الفصل الأول

علم الأحياء: من التحليل إلى التخليق

العيش في العصور المثيرة

علم الأحياء التخليقي هو العلم المَعْنِيُّ بتخليق أنظمةٍ حية جديدة على نحوٍ مخطَّط له، وهو مجالٌ علمي وتكنولوجي مطَّردُ النمو، يجذب الاهتمام أبعدَ من حدود المعامل بكثير، ويستثير نقاشًا محمومًا بين الجماهير. يرى بعض الاقتصاديِّين والوزراء وقادات الصناعة فيه إمكانيةً لإحداث نقلةٍ في الكفاءة الإنتاجية؛ فديفيد ويليتس، الوزير البريطاني لشئون الجامعات والعلوم، يقول: «علم الأحياء التخليقيُّ من أهم مجالات العلم الحديث الواعدة؛ ولهذا نَعدُّه أحدَ الأعمدة التكنولوجية الثمانية لبريطانيا في المستقبل. فعلم الأحياء التخليقي لديه القدرة على دفع الاقتصاد نحو النمو.» في حينِ ينظر إليه آخَرون نظرةً أكثر تشكُّكًا؛ حيث يصفه جوناثان كان، المتخصصُ في الجوانب القانونية للتكنولوجيا الحيوية، قائلًا: «هو أحدثُ المصطفِّين في طابور الأشياء التي تُعلَّق عليها آمالٌ عريضة … ويرتبط بمشاريعَ كبيرةٍ متعاقبة في مجال التكنولوجيا الحيوية … تلك المشاريع التي، حتى الآن، لم تكد تقتربُ من تحقيق المزاعم المُبالَغ فيها التي وعَد بها المروِّجون لها في البداية.» ويرى بعض المعلقين أنه حلٌّ ممكنٌ لنطاقٍ واسعٍ من المشكلات المتعلقة بالبيئة والطاقة؛ إذ تُعرب ريني تشو من معهد الأرض بجامعة كولومبيا عن آمالها، قائلةً: «قد تتمكن الابتكارات المبنيَّة على علم الأحياء التخليقي من حل أزمة الطاقة العالمية … [بالإضافة إلى] إعادة تأهيل البيئة بتنقية المياه والتربة والهواء.» لكن هناك آخَرين أبعدُ ما يكونون عن الاقتناع بذلك؛ فجيم توماس من مجموعة إي تي سي للعمل على ملفات التعرية والتكنولوجيا وتكتُّل الشركات يُحذر قائلًا: «علم الأحياء التخليقي مجالٌ خطورته عالية، وتُحرِّكه دوافعُ تحقيق الأرباح، حيث نُشكِّل كائنات حية من أجزاءٍ فَهْمُنا لها محدود. ما نعرفه أن أشكال الحياة التي نُخلِّقها معمليًّا قد تتسرَّب … وأنَّ استخدامها يُهدد التنوُّع البيولوجي الطبيعي القائم.» ويراه الهواةُ فرصةً للنبش والاستكشاف في ورش العمل المحلية أو في سَقيفة منزلهم؛ إما بغرَض اللهو، أو سعيًا وراء ربحٍ محتمل. يرى بعض المراقبين هذه الأنشطةَ أمرًا حميدًا جدًّا: فكتَب تود كيوكن في إحدى افتتاحيات مجلة «ذا ساينتيست» مُعلقًا: «المواطنون العلماء يُكرسون أنفسهم للتعليم والابتكار وحلِّ المشكلات، مستعينين بنموذجٍ جديد من البحث العلمي لإشباع الروح الإنسانية المفعَمة بالفضول والتوق إلى الاستكشاف.» في حينِ يرى آخَرون أن ثمة حاجةً ماسة لوضع ضوابطَ لمثلِ هذه الأنشطة؛ فجورج تشيرش، وهو عالمٌ بارز في علم الوراثة، يقول: «لا بد أن يحصل أيُّ شخص يُمارس علم الأحياء التخليقي على ترخيصٍ لذلك، وفي ذلك الهواة. تمامًا كالسيارات، ألا تتَّفق مع ذلك؟ إذا كنتَ سائقَ سيارةٍ هاويًا فلا بد أن تحصل على رخصة قيادة.»

يُذْكي المُغالون من كِلا الطرفَين الجدالَ بمزيد من الحُجج. فالتقنيات الجديدة غالبًا ما تستثير ردودَ أفعال متطرِّفة، خصوصًا عندما نُفكر فيها على نحوٍ منفصل، أو عندما تُقدَّم للجمهور، خطأً، على أنها شيء مستحدَث تمامًا غير متصل بشبكة العلوم التقليدية الكبيرة التي انبثقَت من داخلها. الهدف من هذه المقدمة القصيرة جدًّا هو تقديم تصوُّر عام عن علم الأحياء التخليقي في سياقه الحقيقي، بأكبر قدر ممكن من الاتِّزان. ولا نية للترويج له على أنه تكنولوجيا، ولا لإقامة الدليل على ضرورة كَبحِه. وإنما الهدف هو وصف علم الأحياء التخليقي وتوضيحُ نطاقه، بالإضافة إلى الإشارة إلى نقاط تماسِّه الحاليَّة والمحتمَلة مع المجتمع ككلٍّ.

يُعرَّف علم الأحياء التخليقي بطرقٍ شتى في سياقاتٍ شتى، لكن التعريف الأعم نصل إليه بتقسيم علم الأحياء ككلٍّ إلى فرعَين؛ الأول تحليلي والآخَر تخليقي. يهتمُّ علم الأحياء التحليلي، الذي يكاد يكون الشكلَ الأوحد لعلم الأحياء في معظم التاريخ العلمي، بفهم الكيفيَّة التي تعمل بها الكائناتُ الحية التي تطورت طبيعيًّا. في المقابل، يهتمُّ علم الأحياء التخليقي بتخليق أنظمة حية جديدة على نحوٍ مقصود ومُخطَّط له. ولا يعتمد هذا التعريفُ على الآليات المستخدَمة. فهو لا يستلزم مثلًا التلاعب بالمادة الوراثية؛ بل إن أبحاث تخليق الأنظمة الحية، التي سنراها لاحقًا في الكتاب، لا تُعنى بالجينات إلا قليلًا. وبتعريف علم الأحياء التخليقي بهذه الطريقة، نرى أنه يمتدُّ بدايةً من التعديل في الكائنات الموجودة فعلًا، بهدف القيام بأشياء جديدةٍ كُليَّةً، وهو أمرٌ صار بالفعل روتينيًّا على الأقل على نطاقٍ ضيق، وحتى تخليق كائنٍ حي من مكوناتٍ غير حية، وهو ما لم يتحقَّق لنا حتى الآن. المجال شاسع، ويرجع ذلك في جزءٍ منه إلى طريقتنا في تعريفه، وفي جزءٍ آخرَ إلى أنه تطوَّر من أصلَين تاريخيَّين مختلفَين ومنفصلَين: أحدُهما موجَّه فكريًّا ويتوغل في عمق الفلسفة الطبيعية للقرن التاسع عشر، والآخر موجَّه عَمليًّا بدرجةٍ أكبر وينبثق من التكنولوجيا الحيوية التي ظهرَت في أواخر القرن العشرين.

الأصل الأول لعلم الأحياء التخليقي

أحدُ أعمق التساؤلات البيولوجية التي طرَحها الفلاسفة والعلماء هو إذا ما كان يمكن تفسير الحياة بالكامل من خلال القوانين الطبيعية للفيزياء والكيمياء. وشهد القرنان التاسع عشر والعشرون نقاشًا محمومًا بين القائلين بالمذهب المادي، الذين لا يرَون الحياة إلا كيمياء وفيزياء مُرتَّبتَين في اتساقٍ فاتنٍ، والقائلين بالمذهب الحيوي، الذين يرون أن الأنظمة الحية تحتاج إلى شيءٍ إضافي، أو ما يمكن تسميته «الدَّفعة الحيوية». ورغم أن هذا الاتجاه صار الآن كثيرًا ما يُستبعد تحت دعوى الدوجمائية واللاعقلانية، فإن أنصار المذهب الحيوي حينها كانوا يُقدِّمون أدلةً عِلميةً قويةً، تمامًا كما يفعل أنصار المادية. إحدى أشهر تجارِب علم الأحياء في القرن التاسع عشر كانت تجارِب باستير، التي أظهرَت أنك لو أحكمتَ الغلق على حساءٍ مغذٍ معقَّم فإنه يظل مُعقمًا، أما لو ناله قدرٌ بسيطٌ جدًّا من الكائنات الدقيقة، فإنها ستتضاعف منتجةً قدرًا أكبر كثيرًا. يُثبت تكاثرُ الكائنات الدقيقة التي دخلَت الحساء أن الحساء يحتوي على الموادِّ الخام اللازمة لإنتاج خلايا حية، لكن ضرورة «تطعيمها» ببعض الكائنات الحية تُظهِر أن مجرد وجود المواد الخام ليس كافيًا لتنبثقَ منه الحياة: ما زال شيءٌ آخر ناقصًا، شيء لا نجده إلا في كائنٍ حي بالفعل. بالنسبة إلى القائلين بالمذهب الحيوي، فهذا الشيء هو «الدَّفعة الحيوية». أما بالنسبة إلى القائلين بالمادية، فهو آليةُ تنظيم تُمكِّن الخلية من إنتاج نُسخ من نفسها؛ آلية تنظيم كانت غيرَ موجودة في حساء المكونات الكيميائية البسيطة هذا. كِلا التفسيرَين يتوافق مع البيانات التي لدينا، والتحيُّز إلى أحد الموقفَين هو مسألةُ قناعة أكثرَ منها مسألةَ دليلٍ علمي.

