الفصل الخامس

الأنواع والتصنيف

يتضمن جزء مهم من البحث العلمي تصنيف الأشياء محل الدراسة إلى أنواع أو فئات. فيصنف الفيزيائيون الجسيمات الأساسية إلى باريونات أو لبتونات أو ميزونات حسب كتلتها. ويصنف علماء الفلك المجرات إلى إهليجية أو لولبية أو غير منتظمة حسب شكلها الظاهر. ويصنف الجيولوجيون الصخور إلى نارية أو رسوبية أو متحولة حسب كيفية تشكُّلها. أحد أهداف التصنيف هو إيصال المعلومات. فأنت إذا وجدت صخرة وأخبرك عالم جيولوجيا أنها نارية، فتلك معلومة تخبرك الكثير عن سلوكها المرجح. لذلك ينبغي أن يجمع مخطط التصنيف الجيد بين العناصر التي تتشابه في الجوانب ذات الأهمية ومِن ثَم يُتوقع أن يكون سلوكها مشابهًا.

يثير التصنيف في العلوم قضية فلسفية عميقة. لاحظ أنه نظريًّا يمكن تصنيف جميع العناصر بأكثر من طريقة. على سبيل المثال، يمكن تصنيف الجسيمات الأولية من خلال اتجاه اللف المغزلي لها بدلًا من كتلتها، مما ينتج عنه تقسيمها إلى نوعين: البوزونات والفرميونات. كيف إذَن نختار بين طرق التصنيف المختلفة؟ هل ثمة طريقة «صحيحة» لتصنيف الكائنات الحية في مجال معين، أم أن جميع مخططات التصنيف هي في النهاية اعتباطية؟ هذا سؤال يُثار بصفة عامة، لكن تركيزنا هنا ينصب على إجابته من جانب مجال التصنيف البيولوجي، أو عِلم التصنيف.

تقليديًّا، صنَّف علماء الأحياء الكائنات الحية باستخدام نظام لينيوس، الذي سُمي باسم كارل لينيوس عالم الطبيعة السويدي الذي عاش في القرن الثامن. أساسيات نظام لينيوس واضحة ومباشرة. أولًا، يُدرَج كل كائن حي تحت نوع، ويُدرَج كل نوع تحت جنس، وكل جنس تحت فصيلة، وكل فصيلة تحت رتبة، وكل رتبة تحت طائفة، وكل طائفة تحت شعبة، وكل شعبة تحت مملكة. وبالتالي فإن الأنواع هي الوحدة التصنيفية الأساسية؛ بينما الأجناس والفصائل والرُّتَب وما إلى ذلك تُسمى «الرتب التصنيفية العليا». لنأخذ مثالًا، قطتي الأليفة تنتمي إلى نوع القط المنزلي (فيليس كاتوس)، الذي يشكل جنبًا إلى جنب مع حفنة من أنواع القطط الصغيرة الأخرى جنس القطط. هذا الجنس نفسه ينتمي إلى فصيلة السِّنورِيَّات، رتبة اللواحم، طائفة الثدييات، شعبة الحبليات، مملكة الحيوان. لاحظ أن الاسم اللاتيني للنوع يشير إلى الجنس الذي ينتمي إليه، ولكن ليس أكثر من ذلك.

من السمات البارزة لنظام لينيوس هيكله الهرمي. إذ يُشكِّل عدد من الأنواع جنسًا واحدًا، ويُشكِّل عدد من الأجناس فصيلة واحدة، وهكذا. لذلك كلما تحركنا لأعلى، قلَّ عدد الأصناف في كل رتبة تصنيفية. في قاعدة الهرم توجد حرفيًّا ملايين الأنواع، ولكن في قمته لا يوجد سوى عدد قليل من الممالك: الحيوانات والنباتات والفطريات والطلائعيات والعتائق والبكتيريا. ليس لكل الأنظمة التصنيفية في العلوم ذلك الترتيب الهرمي. على سبيل المثال، العناصر الكيميائية مُرتبة في مجموعات وَفْق العمود الرأسي الذي تقع فيه في الجدول الدوري؛ لكن هذه المجموعات لا تندرج تحت مجموعات أخرى كما في نظام لينيوس. أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام، وسنعود إليه، هو «لماذا» يجب أن يكون التصنيف البيولوجي هرميًّا.

خدم نظام لينيوس علماء الأحياء جيدًا لسنوات، ولا تزال بعض عناصره مستخدمة حتى يومنا هذا. هذا مُستغرَب نوعًا ما لأن الرؤية العلمية للعالم التي يستند إليها قد تغيرت كثيرًا. ينتمي لينيوس إلى عصر ما قبل الداروينية وكان مسيحيًّا متدينًا مؤمنًا بقصة الخلق التوراتية. اعتبر لينيوس نظام التصنيف الذي وضعه محاولة لاكتشاف التقسيمات الموضوعية للكائنات الحية التي خلقها الرب الموجودة منذ الأزل. كان لينيوس يستغرب تمامًا فكرة انحدار الأنواع المعاصرة من أسلاف مشتركة.

لفَهْم كيف يمكن لنظام لينيوس أن يظل صامدًا بعد التحول من نظرة خلق الإله للعالم إلى النظرة التطورية، تذكر أن التطور عملية بطيئة للغاية. لذلك على الرغم من أن جميع أشكال الحياة قد انحدرت من سلف مشترك، فإن هذا يتوافق مع وجود انفصالات بين الكائنات الحية الموجودة اليوم. وهي قطعًا انفصالات يمكن تحديدها. فالظاهر أن الكائنات الحية تتجمع في أصناف منفصلة الكثير منها يمكن تحديده بسهولة. ففي نهاية المطاف، يختلف مظهر الهامستر موضوعيًّا عن الفأر أو السنجاب؛ مع أننا إذا تتبَّعنا أسلافهم بما يكفي، فسنصل إلى شكل من الحياة لا يسهل إدراجه تحت أيٍّ من هذه الأصناف الثلاثة. لذا فإن حقيقة التطور لا تُقوِّض تلقائيًّا محاولة إيجاد طريقة موضوعية لتصنيف الكائنات الحية المعاصرة. في الواقع، لا يزال علماء الأحياء المعاصرون يعترفون بالعديد من الأنواع وبعض التصنيفات العليا التي وضعها لينيوس.

