الفصل السادس

الجينات

لعل أحد أشهر الكيانات التي يتناولها علماء الأحياء هو «الجين». إذ رسخت في الوعي الجمعي فكرة أن جينات الكائنات الحية وفيها البشر هي المسئولة عن العديد من صفاتها المُلاحَظة مثل لون البشرة. فغالبًا ما تتصدر التطورات في مجال علم الوراثة عناوين الصحف، لا سيما عندما تكون لها عَلاقة بصحة البشر. في الواقع، لا يكاد يمر أسبوع دون أن يعلن الباحثون في مجال الطب عن اكتشاف جين متسبب في نشأة مرض ما. أحد الأمثلة الشهيرة على ذلك هو اكتشاف فريق تابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في سنة ۱۹۹۳ للجين المُسبب لمرض هنتينجتون، وهو أحد أمراض التنكس العصبي المميتة. كانت الجينات كذلك هي موضوع أحد أضخم الجهود البحثية التعاونية في علم الأحياء، ألا وهو مشروع الجينوم البشري الذي استمر من سنة ۱۹۹۱ إلى سنة ٢٠٠۳. لا عجب أن وصفت مؤرخة علم الأحياء إيفيلين فوكس كيلر القرن العشرين بأنه «قرن الجين».

لنبدأ بسؤال قد يبدو بسيطًا على عكس حقيقته: ما الجين بالضبط؟ باعتبار المكانة البارزة لعلم الوراثة بين العلوم الحيوية، من المُستغرَب إلى حدٍّ ما أنه لا توجد إجابة مُرضية من سطر واحد على هذا السؤال. هذا ليس تناقضًا كما يبدو، إذ يوجد العديد من المفاهيم العلمية المهمة التي لا يمكن وضع تعريف دقيق لها؛ مفهوم النوع الذي ناقشناه في الفصل الخامس أحد أمثلة ذلك. ولكن في حالة الجين، فإن الأسباب التي تجعل تعريفه على نحو دقيق أمرًا صعبًا لافتة للغاية وتطرح عددًا من الأفكار الفلسفية الدقيقة والمهمة. لفهم هذه الأسباب، نحتاج إلى الخوض قليلًا في تاريخ علم الوراثة.

الوراثة المندلية والكلاسيكية

ترجع نشأة علم الوراثة إلى دراسات الراهب التشيكي جريجور مندل في ستينيات القرن التاسع عشر. أجرى مندل تجارب في تربية نباتات البازلاء لدراسة كيفية انتقال سمات نباتية معينة عبر الأجيال. كانت إحدى هذه السمات هي شكل حبات البازلاء في النباتات، والتي تكون إمَّا مستديرة أو مُجعَّدة. في تجربته الشهيرة، بدأ مندل بسلالتين نقيتين من النباتات، إحداهما لها حبات بازلاء مستديرة والأخرى مُجَعَّدة. بعدها هجَّن مندل السلالتين لإنتاج جيل من النباتات الهجينة. هذه النباتات الهجينة F1 (وهو رمز يشير إلى «الجيل الأول من الأبناء»)، كانت حبات البازلاء فيها جميعها مستديرة؛ فبدا أن سمة التَّجَعُّد قد اختفت من المجموعة (الشكل ٦-١). بعد ذلك، هجَّن مندل نباتات الجيل الأول الهجينة F1 مع بعضها لإنتاج الجيل الثاني F2. فوجد أن 3/4 نباتات الجيل الثاني F2 كانت حبات البازلاء فيها مستديرة بينما 1/4 منها كانت حبات البازلاء فيها مُجعَّدة. إذَن بطريقة غامضة، ظهرت سمة التجعد مجددًا. وكأنما كانت القدرة على إنتاج البازلاء المُجعَّدة خاملة في نباتات F2، حتى نُشِّطَت بطريقة ما في نباتات F2. وجد مندل أن الأمر نفسَه ينطبق على سمات أخرى للنباتات تحتمل وجهين. في كل حالة، كانت هجائن F2 متشابهة جميعًا، بينما ظهر في 1/4 من نباتات F2 التباين الذي كان غائبًا في الجيل F2.
fig5
شكل ٦-١: في تجربة مندل، كانت جميع حبات البازلاء في نباتات الجيل F1 مستديرة، بينما في الجيل F2 تباينت حبات البازلاء في النباتات، فكانت نسبة الحبات المستديرة إلى المُجعَّدة 1:3.
قدَّم مندل تفسيرًا عبقريًّا لهذه النتيجة رغم بساطته. إذ ذهب إلى أن شكل حبَّات البازلاء في النبات يتحدد بناءً على زوجين من «العوامل». يرث النبات عاملًا واحدًا من كل من أبويه. العوامل نوعان: R (للحبات المستديرة) وW (للحبات المُجعَّدة). مِن ثَم توجد ثلاثة أنواع محتملة من النباتات: RR وRW وWW. النبتة من نوع RR سوف تكون حبات البازلاء فيها مستديرة، في حين أن النبتة من نوع WW ستكون حبات البازلاء فيها مُجعَّدة. ماذا عن نبتة من النوع RW؟ افترض مندل أن حبات البازلاء فيها ستكون مستديرة، لأن العامل R «سائد» والعامل W «متنحٍّ». هذا يعني أنه لا يمكن التمييز بين النبات من النوعين RR وRW. أخيرًا، اقترح مندل أن زوجين من العوامل في النبتة الواحدة «ينفصلان»، إذ ينقل النبات أحد الزوجين فقط عشوائيًّا لكلٍّ من ذريته. يُعرف هذا باسم «قانون الفصل». استطاع مندل أن يفسر نتائجه التجريبية بتلك المعطيات. كانت سلالتاه النقيتان الأوليان اللتان هجَّنهما من النوع RR وWW على التوالي. لذلك كانت النباتات الهجينة من الجيل F1 كلها من النوع RW، ومِن ثَم كانت حبات البازلاء فيها جميعًا مستديرة. ثم أُنتجَت النباتات الهجينة من الجيل F2 بواسطة تهجين RW × RW. لذلك وَفقًا لقانون الفصل، يجب أن نتوقع وجود الأنواع الثلاثة في نباتات الجيل الثاني F2 بنسبة 1/4 للنوع RR و1/24  للنوع RW و1/4 للنوع WW. نظرًا لأن كلا النوعين RR وRW لهما حبَّات مستديرة، فذلك يعني أن 3/4 نباتات الجيل F2 ستكون حباتها مستديرة و1/4 ستكون حباتها مُجعَّدة، كانت تلك بالضبط هي نتائج مندل التجريبية.
وضع مندل قانونًا ثانيًا يهدف إلى شرح مجموعة أعقد من النتائج التجريبية التي تخص وراثة صفات متعددة. تأمل صفتين، مثل شكل البازلاء ولون الزهرة، لكل منهما تباينان (الحبات المُجعَّدة مقابل المستديرة، والصفراء مقابل الخضراء). مِن ثَم هناك أربع مجموعات محتملة لصفات الحبات: مُجعَّدة وصفراء، مُجعَّدة وخضراء، مستديرة وصفراء، مستديرة وخضراء. مرة أخرى، درس مندل نِسَب مختلف المجموعات المحتملة لهذه الصفات في الذرية الناتجة عن التهجين. وجد أنه يمكن تفسير البيانات بفرضية أن كل صفة يتحكم فيها زوجان من العوامل، وَفقًا لقانونه الأول، ينفصل كل منهما عن الآخر بشكل مستقل. إيضاحًا لمعنى ذلك، تأمل نباتًا من النوع RW/YG، أي إن العامل R والعامل W يتحكمان في شكل الحبَّات، والعامل Y والعامل G يتحكمان في لون الزهرة. سينقل النبات إلى كل فرد من ذريته إمَّا العامل R أو العامل W، وإمَّا العامل Y أو العامل G. ينص قانون مندل الثاني على أن انتقال أي من العاملين R أو W من أحد الأبوين إلى فرد من الذرية ليس له أي تأثير على انتقال أي من العاملين Y أو G. يُعرف ذلك باسم «قانون التوزيع المستقل».

