الفصل السابع

تخليق حياة

ناقشنا سابقًا في هذا الكتاب أن علم الأحياء التخليقي يبدو كأنَّ له «جوهرَين»، الأول يُركز على هندسة الكائنات الحية الموجودة لإكسابها خصائص جديدة، والآخَر يصبو إلى إنشاء حياة جديدة من الصفر. ومع أن معظم المجهود البحثي والتمويل يصبُّ في الاتجاه الأول، نظرًا إلى إمكاناته التصنيعية والبيئية والطبية، فإن العمل على تخليق حياةٍ يمكن أن يكون أهمَّ بكثير، إن نظرنا إلى تأثيره على المدى الطويل عِلميًّا وفلسفيًّا. فهذا المشروع جاهزٌ تمامًا ليأخذ مكانه كخطوةٍ جديدة في الرحلة الطويلة التي بدأت من كوبرنيكوس (الأرض مجرد جزء من الكون وليست مركزَه)، وداروين (البشر حيوانات، ويشتركون معها في أصلٍ واحد)، حتى الوصول إلى برهانٍ لا يدحض بأن الحياة ليست إلا موادَّ عادية، غير أنها تنتظم بطريقةٍ دقيقة. يأخذ أغلب العلماء هذه الفكرة مأخذَ الفرضية العَملية؛ لكنها لم تُثبت حتى الآن، ولن تثبت إلا عندما ينجح شخصٌ ما في تكوين حياةٍ من موادَّ غير حية.

أسباب تخليق حياة

مشروعُ بناء حياة من الصفر مهمٌّ لثلاثة أسباب علمية على الأقل. الأول هو دحضُ الفرضية الحيوية. الثاني هو أن تخليق أشكالٍ حية سيوفر لنا طريقةً لاختبار فرضياتنا عن أصل الحياة الطبيعية على الأرض، وذلك من خلال مُحاكاة الظروف المبكرة للأرض في المعامل. السبب الثالث هو أنَّ محاولة بناءِ حياة قد تُعلمنا أكثر بكثيرٍ عن ماهيَّة الحياة نفسِها؛ فإجاباتنا الحاليَّة عن أعمق أسئلة علم الأحياء لا تزال بقدرٍ كبير تخميناتٍ غيرَ مُثْبَتة لا أكثر.

ثَمة اتفاقٌ واسع (وإن لم يكن إجماعًا) على أن اعتبار كيانٍ ما حيًّا يستلزم أن تظهر فيه السِّمات الأربعة الآتية:

  • (أ)

    الأيض، ليستفيدَ من الموادِّ الخام والطاقة التي لديه،

  • (ب)

    المعلومات المخزَّنة، لتحديد تراكيب الجسم ووظائفه،

  • (جـ)

    الاحتواء، لتجتمع كلُّ هذه الأشياء معًا،

  • (د)

    التكاثر، ولو حتى على مستوى الجماعة الحيوية على الأقل.

هذه المعايير مَصُوغة صياغةً تجريدية عن عمد، بحيث لا تستلزم بِنية ولا حتى كيمياء معيَّنة، وهي بذلك قد تنطبق على حدٍّ سواء على أي شكل غريب مرشَّحٍ ليُعتبر من أشكال الحياة.

وثَمة توجُّهان مختلفان تمامًا لبناء حياة من الصفر. «الخيار السهل» هو أن نأخذ أبسطَ مزيجٍ ممكن من البروتينات والجينات وما إلى ذلك من كائنٍ حي حقيقي، ثم نجمعها معًا داخل غشاءٍ من نوعٍ ما، ليُصبح النظام قادرًا على العيش مستقلًّا وعلى التكاثر ما دمنا اخترنا مكوِّناته كما يجب. وهذا التوجُّه مفيدٌ لاختبارِ ما إذا كنا نفهم فسيولوجيا الخلايا على نحوٍ صحيح، لكنه لا يفيد في إجابة أسئلتنا الأعمق لأنه بالفعل يستعير الكثير جدًّا من الكائنات الحية الموجودة. أما التوجُّه الأصعب فهو أن نبنيَ الحياة من الأسفل إلى الأعلى، مبتدِئين بموادَّ كيميائيةٍ بسيطة، بحيث لا نأخذ من الكائنات الحية الموجودة إلا الإلهام. ومراعاةً لما يسمح به المجال هنا، فسنكتفي في هذا الفصل بالتركيز على هذا الهدف الأكثر طموحًا فقط.