هذا وقد أدَّى ظهور علم الأحياء التطوري في النهاية إلى تغييرات أساسية في التصنيف البيولوجي. بالفعل من الناحية النظرية والعملية. تجلت أهمية علم التصنيف، أو «النظاميات الحيوية» كما يُسمى اليوم باعتباره تخصصًا مستقلًّا في القرن العشرين، نتيجة وجود احتياج إلى استيضاح المبادئ المُستخدَمة في التصنيف. الغريب أن علماء الأحياء لم يكونوا دائمًا متفقين على هذه المبادئ، وهو ما يرجع جزئيًّا إلى اختلافات فلسفية متعلقة بها. أدَّى ذلك إلى جدل مُطوَّل حول التصنيف البيولوجي بدأ في السبعينيات ولا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا، شارك فيه الفلاسفة بإسهامات كبيرة.

تنقسم مشكلة التصنيف البيولوجي إلى قسمين. أولًا، كيف ينبغي أن تصنف الكائنات الحية تحت الأنواع؟ ثانيًا، ما إن نفرغ من ذلك، كيف ينبغي تنظيم الأنواع بعد ذلك في الأصناف الأعلى؟ على الرغم من أن هذين السؤالين مترابطان إلَّا أنَّ كلًّا منهما يثير مسائل مختلفة نوعًا ما، لذا يستحقان معالجة منفصلة.

مشكلة النوع

كثيرًا ما يناقش علماء الأحياء ما يسمونه «مشكلة النوع». ويقصد بها مشكلة وضع تعريف دقيق للنوع. من المستغرب إلى حدٍّ ما أنه لا يوجد اتفاق حول هذا الأمر. إذ تكثر التعريفات المتنافسة للنوع، أو «مفاهيم النوع» كما يُطلَق عليها. هذا الخلاف له تبعات عملية. إذ كثيرًا ما يختلف علماء الأحياء حول عدد الأنواع التي تحتوي عليها أصنوفة معينة فعليًّا. على سبيل المثال، تأمل فصيلة البقريات وهي من الثدييات المجترة مشقوقة الظِّلْف (والتي تشمل البيسون والظباء والأغنام والماشية). تقليديًّا، كان يعتقد أن فصيلة البقريات تحتوي على ۱٤۳ نوعًا حاليًّا. ولكن في عام ٢٠۱۱، أوصت مجموعة من الخبراء باعتماد ٢۷۹ نوعًا من البقريات؛ لا نتيجة لأي اكتشافات تجريبية جديدة، بل لأنهم تبنَّوا مفهومًا مختلفًا للنوع. وقد رفض خبراء آخرون هذا الاقتراح واعتبروه تضخمًا تصنيفيًّا لا مبرر له. مثل هذه الخلافات هي تبعات لعدم إيجاد حل لمشكلة النوع بعد.

غالبًا ما يتفاجأ غير المتخصصين في علم الأحياء بوجود مشكلة متعلقة بالنوع. فكلمة «نوع» هي كلمة دارجة في اللغة الإنجليزية، ويشبه معناها الدارج إلى حدٍّ كبير معناها الاصطلاحي في علم الأحياء. علاوةً على ذلك، يمكن لمن لم يَدرُس علم الأحياء إصدار أحكام صحيحة بشأن انتساب الكائنات إلى الأنواع. إذ يستطيع طفل في الثالثة من العمر أن يخبرنا أن حيوانَين ما في الحديقة هما كلبان، حتى لو كانا من سلالتين مختلفتين؛ وسيؤكد عالم الأحياء أن الطفل على صواب؛ فالكلبان ينتميان بالفعل إلى نوع واحد، ألا وهو نوع الكلب المنزلي (كانيس فاميلياريس). ومِن ثَمَّ من الطبيعي أن نعتقد أن انتماء كائن حي ما إلى نوعٍ ما هو أمر واضح مُسلَّم به. وهو الرأي الذي يقبله دون شك أغلب غير المتخصصين في علم الأحياء.

تتوافق وجهة النظر المنطقية هذه مع النسخ المختلفة من عقيدة «الأصناف الطبيعية» الفلسفية، التي شاعت منذ عصر أرسطو. تنصُّ هذه العقيدة على أن هناك طُرقًا لترتيب الأشياء في أصناف طبيعية بمعنى أنها تتوافق مع التقسيمات الموجودة بالفعل في العالم، لا التي تعكس المصالح البشرية. العناصر والمركبات الكيميائية هي أصناف طبيعية نموذجية. تأمَّل على سبيل المثال كل الكتل المصنوعة من الذهب الخالص في الكون. هذه الكتل هي من صنف «الذهب» لأنها متشابهة من ناحية أساسية: الذرات التي تكونها لها العدد الذري ۷۹. على النقيض من ذلك، فإن قطعة من الذهب الكاذب (بيريت الحديد) لا تنتمي إلى هذا الصنف، على الرغم من تشابهه مع الذهب في بعض النواحي، لأنه مُركَّب يتكون من ذرات من نوع مختلف (الحديد والكبريت). وبالمثل، فقد ذهب الكثيرون إلى أن الأنواع هي بمثابة الأصناف الطبيعية لعلم الأحياء.

ولكن في الواقع، فإن الأنواع البيولوجية تختلف إلى حدٍّ ما عن الأصناف الطبيعية التي نجدها في الكيمياء والفيزياء. في صنف مثل الذهب، يمكننا أن نشير إلى خاصية واحدة — أن له العدد الذري ۷۹ — وهي خاصية ضرورية وكافية لنسبته إلى صنف الذهب، وبالتالي تُعد تلك الخاصية «جوهر» الذهب. لكن هذا غير ممكن بوجهٍ عام في الأنواع البيولوجية. والسبب بسيط؛ ففي كل نوع، نجد تباينات كبيرة بين الكائنات الحية المكونة له. تؤدي الطفرات باستمرار إلى ظهور متغيرات جينية جديدة، ولا ينفك التكاثر الجنسي «يخلط» الجينات، مما يؤدي إلى اختلافات جينية كبيرة بين الكائنات الحية داخل النوع الواحد. علاوة على ذلك، فإن التركيب الجيني لأي نوع يتغير مع تطوره بمرور الوقت. لذلك على عكس الذهب، لا يسهل تحديد خاصية ضرورية وكافية لانتماء حيوان ما إلى نوع الكلب المنزلي على سبيل المثال.