لم يلتفت أحد إلى دراسات مندل أثناء حياته، لكن في مطلع القرن التالي أُعيد اكتشافها، وسرعان ما لاقت قَبولًا واسعًا. أصبحت «عوامل» مندل تُعرف باسم «الجينات» (وهو مصطلح وضعه فيلهلم جوهانسن في سنة ۱۹٠۳)، وأصبحت التباينات المختلفة لكل عامل تُسمى «الأليلات». واكتُشفَت العديد من الصفات التي ينطبق عليها نمط الوراثة المندلي. أدَّى ذلك إلى نشأة عهد علم الوراثة الكلاسيكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، الذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بتجارب توماس هانت مورجان على ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا» في جامعة كولومبيا. اعتمد علم الوراثة الكلاسيكية على النهج الذي استخدمه مندل، ألا وهو التهجين بين مختلف السلالات ودراسة نِسَب الأنواع المختلفة من الذرية. لكنه تجاوز دراسات مندل في أحد الجوانب، وهو إدراك أن قانونه الثاني لا يصلح لجميع الحالات؛ فبعض الجينات تنزع إلى أن تُورَّث معًا، أو أن تكون «مرتبطة». (صرنا نعلم اليوم أن السبب في ذلك هو أن هذه الجينات تقع على نفس الكروموسوم.) وضع علماء الوراثة الكلاسيكيون «خرائط ارتباط» مُفصَّلة تحدد مدى نزوع الجينات المختلفة للانتقال معًا في الكائن الحي.

كان أحد الاكتشافات المهمة للوراثة الكلاسيكية هو أن العَلاقة بين الجينات والسمات غالبًا ما تكون أعقد مما تصورها مندل. قد تتأثر صفة ظاهرية واحدة بعدة جينات، وقد يؤثر جين واحد على عدة صفات. في حالة ذبابة الفاكهة، وجد مورجان أن لون العين يتأثر بحدوث طفرات فيما لا يقل عن خمسة وعشرين جينًا مختلفًا. غير أن مورجان كان يرى أنه لا يزال بإمكاننا القول بشكل منطقي إن جينًا متحورًا واحدًا هو «السبب» وراء امتلاك ذبابة للون عين معين غير معتاد، بمعنى أن الاختلاف بين لون العين في هذه الذبابة وغيرها من الذباب يرجع إلى أنها تحمل نسخة متحورة من الجين المعني بخلاف غيرها من الذباب (افترض مورجان افتراضًا مثيرًا للجدل وهو أن ذلك هو المعنى القياسي لكلمة «السبب» في الاصطلاح العلمي). اليوم غالبًا ما يُعبَّر عن وجهة نظر مورجان بالقول إن بعض الجينات «تُحدِث فارقًا» في الصفات الظاهرية. أي إنه لا يوجد جين يؤدي بنفسه إلى ظهور صفةٍ ما، ولكن التباينات الجينية لجين واحد قد تفسر تباينات النمط الظاهري. هذا هو ما يقصده الباحثون الطبيون بالأساس عندما يتحدثون عن «جين مسئول عن سرطان الثدي» على سبيل المثال.

