الفصل الثالث

بداية التاريخ

ما الذي جرى للبشر وأدى بهم إلى كتابة التاريخ؟ يقول جانانات أوبيسكير إن هذا سؤال أنطولوجي، بمعنى أنه سؤال عن حقيقة واقع الحال وما هو موجود، وعما هو كامن، بنص كلماته، في «الأساس المبهم» للطبيعة البشرية.1 إذ في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كانت السلالات هي الموجودات الحقيقية في رأي علماء الأنثروبولوجيا الطبيعيين خصوم فرانز باوس. وذهب هؤلاء إلى أن السلالات هي جذر (ما افترضوا أنه الواقع) الفوارق الخاصة بالقدرة العقلية والأخلاقية بين الجماعات. غير أن باوس وتلامذته رفضوا بشدة فكرة السلالات، وطرحوا بيانًا مغايرًا عما هو واقع: المرونة البشرية والثقافات.
بيد أنني أطرح هنا أنطولوجيا أخرى، أنطولوجيا تبادلية، تؤكد على «روح المعاشرة الاجتماعية»، والتي أضع لها الآن تعريفًا مؤقتًا بأنها القدرة على أداء السلوك الاجتماعي المعقد. إن الكثير من الأنواع، خاصة الرئيسات الاجتماعية، لها صورتها الخاصة بها من هذه القدرة؛ ولكن روح المعاشرة الاجتماعية، أو الروح الاجتماعية Sociality عند البشر تتجلى واضحةً؛ نظرًا لأننا نشارك في أشكال للحياة شديدة التنوع والتعقيد. وليس هدفي هنا إبدال فكرة الثقافة مثلما حلَّت الثقافة عن حق محلَّ فكرة السلالة المرذولة؛ بل هدفي تغيير مناط التأكيد؛ ومن ثم فإنني أؤكد، في المقابل، بأن كون الأفراد يعيشون في علاقات، وكذا الطابع التفاعلي للحياة الاجتماعية، هي أمورٌ أهم قليلًا وأكثر واقعيةً من تلك الأشياء الموسومة بالثقافة؛ إذ تذهب نظرية الثقافة إلى أن الناس يفعلون ما يفعلون من أشياء بسبب ثقافتهم. ولكن تأسيسًا على نظرية روح المعاشرة الاجتماعية، فإن الناس يفعلون ما يفعلون من أشياء عن طريق استخدامهم الوسائل التي يمكن أن نصفها، إذا شئنا ذلك، بأنها أشياء ثقافية، وذلك من أجل بعضهم البعض، وبالتعاون مع بعضهم البعض، وفيما يختص ببعضهم البعض.

إن أهمية مفهوم الروح الاجتماعية تنبع جزئيًّا من قدرة المفهوم على أن يصحح هدفًا تضمنته فكرة الثقافة ولم يتحقق. لقد أكد علماء الأنثروبولوجيا في البداية، من ناحية، على أن الثقافة عامةً منهلٌ مشترك يتقاسمه الجميع. وتمَّ التسليم، في هذه الحدود، بأن الثقافة شأن اجتماعي؛ ولكن هذا التسليم في واقع الحال نزعٌ إلى التوقف في موضع قلق عند منتصف الطريق، وهو موضعٌ عاجز حتى الآن عن الإدراك الكامل للطبيعة الاجتماعية للبشر من حيثُ هم نوعٌ؛ فضلًا عن أنه أخفق تمامًا في التسليم، بأن البشر في المقام الأول يرتبطون ببعضهم البعض وليس بالثقافة في صيغة مجردة.

والمشكلة مشكلةٌ قديمة، ألحَّت على كلٍّ من علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا. ولنتأمل على سيبل المثال هذا القول المأثور عن عالم الأنثروبولوجيا المعاصر، المعني بدراسة الثقافة، كليفورد جيرتز إذ يقول: «الجهاز العصبي للإنسان لا يُمكِّن الإنسان فقط من اكتساب الثقافة، وإنما يستلزم منه بالضرورة أن يفعل ذلك إذا كان لا بد له أن يؤدي وظيفته في الأساس.»2 والتأكيد هنا على العلاقة بين فرد صيغت صورته على نحوٍ مجرد ومثالي وبين التجريد الآخر، أي الثقافة. إذ لا شيء آخر، ولا أحد آخر يتدخل ويكون له تأثيره. وثمة رأي خاطئ بنفس القدر صاغه منذ جيلين مضَيَا عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا مارسيل موسى إذ قال: «إن إسهام التصورات الجمعية (أي الثقافة) … إسهام كبير جدًّا … بحيث تراودنا أحيانًا رغبة في أن نحتفظ لأنفسنا (علماء الاجتماع) بجميع البحوث المتعلقة بهذه القطاعات العليا للوعي الفردي.»3

ولعل المشكلة تبدو لنا أكثر وضوحًا في هذه الفقرة المليئة بالمحسنات البديعية التي اقتبسناها من خطاب ليزلي هوايت بمناسبة تولِّيه السلطة رئيسًا للرابطة الأمريكية للدراسات الأنثروبولوجية عام ١٩٥٨م.

وهكذا أقام الإنسان (بالرموز والمعاني الثقافية) عالمًا جديدًا يعيش فيه. إنه يقينًا لا يزال يطأ الأرض، وقد أحسَّ بالريح تصفع وجنتيه، أو سمعها تتنهد بين أشجار الصنوبر، وشرب من جداول الماء، ونام ملتحفًا بنجوم السماء، واستيقظ يُحَيي الشمس في الصباح؛ ولكنها ليست ذات الشمس! فلا شيء هو ذاته أبدًا. كل شيء اغتسل بنور السماء، وانطبعت على كل راحات الأيدي «علامات الخلود». لم يكن الماء أبدًا شيئًا لمجرد إطفاء الظمأ؛ إنها تُضفي على الحياة طابع السَّرمدية. وامتد بين الإنسان والطبيعة حجاب الثقافة، ولم يعد الإنسان يرى شيئًا إلا عبر هذا الحجاب … ومن ثم أصبح النفاذ إلى كل شيء هو جوهر الكلمات، المعاني والقيم الكامنة وراء الأحاسيس. وقادت خطاهُ هذه المعاني والقيم — علاوة على حواسه — التي غالبًا ما كانت لها الأسبقية عليها.4
وتأسيسًا على هذا العرض، فإن قسمات النوع الإنساني الوحيدة ذات الدلالة والتي تشكل الواقع الحقيقي الوحيد تشتمل على: (١) كل فردٍ بمفرده وحيدًا. و(٢) عالم الموضوعات. و(٣) ذلك الموضوع اللامادي، أي ذلك الحجاب الفاصل بينهما وهو الثقافة. ومن ثم ربما كان من المستصوب لسبب ما إيجاز حجم تعقُّد الخبرة الفعلية. ويمكن لعالم النفس، على سبيل المثال، أن يستخدم هذه الأفكار ليُمايزَ بين إدراك الإنسان والحيوان؛ بيد أننا إذا ما استعدنا ما سبق أن أوجزناه فإننا نرى شيئًا أشد تعقيدًا بكثير. البشر يعيشون داخل شبكة هائلة من العلاقات مع بعضهم البعض، ويبذلون الجهد المشترك في سبيل فهم العالم الطبيعي والتعامل معه. وحسب هذا المنظور فإن الثقافة، أو ما أسماه علماء الاجتماع الفرنسيون التصورات التمثيلية الجمعية Collective Representations، قائمة في هذه العلاقات ومن خلالها، وأنه لا سبيل إلى الفصل بين أهمية ودلالة التصورات الجمعية؛ وبين العلاقات.

