عن وظيفة عنصر بيولوجي ما هي ببساطة ذِكر ما يفعله هذا العنصر أو وصف تأثيراته. من هذا المنظور، القول بأن وظيفة قوقعة السلطعون هي حماية أحشائه يعني أن تلك هي وظيفته الوحيدة؛ والقول إن وظيفة رقصة الطائر هي جذب الإناث للتزاوج يعني أن تلك هي وظيفتها الوحيدة؛ وهكذا. ولكن لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا تمامًا. ففي النهاية قوقعة السلطعون لها آثار أخرى بجانب حماية الأحشاء، مثل جعل التقاط السلطعون أيسر على الصيادين على سبيل المثال. لكننا لن نصف هذا بأنه وظيفة القوقعة. بالمثل، عندما يؤدي ذَكَر طائر الجنة رقصته للتودد، كثيرًا ما سيجذب إليه الضواري لا الإناث فحسب؛ لكن جذب الضواري ليس وظيفة الرقصة، بل مجرد نتيجة يصادف أن تسببت فيها الرقصة. كما تُظهر هذه الأمثلة، ليست كل آثار أي عنصر بيولوجي جزءًا من وظيفته؛ أن نعتقد غير ذلك هو عدم إدراك للفارق بين الوظيفة الحقيقية وما يمكن أن نسميه «أثرًا جانبيًّا غير مقصود». يستدعي علماء الأحياء ضمنيًّا هذا التمايز كلما استخدموا الاصطلاح الوظيفي.

تنشأ معضلة فلسفية عند هذا المنعطف. حيث إنه من السهولة أن يبدوَ أن للحديث الوظيفي في علم الأحياء بُعدًا «معياريًّا» قائمًا على أحكام قيمية. (في الفلسفة، يختلف المنهج المعياري عن الوصفي؛ إذ يتناول الأول ما يجب أن تكون عليه الأشياء بينما يتناول الثاني الأشياء على حالها الفعلي.) عندما يتحدث عالم أحياء عن وظيفة عنصر بيولوجي ما فهو يبدو وكأنما يتطرق إلى الغرض «المُفترَض» من هذا العنصر، وليس ما يقوم به هذا العنصر فعليًّا. ما يشير إليه هذا هو أنه في المواضع التي يكون الحديث عن الوظيفة منطقيًّا، يكون الحديث عن الخلل الوظيفي منطقيًّا أيضًا. فالقوقعة التي لا تحمي أحشاء السلطعون أو الكلية التي لا تُنقِّي الدم في الجسد، قد فشلتا في القيام بوظيفتَيهما أو أصيبتا بخللٍ وظيفي. لكن هذا مربك نوعًا ما. فمن الذي يقرر الغرض من عنصر بيولوجي ما؟ العلوم الطبيعية مُختصَّة بوصف العالم كما هو، وليس إطلاق أحكام عن كيف يجب أن يكون. فهل علم الأحياء فعلًا استثناء لهذا المبدأ؟ أو هل هناك سبيل للتغاضي عن البعد المعياري بتفسيره، ربما عن طريق تحويل عبارات إسناد الوظيفة إلى تعبيرات أخرى؟ نعود إلى هذا اللغز في موضع لاحق.

لعلَّك تتساءل إذا كانت تلك الضجَّة كلها سببها مجرد كلمة. الإجابة هي لا، لسببَين. أولًا، ما يثير تلك المسألة الفلسفية ليس «الوظيفة» وحدها، بل مجموعة أشمل من التعبيرات المُستخدمة في علم الأحياء. تشتمل هذه المجموعة على تعبيرات أخرى مثل «من أجل» و«بغرض». ومِن ثَم، فإن سَداة النبات هي من أجل صنع حبوب اللقاح، وطيور السنونو تهاجر إلى الجنوب بغرض الهروب من الشتاء القاسي. ثانيًا، الظاهرة اللافتة هنا لا تخصُّ اللغة فحسب، بل تخص أيضًا نمطًا مميَّزًا من التفسير. نمطًا يستلزم تفسير وجود عنصر بيولوجي ما أو تفسير طبيعته من خلال الحديث عن الغرض من هذا العنصر، أي وظيفته. على سبيل المثال، هب أننا نسأل لماذا يمتلك نبات الصبَّار شوكًا. الإجابة هي: إن الغرض من شوك الصبَّار هو ردع آكلات العشب. أو هب أننا نسأل لماذا تمتلك الأسماك خياشيم. الإجابة هي: للأسماك خياشيم للتنفس تحت الماء. كما تبين هذه الأمثلة، غالبًا ما يكون لذِكر وظيفة العنصر البيولوجي دور رئيس في التفسيرات التي يقدمها علماء الأحياء.

هذا التفسيرات الوظيفية تتشابه بوضوح مع التفسيرات المطلقة (أو التكيفية) التي تَطرَّقنا لها في الفصل السابق، التي تفسر خصائص الكائن الحي من خلال بيان إسهامها في دعم صلاحيته البيولوجية. في الواقع، قد يظن المرء أن التفسيرَين — الوظيفي والتكيفي — هما في الحقيقة واحد. من هذا المنظور، تكون وظيفة عنصر بيولوجي ما هي ببساطة أهميته التكيُّفية، أي إسهامه المحدد في صلاحية الكائن الحي؛ وعملية تفسير وجود أو طبيعة ذلك العنصر، من خلال ذكر وظيفته، تكافئ طرح تفسير تكيفي، أو على الأحرى تكافئ القول بأن الانتخاب الطبيعي أدى إلى تطوره. هذا منظور جذَّاب، لكنه كما سنرى، ليس الطرح الوحيد لكيفية فهم الحديث الوظيفي في علم الأحياء.

