الفصل الثاني

القوس الأعظم

أعرض في هذا الفصل بعض السبل التي اتخذها علماء الأنثروبولوجيا عند التفكير في التنوع البشري. سأحكي قصة صيغة من صيغ هذا التنوع، وكيفية فهمها، ثم كيف أفسحت السبيل لصيغة أخرى وفهم آخر.

توطدت دعائم الصيغة الأولى قبل الحرب العالمية الثانية. واستطاع علم الأنثروبولوجيا — كمؤسسة لها تمويلها وأقسامها الجامعية وطريقتها الخاصة للنشر في صورة كتب أو مقالات في الصحف — أن يصبح تدريجيًّا ما نعرفه عنه اليوم. ويغلب على هذه الصيغة الأولى للتنوع أنها ذات منظورٍ لا تاريخي. وعمدت إلى تبرير الإنفاق الباهظ وصرامة الأحكام التي هي حصاد فترات طويلة من العمل الميداني في مناطق نائية. وأفضى هذا العمل الميداني إلى ظهور الأنثروبولوجيا الوصفية، التي هي معرفة نوعية مميزة بصور الحياة الاجتماعية التي لم تكن موضع دراسة حتى ذلك الحين. والملاحظ أن عمليات الانفتاح على عالم شمال المحيط الأطلسي، أو الانفتاح على أنثروبولوجيا شمال الأطلسي على أقل تقدير، جرت صياغتها في الغالب الأعم في الزمن المضارع، وهو ما يُسمى الحاضر الإثنوجرافي Ethnographic Present. وكانت هناك أسباب جيدة تبرر ذلك. وكما سبق أن أوضحت فإن هذا الزمن المضارع لا يتضمن بالضرورة وجهة نظر لا تاريخية. ولكن كانت ثمة حاجة ملحة إلى الكشف عن سبل الحياة على نحو ما هي عليه آنذاك وليس كما كانت في الماضي. بيد أن علماء الأنثروبولوجيا الأوائل أهدروا قدرًا كبيرًا من مصداقيتهم عندما أطلقوا العنان لتأمُّلاتهم، وعلى غير أساس، بشأن ماضي الشعوب المسماة «البدائية»، وهكذا بدا منطقيًّا أن نرى الأنثروبولوجيا الجديدة وقد آلت إلى ما آلت إليه لتوصَف بأنها وجهة نظر «آنية»، أو رهن الحاضر.

ولكن الظروف والتأويلات غير الملائمة بدأت تطفو على السطح، إذ وضح أن العالم، على النحو الذي حددته الصيغة الأولى لعلماء الأنثروبولوجيا، لا يتسق دائمًا وأبدًا مع حالة التعقد التي ظهر بها العالم في نظر المؤرخين، أو علماء الاجتماع على سبيل المثال أو في نظر الباحثين الميدانيين الأنثروبولوجيين أنفسهم؛ ذلك أن المجتمعات التي بدت معزولة وبكرًا دون تغيير إنما بدت بعد الفحص والدراسة للمرة الثانية أنها تأثرت بعمق بالمجتمعات الأخرى، وتأثرت على وجه التخصيص بمجتمعات علماء الأنثروبولوجيا أنفسهم. وإذا بنتيجة هذه الاختلافات يبدأ التعبير عنها تدريجيًّا رويدًا رويدًا، ولكن عن يقين في بيانات نظرية عامة تحدثنا عن التنوع. وبدا من المستصوب نشوء وعي جديد أكثر عمقًا عن التنوع البشري. ويكشف هذا الوعي بصورة أكثر وضوحًا وشمولًا عن الطابع التاريخي للخبرة الاجتماعية، والتواصل بين البشر على نطاق الكوكب الأرضي. ولا يزال هذا الفهم الجديد في طور التكوين. إنه لا ينسخ المعارف الأنثروبولوجية القديمة، وإنما يوضح بقوة أن هذه المعارف نراها في ضوء جديد يُضفي عليها دلالة جديدة.

القوس الأعظم

إن «ما تقدم» في هذه القصة له مصادره الفنية الكثيرة، ولكن المصدر الوحيد الأكثر غنًى في ضوء أهدافي التي أرمي إليها، هو الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «تنوع الثقافات» في كتاب روث بنيديكت «أنماط الثقافة» Patterns of Culture، الصادر عام ١٩٣٥م، والذي لم تتوقف طبعاته المتتالية منذ ذلك الحين. والأفكار الواردة في الكتاب أفكارها هي، ولكنها ليست أفكارها وحدها. ذلك أن غالبيتها ظهرت مع الدراسة الوليدة للأنثروبولوجيا الثقافية، التي بدأت خلال السنوات الأخيرة قبيل القرن العشرين في الولايات المتحدة على يدي معلمها فرانز باوس بالاشتراك مع مساعديه وتلاميذه. بيد أنها عبَّرت عن نفسها بقوة ووضوح واستخدمت صورًا كان لها تأثير واسع النطاق.

وجدير بالذكر هنا أن صدور كتاب «أنماط الثقافة» كشف عن اختلاف عميقٍ في العلاقة بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، خاصة مدرسة العالم الإنجليزي رادكليف-براون، ذات النفوذ الكبير آنذاك، وبين الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية. بيد أن هاتين المدرستين، كما سأبين فيما بعد، مشتركتان معًا في الفروض الأساسية التي أحسنت بنيديكت التعبير عنها. وسوف أُشير أيضًا إلى أن هذين التراثين قد امتزج كل منهما بالآخر فيما بعد، واندمجا على نحو وثيق حتى أصبح بالإمكان، في حدود رؤيتي، النظر إليهما باعتبارهما ضربين لتراثٍ واحد أوسع نطاقًا. وعلى أي حال، فإن ما سيشتركان فيه على نحو قاطع هو الالتزام بالبحث الميداني، باعتباره المصدر المحدد والنهائي للمعرفة.

وحكت بنيدكيت الحكاية التالية لتقدم وتلخص لنا رؤيتها للتنوع الثقافي:
«تحدث إليَّ أحد شيوخ الهنود الحفارين،١ كما يُسميهم أهل كاليفورنيا، حديثًا طويلًا عن أساليب أبناء جلدته في أيام زمان. كان مسيحيًّا وزعيمًا من زعماء أهله في زراعة الخوخ والمشمش في الأراضي المروية؛ غير أنه كان إذا ما تحدث إلى أحد رجال الدين المشتغلين بالسحر، المسمَّين الشامان، وقد كان بإمكانهم أن يحولوا أنفسهم إلى دِبَبة أمام عينيه أثناء رقصة الدب؛ كانت يداه ترتجفان، وصوته يتهدَّج بفعل حالة الاستثارة التي تغلب عليه. لقد بدا شعور أبناء شعبة بسلطان الأيام الخوالي أمرًا فريدًا، وكان أحب شيء لديه الحديث عن … الأطعمة التي كانوا يأكلونها … كانوا يطعمون «خير الصحراء» كما قال، ولم يعرفوا شيئًا عن محتويات العلب الصفيح، ولا عن الأشياء المعروضة للبيع أو محال الجزارة.»
وفجأة، ودون مقدمات قطع رامون حديثه عن طحن نبات المسكيت وإعداد حساء جوزة البلوط، وقال: «في البدء أعطى الرب لكل شعب كأسًا من الفخار، وشربوا جميعًا جرعة الحياة بهذه الكأس … إذ غمسوا جميعًا كئوسهم في الماء، ولكن كئوسهم لم تكن سواءً. وها قد تحطم كأسنا الآن. انقضى زمانه ولم يعد له وجود.»1

وهذه حكايةٌ مثيرةٌ زاخرة بالمعاني؛ إذ تشتمل في وقتٍ واحدٍ على صدمة الاستعمار، وصورة علم الأنثروبولوجيا بين الشعوب المحتلة. علاوة على قدرٍ كبيرٍ من التأمل الهادئ الرزين والملائم في تنوع الأعراق. وتستخدم بنيديكت في الصفحات التالية الصورة المجازية التي حكاها رامون وحياته الشخصية كمادة أساسية تطرزها بتفسيراتها وفهمها الخاص. واستهدفت خطتها تدريجيًّا إضافة تعليقات وتفسيرات، بحيث قادت القارئ في هدوء وسلاسة من حكاية البحث الميداني إلى تعاليم علم الأنثروبولوجيا بعامة. ومِن ثَمَّ فإن كتاب «أنماط الثقافة» ليس سجلًّا لمادة بحث ميداني؛ بل أصبح مادة تبرهن على خصوصية البحث الميداني والاستخدام المميز للمقابلات الشخصية مع الأفراد والجماعات موضوع الدراسة في الأنثروبولوجيا الوصفية (الإثنوجرافيا)، وكيف يمكن تحويلها لتصبح دراسة نظرية عامة.

