الفصل الخامس

علم الأحياء التخليقي في خدمة الهندسة

مع أنه من السهل توقُّع أن يعود علم الأحياء التخليقي بالنفع على الطبِّ والكيمياء، قد يبدو غريبًا أن يكون له صلةٌ بالعالم غير العضوي لهندسة البنايات والكباري وأجهزة الكمبيوتر. غير أن الأنظمة البيولوجية بقدرتها على التجاوُب مع المتغيرات وصغر تراكيبها الجزيئية تملك بالفعل القدرةَ على حلِّ بعض المشكلات الكبرى (بل ربما تخلق لنا بعض المشاكل الجديدة). ومرةً أخرى مُراعاةً لمساحة الطرح، سيتناول هذا الفصلُ حقلًا شاسعًا بمناقشةِ أمثلة معدودة من ثلاثة مجالات في الهندسة الحديثة: البناء والتشييد، والحوسبة، والاتصالات.

العمارة والبيئة المصطنعة

بات أكثرُ من نصف سكان العالم يعيشون الآن في المدن، ونجد أن البيئاتِ المحيطةَ بالناس أغلبَ الوقت ما هي إلا بيئاتٌ من صنع البشر. يُشكِّل تشييدُ هذه البيئة المصطنعة (وإعادةُ تشييدها) ما لا يقلُّ عن ١٠ بالمائة من انبعاثات الكربون عالميًّا، هذا إلى جانب ما تحتاج إليه المباني من تدفئةٍ وتبريد وإضاءة، ممَّا يتسبب في المزيد من الانبعاثات. ويتجاوز إسهامُ المباني في رخاء حياة الإنسان مجردَ ما تنطوي عليه من مأوًى ودفءٍ وضوء؛ فهناك أدلةٌ متزايدة تشير إلى أن طبيعة هذه البيئة الاصطناعية لها تأثيرٌ بالغ على نفسيَّة البشر وسلوكياتهم. لذا من الأهمية بمكانٍ أن نتعلم كيف نبني أفضل.

أغلبُ بنيان المدن الحديثة بنيانٌ خرساني، وغالبًا ما يكون مُدَعَّمًا بالفولاذ. والخرسانة مادةٌ ممتازة للتشييد وتُستخدم منذ عهد الرومان، وحتى اليوم تُعد الخرسانة أكثرَ المواد التي صنعها البشرُ استخدامًا على الإطلاق. فنقلها سهلٌ في صورتها الخام، كما يمكن خلطُها وتجهيزها في موقع الإنشاء نفسه، وتُضخ بسهولة في صورة سائلة للموضع المطلوب، وإن استخدمت القالب المناسب يمكنك أن تجعلها تتَّخذُ أي شكل تقريبًا. ومع ذلك تعيبها مشكلة حقيقية؛ فسطحها معرضٌ للتشقق والشروخ نتيجةَ حدوث ارتطام مثلًا، أو بسبب التفاعل بين الأسمنت القاعدي وحبيبات الرمل المكوَّنة من السيليكا عند وجود الماء. تتفاقم المشكلة في المناطق معتدلةِ البرودة وشديدتِها، حيث قد يخترق الماءُ الشروخَ ثم يتجمد؛ مما يجعله يتمدَّد فيجعل الشروخَ أسوأ. طور فريق هيك يونكرز في هولندا حلًّا بيولوجيًّا لهذا (لكن ليس تخليقيًّا)، وذلك بإضافة أبواغ بكتيريا عصَوية ومواد مغذية مجففة للخليط الخرساني. تظلُّ هذه الأبواغ خاملةً وجافة ما دامت الخرسانةُ سليمة من الشروخ. لكن إن تصدَّعَت الخرسانة وتسلسل الماء داخلها فإن الأبواغ تنشط وتستخدم هذه المُغذِّيات لتنمو؛ ومِن ثَم تُفرز كربونات الكالسيوم، وهي مادة شبيهة بالأسمنت، هي المادة السائدة في الأصداف البحرية وبقاياها المتحجِّرة. وبهذا تلتئم الشروخ ذاتيًّا. يعمل هذا النظام بكفاءة عالية، على الأقل هذا ما وجدناه خلال التجارب المعملية، ولأنه يعتمد فقط على بكتيريا عاديةٍ غير مؤذية؛ فلن يُقابل عراقيلَ هائلة حتى يُسمَح باستخدامه في المباني الحقيقية. لكن ما زالت لدينا مشكلة؛ فبهذه الطريقة لا يمكننا جعلُ الخرسانة ذاتيةَ التعافي إلا إن كانت الأبواغ قد أُضيفت إليها أثناء صبِّها وتصلبها.