جدير بالذكر أن الجين في الوراثة المندلية والكلاسيكية كان كيانًا نظريًّا، وليس شيئًا مُدركًا بالملاحظة المباشرة. كانت الجينات كيانات افتُرضَت لتفسير البيانات المستمدة من تجارب التهجين، مثلما افترض علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر وجود الذرَّات لتفسير البيانات التي حصلوا عليها. كي تؤدي الجينات ذلك الدور التفسيري، يتعين أن تنتقل بطريقةٍ ما من الآباء إلى الذرية، وأن يكون لها تأثير منهجي على السمات التي تظهر في الذرية. ولكن لم يَكُن معروفًا بالضبط كيف تفعل الجينات ذلك، ولا أين توجد ولا مما تتكون. بعض علماء الوراثة الكلاسيكية كانوا يعتقدون أن الجينات ليست كيانات فعلية من الأساس، تمامًا مثلما اعتبر بعض علماء الفيزياء الأوائل الذرات مجرد كيانات افتراضية مفيدة لا جسيمات مادية حقيقية. في محاضرته التي ألقاها لحصوله على جائزة نوبل في سنة ۱۹۳۳، أشار مورجان إلى أن علماء الوراثة يختلفون فيما بينهم حول حقيقة الجينات، لكنه يرى أن ذلك لا يهم. فقد كتب: «في المستوى الذي تُجرى فيه التجارب الجينية، لا يهم البتة إن كان الجين وحدة افتراضية أو جسيمًا ماديًّا.»

في الخمسة والثمانين عامًا التي تلت كتابة مورجان لذلك، تغيَّر الوضع كثيرًا. إذ تحول الجين من كَوْنه كيانًا افتراضيًّا إلى شيء نعرف الكثير عن بنيته ووظيفته على المستوى الجزيئي، بل نستطيع إجراء تعديلات عليه تجريبيًّا. إلى جانب أهميته من الناحية العلمية البحتة، فإن لهذا التحول أهمية فلسفية، إذ يرتبط بأحد المباحث الأساسية لفلسفة العلم، ألا وهو فَهْم كيفية تطور المفاهيم العلمية بمرور الوقت و«تبلورها» في ذهن العالم.

علم الوراثة الجزيئي

خرج علم الوراثة الجزيئي إلى الوجود في خمسينيات القرن العشرين، وكان نتاجًا لجهود ممتدة لفَهْم الأساس المادي للوراثة. نظرًا لأن الكائنات الحية تتطور من خلية واحدة، فمن المفترض أن تكون المادة الجينية مُتضمَنة داخل الخلية. ولكن ممَّ تتكون هذه المادة؟ في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، كان يُعتقَد أن الإجابة هي البروتين. حيث إنه كان من المعروف أن البروتينات لها نشاط تحفيزي، لتسريع التفاعلات الكيميائية في الخلايا؛ لذلك إذا كانت الجينات مكونة من بروتينات فإن هذا من شأنه أن يفسر قدرتها على التأثير على صفات الكائن الحي أثناء نموه. بالمقارنة، لم يكن الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (يشار إليه بالحمض النووي أو دي إن إيه)، وهو مادة موجودة في الكروموسومات، مرشح واعد، لأنه عبارة عن جزيء خامل ومستقر للغاية. ولكن بحلول عام ۱۹٥٠، أشارت مجموعة من الأدلة التجريبية أن الحمض النووي هو في الواقع المادة الوراثية، مما دفع الباحثين لمحاولة تحديد تركيبه. أثمر ذلك عن أحد أشهر الوقائع في تاريخ علم الأحياء؛ ألا وهو نموذج اللولب المزدوج للحمض النووي الذي وضعه جيمس واتسون وفرانسيس كريك، ونُشر عام ۱۹٥۳.

كان اكتشاف واتسون وكريك المذهل المبني على دراسات سابقة قامت بها روزاليند فرانكلين، هو أن بنية الحمض النووي مناسبة تمامًا لأن تؤدي وظيفة المادة الوراثية أو الجينية. فقد بيَّنا أن جزيء الحمض النووي يتكون من شريطين متشابكَين في بنية حلزونية (الشكل ٦-٢). يتكون كل شريط من سلسلة طويلة من الوحدات المتكررة تسمى النيوكليوتيدات، تصل بينها روابط تساهمية. يحتوي كل نيوكليوتيد على ثلاث وحدات فرعية، إحداها مركب يحتوي على النيتروجين يُسمى القاعدة. القواعد أربعة أنواع: الأدينين (A)، والسيتوزين (C)، والجوانين (G)، والثايمين (T). تربط بين شريطَي جزيء الحمض النووي الواحد روابط هيدروجينية تتكون بين قواعد كل منهما. لزامًا، يقترن C مع G وA مع T؛ وهو مبدأ يُعرف باسم «تكامل الأزواج القاعدية». هذا يعني أن تسلسل القواعد على شريط واحد من جزيء الحمض النووي، الذي يمكن تمثيله بسلسلة طويلة من الأحرف الأربعة A وC وG وT، يحدد التسلسل على الشريط المقابل. أدرك واتسون وكريك أن هذا يشير إلى وجود آلية مُحتملة لنسخ المادة الجينية؛ ألا وهي فصل الشريطين، واستخدام كل منهما نموذجًا لتخليق شريط جديد. هذا بالضبط ما يحدث في عملية تضاعف الحمض النووي، وهو ما يُفسِّر كيف تُنسَخ الجينات بدقة من خلية إلى أخرى، وبالتالي من الوالد إلى الذرية.
fig6
شكل ٦-٢: يتكون الحمض النووي من شريطين، يتكون كل منهما من سلسلة طويلة من النيوكليوتيدات المترابطة. يتصل الشريطان بروابط بين قواعد النيوكليوتيدات.