وتستطرد قائلة: هناك كئوس أخرى للحياة لا تزال باقية، ولعلها تحتوي على المياه ذاتها، غير أن الخسارة لا يمكن تعويضها. ليست القضية بذل جهد لا طائل تحته للإصلاح عن طريق إضافة شيء هنا وإسقاط شيء هناك. لقد كان التعبير هنا أساسيًّا، ويكاد يكون صورة واحدة متكاملة.2 وهكذا كانت دلالة قصة رامون الرمزية عند بنيديكت هي أن كل أسلوب من أساليب الحياة متكامل مع الحياة وملتحم بها تمامًا مثل الكأس له كيانه الواحد الصحيح. حقًّا لقد بدت وحدته في نظر بنيديكت من خلال إمكانية كسره، فهذه فكرة محورية في دراستها، وعمدت إلى المزيد من توضيحها وإحكام صياغتها في الأجزاء التالية من كتاب «أنماط الثقافة»؛ ولكن حريٌّ بنا أن نلحظ أيضًا أنه كلما كان بالإمكان إعادة بناء قصة رامون دون الاستعانة بتفسير بنيديكت، لانتهى بنا الحديث وعلى نحوٍ مذهل إلى أمرين: إحساس بفقدان ماضٍ لا يعوض، وشعور بتباين عرقي. إن الإضافة العرضية المتمثلة في قولها «يكاد يكون صورة واحدة» لا تتعارض مع صيغة رامون، وإن لم تكن بالضرورة جزءًا منها؛ إذ كانت هذه هي نظرتها، لا نظرته هو، والتي أكدت أن الثقافات تتصف بالوحدة الشاملة المتكاملة التي لا سبيل إلى ترميمها ورتقها، فالثقافة، كما أوضحَتْ بعد ذلك في الصفحات التالية من الكتاب، «شأنها شأن الفرد، نمط من الفكر والعمل المتسق مع بعضه البعض بدرجة أو بأخرى» وأودُّ أن أؤكد هنا أنه كان في عقل بنيديكت هدف محدد ترمي إليه، ألا وهو وضع رؤية عامة عن التنوع البشري، على نحو ما تصور علم الأنثروبولوجيا آنذاك، وقد كان لا يزال علمًا حديثًا نسبيًّا يصارع لإثبات وجوده.

نتيجة أخرى لازمة عن الرؤية الاستطرادية لبنيديكت، وهي أن التمايز الاجتماعي والثقافي مثله مثل الكأس له حوافه المحددة الواضحة المعالم، وله استقلاله وتفرده عما سواه. إنه إما أن يبقى أو يندثر. إن رامون يعيش في هذا المجتمع أو في ذلك، ولهذا تمضي بنيديكت في تأويلها لما يعنيه رامون وتقول:

الأشياء التي أضفت معنًى ودلالة على حياة شعبه، والطقوس المحلية عند تناول الطعام، والتزامات النظام الاقتصادي، وتعاقب الاحتفالات الجماعية في القرى، والاستغراق في رقصة الدب، ومعاييرهم حول الخطأ والصواب … لقد ولَّت جميعها واختفت، واندثر معها شكل حياتهم ومعناها … لم يقصد رامون أن ثمة شكًّا فيما يتعلق بانقراض أهله، ولكنه يحتفظ في وعيه بذكرى فقدان شيء عزيز قيم يُعادل الحياة ذاتها، هو جماع نسيج معايير شعبه ومعتقداته.3
وتشير بنيديكت هنا إلى أنه يجمع بين ثقافتين في آن واحد وغير متماثلتين من حيث القيم وأساليب التفكير. يا له من مصيرٍ صعب!4 وترددت أصداء هذه النظرة على لسان زميلتها وصديقتها المقربة إليها مارجريت ميد، التي كتبت تقول: «إذا ما أدركنا أن كل ثقافةٍ إنسانية، شأن كل لغة، هي كلٌّ متكامل … إذن نستطيع أن نرى أن الأفراد أو جماعات البشر إذا ما كان لا بد أن يتغيروا … فسوف يكون الشيء الأهم هو أن يتحولوا من نمطٍ كليٍّ متكامل إلى آخر.»5

لذلك فإن علم الأنثروبولوجيا، وحسب هذا المنظور، يكون معنيًّا بشخص مثل رامون أساسًا لدراسة ما كان عليه في الماضي … أي دراسة نمط كامل للحياة … أو ما سيكون عليه نسله في المستقبل، نمط الثقافة العالمية «الكوزموبوليتانية» للولايات المتحدة المتحدثة بالإنجليزية. وتأسيسًا على هذه النظرة يغدو العالم البشري مؤلفًا من كيانات متمايزةٍ ومستقلة: مجتمع واحد وثقافة لها الهيمنة؛ ولكنها تظل متغيرًا مستقلًّا بين أكفاء. وكما أشار منذ عهد قريب جيمس كليفور، مؤرخ علم الأنثروبولوجيا: إن كل ثقافة يمكن تصورها باعتبارها «نوعًا طبيعيًّا» شأن تصورنا لكيانات العالم الطبيعي — أنواع النباتات، وأنواع الحيوانات، وأنواع المعادن — باعتبارها أنواعًا طبيعية.

وإن قابلية الثقافات للتمايز والاستقلال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقسمة أخرى تميز رؤية بنيديكت، ألا وهي تنوع سبل الحياة تنوعًا هائلًا على نحو غير قابلٍ للتنبؤ، ويكاد يتعذَّر حصره. وكتبَتْ في هذا تقول:
«في الثقافة … يتعيَّن علينا أن نتخيل قوسًا أعظم اصطفَّت عليه المهام المحتملة، الناجمة سواء عن دورة العمر البشرية أو عن البيئة أو الأنشطة المختلفة للإنسان … إن كل مجتمعٍ بشريٍّ أيا كان موقعه قام بعملية انتقاء بين مؤسساته الثقافية. وإن كل مجتمعٍ يبدو من وجهة نظر مجتمع غيره أنه يغفل أمورًا أساسية ويستثمر أشياء لا عقلانية. فثمة ثقافة تكاد لا تقر بالقيم النقدية (نسبة إلى النقود)، في حين اتخذتها ثقافة أخرى أساسًا لها في كل مجالٍ من مجالات السلوك. وثمة مجتمع يتجاهل التكنولوجيا على نحو لا يُصدقه عقلٌ … بينما مجتمع آخر يناظره في البساطة زاخر بالإنجازات التكنولوجية التي تبدو معقدة، وتلائم مقتضى الحال على نحو محكم يُثير الإعجاب.»6

وهكذا فإن هذا «القوس الأعظم» يتألف من تجارب كثيرة معيشة، واستكشافات كثيرة للإمكانية البشرية، وانتقاءات كثيرة من أنواع لا نهاية لها لما يمكن الإفادة بها واستخدامها بطريقة ما في الحياة. ودعمت بنيديكت هذه النظرة حين اقتدت بمعلمها فرانز باوس وقالت: مثلما أن فم الإنسان قادرٌ على أن يصدر عنه بالفعل متصل لا نهائي من الأصوات المتنوعة، في الوقت الذي تنتقي فيه بالفعل أي لغة عددًا محددًا فقط من الأصوات باعتبارها ذات دلالةٍ، كذلك فإن أي ثقافة تختار فقط عددًا محدودًا من الاستعدادات الممكنة للحياة المشتركة. وإن معنى الانتقاء أو الاختيار هنا لا يتضمن أبدًا أي عمليةٍ فعلية، يتم بِناءً عليها اختيارُ الأصوات أو الأعراق أو التاريخ. وإنما يهدف التأكيد هنا إلى التركيز على معنى التجريب العملي المجرد من الحوافز، والتباين المعنوي المجاني، الذي أثمر على الرغم من ذلك مجموعة رائعة متباينة، من صور محكمة النسج غالية القيمة وذات بَهاء.

أصداف البحر

بعد صفحاتٍ قليلة خلفت بنيديكت وراء ظهرها صور الكأس والقوس الأعظم، وانهمكت في سرد أمثلة إثنوجرافية بهدف توضيح حجتها وإحكام صياغتها؛ بيد أنها وهي سبيلها إلى ذلك يبدو لنا بوضوح أكثر أن الصور الأولى التي بدأت بها هي الأكثر ملاءمة. حقًّا هناك — بمعنى من المعاني — صورة أساسية تشبه إلى حدٍّ ما خزائن العرض في المتحف، حيث يجد المرء بداخلها مجموعة من المعروضات المتمايزة والمستقلة والمتكاملة مع بعضها البعض، وكل منها لها تفردها، ولكنها في الوقت نفسه تُقاسم المعروضات الأخرى في صفةٍ جوهرية. لم تستخدم بنيديكت هذه الصورة المجازية في كلامها، غير أن علماء الأنثروبولوجيا، بمن فيهم بنيديكت، كانوا على صلة وثيقة بالمتاحف في أمريكا وفي غيرها من البلدان آنذاك. ويبدو أن قدرًا كبيرًا من كتاباتها متأثر بالعارضة الأساسية «لمجموعة المقتنيات»، وهي كلمة باتت تنطبق على الأعراف والمعتقدات والثقافة الروحية، مثلما تنطبق على الأواني والأقنعة والثقافة المادية المعروضة في المتاحف.