يوجد نهجان مختلفان تمامًا في حَسم مسألة المذهب الحيوي؛ هما النهج التحليلي والنهج التخليقي. يستهدف النهجُ التحليلي الوصولَ إلى فهمٍ فيزيوكيميائي ميكانيكي بالكامل لكيفية عمل الكائنات الحية. كانت هذه المنهجية دومًا محطَّ تركيز التيار الغالب في علم الأحياء؛ وذلك إشباعًا للفضول العلمي، ولأن تحليل العمليات الحية كان ضروريًّا في حلِّ كثير من المشكلات العملية في الطب والزراعة. من أبرز إنجازات النهج التحليلي في القرنَين الماضيين نَشْر مِندل لنظريته في الوراثة في خمسينيَّات القرن التاسع عشر، واكتشاف فريدريش ميشر للدي إن إيه في ستينيَّات القرن التاسع عشر، وشرح تيودور بوفيري لعمليتَي نسخ وتشارك الكروموسومات خلال الانقسام الخلوي في سبعينيَّات القرن نفسه، وإثبات كلٍّ من تيودور بوفيري ووالتر ساتون عام ١٩٠٢ أن الجينات يرتبط كلٌّ منها بكروموسومٍ معين، وإثبات أوزوالد إفري عام ١٩٤٤ أن الجينات يمكن تحديدها باستخدام الدي إن إيه الموجودِ في الكروموسومات، وطرح جيمس واتسون وفرانسيس كريك عام ١٩٥٣ أن هيكل الدي إن إيه يأخذ شكل لولب مزدوج؛ مما يسمح له بأن يعمل قالبًا لاستنساخ نفسه. في العقود القليلة الماضية، أسهم عددٌ ضخم من الباحثين في معرفةِ كيف تُوجِّه الجيناتُ عملية تخليق البروتينات، وكيف أن بعض البروتينات تتحكَّم بدورها في أنشطة الجينات والتفاعلات الأيضيَّة، وكيف تعمل الآلات الجزيئية في الخلايا لفصل الكروموسومات بعضها عن بعض؛ ومن ثَم تتسبَّب في انقسام الخلايا لتُنتج خليتَين وليدتَين.

أعطى هذا النهجُ التحليلي القائلين بالماديَّة مَقدرةً أكبر بكثيرٍ على شرح الأساس الفيزيوكيميائي للكثير من جوانب السلوك الخلوي. ومع ذلك، لم يُقدم لهم وسيلة في حد ذاته لدحض دعوى المذهب الحيوي، إلا بالاستقراء. الدليل الاستقرائي، الذي ليس «دليلًا» بالمعنى الحرفيِّ أصلًا، هو حجرُ أساسٍ للعلوم. وهو يقوم على افتراض أنه طالما أن نمطًا ما يتكرر في حالاتٍ معينة كثيرة جدًّا، فينبغي أن يكون صحيحًا في العموم. فبما أننا نعلم أن البشر والكلاب والقطط والخفافيش والأفيال ومئات الثدييَّات الأخرى قلوبُها تنقسم إلى أربع حجرات، يمكننا أن نقول بثقةٍ إن القلب ذا الحجرات الأربع سمةٌ تُميِّز الثدييات، برغم أننا لم نُشرِّح — أو ربما لم نكتشف حتى — جميع أنواع الثدييات. والاستقراء متغلغلٌ في الممارسة العِلمية، لكنه خطر. فالبشر والكلاب والقطط والخفافيش والأفيال والذباب والديدان الشَّريطية والكثير من الحيوانات الأخرى تعتمد على جزيئات الهيموجلوبين الحاملة للحديد في نقل الأكسجين إلى جميع أنحاء أجسامها بالفعل، مما يجعلنا نستقرئ «قاعدةً» مؤدَّاها أن هذه هي طريقة نقل الأكسجين على وجه العموم. لكن لسوء حظِّ الاستقراء، اكتشفنا أن الحيوان البحري الذي يُدعَى سرطان حدوة الحصان يستخدم جزيئات الهيموسيانين الحاملة للنُّحاس بدلًا من ذلك. تُذكِّرنا أمثلةٌ كهذه بأن قدرة المفاهيم الفيزيوكيميائية على تفسير جوانبَ شتى من الحياة الخلوية، لا تجعلنا نأخذها مأخذَ البرهان المنطقي على أنه لا يوجد استثناءات لهذه القاعدة تستلزم التفسيرَ الحيوي. ولذا فالنهج التحليلي لا يمكنه دحضُ المذهب الحيوي إلا عندما يمكن تفسيرِ كلِّ جوانب الحياة بلا استثناء، وفيها الوعي مثلًا. ولذا يبدو أنه سيَطول بنا الانتظار.

أما النهج التخليقي البديل للفصل في الجدل المحتدِم حول المذهب الحيوي، فيهدف إلى حسم التحدِّي الذي بدَأه لوي باستير مباشرةً: إذا كان بإمكاننا تخليقُ حياةٍ اصطناعيًّا من مكوناتٍ غير حية، فلن تكون لنا حاجةٌ إلى «دفعةٍ حيوية»، وسيكون التفسير الماديُّ قد أُثبِت. وقد أسهَمت النُّهج الكيميائية التخليقية بالفعل إسهامًا قيِّمًا في هذا الصدد. ففي عام ١٨٢٨، نجح فريدريش فولر في تصنيع جُزيء اليوريا، من مركَّباتٍ أولية غير عضوية، ولم يكن اليوريا معهودًا حينها إلا في سياق الكائنات الحية. ورغم أن عمله لم يكن تأثُّرًا بالجدال حول المذهب الحيوي على ما يبدو، فعملية التصنيع هذه وحَّدَت كيمياء الكائنات الحية مع تلك الخاصة بالعالم غير العضوي، ودعمت أصحاب النزعة المادية. ولذا نرى أن توسيع أفق الأبحاث الجديدة من التخليق الكيميائي إلى التخليق البيولوجي كان الخطوةَ المنطقية التالية.

كما هو واضح، سيكون إنتاجُ خلايا حيةٍ كاملة مسعًى وعرًا؛ لذا كان التركيز أولًا على مُحاكاة وإعادة إنتاج بعض جوانب السلوك الخلوي باستخدام أنظمة غير حية. من أوائل الأعمال في هذا الصدد، الذي عادةً ما يُعد حجرَ أساسِ علم الأحياء التخليقي، كتاب «علم الأحياء التخليقي» الذي ألَّفه ستيفان ليدوك بالفرنسية عام ١٩١٢. في هذا الكتاب، عرَض ليدوك منهجه المادي بلا تهاونٍ ولا مواربة، مُصرًّا على أن الحياة ظاهرةٌ فيزيائية مادية بالكامل، وأن انتظامها وتطورها ما هو إلا نِتاجُ استغلال القدرة التنظيمية للقُوى الفيزيوكيميائية. وأطلق على هذا المنهج «المادية»، وعرَضه في مقابل «الرُّوحانية». ولكي يُظهِر أنه لا يوجد شيء روحانيٌّ غامض فيما يحدث داخل الخلايا والكائنات الحية، ركَّب ستيفان ليدوك أنظمةً مادية بالكامل تُماثل الخلايا في سلوكها من بعض النواحي. يقول ليدوك: «عندما نشاهد ظاهرةً ما داخل كائنٍ حي ونظن أننا فهمنا آلياتها الفيزيائية، فلا بد أن نقدر إذَن على إعادة إنتاج هذه الظاهرة منفردةً، خارج الكائن الحي.» لكن بلُغتنا المعاصرة، لا تُعد الأنظمة التي أنشأها أنظمةً حية لكنها تُحاكي الأنظمة الحية وتشابهها لا أكثر، فيما يُسمى ﺑ «المحاكاة الحيوية». ولا يمكن بحالٍ أن نعدَّ ليدوك أولَ مَن حاول تصنيع أنظمة مُحاكية للأنظمة الحية من مكوناتٍ غير حيَّة. تَمكن موريتز تراوبي، على وجه الخصوص، في ستينيات القرن التاسع عشر من إنتاج حويصلاتٍ محاطة بأغشية شبه مُنفِذة عن طريقِ تقطير غِراء على حمض التانيك، أو بخلطِ فيرُّوسيانيد البوتاسيوم مع كلوريد النحاس، وكان الناتج يُشبه الأغشية الخلوية بما يكفي لتستخدم في دراسة قوانين الخاصية الأسموزية التي تحدث في الخلايا الحقيقية. ذهب ليدوك إلى أبعدَ من ذلك، واستخدم منظومات دقيقة تقوم على توزيع المواد الكيميائية المتحكم فيه لتكوين أشكال مبهرة تشابه تراكيبَ بيولوجية معقَّدة (شكل ١-١). يُناقش ليدوك هذه المنظومات قائلًا بأنها — إلى جانب مشابهتها للأشكال الحقيقية — يظهر فيها التغذية (فهذه المنظومات قد نعتبرها «تتغذَّى» على مكوناتٍ بسيطة لتبنيَ تراكيبها الخاصة)، والتنظيم الذاتي، والنمو، والتأثُّر بالبيئة المحيطة، والتكاثر، والتطوُّر. وهو يزعم صراحةً أن دراسة أنظمة المحاكاة الحيوية ربما تُلقي الضوء على أصل الحياة المطلَق، الذي بدأت منه منذ زمنٍ بعيد من تاريخ الأرض. واطَّلع عالم الأحياء الأسكتلندي دارسي طومسون على كتابات ليدوك بتمعُّن، واستشهد به مراتٍ عديدة في كتابه «حول النمو والشكل» المنشور عام ١٩١٧، الذي لا يزال يُطبَع حتى الآن وتشيع قراءته بين علماء الأجنَّة.