الاستلهام من أصولنا المفترضة

وضع أليكسندر أوبارين نموذجًا عن أصل الحياة كان هو أولَ من وصَفه بوضوحٍ عام ١٩٢٤، وسيطر هذا النموذجُ على أبحاثِ نشأة الحياة لما يُقارب مائة عام. يبدأ النموذج بتفاعلاتٍ كيميائية بين أملاح وغازات بسيطة جدًّا، لإنتاج أول الجزيئات العضوية (أي المعقدة والتي تحتوي على الكربون). وقد ثبَت أن هذه الخطوة ممكنةٌ بالفعل من خلال أبحاث هارولد يوري وستانلي ميلر في خمسينيَّات القرن الماضي، ومَن استند على جهودهما البحثية. استخدم يوري وميلر أمزجة من غازات غير عضوية تُمثل الغلاف الجوي البدائي للأرض، والماء ليُمثل المحيطات، ثم عرَّضا كلَّ ذلك للحرارة ولشرر كهربي (كالبرق). نتج عن هذه التجرِبة تشكيلةٌ غنيَّة من الجزيئات العضوية وفيها بعض الأحماض الأمينية والسكريات وقواعد الأحماض النووية. ولا تنتهي السردية التي نسَجها أوبارين بنظريته هنا، بل تقول إنه ستظهر زيادةٌ تدريجية في تعقيد المواد الكيميائية، حيث تتفاعل الجزيئات الصغيرة فيما بينها لتصنع تراكيبَ كيميائية أكبر وأكثر تنوعًا. ربما يكون الطين والمعادن هما المسئولَين عن تحفيزِ هذه التفاعلات، لما أُثبِت عنهما بالفعل من نشاطٍ حفزي. وهذه الجزيئات الأكبر ربما ارتبط بعضها ببعض الجزيئات الأصغر ارتباطًا يكفي لتُبدي قدرةً على تحفيز هذه التفاعلات ولو كانت ضعيفة. وكل هذه العمليات تُعد كيمياء «خالصة»، وليس فيها مستوًى أعلى من التنظيم والتنسيق.

