الفصل السادس

علم الأحياء التخليقي في خدمة البحوث الأساسية

اعتمد تأسيس علم الأحياء التخليقي على قاعدة عريضة جدًّا من المعارف الأساسية حول الكيفية التي تعمل بها الجينات والبروتينات والخلايا والأنسجة الحية. ومع أنه كان يستمدُّ زاده من هذه الأبحاث البحتة، فإنَّه نما وبلغَ مبلغًا يُمَكِّنه من أن يبدأ في تسديد دينه ويزود العلم بأدوات معقدة لتحليل الأنظمة الطبيعية، ولاختبار النظريات والأفكار المطروحة. والأمثلة التي سنعرضها في هذا الكتاب ما هي إلا غيض من فيض.

أدوات للبحث

لطالما كان محبِطًا لعلماء الأحياء أن ينظروا إلى الفارق الشاسع بين حجم الأجهزة الخلوية متناهيةِ الصغر والأجهزة الضخمة التي يستخدمونها لعملية القياس. على سبيل المثال، تعتمد الأنظمة الكهربية للخلايا العصبية على أغشية بروتينية أبعادها في حدود النانومترات، في حين أن قياس عملية إطلاقها أو تحفيزها عادةً ما يعتمد على تياراتٍ كهربية تسري في إبر. من الصعب التحكمُ في مكان الإبرة بدقَّة، ووجودها في جسم حيوانٍ في وعيه قد يؤثر على سلوكه الطبيعي، هذا إلى جانب الاعتبارات الأخلاقية الواضحة في قضية غرز الإبر في مخ بعض من الحيوانات العليا. ويعد الضوء مثالًا على الأدوات التي يستطيع العلماء التجريبيُّون استخدامها لاستهداف الأنظمة ذات الأبعاد الميكروية وتحليلها، لكن للأسف أغلب الخلايا العصبية لا تتفاعل مع الضوء ولا تُنتجه. لكن علم الأحياء التخليقي يوفِّر وسيلةً لوضع أجهزة بروتينية دقيقة في حدود النانومترات داخل الخلايا لتترجم الضوء الساقط عليها لمحفز لإطلاق للخلايا العصبية، أو تُعْلِمنا عند حدوث الإطلاق بأن تبعث ضوءًا.