وليس مستصوبًا كذلك النظر إلى الثقافة أو إلى التصورات الجمعية باعتبارها موضوعًا ما يكون الناس على علاقة به. فقد سبق استخدام هذا الافتراض على هذا النحو بوضع التصورات الثقافية في الصدارة، بحيث نبدأ من خلالها في إدراك أوجه التمايز بين سبل الحياة بطريقة غير مبهمةٍ؛ ولكن إذ نرُد التعبيرات الرمزية إلى وضعها الفعلي يظهر أمامنا نمط أشد صقلًا؛ فالتصورات الجمعية تكتسب أهميتها ودلالتها عندما يستخدمها الناس في علاقاتهم ببعضهم البعض، ولا أحد منهم بمنأى عن هذا الاستخدام. وأهمية هذه التصورات أنها تُذكرنا بإطار قد نرى فيه التغير أمرًا طبيعيًّا، ونعني به إطار الحياة الاجتماعية الفعلية بكل ما فيه من سيولة وعدم يقين وتفسيرات صحيحة وتفسيرات خاطئة، وبكل ما يتم إنجازه فيها من تواصل بجهد جهيدٍ، وما فيها من ابتكارات مستهدفة أو غير مقصودةٍ. ونحن ما دمنا نفكر في البشر باعتبارهم مجرد أفراد خاضعين لوجود جمعيٍّ أو خاضعين لإعمال عقل طليقٍ غير مجسد، فإن التغير من النوع الذي يؤكده بجلاء التاريخ البشري يبدو شديد الغرابة عَسِرَ الفهم. وثمة نظرة اجتماعية أكثر شمولًا تضع التغير، وليس الدوام، محورًا لنظرتنا.

متطلبات داروينية

أطرح الآن فكرة عامة عن كيف نشأت وتطورت روح المعاشرة الاجتماعية. وأقول «فكرة عامة» لأنني لن أحاول ربط هذه الأفكار بقوة، بأزمنة وأمكنة خاصة في إطار سرد تاريخيٍّ فعلي للتطور البشري. وسبب ذلك — جزئيًّا — أن المعلومات المباشرة المتوافرة الآن حول التطور البشري — وهي أساسًا معلومات مستقاة من المكتشفات الحفرية والأركيولوجية — عامة ومجملة إلى حدٍّ كبيرٍ؛ بحيث لا تكفي لدعم مثل هذا السرد. وكم هو عسير الآن أن نستنتج عن ثقة دقائق السلوك الاجتماعي والصفات الذهنية من خلال دراستنا للعظام والصخور؛ ولكن هناك أنواعًا أخرى من الشواهد والبينات. بينات يغلب عليها الطابع غير المباشر مستمدة ابتداء من مجالات كثيرة، من دراسة سلوك الرئيسات وحتى سيكولوجية المعرفة. وتستلزم هذه البينات قدرًا هائلًا من عمليات الاستدلال؛ ولكن لها على أقل تقدير ميزة الثراء والتنوع. وتطرح علينا الآن نظرة جديدة نسبيًّا ومغايرة إلى حدٍّ كبيرٍ عن التطور البشري، بالقياس إلى تلك النظرة التي ظلت مهيمنة حتى الآن على الأنثروبولوجيا البيولوجية.

ليس لنا عادة أن نتوقع التوصل إلى فهم أنثروبولوجي اجتماعي ثقافي مُتَّسقٍ أو متكافئ مع فهم بيولوجي. ومن ثم فقد اتصل النزاع بين باوس وعلماء الأنثروبولوجيا الطبيعيين في عصره بشأن قضايا مختلفة. واستمر الخلاف حتى الآن، وسوف يستمر بشأنها خلال القرن الحادي والعشرين. حقًّا إن أحد المكونات المهمة للهوية الجمعية للأنثروبولوجيا الثقافية في أمريكا — وسارت حذوها الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية في هذا المجال — إنما نجَم عن الرفض العنيد للتفسيرات البيولوجية والتطورية للسلوك البشري. وهذه سجالات تتسم بالمرارة والتشدد، وتقف شاهدًا على أنه من الصعوبة بمكان أن نكتب أو نقرأ عن مثل هذه الموضوعات بهدوءٍ أو وضوح.

بيد أنني أعتقد أن بالإمكان التوفيق بين المنظورين على نحوٍ مثمرٍ. إنني آمل في الحقيقة أن أوضح أن بالإمكان التوفيق بينهما حتى إن التزمنا بوصف روح المعاشرة الاجتماعية، تأسيسًا على نظرةٍ تطوريةٍ دقيقة ومتصلبة؛ بل وربما مثيرة للخوف. وقد يبدو هذا الوصف للوهلة الأولى غير متسقٍ تمامًا أو منافيًا كليةً للتفسير الذي عرضته حتى الآن عن علاقات الترابط المتبادلة بين البشر. والتحدي الذي يواجهنا هو أن نصوغ لغة بيولوجية فيما يختص بالكائنات الحية والجينات والتجمعات السكانية والانتخاب الطبيعي؛ بحيث تكون هذه اللغة مُتَّسقة مع لغة الأشخاص والعلاقات والمجتمعات والثقافات، وأولًا وقبل كل شيءٍ مع التاريخ. أو لعل الأفضل — لأن هذه هي حقيقة محور الموضوع — أن نبين بوضوح وحسم أين ينتهي استعمال لغة ما، وأين تبدأ اللغة الأخرى. إنني بعبارةٍ أخرى أقترح معاهدة سلم جديدة في منطقة الحدود بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية وبين البيولوجيا؛ ذلك لأن الذي نشأ وتطور هو قدرتنا على صنع التاريخ، وما إن حدث هذا حتى أصبح بالإمكان صناعة التاريخ دون تدخُّل عملية الانتخاب الطبيعي.