الوظائف والأدوات

لقد ذكرنا أن العلوم الفيزيائية قلما تستخدم مفهوم الوظيفة. ولكن، يوجد سياق غير بيولوجي يشيع فيه الحديث عن الوظيفة، ألا وهو وصف الأدوات التي صنعها الإنسان. على سبيل المثال، نقول إن وظيفة الساعة الشمسية هي معرفة الوقت؛ ووظيفة العارضة هي حفظ اتزان القارب؛ ووظيفة الصمام هي الحفاظ على ضغط الهواء داخل الإطار. بخلاف الكائنات الحية، الأدوات صمَّمها البشر بقصد أداء وظيفة معينة. وهذه الحقيقة تبدو لازمةً لفهم المقصود بالحديث عن الوظيفة في هذا السياق. ما يجعل وظيفة الساعة الشمسية هي معرفة الوقت فعلًا هو أن شخصًا ما صمَّمها عمدًا بنِيَّة متابعة الوقت بدِقَّة. وكذلك عارضة القارب وصمام الإطار. إذن وظيفة الأداة أو أحد أجزائها، تنشأ من قصد مصممها البشري.

تتشارك وظائف المصنوعات مع الوظائف الحيوية في أوجه لافتة. أولًا، ينطبق الاختلاف بين الوظيفة وتأثيراتها الجانبية غير المقصودة بشكل مساوٍ على الأدوات. فلعارضة القارب استخدامات إضافية بجانب حفظ اتزان القارب، مثل إيواء محار البرنقيل وتوفير موضع لتعليق موجه الدفة. لكن هذه ليست وظائف العارضة؛ ليست الأغراض التي قصَد صانعو القارب أن تُستَخدم العارضة من أجلها. ثانيًا، ينطبق مبدأ الخلل الوظيفي أيضًا على الأدوات. فالساعة الشمسية التي لا تتتبَّع الوقت بدقة، أو الصمام الذي يُسرِّب الهواء بهما خلل؛ إذ لا يعملان كما يجب. بالتالي فإن مفهوم أداء الوظيفة «على الوجه الصحيح» ينطبق على الأدوات، وهو يَعني «بما يتفق مع مقاصد الصانع». ثالثًا كما هو الحال في العناصر الحيوية، قد يفسر ذكر وظيفة أداة ما السبب وراء وجودها، أو سبب امتلاكها لخواصها. هَب أن طفلًا سأل عن سبب وجود العارضة في القارب وسبب وجود الصمام في الإطارات الهوائية. الإجابة المعقولة ستكون أن الغرض من العارضة هو حفظ اتزان القارب واستقراره، والغرض من الصمام هو الحفاظ على ضغط الهواء في الإطار.

بوضع تلك التشابهات في الاعتبار، قد يتساءل المرء إن كان الحديث عن الوظيفة إنما هو من مخلفات معتقدات عصر ما قبل الداروينية، عندما كان يُعتقد أن الكائنات الحية مثل الأدوات قد صممت بغرض معين. من منظور الخلق الإلهي، يمكن فَهْم سمات الوظيفة من الناحية الطبيعانية باعتبارها إشارة لمقاصد الخالق (على افتراض أنه بالإمكان معرفة هذه المقاصد). يمكن تفسير العبارة القائلة بأن وظيفة هيكل السلطعون هي حماية أحشائه بأن الإله قد صمَّم الهيكل بغرض حماية الأحشاء؛ وبالمثل بالنسبة إلى عبارات إسناد الوظيفة الأخرى. إذَن فربما يكون الحديث عن الوظيفة في علم الأحياء المعاصر مجرد إرث عابر من فترة زمنية سابقة، مثلما يتحدث علماء الفلك عن «شروق الشمس» على الرغم من أن لا أحد ما زال يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض.

هذا طرح مترابط منطقيًّا، وهو يفسر بالتأكيد أوجه التشابه بين وظائف الأدوات والوظائف البيولوجية. لكنه ليس معقولًا جدًّا. فعندما يستخدم علماء الأحياء المعاصرون الصور الدالة على الوظيفة، يعكسون انطباعًا قويًّا بأنهم يستعملونها بالمعنى الحرفي، وأن ما يقولونه له معنًى محدد غير مجازي. ما لم يكن الأمر كذلك، فسيصعب إيجاد أي منطق في العديد من الجدالات في علم الأحياء عن وظائف صفات معيَّنة. على سبيل المثال، كان يقال قديمًا إن الزائدة الدودية البشرية ليس لها وظيفة؛ لكن الأبحاث الحديثة شكَّكت في ذلك؛ إذ ذهبت إلى أن الزائدة الدودية لها وظيفة، وهي تخزين بكتيريا القناة الهضمية المفيدة. استعمل علماء الأحياء المشاركون في هذا البحث المصطلحات الدالة على الوظيفة عمدًا؛ لذا يصعب تصديق أن مصطلحاتهم هي مجرد آثار باقية من رؤية ما قبل تطورية للعالم.

هناك طرح بديل يقول إن التشابهات بين وظائف الأدوات والوظائف البيولوجية تنشأ لأن الانتخاب الطبيعي يلعب دورًا مماثلًا لدور المصمم البشري. وهو اقتراح معقول نوعًا ما، فكما رأينا في الفصل الثاني، الكائنات الحية التي تطورت عادة ما يتجلى فيها التصميم بوضوح، باعتبار ما فيها من تعقيد تكيفي بالغ. إذَن هذا الطرح يقول إن الحديث عن وظيفة عنصر ما يكون معقولًا إذا تحقق فيه شرطان. إمَّا أن يكون فاعلًا ما قد صممه متعمدًا بغرض تأدية وظيفةٍ ما، أو أن تتجلى فيه أمارات التصميم، أي إنه قد تطوَّر بفعل الانتخاب الطبيعي نتيجة لتأثيره على الصلاحية. لو صح ذلك، فمن شأنه أن يفسر منطقية الحديث عن وظيفة الكُلية أو الساعة الشمسية، لكن ليس عن وظيفة النهر الجليدي. يقودنا هذا الطرح مباشرة إلى أكثر التحليلات الفلسفية عن الحديث الوظيفي في علم الأحياء شعبيةً: نظرية سببية الوظائف.