هذا لا يعني إنكار أنه، عمليًّا، يمكن لعلماء الأحياء في كثير من الأحيان تحديد النوع الذي ينتمي إليه الكائن الحي من خلال تسلسل حمضه النووي. في الواقع، غالبًا ما يكون ذلك «الترميز الشريطي للحمض النووي» كما يُسمى طريقة موثوق فيها إلى حدٍّ ما لتصنيف الأنواع. لأنه من الممكن عادة العثور على تسلسل من الحمض النووي يظهر تباينًا طفيفًا نسبيًّا داخل النوع الواحد ولكنه يتباين باختلاف الأنواع. ومع ذلك، لا يصلح الترميز الشريطي للحمض النووي دائمًا، وحتى في الحالات التي يصلح فيها، فإنه لا يُظهر أن الانتساب إلى نوع ما يتحدد من خلال «جوهر جيني» ثابت، كما تتطلب العقيدة التقليدية للأصناف الطبيعية.

في «أصل الأنواع» قدَّم داروين منظورًا مثيرًا للاهتمام لمشكلة النوع. لقد لاحظ أن علماء الأحياء غالبًا ما يُقرُّون مجموعات تصنيفية من الكائنات الحية دون مستوى النوع؛ إذ يتحدثون عن «الضروب» و«السلالات» و«الأعراق». (يكثر كذلك استخدام مصطلح «النويع» اليوم.) تنشأ الحاجة إلى مثل هذه المصطلحات لأنه غالبًا يمكن تمييز مجموعات داخل النوع الواحد، لكنها لا تتباين بما يكفي لاعتبارها أنواعًا منفصلة. لكن ما الحدُّ الفاصل؟ ما الذي يحدد إذا كان لدينا تباينان لنوع واحد لا نوعين مختلفين؟ ذهب داروين إلى أنه لا يمكن وضع حد فاصل لذلك. فقد كتب:

إني أعتبر كلمة «الأنواع» اصطلاحًا اعتباطيًّا أُطلِق لاستيفاء وجوه التدليل على جمع من الأفراد تشتد بينهم المشابهة، وأن ذلك الاصطلاح لا يفترق في جوهره ولا في مدلوله عن كلمة «ضروب» وهي الاصطلاح الذي أُطلِق على جمع من الأفراد تكون صفاته أقل ثباتًا وأكثر تباينًا من صفات الأنواع.

إن افتراض داروين وجود عنصر من الاعتباطية في تحديد ما يُعتبر نوعًا لهو أمر مفاجئ نوعًا ما، باعتبار عنوان كتابه. لكن هل داروين محق في افتراضه؟ في النصف الثاني من القرن العشرين، ترسخت لدى العديد من علماء الأحياء قناعة بأن الأنواع هي وحدات حقيقية موجودة في الطبيعة، وليست تجميعات اعتباطية، استنادًا إلى أنها «منعزلة تكاثريًّا». هذا يعني أن الكائنات الحية داخل النوع الواحد يمكن أن يتزاوج بعضها مع بعض لإنتاج ذرية خصبة، ولكن ذلك غير ممكن بين الأنواع المختلفة. أيَّد إرنست ماير تعريف الأنواع من حيث الانعزال التكاثري، وربما يكون «مفهوم النوع البيولوجي» الذي طرحه ماير هو أشهر محاولة لحل مشكلة النوع.

مفهوم النوع البيولوجي

الفكرة الرئيسية وراء مفهوم النوع البيولوجي هي أن التشابهات والفجوات بين الكائنات الحية التي تدعم محاولة تقسيم الكائنات إلى أنواع، تنشأ في المقام الأول بسبب «تقييد تدفُّق الجينات». لفَهْم هذا، تأمَّل نوعين مرتبطين ارتباطًا وثيقًا، على سبيل المثال الشمبانزي الشائع (بان تروجلوديت) والبونوبو (بان بانيسكس). لهذين النوعين سلف مشترك حديث، لكنهما يختلفان اختلافًا واضحًا في المظهر والسلوك. ظهرت الاختلافات بين الشمبانزي والبونوبو في البَدْء ولا تزال قائمةً حتى يومنا هذا، لأن هاتَين الجماعتين لا تتزاوج كل منهما من الأخرى. ونتيجة لذلك، فإن الجينات المتحورة التي تنشأ في قرود البونوبو لا يمكنها «التدفق» إلى المجموع الجيني للشمبانزي والعكس صحيح. هذا ما سمح للمجموعتين بالانقسام جينيًّا في الأساس وهو ما يفسر سبب احتفاظهما بهُويَّاتهما المميزة اليوم. وإذا اختار نوعا الشمبانزي والبونوبو أن يتزاوجا، فستتلاشى الاختلافات بينهما بسرعة.

مفهوم النوع البيولوجي هو محاولة لتعميم هذا المبدأ ليكون تعريفًا صريحًا للنوع. على حد تعبير ماير: «الأنواع هي جماعات من المجموعات الطبيعية التي تتزاوج فيما بينها أو يُحتمل أن تتزاوج فيما بينها، والمعزولة تكاثريًّا عن المجموعات الأخرى المماثلة». هذا تعريف أنيق، وغالبًا ما تتوافق الأنواع التي يقرها مع الأنواع التي تَعرَّف عليها علماء أحياء سابقون على نحوٍ وثيق. ومِن ثَم يدعم مفهوم النوع البيولوجي فكرة أن الحدود بين الأنواع حقيقية لا عُرفية. أيضًا، يشير مفهوم النوع البيولوجي إلى أن هناك تمايزًا نظريًّا بين الضروب (التنويعات) والأنواع، على عكس ما اعتقد داروين. لنأخذ على سبيل المثال العُقاب الذهبي الأوروبي والأمريكي. يعتبرهما مفهوم النوع البيولوجي ضربين لنوع واحد وليس نوعين منفصلَين، إذ يمكنهما نظريًّا التزاوج وإنتاج ذرية قابلة للحياة (حتى لو كانا نادرًا ما يفعلان ذلك). على النقيض من ذلك، يعدُّ العُقاب الأرقط والعُقاب الذهبي نوعَين منفصلَين، إذ لا يمكن لأفرادهما التزاوج فيما بينها.