بلغ تأثير علماء علم الأحياء التخليقي الأوائل على الفكر العقلاني في وقتهم مدًى بعيدًا، أبعدَ مما قد نتوقَّعه من أعمالهم ذاتِ الطبيعة المتخصصة. فالمُفكر الماركسي الجدلي فريدريش إنجلز، على سبيل المثال، تحدَّث عن حويصلات تراوبي في الفصل الثامن من أُطروحته «ثورة السيد أوجين دورنج في العلوم». وكرَّس الرِّوائي توماس مان الحائزُ على جائزة نوبل عدةَ صفحات في أحد الفصول الأولى في روايته الرمزية «دكتور فاوستوس» لوصف بعض أشكال المحاكاة الحيوية التي درَسها العلماء قُرب نهايات القرن العشرين على لسانِ والد بطل الرواية. بعض هذه الأنظمة تُشبه كثيرًا تلك التي أنشأها ليدوك، وتشتمل على مكوناتٍ غير عضوية تنمو مثل النباتات في أوعيةٍ زجاجية، حتى إن بعضها أبدى ميلًا نحو الضوء. أحدها هو «القطرة المُلتهِمة»، للزيت في الماء والتي إذا قدَّمنا لها خيطًا زجاجيًّا رفيعًا مطليًّا بصمغ الشيلَّاك فإنها تُغير شكلها لتلتهم هذا الخيط، ثم تقشر عنه الطلاءَ وتبتلعه، وتلفظ البقايا. وقد أجاد توماس مان وصف هذا النظام تفصيلًا في روايته حتى إنه من السهل إعادةُ إنشائه، وكثيرًا ما أعدُّه وأعرضه أمام الطلاب الجامعيِّين لأشاكسهم. يستخدم توماس مان الشدَّ والجذب بين المذهبَين الحيوي والمادي ليُرسيَ أساسًا للإشكالات اللاحقة بين التفسيرَين الديني والعقلاني للأخلاق، والعبقرية، والجنون، والسبب والنتيجة.

fig1
شكل ١-١: يوضح هذا الشكل أمثلةً على أنظمة ليدوك الاصطناعية المحاكية للأنظمة الحيوية، في مقابل الأنظمة الحية الحقيقية التي تستهدف محاكاتها.

كان علماء علم الأحياء التخليقي الأوائل يأمُلون في أن يستخدموا المحاكاة الحيوية في إقناع المتخصِّصين في علم الأحياء التحليلي — وخصوصًا علماء الأجنَّة؛ لأن علم الأجنة كان دومًا القلعةَ العُظمى لأنصار المذهب الحيوي — بأن يبحثوا عن الآليات المادية التي يرتكز عليها علمُهم. وكثيرًا ما كان هذا يُقابَل بسوء الفَهم أو حتى بالسخرية، فالمحاكاة الحيوية كانت تُرى بعيدةً عن سياق عملهم. في الوقت نفسِه، ظهر تطوُّران متنافسان يُبشران ﺑ «آلية»، لكنها آليةٌ من نوعٍ مختلف. الأول هو علم الوراثة، الذي رسَّخ عندنا منذ العقد الأول في القرن العشرين الارتباطَ بين الطفرات في الجينات الوراثية وتغيرات خلقيَّة معيَّنة في الكائنات مثل ذبابة الفاكهة. والثاني اكتشاف الحثِّ الجنيني في عشرينيَّات القرن العشرين، ويُقصَد به أن يُرسِلَ جزءٌ من الجنين إشاراتٍ إلى جزء آخَر ليستحثَّ فيه عمليةً نمائية معيَّنة. هذان التطوران سمَحا لعلماء الأجنَّة بأن يتَّخذوا منهجًا آليًّا مختلفًا نوعًا ما، ليس آليًّا بالكامل كما في الفيزياء مثلًا، لكنه آليٌّ كما في «الصندوق الأسود» حيث «أ يتسبَّب في ب، الذي بدوره يتسبَّب في ج»، آمِلين أنه يومًا ما ربما يُمكن اختزال الحروف والمسارات السببية إلى الفيزياء والكيمياء. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ عصرُ علم الأحياء الجزيئي يقترب من تحقيق هذا الأمل. فالجينات الوراثية اختُزِلَت إلى عواملَ كيميائية، وبدأَت مسارات السببية الواضحة، التي نفهمها بقدرٍ لا بأس به على المستوى الجزيئي، تربط الجينات بالبروتينات. وبدأ التعبير عن منطق علم الأحياء، لا في صورة معادلات فيزيائية، بل في صورة سلاسلَ من الأسماء تُعبر عن كيانات مثل الجزيئات أو الخلايا، وأسهم تُمثل العمليات التي بينها.

كانت بدايات ازدهار علم الأحياء التخليقي قبل الحرب العالمية الأولى تعتمد على أنظمة المحاكاة الحيوية التي تكاد تكون لم توضع إلا لأغراضٍ بحثية أكاديمية، لكنها لم تنجح في إحداثِ تحويل في المسار العام لعلم الأحياء؛ لكن أجندتها لم تُنسَ مطلقًا. فاستمرَّت أعدادٌ ضئيلة من الباحثين ممن لديهم خلفيةٌ في الكيمياء وعلم الأحياء في العمل لوضع أنظمة محاكاة حيوية مطوَّرة وبإمكانياتٍ أكبر، مستهدفين أن يصلوا يومًا ما إلى وضع أنظمةٍ حية تمامًا لكن من مكوناتٍ غير حية. عمل بعض العلماء، ممن كان لديهم شغفٌ شديد بسؤالِ أصل الحياة، على حلِّ معضلة كيفية نشأة الجزيئات العضوية المعقَّدة القادرة على تكوين كائنٍ حي ابتداءً. كانت إحدى التَّجارِب المحورية في هذا الصدد هي تجرِبة هارولد يوري وستانلي ميلر في خمسينيَّات القرن العشرين، التي أظهرَت أنه عند محاكاة بيئة الأرض البدائية تكونَت بعض الجزيئات المعقَّدة — وفيها الأحماض الأمينية — تلقائيًّا من سلائفَ بسيطة. عمل علماءُ آخَرون على معضلات التنظيم؛ ففي الخمسينيَّات، كتب بوريس بافلوفيتش بيلوسوف عن نظامٍ كيميائي يُنتج تلقائيًّا أنماطًا معقدةً في المكان والزمان، وفي التسعينيَّات، تمكَّن جونتر فيشتسهويزر وزملاؤه من وصف الكيفية التي تنتظم بها دوراتٌ أيضيَّة معقَّدة على سطح معدِن البيريت. في حين اعتبَر آخرون وجودَ الجزيئات العضوية الضخمة أمرًا مُسَلَّمًا به وعملوا على مسألة التكاثر؛ فمنذ الثمانينيَّات ومعمل بيير لويسي ينجح في إنتاج منظوماتٍ متنوعة من أشكال كروية بسيطة محاطة بأغشية تلتهم سلائفها الجزيئية، فتكبر وتتكاثر. معظم هذا الجهد أُنجِز بدافعٍ من اثنين، وكلاهما قريبٌ ممَّا سعى إليه ليدوك. الدافع الأول هو فهم أصل الحياة. بَيد أن الثانيَ هو الرغبة في حسم تحدِّي باستير لصالحهم، ودحضُ المذهب الحيوي، لا بالاستقراء وإنما ببرهانٍ حقيقي.

أسس التكنولوجيا الحيوية

ربما يكون ازدهار علم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي في القرن العشرين قد اجتذب المتخصصين في علم الأحياء بعيدًا عن أولويات الاهتمام بالمحاكاة الحيوية وتخليق الحياة معمليًّا، لكنه في المقابل أسهَم إسهامًا جوهريًّا في تطوير النوع الآخر من علم الأحياء التخليقي: ألا وهو إضفاء سمات وخصائص جديدة على الكائنات الحية الموجودة بالفعل. وقد أثَّرَت الثورة الجزيئية في تطوير علم الأحياء التخليقي تأثيرًا بالغًا من طريقَين: الفكري والعملي. فقد منحَ علم الأحياء الجزيئي علماء الأحياء فهمًا ميكانيكيًّا للتفاصيل الداخلية لطريقة عمل الخلايا، وهذا ضروريٌّ للغاية لخوض تحدِّي تصميم أنظمة خلوية جديدة تعمل جنبًا إلى جنب مع أنظمة الخلايا الحية. لهذه الأنظمة الخلوية الجديدة نطاقٌ واسع من التطبيقات العمَلية في البيئة والطب والهندسة والكيمياء، كما سنتناول لاحقًا في الكتاب.