تصدَّى فريقٌ في جامعة نيوكاسل لمشكلة إيجادِ آليةٍ لتطبيق هذه الفكرة على الخرسانة المبنيَّة بالفعل. يتألَّف النظام، الذي أسمَوه «باسيلافيلا»، من محلولٍ معلق قابلٍ للرش يحتوي على أبواغ للبكتيريا العصوية الرقيقة المعدَّلة وراثيًّا لتحمل تشكيلًا جينيًّا مخلقًا، مع بعض المغذيات (شكل ٥-١). تحفز الظروف القاعدية في شروخ الأسمنت المتداعي نموَّ هذه الأبواغ. ومن ثَم يأتي دور التشكيل الجيني المخلق، الذي بفضله تكتسب البكتيريا قدرةً على الحركة بعد أن تنبت من الأبواغ، فيتغلغل جزءٌ منها عميقًا داخل الشروخ، هذا بالإضافة إلى نظام استشعار مستعار من بكتيريا طبيعية، يتحقَّق مما إذا بلغَت أعداد البكتيريا هناك النِّصابَ المطلوب. إن باتت أعداد البكتيريا كبيرةً كفاية، يجعل هذا النظام البكتيريا تأخذ أشكالًا ليفيَّة، وتُفرز نوعًا من الصمغ البكتيري الذي يجعل البكتيريا تتضافر وتتماسك، وتُفرز كربونات الكالسيوم. يصبح الشرخ بذلك مملوءًا بالأسمنت المدعم بالألياف البكتيرية المتضافرة. ومع ذلك، يجب أن نُدرك أنَّ هذا النظام ما زال في طَور البناء، ولا نعرف بعدُ إن كان ذا نفعٍ فعلًا، أو إن كانت القوانين المتعلقة بإطلاق الكائنات المعدلة وراثيًّا ستسمح باستخدامه في البيئة العامة. على كل حالٍ يُرينا «باسيلافيلا» مثالًا لاستخدام العناصر بالغةِ الصِّغر التي يمكن إنتاجها بعلم الأحياء التخليقي في تطبيقات هائلة قد تصل حتى إلى البنايات الشاهقة.
fig22
شكل ٥-١: فكرة نظام «باسيلافيلا»، وهو مُصمم ليُرَش على الخرسانة المتصدِّعة فيُرممها بتكوين كربونات الكالسيوم (الحجر الجيري) المدعم بوشيجةٍ من البكتيريا المتضافرة.

وبينما لا يزال علماء علم الأحياء التخليقي العمَليون يَخْطون خطواتهم الأُولى نحو الإسهام في مجال التشييد والبناء بتصاميمَ مبتكَرة مثل «باسيلافيلا»، نجد أن علماءَ حالمين أكثر يُفكرون فيما إذا كان من الممكن أن نجعل أجزاءً من البنايات حية، لتُساعد في إدارة الطاقة والحفاظ على جودة الهواء الداخلي. بل يذهب البعض أبعدَ من ذلك ليُناقشوا إمكانية إنشاء بنايات تنمو ذاتيًّا. من الصعب أن نملك انطباعًا واضحًا عن هذه التطلعات الاستشرافية الحالمة. فمحاولات استشراف المستقبل التي رأيناها في الماضي (خصوصًا السيارات الطائرة والحقائب النفاثة التي ستكون في كل مكان) نادرًا ما تحققَت في الواقع، لكن رغم ذلك كثيرًا ما حفزَت مثلُ هذه التصورات المستقبلية أبحاثًا أخذَت في النهاية مساراتٍ مُغايرةً تمامًا.