وها أنا ذا أفي بوَعدي بأن أكشف عن قدر من الاتساق بين هذه النظرة التي تنظر إلى الثقافات نظرتها إلى المتحف، وبين نظرة أخرى تبدو مغايرة في ظاهرها، ألا وهي الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية. حقًّا إن مالينوفسكي، وهو أحد اثنين من أعظم البريطانيين تأثيرًا والمعاصر لبنيديكت، كان نزاعًا في أعماقه إلى تأييد النهج الأمريكي؛ غير أن رادكليف-براون، وهو الثاني من بين اثنين من علماء الأنثروبولوجيا البريطانيين المبرزين، كان معارضًا عنيدًا للحديث عن «الثقافة»، وأدى به ذلك إلى شلِّ عزيمة الكثيرين من زملائه وخلفائه في بريطانيا. ومع هذا كشف عن توجه نحو التنوع يُماثل، بشكلٍ أساسيٍّ ومن نواح كثيرة، توجهَ بنيديكت. وإليكم هنا فقرة كتبها تبدو في ظاهرها مستوحاة من صورة عن شاطئ البحر؛ ولكن تلوح في الواقع من بين أسطرها ظلال التماثل مع ومضات المتحف التي تومض في الخلفية. إنه يكتب عن «البيئة الاجتماعية» فيقول:
«إذا ما التقطت واحدة من أصداف البحر وأنا على الشاطئ، فإنني أتعرف عليها من حيث إن لها بنية خاصة. وربما أعثر على أصداف أخرى من النوع ذاته له بنية مماثلة. وهكذا يحقُّ لي القول إن ثمة شكلًا لبنية مميزة للنوع، وبعد أن أفحص عددًا من الأنواع المختلفة يصبح في وسعي أن أتعرف على صورة أو أساس لبنية عامة … وأدرس فاحصًا مجموعة محلية من سكان أستراليا الأصليين «الأوبورينيز» وأجد نظامًا للأشخاص لدى عدد معين من العائلات. أسمي هذا الوضع البنية الاجتماعية لهذه المجموعة بذاتها في تلك اللحظة من الزمن، وثمة مجموعة محلية أخرى لها بنية تُشبه من نواح مهمة كثيرة بنية المجموعة الأولى. ومن ثم أستطيع، بناء على الدراسة الفاحصة لعينة ممثلة لجماعات محلية في منطقة واحدة، أن أصف صورة معينة تميز البنية.»7

لقد كان المتحف الذي تصوره رادكليف-براون مستمدًّا من التاريخ الطبيعي وليس من علم الإثنولوجيا، غير أنه اختار، من باب المناظرة، شيئًا مماثلًا جدًّا لكئوس بنيديكت ليستخدمه أداةً للتمثيل. فأصداف البحر صلبةٌ وقابلة للكسر، وكل واحدة منها متمايزة بوضوح عن الأخرى، كما يمكن تجميعها وصفُّها حسب نظامٍ نسبي، وتدخل بسهولة ويسر ضمن «الأنواع الطبيعية».

حقًّا إن رادكليف-براون يحدد صفات هذه الموضوعات بطريقة مختلفة جدًّا عن طريقة بنيديكت. إنه معني «بنسق ترتيب الأشخاص» و«البنية الاجتماعية». ونراه في موقع آخر وهو يحاول الإبانة عن مفهومه للبنية الاجتماعية يركز على «المؤسسات السياسية» وحياة الطقوس والشعائر.8 ويختلف هذا الترتيب والتقييم عن قائمة موضوعات مناظرة وثيقة الصلة في مجتمع رامون، على النحو الذي أثبتته بنيديكت التي كانت، كما هو واضح، معنية أكثر بنسق نظام الأفكار والقيم وليس بالأشخاص. «جماع نسيج المعايير والمتعقدات بين أهل رامون».9
ولقد كان رادكليف-براون معنيًّا فقط بالطابع المتكامل للموضوعات التي يهتدي إليها. وكتب عن الأنساق الاجتماعية في مناظرة مع الكائنات الحية التي تعمل الأعضاء المكونة لأجسامها في تناسقٍ مع بعضها البعض (على نحو ما فعلت بنيديكت من حين إلى آخر)، ورأى أن مهمته تشبه دور عالم التشريح المقارن أو عالم الطبيعيات. وقال إن منهج العلوم الطبيعية يرتكز دائمًا على المقارنة بين الظواهر موضوع الملاحظة،10 وإن هدف المقارنة هو اكتشاف ما هو عام وجوهريٌّ من الصفات الخاصة بالمجتمعات البشرية جميعها، في الماضي والحاضر والمستقبل. ولم تكن بنيديكت تقريبًا شديدة التمسك بلغة العلم، وإنما استخدمتها بين حين وآخر، فتكتب على سبيل المثال عن «المجتمعات التي ترتبط تاريخيًّا بمجتمعاتنا بعلاقة هي أضعف ما تكون» فتصفها بأنها «المعمل الوحيد للأشكال الاجتماعية المتاحة لنا أو التي سوف تُتاح لنا في المستقبل.»11
ولغة العلم هذه، شأنها شأن عارضة المقتنيات في المتحف، تُشير إلى سمة أخرى مشتركة بين النظرتين، وهذه السمة هي انصراف عن التاريخ، وتوجه ناحية السرمدية؛ ذلك أن كلًّا من بنيديكت ورادكليف-براون يريان أن عالم الأنثروبولوجيا لديه ما يبرر تمامًا عقد مقارنة، ولنقل، على سبيل المثال، بين مجتمع اليونان القديم والمجتمع الراهن لهنود البويبلو Pueblo، أو سكان أستراليا الأصليين «الأوبورينيز»، وكأنها مجتمعات قائمةٌ داخل ناقوس زجاجي مقطوعة الصلة عن إطارها التاريخي. والجميع سواء من حيث الصوابُ داخل ذلك المعمل الكبير باعتبار ما نحن بصدده، تجارب في الحياة المعيشة (بنيديكت)، أو باعتباره نماذج (رادكليف-براون). والملاحظ أنه بقدر اتخاذهما العلوم الطبيعية نموذجًا للمعرفة — وقد كان رادكليف أبعد مدًى في ذلك من بنيديكت — كان إقرارهما أن هذه المعارف هي بطبيعتها معارف كلية شاملة ونسقية، بمعنى أنها مقبولةٌ على حدٍّ سواء في كل مكان وزمان. علاوة على هذا فإن رؤية المجتمعات على هدي نظريةٍ مقارنة في الأساس، تولَّد عنها شعور بالتعالي وكأنها نظرة إلى مشروع له هدف مهمٌّ وخطير، بحيث يضعه صنوًا للعلوم الطبيعية. وكان هذا المناخ مفيدًا في حالة الجدال مع الآخرين من أمثال علماء البيولوجيا التطورية، وعلماء النفس الذين كانوا وقتذاك (ولا يزالون) يطرحون آراء حول الطبيعة البشرية، تُغفل تمامًا كل ما من شأنه أن يقوم برهانًا على التنوع الذي يؤكد عليه علماء الأنثروبولوجيا. ولقد كان لمفهوم السرمدية، في هذا الإطار، طابع خطابي سجالي، بيد أنه كان في الوقت ذاته متسقًا تمامًا، بل وضروريًّا في الحقيقة لمفهوم الثقافات أو المجتمعات باعتبارها كليات محدودة، أي واضحة المعالم والحدود integral and bounded. وما إن أصبح مقبولًا القول بقابلية التاريخ للتحول والتقلب، حتى بدأ مفهوم تكامل ومحدودية الثقافات يتهاوى ويتلاشى.

ما بين القصتين

كتاب «أنماط الثقافة» كتابٌ غنيٌّ ومعقد حتى إنني لم أكد أخدش سطحه، والقسط الأكبر منه تعليق اجتماعي، ويعالج القضايا الخلافية الشائعة في وقته ذات المضمون الاجتماعي، بل والسياسي، ويقدم معارف إثنوجرافية عن تنوع الثقافات باعتبار ذلك واقعًا في ذاته، وأمرًا قيمًا لعلاج الاتجاهات والممارسات السقيمة في مجتمع شمال الأطلسي. ويكشف التنوع عن أن الأشكال الأخرى للحياة ممكنة، وعن أننا لسنا فقط أسرى حدود تراثنا نحن أو أسرى نظرتنا النزقة إزاء الطبيعة البشرية، كما يوضح التنوع أننا نستطيع، بل ويتعيَّن علينا، أن نتعلم كيف نقيم صلاحية سبل حياة الآخرين. وها هنا فقط يمكن أن تظهر حضارة متسامحة وتعددية. وإذا عرفنا أن كتاب «أنماط الثقافة» لا يزال يُطبع حتى الآن وبعد مُضيِّ خمس وخمسين عامًا على ظهوره، فإن هذه الحقيقة دليل صادق على أهمية موضوعه مع مرور الزمن والفهم العميق له.