من أعظم مكتشَفات القرن العشرين في علم الأحياء، والذي توصلنا إليه بتراكُم جهودِ آلاف الباحثين عبر عدة عقود، أن أغلب مناحي الخلايا الحية، سواءٌ فيما يخصُّ البِنْية أو الكيمياء أو السلوك، تعتمد اعتمادًا مباشرًا على نشاط البروتينات. والبروتينات تتكوَّن من مجموعةِ أحماض أمينية متصلة معًا ﺑ (البلمرة) في سلسلةٍ غير متفرِّعة؛ بحيث تحمل أغلبُ الكائنات الحية عشرين نوعًا من الأحماض الأمينية، وكلُّ بروتين يتكوَّن من مجموعةٍ متنوعة من الأحماض الأمينية المتصلة معًا بترتيبٍ معين خاص بهذا البروتين. وتطوي سلسلة الأحماض الأمينية هذه نفسَها مكونةً بِنيةً ثلاثية الأبعاد يتحكَّم فيها تسلسلُ الأحماض الأمينية، كما قد تتحكم فيها أحيانًا تفاعلاتٌ مع الأنواع الأخرى من البروتينات الموجودة. ويتحدَّد النشاط الكيميائي للبروتين حسب شكل بِنيته ثلاثية الأبعاد والطبيعة الكيميائية للأحماض الأمينية المكوِّنة له. وتُصنِّع أجسامُ الكائنات الحية شتى أنواع البروتينات؛ فجسم الإنسان مثلًا يُصَنِّع نحو ١٠٠ ألف نوع من البروتينات (في الحقيقة يتوقَّف العدد على الكيفية التي تختار بها أن تعدَّها). بعض البروتينات خاملة لكنها تُسهِم في تشييدِ تراكيبَ ضخمة؛ منها مثلًا بروتينات الكيراتين ودورها في بناء الشعر والأظفار. لكن البعض الآخر نشطٌ كيميائيًّا، ويؤدي دور الإنزيمات التي تُحفِّز التفاعلات البيوكيميائية. بعض هذه التفاعلات تفاعلاتٌ أيضية، مثل التفاعلات المسئولة عن تكسير جزيئات الطعام للحصول على الطاقة منها، أو التفاعلات التي تُصنِّع الأحماض الأمينية لتكوين بروتينات جديدة. وبعض التفاعلات الأخرى تُجري تعديلاتٍ كيميائيةً على البروتينات، فتُغيِّر من نشاطها. بهذه الطريقة، يمكن لإنزيمٍ ما أن يُغير نشاط إنزيمات أو بروتينات بنائية أخرى، وهذا الإنزيم نفسُه قد يخضع لتحكُّمٍ مُشابه من إنزيمٍ آخر. ولذا فعشرات آلاف البروتينات الموجودة في خليةٍ ما تُكوِّن شبكةً تنظيمية وتنسيقية هائلة من التنظيم والتحكم المتبادَل بين البروتينات. وقد يتغير نشاطُ بعض البروتينات عند ارتباطها بجزيئات صغيرة معينة أيضًا، مثل السكريات أو أيونات المعادن أو المخلفات الخلوية؛ لذا تكتسب هذه الشبكةُ التنسيقية داخل الخلايا قدرةً على الاستشعار والاستجابة لمؤثِّرات بيئتها. هذه «البيئة» قد تشمل الخلايا الأخرى، وهذه الخلايا بإمكانها التواصلُ فيما بينها مستخدمةً جزيئاتٍ صغيرةً أو بروتينات تخرج منها. قد يكون هذا التواصل لصالح كِلتا الخليتَين، كما يحدث عند التعاون بينهما لبناء الجسم، وقد يكون «غير مُتعمَّد» من جانب إحدى الخليتَين لكنه مفيدٌ للخلية الأخرى، كما يحدث عندما ترصد الأميبا مُخرجات الخلايا البكتيرية، فتتحرك نحوها لتلتهمَها.

بسبب الموقع المركزي للبروتينات في إدارة العمليات الكيميائية والتنسيقية في الكائنات الحية، فإن إنتاج البروتينات، الطبيعية والمصمَّمة، كان ولا يزال يحظى باعتناءٍ عظيم من علماء التكنولوجيا الحيوية العاملين في الصناعة والطب. التخليق الكيميائي المباشر للبروتينات عمليةٌ فائقة الصعوبة، ولم نتمكن إلا حديثًا من تصنيعِ شيءٍ أكبر من أصغر البروتينات وأبسطِها على الإطلاق. لحُسن الحظ، تُعطينا الخليةُ نفسُها الحل. فتخليق البروتين في الخلايا الحية يتحكم فيه بوليمر أبسط، يُسمى آر إن إيه المرسال (mRNA)، وهو حمض نووي يتكون من سلسلةٍ طويلة من «القواعد»، وهي الوحدات الأصغر المكوِّنة له. تدخل أربعة أنواع من القواعد في تكوينه (يمكن اختصارها بالحروف A، وC، وG، وU)، وكلُّ جزيء من الآر إن إيه المرسال يتكوَّن من ترتيبٍ معيَّن من القواعد. ترتبط آلات تخليق البروتين في الخلية بجزيء آر إن إيه المرسال ثم تتحرك على امتداده لتقرأ تسلسُلَ القواعد بتقسيمه لمجموعات يتكون كلٌّ منها من ثلاث قواعد، ويتحدد الحمض الأميني الذي سيُضاف إلى سلسلة البروتين المتكونة بناءً على هذه القواعد الثلاثة. تُشَكِّل مجموعةُ القواعد المتبعة لترجمة تسلسل القواعد إلى تسلسلٍ من الأحماض الأمينية ما يُسمى ﺑ «الشفرة الجينية». يتبع تسلسل القواعد المكوِّن لكل جزيء من الآر إن إيه المرسال تسلسلَ القواعد في حمضٍ نووي من نوعٍ آخر، لكن يُشبهه إلى حدٍّ كبير، وهو جزيء الدي إن إيه. يبدأ الأمر عند مواضعَ معينةٍ على شريط دي إن إيه شديد الطول، حيث نجد تسلسلاتٍ من قواعد دي إن إيه يمكنها أن تُعَدَّ منصةً يستقر عليها «المعقد عديد الإنزيمات» الذي يبدأ عملية «النسخ» وهي عملية تصنيع جزيء «آر إن إيه مرسال». عند توفر البيئة اللازمة من العوامل البروتينية، سيتكوَّن المعقد العديد الإنزيمات على جزيء الدي إن إيه، ويبدأ بالتحرك على امتداده ناسخًا تسلسلَ قواعد دي إن إيه لتكوين تسلسلٍ من القواعد لبناء جزيء آر إن إيه الجديد، ويستمرُّ بالنسخ حتى يصل إلى تسلسلٍ معين في شريط دي إن إيه يجعله يتوقَّف عن النسخ. قطعة الدي إن إيه التي يُمكن نسخُها إلى الآر إن إيه هي الجين الفعلي. سيُترجَم الآر إن إيه الذي صُنِع لتوِّه إلى بروتين، ولكن قد يخضع قبلها لعدة خطوات من المعالجة. في بعض الحالات، سيلعب البروتين الناتج دورًا مهمًّا في تنشيط جينات أخرى، بحيث تتصل الجينات في شبكةٍ من التأثير المتبادَل بوسيطٍ من البروتينات (وأحيانًا يحدث ذلك بواسطة جزيئات حيوية أخرى، لكنها خارج نطاقِ مقدمة هذا الكتاب). تلخيصًا لما سبق، تُنسَخ المعلومات التي يحملها الدي إن إيه إلى آر إن إيه وسيط، وتُستخدَم لتوجيه تصنيع بروتين ما (شكل ١-٢).
fig2
شكل ١-٢: المعلومات المحمولة القابلة لإعادة الاستخدام في الدي إن إيه يمكن استخدامُها لتصنيع البروتينات الضرورية لبناء الخلية، أو لإجراء عملياتها الأيضية.

كان اكتشاف أن الخلايا تستخدم الدي إن إيه لتخزين المعلومات اللازمة للتحكُّم في عملية تصنيع البروتينات علامةً فارقةً في تطوير مجال التكنولوجيا الحيوية الحديث. تهتم الخلايا بالدي إن إيه الخاص بها لكونه أرشيفَها الدائم وتتفانى في استنساخه بمنتهى الدقة عندما تنقسم، ليصبح لكلٍّ من الخليتين الوليدتين نسخةٌ كاملة من هذا الأرشيف. تُشكِّل فكرة أن نصنع دي إن إيه لتستخدمَه الخلايا لتخليقِ البروتينات، بدلًا من تصنيع البروتينات مباشرةً، فارقًا هائلًا في مشاريع التكنولوجيا الحيوية؛ حيث تؤثِّر على مدى قابليةِ هذه المشاريع للتطبيق وجَدْواها الاقتصادية. يمكن توضيح هذا من خلال مصطلحَين أطلقهما نسيم نيقولا طالب، حيث يُقسِّم العالَم الاقتصادي في كتابه «البجعة السوداء» إلى قسمين: وهدائستان وغلوائستان. في اقتصاد وهدائستان، نرى صلةً وثيقة بين الجهد الذي تبذله في مشروعٍ ما وعائدِه المادي، فمثلًا يكسب الحدَّادُ أجرًا أعلى عندما يصنع حدوات أحصنة أكثر، ويكسب الجرَّاح مالًا أكثرَ عندما يُعالج مَرْضى أكثر، وهكذا. أما في غلوائستان، فتنكسر الصلة بين مقدارِ عملك ورِبحك المحتمل منه؛ لأن بعض المشاريع الشاقَّة إذا أُنجِزَت مرةً يسهل استنساخها مراتٍ أخرى؛ لذا لا علاقةَ مباشرة بين الجهد المبذول لصُنعها أولَ مرة وبين الجهد اللازم للحصول على نسخٍ كثيرة منها. فمثلًا تتبُّع الروايات، والتسجيلات الموسيقية، والبرمجيَّات اقتصاد غلوائستان. صنع البروتينات مباشرةً يتبع اقتصاد وهدائستان، حيث يحتاج تركيب ١٠٠ جرام من البروتين إلى ١٠٠ ضِعفِ الجهد اللازم لتركيبِ جرام واحد. أما صُنع البروتينات من طريقٍ غير مباشر، بواسطة دي إن إيه، فيفتح لنا أبوابَ غلوائستان؛ فنظريًّا على الأقل، ما دُمنا نجحنا في صُنع جُزيء دي إن إيه واحدٍ حتى فيُمكننا أن نضَعه داخل خليةٍ حية فيتضاعف عددُ نُسخِه إلى ما لا نهاية مع تضاعُف الخلايا، ما دُمنا نُغذي هذا المستنبت الخلوي باستمرار، وكلٌّ من هذه الخلايا بإمكانها أن تُصنِّع لنا البروتين المنشود.