مثَّل مفهوم النوع البيولوجي نقلةً مهمة في فَهْمنا للأنواع، ولا يزال يُستخدم على نطاق واسع حتى اليوم. ومع ذلك، فإن له أوجه قصور. أولًا، هو لا ينطبق إلا على الكائنات الحية التي تتكاثر جنسيًّا؛ غير أن العديد من الكائنات الحية تتكاثر لاجنسيًّا، بما فيها معظم الميكروبات وبعض النباتات والفطريات وقلة من الحيوانات. بالنسبة إلى مثل هذه الكائنات الحية، لا يقدم مفهوم النوع البيولوجي فهمًا لماهية الأنواع، لذا فهو في أفضل الأحوال حلٌّ جزئيٌّ لمشكلة النوع.

علاوةً على ذلك، فإن الانعزال التكاثري ليس دائمًا مسألةً ثابتة، بل لها درجات متفاوتة. غالبًا ما يكون للأنواع التي تربطها صلة وثيقة، والتي تعيش في مواقعَ متجاورة (مناطق هجينة) تلتقي فيها نطاقات سكناها؛ في هذه المناطق، يحدث قدر محدود من التهجين الذي ينتج عنه ذرية خصبة في بعض الأحيان على الأقل، لكن يظل كلٌّ من النوعين محتفظًا بهويته المميزة. غالبًا ما تنشأ المناطق الهجينة عندما يكون نوع ما في طور الانقسام إلى نوعين، ولكن يمكن لتلك المناطق أن تظل موجودة لفترة طويلة. بين النباتات على وجه الخصوص، يشيع كثيرًا التهجين بين الكائنات الحية التي تنتمي إلى أنواع متمايزة بوضوح. لذلك إذا طُبِّق مفهوم النوع البيولوجي بحذافيره على تلك الحالات، فسيعطينا إجابة «خاطئة».

تمثل «الأنواع الحلَقية» تحديًّا آخر لمفهوم النوع البيولوجي. وهو مصطلح يصف نوعًا يتكوَّن من عدد من المجموعات المُرتَّبة جغرافيًّا في حلقة، تستطيع كل مجموعة منها أن تتزاوج مع جارتها المباشرة، لكنَّ المجموعتين اللتين تحتلان طرفَي الحلقة لا يمكنهما التزاوج. على سبيل المثال، يتكوَّن نوع السلمندر «إنساتينا إسشولتزي» من عدد من المجموعات المتمايزة، مُرتَّبة في شكل حلقي حول جبال وادي سنترال فالي في كاليفورنيا (شكل ٥-١). يمكن لكل مجموعة أن تتزاوج مع مجموعة مجاورة، لكن المجموعة في الطرف الغربي من الحلقة (X) لا يمكن أن تتزاوج مع تلك الموجودة في الطرف الشرقي (Y). يشكل هذا نوع من المفارقة بالنسبة إلى مفهوم النوع البيولوجي. لمعرفة السبب، دعونا نسأل هل تنتمي المجموعتان X وY إلى النوع نفسه أم لا؟ نظرًا لأنهما لا يستطيعان التزاوج، يُفترض أن تكون الإجابة «لا». ومع ذلك، فإن X وA ينتميان للنوع نفسه، إذ يمكنهما التزاوج؛ وبالمثل بالنسبة إلى المجموعات A وB، وB وC، وC وD، وهكذا. مِن ثَم نستنتج منطقيًّا أن المجموعتين X وY ينتميان للنوع نفسه في نهاية المطاف! لذا فإن محاولة تعريف الأنواع بمعيار إمكان التزاوج فيما بينها تؤدي إلى مفارقة منطقية.
fig2
شكل ٥-١: تُشكِّل المجموعات المحلية لنوع سلمندر (إنساتينا إسشولتزي) حلقةً لا يمكن أن يحدث فيها تزاوج بين المجموعة التي تقع في أقصى الطرَف الغربي وتلك التي في أقصى الطرَف الشرقي.

على الرغم من أن الأنواع الحلقية تشكل مشكلةً منطقية مثيرة للاهتمام، فإنها لا تهدم مفهوم النوع البيولوجي لسببين. أولًا، إن هذه الأنواع نادرة نسبيًّا في الطبيعة. ثانيًا، يُعتقد عادةً أنها تمثل مرحلة في عملية الانتواع، أي إن المجموعتين على طرفَي الحلقة هما نوعان جديدان في بداياتهما. بشكل عام، يستغرق انقسام نوع واحد إلى مجموعتين منعزلتين تكاثريًّا آلاف الأجيال؛ مِن ثَم يُتوقع وجود أشكال انتقالية ومجموعات وضعها غير محسوم. من هذا المنظور، لا يشير وجود الأنواع الحلقية إلى قصور في مفهوم النوع البيولوجي يمكن معالجته بوضع تعريف أفضل، ولكنه يعكس حقيقة أنه لن تكون هناك دائمًا حدود فاصلة بين الأنواع باعتبار آلية عمل التطور.