بيد أن النظر إلى الكتاب بعد هذه المدة يجعلنا نكتشف فيه كذلك مظاهر تدعو إلى السخرية لم تكن مقصودةً، أو كانت خافية عن الإدراك وقتها، ولكنها وضحت لنا الآن؛ إذ تكشف بنيديكت عن وعي حادٍّ بأن مجتمعات شمال الأطلسي دخلت مؤخرًا (منذ قرون) في اتصال مع مجتمعات يدرسها عادة علماء الأنثروبولوجيا، وأن هذا الاتصال ترتبت عليه نتائج بعيدة الأثر، بل وغالبًا ما كانت مؤلمةً. وتعترف، أو تُشدد في الحقيقة، على أن حضارة شمال الأطلسي ذاتها أحاطت بها تحولات تاريخية عميقة. وتقرر بوضوح أن جميع المجتمعات التي يدرسها علماء الأنثروبولوجيا لها تاريخ إنتاجي طويل، هو الذي أفضى إلى ظهور أشكال الحياة موضوع دراسة العلماء.

غير أن جميع هذه الرؤى النافذة نراها مفصولةً بوضوح عن مفهومها الخاص بالأنثروبولوجيا وموضوع دراستها. واستخدمت كناقدة واقع التحولية عن ثقة ودون تمحيص، ولكنها بصفتها باحثة نظرية في الأنثروبولوجيا أغفلت هذا الواقع. ونستطيع أن نرى الجانب الأكبر الداعي للسخرية في عرضها لقصة رامون. فهو حسب روايتها وتفسيرها ساكن يحظى بالاحترام، يُقيم حاليًّا في وسط اجتماعيٍّ حقيقي «إنه مسيحيٌّ وزعيم بين أهله في زراعة الخوف والمشمش في الأراضي المروية.» غير أن يديه ارتجفتا، وصوته تهدَّج بفعل الاستثارة عندما تحدث عن رجال الدين المشتغلين بالسحر «الشامان» في الأيام الماضية. والشيء اليقيني أن هذا كله — المسيحية والحنين إلى «الشامان» وزرع الخوخ والمشمش لمصلحة اقتصاد السوق، بيدي رجل لا يزال واحدًا من أبناء شعبه الهندي الأمريكي — مثال لوضع إنسانيٍّ لا يقل إثارة للانتباه ولفتًا للأنظار، وهو على حدٍّ سواء أسلوب حياة مميز، ولغز جدير بالبحث. غير أن بنيديكت تَقنع بالقول إنه جمع بين ثقافتين غير متماثلتين من حيث القيم وأساليب الفكر. وربما تكون هاتان الثقافتان غير متكافئتين. وربما غير مفهومتين إحداهما للأخرى، إذا ما نظرنا إليهما في ضوء نظرية أصداف البحر التي تحدثنا عن ثقافات هشَّة ومستقلة عن بعضها البعض. بيد أن رامون كان يحتال للنجاح في تدبير أمره والمضي قدمًا للعيش وفقًا لهذه الصورة أو تلك. كذلك كانت بنيديكت نفسها تحتال للتحدث إليه، وتبذل جهدها لتتعلم شيئًا منه، بل وتجاهد للمشاركة بقدر ما في حياته. وإذا ما أخذنا هذه الانتقادات مأخذًا جادًّا فإنها سوف تكشف عن أوجه نقص خطيرة جدًّا في نظرية أصداف البحر حول الثقافة.

وخطتي هنا هي أن أتحرك بسرعةٍ ويسر إلى «ما بعد» القصة … إلى الإجابة الراهنة التي يجيب بها علم الأنثروبولوجيا على نظرية أصداف البحر. ولكن جدير بنا أن نتريث قليلًا في حديثنا عن «ما بين»: لماذا ينأى علم الأنثروبولوجيا بعيدًا عن المفاهيم المشتركة بين بنيديكت ورادكليف-براون؟

لعل الإجابة الأكثر صراحة ومباشرة هي أن العوالم التي يكتشفها علماء الأنثروبولوجيا تشبه دائمًا عالم رامون، محطة دائمة عند منتصف الطريق تقع ما بين حالة وأخرى، بين ماضٍ ومستقبل، وبين مجتمع وآخر. وليسمح لي القارئ بأن أوضِّح هذا بمثال استقيته من بحثي الميداني، وسبق لي أن عرضته في كتاب لي بعنوان «رهبان الغابة في سري لانكا» ذلك أنني عندما وصلت إلى سري لانكا لدراسة البوذية كانت خطتي هي أن أكتشف كيف امتدت الحياة بقواعد السلوك التي نصَّت عليها هذه العقيدة الدينية في الممارسات اليومية للبوذيين أبناء سري لانكا. واشتمل متاعي من الأفكار على فرضٍ خفيٍّ دون أن أكون واعيًا به. ويقضي هذا الفرض بأنه لا بد أن ثمة شيئًا قديمًا وأصيلًا يتعيَّن كشفه، وإن كان قد فقده أبناء سري لانكا الحاليون شأن رامون. وهكذا بلغت بي الإثارة مبلغها حين عرفت مصادفة في ركنٍ بعيد من أركان الجزيرة، بوجود رهبان الغابة المجهولين تقريبًا لدى عالم الدراسات الأكاديمية في شمال الأطلسي. وبدا لي أنهم يجسدون أقدم مبادئ بوذا نفسه وأكثرها أصالة. وظهرت أمامي مشكلة وحيدة: إن حركة رهبان الغابة لا يرجع تاريخها إلى ٢٥٠٠ عام مضت، وهو عمر البوذية، وإنما يكاد لا يتجاوز عمرها أكثر من ٢٠ عامًا. وسبق أن أشار روي داندراد في مكان ما إلى أن دراسة الثقافة في عالم اليوم تشبه دراسة الجليد عند منتصف كتلة جليدية منهارة. وكانت هذه هي خبرتي، وخُيل إلِيَّ أن ثمة أسبابًا تدعو إلى التفكير في أن كتلة التحول سريعة وقوية اليوم بوجه خاص. ولكن ما إن نفذت إلى أعماق أسلوب حياة الرهبان حتى اكتشفت أنهم لم يبقوا أبدًا على حالهم دون تغيير. إن كتلة الجليد المنهارة تتحرك منذ زمن طويل.

وهناك أسباب أخرى، إن علم الأنثروبولوجيا جزء من عالم أوسع في الدراسة والفكر، وليس لنا أن نظنه قد بقي على حاله دون أن يتأثر بلغز التغيير، على النحو الذي كشف عنه المؤرخون وعلماء الاجتماع. لقد نما علم الأنثروبولوجيا حتى أصبح موضوعًا أكثر ضرورة وأكثر انغماسًا في الجانب العملي. ثم إن علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية مطالبون بفهم الناس وهم في وضع رامون تحديدًا، وليس كما كان رامون في الماضي، أو كما سيكون في المستقبل. إن علم الأنثروبولوجيا ذاته قد نما وشبَّ قليلًا عن الطوق، وإن ذات الشعوب التي بدت أو تم عرضها كشعوب لم تتغير وقت دراستها لأول مرة، نراها الآن هي نفسها وقد انتقلت من وضع إلى آخر، ولعل أكثر هذه التغيرات حِدةً هو ذلك الذي حدثنا عن تاريخه كولن تيرنبول، الذي حدثنا بطريقة مثيرة للمشاعر، عن العالم السرمدي لأقزام مبوتي Mbuti في الكونغو البلجيكية، في كتاب «شعب الغابة» الصادر عام ١٩٦١م. ولكنه كتب ما يلي في كتاب «أقزام مبوتي: التغير والتكيف» الصادر بعد ذلك باثنين وعشرين عامًا:
«كنت لأول مرة بين أقزام مبوتي في غابة إيتوري Ituri، حيث ما كان يُعرف آنذاك باسم الكونغو البلجيكية في عام ١٩٥١م. ولاحظت، على الرغم من قصر المدة، أن الأمور تغيرت، وبات لزامًا أن أصحح انطباعاتي في الأول. وعندما عدت للمرة الثالثة في الأعوام ١٩٥٧–١٩٥٩م عشت فترة صعبة، أحاول فيها أن أوفق بين بعض من اكتشافاتي الأولى وبين ما وجدته آنذاك. وعند عودتي ثانية إلى نفس المنطقة من الغابة ذاتها في الأعوام ١٩٧٠–١٩٧٢م بدا لي وكأنه لا بد أن أناقض نفسي من جديد في كل ما ذهبت إليه.»12

ولكن مثلما اضطر تيرنبول إلى أن يسلِّم على كُره منه، وأن يُقرَّ بما هو ضد رؤية مستقرة في الأعماق عن السعادة البدائية الثابتة غير المتغيرة، والتي حدثنا عنها في «شعب الغابة»، فإن هذا لم يكن بالضرورة تناقضًا مع الذات وتصويبًا للذات؛ بل مسألة تغير يجري أمام عينيه.