في النظرية التي اقترحها أوبارين، سيظهر التنظيم أول مرة عندما يتصادف حدوث مجموعةٍ من التفاعلات الحفزية في الوقت نفسه، بحيث يكون كلُّ تفاعل أنتج مادة كيميائية من المواد السالفة لها اعتمد على الحفز من جزيءٍ آخَر موجود في هذه المجموعة (انظر المثال التوضيحي في الشكل ٧-١). ونظريًّا، يمكننا أن نقول إنه ما دام هناك نوعٌ من الاحتواء للنظام ليُبقيَ هذه المجموعة من الموادِّ الكيميائية معًا، وما دام يمكن أن يدخل إليه المزيد من المواد التي بدأ بها، فإن هذا النظام يُمكنه أن يصنع المزيد من نفسه؛ أي يمكنه أن «يتكاثر». من الجدير بالملاحظة أن الجزيئات التي نتحدَّث عنها هنا لا يتعين أن تكون نفس الجزيئات الشائعة في الخلايا الحية الآن؛ فقد تغيَّرَت بيئة الأرض تغيرات هائلة منذ بدأَت أولُ أشكال الحياة فيها، ومن المرجح أن تكون المليارات الأربعة من السنين التي انقضَت من حينها، بما فيها من تطورٍ وتكيُّف، قد تغيرَت فيها كلُّ المكونات الأصلية تقريبًا وحلَّت محلها مكوناتٌ جديدة لتُلائم الظروف الجديدة. فحقيقة أن أجزاء طائرة الكونكورد لا يمكن أن تحلَّ محلها أجزاء من أول طائرة صنعها الأخوان رايت لا يعني أن أصول طائرة الكونكورد لا ترجع إلى طائرة الأخوين رايت.
fig32
شكل ٧-١: رسمٌ توضيحي للدورة الحفزية، حيث يتحفز كل تفاعل بطيء (أي غير تلقائي) (الأسهم المتقطعة) من خلال منتجٍ معيَّن نتج خلال هذا المسار البيوكيميائي الدوري.
من الواضح أن الاحتواء عاملٌ لا غِنى عنه في الأنظمة المُشابهة للنظام الموضَّح في الشكل ٧-١، للإبقاء على مكوِّنات النظام معًا. وستتكوَّن الأغشية المغلقة تلقائيًّا عندما تجد الجزيئاتُ ذاتُ الرأس المحبِّ للماء والذيل الكاره للماء نفسَها مُعلَّقةً في الماء، فتُشكِّل بنيات كالمذيلات والحويصلات على سبيل المثال (شكل ٧-٢). بالإضافة إلى ذلك، هناك حدٌّ أقصى طبيعي للحجم يحكم هذه الأشكال، وإن كبرت أكثرَ من ذلك فإنها تنقسم تلقائيًّا إلى وحدتَين أصغر منها، بطريقةٍ تُشبه تَكوُّن فقاعات صابونية منفصلة عندما ننفخ في غشاءٍ صابوني كبير داخل حلقةٍ ما. إذن مبدئيًّا، يمكننا أن نتخيَّل أن لدينا دورةً حفزية، كالتي وصفناها في الفقرة السابقة، مطوقة داخل حويصلة غشائية، وإذا افترضنا أنَّ جزءًا من عمليات هذه الدورة يُنتج لنا المزيدَ من جزيئات الغشاء، وكذلك أن الغشاء يسمح بدخول المتفاعلات اللازمة كلِّها، فسيصير بين أيدينا نظامٌ قادر على العيش مستقلًّا، بل على التكاثر أيضًا. وبالمقارنة بالمعايير التي ذكَرناها سابقًا لاعتبار النظام حيًّا، فمن الجليِّ أن هذا النظام يتمثَّل فيه الأيض، والاحتواء، والتكاثر. لكن ماذا عن المعلومات؟ مثلُ هذا النظام لا يحمل جينات، إلا أن كل واحدٍ من جزيئاته له تركيبه، وفي علم الأحياء كلُّ تركيب هو نوعٌ من المعلومات (والأمر نفسه يَسري على الجينات). فتركيب المتفاعلات مع شكل المكوِّنات الحفازة تُحدد طبيعة نواتج التفاعل، ويمكننا نظريًّا أن نقول إن تغير الشكل (وليكن بسبب تفاعلٍ وافَقه الحظُّ لا أكثر) يمكنه أن يُنتج ناتجًا كيميائيًّا مختلفًا، ومن ثَم نسخة مختلفة من هذا الكائن البدائي؛ مما يفتح الباب لتطوُّره. لذا فقد تحمل هذه الأنظمةُ معلومات فعلًا، إلا أنها على عكس المعلومات الجينية، ليست معلوماتٍ مخزَّنةً في الخلية منفصلةً عن الأنشطة الأيضية.
fig33
شكل ٧-٢: نمطان شائعان قد تتَّخذهما الجزيئات التي لها رأسٌ محب للماء وذيلٌ كاره للماء عندما تكون في وسطٍ مائي. في الحالتَين، يكون الرأس مُلامسًا للماء أما الذيل فلا. دائمًا ما تكون المذيلات صغيرة وليس في داخلها تجويفٌ مائي، أما الحويصلات فبإمكانها أن تصبح أكبرَ بكثير ممَّا هو موضح في الرسم، وفي داخلها تجويفٌ مائي وهو بدوره قد يحوي عمليات أيضية أو أحماضًا نووية.