حاول دانييل هوخباوم وزملاؤه أن يُطوروا القدرة على إثارة الخلايا العصبية من خلال الضوء، فاستخدموا بروتين sdChR الحساس للضوء من طحلب الشرفلية الغامضة (Scherffelia dubia) ليكون بمنزلة نقطةِ بدء وعدَّلوه وراثيًّا ليستجيب بسرعة كبيرة جدًّا للضوء الأزرق. عندما تُنتج الخلايا العصبية البروتين المعدل وراثيًّا CheRiff فإنه لا يفعل شيئًا ما دام في الظلام؛ ولكن عند تسليط ضوء أزرق عليه فإنه يفتح قناة أيونية في غشاء الخلية، مما يسمح بتدفُّق الأيونات إلى داخل الخلايا مغيرًا فرق الجهد على جانبَي الغشاء بما يكفي لإثارة الخلية (شكل ٦-١أ).
بعض البروتينات الطبيعية الحساسة للضوء، مثل الأركيرودوبسينات البكتيرية، لها قدرة فلورية إشعاعية ضعيفة، وتعتمد قوة الإشعاع الفلوري على فرق الجهد في موضعها بين طرفَي الغشاء. ولدى الأركيرودوبسينات البكتيرية الطبيعية خاصيةٌ غريبة، فعندما يُسَلَّط عليها ضوءٌ لقياس إشعاعها الفلوري تغير من فرق جهد الغشاء. عدَّل هوخباوم وزملاؤه هذه البروتينات لتقيس فرق الجهد بدون أن تُغيره، ولتستجيب لتغيُّر فرق الجهد في أقل من ميللي ثانية، مما يجعلها في سرعة أدوات قياس جهد الغشاء التقليدية والمعتمدة على الإبر. وأسمَوا هذا البروتين QuasAr (شكل ٦-١ب). جمع العلماء التجريبيون الجينَين الحاملين لشفرة البروتينين في حزمة واحدة، بروتين CheRiff الذي يحول الضوء إلى تغيرٍ في الجهد وبروتين QuasAr الذي يحول الجهد إلى ضوء، وصارا بمنزلة تشكيلٍ جيني مُخَلَّق يمكن إدخاله في الخلايا الحيوانية. اختبر العلماء التقنية الجديدة بإدخال هذا التشكيل الجيني في الخلايا العصبية ووضعِها في مستنبتٍ خلوي بسيط ومن ثَم التحكُّم فيها وقياسها بالإبر أو الضوء؛ مما أظهر أنها بالفعل تعمل بنفس كفاءة الأدوات التقليدية، ولكن بالطبع مع فارق أنها لا تحتاج إلى الإبر. واستُخدِمَت هذه التقنية لأخذ قياسات حقيقة للدوائر العصبية، الموجودة في شريحة من المخ موضوعة في مستنبَت، أثناء عملها.
fig27
شكل ٦-١: إدارة وقياس نشاط الخلايا العصبية باستخدام الضوء: (أ) يظهر تأثير البروتين CheRiff في تحويل الضوء إلى تغيُّرٍ في الجهد؛ (ب) يظهر تأثير البروتين QuasAr في تحويل الجهد إلى ضوء.
استغلَّ العلماء هذه القدرةَ على التحكم في إثارة الخلايا العصبية في الحيوانات الحية ليختبروا نظرياتهم عن فيسيولوجيا الحيوان وسلوكه. دودة الربداء الرشيقة (Caenorhabditis elegans) هي دودة أسطوانية شفافة صغيرة لها جهازٌ عصبي غايةٌ في البساطة، لدرجة أن العلماء نجحوا في اكتشاف شبكته العصبية بأكملها. وفي عام ٢٠١١، نشر معملان مختلفان أوراقًا بحثيةً تصف تشكيلين جينيَّين بُنِيا ليكونا أداةً لاختبار الأفكار حول كيفية عمل الجهاز العصبي لهذه الدودة الأسطوانية. وأضْفَت هذه الحُزمة حساسيةً للضوء على خلايا عصبيةٍ معيَّنة، بل شكلَت آليةً للتحكم في تنشيط وتثبيط إطلاق جهد الخلايا، وذلك في أبحاث كِلا المعمَلين. وبنى الباحثون أنظمةً ميكروسكوبيةً تُدار حاسوبيًّا، فمكَّنَتهم من استهداف خلايا عصبية معينة وتتبُّع سلوكها، حتى لو كانت هذه الخلايا داخل ديدان تتحرك بحُرية. ما أثمره هذا التعاون بين علماء علم الأحياء التخليقي والمتخصصين في أحدث تقنيات الرؤية الآلية يمكن عمَليًّا أن نعتبره «دودة يُتحكَّم فيها عن بُعد»، فيمكن أن تستخدم نبضات ضوء خارجية لإثارة الخلايا العصبية للدودة لتحريكها في أيِّ اتجاهٍ يريده الباحث، وليكن مثلًا أن تستمرَّ في الحركة في دوائر، أو تتخذ مسارًا مُثلثيًّا (شكل ٦-٢). برهنَت العلاقة بين الخلايا العصبية التي نشَّطها الباحثون وبين الحركة الفعلية التي اتخذَتها الديدان على صحة تصوراتهم الابتدائية عن طريقة عمل الجهاز العصبي للدودة. ومن حينها، طبَّق العلماء التقنية نفسَها على حيوانات صغيرة أخرى، مثل ذبابة الفاكهة.
fig28
شكل ٦-٢: التحكم عن بُعد في دودة الربداء الرشيقة من خلال التحفيز الضوئي لإثارة خلايا عصبيةٍ معينة.