تخزين البيانات في جزيئات الدي إن إيه

يتَّسم القرن الحادي والعشرون، في الدول المتقدمة على الأقل، ببِنيةٍ تحتية هائلة ومتنامية لتخزين البيانات الرقمية وإرسالها. تُقدر كمية البيانات الرقمة الحالية في العالم كله بنحو ٢ زيتابايت (أي ٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ بايت) ومن المتوقَّع أن تزداد، ونحتاج على الأقل إلى أرشفة البيانات الأهم منها وحفظها في صورة دائمة ما. مقارنةً بوسائط التخزين الإلكترونية والضوئية التي لدينا حاليًّا، يستطيع الدي إن إيه الاحتفاظَ بقدرٍ هائل من البيانات في حيز ضئيل جدًّا، بكثافة تخزينية تصل إلى نحو عشرة زيتابايت لكل جرام. نظريًّا، يحتاج الاحتفاظ بنسخةٍ من كل البيانات الرقمية المخزَّنة على كل جهاز كمبيوتر حول العالم، وفي ذلك بيانات الفهرسة المكملة لها، إلا إلى أقل من خمسين جرامًا من جزيئات دي إن إيه مفرَدة الشريط. هذا يُقارب وزن قدح قهوة كبير. وعلى عكس ما قد تتوقَّعه من الأنظمة البيولوجية الحساسة، نجد أن الدي إن إيه يُعد وسيطَ تخزينٍ مستقرًّا مقارنةً بالأشرطة والأقراص الصلبة والمضغوطة. فقد تبين مثلًا أن نحو أربعة أخماس جينوم الماموث الصوفي بعد رُقاده لما يزيد عن ١٠ آلاف سنة ما زال جيدًا كفايةً لنقرأه.

ما دام يُرمَز للنصوص الرقمية بسلسلة من الأصفار والآحاد، فيبدو إذن أنه سيكون من السهل أن نُحملها على دي إن إيه إن اتفقنا على استخدام القاعدة A أو C لترمزا إلى٠، والقاعدة T أو G لترمزا إلى ١. نظريًّا يُمكننا أن نؤديَ هذه العملية بكفاءة أكبر من الناحية الرياضية، لكن الميزة أن قواعد الترميز هذه تسمح لنا ببناءِ تسلسلاتٍ طويلة من الدي إن إيه لا تتتابع فيها إحدى القاعدتين G وC مسافةً طويلة؛ لأن هذا عمليًّا يُعرضنا لصعوبات في بناء تسلسل دي إن إيه وقراءتِه. وبالفعل استخدم جورج تشيرش وفريقُه هذه الفكرة ليُشَفِّر داخل جزيء دي إن إيه نصًّا طوله ٥٣٤٢٦ كلمة بالإضافة إلى أحَدَ عشر رسمًا توضيحيًّا، جميعها مقتبَس من كتابه «إعادة الخلق: كيف سيُعيد علم الأحياء التخليقي اختراعَ الحياة واختراعنا». قُسِّمَ النص إلى قِطَع من البيانات، كلٌّ منها طوله ٩٦ قاعدة، وكلٌّ من هذا القطع مسبوقٌ بتتابُعٍ للبدء، ورمز ترقيم تسلسلي؛ ليُكَوِّن في النهاية قطعًا من الدي إن إيه المزدوج طول كلٍّ منها ١٥٩ قاعدة. تسمح التسلسلات المرافقة باستنساخ القطع وقراءة التسلسلات لاستعادة المعلومات المشفَّرة. وعندما نحصل على جميع التسلسلات، سيسمح رمز الترقيم التسلسلي بتجميع كلِّ هذه البيانات معًا وَفقًا للترتيب الصحيح. وأظهر الفريق أن بمقدوره بالفعل قراءةَ نص الكتاب من الدي إن إيه المُصَنَّع. وقد استخدم آخرون أيضا نُظُمًا أخرى لتشفير النصوص، وحققت نجاحًا مماثلًا.

تكلفة كتابة دي إن إيه وقراءته بالإضافة إلى الوقت الذي تستغرقه العملية تجعل التخزين على دي إن إيه بديلًا فاحشَ التكلفة للأقراص الصلبة المعتادة في تخزين البيانات التي تُستخدم بشكل متكرر. لكن لعله يُصبح ذا جدوى إن استُخدِم في أرشفة البيانات المهمة المطلوبِ الاحتفاظ بها للأبد، لكن بدون الحاجة إلى الرجوع إليها إلا نادرًا. فعملية تخزين البيانات على الوسائط المغناطيسية التقليدية تتطلب قراءةَ البيانات وإعادةَ كتابتها كلَّ خمس سنين إلى عَشر سنين (لأن مَغْنطة القرص تخفتُ وتتبدَّد مع الوقت). وبعد إجراء الحسابات، تبيَّن أنه للاحتفاظ بالبيانات مدةً طويلة جدًّا، خمسة قرون أو أكثر، ستكون الذاكرة المعتمدة على دي إن إيه مُجديةً أكثرَ ماديًّا. كما أن الدي إن إيه لا يواجه تهديدَ أن يصير تكنولوجيا قديمةً مهجورة كما يحدث مع أصناف تكنولوجيا الكمبيوتر الأخرى، لكن ما زالت أمامنا مُعضلةُ نقلِ تعليمات استخدام هذه الأرشيفات للقرَّاء بعد آلاف السنين؛ لأن اللغات نفسها تتغيَّر تغيرًا هائلًا خلال هذا المدى الطويل.