دفعت أوجه القصور في مفهوم النوع البيولوجي إلى تطوير بدائل مختلفة. وتشمل «مفهوم النوع البيئي» و«مفهوم النوع الفيلوجيني» و«مفهوم النوع المورفولوجي» وغيرها. في الواقع، وجدت دراسة استقصائية حديثة ما لا يقل عن ثلاثين مفهومًا للنوع في المؤلفات البيولوجية المنشورة. تتنوع الدوافع وراء هذه المفاهيم. بعضها مُصمَّم للتطبيق على مجالات من الأصناف أوسع من الذي يستهدفه مفهوم النوع البيولوجي، بما فيها التصنيفات اللاجنسية؛ وبعضها مصمم ليكون أسهل في التطبيق العملي من مفهوم النوع البيولوجي؛ وبعضها مصمم ليعكس حقيقة أن التدفق الجيني المحدود ليس هو العامل الوحيد المسئول عن الحفاظ على الهويات المميِّزة للأنواع. لكل من مفاهيم الأنواع هذه مزاياها، وكل منها يتوافق بصفة عامة مع بعض الأصناف، لكن لم ينَل أيٌّ منها إجماعًا مطلقًا.

في ظل هذا الوضع، أليس من الأحرى التخلي عن فكرة الأنواع البيولوجية نفسها؟ هذا اقتراح طُرح عدة مرات، لكنه خيار أخير. إذ تختصر فئات الأنواع مجموعة كبيرة من المعرفة البيولوجية؛ ومن الناحية العملية، غالبًا ما تكون معرفة النوع الذي ينتمي إليه الكائن الحي مسألة محورية. إذا صادف عالِم طيور طائرًا غير مألوف على سبيل المثال، فإن أول ما سيودُّ معرفته هو النوع الذي ينتمي إليه، إذ يمنحه ذلك معلومات قيمة حول سماته وسلوكه وبيئته. لذلك على الرغم من عدم وجود تعريف وافٍ لها، فإن تصنيف النوع شائع الاستخدام لا غنى عنه. وصف جون مينارد سميث ذلك ببلاغة إذ كتب:

أي محاولة لتقسيم جميع الكائنات الحية، الماضية والآنية، إلى مجموعات بينها حدود فاصلة لا وسط بينها، محكوم عليها بالفشل. ولذا يواجه عالِم التصنيف تناقضًا بين الضرورة العملية والاستحالة النظرية لمهمته.

لذلك يواصل علماء الأحياء معاملة الأنواع باعتبارها مجموعات بينها حدود فاصلة، واضعين في اعتبارهم أن هذا ليس إلَّا تقديرًا تقريبيًّا للواقع.

الأنواع باعتبارها أفرادًا

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، قدَّم عالِم الأحياء مايكل جيزلين والفيلسوف ديفيد هال تشخيصًا مشوقًا لمشكلة الأنواع. فقد ذهبا إلى أن المشكلة بصيغتها التقليدية تستند على افتراض خاطئ، ألا وهو أن النوع البيولوجي هو صنف أو فئة من شيء. عوضًا عن ذلك ذهبا إلى أن النوع هو فرد معقد؛ أي إنه شيء في حد ذاته. لفَهْم هذا، تأمل فردًا بيولوجيًّا عاديًّا مثل ريد رَم (حصان السباق البريطاني من السبعينيَّات). وُلِد ريد رَم في زمان ومكان مُعيَّنَين، وكان عمره محدودًا؛ إذ مات عام ۱۹۹٥. وبالمثل، يخرج النوع البيولوجي إلى الوجود في زمان ومكان مُعيَّنَين عندما يقع الانتواع، ويستمر النوع لفترة معينة حتى ينقرض. على النقيض من ذلك، فإن النوع الأصيل غير مُقيَّد بزمان ولا مكان. تأمل نوع الذهب. تعتبر قطعة ما من المادة في أي مكان في الكون ذهبًا، بغض النظر عن منشأها، ما دام لذراتها العدد الذري ٧٩. لذا نظريًّا، إذا تدمر جميع الذهب الموجود في الكون فسيمكن بعد ذلك بسنوات تصنيع المزيد منه. لكن الأنواع ليست كذلك، كما يجادل جيزلين وهال. ما إن ينقرض أحد الأنواع، تنتفي منطقيًّا إمكانية عودته إلى الوجود، تمامًا مثلما تنتفي إمكانية عودتي أنا أو أنت من الموت.

لم يدافع جيزلين وهال عن أي مفهوم محدد للنوع، ولم يسعيا إلى وضع معيار لتحديد الأنواع فعليًّا في هذا المجال. بدلًا من ذلك، سعيا إلى إعادة توجيه دفة النقاش حول النوع عن طريق مراجعة أساسه الفلسفي. كذلك لم يُنكر جيزلين وهال أن «فئة» النوع هي صنف. يندرج ضمن فئة النوع أفراد مثل الإنسان العاقل، والكلب المنزلي، والقط المنزلي وسائر الأنواع الأخرى. إذ كان افتراضهما هو أن كل فئة تصنيف للنوع هي فرد لا صنف. هذا يعني أن العَلاقة بين الكائن الحي ونوعه هي عَلاقة الجزء بالكُل، لا علاقة انتماء فرد إلى صنف. لفَهْم هذا، تأمَّل العَلاقة بين خلية معينة في جسم الحصان ريد رَم وريد رَم نفسه. هذه عَلاقة جزئية؛ فالخلية جزء من ريد رَم، وليست من أفراد ريد رَم. وبالمثل، فإن العَلاقة بين ريد رَم و«إكيوس فيروس كابالوس» (نوع الخيول المستأنسة) هي عَلاقة جزء بكل وفقًا لجيزلين وهال.