بَدءًا من السبعينيَّات، تطوَّرَت ببطءٍ قدرةُ التقنيين على بناء دي إن إيه حسَب الطلب وتسخير الخلايا لتستخدمه لتصنيع بروتينات معيَّنة، قبل حتى أن يُصبح بإمكاننا قراءة تسلسلات الدي إن إيه. في البداية، كانت هندسة الدي إن إيه تتم باتباع إحدى طريقتين: إما تخليق الجين مباشرةً، أو قصُّ ولصق أجزاءٍ من دي إن إيه بكتيريا طبيعية لتخليق تركيباتٍ جديدة من الجينات. كان معمل يامادا أولَ من نجح في تخليقِ جين عام ١٩٧٠، حيث صنَعوا نسخةً اصطناعية من أحد جينات الخميرة. ونشَر معمل بول بيرج في العام نفسِه آليةً لقصِّ أجزاء دي إن إيه طبيعي وتغيير ترتيبها، وفي عام ١٩٧٣ نجح معمل ستانلي كوهين في إدماج هذا الدي إن إيه الهجين في خلايا بكتيريا حية، والتي بدأَت بدورها استخدامَه في تصنيع بروتينٍ فعَّال من الجين المُدخَل. وشهد عام ١٩٧٧ تقدمًا حاسمًا في تقنيات هندسة الدي إن إيه بابتكارِ طريقتين مختلفتين لقراءةِ تسلسل القواعد على امتدادِ جزيء دي إن إيه؛ إحداهما من اكتشاف والتر جيلبرت، والأخرى من اكتشاف فريد سانجر (وهو نفسُه أول من تمكَّن من قراءة تسلسل بروتين عام ١٩٥١). ولعبت القدرةُ على قراءة تسلسل قواعد دي إن إيه دورًا أساسيًّا في تحليل العلاقة بين التسلسل الجيني ووظيفته؛ بل هي أسهلُ بكثيرٍ من قراءة البروتين نفسه، لدرجة أننا حاليًّا لتعيين تسلسل البروتين غالبًا ما نتَّجه لقراءة الجين المقابل له، لا البروتين نفسه. فقراءة تسلسل دي إن إيه يمكن الآن أن تُكلف أقلَّ من بنس للقاعدة، ويمكن تصنيعه حسَب الطلب مقابل نحو ٢٠ بنسًا للقاعدة؛ أي إن جينًا كاملًا قد يُكلف ١٠٠ جنيه إسترليني في المتوسط في عملية تستغرق بضع ساعات فقط. وبذلك صارت هذه التكنولوجيا رخيصةً بما يكفي لتُتيح لنا عملَ مشاريع ضخمة شديدة التعقيد.

عصر هندسة الجين الواحد

حتى قبل ظهور تقنيات تعيين تسلسُلات الدي إن إيه، صار واضحًا للباحثين أن تقنيات تصنيع وتهجين دي إن إيه ستُتيح أمامهم فرصًا عظيمةً في عالم التكنولوجيا الحيوية. فمنذ عام ١٩٦١ أتى عالما علم الأحياء الجزيئي الفرَنسيَّان الرائدان فرانسوا جايكوب وجاك مونو بفرَضيَّةٍ مفادها أن عوامل التنظيم الجيني قد يُمكن نظريًّا أن تؤلَّف منها أنظمة معقَّدة للتحكم في تفعيل الجينات حسَب الرغبة. وكتب فاتسواف شيبالسكي عام ١٩٧٤ في مقال ينم عن بُعد نظرٍ حول هذه الفكرة في سياق الحديث عن التطورات التقنية الحديثة لتهجين وتخليق الدي إن إيه، فتطلع إلى أبعد مما كان يهدف له علم الأحياء التحليلي حينه؛ إلى عصرٍ جديد ندخل فيه ما سماه «المرحلة التخليقية». فكتب عن هندسةِ أنظمةٍ جديدة للتحكم في الجينات، وعن استخدامها على أحد الجينومات الموجودة بالفعل أو حتى في بناء جينوم جديد اصطناعي بالكامل، وسمَّى هذا المجال صراحةً «علم الأحياء التخليقي»، وقد استخدم المصطلح مجددًا في مقالٍ شهير له في دورية «جين» عام ١٩٧٨. وبينما كنتُ أكتب هذا الفصلَ سألت شيبالسكي عمَّا إذا كان قد صكَّ مصطلح «علم الأحياء التخليقي» بنفسه أم كان يُشير عن عمدٍ إلى كتاب ليدوك «علم الأحياء التخليقي»، فقال إنه لم يكن قد سمع بأعمال ليدوك وقتَها. لذا فمن المنطقي أن نقول إن المجال بصورته الحالية المركبة قام على أساسَين منفصلَين.

كان شيبالسكي بعيد النظر، لكن ظل هنالك عمل كثير ضروري قبل أن يصير من الممكن أن تصبح رؤيته لعلم الأحياء التخليقي حقيقة واقعة. فالتطبيقات العملية الأولى للتطورات في علم الأحياء الجزيئي كانت أبسط بكثير من ذلك، وتمحورَت في العموم حول إدخال جين واحد جديد إلى كائن حي مضيف؛ ليُنتج لنا منتجًا نريده. من الأمثلة المبكِّرة لتطبيقات الهندسة الوراثية المهمة في الطب إنتاج البكتيريا للهرمونين البشريَّين السوماتوستاتين والإنسولين، عامَي ١٩٧٦ و١٩٧٩ على الترتيب. كِلا الهرمونين عبارة عن سلسلة قصيرة من الأحماض الأمينية، شفرتها محمولة في جين معيَّن، وهو نفسه تقريبًا ما يحدث مع البروتينات الأكبر. نقَل الباحثون نُسَخًا من هذا الجين البشري إلى البكتيريا في موضعٍ يخضع لتسلسل دي إن إيه مُنظِّم ليضمَنوا تفعيل الجين في هذه الخلايا البكتيرية؛ ومن ثَم تخليق الإنسولين المصنَّع؛ وهذا ما زال متَّبَعًا حتى الآن بالآليَّة نفسِها تقريبًا، لكن مع بعض التحديثات (سنأتي لاحقًا في الكتاب على شرح كيفية إجراء معالَجاتٍ كهذه لإتمام هذه العملية).

أُنتِجَ أوَّل النباتات المعدلة وراثيًّا عام ١٩٨٣ لأغراضٍ تجريبية تمامًا، لكن بحلول عام ١٩٨٨ كنا قد وصَلنا بالفعل لإدماج جيناتٍ تحمل شفرةَ بعض الأجسام المضادَّة البشرية داخل النبات، بحيث صار بإمكاننا حصاد كميات بالجملة من هذه البروتينات النفيسة. لاحقًا، صارت الهندسة الوراثية تُستخدَم لتعديل المحاصيل الغذائية، كما استُخدِمَت لتوفير البروتينات الدوائية، وفي عام ١٩٩٤، كان نوع الطماطم CGN-89564-2 (المشهور باسم «فلافر سيفر») أولَ نباتٍ معدَّل وراثيًّا يحصل على ترخيصٍ للاستهلاك الآدمي. على عكس أغلب الكائنات المعدَّلة وراثيًّا حينها، لم تكن هذه الطماطم تُنتج بروتينًا جديدًا، وإنما أُدخِل فيها جينٌ عَارض عمل أحد البروتينات التي تُنتِجها الطماطم طبيعيًّا، وهو إنزيم مسئول في الطماطم العادية عن أن تتمادى الثمرةُ الناضجة في النضج حتى تتعفَّن. وبذلك صار للطماطم المهَندَسة وراثيًّا صلاحية أطول للتخزين من الطماطم العادية كما خُطِّط لها، لكنها رغم ذلك لم تنجح على الصعيد التِّجاري، وسُحبت من الأسواق عام ١٩٩٧. استُخدِم نوع طماطم آخَرُ معدَّل على نحوٍ مماثل في المملكة المتحدة في صُنع صلصة الطماطم، وكُتب على العلب بوضوحٍ أنها مصنوعةٌ من طماطمَ معدَّلة وراثيًّا، ولاقت في البداية رَواجًا، وحقَّقَت مبيعاتٍ رائعةً حتى فاقت مبيعات البدائل التقليدية في السوق. لكن في أواخر التسعينيَّات، تغيرَت ثقافة العامة ورؤيتهم لمسألة التعديلات الوراثية، ممَّا أدى إلى انهيار المبيعات واختفاء المنتج من الأسواق.

شهدَت ثمانينيَّات القرن الماضي أيضًا التعديلَ الوراثي في الثدييات لأول مرة، والذي كان لأغراضٍ بحثية فقط في البداية. لكن بنهاية العقد تطوَّرَت الهندسة الوراثية إلى أبعد من مجرد إضافة جيناتٍ بسيطة، وسمحَت لعلماء الجينات باقتلاع الجين الذي يريدون من جينات الفئران، أو بتعديل التسلسل المكوِّن للجين بدقةٍ شديدة. تمكَّن العلماء بهذه التقنيات من إنتاج فئران عندها اختلالاتٌ جينية شديدة الشبَه بالاختلالات الجينية التي تتسبَّب في مُتلازمات الأمراض الخلقية في البشر. ومن ثَم صار بإمكان علماء الباثولوجيا استكشافُ آليات عمل المرض، بل في بعض الحالات اختبار فرضياتهم حول العلاجات الممكِنة. وقد حقَّق تحويلُ نتائج هذه الأبحاث إلى علاجٍ بشري نجاحاتٍ متفاوتةً حتى الآن؛ لأن الفئران ليسوا بشرًا، وفي بعض الأحيان تتسبب اختلافاتٌ طفيفة في آليةِ عمل وظيفةٍ معيَّنة بين البشر والفئران في اختلافاتٍ واسعة بينهما في فاعليَّة العلاج أو حتى في كونه آمنًا للاستخدام.