يمكن أيضًا أن يُستخدم التحكُّم الضوئي في نشاط الخلايا العصبية لاختبار النظريات المطروحة عن فيسيولوجيا الحيوانات العُليا. إحدى المشكلات ذات الأهمية الاجتماعية الكبيرة هي الأساس الفسيولوجي للإدمان. واستنادًا إلى أن السلوكيات الإدمانية متشابهة رغم التباين الهائل في المواد والأنشطة الإدمانية، سواءٌ القانوني منها أو غير القانوني، ظهرَت نظرياتٌ منذ سنوات عديدة تقول بأن إدمان العقاقير المخدرة ليس إدمانًا للعقار نفسِه، بل لتأثير هذا العقار على المخ؛ مما يعني أنه نوعٌ من الإدمان الداخلي للمستويات العالية من النواقل العصبية الطبيعية المرتبطة بالمتعة، التي يصنعها المخُّ طبيعيًّا؛ استجابةً لمؤثرات خارجية. والدوبامين أحد المرشحين لتحمُّل مسئولية هذا «الإدمان الداخلي»، بتأثيره في المنطقة السقيفية البطنية من المخ. وفي ورقةٍ بحثية منشورةٍ حديثًا، اختبر فينسنت باسكولي وزملاؤه هذه الفكرة بأن عدَّلوا في خلايا الفئران لتحمل تشكيلًا جينيًّا مخلقًا يحتوي على بروتين يُترجم الضوء إلى إثارة عصبية، مع نظامٍ لإعادة ترتيب الجينات؛ لضمان أنه لن يكون نشطًا إلا في الخلايا العصبية المسئولة عن صُنع الدوبامين في المنطقة السقيفية البطنية. كما أدخل الباحثون جراحيًّا ليفةً ضوئيةً يمكنها أن توصل الضوء من جهاز إلكتروني خارجي إلى داخل هذه المنطقة في المخ. وُضِعَت الفئران في حيزٍ للعيش يمكنها فيه أن تضغط ذراعًا معيَّنةً تتصل بهذا الجهاز الإلكتروني، الذي يرسل بدوره نبضاتٍ ضوئيةً إلى داخل مخِّ الفئران؛ لتنشيط الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين. تعلمَت الفئران بسرعةٍ أن تضغط هذه الذراع الفعالة تحديدًا من دون باقي الأذرع الموجودة، وسرعان ما صارت تصل للحدِّ الأقصى المسموح به، وهو ثمانون مرة، خلال ساعةٍ واحدة. ثم عندما صار سحبُ الذراع مقترنًا مع صعقة كهربية خفيفة، ارتدَعَت بعضُ الفئران وتجنَّبَت الذراع، لكن البعض الآخر لم يرتدع واستمر في سحب الذراع، وهو ما رآه الباحثون على نفس نسَق السلوك الإدماني في البشر، حيث يستمرُّون في سلوكهم رغم ما يُسببه لهم من سوء العواقب. إحدى نتائج هذه الدراسة (وقد تعرَّضَت لجوانبَ أكثر مما ذكرناه هنا) أن الحيوانات صارت فعلًا مدمنة على التحفيز المباشر للخلايا العصبية المنتجة للدوبامين؛ مما يشير إلى أن هذه هي فعلًا آليةُ إدمان البشر على المواد المحفزة لهذه الخلايا العصبية مثل الكوكايين.