نظرية سببية الوظائف

تعني دراسة «سببية» شيء ما تتبُّع تسلسل أسبابه. الفكرة الأساسية وراء النظرية السببية بسيطة، ألا وهي أن الحديث عن الوظيفة البيولوجية لعنصر ما يعادل الحديث عن السبب الذي أدَّى بالانتخاب الطبيعي لتطوُّر هذا العنصر. تأمَّل رقصة طائر الجنة مرة أخرى. اعتبار أن الانتخاب الطبيعي أدَّى إلى تطور رقصة الطائر بسماتها الدقيقة، لأنها تجذب الإناث للتزاوج لا لأنها تجذب الأعداء لهي فرضية معقولة. معقولة لأن جذب الإناث له تأثير إيجابي على صلاحية الكائن الحي، على عكس جذب المفترسين. إذا صحَّت تلك الفرضية، فإذن النظرية السببية تقول إن وظيفة الرقصة هي جذب الإناث. بصفة أعم، تَنصُّ النظرية على أن وظيفة أي عنصر أو صفة بيولوجيين مرتبطة بالأثر الذي دفع الانتخاب الطبيعي إلى تفضيله. تُعرف هذه النظرية أيضًا باسم نظرية «التأثير المُنتخَب» للوظيفة.

لنأخذ الفراء الأبيض للدب القطبي مثالًا آخر. لهذه الصفة عدة آثار، منها عكس ضوء الشمس وتمويه الدب أثناء الصيد، ومنح صغار الدببة القطبية مظهرًا محببًا يستحسنه رواد حديقة الحيوان. باعتبار ما نعرفه عن البيئة التي تطور فيها الدب القطبي، فمن المرجح جدًّا أن يكون الأثر الثاني — التمويه — هو السبب الذي أدَّى بالانتخاب الطبيعي إلى تطور الفراء الأبيض للدب القطبي. فالدب المموه جيدًا لديه أفضلية انتخابية واضحة مقارنة بالدب الذي يفتقر إلى التمويه، لذا في المتوسط سيترك ذرية أكثر. لو صح ذلك، فالنظرية السببية تشير إلى أن التمويه هو وظيفة فراء الدب القطبي، بينما عكس ضوء الشمس وإضفاء مظهر مُحبَّب للبشر ليسا من وظائف الفراء. هذه هي النتيجة الصحيحة بديهيًّا، وتتوافق جيدًا مع الاستخدام البيولوجي الفعلي.

تفسر النظرية السببية جيدًا الكثير من الحديث عن الوظيفة في علم الأحياء، وهي بجانب ذلك لها ميزات أخرى. إذ تقدم أساسًا راسخًا للتمييز بين الوظيفة والأثر الجانبي، من حيثية سبب تفضيل الانتخاب الطبيعي للصفة. وتعلل الدور التفسيري الذي يلعبه إسناد وظيفة للصفة، لا سيما حقيقة أن الاستشهاد بوظيفة صفة ما يفسر سبب وجودها. تَعِد النظرية السببية أيضًا بأن تنفي البعد المعياري الظاهري للحديث عن الوظائف عن طريق تفسيره. فهي تشير إلى أن الفارق بين الوظيفة والخلل الوظيفي لا يشتمل في الحقيقة على أحكام تقييمية حول الصورة التي «ينبغي» أن تكون عليها الكائنات الحية. فالقول بأن الكُلْية بها خلل وظيفي، يعني من منظور النظرية السببية ببساطة أن الكُلْية لم يَعُد لها الأثر الذي تطوَّرت من أجله في الماضي. بمعنى أن ثمة حقيقةً موضوعية حول الوظيفة التي «يُفترض» أن تقوم بها الكُلى وغيرها من الصفات البيولوجية، وهي حقيقة مُستمدَّة من تاريخها التطوري.

يتعلق أحد التحديات التي تواجه النظرية السببية بفردانية الإسنادات الوظيفية التي تمنحها النظرية. عادة ما يشير علماء الأحياء إلى «وظيفة» الصفة، في إشارة إلى أن للصفة وظيفة واحدة فقط. لكن إذا كانت الوظيفة تُعرَّف بأثر محدد، فغالبًا ما سيكون للصفة الواحدة أكثر من وظيفة محتملة. على سبيل المثال، بدلًا من أن نقول إن وظيفة الفرو الأبيض للدب القطبي هي التمويه، يمكن أن نقول على حد السواء بأن وظيفته هي السماح للدب بالصيد نهارًا، أو تعزيز نجاح الدب في الصيد، أو المساعدة في تجنُّب تضوُّره جوعًا؛ أو ببساطة زيادة صلاحيته. يؤدي فرو الدب كل هذه الوظائف، وسيكون اختيار أحدها باعتباره «السبب» وراء تفضيل الانتخاب الطبيعي للفرو الأبيض حُكمًا اعتباطيًّا. على الرغم من صحة ذلك، فإن المشكلة هنا ليست خاصةً بالنظرية السببية للوظيفة ولا حتى بعلم الأحياء. إذا وقع تأثير ما في نهاية سلسلة طويلة من الأسباب، فسيكون هناك عدة أسباب كل منها مرشح لأن يكون «السبب» الأصلي. هَب أن أحدًا سألك عن سبب قيام الحرب العالمية الأولى. الإجابات الممكنة تشمل: الطموحات الإمبريالية للقوى الأوروبية؛ وسباق التسلح اللاحق؛ والطلقة التي أصابت الأرشيدوق فيرديناند؛ وغيرها من الأسباب. إذَن كيف نحدد «السبب» الأصلي؟ هذه معضلة فلسفية عامة إلى حدٍّ ما، كُتبَت فيها الكثير من المؤلفات. (أحد الحلول يذهب إلى أن تحديدنا «السبب» الأصلي هو مسألة براجماتية لا حقيقة موضوعية.) أيًّا ما كان حل هذه المعضلة، فمن المرجح أنه سيكون قابلًا للتطبيق على النظرية السببية.