في هذه السردية عن أصل الحياة التي تبدأ بالعمليات الأيضية، كيف يمكن أن نُفسر ظهور الجينات؟ هناك روايةٌ شهيرة لمحاولة إجابة هذا السؤال تقول إن جزيئات الآر إن إيه ظهَرَت في الدورات الحفزية للكائنات البدائية الخاضعة للتطور في البداية بصفتها جزيئاتٍ حفازةً لا جزيئات جينية، وقد ثبَت فعلًا أن جزيئات الآر إن إيه قد تكون لديها القدرة لتلعب دورًا حفزيًّا. لاحقًا، ارتبطَت بعض جزيئات آر إن إيه بأحماض أمينية في طرف، وبجزيء آر إن إيه آخَر في الطرف الآخر، ومن ثَم دمجت جزيئات الآر إن إيه والأحماض الأمينية معًا؛ لتُكوِّن أول سلاسل ببتيدية تتكوَّن من أحماض أمينية تحددها جزيئاتُ آر إن إيه. وبسبب فعالية السلاسل الببتيدية والبروتينات التي تُكوِّنها في العمليات الحفزية، بدأ الحفز من خلال البروتينات يزيد تدريجيًّا ويحل محلَّ العوامل الحفازة السابقة حتى صار الحفز من خلال البروتينات هو الغالب. وفي النهاية، نسخَت البروتينات الآر إن إيه، وهو الذي صنع بروتينات بدوره. وهكذا دخلَت الجينات، المبنيَّة على الآر إن إيه، منظومة الخلايا، وصار دورها منفصلًا عن العمليات الأيضية، وتؤدي وظيفتها في الاحتفاظ بالمعلومات فقط. ولا مشكلة في أن يكون الآر إن إيه هو المادةَ الحاملة للجينات، وهذا بالفعل ما يحدث في كثيرٍ من الفيروسات الحاليَّة. فانفصال الجينات عن الأيض يسمح للدي إن إيه، الجزيء الأكثر استقرارًا ومن ثَمَّ الأكثر ملاءمةً لحفظ المعلومات على المدى الطويل، لكنه يكاد يكون بدون أي فائدة حفزيًّا، أن يصبح الجزيءَ الرئيسي لحمل المعلومات الوراثية بدلًا من الآر إن إيه. وهكذا نصل إلى شكل الحياة كما نعرفها.

هذه السردية التي عرَضناها هنا باختصار شديد لتفسير نشأة الحياة ليست هي الوحيدة، بل هناك سردياتٌ أخرى تبدأ من الآر إن إيه، ثم تأتي العمليات الأيضية والاحتواء لاحقًا. لكن الميزة في هذه النسخة من الحكاية أنها توفِّر لنا إطارًا مُلائمًا يمكننا أن ننطلقَ منه لشرح محاولات علم الأحياء التخليقي في تخليق الحياة مَعمليًّا، حيث تعتمد الطريقة في العموم على المسار نفسه.

الدورات الحفزية الاصطناعية

مسعى التفتيش عن أنظمةٍ تتكوَّن من دورةٍ من التفاعلات يمكنها تحويلُ المتفاعلات الكيميائية البسيطة إلى جزيئاتٍ عضوية أعقد هو مسعًى قديم. أول مثال على هذا هو دورة الفورموز التي اكتشفها أليكسندر بوتليروف عام ١٨٦١. يبدأ التفاعل بجزيء الجلَيكوألدهَيد (شكل ٧-٣). ثم يرتبط به جزيءُ فورمالدهيد مكوِّنًا جليسيرالدهيد، يتشاكل (أي يُعيد ترتيب ذرَّاته مكوِّنًا مركَّبًا جديدًا بخصائص جديدة) ليُصبح ثنائيَّ هيدروكسي الأسيتون. يرتبط جزيء فورمالدهيد آخرَ بالمركب الجديد مكوِّنًا كيتوتيتروز، يتشاكل ليُصبح ألدوتيتروز. ينقسم هذا الجزيءُ الجديد إلى جزيئَين من الجليكوألدهيد، وكلٌّ منهما يمكنه أن يبدأ دورة جديدة بمفرده. ومن هذا نرى أن محصلة الدورة هي تحويل الفورمالدهيد إلى جليكوألدهيد من خلال سلسلةٍ من مركَّباتٍ وسيطة أكبر شبيهةٍ بالسكَّريات، وتُعيد الدورةُ إنتاجَ نفسها في دورةٍ ذاتية التحفيز.
fig34
شكل ٧-٣: دورة الفورموز، حيث يتحوَّل الفورمالدهيد إلى جليكوألدهيد مرورًا بجزيئات أعقد، ثم يبدأ الجليكوألدهيد الناتج دورةً جديدة. لذا يمكننا باعتبارٍ ما أن نقول إن هذه الدورة تتناسخ ذاتيًّا.

بالطبع المسافة بعيدةٌ من هذه الدورة البسيطة إلى الوصول لأيض خلوي متكامل، لكنها، هي وعدَّة دورات طُوِّرت بعدها، تُرينا على الأقل أن فكرة الدورات التي تُعيد إنتاج نفسها ذاتيًّا فكرةٌ ممكنة.