بلَغَت استخداماتُ تقنيات علم الأحياء التخليقي مَبلغًا أبعدَ بكثيرٍ من مجرد علوم الأعصاب. ينصبُّ كثيرٌ من اهتمام علماء الأجنَّة على سؤالٍ معيَّن: أيُّ خلايا الجنين في مراحله المبكرة هي المسئولةُ عن تكوين أجزاء معينة في جسم الجنين في مراحله المتأخرة أو حتى في جسم الإنسان البالغ، وإجابة هذا السؤال مهمةٌ للفهم البيولوجي الأساسي، وكذلك لتطوير تقنيات لهندسة الأنسجة وتجديدها؛ لأنه ما دمنا نريد إعادة بناء تركيبٍ ما في الجسم فقد يساعدنا أن نعرف كيف تكوَّن هذا التركيب أصلًا. واكتشاف ما ستئول إليه الخلايا في النهاية يتم بتتبُّع سُلالة الخلايا المتكونة، وذلك بوسمِ خليةٍ واحدة في إحدى مراحل تطور الجنين بواسم دائم لا يتخفَّف بانقسامها، وليكن واسمًا جينيًّا، وانتظار تطور الجنين، ثم رصد وتعيين التراكيب التي تحمل هذا الواسم في جسم الفرد البالغ. وهي عمليةٌ شاقة؛ لأنه لا بد من وسم خلية واحدة لا أكثر فيها، ومن ثَم نحتاج إلى العديد من الأجنَّة لتتبُّع سلالات العديد من الخلايا.

طورت ستيفاني شميت وزملاؤها مؤخرًا أداة بتقنيات علم الأحياء التخليقي تجعل من تتبُّع سلالات الخلايا عملية أسهلَ كثيرًا؛ لأن بإمكانها أن تعمل على أكثرَ من سلالةٍ في الوقت نفسه. وهي تعتمد على تقنية كريسبر لتعديل الدي إن إيه التي تناولناها سابقًا. ينطوي النظام، الذي اختُبِرَ مجددًا باستخدام دودة الربداء الرشيقة، على إدخال جين خامل «مستهدف» إلى الجينوم.

يُحقَن الإنزيم المستخدم في تعديل الدي إن إيه بتقنية كريسبر داخل بيوض الدودة، ومعه جُزيئات الآر إن إيه المرشد اللازمة لاستهداف عشرة مواضع مختلفة في هذا الجين. عندما يكون الإنزيم نشطًا فإنه سيقصُّ الجين المستهدَف في أحد هذه المواضع، ثم سيتم إصلاح هذا القَطع. إن أُصلِح القطعُ على أكمل وجه، فسيظهر أمامنا التسلسل الأصلي مرةً أخرى، ومن ثَم يمكن قصه مجددًا. أما إن لم تُصلَح بإحكام، وهو ما يحدث غالبًا عندما تُستخدم تقنية كريسبر في هذه الطريقة، فسيترك مكانه تسلسلًا محرَّفًا (وكأنه ندبة) مكان القص، وبما أن التسلسل المستجِدَّ لا يُطابق أيًّا من جزيئات الآر إن إيه المرشد، فسيظلُّ التسلسل على حاله بدون تعديل كأنه واسمٌ دائم للخلية. ولأن الأخطاء التي حدَثَت أثناء الإصلاح عشوائية بالأساس، فإن خلايا مُختلفة ستحصل على مجموعةٍ مختلفة من الندبات (المقصود هنا أنه ما دام لدينا عشرة مواضع محتملة للندبات نتيجةَ استهداف تقنية كريسبر لها، فستتفاوت الخلايا في المواضع التي تعرضَت للندبات، وكذلك ستتفاوت في التحريف الذي يحدث للتسلسل عند كل ندبة). وكأنَّ كلَّ خلية لها «كود شريطي» يمكن أن تُورثه للخلايا الوليدة التي ستنتج من انقسامها. وطالما ظلَّت المعقدات الإنزيمية اللازمة لتقنية كريسبر نشطة، فستستمرُّ عمليةُ إضافة «الأكواد الشريطة» هذه، حيث يمكن للخلايا الوليدة أن تحصل على ندبتها هي الأخرى، وستنتقل جميع هذه الواسمات إلى الخلايا الوليدة التي تنتج منها (شكل ٦-٣). وبتشريح أنسجة الديدان التي تكوَّنَت من هذه الأجِنَّة، يمكننا قراءة الكود الشريطي في كل خليةٍ من خلاياها، ويمكننا إذن استنتاجُ ما يُشبه شجرة العائلة لهذه الخلايا، وصولًا إلى الخلية الأم في البيضة.
fig29
شكل ٦-٣: نظام الأكواد الشريطية لستيفاني شميت: عملية التعديل المعرَّضة للأخطاء تزرع في خلايا الأجنَّة «أكوادًا شريطية» في الدي إن إيه يمكن توريثها؛ مما يسمح بإعادة بناء «شجرة عائلة» للانقسامات الخلوية.