ولكن يجب على ألا أعطي انطباعًا بأن مظاهر القصور في نظرية أصداف البحر، كانت لها الهيمنة الكاملة على الفكر الأنثروبولوجي، أي على ممارسات علماء الأنثروبولوجيا. إن ما يعرفه علماء الأنثروبولوجيا هو البحث الميداني الإثنوجرافي: الدراسة المكثفة وطويلة المدى لجماعة صغيرة إلى حدٍّ ما من خلال علاقات تقوم على قدر من المواجهة (ويجب أن نؤكد أن هذه الدراسة تستكمل ببحث تاريخي إضافي). وأن أول مهام عالم الأنثروبولوجيا في الميدان هو أن يستبين مما يجري ويثبته، كما أن أول مهام عالم الأنثروبولوجيا حين يعود إلى مكتبه هو أن يصف ما يجري. هذا الوصف — أو لنقل، بلغة علماء الأنثروبولوجيا، هذه الترجمة، وهذا الدور الذي يستهدف جعل الغريب مألوفًا، وغير المفهوم مفهومًا، وغير المتناسق متناسقًا — لا يستلزم بالضرورة، في المرحلة الأولى معالجة التغير. إن ما يحتاج إلى معرفته بداية قرَّاءَ كتابَي «شعب الغابة» و«أقزام مبوتي: التغير والتكيف» ليس أن احتفال موليمو Molimo الملهم لأقزام مبوتي قد تغير بهذه الطريقة أو تلك؛ بل أن يعرفوا بداية ما هو. وثمة دراسات كثيرة ممتازة، بل وجميلة، في مجال الإثنوجرافيا التي لا تتجاوز حدود الترجمة بهذا المعنى.

أوروبا وشعوب ليس لها تاريخ

منذ أن بدأ كلٌّ من بنيديكت ورادكليف-براون كتاباتهما ظهرت إجابات كثيرة عن مظاهر قصور نظرية أصداف البحر. ونحن لا نزال في غمرة الحوار والمناظرة. وإذا أرادنا أن نستبين بوضوح أين وكيف يمكن تلخيص هذا الحوار، سنجد أن الأمر أشد عسرًا مما كان عليه الحال زمن بنيديكت. ولكن العمل الذي يعبِّر، في تقديري، أفضل تعبير عن الإجابة الجمعية لعلم الأنثروبولوجيا هو كتاب إريك وولف «أوروبا وشعوب ليس لها تاريخ» Europe and the People Without History الصادر عام ١٩٨٢م، أي بعد حوالي ٥٠ عامًا من صدور «أنماط الثقافة». وهذا هو «ما بعد» قصتي. وكتاب «أوروبا وشعوب ليس لها تاريخ» كتاب كبير الحجم، موسوعي شامل، ليس سهلَ التناول شأن كتاب بنيديكت، بل نراه معنيًّا أشد العناية بالحجة المدروسة، والبينة المطابقة بعناية لمقتضى الحال. إن وولف، شأنه شأن بنيديكت، يستقطر أعمال علماء الأنثروبولوجيا الآخرين في الوقت الذي يُقدم مساهماته الخاصة. وكتابه، شأن كتاب «أنماط الثقافة» يمثل أيضًا جهدًا من جهود النقد الاجتماعي والسياسي، ويُسهم في طرح رؤية مغايرة تمامًا عن التنوع البشري.

ويطرح وولف، شأن بنيديكت، أفكارًا لا يستسيغها جميع علماء الأنثروبولوجيا. وكتاب «أوروبا وشعوب ليس لها تاريخ» يشبه إلى حدٍّ كبير فطيرة البيتزا الفاخرة؛ إنها كبيرة جدًّا بحيث تفي بكل ما تحتاج إليه منها، وهي الأفضل نوعًا في المدينة حتى الآن، وتمثل وحدها وجبة كاملة، وإذا حدثتك نفسك عن شيء خاص ستجده فيها، علاوة على ما تحتويه من طعم سمك الأنشوقة. بعض الناس يحبون النكهة النفاذة لسمك الأنشوقة والبعض لا يحبونها. ويجدون في هذه الحالة الماركسية، أو لنقل: يجدون منظورًا غنيًّا بالمعلومات وليدة المساجلات والتعارك، الممتد على مدى حياة المرء مع الكثير من المشكلات التي ظلت هي هي عن التغير، والتي شغلت ماركس، وتتعلق فقط ببلدان نحن اليوم ننسبها إلى العالم الثالث، ومع أحداث وموضوعات لم يكن ليستطيع ماركس أن يتنبأ بها. والنتيجة هي أن وولف من ناحية صاغ رؤية شاملة على المستويين: الأكبر للحياة البشرية، أي النسق العالمي، والأصغر، أي حياة الأسر والمجتمعات المحلية. وليس للمرء أن يبحث لديه عن فهمٍ لأبعاد أخرى لها نفس النفوذ والتأثير، مثل الأبعاد الدينية أو اللغوية أو الفنية. وهو لا يعطي مساحة كبيرة لمعالجة قوَى القومية والعرقية، وقد كان لهما تأثيرهما القوي في وعيِنا الجمعي وقتما كنت أكتب هذا الكتاب. ولنا أن نقول في هذه الحدود: إن وولف يقدم صياغة جديدة مقنعة لأفكار ماركس التاريخية، من أجل استخدامها في مجال الأنثروبولوجيا، كما يعرض إجابة مفحِمة عن المعضلات التي أثارتها مفاهيم الثقافات الثابتة المتكاملة غير المتحولة. وهذا الإنجاز الأخير هو الذي سوف أركز عليه.

يطرح وولف فكرته الأساسية على النحو التالي:
«الغالبية العظمى من الجماعات التي درسها علماء الأنثروبولوجيا وقعت أسيرة تحولات فرضها عليها التوسع الأوروبي، كما أسهمت هي أيضًا في هذه التحولات … وهكذا نحن بحاجة إلى الكشف عن تاريخ «الشعوب التي ليس لها تاريخ» — التواريخ الفاعلة «للبدائيين» من المزارعين والعمال والمهاجرين والأقليات المحصورة.»13
ويستطرد قائلًا: «إذا كان التمايز الاجتماعي والثقافي والاستقلال المتبادل سمة عامة للنوع البشري، فإن لنا أن نتوقع أن نجد هذه السمة بسهولةٍ شديدةٍ ماثلة بين من نسميهم البدائيين أو «الشعوب التي ليس لها تاريخ»، والتي نفترض أنها معزولةٌ عن العالم الخارجي وعن بعضها البعض.»14
ويعكس هذا رأيًا عرضته بنيديكت التي كتبت تقول:
«على الرغم من العزلة النسبية لكثير من المناطق البدائية إلا أنها قضت قرونًا تصوغ الأفكار الثقافية الرئيسية التي أضحت أفكارها هي. إنها تقدم لنا في صورة جاهزة المعلومات الضرورية بشأن التباينات الكبرى المحتملة في مظاهر التكيف البشري، كما أن من اللازم تمامًا عمل دراسة نقدية فاحصة لها وصولًا إلى فهم كامل للعمليات الثقافية.»15
ولكن وولف يسوق حججه مؤكدًا العكس، قائلًا بأنه لم تكن هناك في واقع الأمر عزلة نسبية أو غير نسبية. ويطرح علينا المثال التالي الخاص بتجارة العبيد:
«نظرًا لأن تجار العبيد الأوروبيين كانوا فقط ينقلون العبيد من الساحل الأفريقي إلى مناطق الوصول المستهدفة في الأمريكتين، فقد كان الجانب الخاص بالتوريد التجاري موجودًا كله بين أيدي الأفارقة. كان هذا هو «الأساس الأفريقي» الذي أقيم فوقه «بكلمات المفكر البريطاني صاحب النزعة التجارية مالاكي بوستلثوايت: البناء الفوقي العظيم للتجارة الأمريكية وللقوة البحرية». إن السكان في مناطق الساحل الأفريقي ابتداء من سينيغامبيا Senegambia أفريقيا وحتى أنجولا، ينخرطون دفعات وراء دفعات في هذه التجارة التي توسعت أفرغها بعيدًا داخل البلاد، وأثرت في الناس الذين ربما لم يروا في حياتهم تاجرًا أوروبيًّا على الساحل. وإن أي رواية جاءت على لسان كرو أو فانتي أو أسانتي أو إيجاو أو أيجبو أو كونجو أو لوبا أو لوندا أو نجولا، والتي تصف كل جماعة بأنها «قبيلة» مكتفية بنفسها إنما تُخطئ في قراءة الماضي الأفريقي والحاضر الأفريقي على السواء.»16

والملاحظ حتى الآن، أن كتاب «أوروبا وشعوب ليس لها تاريخ» إنما يصبُّ القسط الأكبر من اهتمامه لكي يعرض مناطق العالم الواحدة تلو الأخرى، موضحًا أن الجماعات البشرية التي بدت لنا في ظاهرها منعزلة ومحلية وغير متأثرة بشيء خارجي إنما اندمجت في واقع الأمر وبعمق في نظامٍ عالميٍّ متعاظم للتجارة والاستعمار وممارسة السلطة الإمبريالية. ورأى من الملائم لموضوع بحثه أن يتخذ عام ١٤٠٠م، أي قبل الرحلات الاستكشافية الكبرى، بداية لتاريخ العالم، أو على الأقل بداية لهذا الجزء من التاريخ العالمي، والذي يعنيه هو كثيرًا؛ لذلك فإن علماء الأنثروبولوجيا حين ظهروا على المسرح بعد ذلك بأربعة أو خمسة قرون وجدوا عالمًا ليس بالعالم القديم أو البِكر الذي لم يُمس، أو البدائي المنعزل؛ بل وجدوا عالمًا صاغته عمليات تفاعل طويلة الأمد وواسعة النطاق مع ذات المجتمعات التي وفد منها علماء الأنثروبولوجيا.