يأتي تحدٍّ آخر للنظرية السببية من السمات التي تطورت في الأصل لغرض معيَّن ولكن استحوذ عليها فيما بعد غرضٌ آخر. تظهر هذه الصفات، المعروفة باسم «التكيُّفات المسبقة»، بشكل متكرر في عملية التطور. على سبيل المثال، تطور ريش الطيور في الأساس بغرض التنظيم الحراري، لكن الانتخاب الطبيعي عدَّله فيما بعد بغرض تحسين أدائها الديناميكي الهوائي. فما هي إذَن وظيفةُ الريش وَفْق النظرية السببية؟ الحفاظ على دفء الطيور أم مساعدتها للتحليق بكفاءة، أم كلاهما؟ لا تبدو أن هناك طريقة واضحة للإجابة عن هذا السؤال. لكن هذا لا يمسُّ جوهر النظرية السببية لسببَين. أولًا، من الممكن تجاوز المشكلة جزئيًّا من خلال تنقيح إسنادات الوظائف. فريش الطيور لا يمثِّل فئة متجانسة؛ فبعض أنواع الريش مثل ريش الذيل اختصاصها التحليق، بينما تختص أنواع أخرى مثل الزغب بالحفاظ على الدفء. علاوة على ذلك، كل أنواع الريش لديها جوانب متعددة، كالشكل والملمس والحجم على سبيل المثال؛ بالتركيز على جانب مُحدَّد، سيكون من الممكن حصر الوظائف المحتملة. ثانيًا، على أي حال لا تتفق آراء علماء الأحياء حول كيفية تناول الحديث عن الوظيفة في حالات التكيُّفات المسبقة. فكون التحليل الفلسفي لمعنى الحديث عن الوظائف لا يثمر عن إجابة واضحة هو أمر لا يؤخذ عليه.

على الرغم من مميزات النظرية السببية، فهي تشتمل على معنًى ضمني يراه الكثيرون مُشكِلة. إذ تشير النظرية ضمنًا إلى أنه حينما يستعمل عالم أحياء تعبيرًا لإسناد وظيفة لصفةٍ أو عضوٍ ما، فهو يُخبر بشيءٍ ما ولو ضمنيًّا عن مسار التاريخ التطوري. هذا مقبول في بعض السياقات لكنه غير مستساغ في سياقات أخرى. لنأخذ القلب البشري مثالًا. كما يعلم أي تلميذ في المدرسة، كان ويليام هارفي، وهو طبيب من القرن السابع عشر، هو من قال إن وظيفة القلب هي ضخ الدم في الجسد؛ ويُجمِع علماء الأحياء الجدد على أن هارفي كان مُحقًّا في هذا. لكن نظرية التطور لم تَكُن قد وُضعَت بعد في القرن السابع عشر، لذا عندما تحدث هارفي عن وظيفة القلب، فإنه من الواضح أنه لم يقصد «الأثر الذي يُعزى إليه انتخاب القلب». إذا أصررنا على صحة النظرية السببية، فإذَن نحن مُجبَرون على أن نستنتج أن هارفي لم يفهم ما تعنيه كلماته، أو أنه استخدم كلمة «وظيفة» بمعنًى مختلف تمامًا عن علماء الأحياء الجدد. وكلا الاحتمالين مستبعدان.

هذا المثال متطرف لتوضيح نقطة أعم، وهي أن بعض الإسنادات الوظيفية في علم الأحياء لا يبدو أن لها عَلاقةً بالتطور؛ وإنما تُستنتَج من دراسة آليات الكائنات الحية في الحاضر. وهذا ينطبق بالأخص على العلوم الطبية الحيوية. على سبيل المثال، عادة ما يحاول الباحثون الدارسون لأسباب مرض ما على المستوى الجزيئي أن يحدِّدوا وظيفة المسار الكيميائي الحيوي الذي أدَّى إلى هذا المرض. لهذه الغاية، هم يقومون بدراسات تجريبية عن آلية عمل تلك المسارات وتأثيرها على الخلايا والأنسجة. هذا النوع من البحث لا يمتُّ بصلة إلى التطوُّر في ظاهره، لكنه عادة ما يؤدي إلى إسنادات وظيفية موثوق بها. تدعم هذه الملاحظة المنافس الرئيسي لنظرية السببية، ألَّا وهي نظرية «الدور السببي» للوظيفة.

نظرية «الدور السببي» للوظيفة

إن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها نظرية الدور السببي هي أن الإسنادات الوظيفية عادة ما تتم في سياق نوع معين من البحث العلمي، ألا وهو محاولة فَهْم كيفية عمل نظام أو عملية بيولوجية معقَّدة. تأمل التنظيم الحراري في الإنسان على سبيل المثال. فهو يشتمل على نظام تحكُّم، حيث تراقب منطقة تحت المهاد في الدماغ درجة حرارة الجسم وترسل نبضات لتحفيز الاستجابات العضوية الملائمة كالتعرُّق. يشتمل النظام على عدد كبير من الأجزاء المتخصصة والأنظمة الفرعية، لكلٍّ منها وظيفة محددة. لفَهْم آلية عمل النظام الكلي، يجب أن نعرف إسهامات كلِّ جزء منه. هنا يأتي مفهوم الوظيفة بالنسبة إلى نظرية الدور السببي. إن وظيفة جزء ما هي ببساطة إسهامه في عمل النظام الكلي، الذي يُمكِّن النظام من أداء وظيفته. إذَن وظيفة المستقبلات الحرارية في منطقة تحت المهاد هي قياس درجة حرارة الدم، بينما وظيفة الغدد العَرقية هي إفراز العرق على سطح الجلد. بسبب أداء المستقبلات الحرارية والغدد العرقية هاتين الوظيفتين، يتمكن الجسم من الحفاظ على ثبات درجة حرارته.