ولْيسمح لي القارئ بأن أبدأ بعبارة روح المعاشرة الاجتماعية ذاتها. إنني آثرت استخدامها بدلًا من عبارات أخرى مثل الذاتية؛ لأنها قيد الاستعمال بالفعل على لسان علماء البيولوجيا السلوكيين. إنها في واقع الأمر تُشكل حلقة الربط بين اللغتين؛ بل إنها تبدو في الحقيقة، وللنظرة الأولى، وكأنَّ لها مذاقًا سوسيولوجيًّا أو أنثروبولوجيًّا غالبًا. وها نحن، على سبيل المثال، نرى إي أو ويسلون يضع قائمة من عشر خصائص لروح المعاشرة الاجتماعية من بينها حجم الجماعة والتلاحم، والتوزع إلى وحداتٍ مستقلةٍ Compartmentalization، وتباين الأدوار والتوزيع الديموجرافي … إلخ.5 وتأسيسًا على هذا الاستعمال، فإن وصف روح المعاشرة الاجتماعية لنوع أو لتجمع سكاني من الحيوانات يعني وصف مجتمعه، وإن جاء الوصف في إطار محدود.
إن ما أهدف إليه هو أن أدعم مفهوم الروح الاجتماعية. وأحد اختياراتي أن أجعله يغتني أكثر بالمحتوى السوسيولوجي؛ إذ يمكن لنا، على سبيل المثال، أن نؤكد على أن الشيء المهم كذلك فيما بين الرئيسات نوعُ التفاعل فيما بينها، وتعقد هذا التفاعل. بيد أنني سأتخذ وِجهة عكسية؛ ذلك أنني سأجعله أكثر ثراءً بالمحتوى البيولوجي. وإنني أدفع بأن هذا الفهم لروح المعاشرة الاجتماعية أو الروح الاجتماعية ليس بيولوجيًّا بدرجة كافية، ومن ثَم فإنه، تحديدًا، ليس داروينيًّا بدرجة كافية. وإذا أردنا لمفهوم الروح الاجتماعية أن يكون ذا نفعٍ ما فلا بد أن يرتكز على وصفٍ تطوري دقيق. ويأخذ هذا الوصف الصورة التالية:

«الروح الاجتماعية سمة أو سمات موروثة تتجلى في أفراد الكائنات الحية، ويمكن أن نعزوَها آخر الأمر إلى حالات تواتر الجينات في التجمع السكاني الذي تنتمي إليه. وترسخت الروح الاجتماعية بفضل سريان فعالية الانتخاب الطبيعي بين ذلك التجمع السكاني.»

نلاحظ أولًا أن هذا يُضفي قدرًا من الغموض على المعنى البيولوجي للعبارة، أو هو على الأصح يؤكد حالة غموض موجودة بالفعل. ويستطيع المرء عادة أن يقول إن ثمة فارقًا من حيث الروحُ الاجتماعية بين الذئاب في كندا والذئاب في إسبانيا؛ أو بين قردة الشمبانزي في الغابة وغيرها في الأَسر، وها هنا تشير روح المعاشرة الاجتماعية إلى الشكل المحدد للحياة الاجتماعية بين تجمع سكاني أو آخر، ونجدها تنطوي على اعتراف بأن التجمعات المختلفة من نوعٍ حيوانيٍّ واحد، يمكن أن تكشف عن أنواع مختلفة من روح المعاشرة الاجتماعية.

ولكن عالم البيولوجيا بوسعه أيضًا التحدث عن الروح الاجتماعية لنوع ما — وليكن الأُسُود — مقابل نوع آخر — وليكن الفِيَلة. وعلى الرغم من إمكانية التسليم بأن كل واحدةٍ من هذه الروح الاجتماعية للمعاشرة، تشتمل علميًّا على سلسلة من الإمكانات، سوف تختلف السلسلة من نوع إلى آخر، ومن ثم يكون الحديث مستساغًا عن فوارقَ بين الأنواع من حيث الروحُ الاجتماعية. علاوة على هذا، فنظرًا لأن الروح الاجتماعية تقترن، حسب هذا المعنى، بنوع محدد؛ إذن لا بد أن تكون قابلة للتوالد والتكاثر. ويجب كذلك أن تكون بصورة ما منظمة وَفقًا لرموز شفرة جينية حتى تتجلى في سلوك تجمعات هذا النوع. هذه هي فكرتي عن الروح الاجتماعية التي أطرحها هنا، وأعتقد أنها نتيجة لازمة منطقيًّا عن أفكار وممارسات بيولوجية موجودة بالفعل.

ويتضمن هذا، علاوة على ما سبق، أن الروح الاجتماعية، حسب التعريف الموضح، لها تاريخ نشأةٍ وتطور. ويقول في هذا الصدد دانييل بولوك: «كان لا بد أن يظهر شيء جديد أصيل تمامًا على مدى الحقبة الخاصة بنا، مثلما كان لا بد أن يظهر شيء جديد وأصيل تمامًا خلال كل حقبة من الأحقاب السابقة للتاريخ الطبيعي.» وإن أقرب الأحقاب أو الفصول إلينا هي أحقاب الرئيسات الاجتماعية. ولقد كانت صور الروح الاجتماعية لديها قريبة الصلة بثدييات اجتماعية أخرى. واتصفت أحقاب الرئيسات الاجتماعية بالتعقد الشديد والتماثل الكبير من نواحٍ كثيرة مع الحقبة البشرية. ومن ثم فإن من الأفضل أن نرى «الشيء الجديد» باعتباره شيئًا مغايرًا عن مظاهر الروح الاجتماعية، عند كل من قردة الشمبانزي والبومبوس Bombos والغوريلَّا والبابون وغيرها من مراتب القِرَدة. وطبيعيٌّ أن هذه الحيوانات التي تجمع بينها قرابة النسب ليست أسلاف البشر، وإن جمعت بيننا وبينها علاقة؛ إذ إن لها سلسلة نَسَبها المميز الذي تطورت خلاله الروح الاجتماعية الخاصة بها. معنى هذا أن معرفتنا بالفصل السابق علينا هي معرفة غير مباشرة واستدلالية بالضرورة.

ويوضح لنا علم البيولوجيا الدارويني أن التطور يمكن أن يحدث بوسائل متباينة؛ بيد أنني سأفترض أن تغيرًا أساسيًّا جدًّا وبعيد الأثر تمامًا، مثل نشوء روح المعاشرة الاجتماعية البشرية، ما كان له أن يظهر إلا عن طريق الانتخاب الطبيعي. أو لِنَقُل بعبارة أخرى إنه ما كان ليظهرَ بفعل عمليات تطورية يغلب عليها الطابع العشوائي، كأن يحدث انحراف جيني عفوي، أو أن يقع حدث بسيط من أحداث التغير الوراثي. ومن ثم فإن السؤال هو كالآتي: ما دام البشر متشابهين جدًّا مع الأنواع الأخرى القريبة منهم؛ فما هي الميزة الانتخابية التي تميز بوضوحٍ الروح الاجتماعية عند البشر؟

وتفرض البيولوجيا التطورية أيضًا صيغة عامة يتعيَّن أن تأتي في إطارها الإجابة عن مثل هذا السؤال. إذ يجب أن توضح الإجابةُ كيف أن الكائنات التي تحمل هذه السمة — أو مجموع السمات كما هو مرجح في حالتنا — كانت هي الأكثر نجاحًا داخل التجمع السكاني من أفرادها. ومعيار النجاح محدد وواضح: أن الأجيال التالية من قطاع هذا النوع ستنجب عددًا أكبر من الأفراد الحاملين لهذه السمات، وعددًا أقل ممن لم يكتسبوها. ونظرًا لأن ما أتحدث عنه هنا هو القدرة على صياغة أشكال أكثر تعقيدًا وتنوعًا من الحياة الاجتماعية، إذن فإنني أرى من المستصوب أن نتحدث عن زيادة قوة الروح الاجتماعية بين هذا النوع أو ذاك من التجمع السكاني. بيد أن مثل هذه الحجة لا بد أن تقترن بتحذير أمان: إن هذه الزيادة في القوة هي في الأساس، من وجهة نظر تطورية، لا تختلف عن الزيادة في أنواع أخرى، كأن تحدث لها على سبيل المثال زيادة في طول الأنف أو حجم الخِصيتين. إننا لا نملك أسبابًا تطورية تجعلنا نزهو بأنفسنا كنوعٍ على سائر الأنواع الأخرى.