إنه لَأمرٌ مذهل كيف أن أبحاث التشكيلات الجينية المخلقة التي نشأَت لتكونَ أدوات بحثية باتت تُنشر كثيرًا، لا في دوريات خاصة بأبحاث علم الأحياء التخليقي، بل في الدوريات الأساسية للفسيولوجيا وعلوم الأعصاب وغيرِهما. حدث الأمر نفسه منذ سنين عديدة مع علم الأحياء الجزيئي، وهو دلالة على نضوج المجال وتطوُّرِه من مجرد مساحة مثيرة للفضول إلى أداةٍ لا غنى عنها في تطبيقات أخرى.

بناء أنظمة لاختبار الفهم الحالي

كتب ستيفان ليدوك في كتابه «علم الأحياء التخليقي» الذي نشره عام ١٩١٢ قائلًا: «عندما نُشاهد ظاهرةً ما داخل كائن حي ونظن أننا فهمنا آلياتها الفيزيائية، فلا بد أن نقدر إذن على إعادة إنتاج هذه الظاهرة منفردةً، خارج الكائن الحي.» وقال عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان بعدها بعقود: «إن لم أستطع بِناءه، فلستُ أفهمه.» ويتمثل في كِلا الاقتباسين جوهرُ أحد تطبيقات علم الأحياء التخليقي المهمة، وهو التحقُّق مما إذا كنا نفهم علوم علم الأحياء فعلًا كما نظن.

في المعتاد تُكتشَف الآليات الحيوية في خطواتٍ ثلاث: الوصف، الربط، التشويش (وأحيانًا بترتيبٍ مغاير). الوصف ما هو إلا دراسة متأنِّية لاستنتاج تسلسل الأحداث التي تجري خلال عمليةٍ حيويةٍ معيَّنة. على سبيل المثال، قد يعمل علماء الأجنة على وصف سلسلة التغيرات التشريحية التي تحدث خلال تكوُّنِ عضوٍ معين في الجنين، أو قد يعمل علماء الأحياء الجزيئية على رصد الجينات والبروتينات التي تغدو وتروح في الخلايا بمختلِف أنواعها خلال هذه العملية. وبربط هذه الجزيئات بالتغييرات التشريحية التي تحدث، يمكنهم الوصول إلى فرضيةٍ ولتكن مثلًا أن ثمةَ آليةً تدخل فيها البروتينات أ، ب، ج تتسبَّب في الحدث س. وهذه النظرية يمكن اختبارها إلى حدٍّ ما بالتشويش في النظام: فهل سيفشل الحدثُ س إن أبطلنا فعاليةَ البروتينات أ، أو ب، أو ج؟