الحوسبة

يقسم علماء الكمبيوتر المسائلَ إلى عدة فئات، تعتمد (تقريبيًّا) على مدى تزايُد صعوبة حلِّ المسألة بزيادة طولها. كثيرٌ من المسائل لا تُعد مسائلَ صعبة، مثل جمع قائمة من الأعداد؛ فإذا تضاعف طول القائمة تضاعف بالمِثل الوقت اللازم للجمع. يسمى هذا الصنف من المسائل في لغة علوم الكمبيوتر مسائل من النوع P. لكن بعض المسائل الأخرى يمكن أن تزداد صعوبتها أُسِّيًّا مع زيادة طولها. على سبيل المثال، تخيل أن لديك مجموعةً بسيطة من الأعداد (ولتكن مثلًا -٦، -٤، ٣٠، ٤٥، ١١، ٩، -١٠) وتريد أن تعرف إذا ما كان يمكن الحصول على مجموعة فرعية منها مجموعُ عناصرها صفر (في هذا المثال نجد أن المجموعة الفرعية -٦، -٤، -١٠، ١١، ١٩ تُحقِّق هذا). أسرع طريقة لعمل هذا حاسوبيًّا تتم باحتساب جميع المجموعات الفرعية الممكنة وتجرِبة ما إذا كانت تُعطينا الناتج المطلوب، وهو ما يستغرق عدد ٢ن-ن-١ من المحاولات، حيث ن هو عدد العناصر في المجموعة. وهكذا، فمع أن التحقُّق مما إذا كانت الحلول المطروحة صحيحةً في منتهى البساطة، إلا أن وقت إيجاد جميع المجموعات الصحيحة يزداد أسيًّا بزيادة ن. على سبيل المثال، إذا كان حل هذه المسألة لمجموعة من أربعة أعداد يستغرق ١١ ثانيةً مثلًا، فإن حلها لمجموعةٍ من ١٦ عددًا سيستغرق ١٨ ساعة، ولعشرين عددًا تستغرق العملية ١٢ يومًا، أما لمائة عدد فإنها تستغرق أطول بكثير من عمر الكون بأكمله. تُسمى هذه المسائل بمسائلَ من النوع NP وهي مسائلُ قدرتُنا على حلِّها حاسوبيًّا محدودة، إلا إن كانت صغيرة جدًّا.
يعتمد كثيرٌ من مسائل النوع NP (كالمسألة التي سبق شرحها) على التجريب الأعمى للتحقُّق من جميع الاحتمالات، وهي عملية بطيئة إذا كانت تتم على مُعالج واحد يعمل على التحقُّق من الاحتمالات واحدًا تِلو الآخر. حتى الأجهزة التي يقول علماء الكمبيوتر إن لها قدرةً هائلة على الحوسبة المتوازية لا تصمد أمام مثلِ هذه المسائل كلما كانت أكبر. في المقابل يمكن أن نضع في أنبوب اختبار تريليونات من جزيئات الدي إن إيه المختلفة التي يتصادم بعضُها مع بعض عشوائيًّا، وإن تمكنا من تشفير هذه المسائل الرياضية على دي إن إيه، فإن هذا الأنبوب يمكن أن يُنجز بسرعةٍ عددًا مذهلًا من الحلول الممكنة خلال ثوانٍ.
fig23
شكل ٥-٢: الحوسبة باستخدام الدي إن إيه: (أ) يوضح مسألة المسار الهاملتوني؛ (ب) يوضح طريقة تمثيل النقاط والخطوط بأشرطة مفردة من الدي إن إيه؛ (ج) يوضح كيف يؤدي ازدواج القواعد إلى تجميع القطع مكوِّنًا سلاسلَ طويلة تعبر عن مسارات داخل النظام.
في عام ١٩٩٤، كان لليونارد آدلمان السبقُ في ابتكار جهاز كمبيوتر يعتمد على دي إن إيه أظهَر قدرةً على حل مسألة من النوع NP؛ ورغم أنه لم يكن أسرعَ من الكمبيوتر المعتمِد على السيليكون، كان إثباتًا مهمًّا لإمكانية تطبيق الفكرة. تبدأ مسألة المسار الهاملتوني التي اختارها آدلمان بمجموعةٍ من النقاط تربط بينها خطوطٌ أحادية الاتجاه (وهو ما يُعرف في الرياضيات باسم «المخطط المُوَجَّه»)، وتسأل عمَّا إذا كان هناك مسار يمكن أخذه للانتقال من نقطةِ بدايةٍ معينة إلى نقطةِ نهاية معينة، بحيث نمر أثناء ذلك بكل نقطة مرةً واحدة فقط (شكل ٥-٢أ). لحل هذه المسألة، بنى آدلمان جهازَ كمبيوتر يعتمد على دي إن إيه، ومَثَّل كل نقطة في المخطط بتسلسل دي إن إيه معيَّن طوله عشرون قاعدة، واعتبره تسلسلًا تعريفيًّا لهذه النقطة. كما مَثَّل الخطَّ الواصل بين أي نقطتين بتسلسلٍ من عشرين قاعدةً أيضًا، بحيث يتكون من القواعد