ولْيسمح لي القارئ بأن أُطلق تحذير أمان آخر. إن الأفكار التي صيغت في مفردات تطورية تداخلت مع الخيال الجمعي لمجتمعات شمال الأطلسي، واصطنعت لنفسها حياة مروعة بعيدة كل البعد، في أغلب الأحيان، عن استعمالاتها في البحوث البيولوجية المسئولة. وتوحي هذه الأفكار بوجود قوةٍ عضوية ذات سطوةٍ فاعلة وملزمة ومحتومة، ومنبثقة من وسط الجبلة الجرثومية الناقلة للوراثة ذات طبيعةٍ مبهمة، لتجبرنا كَرهًا على إتيان أفعال غير بشرية. إذ يُقال: «ليس الشيطان هو الذي وسوس لي بإتيان هذا الفعل»؛ بل «الجينات الموجودة في جبلتنا جعلتنا نفعله.» ووصل الأمر ببعض الكتاب إلى حد تصوير الجينات وكأنها أشبه بشياطين دقيقة الحجم مركبة داخل أجسامنا وتعمل دائمًا على جذب خيوط تحركنا بها.

ولكن الصورة التي أطرحها هنا جدُّ مختلفة وأكثر اتساقًا، حسب فهمي، مع ما تتحلى به النظرية الداروينية من دقة. إن روح المعاشرة الاجتماعية هي قدرةٌ وقوة كامنة. وهذه لا تغدو وجودًا واقعيًّا إلا عن طريق الحمل والولادة والنضج والنمو في بيئة ملائمة. فالجينات ذاتها ليست سوى جزءٍ من هذه العملية. وحسب منظور العملية في شمولها فإن هذه الجينات تؤلف بيانًا بالقدرات الكامنة لدى الفرد أكثر من كونها تخطيطًا أو إطارًا تخطيطيًّا لما يتعين أن يكون عليه الكائن الحي. وقد تعبر هذه القدرات الكامنة للجينات عن نفسها بطريقة مختلفة في البيئات المختلفة. وإن التسليم بصدق هذا الرأي بالنسبة للبشر والحيوانات الاجتماعية الأخرى يمثل في الحقيقة حجر الزاوية، بالنسبة لذات فكرة روح المعاشرة الاجتماعية، كما يستخدمها علماء البيولوجيا؛ ذلك لأنهم يسلمون بأن روح المعاشرة الاجتماعية قدرة طبيعية مرنة نسبيًّا أكثر منها ثابتة.

وهذه المرونة أساسية بالنسبة للأفكار التطورية، خاصة عند تطبيقها على البشر. وتتكشف لنا هذه المرونة في ضوء اختلاف النظرية الداروينية عن أساليب الفكر في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية؛ إنها لا تنصب على البشر كأشخاص، أي البشر كعناصر فاعلة مسئولة تحققت في الواقع وسط وضع اجتماعي؛ بل البشر من حيث هم فقط كائنات حية. إن النظرية التطورية، بعبارة أخرى، لا تدعي القدرة على بيان التفاصيل الكاملة حول الحياة البشرية في جميع أبعادها. وحيث إن هذه النظرية تحدثنا فقط عن البشر ككائنات حية؛ إذن فإن بالإمكان أن تتعايش مع مفاهيم وممارسات شديدة الاختلاف بشأن أشخاص البشر، والتي تُصاغ في ظروف تاريخية اجتماعية وثقافية مغايرة.

أودُّ أخيرًا أن أقول كلمة عن الانتخاب الطبيعي: إن الانتخاب الطبيعي كما أوضح إليوت سوبر، يمكن فهمه فهمًا صحيحًا باعتباره جماع قوًى مؤثرة على قطاع سكاني.6 وهذه القوى في جملتها ليست سوى البيئة التي تحيط بكل كائن حيٍّ من القطاع السكاني، حيث ينمو ويزدهر، أو يضعف ويفشل. والغالب الأعم أننا بطبيعة الحال نفهم البيئة باعتبارها وجودًا خارجيًّا بالنسبة للقطاع أو لتجمع السكان وكأنها تتألف من أنواع أخرى، وبيئة ومياه ومناخ … إلخ، ولكن الأمر مختلف في حالة الحيوانات الاجتماعية؛ إذ ثمة عامل آخر إضافي تزداد أهميته باطراد؛ ألا وهو الوضع الاجتماعي ذاته. ذلك أن رفاق كل فرد من الكائنات الحية التي يضمها قطاع سكاني، وكذا شكل التنظيم الاجتماعي الخاص بهذا القطاع، إنما يشكلون جميعًا جزءًا حيويًّا من البيئة المحيطة والمؤثرة في كل كائن حي داخل القطاع السكاني.

ونعرض فيما يلي صورة تخطيطية لبعض الأنماط الأساسية التي طرأت على تطور الروح الاجتماعية عند البشر. إن طرف النهاية هو النوع الفعلي للحياة الاجتماعية البشرية على نحو ما نعرفها الآن. وأيًّا كان ما حدث في السابق فلا بد أن يكون متساوقًا مع هذه النتيجة. ونحن يقينًا لسنا الذروة؛ ولكن نحن ما نحن عليه في هذا الطور. ونقطة البدء هي روح المعاشرة الاجتماعية عن أسلافنا من نسل الإنسان العاقل. ونحن لا نستطيع أن نتبين بوضوح وبشكل مباشر هذه الروح الاجتماعية؛ ولكن الدلائل والشواهد التي نستقيها من الرئيسات الاجتماعية غنيةٌ وكثيرة ومتنوعة، وتهيئ لنا أُسسًا مكينة للاستدلال.