تصنيع الأغلفة

تُعد الأنظمة التي تُنتج في النهاية حويصلات غشائية من أكثر الأنظمة التي دُرست في سياق الحديث عن الكائنات الحية المخلَّقة إثارةً للاهتمام؛ لأن هذه الحويصلات مؤهَّلة بامتياز لمحاوطة الأنظمة الأيضية. في بداية تسعينيَّات القرن الماضي، وضع باخمان وزملاؤه زيت إيثيل الكبريلات ليطفوَ على ماءٍ قلوي. تسبَّبَت المادة القلوية في تحلُّل مائي بطيء للزيت؛ مما نتَج عنه كبريلات الصوديوم التي كونَت بعدها مذيلات في الماء. عمل سطح المذيلات بمنزلة عاملٍ حفَّاز لمزيدٍ من التحلُّل المائي للزيت، مما أنشأ نظامًا ذاتيَّ التحفيز تُولِّد فيه المذيلات مزيدًا من المذيلات (شكل ٧-٤).
fig35
شكل ٧-٤: تكاثر مذيِّلات كبريلات الصوديوم من خلال الحفز الذاتي: يبدأ التفاعل بمركَّب كبريلات الإيثيل يطفو فوق الماء. بعدها يُحوله كلوريد الصوديوم الذائب في الماء ببطءٍ إلى كبريلات الصوديوم، التي تُشكِّل مذيلات. تسرِّع المذيلات العملية، فتُسهم بذلك في تكوين المزيد من المذيلات.
لا تُعد المذيلات حاوياتٍ ذاتَ نفع كبير؛ لأن مساحتها الداخلية صغيرة (شكل ٧-٢)، أما الحويصلات التي تتكوَّن من أغشيةٍ مزدوجة فهي أكثرُ نفعًا. وقد تصنع المذيلات حويصلات إن توفَّرَت الظروف الملائمة لذلك. أوليات الصوديوم، كما الحال مع كبريلات الصوديوم، له رأس محبٌّ للماء وذيل كاره للماء ويُكوِّن مذيلات في المحاليل المائية. وإن وصل الأسُّ الهيدروجيني إلى ٨٫٨، تندمج هذه المذيلات ببطءٍ وتُعيد ترتيب نفسها لتكون حويصلات بداخلها تجويفٌ مائي. وجود حويصلة يحفز تحويل المزيد من المذيلات إلى غشاءٍ للحويصلة، وبهذا تنمو الحويصلة. وعندما تصل إلى حجمٍ حرج، تنقسم مكوِّنةً حويصلتَين صغيرتين، وتستمرُّ الدورة على هذا النحو (شكل ٧-٥). هذه الآلية المطروحة هنا ليس فيها أيُّ إنتاج لجزيئاتٍ معقَّدة من جزيئات أبسط (فهي تبدأ من «الأوليات» بالفعل)، لكننا نرى فيها دورةً تتشكَّل فيها هياكلُ كبيرة عديدة الجزيئات من سلائف أبسط، بل تتكاثر أيضًا. تُكوِّن محاليل حمض الميرستوليك هي الأخرى حويصلات ببطءٍ ومن تِلقاء نفسها، لكن العملية تصبح أسرعَ إن أضفنا لها حُبيبات دقيقة من الطين؛ ففي هذه الحالة تُحاوط هذه الحويصلات الطين. لكن إن سبق أن جعلنا بعضًا من الأحماض النووية مرتبطًا بالطين، فإن الحويصلات ستُحاوطها هي الأخرى مع الطين. هذا يطرح أمامنا آلية مثيرة محتملة لاحتواء وتطويق أنظمة الدورات التي يدخل فيها الحفز بالطين جزئيًّا أو الدورات الحفزية التي تتمُّ من خلال تحفيز بالارتباط بالطين. ما يبدو أننا لم نصلُ إليه هو غِلاف يحاوط دورةً أيضية، بحيث تستنسخ الدورة جميع مكوناتها دومًا داخل واحدة من هذه الأغلفة التي تستنسخ نفسها هي الأخرى. من شأن ذلك أن يكون تقدمًا عظيمًا.
fig36
شكل ٧-٥: نمو وتكاثر حويصلات الأوليات؛ النمو يكون بالحصول على مزيدٍ من الأوليات من المذيلات، والتكاثر يكون بانشطار الحويصلات الكبيرة.