ويؤكد أيضًا أنه لا يوجد مجتمع معروف لنا باقٍ على بدائيته الأولى وبِكر لم يمس، وأنه نتاج تاريخه الخاص وحده. إن جميع المجتمعات البشرية التي نملك تسجيلات عنها هي مجتمعات من الدرجة الثانية؛ بل غالبًا ما تكون من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. وإن التغير الثقافي أو التطور الثقافي لا يؤثر في مجتمعات منعزلة، بل يؤثر دائمًا وأبدًا في نُظُم متداخلة؛ حيث تكون المجتمعات مترابطة بدرجات وأشكال مختلفة داخل «مجالات اجتماعية» أوسع.17 ويستخدم وولف هنا صورًا لأشياء صلبة صماء، ولكن لكي يصف وجهة النظر التي يرفضها؛ إذ يقول: «نحن حين نُضفي على الأمم أو المجتمعات أو الثقافات صفات باعتبارها موضوعات متجانسة داخليًّا، ومتمايزة ومحددة خارجيًّا إنما نختلق نموذجًا للعالم يصوره وكأنه طاولة عالمية لكُرات البلياردو، حيث كياناتٌ تدور وتدوم فوقها، وكل واحدة مستقلة عن الأخرى شأن كرات البلياردو المستديرة الصلبة الصماء، وهكذا يبدو يسيرًا علينا أن نفرز العالم وكأنه مؤلف من كرات ملونة مختلفة عن بعضها البعض.»18
وثمة دلالة أخرى لمفهوم «شعوب ليس لها تاريخ»:
«تعلمنا داخل قاعة الدرس وخارجها أن ثمة كيانًا اسمه الغرب، وأن للمرء أن يرى هذا الغرب في صورة مجتمع وحضارة مستقلَّين ومعارضَين لمجتمعات وحضارات أخرى … أنجبت اليونان القديمة روما، وأنجبت روما أوروبا المسيحية، وأنجبت أوروبا المسيحية النهضة، وأفضت النهضة إلى التنوير، وتولدت عن التنوير الديمقراطية السياسية والثورة الصناعية. وتداخلت الصناعة مع الديمقراطية لتُثمرا بدورهما الولايات المتحدة … (إنها) قصة نجاح معنوي، وسباق على مدى الزمن حيث سلم كل عدَّاء في السباق شعلة الحرية إلى المرحلة التالية، وإذا كان التاريخ هو صياغة هدف في إطار الزمان، إذن فإن أولئك الذين يطالبون بهذا الهدف لأنفسهم هم، بناء على هذه الحقيقة، القوى القادرة على التنبؤ بالتاريخ.»19

بعبارة أخرى، إن أولئك الذين ليس لهم تاريخ، البدائيين المعزولين، يمكن أن يكونوا، بناء على هذه النظرة المقبولة عادة، عاطلين من أي هدفٍ معنويٍّ. علاوة على هذا، يمكن القول: إنه لم يكن لهم تأثير في حيواتهم ومصيرهم؛ ذلك لأن العنصر النشط الوحيد على المدى الطويل هو الحضارة، التي تندفع الآن نحوهم في تطورها المستقل. لقد كانوا سلبيين خاملين، في انتظار من يكتشفهم؛ ولكن وولف يؤكد العكس، موضحًا أن جميع الشعوب أينما كانوا لهم يد في تقرير مصيرهم، وأنهم ليسوا مجرد عناصر قابلة؛ بل وفاعلة أيضًا.

وهكذا، فإن رؤية التنوع التي يتبناها وولف هي رؤيةٌ تشدد على العلاقة بين الشعوب أو بين قطاعات السكان:
«إن القضية المحورية التي يؤكدها هذا الكتاب هي أن عالم البشر يؤلف وحدة كلية متنوعة، شاملة لعمليات مترابطة؛ بحيث إن أي حركةٍ في إحداها تؤثر فيما عداها، وشاملة لمباحثَ من شأنها أن تفكك هذه الوحدة الكلية إلى أجزاء، وإن الفشل في إعادة تجميعها من شأنه أن يزيف الحقيقة. ومن ثم فإن مفاهيم مثل «الأمة» و«المجتمع» و«الثقافة» إنما تسمى أجزاءً، وتنطوي على خطر تحويل الأسماء إلى أشياء. ولكن فقط إذا فهمنا هذه الأسماء باعتبارها حزمًا من علاقات ورددناها إلى المجال الذي جردناها منه، فإن لنا بذلك أن نأمل في تجنب الاستدلالات المضللة، وأن نضاعف من نصيبنا في الفهم.»20
وإذا قارنَّا هذه النظرة إلى التنوع بالقوس الأعظم عند بنيديكت، نجد أنها تضعنا في وقت واحد أمام بؤرة اهتمام مغايرة، وتقتضي زيادة في الدقة … وسوف تتغير البؤرة، إذا جاز التعبير، من مراكز الثقافات والمجتمعات إلى الأُطُر المحيطة بها وإلى العلاقات بينها، ومن الوصف «الاستاتيكي» أو السكوني بدرجة أو بأخرى لخصائصهما إلى وصف دينامي للعمليات المتداخلة فيها. مثال ذلك أن وولف يحدد «المجتمعات» بأنها تكتلات متغيرة من الفرق والقطاعات والفئات الاجتماعية، والتي من دون أي منها، تكون حدودًا ثابتة أو تكوينات داخلية مستقرة.21 وهذه نظرة بعيدة كل البعد عن نظرة رادكليف-براون إلى المجتمع، وتجعل من المجتمع شيئًا أقل شبهًا بالموضوع الخارجي وأكثر شبهًا بالحدث أو سلسلة الأحداث. ويعالج وولف الثقافة بطريقة مماثلة؛ إنه يسميها «سلسلة عمليات تبني وتعيد بناء وتفكك مواد ثقافية» (مثل القيم الاجتماعية أو سبل تقسيم العالم إلى الفئات). وإذا ما تخيلنا الصورة التي قدمتها بنيديكت باعتبار أن منطلقها خبرة تأمل لمجموعة موضوعات داخل متحف، فإن الصورة التي يطرحها وولف أكثر شبهًا بالصورة السينمائية كما يتخيلها عاشق السينما.
واستلزمت دقة وولف القيام بعمليتي تفكيك وإعادة تجميع. إنه لا يرفض المصطلحات القديمة كيفما اتفق؛ بل يراها، على أصح تقدير، أداة، أو لعل الأوفق أن نقول مرحلة على طريق الوصول إلى المنتج النهائي وهو الفهم. ويغدو من الأهمية بمكان من ناحية تفكيك النسق الدينامي الشامل، وبيان كيف تعمل «المجتمعات» أو «الثقافات» كلٌّ على حدة. وهذا هو السبب في أن نظرة وولف، وكذا نظرتي التي أتبناها هنا، لا ترفض الجهد التجميعي العظيم الذي أنجزته الإثنوجرافيا وتحقق على أيدي علماء الأنثروبولوجيا؛ بيد أن خطوة التفكيك هذه لا بد أن تتبعها عملية إعادة تجميع؛ بحيث نرى في النهاية — بنص العبارة التي أقتبسها من ألكسندر ليسر — المجتمعات وكأنها «أنساق مفتوحة … متداخلة على نحو معقدٍ لا فكاك منه مع تجمعات أخرى، قريبة وبعيدة في صورة نسيج وروابط شبكية.»22 وإن الكثير من المجتمعات التي فككها علماء الأنثروبولوجيا لا تزال تنتظر عملية إعادة التجميع، وبيانًا يوضح كيف نشأت وكيف تحولت في صورة «نسيج وروابط شبكية» شاملة حياتنا البشرية على أوسع نطاق.
ومن ثم فإن النسق الذي يُعاد تجميعه، وهو في خاتمة المطاف النسق العالمي في شموله، هو نسق علاقات. وجدير بالذكر أن وولف يتصور العلاقات بطريقة خاصة. إن لها قوة خاصة بها ومميزة لها.
«إن العلاقات من شأنها أن تخضع بناء البشر لأوامرها الملزمة، وتدفع الناس إلى مصفوفة اجتماعية، وتضفي غائية على المصفوفات الناشئة. والعلاقات الرئيسية … تُضفي قوة على النشاط الإنساني وتنفث فيه حياة، وتدفع به قُدمًا إلى الأمام، وكما قال ماركس إن الناس يصنعون تاريخهم؛ ولكنهم يصنعونه في ظل ظروفٍ ليست من اختيارهم هم. إنهم يفعلون ذلك تحت ضغط العلاقات والقوى التي توجه إراداتهم ورغباتهم.»23