كانت جهود الهندسة الوراثية في البداية منصبة على تعديل جين واحد يؤثر في المنتج النهائي، لكن على كل حال غالبًا ما يُضاف جينٌ آخر لتمييز النبات المعدَّل وراثيًّا عن غيره وانتخابه للإكثار. وقُبيل نهاية القرن، صارت إضافةُ أكثر من جين واحد في مشاريع الهندسة الوراثية البحثية أمرًا أكثرَ شيوعًا، ثم بدأ هذه التوجُّه يتمدَّد إلى التطبيقات التِّجارية كذلك. من الأمثلة المثيرة للاهتمام التي يظهر فيها هذا التحوُّل مشروع «الأرز الذهبي»، وهو محاولةٌ للتعامل مع الأزمة الصحية العالمية التي تتمثَّل في انتشار نقص فيتامين «أ» في البلاد التي تعتمد بشكل أساسي على أكل الأرز. ويتسبَّب هذا النقص فيما يُقدَّر بنصف مليون حالةِ عمًى، ومليونَي حالةِ وفاة مبكرة سنويًّا. يستطيع البشر الحصولَ على فيتامين «أ» من المصادر الحيوانية، أو يمكن لأجسامهم تصنيعه من أصباغٍ نباتيةٍ مثل البيتا–كاروتين. ولا يحتوي الأرز الطبيعي على الكثير من الكاروتين، ولكن، نظريًّا، إن تمكَّنا من التعديل في الأرز وراثيًّا ليُنتج كميات أكبر بكثيرٍ من الكاروتين، فقد ننجح في تقليصِ مشكلة نقص فيتامين «أ» بقدرٍ كبير. يحتوي الأرز بالفعل على إنزيمٍ يُمكنه أن يُصنِّع البيتا–كاروتين من مركَّب يُسمى الليكوبين (شكل ١-٣)، لكن لا يوجد إلا القليل من الليكوبين في إندوسبيرم الأرز، الذي هو الجزء الوحيد الذي يؤكَل في النبات. في تسعينيَّات القرن الماضي، اكتشف عالمُ الكيمياء العضوية بيتر براملي إنزيمًا بكتيريًّا يُسمى «فَيتوئين ديساتشوراز» أثناء عمله على نبات الطماطم، وهو يصنع الليكوبين من جزيء يسمى الفَيتوئين والذي يوجد طبيعيًّا في الأرز، لكن بكمياتٍ قليلة. وأسفرَت هندسة الأرز وراثيًّا لينتج إنزيم فَيتوئين ديساتشوريز في خلايا الإندوسبيرم عن النسخة الأولى من «الأرز الذهبي»، الذي سُمي بهذا الاسم لأن زيادة إنتاج صبغة البيتا–كاروتين فيه منحَته لونًا ذهبيًّا. كانت حصيلة البيتا–كاروتين فيه خمسَ مرات أكثرَ من الأرز الطبيعي، لكن هذا المستوى لم يُعتبَر عاليًا كفايةً ليكون حلًّا ناجعًا لمشكلة نقص فيتامين «أ»؛ لأن بعض الناس لا يأكلون إلا كمياتٍ محدودةً من الأرز. بعد مزيدٍ من التحليل، تبيَّن أن حصيلة فيتامين «أ» كانت مخيبةً للآمال؛ لأن كمية الفيتوئين في الخلايا كانت منخفضة، ممَّا أوحى بأن تدخُّلًا ثانيًا في العمليات الأيضيَّة قد يكون مفيدًا. وهنا يأتي دورُ أحد الإنزيمات التي اكتُشِفَت في النرجس البري واسمه «فيتوئين سينثيز»، الذي يستطيع أن يصنع الفَيتوئين بكفاءةٍ من جزيء يُسمى جيرانيل–جيرانيل ثنائي الفوسفات، الموجود بوفرةٍ في إندوسبيرم الأرز. بإضافة كِلا الجينَين — جين إنزيم فيتوئين سينثيز من النرجس البري، وجين إنزيم فيتوئين ديساتشوريز من البكتيريا — إلى الأرز صار لدينا مسارٌ بيوكيميائي لإنتاج الليكوبين بكفاءةٍ عالية؛ ومن ثَم نحصل منه على البيتا–كاروتين (شكل ١-٣). تنتج هذه النسخة، المسمَّاة «الأرز الذهبي ٢»، نحو مائة ضعفِ إنتاج الأرز العادي من البيتا–كاروتين، وبالفعل أثبتَت أنها مصدرٌ جيد للبيتا–كاروتين عند تجرِبتها على مجتمعاتٍ بشرية حقيقية، على الرغم ممَّا لاقته بعضُ هذه التجارِب من نقدٍ أخلاقي فيما يخصُّ مبدأ الموافقة المستنيرة. لكن مستقبل هذا المشروع على الأرجح سوف يعتمد على النقاشات السياسية والاقتصادية والأخلاقية والبيئية حول استخدام السلالات المعدَّلة وراثيًّا في الغذاء أكثر من اعتماده على كفاءة العمليات البيوكيميائية نفسها.
fig3
شكل ١-٣: يوضح هذا الشكل المسار المستحدَث داخل الأرز ليجعله مصدرًا أغنى بالبيتا–كاروتين، حيث يُمكن لجسم الإنسان تحويله لفيتامين «أ». التفاعلات التي تحدث في إندوسبيرم الأرز طبيعيًّا تُعبر عنها الأسهم المتصلة، بينما تُعبر الأسهم المتقطعة عن العمليات التي كانت لا تتم طبيعيًّا (أو محدودة الحدوث)، لكن الإنزيمات المضافة تُجريها. الجينات المضافة مكتوبة بخطٍّ عريض.

الأصل الثاني لعلم الأحياء التخليقي

تزامَن تطويرُ الأرز الذهبي مع أبحاثٍ عن بناء أولِ تراكيبَ جينية تُعد أعقد ممَّا قد نُطلق عليه الهندسة الوراثية التقليدية، وقد وصفها العلماء الذي عملوا عليها — وآخَرون كذلك — بأنها عملُ «علم أحياء تخليقي» حقيقي. وهذا التحولُ نفسه يظهر في مشروع الأرز الذهبي. فإضافة جين واحد كما في النسخة الأولى من المشروع تبدو مشروعًا مترسخًا في عصر الهندسة الوراثية. أما «الأرز الذهبي ٢»، الذي يحتوي على جينَين من كائنين مختلفين يعملان معًا لإحداثِ تغييرٍ ملحوظ في العمليات الأيضية للخلايا، فيعمل على نطاقٍ أوسع، وبتشكيلِ منظومةٍ جديدة مركبة من عدة مكونات، يملك شيئًا مما يُميز علم الأحياء التخليقي. ورغم أن «الأرز الذهبي ٢» ليس معقدًا بقدر المسار البيولوجي التخليقي المستخدَم لتعديل العمليات الأيضية للخميرة لتصنيع أدويةٍ مضادة للملاريا (وهو ما سنأتي على شرحه تفصيلًا لاحقًا)، فمن الواضح أن عملية تركيب «الأرز الذهبي ٢» تستخدم الفكرةَ الأساسية نفسَها: إذا لم يكن الكائن الحي يُصنِّع ما تريده منه، فحدِّد الإنزيمات التي تحتاج إليها من كائناتٍ أخرى لتكوين مسارٍ أيضي جديد من مادةٍ موجودة بوفرة في هذا الكائن إلى المادة التي تريد الحصولَ عليها؛ ومِن ثَم ابدأ في هندسة هذا الكائن ليحمل جيناتِ تلك الإنزيمات.