أدى ظهور علم الوراثة الجزيئي إلى إدراك علمي جديد لماهية الجينات وآلية عملها. الفكرة الأساسية هي أن الجين هو جزء معين من الحمض النووي يقع على الكروموسوم؛ وأن كل جين ينتج عنه منتج جيني معين (بروتين) في كل خلية، وبالتالي يؤثر على صفات الكائن الحي؛ وأن البروتين الناتج يعتمد على التسلسل الدقيق لقواعد النيوكليوتيدات في الجين. تنشأ الطفرات نتيجة أخطاء في عملية مضاعفة الحمض النووي، مما ينتج عنه جين له تسلسل نيوكليوتيدات مختلف، وبالتبعية بروتين مختلف. بشكل عام، هذا هو «مفهوم الجين الجزيئي» الذي تبلور في ستينيات القرن العشرين.

لإدراك هذا المفهوم بشكل أفضل، تذكر أن البروتينات في الخلية تقوم بجميع الأنشطة الخلوية المهمة، وهي ضرورية لبِنيَة أنسجة وأعضاء الكائن الحي وعملها. يتكون البروتين من سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية المتصلة في سلسلة عديد الببتيد. يحدد التسلسل الخطي للأحماض الأمينية في البروتين، الذي يسمى البنية الأولية، الشكل الثلاثي الأبعاد للبروتين، والذي بدوره يحدد سلوك البروتين. يفترض مفهوم الجين الجزيئي وجود تناظر مباشر بين التسلسل الخطي لقواعد النيوكليوتيدات في الجين والتسلسل الخطي للأحماض الأمينية في البروتين الذي يُنتجه الجين. (أشار كريك إلى هذا التناظر باسم «فرضية التسلسل».) وهذا يعني أن أي تغيير في تسلسل النيوكليوتيدات في الجين، بسبب طفرة على سبيل المثال، سيكون له تأثير محدد تمامًا على تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين الناتج.

ترسَّخ مفهوم الجين الجزيئي إبان فك الشفرة الوراثية في الستينيات. لفَهْم هذا، نحتاج إلى وصف موجز لعملية التعبير الجيني، التي تنتج بواسطتها الجينات منتجاتها البروتينية. لهذه العملية مرحلتان: النسخ والترجمة. في مرحلة النسخ، يُنسَخ جزء من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبي (آر إن إيه)، الذي يتكون من شريط واحد فقط. يكون شريط الحمض النووي الريبي الناتج مطابقًا في تسلسله لأحد شريطي الحمض النووي، باستثناء أن اليوراسيل (U) يحل محل الثايمين (T). في الكائنات الحية الحقيقية النواة (التي تشمل جميع النباتات والحيوانات)، يخضع شريط الحمض النووي الريبي الأولي للمعالجة لإنتاج الحمض النووي الريبوزي الرسول (إم آر إن إيه) الناضج، والذي يترك بعد ذلك نواة الخلية. في مرحلة الترجمة، تُفَك شفرة الحمض النووي الريبوزي الرسول في «مصنع» خلوي يسمى الريبوسوم حيث تتكون سلسلة عديد الببتيد النامية بإضافة الأحماض الأمينية، واحدًا تلو الآخر.
يتحدد الحمض الأميني الذي يُضاف إلى السلسلة من خلال تسلسل النيوكليوتيدات في الحمض النووي الريبوزي الرسول. كل كودون أو مجموعة ثلاثية من النيوكليوتيدات تناظر واحدًا من عشرين حمضًا أمينيًّا مختلفًا؛ مِن ثَم، تناظر المجموعة الثلاثية CAG على سبيل المثال الحمض الأميني ليوسين. هذا التناظر هو الشفرة الجينية، وهي تكاد تكون عامة في جميع الكائنات الحية. في جوهرها، تعني الشفرة الجينية أن تسلسل قواعد النيوكليوتيدات في الجين يمكن اعتباره تعليمات مكتوبة لبناء بروتين بتسلسل حمض أميني معين.

في السنوات التي أعقبت فك الشفرة الجينية، تَقدَّم علم الوراثة الجزيئي بخطًى حثيثة. إذ كشف عن تعقيدات التعبير الجيني مما أدى إلى تحول في فَهْم علماء الأحياء لكيفية عمل الخلايا ونمو الكائنات الحية وتأثير الجينات على السمات الظاهرية. علاوة على ذلك، بفضل التقدم التكنولوجي الملحوظ، تمكن علماء الأحياء بعد ذلك بقليل من تعديل الجينات تجريبيًّا، باستخدام أساليب مثل قطع ولصق تسلسلات الحمض النووي، وإزالة مقاطع من هذه التسلسلات، ونقل الحمض النووي من كائن حي إلى آخر. لا تزال تقنيات مُحسَّنة تُطوَّر ﻟ «تعديل الجينوم» إلى يومنا هذا (مثل تقنية كريسبر التي تصدرت عناوين الأخبار في سنة ٢٠۱٥). نتيجة لهذه التطورات، تحولت الجينات من كَوْنها أشياء خاملة تخضع للدراسة إلى كيانات يمكن تعديلها إن أردنا.

في الثمانينيات والتسعينيات، طُورَت التكنولوجيا اللازمة لتحديد تسلسل الجينات، أي لتحديد تسلسل النيوكليوتيدات الدقيق. خلص ذلك إلى مشروع الجينوم البشري، الذي نشر التسلسل الكامل لجميع الجينات البشرية في عام ٢٠٠۳. منذ ذلك الحين، حُددَت تسلسلات جينومات العديد من الأنواع الأخرى، وتطور سريعًا مجال علم الجينوم، الذي يدرس الجينوم الكامل وكيفية عمله. لقد أدَّى علم الجينوم بالفعل إلى تطورات طبية جديدة، لا سيما في علم الأورام، ويمكن أن يؤديَ إلى تحوُّل أيضًا في مجالات أخرى مثل الزراعة. لقد قطع علم الوراثة شوطًا طويلًا منذ نشأته المتواضعة من تجارب مندل على نبات البازلاء.