اختبار الفرضية بهذه الطريقة كافٍ لإثباتِ أن بروتيناتٍ معيَّنة ضروريةٌ في العملية؛ لكنه لا يثبت أن العملية ككلٍّ تعمل وَفقًا للفرضية المطروحة، إلى جانبِ أن النظام على درجةٍ من التعقيد تجعل العديد من المركَّبات الأخرى تتعرض لتغيراتٍ نتيجةً لهذا الاختلال؛ مما يُصعِّب اختبارَ صحة الآلية المقترحة تحديدًا. لكن علم الأحياء التخليقي يسمح لنا باختبار الآلية المقترَحة من خلال تشييد نظام لا تحدث فيه تغيراتٌ إلا في البروتينات المسئولة عن الآلية المقترحة، التي تنتج من تشكيلٍ جيني مخلَّق، في حينِ يظلُّ كل شيء آخر في الخلية كما هو. هذا تحديدًا ما فعلناه أنا وإليز كاشا في أحد التطبيقات المُبكرة لعلم الأحياء التخليقي على دراسة الأجنَّة، حيث اختبرنا آليةً مقترحة لتفسير كيف يمكن لخليطٍ من الخلايا أن يُرتب نفسه تلقائيًّا مكوِّنًا أنماطًا ظاهرة على نطاقٍ أوسع (شكل ٦-٤).
fig30
شكل ٦-٤: نظام بيولوجي مخلَّق لتكوين أنماط شكلية: عند تنشيط النظام يجعل الخلايا تنتج مركباتِ تَلاصُق متفاوتة (يُعَبَّر عنها في الرسم بخلايا بيضاء وسوداء)؛ ومِن ثَم ستجعلها قُوى التلاصق تترتَّب في بُقعٍ تشبه فِراء الحيوانات المبرقشة.
من النظريات القائمة منذ زمن لتفسير تشكُّل أنماط في أنسجة الأجنة نظرية ألبير دالك التي طرحَها عام ١٩٣٨، التي تقول بأن بعض أجزاء الجنين تُفرز جزيئات لتبادل الإشارات مع الخلايا الأخرى، وهذه الجزيئات تنتشر انطلاقًا من هذا الموضع مما يُحدِث تدرجًا في تركيزها، ويتحدَّد مصير الخلايا الأخرى حسَب التركيز الذي يصلُها من هذه الجزيئات (شكل ٦-٥أ). حاول العديد من علماء الأجنَّة التحقُّق من وجود هذه الآلية في أجنَّة حقيقية، وقد وجَدوا بالفعل عدة شواهدَ تتَّفق معها. لكن مع كل هذا التعقيد في الأجنة يصعب التأكدُ من أن هذا النظام البسيط المقترَح هو فعلًا كل ما يتطلبه الأمر لتفسير هذا النسق. حاول سوبهايو باسو مع زملائه، وكذلك ديفيد جريبر مع مارتن فوسينيجر (كل فريقٍ على حدة)، أن يُثبتوا من حيث المبدأ أن هذه الآلية يمكن أن تعمل في الأنظمة الحيوية الحقيقية، فعدلوا في نوعٍ من البكتيريا وراثيًّا بتكوين شبكةٍ مخلَّقة من ثلاث جينات، وهي مستوحاةٌ من بِنيات الشبكات الجينية الموجودة في الأجنَّة. في الحالتَين، كانت الشبكة ترصد جُزيئًا صغيرًا لا أحد جزيئات تبادل الإشارات الحقيقية المستخدَمة في الثدييات؛ ومن ثَم تُنشط بروتينًا مخبرًا، لا عملية نمائية كما في الأجنة، مما يعني أنه يمكن اختبارُ تشكيل الأنماط بفعل هذه الشبكة في غياب أي تعقيدات أخرى. لنأخذ الشبكة التي بناها باسو مثالًا، حيث تضمُّ الشبكة مسارين يبدآن من جُزيء الإشارة وحتى الجين النهائي (شكل ٦-٥ب). يعمل المسار البيوكيميائي العُلوي وكأنه «نفي للنفي»، حيث يؤدي جزيءُ الإشارة إلى التعبير عن جين، وهذا الجين عند تنشيطه يُثبط الجين الذي يليه، وهذا الأخير عند تفعيله يؤدي إلى تثبيطِ إنتاج البروتين النهائي. وبذلك يُثبط الجين النهائي من خلال المسار العلوي عند غياب الإشارة، لكن هذا المسار لا يستطيع تثبيطه عند وجود الإشارة، ومن ثَم يُصبح الجين النهائي مفعَّلًا. أما في المسار البيوكيميائي السفلي، فيؤدي وجودُ الإشارة إلى تفعيل جين، وهذا الجين يُثبط التعبير عن الجين النهائي. والفارق الحاسم هنا هو أن البروتين المُثبِّط في المسار السفلي كفاءته ضعيفة، ولا يؤدي دوره جيدًا إلا في وجود تركيز عالٍ من الإشارة. وبذلك يكون لدينا مدًى معيَّنٌ لتركيز الإشارة يكفي للسماح بتفعيل الجين النهائي من خلال المسار العُلوي، لكنه أقلُّ من أن يتمكن المسار السفلي من تثبيط الجين النهائي. ونتيجةً لذلك فإن التجمُّعات البكتيرية الموجودة في هذا النظام، التي تنمو خاضعةً للتركيز المصطنع المتدرِّج لجزيئات الإشارات، أنتجت لنا البروتين المخبر النهائي في النطاق المحدود الذي يكون التركيز فيه متوسطًا، وليس عندما يكون التركيز مرتفعًا أو منخفضًا (شكل ٦-٥ج).
fig31
شكل ٦-٥: التدرُّج في الإشارة كما في (أ) يمكن أن تستعمله الشبكة البيولوجية المخلقة الموضحة في (ب) للتحكم في التعبير الجيني في البكتيريا حسَب بُعد البكتيريا عن مصدر الإشارة كما في (ج).