fig4
شكل ١-٤: القلاب البيولوجي التخليقي الذي صنَعه معمل جيمس كولنز يُغير حالته نتيجةً للتعرُّض المؤقَّت للعقار الأول ويحتفظ بحالته إلى أن يتعرَّض للعقار الآخر.
شهد عام ٢٠٠٠ نشر تجرِبتَين بارزتين تصفان أنظمة أُنشِئَت بتقنيات علم الأحياء التخليقي تهتمُّ بأمور أخرى غير العمليات الأيضية في الخلايا. لم تكن التجربتان بغرضِ سدِّ حاجةٍ تجارية أو مجتمعية مباشرة، بل كانتا بغرضِ إثبات الفكرة وتحفيز التفكير فيها. بنى الباحثون في معمل جيمس كولنز شبكة تتكون من جينين، كلٌّ منهما يُمكنه (من خلال البروتين الذي صنَعه) أن يُثبط نشاط الجين الآخر (شكل ١-٤)، ووضعوها داخل خلايا بكتيريةٍ مضيفة. وبما أن جينات البكتيريا تكون نشطةً ما لم يَعُقها شيءٌ آخر، استقرَّت هذه الشبكة البسيطة في إحدى حالتَين: إما أن جين «أ» يعمل باستمرار وجين «ب» لا يعمل، أو أن جين «أ» لا يعمل باستمرار وجين «ب» يعمل. وكانت هذه الشبكة تملك خاصيةً إضافية: هذان البروتينان الناتجان من الجينين، والمقتبسان من بكتيريا طبيعية بالمناسبة، يمكن تعطيلهما إما (أ) باستخدام عقار تركيبه شبيه بالسكريات، أو (ب) بمضادٍّ حيوي. إذا كانت الشبكة في حالة الاتزان التي فيها «أ» يعمل و«ب» لا يعمل، لكننا أضَفْنا العقار الشبيه بالسكَّريات، فإن بروتين الجين «أ» لن يعود بمقدوره تثبيطُ جين «ب»؛ لذا سيبدأ الأخير في النشاط مُصنِّعًا بروتين «ب»، الذي سيُثبط بدوره جين «أ»، وسيُصبح النظام في حالة الاتِّزان البديلة. علاوةً على ذلك، سيستمرُّ النظام في تلك الحالة حتى بعد أن ينتهيَ تأثير العقار. أما إن أضفنا المضادَّ الحيوي الآن، فإن بروتين الجين «ب» سيعجز عن تثبيطِ جين «أ»، وستنعكس حالة النظام إلى الحالة التي جين «أ» فيها في الحالة النشطة. ومن ثَم يمكن اعتبار أن الشبكة تعمل ذاكرةً تُسجل آخِرَ حالة كانت فيها (إضافة العقار أو المضاد الحيوي). وهي بالفعل تُشبه صوريًّا بِنية دوائر الذاكرة في الكمبيوتر التقليدي، حيث تعمل كدائرة القلاب «إس آر»، مع فارق أن ذاكرة الكمبيوتر تحتاج إلى بضع نانو ثوانٍ لتغيير حالتها، بينما يستغرق ذلك بِضع ساعات في هذا المنظومة البيولوجية.
fig5
شكل ١-٥: في متذبذب التثبيط الذي ابتكَره إيلووتز وليبلر، كلُّ جين يُثبط عملَ الذي يليه في هذه الحلقة، وكنتيجةٍ غير مباشرة لذلك يتسبَّب في تذبذب نشاط كلٍّ من هذه الجينات صعودًا وهبوطًا مع الزمن.
استخدمَت التجربة الاستثنائية الأخرى التي شهدناها عام ٢٠٠٠، والتي خرَجَت لنا من معمل مايكل إيلووِتز وستانِسلاس ليبلر، فكرةً مشابِهة جدًّا للحصول على نظامٍ متذبذب بدلًا من دائرة الذاكرة. حيث نرى مجددًا جينات تحمل شفرةَ بروتينات بإمكانها تثبيط جينات أخرى؛ لكن هذه المرة كان لدينا ثلاثة جينات «أ»، و«ب»، و«ج» (شكل ١-٥). البروتين الناتج عن جين «أ» يُثبِّط جين «ب»، وبروتين جين «ب» يُثبط جين «ج»، وبروتين جين «ج» بدوره يثبط جين «أ». اعتمد السلوك المتذبذب في هذا النظام على أن النظام يستغرق وقتًا محددًا (دقائق) ليُنتج بروتينًا فعَّالًا من الجين المنشَّط، ويستغرق وقتًا مماثلًا ليتحلَّل البروتين الموجود ويختفي. تخيل حالة يكون فيها جين «ج» نشطًا. سيُثبط البروتين الذي ينتج عنه جين «أ»، ومن ثَم لن يتكونَ بروتين «أ» على الإطلاق. بسبب عدم وجود بروتين «أ» لن يكون هناك ما يُثبط جين «ب»؛ ومن ثَم ينتج عنه بروتين «ب» كما هو منتَظَر. وبروتين «ب» يُثبط جين «ج». وبمجرد أن ينتهي مخزون الخلية من بروتين «ج» ويتحلَّل بالكامل، لن يكون ثَمة ما يعوق نشاط جين «أ»، وسيبدأ إنتاج بروتين «أ». سيعوق هذا عملَ جين «ب» ويُثبطه. ومن ثَم عندما ينتهي مخزون الخلية من بروتين «ب» ويتحلَّل بالكامل، لن يكون هناك ما يعوق نشاطَ جين «ج»، وسيبدأ الجين بالعمل مصنِّعًا بروتين «ج»، الذي سيقوم بدوره بتثبيط جين «أ»: فنعود من حيث بدأنا. يستمرُّ النظام في المضي في هذه الحلقة، ويتغيَّر تركيزُ كل واحد من هذه البروتينات بين القِيَم العظمى والصُّغرى بشكل دوري. يُشبه هذا سلوكَ المتذبذب الحلقي في الإلكترونيات؛ لذا أسماه مُبتكروه «متذبذب التثبيط».

سرعان ما تبع الأنظمة الجينية التخليقية التي من أمثال دائرة القلاب ومتذبذب التثبيط دوائرُ منطقيةٌ ومتذبذبة أخرى، وصارت تُربط بأنظمة استشعار، لتكتسبَ هذه الدوائرُ المنطقية الجينية قدرةً على الاستجابة حسَب بيئة الخلية. توسَّعَت مثل هذه المنظومات حتى وصلَت إلى كائنات عديدة الخلايا، وفيها الثدييات والنباتات. صُمِّم الكثير من هذه الأنظمة ليُؤدِّيَ غرضًا معينًا في مجالٍ ما؛ مثل الطاقة والبيئة والطب. لكن مَكْمن الخطر في أن أعطيَك جرعاتٍ معرفيةً موجزة عن هذه التطبيقات في مثلِ هذه المقدمة هو أن المجال هنا يَضيق عن النقد والتمحيص، وهذا ما قد يؤدي بنا إلى عرضٍ مُضلل إيجابي أكثرَ مما يجب؛ لذلك سنذكر بعض هذه التطبيقات في مواضع أخرى من هذا الكتاب.

يكاد يكون لا خلاف على أن دائرة القلاب ومتذبذب التثبيط هما ضربٌ من علم الأحياء التخليقي. ما الفرق إذن بين الهندسة الوراثية وعلم الأحياء التخليقي؟ تختلف الآراء باختلاف العلماء، لكن لنُحاول أن نرسمَ آراء العلماء معًا، لعلَّ حدودًا تقريبية بينهما ترتسم أمامنا. حجم التدخُّل مؤثرٌ بلا شك، لكن يُهمنا أكثرَ ما يمكن أن نُسميه بالاستحداث الوظيفي. فالتعبير الجيني عن هرمونٍ بشري داخل خلايا بكتيرية، أو التعبير الجيني عن أجسام مضادة بشرية داخل خلايا النباتات ليسا من «علم الأحياء التخليقي»؛ لأن منتجات هذه الجينات تؤدي وظيفتَها نفسَها التي كانت تؤديها في الإنسان. نرى هنا أن الجينات الطبيعية نُقِلَت إلى كائنٍ حي مختلف؛ لأن هذا ملائمٌ للعملية الإنتاجية، وليس لأننا نسعى إلى أن نستحدثَ مُنتَجًا جديدًا من العملية. ومن جهةٍ ما، يمكننا القول إن هذا العمل ليس تحليليًّا ولا تخليقيًّا، بل عملٌ تقني تمامًا (وهذا التعريف ليس استخفافًا بالطبع؛ فهذه المشاريع قد تكون شديدةَ الأهمية وشديدة الصعوبة). لكن على الضفة الأخرى، تجتمع جينات، لم تكن لتعملَ معا أبدًا، لترسُمَ مسارًا أيضيًّا جديدًا في الخلايا، وناتج العملية يذهب خطوةً أبعدَ ممَّا وصل له النظام الطبيعي بالتطوُّر، بما يكفي لأن يصفَه أغلبُ المعلقين بأنه ناتجٌ «مُخلق». وبالمثل، عندما نُعيد ترتيب عدد ولو كان صغيرًا من الجينات الموجودة طبيعيًّا في كائنٍ ما لتؤدِّي لنا وظيفةً جديدة، مثل معالجة العمليات المنطقية الحاسوبية، أو الاحتفاظ بذكرى ما، أو التذبذب، أو التحذير من وجود خطرٍ كيميائي أو بيولوجي، نكون قد خطَوْنا خطوةً أبعدَ من العمليات البيولوجية الطبيعية، مما يكفي لنعتبرها عمليات تخليقية.

تطبيق المفاهيم الهندسية على علم الأحياء

إحدى المدارس الفكرية البارزة (وإن كانت لا تلقى إجماعًا) في علم الأحياء التخليقي المعاصر من شأنها أن تُضيف بضعةَ شروط أُخرى: التراكبية، والتوحيد القياسي، والانفكاك، والتجريد. هناك ما يربطها جميعًا؛ فجميعُها مُستقَاةٌ من الهندسة التقليدية ومن الأسهل شرحُها بأمثلة من هذا الحقل المعرفي. التراكبية تعني أن البِنْيات الكبيرة لا بد أن تُبنى باختيارِ وحداتٍ تركيبية أولية والربطِ بينها. من أمثلة ذلك الربط بين مُكونات تركيبية بسيطة (كالمقاومات والمكثِّفات والترانزستورات وما إلى ذلك)؛ لتكوين دائرةٍ تؤدي مهام أعقد مثل استقبال البث الإذاعي. قد تكون التراكبية هرَمية: فمثلًا دائرة التضخيم الكهربية تتركَّب من مُكوناتٍ بسيطة قد تعدُّ كلٌّ منها وحدةً تركيبية يمكن تضمينها في تصميم الراديو، أو مُشغِّل الأقراص، أو جهاز الردِّ الآلي. التراكبية تعتمد على التوحيد القياسي، بحيث يستطيع المُصمِّمون أن يكونوا متأكدين من أنه يمكن التنبُّؤ بتصرُّف الوحدات الأولية التي يستخدمونها وَفقًا لسِماتٍ متفَق عليها. يمكن للتوحيد القياسي أن يمتدَّ إلى قابلية تَكْرار العملية نفسها، وليس هذا فحسب، بل يمتدُّ أيضًا إلى استخدام تقنياتٍ قياسية، وتوحيد معاني الكلمات، والاتفاق على مواصفات قياسية للمُكونات (على سبيل المثال الأبعاد الداخلية للصواميل والبراغي). أما الانفكاك فهو الفكرة التي تسمح لنا بتقسيم مشروع كبير إلى عدة مشاريع جُزئية منفصلة يمكن العمل على كلٍّ منها بمَعزِلٍ عن البقية. على سبيل المثال، يمكننا تقسيم عملية صنع راديو جديد إلى التصميم، وصنع المكونات، وتجميع المكونات لتكوين دائرة الراديو، وبناء العلبة الخارجية … إلخ، ومَن يقوم بأيٍّ منها لا يحتاج إلى أن يكون خبيرًا إلا في المهمَّة المُضطلِع بها. التجريد هو فكرة مُقاربة، وهي أن هذا النظام يمكن وصفُه بمستوياتٍ متفاوتة من التفصيل، فإذا كنتَ شخصًا يتعامل مع النظام في مستوًى عالٍ من التجريد، يمكنك تجاهلُ تفاصيلِ المستوى الأدنى والتعامل مع النظام على أنه «صندوق أسود». بإسقاط هذا على مِثال الراديو، نرى أن مُصنِّع مكوِّنات الدوائر الكهربية يحتاج إلى أن يهتمَّ بالتركيب الدقيق لمكوِّنٍ ما، وليكن مثلًا المكثف، أما مَن يُصمم وحدة التوليف مستخدمًا المكثِّفَ فيمكنه ألا يأخذ آليةَ عمل المكثِّف بعين الاعتبار، لكن ينبغي عليه أن ينتبه للعلاقة بينه وبين المكونات الأخرى في الدائرة، وأمَّا مُشغل اللاسلكي فيأخذ عملَ كلِّ هذه الأشياء أمرًا مُسلَّمًا به، ولا يحتاج إلا إلى معرفةِ كيف يستخدم أزرارَ اللوحة التي أمامه ومقابضَها. يعتبر التجريد، مثله مثل الانفكاك، مُحَرِّرًا ومُيَسِّرًا لأنه لا يحتاج إلى أن يكون جميعُ المشاركين خبراءَ في كل جانب من جوانب مشروعٍ معقَّدٍ ما. كما أنه يسمح للمُصممين بالتركيز على تصميمٍ ذي مستوًى عالٍ دون أن يُغرِقوا في التفاصيل. والأهمُّ أنه بوجود الهرم التجريدي يمكن أن تحدث تغييراتٌ في مستوًى معينٍ (فمثلًا قد تُستخدَم موادُّ جديدةٌ في تصنيع المكثِّف) بدون أن تتأثر المستويات الأعلى. يعتمد مدى تحقُّقِ هذا عمَليًّا على الإجراءات المتبَعة لاعتماد القطعة ومدى دقتِها في أخذِ جميع خصائصها المؤثرة بعين الاعتبار.