العشر الأخرى في التسلسل التعريفي لنقطة بداية الخط، والقواعد العشر الأولى في التسلسل التعريفي لنقطة النهاية (شكل ٥-٢ب). ومَثَّل الخطوط التي يمكن أن تسلَك الاتجاهين بخطَّين منفصلَين كلٌّ منهما أحاديُّ الاتجاه. أما نقطة بداية المسار ونقطة نهايته، فمَثَّل الخطَّ الواصل بينهما باستخدام التسلسل التعريفي للنقطة كاملًا. وفي النهاية، يأتي الدور على بناء التسلسل المكمل لكلٍّ من التسلسلات التعريفية للنقاط (وهي تسلسلات الدي إن إيه التي يُمكنها أن تزدوج مع التسلسل التعريفي للنقطة مكونةً شريط دي إن إيه مزدوجًا).
بدأ آدلمان عملية الحوسبة بخلطِ كلِّ التسلسلات التي ترمز لخطوطٍ مع كل التسلسلات المكملة للتسلسلات التعريفية للنقاط. وحتى في أنبوب اختبار صغير، حمَل النظام أكثرَ من عشرة تريليونات من قطعِ الدي إن إيه التي تتصادم عشوائيًّا وتتلاحم لتُكوِّن أشرطة مزدوجة كلما أمكَنها؛ ومع هذه الوفرة الهائلة في العدد لا بد أنَّ كل الاحتمالات خضَعَت للتجرِبة مراتٍ كثيرة. فإذا كان لدينا خطَّان يتلاقيان عند نقطةٍ معيَّنة، فسنجد أن التسلسل المكمل للتسلسل التعريفي لهذه النقطة سيصل بين تسلسلَي الخطَّين وكأنه لاصقٌ يلصقهما جنبًا إلى جنب. فإن كان ثمة مسارٌ يمكن أن يمتدَّ من نقطة البداية حتى نقطة النهاية، فستتكون لدينا قطعةُ دي إن إيه تُعبر عن المسار بطوله، وتتكوَّن من كل الخطوط المتبعة متلاصقةً بفعل التسلسلات التعريفي للنقاط؛ وَفقًا لترتيبها الصحيح (شكل ٥-٢ج). وفي نهاية التفاعل، تُستخدَم قطع الدي إن إيه التي تُمثل التسلسل التعريفي لنقطتَي بدايةِ المسار ونهايتِه لتكوين بادئةٍ لتفاعل البلمرة المتسلسل «بي سي آر» (وهو تفاعل لإكثار كمية دي إن إيه من خلال استنساخه مرارًا)، من ثَم تُفرز قطع دي إن إيه المتكوِّنة حسَب طولها باستخدام الفصل الكهربي. في حالة وجود حزمةٍ من أشرطة دي إن إيه طولها ٢٠ن من القواعد، حيث ن هو عدد النقاط؛ فإنها تحمل مسارًا يتكون من العدد الصحيح من الخطوات، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل خطوة استُخدِمَت مرة واحدة لا أكثر. تم التحقق من هذا بتجرِبةِ ما إن كانت قطعُ الدي إن إيه المختلفةُ التي في صورةِ شريط منفرد يمكنها أن تقترن مع كل التسلسلات التعريفية للنقاط بلا استثناء؛ وبتحقُّق الشرطَين معًا، حيث طول التسلسل يُعبر عن عدد الخطوات المطلوبة، وكل خطوة استُخدمت مرةً واحدة لا أكثر، نضمن أن كل خطوة استُخدِمَت مرة واحدة لا أكثر ولا أقل.
لا شك أن هذه الطريقة (التي استغرقت نحو أسبوع) أقلُّ ملاءمةً بكثيرٍ من حل المسائل على جهاز كمبيوتر مكتبي عادي. كما أن أجهزة كمبيوتر الدي إن إيه، أو على الأقل إصداراتها الحاليَّة، تُصَمَّم حسَب الحاجة لأداءِ مهمة معينة، وليست متعددةَ الاستعمالات، ومعدل الأخطاء فيها يفوق أجهزةَ الكمبيوتر الإلكترونية بكثير. لكن يبدو نظريًّا أنه حتى لو كان المسار الهاملتوني أطولَ بكثير، فيمكن حلُّه بطريقة الدي إن إيه في الوقت نفسِه تقريبًا؛ ولذا قد تصير الحوسبة باستخدام الدي إن إيه الملاذَ الوحيد لحلِّ بعض المسائل الطويلة المتخصصة من النوع NP، التي لها ما يكفي من الأهميَّة لتستحق هذا العناء. لقد أطلَّت علينا بالفعل فيما مضى معضلاتٌ استحقَّت أن تُشيَّد لها آلةٌ متخصصة تكلَّفَت مبالغَ طائلة، ومن أمثلتها الشهيرة كمبيوتر كولوسوس لفكِّ التشفير، الذي كان سِرِّيًّا حين بناه توم فلاورز في حديقة بلتشلي. ويُفترَض أنه تبعَته أجهزة كمبيوتر بالقدر نفسِه من التخصص.

