مقدمة الأفكار الكبرى بكلمات بسيطة

«باولو كويلُّو» كاتب برازيلي يكتب بالبرتغالية، تفوق شهرته الآن في أمريكا اللاتينية والعالم شهرة كل من سبقوه في قارَّته، بمن فيهم «جارثيا ماركيث». يكتب عن الروحانية بشكلٍ جديد من أشكال الواقعية السحرية. تكوينٌ جسمانيٌّ ضئيل، شَعرٌ فضي كأنه الثلج، ولحيةٌ صغيرةٌ مشذَّبة جيدًا، ويرتدي ثيابًا سوداء معظم الوقت، على فمه ابتسامة مودَّة تجعله يبدو مثل أي مليونيرٍ برازيلي واثق الخطوة يمشي ملكًا … وخاصة عندما تلمع في يده ساعته الذهبية الثمينة من تحت كُم المعطف الكشمير الأنيق … كُتبه تُترجَم إلى لغات العالم، وتبيع ملايين النسخ، ويحصُد في طريقه الجوائز الأدبية كما يجمع غيره طوابع البريد. تقول مجلة «لير» الفرنسية نتيجة استطلاع للرأي: إنه أشهر كاتبٍ في العالم، والأكثر انتشارًا في عام ۱۹۹۹م بعد الكاتب «جون جريشام»، وإن أعماله (٩ كتب) قد تُرجمَت إلى ٤٥ لغة، وباعت ٢٦,٣ مليون نسخة.

أما أحدث تكريم له فهو وسام جوقة الشرف المقدَّم له من الحكومة الفرنسية في مارس من العام الماضي.

«باولو كويلُّو» قلب دفاع عالم الأدب بروايته الثانية «السيميائي» — ۱۹۸۸م — (ترجمها إلى العربية بهاء طاهر لروايات الهلال وصدَرَت بعنوان: ساحر الصحراء).

هذا الرجل الذي اكتشف طريقه الخاصة وهو في الثامنة والثلاثين (عندما أصدر عمله الأول «رحلة حج» في ١٩٨٦م)، كان يحلُم دائمًا بأن يكون كاتبًا. عندما ذهب لكي يبوح لأمه بهذه الرغبة نصحَته أولًا بأن يذهب لدراسة القانون، بعد أن كان قد فشل في دراسة الهندسة، لكي يؤمِّن مستقبله، كما كان يريد له والده. وعمل بنصيحتها، ولكنه ترك الدراسة. كان قد ألحِق في طفولته بإحدى مدارس «الجيزويت» — أسوأ مكان لتعلم الدين، كما قال بعد ذلك — وبعد أن ترك دراسة القانون جرفَته معها جماعات «الهيبيز»، فسار في رِكابها، وعاش مع أفكار «ماركس» و«لينين» و«هاري كريشنا» وجماعات السحر الأسود، وأدمن المخدرات، وأدخِل إلى مصحةٍ نفسية ثلاث مرات في الستينيات. مسيرةٌ حياتيةٌ ثرية رفدَت حُلمه القديم، فكتَب للتليفزيون والصحافة، وكتَب الأغاني الشعبية (أكثر من سبعين أغنيةً لنجم الروك البرازيلي راءول سيكساس الذي يعتبره جيم موريسون البرازيل). بعدها اعتبَره الحكم العسكري في البرازيل عنصرًا مخربًا يسعى مع الشيوعيين والفوضويين لإقامة مجتمعٍ بديل، فاعتُقِل أكثر من مرة، ثم خرج ليعمل في شركة للإنتاج الفني. أنهت الشركة خدماته في ۱۹۷۹م، فقرَّر مستعينًا بما توفَّر له من ريع أغانيه أن يسافر في العالم هو وزوجته. «قلتُ: لا بأس! أنا مشغول بالروحانيات، وأحاول أن أتحكَّم في تلك القوة الكامنة بداخلي … والآن عليَّ أن أحاول فهم معناها. كان قد تراكم لديَّ مبلغ ۱۷۰۰۰ دولار ادَّخرتُها لشراء شقة … قلتُ لزوجتي فلنسافر … ولأحاول أن أجد معنًى لحياتي. وأيًّا كان الأمر، فلن تكون التكلفة أكثر من هذا المبلغ.»