منذ منتصَف التسعينيَّات ظهر العديد من المقترحات لإنشاء مكتباتٍ من وحدات دي إن إيه التركيبية، بحيث يمكن ربطُها معًا بعددٍ لا يُحصى من الطرق لتؤدِّيَ شتى الأغراض، وأُجرِيَت بعض الدراسات المبدئية على هذا بالفعل. وفي عام ٢٠٠٣، قطع توم نايت ودرو إندي خطوةً عمليةً كبرى في طريق إنشاء مكتبة القطع القياسية لعلم الأحياء التخليقي، حينما أطلَقا «سجلَّ القطع البيولوجية القياسية»، وصمَّما مسابقةً عالميةً بين الطلاب للتشجيع على الإسهام في بنائها واستخدامها. صُمِّمت عناصرُ هذه المكتبة لتتوافق مع آلياتٍ معيَّنة للتجميع والتركيب، بحيث تضمُّ جينات، وتسلسلات دي إن إيه مسئولة عن إدارة عملية نسخ الجينات لتكوين آر إن إيه مرسال، وتسلسلات أخرى تتأكد من استنساخ دي إن إيه، وتسلسلات تُهيئ القطع للتركيب معًا؛ ممَّا يُتيح المرونة اللازمة للتجميع. وبعض هذه الجينات يمكن تركيبه هو نفسه من وحداتٍ تركيبية أصغر؛ ليتمكَّن المصمِّمون من الاختيار من بين الوحدات الصغرى المختلفة لتمنح البروتيناتِ الناتجةَ أشكالًا فراغية متباينة. وقت كتابتي لهذا الكتاب، يحتوي السجلُّ على نحو ٢٠ ألفَ قطعة، أغلبها مُخصص للاستخدام في البكتيريا، لكن بعضها يُستخدَم في كائناتٍ أخرى. السجلُّ مفتوح تمامًا للاستخدام (رابطه هو parts.igem.org)، كما يمكن لأيِّ معمل أكاديمي أن يطلب الحصولَ على نسخةٍ مادية من هذه القطع.
يميل أنصارُ مكتبات القطع البيولوجية، عند تصميم هذه القطع المجردة وتسميتِها، إلى استخدام لغةٍ تؤكد الطبيعة الهندسية لهذا التوجُّه، وتُبعده عن علوم علم الأحياء التقليدية. من الأمثلة الواضحة على هذا استخدامهم لكلمة «الهيكل» للتعبير عن الكائن المضيف. في بداية عصر الإلكترونيات وقبل اختراع لوحات الدوائر المطبوعة، كانت الجراموفونات والتليفزيونات وأجهزة البث الإذاعي تُبنى بتجميع مكوناتها وتثبيتِها على صندوقٍ أو لوحة من معدنٍ خامل تُسمى بالهيكل، الذي تُثبَّت فيه مقابسُ التوصيل لتحملَ المكونات اللازمة ليؤديَ الجهاز وظيفته كأنبوب الانبعاث الكهروحراري (الأنبوب المفرغ) مثلًا. الإشارة إلى الخلايا المضيفة التي ستستوعب التشكيل البيولوجي التخليقي باسم الهيكل تُشجع المهندسين على التعامل معها باعتبارها هيكلًا خاملًا يُمكننا تجاهلُه. وهذا افتراضٌ يستحق المُساءلة، على أقل تقدير. فحتى أبسط كائنٍ بكتيري على الإطلاق هو أعقدُ بما لا يُحصى من التشكيل الجيني الذي سيستقبله؛ فقد تطورَت الخلايا لتستجيب فسيولوجيًّا لما يطرأ من تغيراتٍ في احتياجاتها للطاقة والمواد الخام (مثل تلك التغيرات التي قد تتسبَّب فيها الأنظمةُ التخليقية)، كما أنها تطورَت لتُكافح غزو المنظومات الجينية الأخرى كالفيروسات. ما زلنا لا نعرف إلا قليلًا عن العالم البيولوجي حتى إنه من المستحيل أن نعرف سلفًا ما إذا كانت البروتينات الناتجة من التشكيل البيولوجي التخليقي لن تتفاعلَ مباشرةً تفاعلًا غيرَ متوقَّع مع أيٍّ من مكونات الخلية المضيفة. في بعض المشروعات نجحَت هذه الافتراضات التبسيطية، وباءت بالفشل في مشروعاتٍ أخرى. من المثير للاهتمام أن أغلب المشروعات الناجحة التي سنستشهد بها لاحقًا في هذا الكتاب لم تتمَّ بطريقة انتقاء قِطَع قياسية من مكتبة، وحتى عندما كانت تتم باتباع هذه الطريقة احتاجت عملية البناء إلى مجهودٍ مُضنٍ من إعادة التصميم والتحسين. سنتعرض مجددًا في الفصول اللاحقة لمناقشة ما إذا كانت المنهجيَّة الهندسية وتشبيهاتها قيِّمة لنا بالفعل، أو كانت غير ذلك. فعلم الأحياء التخليقي لا يزال علمًا يافعًا يخضع لمؤثراتٍ شتى (شكل ١-٦)، ومن المبكر جدًّا أن نعرف أي هذه المنهجيات سيربح في النهاية.

تطبيق المفاهيم البيولوجية في الهندسة

من الجدير بالاهتمام أن مشروع علم الأحياء التخليقي ككلٍّ، وشبكة العلوم المتداخلة التي أثمرَته، جمع علماء الأحياء مع المهندسين للعمل معًا، مما أتاح لكلٍّ منهم قدرًا كبيرًا من الاحتكاك بمجال الآخَر. حاول المهندسون، بدرجاتٍ متفاوتة من الغرور أو التواضع، أن يحملوا علماءَ الأحياء على الاقتناع بالميزات التي زعَموها لمنهجية العمل الهندسي. وحاول علماء الأحياء، أيضًا بدرجاتٍ متفاوتة من الغرور أو التواضع، أن يحملوا المهندسين على الإعجاب بالطريقة «البيولوجية» في البناء والصيانة والتطور. وعندما تلاقَت معرفتا الفريقَين ومجهوداتهم كما يجب، خرَجَت لنا مشاريعُ مثيرة للاهتمام تسعى لاستخدام الأنظمة الحية في حلِّ مشاكل اعتدنا أن نراها متأصِّلةً في العالم غير العضوي، عالم السيليكون والصخر والفولاذ. ينتمي بعضُ هذه الأنظمة للعالم الجزيئي حيث تُستخدَم جزيئات دي إن إيه لحمل معلوماتٍ مشفَّرة، أو يستخدم دي إن إيه لإجراء عملياتِ حوسبة متوازية شديدة التشابك في حقولٍ معقَّدة كفكِّ التشفير. تعمل أنظمة أخرى على نطاقٍ أكبر بكثير، حيث تهتمُّ بتشييد أبنيةٍ تستطيع التكيُّف مع بيئتها أو تتعافى تلقائيًّا من الأضرار التي تنالها.

fig6
شكل ١-٦: تُمثل الأسهم مسارًا زمنيًّا تقريبيًّا لتطور علم الأحياء التخليقي، موضحةً أبرزَ تأثيرات علوم علم الأحياء التقليدية والهندسة التقليدية، بالإضافة إلى الإسهامات التي بدأت تحدث في الاتجاه المُعاكس.

الوقت الحاليُّ أبكرُ من أن نحكم إذا ما كان علم الأحياء التخليقي سيترك تأثيرًا ذا بالٍ على المجالات الهندسية، أم أنه سيظلُّ مقتصرًا على بضعِ دراسات لإثبات الفكرة لا أكثر. بل إنه أبكرُ من أن نستطيع التنبُّؤ بثقةٍ بالتأثير الشامل لعلم الأحياء التخليقي على أي مجال على الإطلاق. سنتعرض في الفصول من الثالث إلى السابع إلى دراساتٍ عن التطبيقات المبكرة لأفكارِ علم الأحياء التخليقي في العديد من المشكلات العالمية، وسنُناقش فيها كلًّا من الجانب العلمي والمشكلات العَملية بين التصميم والاستخدام؛ سواءٌ كان لأغراض تِجارية أو إنسانية، بينما سنُناقش في الفصل الثامن والأخير ردودَ الأفعال السياسية والفنية والثقافية الحاليَّة على هذه التكنولوجيا. أرجو أن تساعد المعلوماتُ المطروحة في هذه المقدمة القصيرة جدًّا القارئ المهتم على تكوين رأي مستنير خاص به، حتى وإن كان رأيًا مبدئيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