المخطط العام الأساسي

ينبني تفكيري على ما ذهب إليه عالم النفس نيكولا همفري، الذي يؤكد أولية العقل الاجتماعي — أو ما أُسميه أنا روح المعاشرة الاجتماعية — عند البشر وفي تطور الرئيسات الاجتماعية. ويتمثل لب حجته فيما يلي:
«الرئيسات الاجتماعية كانت مطلبًا اقتضته طبيعة النظام الذي تخلقه هذه الرئيسات وتدعمه، لتكون كائنات تفكر وتقدر؛ إذ لا بد لها أن يكون بوسعها تقدير نتائج سلوكها، وتقدير السلوك المحتمل من الآخرين، وكذا تقدير ميزان المكاسب والخسائر، ويجري كل هذا في سياق يكون فيه الدليل على صدق تقديراتها دليلًا سريع الزوال وغامضًا ومتقلبًا. ولو بسبب تصرفاتها هي نفسها. وها هنا في مثل هذه الحالة تقترن «المهارة الاجتماعية» بالفكر أو العقل، ومن ثم تكون الملكات العقلية اللازمة هنا في نهاية المطاف هي الملكات الأرقى مرتبة.»7
ويؤكد همفري أن ميزة العقل في القدرة على التكيف المقترنة بروح المعاشرة الاجتماعية لا تكمن في الابتكار التقني. والملاحظ حتى في تلك الأنواع التي تمتلك أكثر التكنولوجيات تقدمًا (مثل قردة الشمبانزي من نوع الجومب Gombe التي درسَتْها جين جودال) أن الاختبارات كانت أساسًا من نوع اختبارات المعرفة وليست من نوع الاستدلال التخيلي. فالتقنيات إما أن تكون من نوع المحاولة والخطأ، وهي غير فعالة تمامًا، أو تقنيات يتم تعلُّمها من الآخرين. ويؤكد همفري على تقنيات التعلم من الآخرين. ويذهب إلى أن امتلاك التكنولوجيا افتُرض مقدمًا توافر ذكاء تقني بسيط؛ وذلك لأنه يتعين أن يكون التأكيد أكثر على اكتساب ودعم العلاقات الناجحة مع من هم أكبر سنًّا، باعتبار أن هذا مصدر الحصول على التقنيات وليس على ابتكار التقنيات. ومن ثم فإن المجتمع يؤدي دوره أولًا وأساسًا باعتباره نوعًا من «مدارس التقنيات الشاملة» ليعلم أفراده المهارات البسيطة اللازمة للبقاء. ويتيح المجتمع لصغاره فترة طويلة الأمد تتهيأ لهم فيها فرصة التجريب والتعلم وهم على اتصال مستمرٍّ بمعلميهم. ونظرًا لأن هذا نمط تكيفي نافع فإن الضغط الانتخابي سوف يكون في اتجاه دعم فترات كفالة أطول لمن هم في سنِّ الطفولة وعمر أطول للكبار.

ولكن نتيجة لتزايد تنوع الأعمار والمواقف النسبية سوف يتزايد تعقد المصالح المختلفة.

وهكذا بات المسح مُهَيأً داخل «المجتمع المحلي التعليمي» لحدوث نزاع سياسي كبير. وحتى يفيد المرء ويتصرف على نحو مُرضٍ مع الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي تتوقف عليه صلاحية المجتمع المحلي في نهاية المطاف، فإن هذا يستلزم منه قدرًا كبيرًا من حصافة الفكر (بالمعنى الحرفي والبلاغي للكلمة). ومن ثم ليس من قبيل المصادفة أن «البشر» الذين يعيشون أطول فترة للحضانة دون جميع الرئيسات الأخرى … ولهم أكثر هياكل النسب تعقدًا، وأوسع مظاهر التداخل بين الأجيال في المجتمع؛ هم الأكثر ذكاء من الشمبانزي، وأن قردة الشمبانزي، وللأسباب ذاتها، هي الأكثر ذكاء من قردة الكيركوبتسيد Cercopithecids.8

وأرجو أن يلحظ القارئ أن الفكرة الأساسية هنا، وهي أن الذكاء الاجتماعي باعتباره رأس الحربة في تطور الرئيسات الاجتماعية والإنسان العاقل، إنما يختلف اختلافًا مذهلًا عن الحكمة التي يجري تلقيها من كلٍّ من الأدب التعليمي السابق ومن الخيال الشعبي. ولنا أن نقول: إن هذه الحكمة المنقولة عن السلف تتضمن أحداثًا سابقة، اشتملت عليها «قصة النجاح المفترض» عن اليونان القديمة وأوروبا والديمقراطية الصناعية في الولايات المتحدة. واشتملت تلك الأحداث السابقة على توافر مخ أكبر للإنسان، والإبهام القادر على الحركة المتعرضة، واختراع الإنسان للنار والفأس الحجري. وقاده هذا مزهوًّا على طريق الانتصارات في مجال الإبداع التكنولوجي حتى وصل إلى الحاسوب (الكومبيوتر) الشخصي. ولكننا استنادًا إلى الفرض الذي قدمه همفري نريد أن نحكي قصة مغايرة تمامًا. إن بوسعنا أن ندهش — هذا إذا كان لنا أن ندهش أصلًا — ليس لضخامة عتاد التشغيل؛ بل بسبب شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعقدة تعقدًا لا سبيل إلى حصره، والقائمة بين الناس الذين أبدعوا ذلك الحاسوب وأوصلوه إلى الطاولة.

الذكاء الاجتماعي المعلم الثاني

تمتزج أفكار همفري في اتساق وتناغم مع أفكار أخرى داخل نهرٍ واسعٍ من البحث المتصل في مجالات التطور البشري، وعلم النفس، والإيكولوجيا السلوكية، وعلم اللغة الاجتماعي، والأنثروبولوجيا الاجتماعية؛ بل وأيضًا الفلسفة. لقد بات مستحيلًا الآن تحديد المسرح الإيكولوجي الأوسع الذي نشأت وتطورت عبره الروح الاجتماعية البشرية، على الرغم من بعض المقدمات الرائدة الواعدة. وليس بالإمكان كذلك أن نربط بطريقة مقنعة بين التطور الفكري والاجتماعي للإنسان وبين البينات والدلائل الحفرية (وهي كثيرة نسبيًّا). إن القصة الحقيقية التي تحكي لنا لماذا نشأت ثقافات لدى البشر، وهي القصة التي سوف تعود بالإجابة إلى مرحلة أسبق وإلى فترةٍ زمنيةٍ محددة لا تزال مراوغة، وسوف يظل أكثرها دائمًا خافيًا عنا. ولكن في ضوء البداية التي تحددت وآخر فصول القصة، يبدو أن ثمة خطوات معينة تمثل ضرورة منطقية. وسوف أحاول فيما يلي أن أجمع بعض البحوث في هذا الشأن وأوالف بينها؛ رغبةً في استكشاف بصيرة همفري النافذة.