أهو اختزال؟

ما العَلاقة بين الجين في علم الوراثة المندلي أو الكلاسيكي والجين في علم الوراثة الجزيئي؟ لطالما شغَل هذا السؤال فلاسفة علم الأحياء. إحدى الإجابات المنطقية هي أنهما واحد. أي إن الكيان الافتراضي الذي افترضه مندل وعلماء الوراثة الكلاسيكية لتفسير بياناتهم تبيَّن أنه كيان له وجود حقيقي، باعتباره جزءًا من الحمض النووي يُشفِّر بروتين ما. وَفقًا لوجهة النظر هذه، على الرغم من وجود مفهومَين مختلفين للجين — المندلي والجزيئي — فإن هذين المفهومين يشيران إلى شيء واحد في الواقع.

هذه الإجابة معقولة. فاستمرار إشارة مفهومين مختلفين إلى عنصر واحد هي فكرة مألوفة في الفلسفة، وكذلك استمرار إشارة مصطلح علمي واحد إلى الشيء نفسه على الرغم من التغييرات الكبيرة في المعتقدات العلمية الهامة المرتبطة به. على سبيل المثال، يمكن القول إن مصطلح «إلكترون» كما يستخدمه الفيزيائيون المعاصرون وكما استخدمه فيزيائيو أواخر القرن التاسع عشر يشير إلى شيء واحد، على الرغم من تغير النظرية الفيزيائية بشكل كبير خلال هذه الفترة. لذلك، على الرغم من أن مندل وعلماء الوراثة الكلاسيكية لم يعرفوا شيئًا عن الحمض النووي أو الشفرة الجينية، فمن المنطقي تمامًا أن نقترح أنهم عندما تحدثوا عن «عامل» أو «جين»، في سياق تجارب التهجين التي أجروها، كانوا في الواقع يشيرون إلى مقطع من الحمض النووي يشفر بروتينًا ما.

يتوازى افتراض تطابق الجين عند مندل مع الجين الجزيئي مع فكرة أنه يمكن «اختزال» علم الوراثة المندلي في علم الوراثة الجزيئي. غالبًا ما يتحدث الفلاسفة عن اختزال فرع من فروع العلم في فرع آخر، مما يعني تفسير مبادئ الفرع الأول من خلال مفاهيم الفرع الآخر. أحد الأمثلة على ذلك هو اختزال الديناميكا الحرارية الكلاسيكية في الميكانيكا الإحصائية. تصف الديناميكا الحرارية نظامًا فيزيائيًّا مغلقًا (مثل أسطوانة غاز مضغوطة بواسطة مكبس) من حيث خصائصه الكبيرة مثل درجة الحرارة؛ بينما تصف الميكانيكا الإحصائية النظام نفسه باعتباره تجمعًا لجسيمات مجهرية متحركة. يمكن اشتقاق قوانين الديناميكا الحرارية من الميكانيكا الإحصائية، لذا فإن هذه الأخيرة تقدم تفسيرًا أعمق لظواهر الديناميكا الحرارية. يتم الوصول إلى هذا الاشتقاق بمساعدة «المبادئ الجسرية» التي تربط مفردات النظريتين، مثل «درجة حرارة الغاز هي متوسط الطاقة الحركية لجزيئاته». وبالمثل، اعتبر بعض الفلاسفة مقولة «الجين هو مقطع من الحمض النووي يشفر بروتينًا ما» مبدأ جسري يربط بين علم الوراثة المندلي والجزيئي.

للوهلة الأولى، يبدو هذا طرحًا معقولًا للغاية. من الواضح أن علم الوراثة الكلاسيكية كان مصيبًا في شيء؛ إذ تبين أن أنماط الوراثة التي اكتشفها حقيقية، وأن التفسير الذي قدَّمه لتلك الأنماط من حيثية انفصال الجينات وَفقًا لقوانين مندل صحيح بصفة عامة. لكن التفسير كان غير مكتمل في جوهره نظرًا لعدم معرفة ماهية الجينات وكيفية انتقالها وكيفية تأثيرها على نمو الكائن الحي. وهي تفاصيل وضَّحها علم الوراثة الجزيئي الذي يقدم شرحًا أعمق للظواهر الوراثية، وبالتالي يمكن اختزال الوراثة المندلية والكلاسيكية فيه وَفقًا لذلك الطرح.

على الرغم من معقوليته في البداية، فقد قابل فلاسفة علم الأحياء هذا الاقتراح الاختزالي برفض واسع. كان من أوائل الاعتراضات ذلك الذي طرحه فيليب كيتشر، والقائل بأنه لشرح سبب صحة قانون مندل للفصل، لا نحتاج إلا للإشارة إلى أن الجينات تستقر على الكروموسومات التي توجد في أزواج، وإلى أنه أثناء الانقسام المُنصِّف أو الميوزي (عملية الانقسام الخلوي التي تنتج خلايا أحادية المجموعة الكروموسومية)، تنقسم الكروموسومات في كل زوجين؛ لذلك يصبح في كل مشيج كروموسوم واحد فقط من كل زوجين. هذا التفسير خلوي أو على مستوى الخلية، وليس على المستوى الجزيئي. يرى كيتشر أن إضافة «تفاصيل جزيئية دقيقة» لا يجعل التفسير أفضل، ومِن ثَم لا يفسر علم الوراثة الجزيئي حقًّا قانون الفصل.