الخطوات الأولى نحو الجينات

ظهرَت الجينات لاحقًا ولم تكن سمةً حاضرة في الحياة البدائية، أو على الأقل هذا ما تقول به رواياتُ نشأة الحياة التي تفترض أن الحياة بدأت بالعمليات الأيضية. يتجاهل كثيرٌ من علماء علم الأحياء التخليقي الجيناتِ أصلًا لاعتقادهم أنها تنتمي لطبيعةٍ بيولوجية أعقد بكثيرٍ ممَّا قد يحتاجون إليه إن كان كلُّ ما يتطلَّعون إليه هو إنشاء أشكال حية فيها أقلُّ قدر ممكن من التعقيد. لكن في المقابل نرى علماء آخَرين يتساءلون عن مدى التعقيد الذي لا مفرَّ منه في الأنظمة الجينية مهما كانت بسيطة، ويتساءلون عما إن كان بإمكان الجزيئات الحاملة للمعلومات أن تعمل قالبًا لاستنساخ نفسِها وتستنسخ نفسها فعلًا بدون الحاجة إلى ترسانة المُعدَّات البروتينية. من الطرق التي يعمل بها شريطُ الحمض النووي قالبًا لاستنساخ نفسه، أن تعمل قواعد الشريط منصَّةً تقترن بها القاعدة المكملة أو تسلسل قصير من القواعد المتصلة، وهذا الاقتران يُمسكهما بعضهما بمحاذاة بعض. وإن كان التفاعل يحدث في ظروفٍ تجعل احتمالية وَصْل القواعد بعضها ببعض لتكوين تسلسلٍ ضعيفة لكنها لا تُساوي صفرًا، فسيُصبح من النادر أن تتَّصل القواعد الحرة في المحلول بعضها ببعض لأن التقاءها صدفة أثناء حركتها في المحلول أمرٌ نادر، أما إن ظلَّت هذه القواعد متجاورةً لمُددٍ طويلة، كما يحدث عندما تكون القواعد مقترنةً بالشريط الأصلي، فإن احتمالية أن يحدث التفاعل الذي يربط بينها ستكون أكبر، ومن ثَم سيتكوَّن الشريط المكمل (شكل ٧-٦). وعند انفصال أحد الشريطَين عن الآخَر (وليكن مثلًا بسبب التعرُّض للحرارة مع تعاقُب الليل والنهار) يصبح كِلا الشريطَين جاهزًا ليكون قالبًا لاستنساخ نفسِه.

وقد أظهرَت الأبحاث إمكانية حدوث هذا النوع من الاستنساخ بدون إنزيمات لبضع أنواع محددة من الأحماض النووية. في جميع الحالات لا يعمل هذا الاستنساخ إلا مع التسلسلات القصيرة. على سبيل المثال، هناك حمضٌ نووي بيبتيدي من ستِّ قواعد (أي حمض نووي هيكله الخارجي يتكوَّن من البيبتيدات وليس من روابط الفوسفات ثنائية الإستر التي تعتمد عليها الأحماضُ النووية في «الكائنات الطبيعية») اقترن معه جُزيئَا حمض نووي كلٌّ منهما يتكون من ثلاث قواعد، وأبقاهما متجاورَين على هذا الحال وقتًا طويلًا كان كافيًا لأن يرتبط أحدُهما بالآخَر. وبُني نظامٌ مماثل باستخدام حمضٍ أميني مترابط بواسطة روابطِ فوسفات ثنائي الإستر العادية. وأُجري المزيد من التجارِب باستخدام أكثرَ من قالب واحد، فأظهرَت التسلسلات المختلفة نوعًا من التنافس؛ أي إن «التطور» في النظام ممكن. وقد بُنِيَت أيضًا سلاسلُ من البروتين يمكنها استنساخ نفسِها، حيث يسمح نشاط البروتين الكيميائي له بتجميع المزيد من القِطَع البروتينية الأصغر ليبنيَ نسخًا منه.

fig37
شكل ٧-٦: فكرة بناء الحمض النووي من خلال قالب بدون استخدام أي إنزيمات.