يُضيف استعمال علم الأحياء التخليقي بهذه الطريقة مرحلةً جديدة لعملية الاستكشاف؛ مما يجعل تسلسل الخطوات كله «وصف، ثم ربط، ثم تشويش، ثم تخليق». نظريًّا يمكننا أن نُطبق هذه الطريقة لحل مشكلات شتى. لكن يجب أن نُراعيَ أن كل ما يمكن أن تُثبته خطوةُ التخليق هو أن التصوُّر المستقَى من النظام الطبيعي يعمل «من حيث المبدأ». لكنه لا يثبت فعلًا أن هذه الآلية هي كلُّ ما يقود هذه العملية في الأنظمة الطبيعية، ومن الحكمة أن يكون عقل المرء متفتحًا لاستيعاب المجاهيل غير المعروفة. وفي علم الأحياء، لا ينفكُّ المرء دومًا عن الحاجة إلى مساحةٍ من التشكُّك المعقول.

من أحجار الأساس في علم الأحياء أن سمات النوع تتحدَّد حسب كلٍّ من الجينوم والبيئة، ولذلك إن كان نوعان في البيئة نفسِها فلا بد أن الفروقات بينهما تُعْزى للجينات وحدها. في عام ٢٠١٠، اختبر دان جيبسون (وهو صاحب «تقنية جيبسون للتجميع» التي ذكرناها في الفصل الثاني) وزملاؤه هذه الفرضية بتجربةٍ جريئة. قام الفريق بتجميع نُسخة كاملة من جينوم البكتيريا الصغيرة المفطورات المتفطرة (Mycobacterium mycoides) بأخذ المعلومات اللازمة من سجل إلكتروني لتسلسل دي إن إيه البكتيريا، لا باستنساخها مباشرةً من الدي إن إيه الحقيقي. كان هذا إنجازًا تخليقيًّا هائلًا؛ لأنه مع أن جينوم هذه البكتيريا واحدٌ من أصغر الجينومات التي نعرفها، فإنه يستلزم تجميع أكثر من مليون قاعدة، وخطوات مُضنية لمراقبة جودة التجميع طَوال العملية. حملت النسخة المخلقة عدة تعديلاتٍ صغيرة بعد، منها إضافةُ ما يمكن اعتباره «وسمًا» يساعد في تمييز هذه البكتيريا. وبعد إتمام صُنع الجينوم، نُقل إلى داخل خلية بكتيرية من نوع مختلف اسمه المفطورة العنزية (Mycoplasma capricolum). نمَت البكتيريا المستقبلة للجينوم جيدًا حاملةً ذاك الوسم، وتصرَّفَت كما لو أنها بكتيريا المفطورات المتفطرة، تمامًا كما تتنبَّأ النظرية. أطلق على هذه البكتيريا اسم «سينثيا» (Synthia)، وتلقَّت احتفاءً إعلاميًّا واسعًا حينها؛ لأن صحفيِّين كثيرين أساءوا الفهم وحسبوها خلقًا للحياة، (كان هذا وصفًا خاطئًا بلا شك؛ فالجينوم المُخَلَّق وُضِعَ في خليةٍ حية على أي حال). وللأسف لم تُجْدِ تصريحاتُ بعضٍ من زملاء جيبسون الأعلى في الدرجة العلمية نفعًا في إصلاح سوء الفهم هذا.