تبدو فكرة الأنواع باعتبارها أفرادًا غريبة للوهلة الأولى. حيث إن الأنواع تختلف عن الأفراد البيولوجيين «العاديين» من حيث إن الكائنات الحية المُكوِّنة للنوع ليست ملتحمة. غير أن هذا الاختلاف سطحي تمامًا. فأفراد النمل في مستعمرة ليسوا ملتحمين أيضًا، لكننا ننزع إلى اعتبار المستعمرة بأكملها فردًا. علاوة على ذلك، فإن معاملة الأنواع باعتبارها أفرادًا له مزايا واضحة. فهو بالأخص يساعد على التوفيق بين الاعتقاد الراسخ لدى علماء الأحياء منذ فترة طويلة بأن بعض الأنواع على الأقل هي وحدات حقيقية في الطبيعة وليست تجمعات اعتباطية، وحقيقة أنها لا تمتلك «جواهر وراثية» وأن الكائنات المكونة لها تتباين. إذا كان النوع صنفًا طبيعيًّا، فيلزم أن نتوقع وجود شرط ضروري وكافٍ للانتماء إلى النوع؛ كما هو الحال بالنسبة للذهب على سبيل المثال. ويفترض أن يؤديَ عدم إيجاد مثل هذا الشرط إلى التشكيك فيما إذا كان الصنف يمثل تقسيمًا حقيقيًّا في الطبيعة. ولكن، إذا كان النوع فردًا معقدًا، وكانت الكائنات الحية المكونة له هي أجزاؤه لا أفراده، فسينتفي ذلك التوقع. فالأجزاء المكونة له ليست مكونة له بحكم امتلاكها خاصية أساسية ما، أو استيفائها لشرط ما ضروري وكافٍ لإلحاقها به. ومِن ثَم يتوافق غياب مثل هذه الخاصية تمامًا مع حقيقة الكُل.

لفَهْم هذه النقطة، تأمَّل مثالًا غير بيولوجي. المكتب الخاص بي له سطح زجاجي وأرجل فولاذية. لذا فإن المكتب يتكون من جزأين — السطح والأرجل — غير متماثلَين جوهريًّا. لكن هذا لا يمنعهما من أن يكونا جزأين لكل واحد. علاوة على ذلك، حتى لو كانا متشابهين جوهريًّا، إذا كان كلاهما مصنوعًا من الفولاذ على سبيل المثال، فلن يكون ذلك هو السبب الذي يجعلهما أجزاءً من طاولة واحدة. ينطبق الشيء نفسه على عَلاقات الجزء والكُل البيولوجية. فالخلايا في جسدي متشابهة جدًّا من الناحية الوراثية، لكن ليس ذلك هو ما يجعلها جزءًا مني. فالخلية المتحورة في كبدي لا تزال جزءًا مني، بينما الخلية الموجودة في توءمي المتطابق ليست جزءًا مني، على الرغم من كَوْنها متطابقة وراثيًّا مع خلاياي. ينطبق الشيء نفسه على الكائنات الحية والأنواع، من المنظور الذي يعتبر الأنواع أفرادًا. فالتباين الجيني الواسع الذي نجده بين الكائنات الحية في الأنواع لا يؤثر بأي حال من الأحوال على حقيقة النوع، ما دمنا نعتبر النوع فردًا لا صنفًا.

رأى هال أن فكرة الأنواع باعتبارها أفرادًا لها آثار فلسفية قوية. الأول هو أننا لا ينبغي أن نتوقع اكتشاف قوانين علمية تنطبق على جميع الكائنات الحية التي يتألف منها نوع معين دون سواها. إن أحد الاعتقادات القديمة في فلسفة العلم، ناقشناه في الفصل الأول، ينظر للعلم باعتباره بحثًا عن قوانين لا استثناءات لها للصيغة «لجميع عناصر x، إذا كانت x تنتمي إلى الصنف F فإن x تنتمي إلى الصنف G.» (جميع الإلكترونات شحنتها سالبة؛ جميع المعادن موصلة للكهرباء؛ جميع الكواكب تدور حول الشمس.) الآن إذا افترضنا أن نوعًا ما هو صنف طبيعي، ومِن ثَم مرشح للانتماء إلى F حسب المخطط المذكور، فقد نتوقع أن يكتشف علماء الأحياء سمات (مرشحة للانتماء إلى G) تنطبق على جميع الكائنات الحية في نوع ما دون غيرها. ولكن إذا كانت الأنواع أفرادًا معقدة أجزاؤها هي الكائنات الحية المكونة لها، فسينتفي هذا التوقع، ولن يكون النوع مرشحًا للانتماء إلى F من الأساس. إن حقيقة صعوبة إيجاد تعميمات لا تقبل الاستثناءات حول انتماء أفراد لنوع بيولوجي ما تدعم بطريق غير مباشر فرضية الأنواع باعتبارها أفرادًا.

أما الأثر الفلسفي الثاني فيتعلق بالنقاش القديم حول الطبيعة البشرية. افترض العلماء على مر العصور أن هناك شيئًا يُدعى الطبيعة البشرية؛ أي خاصية أساسية تحدد «ماهية الإنسان». (طُرحَت عدة احتمالات لتلك الصفة.) يبدو الاعتقاد بوجود الطبيعة البشرية منطقيًّا لأن البشر يختلفون بوضوح عن الشمبانزي، أقرب أقربائنا الأحياء. لكن هال يرى أنه لأن نوع الإنسان العاقل فرد وليس صنفًا، فلا توجد خاصية تحدد جوهر الإنسانية. هذا لا يعني إنكار أن البشر لديهم سمات يفتقر إليها الشمبانزي بالطبع، وإنما يعني رفض الفرضية القائلة إن امتلاك شخص ما لمجموعة معينة من السمات يجعله إنسانًا. إذا كان هال على حق، فهذا يعني أن جانبًا كبيرًا من الجدل التقليدي حول الطبيعة البشرية يستند إلى افتراض خاطئ.

نظاميات تطور السلالات

بعد الاتفاق على تعيين الكائنات الحية لأنواع، تكون الخطوة التالية في التصنيف البيولوجي هي تنظيم الأنواع في تصنيفات أعلى. ما هي المبادئ التي يجب استخدامها للقيام بذلك؟ إن الإجابة المعيارية يُقدِّمها لنا عِلم نظاميات تطور السلالات، المعروف أيضًا باسم التصنيف التفرُّعي (الكلاديسيات)، وهو المنهج التصنيفي السائد اليوم. إن الفكرة الرئيسية لنظاميات تطور السلالات هي أن التصنيف يجب أن «يعكس التاريخ التطوري»، أي إنه يجب تصنيف الأنواع وَفقًا لمدى ارتباطها. بتعبير أدق، يجب أن تكون جميع المجموعات التصنيفية فوق مستوى النوع، سواء كانت أجناسًا أو فصائل أو رُتبًا أو غيرها، أحادية العرق وَفقًا لنظاميات تطور السلالات.