لا بد هنا أن نُدرك أن التجارِب التي نتحدث عنها لا تُشبه الجينات إلا في أنها يمكن أن تعمل قالبًا لإكثارها. لكنها تختلف عن الجينات الحقيقية لأنَّ هذه الأحماض النووية ليست قادرةً على أن تنظم إنتاج أي شيء غير نفسِها. المغزى الرئيسي من الأمر هنا أن نحلَّ إشكالية «أيهما أولًا؟ البيضة أم الدجاجة؟» الماثلة هنا، بمعرفة أيُّهما ظهر أولًا، الأحماض النووية أم البروتينات، حيث لا يمكن أن يتكوَّن أحدُهما إلا بمُساعدة الآخَر في الكائنات الحية الطبيعية. وإن كان الأمر تم في ظروفٍ خاصة جدًّا؛ فقد أظهرَت التجارِب أن ثمة أحماضًا نووية قد تُستنسَخ ذاتيًّا بدون مساعدة من البروتينات، وأن بعض البروتينات يُمكنها أن تُستنسخ ذاتيًّا بدون مساعدة من الأحماض النووية (في كلتا الحالتين اعتمدَت التجارِب على سلائفَ كيميائية معقَّدة، لا على مجرد مكونات بسيطة نستطيع أن نعتبرها «طعامًا»). بإمكاننا إذن أن نتخيَّل رحلةً تطورية تبدأ بوجود أحماض نووية كآر إن إيه متطفلةٍ على أيض الخلايا البدائية، ومن ثَم تعرَّضَت هذه الأحماض النووية لطفرات واكتسبَت أنشطةٌ إنزيمية مفيدة أضْفَت مَزايا تطوريةً على الخلايا؛ وبهذا تحوَّل التطفل إلى تكافل، وأخيرًا إلى وحدة كاملة في نظام واحد متَّسق.

الخطوات التالية

توصَّلَت المعامل التي تعمل على تخليقِ حياةٍ من الصِّفر حتى الآن إلى بناء دورات حفزية تتكاثر ذاتيًّا وتنتج جزيئات متواضعةَ التعقيد، كالسكَّريات، من سلائفَ بسيطةٍ كالفورمالدهيد. وتوصلَت المعامل التي تعمل على مسألة الاحتواء إلى حويصلات غشائية قادرة على التكاثر ذاتيًّا، لكنها تحتاج إلى أن تبدأ العملية من جزيئاتٍ معقدة إلى حدٍّ ما. لكن ما يبدو أننا لم نصل إليه هو ربط هذين المفهومَين معًا بحيث تكون لدينا دوراتٌ حفزية ذاتية الإكثار تبدأ من سلائفَ بسيطة جدًّا، ولكنها تُنتج جزيئات يمكنها صنعُ أغشية، وبهذا «تُطْعِم» الحويصلة لتتكاثر ذاتيًّا. إن تحقَّق هذا، فستكون الخطوة التالية هي احتواء الدورة داخل الغشاء، وضمان أن يكون بوُسع الجزيئات الأولية الصغيرة أن تدخل من خلاله. سيكون تحقيق مثلِ هذا النظام خطوة كبيرة جدًّا نحو صُنع شيء حيٍّ غاية في البساطة. العديد من الناس سيعتبرون هذا الشيء حيًّا فعلًا. لكنَّ آخَرين لن يرَوه كذلك، لأنهم متشبِّثون بفكرة أن أي كائن حي لا بد أن يحتويَ على جينات.

بعد أن يخلق البشر حياةً يمكن تخفيف الآثار الفلسفية المحتملة لذلك بمرور مدةٍ زمنية طويلة يتغيَّر خلالها تعريفُ الكائن الحي. ربما لن يُدرَك خلق حياة اصطناعيًّا إلا في وقتٍ لاحق، ولن يكون ذلك نتيجةَ تجرِبةٍ حاسمة واحدة، وإنما سلسلةٌ من الخطوات الصغيرة التي تتخطى ما كنا نراه سابقًا حدًّا فاصلًا، وما لبث أن صار منطقة ضبابية بين ما هو حيٌّ وما هو جماد. وعلى كل حال، فالمنطقة الرمادية بين ما نعتبره حيًّا وما نعتبره ميتًا موجودة بالفعل؛ فالخلايا المنفردة في كائنٍ عديد الخلايا، كالإنسان، تظل حيةً وقتًا طويلًا بعد أن يكون هذا الإنسان ككلٍّ قد مات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