علم التشفير

يرجَّح أنه منذ أن اخترع الإنسان الكتابة على شيءٍ ما، كان البشر يتمنَّون لو تحكَّموا فيمن يُمكنه أن يقرأ ما يكتبون، ومنذ وقتٍ مبكر في التاريخ يرجع إلى عام ١٥٠٠ قبل الميلاد، كان الصُّناع المهرة في بلاد الرافدَين يكتبون نصوصهم مشفرةً على الألواح الطينية ليحموا أسرارَ تِجارتهم، وبعدها بألف عام كان اليونانيون يستخدمون تقنياتِ تورية النصوص لتضمين رسائلهم ومواراتها داخل نصوص أخرى؛ لئلا ينكشف وجود رسالة أصلًا. وقد نجح العلماء في استخدام الدي إن إيه لتطبيق كِلتا العمليتَين: تشفير الرسائل وإخفائها. وصُمِّمت أنساقٌ عديدة لهذا، وسنتناول فيما سيأتي بعضًا منها لسهولة شرحه في مساحة محدودة.

fig24
شكل ٥-٣: تشفير الصور باستخدام الدي إن إيه – الجزء الأول: تستخدم أليس مكتبة من البادئات لتُصنِّع أزواج plaintextc وcodetextc.
ثمة معضلةٌ كلاسيكية في التشفير، وهي كيف يمكن لشخصٍ واحد، وليكن فتاةً اسمها أليس، أن تُرسل رسالةً لأحد أصدقائها، وليكن بوب، دون أن يتلصَّص عليهما شخصٌ ثالث، وليكن مثلًا إيف. ثَمة طريقة اخترعها أشيش جيهاني وزملاؤه لإرسال الصور (سواءٌ كانت تُعبر عن صورةٍ رسومية فعلًا أو صورةٍ لنصٍّ ما). تبدأ الطريقة برقاقتَين متطابقتين، كلٌّ منها مقسمة لآلاف البكسلات، بحيث يحمل كل بكسل شريطًا قصيرًا مختلفًا من الدي إن إيه (باتت هذه «الرقاقات الجينية» تقنيةً اعتيادية وتُصنَع لتطبيق تقنيات تحليل التعبير الجيني باستخدام المصفوفات الدقيقة). لدى كلٍّ من أليس وبوب إحدى هاتين الرقاقتين، وليس من الضروري هنا أن تظلَّ تفاصيل الرقاقة سرية. كما أن لدى كلٍّ منهما قطعةً طويلة من الدي إن إيه مفرَدِ الشريط، وهو ما ينبغي إبقاؤه سريًّا. يحتوي شريط الدي إن إيه الطويلُ على أزواجٍ من التسلسلات القصيرة بحيث لا تحمل إلا القواعد T وG وC، وكل زوج مفصول عن الزوج الذي يليه بمنطقة إيقاف تتكوَّن من تتابعٍ قصير من القواعد A. وهذه الأزواج تتكوَّن من تسلسلٍ يُسمى plaintext (النص الأصلي) وتسلسل يُسمى codetext (النص المشفَّر)، وهما تسلسلان مختلفان لا يربط بينهما إلا موضعُهما على قطعة الدي إن إي إيه السريةِ هذه (شكل ٥-٣). وكل تسلسل codetext له تسلسلٌ مماثل مثبت في الرقاقة. وبالإضافة لذلك، لدى أليس مكتبةٌ من تسلسلات الدي إن إيه القصيرة، كلٌّ منها سيقترن مع تسلسل plaintext معيَّن على شريط الدي إن إيه ليعمل بادئةً لعمليةِ استنساخه. وتبدأ أليس تفاعُلَ استنساخ الدي إن إيه، لكن في وجود القواعد C وG وA فقط؛ لذا سيتوقف كلُّ تفاعل استنساخ عندما يصل إلى القواعد A المتتابعة (لأن