يقوم اعتراض ثانٍ على أن المبدأ الجسري المزعوم الذي يربط بين علم الوراثة المندلي والجزيئي خاطئ، أو هو على الأقل تبسيط مخل، استنادًا إلى أن بعض مقاطع الحمض النووي تعتبر جينات مندلية ولكن ليست جينات جزيئية، والعكس صحيح. أحد أسباب ذلك هو أن الجزء الأكبر من الحمض النووي في جينوم أي نوع لا يُشفِّر بروتينات؛ وهي حقيقة لم تكن معروفة لواضعي مفهوم الجين الجزيئي. تلعب بعض تسلسلات الحمض النووي غير المشفِّرة دورًا رئيسيًّا في تنظيم التعبير الجيني، أي إنها تؤثر على تحديد أي جينات تُنسَخ ومتى. هذا يسمح للخلية بإنتاج منتج بروتيني عند الحاجة، وهي الآلية التي تضمن تمايز الخلايا، أي إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا والأنسجة في الكائن الحي النامي. بشكل حاسم، يمكن أن تؤثر الطفرات في الحمض النووي غير المشفِّر على سمات الكائن الحي بقدر ما تؤثر الطفرات في الجينات الجزيئية. يعتبر تسلسل الحمض النووي غير المُشفِّر جينًا مندليًّا إذا كان له تأثير نظامي على النمط الظاهري، كأن تؤدي تباينات ذلك التسلسل إلى صور مختلفة لصفة ما. باختصار، إن تشفير البروتين ليس الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يلعب بها تسلسل الحمض النووي دور جين مندلي.

الاعتراض الثالث هو أن بعض المفاهيم الجينية المندلية تستعصي على التعريف من الناحية الجزيئية. أحد أمثلة ذلك هو مفهوم «السيادة». فلا بدَّ من وجود تفسير على المستوى الجزيئي لسبب سيادة جين على أليلاته؛ أي لسبب تطابق الكائنات الحية التي لديها نسخة واحدة من الجين في النمط الظاهري مع تلك التي تحمل نسختين. قد يكون التفسير معقدًا، ولكنه ممكن من حيث المبدأ. ومع ذلك، على حد علمنا، لا توجد سمة جزيئية واحدة مشتركة بين جميع الجينات السائدة فقط. أي إن فئة الجينات السائدة تفتقر إلى أي قواسم مشتركة بينها يمكن وصفها جزيئيًّا. (بلغة الفلاسفة، لدى السيادة «تحققية متعددة» على المستوى الجزيئي.) وبالتالي، بعض الأنماط الوراثية لا يمكن وصفها إلا باستخدام مفاهيم مندلية.

يرى اعتراض رابع أن العَلاقة بين علم الوراثة الجزيئي والمندلي أكثر تعقيدًا مما توحي به الصورة الاختزالية. ارتبط الجين المندلي/الكلاسيكي بممارسة تجريبية ونمط تفكير معينين، لا يستعاض عنهما بعلم الوراثة الجزيئي. في الواقع، لا يزال مفهوم الجين المندلي قائمًا إلى اليوم، على عكس ما توقعه المنظور الاختزالي. على سبيل المثال، لا يزال المتخصصون في علم الأحياء التطوري يستخدمون مفهوم الجين المندلي عندما يبنون نماذج رياضية لانتشار الجينات في جماعةٍ ما. المقصود بالجين أساسًا في مثل هذه النماذج هو أي جسيم ينتقل كما هو من الأبوين إلى الذُّرية، ممتثلًا لقانون الفصل وله تأثير نظامي على النمط الظاهري. وبالمثل، فإن فكرة «الجين الأناني» لريتشارد دوكينز التي نوقشت في الفصل الرابع، تستند إلى حدٍّ كبير على مفهوم الجين المندلي. كما يشير دوكينز، سواء كان «الجين الأناني» جينًا بالمعنى الجزيئي أم لا، فهذا لا يغير شيئًا في منطق حجته.

قد يبدو إجماع الفلاسفة على عدم اختزال علم الوراثة المندلي في علم الوراثة الجزيئي مستغربًا. إذ غالبًا ما يُصوَّر علم الأحياء الجزيئي، على أنه انتصار للمنهج الاختزالي في العلم؛ وهو منهج دراسة الأنظمة الأكبر من خلال دراسة كيفية عمل أجزائها الدقيقة، وهي صورة صحيحة. كيف إذَن يمكن أن تكون الطريقة الاختزالية قد خدمت علم الأحياء الجزيئي بشكل جيد، ومع ذلك فإن الجين المندلي غير قابل للاختزال إلى الجين الجزيئي؟ في الواقع، لا يوجد تناقض حقيقي هنا. حيث إنه إذا خضع نظام ما، بيولوجيًّا أو فيزيائيًّا، للبحث الاختزالي، فهذا لا يستتبع إمكان استبعاد كل نمط يظهره النظام على المستوى الكلِّي لصالح نمط على المستوى الجزئي. أن يدين علم الأحياء الجزيئي بنجاحه للمنهج الاختزالي هو بالتالي أمر يتوافق تمامًا مع أنه ما يزال لمفاهيم الوراثة المندلية دَور مهم لتلعبه.

ما الجين؟

دعونا نعود إلى مسألة ماهية الجين. حتى لو نحيَّنا علم الوراثة المندلي وركزنا فقط على علم الوراثة الجزيئي، فإن هذا السؤال لا يزال غير مباشر. حيث إنه منذ سبعينيات القرن العشرين، وللمفارقة، أدَّت اكتشافات في علم الأحياء الجزيئي نفسه إلى تقويض مفهوم الجين الجزيئي التقليدي تدريجيًّا. بالفعل، يتحدث بعض المؤلفين عن «انحلال» هذا المفهوم على أساس أنه تبين أنه تقريب للواقع غير كامل إلى حدٍّ بعيد.