وسبق لي أن ذكرت أن وولف استخدم مثال تجارة العبيد ليوضح المعنى الذي يقصده من ذلك. ولا ريب في أن العبيد قد تأثروا، ولكن تأثرت أيضًا جميع المجتمعات الأخرى المتورطة في العبودية والاسترقاق، ابتداء من بريطانيا ذاتها وحتى الأمريكتين، وتجار العبيد الأفارقة الذين باعوا أفارقة آخرين للأوروبيين. وربما تورَّط كل فرد في ممارسة هذه التجارة، وتمثلت المحصلة النهائية في قوة تتجاوز طاقة أي فرد للسيطرة عليها، وهي قوةٌ تأخذ شكل علاقات بين الناس: بين الأسير والآسر، وكذا بين الأفريقي وتاجر العبيد الأوروبي، وبين تاجر العبيد وصاحب الضِّياع الزراعية في الأمريكتين. وواقع الحال أن هذه العلاقات التي أضحت الآن أكثر وضوحًا للباحثين الدارسين لمجتمعات شمال الأطلسي كانت أكثر من أن تُضاهي تعقدَ العلاقات في أفريقيا ذاتها وأثر هذه العلاقات. وأفضت هذه العلاقات إلى نشوء عمليات سلبٍ ونهبٍ جديدة، ودول مدجَّجة بالسلاح، وتأسيس تنظيمات متخصصة في مطاردة وصَيد العبيد، وافتراس المجتمعات التي لم تكن تملك مثل هذه التنظيمات الاجتماعية. ولقد اعتدنا منذ زمانٍ طويلٍ أن نعزوَ التغير الواسع النطاق إلى التكنولوجيا؛ مثل استخدام البنادق في أفريقيا. ولكن قبل أن نلوم التكنولوجيا نحن بحاجة أولًا إلى أن ننظر إلى العلاقات التي أضحت من خلالها صناعة البنادق، والتسلح بها، واستخدامها، أمرًا له أهميته ودوره؛ فالبنادق تستعبد الناس، ولكن الناس يستعبدون بعضهم بعضًا مستخدمين البنادق.

ولْيسمح لي القارئ بالعودة لحظة إلى قصة رامون. كانت بنيديكت على وعيٍ شديد بالعناصر المثيرة للرثاء في ورطته، غير أن دراستها الأنثروبولوجية عجزت، بالمعنى الدقيق للكلمة، عن وصفه أو فهمه.

إنه لم يكن يعيش في هذه الثقافة أو تلك، ولا في هذا المجتمع أو ذاك حسب وجهة نظرها؛ ذلك لأن صيغة فكر بنيديكت كانت تخضع فقط لمعايير كليات سكونية (استاتيكية)، وليس في العلاقات المتداخلة أو البَينيَّات in-betweens المفعمة حياة ونشاطًا. هذا بينما نجد فكر وولف على النقيض من ذلك؛ استهدف صراحة استيعاب وضع رامون. لقد استهدف فهم عملية الاستعمار، ورد السكان المواطنين من هنود أمريكا إلى حالة اجتماعية جديدة تحولوا فيها جزئيًّا إلى فئة، وتحولوا جزئيًّا أيضًا إلى جماعة عِرقية. وأصبح في مقدور وولف أن يصف لنا كيف دخل رامون في علاقاتٍ جديدةٍ؛ كأن يدخل في علاقات الدائن الزراعي وبائع السلع الزراعية في السوق. وأصبح في استطاعته كذلك أن يصف لنا أشكالًا جديدة من العلاقات الاجتماعية، نشأت بين رامون ورفاقه من الهنود الأمريكيين، وبات على استعداد في الأساس — وإن كان هذا في الحقيقة الجانب الأضعف والأقل صقلًا في كتابه — أن يوضح لنا كيف أن الشكل الثقافي الجديد للمسيحية أصبح مجاورًا وموازيًا للعقيدة الشامانية، أو لنَقُل: أصبح البديل الموازي أو الذي حلَّ محلها على مضض.

حياة متحورة

هذه هي خاتمة قصتي عن كيفية تحول مفهومنا عن التنوع البشري. ترى ما هو مغزى القصة؟ المغزى الأول أن الحياة البشرية بطبيعتها متحورةٌ. ومصطلح «متحورة» هنا هو مصطلح فني يستهدف التعبير عن الطبيعة التحولية الدائمة أبدًا للتجربة الإنسانية، وعن الصفة الزمنية المؤقتة التي تدخل في لُحمة وسدى جميع المؤسسات والعلاقات الإنسانية. والملاحظ أن نظرية أصداف البحر عند كل من بنيديكت ورادكليف-براون هي نقيض ذلك، إذ تُغفل الصفة الزمنية المؤقتة كما تغفل الطبيعة التحولية. ومن دواعي السخرية هنا أن مفهوم التنوع الثقافي الذي استشهدت عليه بنيديكت بمثال، إنما صاغته من بدايته الأولى حتى نهايته لتؤكد أن البشر يتحولون ويتباينون على نحو مذهلٍ يتجاوز المقتضيات المحدودة التي يفرضها الانتخاب الطبيعي.

بيد أنها هي وآخرين رفضوا، مثلها، منذ البداية أن يولوا اهتمامًا حقيقيًّا لحالات التباين، إذ لم يكن مفهوم الثقافة فقط مفهومًا لاتاريخيًّا ahistorical؛ بل كان في واقعه مناهضًا للتاريخ anti historical. إن كل ثقافة لها قوتها السببية وطبيعتها المحافظة، وتسِم بميسمها المميز كلَّ جيل وكل فرد بشريٍّ مبدع. والنتيجة، كما قلت في موضع آخر، أن الأنماط الاجتماعية والثقافية يكون لها في مثل هذه النظرية الطابع المحدد على نحو نهائي، بحيث تدع مجالًا محدودًا للغاية للإرادة أو المصادفة أو التغير، أو لتداخل وتشابك الظروف والملابسات. وهكذا يمكن القول، بصورة أو بأخرى، إن كل الأشياء تظهر إلى الوجود متماثلة في كل زمان. ومثل هذه النظرة غير التاريخية،24 كما لاحظ جي دي واي بيل J. D. Y Peel «لا تتسق مع مفهوم واقعي عن المجتمع وكيف يكون، وعن التجربة البشرية فيه؛ ذلك لأنها تلغي التغيير وحالة عدم الاكتمال والقدرة الكامنة المحتملة والذكريات والنوايا؛ أي في كلمة واحدة: تلغي التاريخية.»25
والمغزى الثاني هو ذلك الذي حدده وولف بقوة: الحياة البشرية ذات طبيعةٍ سببيةٍ، وأن العلاقات بين البشر هي علة السببية، أو هي مصدر العلاقة السبيبة ونجد عرضًا أكثر قوة وإحكامًا لهذه النقطة في الصياغة التالية الجديدة، لبعض كلمات قالها موريس جودليير والتي سبق أن أثبتها في موضوع آخر: «الحقيقة هي ما يلي: الكائنات البشرية؛ على نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى، لا تقنع فقط بمجرد الحياة في علاقات؛ بل إنها تنتج (العلاقات) لكي تعيش. وتبتكر على مدى وجودها سُبلًا جديدة للفعل والفكر، لتفكر وتعمل سواء بالنسبة لبعضها البعض أو بالنسبة للطبيعة المحيطة بها؛ ومن ثم، فإن البشر ينتجون الثقافة ويخلقون التاريخ.»26

والعبارة التي شدَّد عليها جودليير والتي تقول إن البشر «ينتجون علاقاتهم (أو بنص كلامه ينتجون مجتمعاتهم) لكي يعيشوا» إنما تمضي شوطًا بعيدًا وصولًا إلى لب حجتي. إنها تحمل أولًا، وقبل كل شيء، معنى ماديًّا، يقضي بأن البشر لا يكتسبون عيشهم فرادى؛ بل على نحو جمعي. وهذه حقيقةٌ بديهية ماثلة في المجتمعات الحضرية المعاصرة، حيث يعتمد الناس بعضهم على بعض في سبيل جميع الحاجيات المادية الأساسية؛ ولكنها صادقة أيضًا بالنسبة لأبسط المجتمعات على المستوى التكنولوجي حسب السجل الإثنوجرافي. إن الاكتفاء الذاتي لم يكن ليعني أبدًا أن كل فرد يمكنه أن تكون له حياته المستقلة عن أي روابط مع الآخرين، وإنما تعني فقط أن جماعة ما يمكنها أن تعيش بفضل الجهود المشتركة المتكافلة.