المجموعة الأحادية العرق، أو الفرع الحيوي، هي المجموعة التي «تضم فقط جميع أحفاد نوع سلف واحد». بعبارة أخرى، يجب أن تشترك الأنواع في المجموعة أحادية العرق في سلف واحد «ليس سلفًا» لأي نوع خارج المجموعة. للمجموعات الأحادية العرق أحجام مختلفة. في أحد أقصى الطرفين، تشكل جميع الأنواع التي وُجدَت يومًا مجموعة أحادية العرق، بافتراض أن الحياة على الأرض نشأت مرة واحدة فقط. على الطرف النقيض، توجد مجموعات أحادية العرق مُكوَّنة من نوعين فقط؛ إذا لم ينحدر سواهما من سلف مشترك. وَفْق نظاميات تطور السلالات، لا ينبغي الاعتراف بالمجموعات غير الأحادية العرق في التصنيف البيولوجي، بغض النظر عن مدى تشابه أعضائها؛ إذ تعتبر أنها تجميعات «اصطناعية» وليست «حقيقية».

لاستيعاب مفهوم أحادية العرق، تأمَّل شكل ٥-٢، وهو شجرة تطور السلالات التي تصور نمط الأسلاف بين الرئيسيات. تصوِّر التفرعات الموجودة في الشجرة أحداث الانتواع، التي ينقسم عندها نسل أحد الأسلاف إلى اثنين. تُشكِّل الرئيسيات مجموعة أحادية العرق لأنها تضم فقط كل أحفاد سلف مشترك (عاش قبل حوالي ٦۳ مليون سنة)، كما هو موضح في قاعدة الشكل.
fig3
شكل ٥-٢: سلالة مجموعات الرئيسيات الأساسية.
يندرج تحت الرئيسيات عدد من المجموعات الأحادية العرق الأصغر. على سبيل المثال، المجموعة المعروفة باسم فصيلة القرد العظيم {الأورانجوتان، الغوريلا، الشمبانزي، البونوبو، الإنسان}، هي مجموعة أحادية العرق؛ فهي تضم فقط جميع أحفاد نوع واحد من السلف، وتنقسم عند النقطة المميزة بعلامة x. على النقيض من ذلك، فإن مجموعة {الغوريلا، البونوبو، البشر} ليست أحادية العرق. على الرغم من أن الأنواع في هذه المجموعة لها سلف مشترك، لكن هذا السلف هو أيضًا سلف للشمبانزي، غير الموجود في المجموعة. بالنظر إلى شجرة تطور السلالات، من السهل تحديد ما إذا كانت أي مجموعة أحادية العرق أم لا؛ فما عليك سوى تتبع أعضائها حتى تجد السلف المشترك لهم، ثم تتحقق لمعرفة ما إذا كان لهذا السلف أي أحفاد ليسوا في المجموعة.

إن اشتراط أن تكون جميع الأصناف أحادية العرق أمر منطقي من المنظور التطوري. علاوة على ذلك، فإن هذا عادة ما يؤدي إلى تصنيفات معقولة بيولوجيًّا، بمعنى تجميع الأنواع التي لها سمات مشتركة. هذا لأن الأنواع في أي مجموعة أحادية العرق سيكون لها في العموم سمات مميزة تُعرف باسم «التماثلات»، ورثتها من سلفها المشترك. على سبيل المثال، جميع الأنواع في فصيلة القردة العليا كبيرة حجمًا مقارنة بالرئيسيات الأخرى، وتفتقر إلى الذيل، وتُظهر ازدواجًا واضحًا في الهيئة الجنسية (الاختلافات بين الذكور والإناث). على النقيض من ذلك، تفتقر الجِبون والقرود التي ليست من عائلة القردة العليا إلى بعض تلك السمات أو كلها. لذلك، يمكن إجراء تعميمات بيولوجية مثيرة للاهتمام حول أنواع القردة العليا لا تنطبق على الأنواع خارج تلك الفصيلة.

لكن في حالات أخرى، يؤدي شرط أحادية العرق إلى وضع تصنيفات «غير طبيعية». أحد الأمثلة المعروفة يخص طائفة الزواحف. تقليديًّا، أُدرجَت السحالي والتماسيح في طائفة الزواحف، ولكن الطيور مُدرجة في طائفة منفصلة تسمى «أفيس». هذا منطقي بيولوجيًّا للغاية، لأن للطيور تشريحًا ووظائف فريدة خاصة بها تختلف تمامًا عن تلك الخاصة بالسحالي والتماسيح والزواحف الأخرى. ومع ذلك، فقد اتضح أن طائفة الزواحف ليست أحادية العرق، كما يوضح شكل ٥-٣. فالجد المشترك للسحالي والتماسيح هو أيضًا سلف الطيور. لذا فإن وضع السحالي والتماسيح معًا في مجموعة لا تشمل الطيور يخالف شرط أحادية العرق. لذلك، يوصي علماء نظاميات تطور السلالات بالتخلي عن التصنيف التقليدي؛ يجب ألَّا نعترف بطائفة الزواحف من الأساس لأنها ليست فئة تصنيف حقيقية. فهم يرون أنه ببساطة من الخطأ الاعتقاد بوجود الزواحف.
fig4
شكل ٥-٣: طائفة الزواحف ليست أحادية العرق، إذ لا تتضمن الطيور.

كان مثال طائفة الزواحف ونماذج أخرى شبيهة، محور نقاش حاد بين مؤيدي نظاميات تطور السلالات ومدرستين تصنيفيتين متنافستين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وَفقًا للمدرسة «الظاهرية» (الفينيتكس)، لا ينبغي أن يكون للتصنيف أي علاقة بالتاريخ التطوري، بل يجب الاعتماد بدلًا من ذلك على أوجه التشابه الملحوظة بين الأنواع. ويجب أن يكون الهدف هو تجميع الأنواع المتشابهة معًا، بغض النظر عن الأصل المشترك. لذا فإن المدرسة الظاهرية تتعارض تمامًا مع نظاميات تطور السلالات. تحاول المدرسة الثالثة، وهي مدرسة «التصنيف التطوري»، سلوك نهج وسط بينهما. من منظورها، يجب أن يعكس التصنيف التاريخ التطوري، لكن أحادية العرق الصارمة ليست حتمية. لكن إذا حادت بعض الأنواع داخل المجموعة الأحادية العرق بشكل كبير عن بقية المجموعة، فقد يكون حذف هذه الأنواع مبرَّرًا. إذَن، يعتبر علماء التصنيف التطوري طائفة الزواحف فئة تصنيف حقيقية، على الرغم من استبعاد الطيور منها، باعتبار أن الطيور قد طورت سمات فريدة لا توجد في الزواحف الأخرى.