خرج «كويلُّو» في طريق رحلة الحج المسيحية القديمة من سَفْح جبال البرانس إلى العاصمة الغالية القديمة على ساحل الأطلنطي؛ حيث تقول الأسطورة: إن «القديس جيمس» قد دُفِن.

«قبل ذلك لم أكن قد حاولتُ أن أكتب كتابًا؛ إذ كنتُ حتى ذلك الحين أتعامل فقط مع الأحلام، ولا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك.»

أما روايته الثانية «السيميائي»، فهي أمثولة أو خُرافة عن ضرورة أن نتتبَّع أحلامنا، مع الوعي بأننا قد ندفع ثمنًا باهظًا لذلك. وهي حكاية «سنتياجو» الراعي الأندلسي الذي يقرِّر الترحال بحثًا عن كنز، فيتعلم من الرحلة حكمة الاستماع إلى لغة القلب. يقول «كويلُّو» إنه عندما يكتب كتابًا فإنما يكتب لنفسه أولًا، محاولًا أن يجيب عن بعض الأسئلة التي كانت تصطخب بداخله على مدى حياته كلها. وهو يعرف أنه كلما اقترب من روحه فإنما يقترب من «روح العالم»، بتعبير «يونج».

«اجعل حياتك سعيًا لتحقيق أسطورتك الخاصة، قَدرِك الخاص، ومهما واجهتَ من صعاب فلا تجعل شيئًا يقف في طريقك … لا الإحساس بكرامة، ولا الشعور بيأس أو خيبة أمل … لا تتردَّد ولا تستسلم.»

«كويلُّو» يعتقد أن لكلٍّ منا أسطورته، حُلمه الذي لا بُدَّ من أن يعمل على تحقيقه. أما السعي لذلك فهو ليس رحلةَ سعيٍ أنانية، لأن الوعي بالأسطورة الذاتية وبالحُلم الخاص لا يجعل الشخص متفردًا … الوعي بهما، على العكس من ذلك، يجعل الشخص إنسانًا عاديًّا جدًّا بكل مزاياه ونقائصه، وهذا ما ينبغي عليك أن تكونه بالتحديد. افعل ما هو مُفترَض أن تفعله، سواء كنت تريده أو لا تريده. «كويلُّو» يخترع شخصياتٍ مُقنِعة ويتلاعب بمصائرها، يحطِّم الأحلام المتواضعة ويضعها في مواجهة تحدياتٍ رمزية، مثل الأحلام التي تتردَّد أصداؤها مع آمال القارئ وطموحاته.

وعندما رصَد مبلغًا كبيرًا من المال لدارٍ لرعاية أطفال الشوارع في البرازيل كان يقول: «كلنا أيتامُ أحلامنا.» ولذلك أيضًا كان يرُد على منتقدي أعماله قائلًا إنه يكتب ﻟ «الطفل فينا»، يكتب بلغةٍ لا انفصال فيها بين السحري والواقعي.

روايات «كويلُّو» المهمة (رحلة حج – السيميائي – الجبل الخامس – فيرونيكا تقرر أن تموت) ليست مُنبتَّة الصلة بمسيرته الحياتية. وقُراؤه يجدون في تجاربه ضعفَهم ومخاوفَهم وأحلامَهم. وهو يريد أن يقول لهم ولنفسه عن أهمية أن يخوض المرء معارك قليلة، وأن ينظر إليها على أنها ضربٌ من المغامرة، أكثر مما هي تضحيات.