لنأخذ الجهاز المناعي التكيُّفي في الفقاريات الذي يتخلص من مسببات الأمراض في الجسم مثالًا آخر. يتكون ذلك النظام أيضًا من عدة أجزاء، ألا وهي الخلايا التائية والبائية بمختلف أنواعها، التي يلعب كلٌّ منها دورًا محددًا؛ ويتطلب فَهْم كيفية عمل الجهاز المناعي معرفة ماهية هذه الأدوار. بالتالي فالخلايا التائية القاتلة تتعرف على الخلايا المصابة بفيروس وتقتلها، بينما الخلايا البائية ترتبط بالمستضدات وتنتج أجسامًا مضادة. هذه هي إذَن وظائف الخلايا التائية والبائية من منظور نظرية الدور السببي، فبسبب أدائها تلك الأدوار يتمكن جهاز المناعة التكيفي من التخلص من مسببات الأمراض. باختصار، إن وظيفة عنصر ما هي مساهمته المحددة، أو دوره السببي، في عمل النظام الكلي؛ بينما الأثر الجانبي لأي عنصر هو ما يؤديه هذا العنصر لكنه لا يقوم بمثل هذه المساهمة.

لقد رأينا أن النظرية السببية تؤكد أن الإسنادات الوظيفية هي عادة ما تكون إجابات للسؤال المطلق «ما سبب وجود …؟» (ما سبب وجود الشوك في الصبَّار؟ هو موجود لإبعاد آكلات العشب.) على النقيض، فإن نظرية الدور السببي تلفت الانتباه إلى السؤال المباشر، ألا وهو «كيف يعمل؟» (كيف يتخلص الجهاز المناعي من مسببات الأمراض؟ بواسطة الخلايا التائية والبائية التي تقتل الدخلاء وتُنتج أجسامًا مضادة.) يحتل السؤال الأخير مركزًا رئيسيًّا في العديد من الدراسات البيولوجية، لا سيما في مجالات مثل علم وظائف الأعضاء، وعلمَي الأحياء الخلوي والجزيئي. مثل هذه الدراسات عادة ما تستلزم التركيز على بنية أو عملية معقدة، ودراسة التفاعلات السببية بين أجزائها المختلفة، ومحاولة تحديد ماهية المساهمة التي يقوم بها كلُّ جزء. هنا تبرز أهمية الحديث عن الوظيفة، بالنسبة إلى نظرية الدور السببي.

الميزة الرئيسية لنظرية الدور السببي هي أنها تفسر النقطة التي أثارت إشكالًا بالنسبة للنظرية السببية، وهي أن إسنادات الوظيفة غالبًا ما تتم في سياق دراسة آلية عمل نظام حيوي في الوقت الحاضر، لا في سياق دراسة التاريخ التطوري. إن نظرية الدور السببي هي المسئولة عن حقيقة أن علماء الأحياء ما قبل داروين كانوا يعلمون الكثير عن الوظائف، وأن علماء الأحياء المعاصرين يسندون الوظائف في سياقات غير تطورية. وحتى لو خرج إلى الوجود فجأة كائن حي مكتمل البارحة، فهذا لن يُحدث فارقًا في صحة عبارة تقرير وظيفة أحد صفاته، إذا اعتبرنا الوظيفة دورًا سببيًّا. لكن بالنسبة إلى النظرية السببية ستكون العبارة خاطئة بالضرورة، إذ ليس لذلك الكائن التاريخ التطوري اللازم لإكساب صفاته وظائفها.

رغم ذلك تتفق النظرية السببية ونظرية الدور السببي من الناحية العملية على كيفية تعيين الوظائف، ولهذا غالبًا لا يُلاحَظ الفرق بينهما. لنعد إلى مثال القلب في الثدييات. سبب محاباة الانتخاب الطبيعي للقلب هو أنه يضخ الدم في جميع أنحاء الجسم؛ وصحيح أيضًا أن ضخَّ الدم هو مساهمة القلب في عمل الجهاز القلبي الوعائي، وإلى ذلك تُعزى آلية عمل القلب في الحاضر. بالمثل، السبب الذي دفع الانتخاب الطبيعي إلى تطوير شوك الصبَّار هو أنه يردع آكلات العشب، كذلك ردع آكلات العشب هو الدور السببي الذي يلعبه الشوك اليوم في النظام الدفاعي للصبَّار. إذَن في هاتين الحالتين يتطابق التأثير المُنتخب والدور السببي. ولكن هذا لا يحدث بالضرورة في جميع الحالات، وحتى إن حدث، تظل النظريتان مختلفتين حول أسباب «صحة» إسناد وظيفة معينة إلى صفةٍ ما.

أحد الانتقادات لنظرية السببية يقول بأن النظرية في جوهرها تستلزم وجود مصدر للتصميم، وهو إمَّا أن يكون نابعًا من مقاصد مصمِّم أو من الانتخاب الطبيعي. لفَهْم هذا النقد، لاحظ أننا عندما شرحنا فكرة الدَّور السببي آنفًا، تكلمنا عن «آلية تشغيل» نظام بيولوجي أو كيفية «عمله». لكن أليست تلك طريقة غير مباشرة للحديث عما يُفترض أن يفعله النظام؟ عندما نحدد الدور السببي للغدد العرقية في نظام التنظيم الحراري، فنحن نفترض ضمنيًّا أن النظام يهدف إلى تحقيق هدف معين، ألا وهو الحفاظ على ثبات درجة حرارة الجسم. لكن بحسب هذا الانتقاد، هذا الافتراض غير مبرر إلا إذا كان النظام قد صُمم بشكلٍ واعٍ لأجل هذا الهدف، أو كان الانتخاب الطبيعي قد طوره بغرض تحقيقه. باختصار، لا يمكننا الربط بين وظيفة عنصر ما ودوره السببي في نظام أكبر إلَّا إذا كان هذا النظام هو نتيجة لتصميم واعٍ أو ما ينوب عنه، وهو الانتخاب الطبيعي. إذَن في النهاية، تعتمد صحة الإسنادات الوظيفية الصحيحة في علم الأحياء على الانتخاب الطبيعي؛ مِن ثَم فالنظرية السببية هي الرابحة.