كذلك فإن عبارة «لكي تعيش» أكثر ثراءً بما تحمله من معنى. فالناس يعيشون بفضل العلاقات القائمة بينهم حياة وجدانية وفكرية. إن الكلام الذي نتعلمه لا يكون له معنى في ضوء الآخرين الذين نتعلمه منهم، ونوجهه إليهم. وقيم السلوك التي نكتسبها تكون ذات معنى وقيمة فقط في منظور الآخرين، أو في تصورنا لمنظور الآخرين. والحقيقة أن الثقافة التي تعني هنا تمامًا العناصر الذهنية في الأساس، وأشكال المعارف والقيم التي نعيش بها وعليها، أو التي تعلمناها أو ابتدعناها إنما لا نعقلها إلا حين يستخدمها الناس وبالنسبة للآخرين. فالثقافات، بعبارة أخرى، تفترض مسبقًا وجود العلاقات.

وذهب وولف إلى أن العلاقات تؤثر في نطاقٍ واسعٍ؛ بحيث إنها تشكل بيئة، أي الظروف الأساسية التي تجري في ظلها الحياة. وهكذا نقول، على سبيل المثال: إن تجار العبيد في الدول الأفريقية القائمة على النهب، وكذا العبيد أنفسهم، واجهوا معًا بيئة خلقها الناس؛ ولكنهم على الرغم من هذا عايشوها كأمر مُسلَّمٍ به، وواقع لا مناص منه، ولا سبيل إلى اجتنابه. إن المجاعة الكبرى التي دهمت البنغال عام ١٩٤٣م، والتي راح ضحيتها ثلاثة ملايين نسمة إنما خلقها البشر وليس الطبيعة. وكذلك الجزء الأكبر من المجاعة في أفريقيا اليوم لها ذات الطابع: الناس يضارون بالحرب، والأسعار الباهظة وغير ذلك من مظاهر الفوضى التي هي من صنع الإنسان، وناتجة عن البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي صنعها الإنسان. ولهذا يكون البشر عرضة لأخطار الندرة؛ بل والتضور جوعًا. وإني آخذ مأخذ التسليم في جميع صفحات هذا الكتاب الاعتقاد بأن الناس — مقابل الطبيعة — أسباب واقعية، وإن من الأهمية بمكان بيان فعالية البشر كقوة سببية لكي نفهم الطبيعة البشرية.

بيد أنني أريد أن أؤكد بالحجة أن العلاقات البشرية أيضًا تنطوي على مظهر رائع جميلٍ في نطاق محدود. فإن من التغيرات المهمة في عالم البشر التي اطردت واقترنت بشكل أساسيٍّ بتجارة العبيد هي تصنيع بريطانيا. كذلك فإن الصادرات من السلع المصنعة إلى جزر الهند الغربية وإلى أفريقيا ساعدت على شحذ التنمية الصناعية. ويمكن لنا، اقتداء بأسلوب وولف، أن نتحدث عن القوى والظروف التي أفضت إلى ظهور الثورة الصناعية وتطور الطبقة العاملة في إنجلترا.

وإذا التزمنا بهذا النهج في حديثنا فلا بد من الإشارة إلى المستوى المميز للعلاقة السببية في الحياة البشرية، وقد تكون لغة الحديث عن هذه العلاقة السببية لغة غير شخصية، أي لا تكشف عن الفاعل، وقد تُلزمنا بالحديث عن الحركة داخل أنساق، أو عن أنماط أخرى أوسع نطاقًا؛ بيد أنه لا شيء من تلك التغيرات كان له أن يحدث لو أن البشر كانوا عاجزين عن إنجاز الأشكال الجديدة للعلاقة التي تجسدت في عمل المصنع، أو تجسدت بعد ذلك في الصورة المعدلة لهذا العمل والتي أسهمت فيها النقابات العمالية. لقد كان لزامًا على الناس أن يبتكروا هذه المؤسسات، وما كان في استطاعتهم أن يفعلوا ذلك إلا عن طريق صياغة علاقات جديدة. وأفضت صياغة هذه العلاقات بدورها إلى خلق مواقف متبادلة، ومقاصد متقابلة، وفهم — أو سوء فهم — متبادل بين كل طرف والطرف الآخر. وأريد هنا أن أستخدم كلمة «تفاعلي» للإشارة إلى هذا المظهر الجيد وهذه الطبيعة البنائية المتبادلة في حياة البشر.

السؤال مرة أخرى

السمات التحورية والسببية والتفاعلية: هذه سماتٌ بعيدة كل البعد عن طبيعة الحياة البشرية على النحو الذي صورته بنيديكت أو رادكليف-براون؛ بيد أن هذه السمات ليست بديلًا كاملًا عن تلك الأفكار السابقة بقدر ما تسبغ عليها ظلالًا لمدلولات جديدة. ونقول ما قاله وولف: إن الأمر يتعلق بعمليتي التفكيك وإعادة التركيب. إذ لو كانت بنيديكت سألت عن التنوع لقرأت الوقائع أمامها على النحو التالي: إذا سلَّمنا بتنوع الثقافات التقليدية المتمايزة والمحددة داخل أُطُر واضحة تمامًا؛ فما هو الشيء الصادق والأصيل بالضرورة بالنسبة للبشر بعامة؟ نحن لا نستطيع أن نفكر دون مفهوم التمايز؛ ذلك لأن الشيء الأساسي الذي أكده تاريخ العالم منذ وقت كتابتها لبحوثها هو أهمية هذا المفهوم على الرغم من كل ما كان يمكن لها أن تتوقعه. ولكن باعتبارها عالمة أنثروبولوجيا تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من مجتمعات الهنود الأمريكيين؛ لذا حاولت إعادة بناء تصور عن الحالة السابقة للمجتمعات وللثقافات التي تحولت فعلًا، متناسية الماضي السابق على حقبة الاستعمار. وبعدها بجيلين عايش علماء الأنثروبولوجيا عملية خلق وإعادة خلق هويات اجتماعية وثقافية جديدة، سواء وسط جماعات عرقية داخل الولايات المتحدة أو في بلدان مثل إيران الثورة أو بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. وكما أشار أولف هانرز منذ عهدٍ قريب فإن «النظام العالمي» لا يخلق انسجامًا ثقافيًّا عامًّا على مستوى العالم؛ بل نراه بدلًا من ذلك يحل تنوعًا محل تنوع آخر. ونرى التنوع الجديد أكثر اعتمادًا نسبيًّا على العلاقات المتبادلة، وأقل اعتمادًا على الاستقلال الذاتي.27

وهكذا، فبعد أن فككنا فيض الحياة البشرية لنُبيِّن التمايز، بات لزامًا أن نعيد تركيبه دون الحدود الواضحة أو التقليد الذي لا يتغير. والسؤال الذي يجب أن نسأله عن هذه الحيوانات ذات الطبيعة الخاصة هو سؤال لا يسمح لها فقط بأن تتخذ شكلًا مميزًا للحياة له صور متمايزة من العلاقة؛ بل وأن تصوغ أيضًا أشكالًا جديدة، وأن تشارك في فيض حركة التاريخ. إذ يجب أن نبدل السؤال:

مع التسليم بتنوع أشكال حياة البشر، ما هو بالضرورة الشيء الصادق والأصيل في البشر عمومًا؟

بالسؤال التالي:

مع التسليم بخلق وتحور وإعادة خلق أشكالٍ متنوعة للحياة، فما هو الشيء الصادق والأصيل في البشر عمومًا؟

لقد تصورنا أن البشر ما هم إلَّا حيوانات لها ثقافات، ولهذا أجبنا عن السؤال الأول بقولنا إنهم حيوانات عاقلة مبدعة وقابلة للتعلم، وهم سلبيون إزاء ثقل وطأة التراث، ومتطابقون معه؛ بيد أننا الآن نرى أن البشر أيضًا قوة فاعلة، إنهم كذلك حيوانات ذات تاريخٍ. إنهم حيوانات اجتماعية في الأساس وقادرة على الابتكار، يحيون في العلاقات بين بعضهم والبعض الآخر وبفضل هذه العلاقات، ولهم استجاباتهم وردود أفعالهم إزاء بعضهم البعض، بغية صنع علاقاتٍ جديدة وأشكال جديدة للحياة. وهكذا أصبح الآن كل من السؤال والجواب أكثر صعوبة بكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