زار «باولو كويلُّو» مصر في أوائل الثمانينيات قبل أن يعود إلى البرازيل نهائيًّا ويحترف الكتابة. يقول في حوارٍ أجراه معه عمر طاهر وأمل سرور ونشرَتْه مجلة «نصف الدنيا» المصرية (العدد ٤٨٦ الصادر في ٦ / ٦ / ٩٩م): «قبل أن أكتب «ساحر الصحراء» قمتُ بزيارة القاهرة … وحصَلتُ على خبرةٍ نفسية وروحية وسعادةٍ لم أحظَ بها من قبلُ، كنتُ في القاهرة في أوائل الثمانينيات وقضيتُ أسبوعَين … ذهبتُ بمفردي ولم أكن أعرف شخصًا واحدًا هناك. التقيت بشابٍّ اسمُه حسان، وطلبتُ منه أن يكون مرشدي في هذه الرحلة … وبدأ يقودني في مناطقَ داخل القاهرة إلى أماكنَ لم أسمع عنها من قبلُ. ذهبتُ إلى منطقة الأهرام في اليوم الأول فوجدتُها مزدحمة بالسياح وبها عددٌ مهول من البشر منعني من لمس جماليات المكان … فقلتُ لحسان: أريد أن أذهب إلى الصحراء … فذهبنا بالجِمال، وسرنا في الصحراء مسافةً طويلة حتى وصلنا إلى تلٍّ عالٍ وقفتُ فوقه فشاهدتُ الأهرام في منظرٍ عام … حدث هذا في ليلةٍ مقمرة، وكانت أشعة ضوء القمر تغمُر المنطقة، وخلف الأهرام كانت أنوار القاهرة تسطع وتتلألأ […] مبدئيًّا كاد أن يُغشَى عليَّ من سحر المنظر ورهبته … وشعَرتُ بالحَيْرة الكاملة والاضطراب الشامل … كانت لحظةً رهيبة في حياتي، كلما تذكَّرتُها سرَت القُشَعريرة في جسدي. في العام التالي كتبتُ روايتي الأهم «ساحر الصحراء»، وكتبتُ فيها هذا المشهد بتفاصيله، ووضعتُ راعي الأغنام — بطل الرواية — مكاني.» ويضيف «كويلُّو» في الحوار نفسه:

«نجحَت الرواية لأنني كنتُ بطلها … أو على الأقل أُشبِه بطلها راعي الأغنام في أشياء كثيرة … أهمها شعوره الدائم بحُلمٍ قديم لا بُدَّ أن يحقِّقه … فيحقِّقه … رغم أنه في كل مرة يمشي في اتجاه تحقيق الحلم تأخذه الدنيا لطرقٍ أخرى جانبية … لكنه يعود بعد فترة للطريق الرئيس.»

كلمات «كويلُّو» السابقة هي خيرُ مُعبِّر عن أفكاره التي تتضمَّنها مختارات هذا الديوان الصغير من كتابه «مكتوب» الصادر في عام ١٩٩٤م. والكتاب يضُم مجموعةً من النصوص التي نشَرها في صحفٍ مختلفة، تلخِّص فلسفته في الحياة، وقد اعتمد فيها على الحكايات التي جمعَها من أماكنَ وثقافاتٍ مختلفة.

«كويلُّو» هنا — كما يقول — يجفِّف اللغة إلى حدها الأدنى، ويكثِّفها بأقل قَدْرٍ ممكن من الكلمات، لكي يمنح القارئ فرصةً لإعمال الخيال والعقل والقلب. وهو في الوقت نفسه يحافظ على الرمز الشفيف الذي هو أبعدُ من كل الكلمات. في هذه المختارات تتجلى طريقته في الكتابة فنصدِّقه عندما يقول: إنه «يُفيض» في كتابة المسوَّدات الأولى من العمل؛ حيث يكون في حالة قلقٍ دائم خشية ألا يكون قد روى الحكاية جيدًا. ثم يأتي بعد ذلك دور الحذف «فأحذف وأحذف». وبدلًا من وصف منظرٍ في الصحراء بما فيه من صخور ورمال نجده يقول: «كانوا يسيرون في الصحراء.» هي لغة الإشارة الأقوى من لغة التخاطب العادية، والتي يرى أنها مشتركةٌ بين جميع شعوب الأرض. وهي محلول الحكمة الذي يوزِّعه الأنبياء والمفكرون والفلاسفة في أرجاء الكون ليكون أكثر جمالًا. يقول «كويلُّو»: «إن أعظم ما تعلمتُه في حياتي كان مصدرَه البسطاء والعاديون من الناس.» ولعل معجزة هذا الساحر هي قدرته على تقديم هذه الأفكار «الكبرى» بلغةٍ بسيطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