الذكاء الاجتماعي والتقني

يشدد همفري على التمييز بين الذكاء الاجتماعي والذكاء التقني. وثمة دلائل تؤكد ما يقول. إن أحد الاحتمالات أن يكون الذكاء التقني موجودًا ولكن باعتباره فقط، وإلى درجة ما، نتاجًا غير مهم، مشتقًا من الذكاء الاجتماعي. ولهذا يؤكد توماس وين بما يسوقه من حجج أن قردة الشمبانزي في الحقبة الراهنة — مفترضًا أنها على أقل تقدير في مستوى ذكاء أسلافنا الأوائل — تتمتع بقدرة فكرية تؤهلها لصنع أبسط الأدوات الحجرية المكتشفة.9 ولكن من الواضح أنها لا تصنع مثل هذه الأدوات، على الرغم من أنها تستخدم بين الحين والآخر أدوات ذات طابعٍ مخصص، كأن تستخدم عيدان أعشاب جافة لاستخراج النمل البيض من جحوره، أو تستخدم قِطعًا من الحجارة لتكسير حبات البندق. وقد يفيد هذا بأن الذكاء الاجتماعي الذي بلغ درجة متطورة عالية عند قردة الشمبانزي كان في الحقيقة أهم بكثير في مسار تطورها. وهذه هي الحجة التي طبقها هنري كذلك على التطور البشري.
احتمال آخر هو أن الذكاء الاجتماعي والتقني مترابطان، بحيث إن نشوء وتطور الذكاء الاجتماعي أفضى تلقائيًّا إلى نشوء وتطور الذكاء التقني. وها هنا نجد الفيلسوف دانييل دنيت قد أكد أن شكلًا من أشكال الاستدلال الخاصة لفهم الناس يمكن أيضًا استخدامه على نحو مفيد؛ بل والاعتماد عليه بقوة أثناء تعاملنا مع العالم المادي. معنى هذا أن الذكاء الاجتماعي ينطوي على القدرة التي تسمح لنا بأن نعزوَ لآخرين صفات عقلية متباينة: خططهم ومواقفهم ونواياهم … إلخ، ونستطيع في هذا الإطار المحدود أن نقرأ العقول أو الأفكار؛ إن هذه ليست قدرة خفية؛ بل قدرة وليدة الحياة اليومية يجري استخدامها باستمرار كل يوم بغية إدراك ما يخطط له الآخرون، وما يفكرون فيه بقدر معقول من النجاح. وإن هذه القدرة، أو على الأصح هذا الوضع الخاص بالعقل، والذي يُسميه الموقف المضمر The Intentional Stance يسلم كبدهية، بأن الناس لها أهداف ومواقف عقلانية بدرجة أو بأخرى، وأنهم يخططون بُغية إنجاز تلك الأهداف، وأن تصرفاتهم تعكس حالاتهم الذهنية.10
ويؤكد دينت بعد ذلك أننا نستطيع أن نتبنى ما يسميه الموقف التخطيطي The Design Stance، والذي نفكر فيه بشأن الكيفية التي تعمل بها الأشياء تقنيًّا، أي كيف جرى تجميع أجزائها لتحقيق غرض ما؟ وكيف تلائم قطعة من أجزائه قطعة أخرى؟ وكيف يتعين أن يكون لهذه الأشياء شكل محدد؟

وكيف يحرك جزء منها جزءًا آخر؟ وهكذا. إن الموقف التخطيطي يتحقق دون أن نعزو إلى هذه الأشياء خططًا أو نوايا أو مواقف. وتمثل هذه جميعها وضعًا للذهن مكافئًا للذكاء التقني الخالص والبسيط.

جوهر الموضوع أن بالإمكان أن ندرك أشياء كثيرة يستهدفها الموقف التخطيطي، وأن نصفها بناء على الموقف المضمر كذلك. والموقف المضمر، كما يؤكد، هو منظور له، بالنسبة لنا على الأقل، قوةٌ فاعلة مميزة. إننا نكون في وضع مَوَات تمامًا حال قصور وفهم الأشياء، حتى إن كانت أشياء مادية، وذلك حين نعزو إليها نوايا أو خططًا. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أننا بحاجة واقعية للاعتقاد بأن الموضوعات غير الحية لها عقول. ونحن نعرف على سبيل المثال أن نجَّار الأثاث يحدثنا عن الخشب القديم بقوله «يريد أن ينفلق»؛ وكذلك الرسام يُحدثنا عن بعض الألوان فيقول «اللون يريد أن ينطق»، أو يقول عنه «لقد بلي وحان له أن يرحل». إنهم يقولون ذلك دون أن يساورهم يقينًا اعتقادٌ بأن الخشب أو اللون أشخاص واقعيون. ونحن بالأحرى نستخدم وضعًا ذهنيًّا تخصص مركز نشاطه الأصلي في عمل حسابات وتقديرات. حيث البرهانُ الذي تعتمد عليه التقديرات برهانٌ سريع الزوال غامض وقُلَّب بغية عمل شيء ما، مختلف اختلاف قليل نسبيًّا، وذلك للتعامل مع العالم الطبيعي. وتدعم البحوث السيكولوجية الحديثة هذا الافتراض؛ إذ تبين احتمال وجود «نزوع تفاعلي متبادل» interactional bias في التفكير البشري.11 معنى هذا أننا بالفعل ننزع إلى التفكير وكأن العالم غير الحي شبيه بالإنسان أو الحيوان، وقد جاء على صورة الكائنات المفكرة والمخططة والهادفة.

الميزة الانتخابية للروح الاجتماعية

أكدت حجة همفري الأصلية على انتقال المهارات التقنية من جيل إلى جيل، باعتبار ذلك هو الميزة الرئيسية للروح الاجتماعية. وهذا نهج مستصوب؛ ولكنَّ قليلين من الباحثين الذين اقتدوا به من بعده؛ إذ ركزوا، بدلًا من ذلك، على استخدامات مختلفة قليلًا للروح الاجتماعية والمشاركة في المعارف.

وأحد أشكال المعرفة هو بمعنى من المعاني يجمع ما بين كونه أكثر أوليةً وأهم من معرفة التكنولوجيا، وهو معرفة البيئة. إن منطقة السافانا في شرق أفريقيا والتي من المحتمل أنها كانت موطن الإنسان العاقل الأول، كانت تتميز بمجموعة محددة من الخصائص؛ إذ وفرت مواد غذائية يغلب عليها الطابع الموسمي في الأساس، ومنتشرة على نطاقٍ واسع، ومتمركزة في مساحات محددة من الأراضي، ومطمورة تحت أغطية أو تحت سطح الأرض. لقد كانت بيئة غنية بما فيه الكفاية؛ ولكنها أيضًا طرحت الكثير من التحديات. ولا ريب في أن معرفة البِطاح الواسعة المحيطة في مثل هذا الوضع تعتبر أمرًا حيويًّا، وكذلك فإن القدرة على اكتساب هذه المعرفة ونشرها كانت ميزة انتخابية عظيمة القدر للغاية. ولا يزال هذا النهج في المحاجاة يشدد على الذكاء الاجتماعي؛ ذلك لأنه يفترض مقدمًا وجود جماعة أكبر عددًا وأفضل تنظيمًا يمكنها أن تدبر أمرها لاقتسام أو تبادل مواد الغذاء.

وحسب هذا المنظور، لن يكون اقتسام المعرفة هو وحده الشيء المهم؛ إذ بقدر ما زادت الروح الاجتماعية واقترنت باطراد مع زيادة تقسيم العمل، فإن تقسيم العمل يمكن أن تكون له ذاتِه آثار نافعة مباشرة؛ إذ يستطيع أن يدعم مباشرة استقلال الموارد عن طريق توزيع مسئولية البحث عن الطعام، الأمر الذي يفترض دائمًا توافر القدرة مع الرغبة في تبادل الطعام، وكلاهما خاصيتان تعتمدان على الروح الاجتماعية. وهنا لم يقم الكبار بدور المعلمين والمرشدين فقط؛ بل ربما قام المراهقون أيضًا بدور المستكشفين لمصلحة الجماعة كلها. وأكثر من هذا أن الأطفال أنفسهم ربما كان لهم دورٌ مميز؛ مثل رعاية الرضع، وفي نشاطات أخرى ضرورية. وهذه هي الخصائص التي نجدها واسعة الانتشار بين الجماعات السكانية البشرية المعاصرة. ويمكن أيضًا أن نميز من خلال دراستنا للرئيسات الاجتماعية المعاصرة، كيف أن تقسيم العمل لم يركز على العمر أو الجنس وحدهما؛ بل اعتمد أيضًا على إنجازات مختلفة وعلى تدريبات فارقة يمكن أن تظهر وتستمر.