القاعدة A تحتاج إلى قاعدة T لتقترن معها مكونةً الشريط المكمل). لذا نرى أن القواعد A «توقف» إشارات الاستنساخ. وإلى جانب هذا، تستخدم أليس قواعدَ خاصة حساسة للضوء (تجري تفاعلاتها في الظلام لكي تحميَها). تضيف أليس مكتبة التسلسلات القصيرة بأكملها على شريط الدي إن إيه الطويل؛ لتحدث عملية الاستنساخ، ثم تفصل الدي إن إيه المستنسخ عن الأصلي، ونتيجةً لذلك تحصل على مجموعةٍ من قطع دي إن إيه يتكون كلٌّ منها من تسلسل plaintextc وتسلسل codetextc، ويتركب كلُّ تسلسل codetextc من قواعد حساسة للضوء (حرف c المرتفع هنا يُشير للشريط المكمل، ولذلك فإنه يستطيع الاقتران مع الدي إن إيه الأصلي).
بعد ذلك تُضيف أليس مزيجَها من أزواج plaintextc وcodetextc إلى الرقاقة، فتزدوج هذه القطع مع التسلسلات المكملة لها المثبَتة في الشريحة. بعد ذلك تُسلط على الرقاقة الصورة السرية التي تريد تشفيرها. في الأجزاء المظلِمة من الصورة، لن يتأثر التسلسل. أما في الأجزاء المضيئة من الصورة، فسيقسم الضوء شريط الدي إن إيه، محررًا الجزءَ ذا التسلسل plaintext (شكل ٥-٤). تجمع أليس هذه القطع (وهي بمنزلة الرسالة المشفرة هنا) وتُرسلها لبوب. ثم تعرض رقاقتها للحرارة لتُزيل قطع codetextc عنها وتُدمرها.
fig25
شكل ٥-٤: تشفير الصور باستخدام الدي إن إيه – الجزء الثاني: تُشفِّر أليس صورتها بإضافة مزيج أزواج plaintextc وcodetextc التي لديها للرقاقة، ومن ثَم تسلط الصورة السرية عليها، وتجمع القطع ذات التسلسل plaintextc المتحرِّرة.
عندما يستقبل بوب قطع plaintextc المحرَّرة من أليس، سيستخدمها بادئاتٍ ليستنسخ بها شريطَه السريَّ الطويل من الدي إن إيه، ومجددًا سيستخدم القواعد C وG وA فقط، وتحدث العرقلة والتوقف كما رأينا. لكنه لا يستخدم قواعدَ حساسة للضوء، بل سيستخدم قواعد تُضيء فلوريًّا. ولأن القطع التي أرسلَتها أليس لبوب ما هي إلا التسلسلات التي تحرَّرت عندما تعرضَت للأجزاء المضيئة من الصورة، فإن الاستنساخ لن ينتج عنه أزواج plaintextc وcodetextc إلا إن كانت الأزواج تُناظر المواضع المضيئة في الصورة الأصلية. ومن ثَم سيُضيف هذه التشكيلة إلى رقاقته ثم يُضيئها بضوءٍ فوق بنفسجي، ويصور الصورة التي ستتكون أمامه نتيجةً للعملية الفلورية. فتظهر أمامه الصورة الأصلية (شكل رقم ٥-٥).