هذا وجه انتقاد قوي لنظرية الدور السببي، لكنه ليس حاسمًا بالكلية. إذ ترى وجهة نظر بديلة أنه ينبغي لنا ببساطة أن نُقر مفهومَي الوظيفة كليهما، أو نكون «تعدديين» باصطلاح الفلاسفة. من المنظور التعددي، التأثير المُنتخَب والدور السببي مفهومان صحيحان للوظيفة البيولوجية، لكن كلًّا منهما مُصمَّم لنوع مختلف من البحث. الأول له أهمية في السياقات التطورية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة المطلقة المتعلقة بأسباب تطور السمات؛ والثاني له أهمية عندما نحاول الإجابة عن الأسئلة المباشرة المتعلقة بكيفية عمل الكائنات الحية. باعتبار أن هذين النوعَين من الاستقصاء مختلفان جوهريًّا، يجادل التعدديون بأنه من الخطأ محاولة دمج مفهومَي الوظيفة أو محاولة الاختيار بينهما؛ بل ينبغي أن نقبل الاثنين وأن نأمل أن يرشدنا السياق إلى الاختيار من بينهما. على الرغم من جاذبيتها، فإن وجهة النظر التعددية تثير العديد من الأسئلة المربكة، مثل لماذا نقبل استخدام كلمة واحدة لوصف مفهومَين مختلفَين تمامًا.

على الرغم من أن الجدال حول مسألة الوظيفة يدور في الأساس بين الفلاسفة، فإنه ذو صلة بالممارسة العملية لعلم الأحياء. أحد الأمثلة التي تشرح هذا مصدره الجدل الأخير في علم الأحياء حول «خُردة الحمض النووي». تذكر أن الحمض النووي هو الجزيء الكبير الذي تتكون منه الجينات. ولكن في معظم الأنواع، بما فيها البشر، تُشكِّل الجينات نسبةً ضئيلةً فقط من إجمالي محتوى الحمض النووي في الخلية. على مدى عقود كان العلماء مجمعين على أن الجزء الأكبر من الحمض النووي في الجينوم البشري لا وظيفةَ له. لكن في عام ٢٠۱٢ طعَن باحثون من مشروع «إنكود» ليدحضوا هذا الإجماع. بناءً على كمية ضخمة من البيانات التجريبية، ذهب الباحثون إلى أن معظم ما يُطلَق عليه خُردة الحمض النووي له وظيفة كيميائية حيوية؛ إذ يلعب دورًا حاسمًا في سلوك الخلايا والأنسجة. ولكن عالم الأحياء الكندي المرموق دبليو. فورد دوليتل شكَّك في هذا التفسير للبيانات. إذ جادل بأن باحثي مشروع «إنكود» يستخدمون ضمنيًّا معيارًا متحررًا للوظيفة، ألا وهو وجود أي تأثير كيميائي حيوي، وهذا من شأنه أن يخلط بين الوظيفة والأثر الجانبي. يذهب دوليتل إلى أنه إذا عرفنا الوظيفة بالأثر المحدد، كما يقترح، فسيظل من الممكن المحاججة لصالح تفسير «الخردة» التقليدي. أيًّا كان من يتبين أنه على حق، فإن هذا المثال يوضح كيف يمكن أن يكون لجدالٍ علمي بُعد فلسفي خفي.

الوظائف والبرنامج التكيفي

بافتراض أننا نقبل تفسير النظرية السببية لمعنى عبارات إسناد الوظيفة في علم الأحياء. هناك سؤال أبعد؛ ألا وهو كيف يمكننا التأكد من صحة تلك العبارات. باعتبار أن معرفتنا بالتاريخ التطوري غير كاملة، كيف يمكننا أن نعرف يقينًا وظيفة السمة، أو أن لها وظيفة من الأساس؟ الإجابة الموجزة هي أنه لا يسعنا التيقُّن، لكن يمكننا في الغالب أن نصل إلى ما يشبه اليقين العملي. إذ في كثير من الأحيان، تكون البيئة التي تَطوَّر فيها نوعٌ ما مماثلة لتلك التي يسكنها هذا النوع في الوقت الحاضر؛ لذا إذا كانت السمة لها أهمية تكيفية واضحة في بيئتها الحاضرة، فغالبًا ما يكون من السهل إلى حد كبير تحديد سبب تطورها في الأساس، لا سيما إذا استطعنا إجراء مقارنات ذات صلة بين الأنواع. على سبيل المثال، يوفر فراء الدب القطبي الأبيض فائدة واضحة له أثناء الصيد في القطب الشمالي اليوم؛ ونحن نعلم أن الدببة القطبية تطوَّرت حديثًا من الدببة البُنيَّة التي تفوقها في الانتشار الجغرافي بكثير. إذَن لا يوجد شك فعلي في أن التمويه هو السبب الذي دفع الانتخاب الطبيعي لأن يطور للدب القطبي فروه الأبيض. ليس هذا مثالًا فريدًا؛ مع ذلك يجب الإقرار بأنه في حالات يكون تمييز الوظائف، بمعنى التأثيرات المنتخبة، أكثر صعوبة.