تنظيم الجينات الذي سبق أن وصفناه هو أحد أسباب المشكلة. بصفة عامة، لا تكون تسلسلات الحمض النووي غير المشفِّرة التي تنظم عملية نسخ الجينات مجاورة للمناطق التي تشفر البروتينات، بل قد تكون بعيدة جدًّا عنها؛ علاوة على ذلك، تؤثر بعض التسلسلات غير المشفِّرة على نسخ العديد من مناطق تشفير البروتين. ولا يتفق علماء الأحياء على ما إذا كانت التسلسلات غير المشفِّرة، بما فيها التسلسل المحفِّز الذي يستهل عملية النسخ، تُعَد جزءًا من الجين أم لا. إذا كان يفترض أن يتضمن الجين كل الحمض النووي المسئول عن صنع بروتين وَفقًا للمفهوم التقليدي للجين الجزيئي، فيجب تضمينه هذه التسلسلات. لكن تضمينها يجعل الجين كيانًا غريبًا إلى حدٍّ ما تتناثر أجزاؤه في شتى أرجاء الجينوم.

ظاهرة «الوصل البديل» أكثر إشكالية. في حقيقيات النوى، تخضع نسخة الحمض النووي الريبوزي الأولية لتعديل جوهري لإنتاج الحمض النووي الريبوزي الرسول الناضج الذي سيُترجَم. إذ تُحذَف منه «الإنترونات» وتُوصَل «الإكسونات» المتبقية. ولكن هذا الوصل يمكن أن يحدث بأكثر من طريقة، مما يعني أن تسلسلًا واحدًا من الحمض النووي يمكن في الواقع أن ينشأ منه عدة بروتينات مختلفة. كان يُعتقَد في السابق أن الوصل البديل نادر، لكننا صرنا نعرف الآن أنه شائع الحدوث. تستخدمه الكائنات الحية لمصلحتها، إذ إنه يزيد كثيرًا من عدد البروتينات التي يمكن تكوينها من تسلسل واحد من الحمض النووي. لكن الوصل البديل يجعلنا نتشكك في المفهوم التقليدي للجين الجزيئي، لأنه يقوِّض فرضية التسلسل التي وضعها كريك. فقد تبين أن تصور الجين جزءًا من الحمض النووي يشفِّر بروتينًا واحدًا هو تصور مُبسَّط حد المبالغة.

تتعقد الصورة أكثر في ظل اكتشافات أخرى. على سبيل المثال، يمكن أن تبدأ عملية الترجمة من نقاط مختلفة على الحمض النووي الريبوزي الرسول، لذلك يمكن لنسخة واحدة من الحمض النووي الريبوزي الرسول أن تنتج عددًا من البروتينات المختلفة. علاوة على ذلك، تُنتَج بعض البروتينات من نسخة حمض نووي ريبوزي مستمدَّة من تسلسلات متعددة من الحمض النووي، قد تكون موجودة في أجزاء متباعدة في الجينوم. وفي حالات «الجينات المتداخلة»، يمكن أن يتشارك (ما يُعتبر عادةً) جينان منفصلان تسلسل نيوكليوتيد واحد. تثير مثل هذه التعقيدات، وغيرها الكثير، أسئلة صعبة حول تحديد تسلسلات الحمض النووي التي ينبغي اعتبارها جينات، وسبب ذلك.

في أغلب الأوقات، يتراخى علماء الوراثة العمليون إلى حد ما في الإجابة عن تلك الأسئلة. فمن الجلي أن أبحاثهم اليومية العادية تسير بسلاسة دون الحاجة إلى تقرير ما يجب اعتباره جينًا. وهذا بحد ذاته مثير للاهتمام من منظور فلسفي. إذ وفق وجهة نظر شائعة، تتميز المعرفة العلمية عن المعرفة العادية بأنها أدق. وعلم الوراثة الجزيئي بالتأكيد يتميز بمستوًى عالٍ جدًّا من الدقة «التجريبية». ومن الطبيعي أن نعتقد أن هذه الدقة التجريبية تسير جنبًا إلى جنب مع الدقة المفاهيمية؛ أي إنه لا بدَّ أن المصطلحات العلمية الرئيسية مُعرَّفة بدقة. تُظهر مسألة الجينات أن الأمر ليس دائمًا كذلك.

الجينات والمعلومات

لطالما كانت فكرة احتواء الجينات على «معلومات» سمة أساسية لعلم الوراثة الجزيئي. فكثيرًا ما يقال إن المعلومات الجينية تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وإنها توجه عملية نمو الجنين إلى فرد بالغ. تلك مصطلحات مُربِكة للغاية لو تأمَّلناها، وإن كانت مألوفة. فمعظم العلوم لا تستخدم لغة «المعلومات» لوصف العمليات السببية التي تدرسها. لماذا إذَن يستخدم علماء الوراثة مثل هذه اللغة لوصف عمليتَي نسخ الحمض النووي والتعبير الجيني، وماذا يعني ذلك؟

أحد المعاني المقبولة للكلمة هو أن المعلومات هي ما يوجد أينما أمكننا التنبؤ بشيء ما بِناءً على شيء آخر. على سبيل المثال، يحتوي لون السُّحُب على معلومات حول احتمال هطول الأمطار، إذ يتنبأ الأول بوقوع الأخير. بهذا المعنى، تحتوي الجينات بالتأكيد على معلومات حول سمات النمط الظاهري التي تسببها، وحول البروتينات التي تشفرها. على سبيل المثال، إن الجين الذي يؤثر على لون عين الكائن الحي سيحتوي بالتالي على معلومات حول تلك الصفة. ولكن، من غير المرجح أن يكون هذا ما يقصده علماء الأحياء بالمعلومات الجينية. إذ بهذا المعنى، يمكن أن يقال أيضًا إن الخصائص البيئية تحتوي على «معلومات» حول الصفات الظاهرية. فدرجة الحرارة التي تُحضَّن فيها البذرة تتنبأ بطول النبات البالغ؛ لكن علماء الأحياء لا يتحدثون عن «المعلومات البيئية». مِن ثَم لا بدَّ أن ثمة سببًا آخر وراء استخدام اللغة المعلوماتية في مجال الجينات.