يجادل أنصار نظاميات تطور السلالات بأن منهجيتهم في التصنيف «موضوعية» على عكس منهجية تصنيف علماء المدرسة الظاهرية وعلماء التصنيف التطوري. وفي ذلك شيء من الصحة. إذ تستند تصنيفات علماء المدرسة الظاهرية على أوجه التشابه بين الأنواع، والحكم بالتشابه يشوبه شيء من عدم الموضوعية. فأي نوعين سيتشابهان في بعض النواحي ويتباينان في نواحٍ أخرى. على سبيل المثال، قد يتشابه نوعان من الحشرات تمامًا من الناحية التشريحية لكن تختلف عادتهما الغذائية، إذَن ما هي «النواحي» التي نعتبرها كي نحكم بالتشابه؟ تلك مشكلة يواجهها علماء التصنيف التطوري أيضًا. إذ يتعين عليهم إطلاق أحكام حول مدى الاختلاف بين المجموعات؛ مثل الحكم بأن الطيور قد حادت كثيرًا عن أصناف الزواحف المعتادة. تستند مثل هذه الأحكام جزئيًّا إلى «الحكم البيولوجي السليم»، لذلك لا يمكن أن تكون مطلقة الموضوعية. بالمقارنة، فإن معيار أحادية العرق واضح تمامًا؛ فالمجموعة إما أن تكون أحادية العرق أو ليست أحادية العرق (رغم أننا قد لا نعرف أيهما هي). هذا أحد الأسباب التي تجعل منهجية نظاميات تطور السلالات هي السائدة في التصنيف البيولوجي اليوم.

في الأيام الأولى لعلم نظاميات تطور السلالات، اتهمته أصوات معارضة له بأنه أدخل قدرًا من عدم اليقين على التصنيف. فلا بأس باشتراط أن تكون التصنيفات أحادية العرق، ولكن ذلك تصنيف استخداماته محدودة ما لم نتمكن من معرفة ما إذا كانت مجموعة معينة أحادية العرق أم لا. وهذا بدوره يتطلب حسن دراية بشجرة تطور السلالات الحقيقية، وهي دراية لا يمكن تحصيلها إلا بطريق الاستدلال غير المباشر. لذا في نهج نظاميات تطور السلالات، في كل تصنيف نضعه ننشئ فرضية ضمنية حول علاقات النَّسَب بين الأنواع المعنية؛ وقد يتبين فيما بعد أن تلك الفرضية خاطئة. وهكذا يظل التصنيف البيولوجي غير مكتمل، عرضة للمراجعة كلما ازدادت معرفتنا بتطور السلالات.

هذا تخوف مشروع، فمن المؤكد أن شرط أحادية العرق استلزم إجراء الكثير من المراجعات التصنيفية. لكن في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، تحسَّنت قدرة العلماء كثيرًا على استنباط أشجار تطور السلالات. إذ منحهم علم الأحياء الجزيئي مصدرًا خصبًا للبيانات يتمثل في تسلسلات الحمض النووي للكائنات الحية. في السابق، كانت نظاميات تطور السلالات تضطر إلى الاعتماد على السمات المورفولوجية — مثل شكل الجمجمة والبنية الهيكلية — في إعادة هيكلتها لعلاقات النَّسَب بين الأنواع. لكن تسلسلات الحمض النووي توفر طريقة أكثر موثوقية لتحديد هذه العلاقات، وهو ما يرجع إلى خصوصية هذه التسلسلات وكذلك إلى عددها الهائل. علاوة على ذلك، طُوِّرَت طرق إحصائية معقدة لتحليل البيانات الجزيئية التي تمكن علماء الأحياء من الوصول إلى مستويات من اليقين بشأن علاقات النَّسَب أعلى من ذي قبل. أحد الأمثلة العديدة على ذلك هو أن البيانات الجزيئية ساعدت في حل جدال قديم حول ما إذا كان البشر يتشاركون سلفًا مشتركًا أكثر حداثة مع الشمبانزي أم الغوريلا. (الجواب هو الشمبانزي.) لذا فإن الاعتراض القائل بأن التصنيف على أساس العرق يولد الكثير من عدم اليقين التصنيفي لم يَعُد له وزن كما كان في السابق.

أخيرًا، ما العلاقة بين نظاميات تطوُّر السلالات ومخطط لينيوس التقليدي للتصنيف؟ يحتفظ علم نظاميات تطور السلالات ببعض جوانب مخطط لينيوس، كطبيعة التصنيف الهرمية على سبيل المثال. كما يتبين من الشكل ٥-٢، دائمًا ما تندرج المجموعات أحادية العرق تحت بعضها، دون أن تتداخل؛ لذلك إذا استوفي شرط أحادية العرق، فسيكون للتصنيف الناتج تلقائيًّا بنية هرمية. ولكن ثمة جوانب أخرى من مخطط لينيوس لا تتوافق مع نظاميات تطور السلالات. تذكر أن كل تصنيف في مخطط لينيوس له رتبة معينة: الجنس، والفصيلة، والرتبة، وما إلى ذلك. من منظور نظاميات تطور السلالات، فإن هذه الرتب ليس لها معنًى في ذاتها؛ لا يوجد أساس راسخ يتحدد بناءً عليه إن كانت أي مجموعة أحادية العرق جنسًا أم طائفة على سبيل المثال. لهذا السبب يرى بعض علماء الأحياء أنه يجب الاستغناء عن رتب التصنيف في مخطط لينيوس تمامًا؛ لكن تظل تلك وجهة نظر الأقلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