إن مسألة كيفية تحديدنا بمصداقية وظائف الصفات كانت محل جدل كبير في علم الأحياء التطوري في القرن العشرين. في ورقة علمية شهيرة نشرت عام ۱۹۷۹، شنَّ عالما الأحياء ستيفن جاي جولد وريتشارد لونتين هجومًا على ما أطلقوا عليه البرنامج التكيفي في علم الأحياء. يشتمل هذا البرنامج على دراسة الكائنات الحية باعتبار أنها وصلت إلى درجة عالية من التكيُّف في المجمل، وأن سماتها لها وظائف قابلة للتحديد. عادة يعد المنطق التكيفي ناجحًا، إذ إن العديد من الكائنات الحية قد وصلت بالفعل إلى درجة عالية من التكيف مع بيئتها بفضل الانتخاب الطبيعي. لم يُنكر جولد ولونتين هذا، لكنهم اتهموا مناصري التكيفية بالخروج عن المنهج العلمي. إذ جادلا بأن التكيفيين يفترضون دون أي دليل أن لكل صفة وظيفة، وأنهم ببساطة يؤلفون قصصًا عن ماهية هذه الوظائف المزعومة بدون أدلة كافية. (وأطلقوا عليها «قصص صادقة»، على اسم كتاب قصص رديارد كيبلينج للأطفال.) يرى جولد ولونتين إذَن أن التكيفيين ارتكبوا نوعًا من الانحياز المعرفي؛ ألا وهو تحفزهم لإيجاد وظيفة لأي شيء يبحثونه متجاهلين احتمال وجود صفات قد لا يكون لها أي تفسير وظيفي أو تكيفي على الإطلاق.

اقترح جولد ولونتين عدة أسباب لعدم وجود وظيفة لصفة ما في الكائن الحي، ومِن ثَم الأسباب التي قد تجعل المنطق التكيفي مضللًا. وبَنيا أول تلك الأسباب على تشبيه معماري لا يُنسى. يشير مصطلح «عُروة العِقد» إلى المساحة المثلثية التي تتوسط أحد جانبي قوس منحنٍ وإطار مستطيل أو قُبَّة (شكل ٣-١). في كاتدرائية سانت مارك في البندقية، زُيِّنَت عروة العقد بلوحات أنيقة لتلاميذ المسيح الاثني عشر. لكن الاعتقاد بأن عروة العقد لها «غرض» سيكون اعتقادًا خاطئًا حتمًا؛ إذ لم يصنعها المهندس المعماري بغرض تزيينها. إنما عروة العقد ما هي إلا منتج ثانوي حتمي لبناء سقف مُقبَّب. بالمثل، ذهب جولد ولونتين إلى أن العديد من صفات الكائنات الحية قد تكون منتجات ثانوية ليس لها وظيفة في حد ذاتها. أحد الأمثلة المحتملة لذلك هي الذقن البشرية. نظرًا لأن القردة العليا لم يكن لها ذقون، فنحن نعلم أن الذقن تطور في وقتٍ ما في سلالة أشباه البشر. لكن لماذا؟ على الرغم من أنه تم اقتراح ميزات تكيفية للذقن، مثل المساعدة في تخويف الأعداء في الشجارات، يعتقد الكثير من علماء الأحياء أن الذقن ليس إلا منتجًا ثانويًّا للكيفية التي تنمو بها الجمجمة وعظام الفك في البشر. لو صح ذلك، فالذقن إذن بمثابة عروة عقد، ومِن ثَم لا يمكن إسناد تفسير وظيفي له. بالمثل، يرى البعض أن بعض جوانب العقل البشري كالوعي، هي بمثابة عروة عقد نشأت باعتبارها نتيجة ثانوية لزيادة حجم المخ.
fig1
شكل ٣-١: عروة العقد هي مساحة مثلثة بين قوس منحنٍ وإطار مستطيل أو قبَّة.

هناك سبب ثانٍ لافتقار صفة إلى الوظيفة له عَلاقة بما قبله. ينشأ هذا السبب من حقيقة أن الجين الواحد قد يؤثر على عدة صفات. نتيجة لذلك، غالبًا ما توجد ارتباطات وراثية بين الصفات، أي إن الكائن الحي الذي يحمل الصفة أ يرجح أن يكون حاملًا للصفة ب أيضًا. أي إنه إذا كان الانتخاب الطبيعي يحابي إحدى الصفتين، فستلازمها الأخرى أو ستتطفل عليها. على سبيل المثال، افترض أنه في نوع ما من النباتات، تتمتع تلك التي تمتلك أزهارًا زاهية الألوان بأفضلية انتخابية على ذات الألوان الأبهت، إذ تكون أكثر جذبًا للملقِّحات. افترض أيضًا أنه لأسباب وراثية يرتبط امتلاك أزهار ملوَّنة بامتلاكها أسْدية قصيرة. افترض أن حجم السداة نفسه محايد انتخابيًّا، أي إنه لا يؤثر على الصلاحية. ومِن ثَم، إذا كان الانتخاب الطبيعي يؤدي بالنباتات إلى أن تُطوِّر أزهارًا أزهى لونًا، فسيؤدي بها إلى أن تمتلك أسدية أقصر. لكنه سيكون من الخطأ أن نسعى لإيجاد تفسير وظيفي لتطور أسدية أقصر في النباتات. فصفة قصر السداة لا وظيفة لها في حد ذاتها؛ بل إنها جاءت ملازمةً لصفة تألق لون الأزهار، التي لها وظيفة، ألا وهي جذب الملقحات. المغزى هو أنه عندما يؤدي الانتخاب الطبيعي إلى تطور صفة لها وظيفة، فقد تلازمها أيضًا صفة لا وظيفة لها.