إحدى الأطروحات الشائعة تعزو السبب إلى حقيقة أن الشفرة الجينية «اعتباطية». ما يعنيه هذا هو أن التناظر بين المجموعات الثلاثية من النيوكليوتيدات والأحماض الأمينية، الذي يحدد البروتين الذي يصنعه تسلسل معين من الحمض النووي، ليس لازمًا كيميائيًّا. فلا يوجد سبب كيميائي يجعل CAC مناظرًا للهستيدين لا الليوسين على سبيل المثال. (لهذا السبب كان لا بدَّ من فك الشفرة الجينية تجريبيًّا؛ إذ لا يمكن استنتاجها من قوانين الكيمياء). تعني اعتباطية الشفرة الجينية أن العَلاقة بين الحمض النووي والبروتين تشبه العَلاقة بين إشارة ومعناها. تأمل على سبيل المثال كلمة في أي لغة طبيعية، أو إشارة مرور. كلاهما يحمل معلومات بحكم المعاني التي عيَّنها لهما العُرف. لأن ذلك العرف يحتمل الاختلاف، فالمعاني اعتباطية لا محالة. ونظرًا لأن الشفرة الجينية اعتباطية أيضًا، فإن هذا يخولنا لأن نعتبر تسلسل حمض نووي محتويًا على معلومات حول البنية الأساسية للبروتين، لا مجرد متسبب في هذه البنية فحسب.

قدَّم جون مينارد سميث طرحًا مختلفًا، يُرجِع فيه سبب استخدام اللغة المعلوماتية في علم الوراثة إلى بعض الحقائق عن التعبير الجيني. تحتوي جينات جميع الكائنات الحية على تسلسلات تنظيمية تؤدي وظيفة «مفاتيح» تُشغِّل الجين أو توقف عمله. تفعل هذه التسلسلات ذلك عن طريق الارتباط ببروتينات معروفة باسم عوامل النسخ. هذه البروتينات شفرتها جينات أخرى في الجينوم. من حيث المبدأ، يمكن لأي عامل نسخ تشغيل أي جين إذا طوَّر هذا العامل تسلسل تنظيمي مناسب. إذَن تلك عملية تتضمن عنصرًا من الاعتباطية أيضًا. وبالتالي يمكننا اعتبار أن أحد الجينات «يرسل إشارة» إلى جين آخر فيه أمر بالتشغيل أو الإيقاف. تكمن أهمية هذا في أنه أينما يحدث إرسال لإشارات، يكون من المنطقي الحديث عن المعلومات. فالرقصة الاهتزازية للنحلة هي إشارة وظيفتها توجيه النحل الآخر إلى الرحيق؛ ومِن ثَم تحتوي الرقصة على معلومات حول موقع الرحيق. وبالمثل، يمكننا اعتبار الجينات مُرسِلات ومُستقبِلات للمعلومات، باعتبار أن تنظيم الجينات يعتمد على نظام إشارات تطور تدريجيًّا.

على النقيض من هذه الاقتراحات، يرى بعض المؤلفين أن الحديث عن المعلومات الجينية يمكن الاستغناء عنه لأنه لا يلعب دورًا نظريًّا جادًّا في علم الأحياء. (وصف الفيلسوفان سهوترا ساركار وبول جريفيث المعلومات الجينية بأنها «مجاز» متنكر في رداء مفهوم علمي دقيق). ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك إذ رأوا أن المعلومات الجينية مفهوم ضار، لأنه يرتبط بتصور خاطئ عن كل من النمو والوراثة. كان وما زال هناك نزعة سائدة لافتراض أن الجينوم يحتوي على مجموعة كاملة من التعليمات لإنشاء كائن حي، وأن الجينات هي المتحكم الأوحد في نمو الكائن الحي. على حد تعبير فوكس كيلر، يُنظر إلى الجينوم باعتباره «مجموعة تنفيذية من التعليمات الإدارية». هذا الرأي ليس خاطئًا تمامًا — فلا شك أن للجينات دَورًا أساسيًّا في النمو — لكنه ليس صحيحًا تمامًا أيضًا، لسببين. أولًا، اتضح أن الجينات نفسها لا «تقرر» متى وأين تصنع منتجاتها البروتينية؛ بل تنظم الخلية التعبير الجيني استجابة للظروف البيئية. لذا فإن الجينوم كيان «تفاعلي»، وسلوكه يخضع جزئيًّا لسيطرة البيئة. ثانيًا، صرنا نعلم الآن أن التغييرات المستحَثَّة بيئيًّا في حالة تعبير الجين، والمعروفة باسم «علامات الوراثة فوق الجينية»، تنتقل أحيانًا من الآباء إلى الأبناء، ويمكن أن تؤثر على صفات الذُّريَّة. لذا فإن تسلسل الحمض النووي الخطي في حد ذاته ليس المصدر الموروث الوحيد الذي تعتمد عليه الكائنات الحية في نموها.

لهذين السببين، سيكون اعتبار الجينوم محتويًا على مجموعة ثابتة من التعليمات، أو مخططًا لبناء كائن حي تبسيطًا مفرطًا. أولئك الذين يعارضون الحديث عن المعلومات الجينية يخشون من أنه يشجع على هذا التبسيط المفرط. يبقى أن نرى ما إذا كانت الأجيال القادمة من علماء الأحياء سوف تلتفت إلى نقدهم ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