مشروع «الخميرة ٠,٢» هو مثالٌ على مشروع على نطاق أكبر كثيرًا صُمِّم ليختبر فرضيةً مطروحةً عن الجينوم من خلال تقنيات علم الأحياء التخليقي. يهدف هذا المشروع من خلال تعاون دولي إلى أن يُستبدل بجميع الكروموسومات الطبيعية في الخميرة أخرى اصطناعية. تكون الكروموسومات البديلة في العموم نسخًا معدَّلة من الكروموسومات الطبيعية، بحذف أجزاء منها تُعدُّ «دي إن إيه خردة» (أي دي إن إيه ليس له وظيفة واضحة). اختبار ما إذا كانت الخلايا الناتجة مؤهَّلة للبقاء على قيد الحياة هو معيارٌ قوي لمعرفةِ ما إذا كانت هذه النطاقاتُ من الدي إن إيه خردة لا فائدة منها فعلًا، أم أنها في الحقيقة ضروريةٌ لعمليةٍ بيولوجية لا نعرف عنها شيئًا بعد (ومن شأن هذه أن تكون النتيجةَ الأكثرَ إثارة). يحتوي الجينوم المعدَّل على بعض التشكيلات الجينية المخلقة لتسمح بخضوع الخميرة لتحورٍ وتطورٍ أسرعَ من المعتاد؛ مما يسمح باختبار نظرياتنا عن التكيُّف والتطور. من المخطط أيضًا إضافة كروموسوم مصطنع للخميرة، بحيث يحمل كلَّ الجينات التي تُعبر عن جزيئات من الآر إن إيه الناقل في الخميرة، مما يسمح بحذف هذه الجينات من كروموسومات الخميرة الطبيعية، وهذا الكروموسوم الاصطناعي يُبنى في إدنبرة. يهدف هذا جزئيًّا إلى اختبار بعض الفرضيات عن أهمية موقع جينات الآر إن إيه الناقل في الخميرة الطبيعية، وتحديدًا ما إذا كان موقعُ هذه الجينات الطبيعي نفسه مُهمًّا (الذي غالبًا ما يكون بالقرب من مناطق غير مستقرة من الدي إن إيه). كما أن هذا سيسمح للعلماء بهندسة جزيئاتٍ من الآر إن إيه الناقل وراثيًّا، لتُصبح لدينا سلالاتٌ من الخميرة تستخدم أحماضًا أمينية جديدة إلى الجانب العشرين التي تستخدمها طبيعيًّا.

يختلف الأمر في العلوم الأساسية عن الهندسة مثلًا، فإن فشل نظام بيولوجي تخليقي مشيد حسَب تصميمٍ استخلصناه من دراساتنا للكائنات الحية الحقيقية في أن يعمل كما يجب، فإننا لا نُسمي هذا فشلًا كما لو كان التطبيق هندسيًّا مثلًا. فالعلوم غالبًا ما تخطو خطواتها الكبرى عندما لا تعمل الأشياء «كما ينبغي لها» (فمثلًا قياس سرعة الأرض بالنسبة للإيثير من خلال تداخل الضوء كان ينبغي أن ينجح وفقًا لفيزياء القرن التاسع عشر، ومحاولة تفسير هذا الفشل هي ما أدَّى إلى نظرية النسبية لأينشتاين). مثل هذا «الفشل» يُنبهنا إلى أن تحليلاتنا وتفسيراتنا خاطئة، وأنه ما زال أمامنا ما يستحقُّ الاكتشاف. وكما يقول إسحاق أزيموف، كاتب الخيال العلمي الذي سبق أن كان متخصصًا في الكيمياء العضوية، أكثر ما يُثير التشويق في المعامل ليس أن تسمع أحدهم يصرخ: «وجدتُها»، وإنما تمتمةٌ خفيضة تقول: «هذا غريب!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