آلية تطورية

يؤكد همفري على نحوٍ ضمنيٍّ أن حالة تقسيم العمل المتزايدة باطراد مع قابليتها للانتقال، مقترنة بالحجم الحقيقي لجماعات الإنسان العاقل أفضت إلى تحولهما إلى قوةٍ انتخابيةٍ في ذاتهما. كيف استطاعت هذه أن تعمل وتؤثر؟ أحسب أن الانتخاب لا بد وأنه تميَّز بقسمتين؛ الأولى: التاريخ الإيكولوجي والاجتماعي للجماعة، والذي جعل منها بنية معقدة نسبيًّا من حيث تقسيمها للعمل. ونشأ على الأرجح أيضًا تعقدٌ إضافي في سهولة الحركة بين الجماعات أو في العلاقات بين الجماعات، وهو ما يشهد على صدقه كلٌّ من البشر الحديثين وقردة الشمبانزي. وإن أي فرد في مثل هذا الوضع سيكون لزامًا أن يتوافر له قدرٌ كبير مما سمَّاه همفري «الحصافة أو صواب التفكير» Reasonableness؛ ذلك لأن ما تأكد في الحقيقة آنذاك هو القدرة على فهم الآخرين والتحرك بنجاح داخل وسط اجتماعي يتزايد تعقدًا باطراد.
ثانيًا: فإنه مثلما زاد نصيب البعض من الحصافة، كذلك لا بد أن يتبعهم آخرون. أو نقول ما قاله كلٌّ من بيرن وهوايتن: «أي زيادة في المهارة الماكيافيلِّية لدى «أحد المشاركين في اللعبة» سوف تتجه إلى انتخاب مهارة معززة لدى الآخر، مع بقاء كليهما في تفاعل قائم على التنافس والتعاون معًا. وهكذا يمكن للمرء أن يتصور مسارًا تطوريًّا حلزونيًّا صاعدًا للمهارة الماكيافيلِّية.»12 وهكذا يغدو بوسعنا أن ندرك شيئًا من تعقد عملية الانتخاب من أجل الروح الاجتماعية حين نقول: إن كائنًا حيًّا واجه مشكلتين متمايزتين؛ أولًا: الجماعة، وقد تحدد وضعها بطريقةٍ معقدة، ثم: قدرات الآخرين على العمل بقدر من النجاح أكثر قليلًا أو كثيرًا من عمل الفرد وحده في تلك الجماعة.

وعبارة «المهارة الماكيافيلِّية» تشدد في ظاهرها على القدرة الكامنة لخداع واستغلال الآخرين في مثل هذا الوضع. وإنه لصحيح أن أفضل بينة على الذكاء الاجتماعي لدى الرئيسات الأخرى إنما يتمثل في واقع قدرتها على خداع بعضها بعضًا (وهو ما يعني أن لديها فكرةً متقدمة عما يفكر فيه الآخرون). ويتسق هذا مع مفاهيم المصلحة الذاتية التي استمدتها البيولوجيا السلوكية من الاقتصاديات الكلاسية الجديدة ومن النظرية السياسية لنزعة التملك الفردية، إذ يقرران: «كل يعمل لمصلحته الخاصة المباشرة.» ولقد كانت هذه الأفكار مفيدةً، وإن شابها عيبٌ يتمثل في أنها تخفي الحقيقة الأساسية للروح الاجتماعية عند البشر. إنهما يجعلان من العسير علينا، وربما من المستحيل، أن نتَبيَّن كيف أن التعاون يكون هو الأفضل إذا ما تجاوزنا نطاق العشيرة المنغلقة على نفسها نظرًا لأنه يشكل إضافة تُعزز الفائدة التي يجنيها كائن حيٌّ مفرد وتفضله على غيره.

وأوضح كُتَّاب كثيرون خلال الفترة الأخيرة أن المفهوم الضيق عن المصلحة الذاتية التطورية غير ضروريٍّ وغير مستصوب، خاصة عند النظر إلى الرئيسات الاجتماعية. ولعل أكثر الحجج إقناعًا — والأكثر إثارة للدهشة بالنظر إلى افتراض أساسيٍّ يقضي بأن كل فرد هو فرد أناني — هي الحجة التي صاغها روبرت أكزلرود المفكر الاجتماعي الذي يعمل مع عالم البيولوجيا وليام هاملتون؛ إذ أوضحا أن التعاون يمكن أن ينشأ ويبقى وينتشر وسط قطاع سكانيٍّ ليست به سيطرة مركزية.13 فالكائن الحي النزَّاع أساسًا إلى التعاون، وإن كان هذا لا يعفيه من النزوع إلى الثأر عند الضرورة، يستطيع أن يحقق نجاحًا؛ بل أن يبدل الحيوانات الأقل مودَّةً معه، خاصة إذا كانت الحيوانات قد ارتبطت ببعضها البعض على مدى زمن طويل وغير محدد. وتتسم حجتها بالعمومية وبإمكانية تطبيقها بصورةٍ فعالة، ابتداء من تطور الكائنات الحية الدقيقة وحتى الكونجرس الأمريكي، وهي وثيقة الصلة خاصة بالرئيسات الاجتماعية، فأفراد الحيوانات في مثل هذه الأنواع تعتمد بشكل واضح على قسمة واحدة لبيئتها، ألا وهي رفاقها، وقد تحدد شكلهم في صورة جماعة. وإن ما تحققه العلاقات الاجتماعية من فعالية ناجحة وموثوق بها بدرجة كبيرة أو صغيرة، إنما يمثل شيئًا حيويًّا في مثل هذه الظروف لكل فرد من أفراد الحيوانات.

وهكذا، على الرغم من أننا ننزع إلى تصور أن الخداع، أو لِنَقُل التراجع بلغة اللعِب، سيكون تلقائيًّا أبسط الحيل جميعها، فإنه قد لا يكون في الواقع سوى فكرة قاصرة وتخلٍّ عن اتفاق عام أساسي. والحقيقة أنه قد تزايدت باطرادٍ البراهينُ التي تُثبت من خلال الرصد الميداني لكثير من أنواع الحيوانات أن استراتيجيات التعاون، خاصة استراتيجيات الغيرية المتبادلة، واسعة الانتشار. وليس المقصود هنا الإشارة ضمنًا إلى أن الشفقة المنزهة عن الغرض والتناغم الطوباوي قد كانا هما السائدين وحدهما في السلالة البشرية أو في أي سلالةٍ أخرى. إن الشقاق والتحالف، وكذا الولاء والغدر كانت دائمًا موضوعات متواترةً، سواء في تاريخنا القديم أو القريب؛ بيد أن التحدي الحق كان دائمًا العمل بطريقة «حصيفة» مع استجابة سريعة وتوازن هادئ تجاه كلٍّ من أبناء العشيرة والآخرين.