السبب الثالث الذي قد يجعل افتراض الوظيفة مضللًا ينبع من الصفات اللاوظيفية أو بقايا عملية التطور. (الزائدة الدودية أحد الأمثلة التقليدية لذلك، لكن كما سبق أن ذكرنا فإن افتقادها للوظيفة من عدمه لم يُحسم بعد.) القشعريرة التي تصيب الإنسان هي مثال أفضل. فالقشعريرة عند البشر هي شكل متدهور من صفة موجودة في جميع الثدييات، ألا وهي انتصاب شعيرات الفرو استجابة للبرد أو الخوف. هذه الاستجابة تكيفية عند الكثير من الثدييات، إذ يساعد انتصاب الفراء على حبس الحرارة وقد يرهب الأعداء. لكن شعيرات جسد الإنسان أقصر من أن تؤدي أيًّا من الأمرين بفاعلية. لو أن باحثًا يتبنَّى النظرة التكيفية ولا يدرك أن القشعريرة ليست «أصلية» في السلالة البشرية، فقد يفترض خطأً أن للقشعريرة وظيفةً ما حتمًا عند البشر، وقد يقوده افتراضه ذلك إلى وضع قصة تخمينية لتفسير هذه الوظيفة. هذا بالطبع سيكون خاطئًا. المغزى العام هو أن التطور لا يصمم كل نوع من الصفر، بل يُبنى على ما هو موجود بالفعل؛ والصفات اللاوظيفية هي إحدى نتائج ذلك.

تقودنا هذه النقطة إلى السبب الرابع لقصور المنطق التكيفي، ألا وهو وجود ما يسمى «قيود النمو». فعملية النمو الجنيني التي بها تنمو اللاقحة إلى كائن حي بالغ، قد تحد كثيرًا من التباينات المحتملة التي يختار منها الانتخاب الطبيعي. تأمَّل مثلًا تصميم الجسد الرباعي الأطراف في كل الفقاريات البرية. نظرًا لشيوع تصميم الجسد هذا، فقد يميل أحد ذو نظرة تكيفية إلى منحه سببًا وظيفيًّا؛ أي القول بأن وجود أربعة أطراف له أفضلية تكيفية على أي عدد آخر من الأطراف. قد يكون هذا صحيحًا؛ لكن يوجد تفسير بديل ألا وهو أنه ببساطة عندما تطور تصميم الجسد رباعي الأطراف لأول مرة، لم يكن ثمة سبيل لأن يُلغيه التطور، باعتبار آلية عمل النمو. أي إنه لا توجد طريقة سهلة تعيد بها الطفرات الوراثية ترتيب تصميم الجسم الكامل الذي وُضِع في المراحل الأولى للنمو دون إحداث تأثيرات مدمرة في باقي أجزاء الجنين. إذا كان الأمر كذلك، فإن التفسير الصحيح لسبب شيوع تصميم الجسد الرباعي الأطراف من الناحية التصنيفية ليس هو التكيف مع البيئة فحسب، بل ينطوي أيضًا على قيود نمائية.

توضح عروة العقد، وتلازُم الصفات، والصفات اللاوظيفية، والقيود النمائية خطورة الافتراض دون أدلة قوية أن لكل صفة في كل كائن حي وظيفةً أو أنها تكيفية. كان جولد ولونتين محقَّين في التركيز على هذا، وقد كان نقدهما بمثابة تصحيح مفيد لمسار الاتجاه التكيفي المخالف للمعايير في علم الأحياء (على الرغم من أنه يمكن القول إنهما صوَّرا آراء خصومهما بشكل كاريكاتوري إلى حدٍّ ما). يدرك علماء الأحياء المعاصرون جيدًا الصعوبة المنهجية في تحديد ما إذا كان لصفة ما وظيفة (بمعنى أثر مُنتخَب) وإذا كانت كذلك، فما وظيفتها. إن أكثر المحاولات حذرًا لتوضيح الوظيفة تتضمن مجموعة متنوعة من الأدلة بما فيها المقارنات بين الأنواع، والتحليل الوراثي، والتعديلات التجريبية لصفة ما لمعرفة تأثيرها على الصلاحية، وغيرها. في أفضل الحالات، تلتزم تلك الأبحاث بالمعايير العلمية الصارمة، وترقى إلى أكثر بكثير من مجرد تأليف قصة «صادقة». لكن يجب الاعتراف أيضًا بأنه في الكثير من الأوساط البيولوجية ما يزال يوجد نزوع للبحث عن وظائف للسمات، رغم نقد جولد ولونتين. سواء كان هذا يُعبِّر عن انحياز معرفي، أو كان استجابة منطقية لانتشار التعقيد التكيفي في الطبيعة، فهذه مسألة تحتمل الآراء.

ما خلص إليه جولد ولونتين هو أنه من الخطأ «تجزئة» كائن حي إلى مجموعة من السمات ثم البحث عن تفسيرات وظيفية لكل سمة منفردة. وإنما يجب التعامل مع الكائن الحي باعتباره «كلًّا متكاملًا». وهو اقتراح وجاهته محل جدل. فصحيح أن النزوع إلى التجزئة هو سمة من سمات التفكير التكيفي؛ وهو قطعًا لا يناسب جميع الحالات، لأن التطور لا يستطيع دائمًا أن يغير أحد أجزاء الكائن الحي دون إحداث تأثيرات غير مباشرة في مواضع أخرى منه. على سبيل المثال، إذا طورت الزرافات أعناقًا أطول، فقد يؤدي ذلك في الوقت نفسه إلى تقليل سرعة ركضها؛ لذا لا يمكن تحسين طول العنق وسرعة الجري منفصلين. ولكن من الناحية العملية، كثيرًا ما ثبت أنه من الممكن دراسة تطور صفة واحدة بمعزل نسبيًّا عن باقي صفات الكائن الحي. على سبيل المثال، يستطيع علماء الأحياء دراسة تطور رقصة طيور الجنة دون دراسة تفضيلاتها الغذائية، والعكس صحيح. لذلك في بعض الحالات على الأقل، لا تُمثِّل معاملة الكائن الحي باعتباره مجموعةً من الصفات المنفصلة عائقًا أمام الفَهم التطوري. كان جولد ولونتين محقَّين في لفت الانتباه إلى الميل إلى التجزئة المتغلغل في جزء كبير من المنطق التطوري، ولكن ما إذا كان هذا يُمثِّل مشكلة أم لا، فذلك ينبغي تقييمه باعتبار كل حالة منفصلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