إن حدَث واعترضَت إيف طريق الرسالة التي تُرسلها أليس (وهي مجموعةٌ من القطع ذات التسلسل plaintext)، فلن تجدها ذاتَ معنًى. بل لن تكون ذاتَ قيمة حتى لو سرقَت إيف الرقاقة نفسَها؛ لأن التسلسلات codetext هي التي تقترن بالشريحة لا التسلسلات plaintext. وما دامت أليس وبوب يُبقِيان قطعةَ الدي إن إيه الطويلة (التي تُمثل المفتاح) أو الرُّقاقة في مأمن، فإن رسائلهما ستكون في مأمنٍ من تلصُّص إيف. وثمة أنساقٌ أخرى كثيرة صُمِّمَت اعتمادًا على الدي إن إيه لتبادُل البيانات بسرِّية، بعضها يستخدم مِفتاحًا عامًّا، وهذا يُشبه ما يُستخدَم لنقل بيانات بطاقات الائتمان في الدفع عبر الإنترنت، بحيث لا يتطلب الأمر أن يحمل كلٌّ من بوب وأليس نسختَين متطابقتين من مفتاح الشفرة السري.
fig26
شكل ٥-٥: تشفير الصور باستخدام الدي إن إيه – الجزء الثالث: يشفر بوب رسالة أليس.
من الوارد أن يُغير الدي إن إيه علومَ التشفير من بابٍ مختلف تمامًا، اعتمادًا على الحوسبة القائمة على الدي إن إيه. فتقنيات التشفير المعتادة تستخدم مِفتاحًا لتحويل النص الأصلي إلى نص مشفر. في أنظمة التشفير المُصمَّمة جيدًا، يتطلب استنتاجُ مفتاح التشفير تحليلَ عدد هائل من الرسائل؛ مما يجعله حلًّا غير عملي على الإطلاق، ولا يترك حلًّا للمخترِق إلا التجريب الأعمى لكل المفاتيح الممكنة. وقد بُنِيَت أجهزة كمبيوتر متخصصة بالفعل لتطبيق هذه الطريقة؛ بغرض اقتحام الأنظمة، كما حدث مع معيار تشفير البيانات للولايات المتحدة الأمريكية (دي إي إس) مثلًا، واعتمدت العملية على أن المعيار يستخدم مفاتيح قصيرة جدًّا للتشفير (طولها ٥٦ بت)، أما لو استُخدِمَت المفاتيح الأطول كثيرًا فإنها ستزيد الحمل الحاسوبي المطلوب لهذا زيادةً مهولة. لكن كما رأينا، يمكن لأنبوب اختبار فيه بعضٌ من الدي إن إيه أن يحمل تريليونات من العناصر الحاسوبية التي يمكن أن تعمل بالتوازي. وقد نُشِرَت بالفعل تصاميمُ لأجهزة كمبيوتر تقوم على استخدام الدي إن إيه، ويُتوقَّع لها أن تنجح في اختراق معيار تشفير البيانات ذي المفتاح بطول ٥٦ بت خلال أيام، كما يُتوقع ألا تحتاج إلى وقتٍ أضخم كثيرًا لتتعامل مع المفاتيح الأطول. وعلى الأرجح يمكن أن تُصمم أجهزة كمبيوتر لكسرِ أنساقٍ تشفيرية أخرى. ليس واضحًا لنا ما إن كان بعضُها قد بُني فعلًا (وليكن مثلًا في إحدى الوكالات الحكومية التي قد تهتمُّ ببناء أجهزة باهظة مبتكرة لكسر التشفير، بدون أن تُعلن عن مثلِ هذا الإنجاز)، وليس واضحًا أيضًا ما إذا كان معدَّل الأخطاء في الحوسبة باستخدام الدي إن إيه أكبرَ بكثير من أن يجعلها تعمل بنجاح. وثمة خَصمٌ يُنافس الدي إن إيه في حل مشكلات النوع NP، ألا وهو الحوسبة الكمية. إن نجح أيٌّ منهما عمَليًّا، فسيحدث تحولٌ كبير في توازنات القُوى بين أولئك الذين يملكون الأسرار وأولئك الذين يتصيدونها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