وكما يفترض همفري، فإن التعقد الاجتماعي المتزايد باطراد في تطور الإنسان العاقل لا بد أنه حدث كعمليةٍ تدريجيةٍ. لقد نسجت هذه الجماعات مجتمعاتها الخاصة على مهل، وأكملتها بعلاقاتها مع الجماعات الأخرى، وعدلتها بتأثير مظاهر التعقُّد في الأنواع الأخرى علاوة على الوضع الطبيعي الذي عاشت فيه. وليس واضحًا المدى الذي استمرت فيه العملية التطورية لتزايُد الروح الاجتماعية (وربما لم تنتهِ بعدُ ولا تزال في سبيل الزيادة المطردة؛ إذ من العسير بحثها، نظرًا لأننا لا نستطيع أن نشهد آثارها إلا على مدى فترةٍ زمنية تُقاس بعشرات أو مئات الأجيال البشرية)؛ ولكن مع استمرار العملية فإن كل زيادة في الروح الاجتماعية ستقابلها زيادة أكبر في تعقد الحياة الجمعية. وتتسق الفكرة العامة من الآلية التطورية مع فكرة التطور المشترك Co-evolution، التي تُفيد أن الكائنات الحية يمكنها أن تُحدث تغييرات في البيئة وهي تغيرات تؤثر فيها تأثيرات داعمة، وتخلق بذلك دائرة تغذية مرتدة إيجابية. والخاصية الوحيدة المميزة للتطور البشري هي أن الاستعدادات الاجتماعية البشرية ونتائجها غير المتعمدة أضحت قوة انتخابية فاعلة في ذاتها.

ابتكار التاريخ

على مدى هذه العملية وخلالها؛ نشأ بالضرورة تنوع في العلاقات بين الأشخاص، وهو التنوع الذي نسلم بأنه بشريٌّ عن يقين. لقد ظهرت استعدادات عائلية وعشائرية مختلفة وعلاقات إنتاج وعلاقات تبادل دائمة بين قوًى سياسية، وهيمنة من خارج العشيرة وقدرة على مزيد من التلاعب بهذه الإمكانات عن طريق الكلام. ونشأ هناك ما يمكن وصفه بقدرة كل شخص على الدخول في أشكال كثيرة من العلاقات، واصطناع علاقات جديدة وأشكال جديدة للحياة. ومع ظهور هذه الأشكال ظهرت أشكالٌ لعلاقات سببية مقترنة بها؛ ليس فقط العلاقات السببية الإيكولوجية والقوى الانتخابية المؤثرة في جميع الكائنات الحية؛ بل ظهرت حينذاك العلاقة السببية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهي علاقةٌ سببية بشرية واضحة. ولنا أن نقول: إن هذه الحيوانات انطلقت في مسارٍ هو التاريخ. وإذا كنت في السابق قد كشفت تدريجيًّا عن بعض أجزاء من رؤية موريس جودليير التصويرية لهذه النقطة، فإنني سوف أعرض الآن رؤيته كاملة:

ابتكر البشر، على مدى مسار وجودهم، سُبلًا جديدة للتفكير والعمل والتأثير؛ سواء للتأثير في أنفسهم أو في الطبيعية المحيطة بهم. ومن ثم أنتجوا الثقافة وخلقوا تاريخًا (أو التاريخ).

وطبَعي أن هناك حيوانات اجتماعية أخرى هي أيضًا نِتاج تاريخ؛ ولكنه تاريخ لم تصنعه هي بنفسها؛ ذلك هو … تاريخ تطور المادة الحية وأنواع الحيوان والنبات (التي ظهرت) على مدى وجود الأرض.

وهذه الحقيقة الواقعة ليست شأنها شأن غيرها؛ ذلك لأن تفسيرها يشتمل على تحليل كلٍّ من تطور الطبيعة وخصوصية الإنسان وسط تلك الطبيعة. وكل ما عدا ذلك إنما هو موجودٌ حسب هذا المعنى، في ضوئه أو في ظله. فإذا ما أردنا تفسير الجنس البشري وتاريخه وأن نطور العلوم الطبيعية أو البشرية، فلن يسعنا إلا أن نأخذ هذه الحقيقة نقطةَ انطلاقٍ لنا.14

وكما أكد علماء الأنثروبولوجيا والآثار ببراهينَ متزايدةٍ باطراد، فإن مثل هذه العلاقة السببية الاجتماعية البشرية المتميزة تعمل وتؤثر في ظروف أقل تباينًا اجتماعيًّا بكثير عما هو الحال في مجتمعات الحَضَر الصناعية. لقد تأكدت بالوثائق السببية الاجتماعية على نحو ما ثبت على سبيل المثال بين الجماعات المعاصرة التي لا تزال تعيش حياة ما قبل التاريخ، أو تعيش على جمع الثمار والذين يمكن تصورهم، دون ذلك، وكأنهم خاضعون أساسًا لتأثير البيئة الطبيعية المباشر. ونلحظ بين سكان أستراليا الأصليين المعاصرين على سبيل المثال أن حجم الجماعة وتكوينها عندهم يتجاوب مع حالة العلاقات القائمة بين الأفراد وبين الجماعات، كما تتجاوب مع ضرورة العيش في بيئةٍ قاسية. ويمكن الوصول إلى رؤية مماثلة بشأن الجماعات التي تعيش على الرعي أو الزراعة. علاوة على هذا فإن ظهور الابتكارات العظمى والبالغة التأثير — الملوك، والنقود، والكتابة، والطباعة، والرأسمالية، والقومية — هيأت مجالًا لكي تظهر دائمًا وأبدًا أشكالٌ جديدة في العلاقة السببية الاجتماعية. معنى هذا أنه أصبح بوسعنا، ليس فقط خلق أشكال جديدة من الحياة الاجتماعية؛ بل وأيضًا خلق أشكال جديدة من العلاقات السببية. ولقد أوضح، على سبيل المثال، المؤرخ فرناند بروديل كيف أن ابتكار صكوك الائتمان في إيطاليا في أواخر العصر الوسيط، أدى إلى ظهور إمكانية جديدة تتمثل في أن المضاربة على هذه الصكوك، يمكن أن تُؤثر في أسعار المواد الغذائية الأساسية في هولندا أو ألمانيا البعيدتين تمامًا. وإن الشيء اليقيني أن العالم الحديث أصبح على معرفةٍ جيدة بمثل هذه العلاقات السببية، في صورة التحولات المراوِغة، والقوية المؤثرة، للنقود والموارد عبر العالم والتي تستهدف فائدة البعض وإن تسبَّبت في أضرار لا توصف للآخرين.

حكايات ثلاث

سوف أتحرَّى في الفصل التالي المزيد من طبيعة هذا الحيوان المميز صانع التاريخ؛ ولكن لِيسمحْ لي القارئ الآن بلحظة لالتقاط الأنفاس، أُلخِّص فيها ما ناقشته حتى الآن في ضوء ثلاث حكايات متنافسة عن التطور البشري. إن أي تفسيرٍ شاملٍ لكيفية تطور البشر سيكون في الحقيقة تفسيرًا معقدًا بطريقة بالغة؛ خاصة إذا أخذنا في الاعتبار سير الإنسان على قدمين وغير ذلك من سماتٍ فيزيقية، علاوة على الكثير من السمات العقلية والسلوكية. وقد تكون النتيجة شديدة التعقيد بصورةٍ مفرطةٍ ومخيِّبة لآمال كل من راودته الرغبة في اكتشاف أي مضمونٍ أخلاقيٍّ بسيط في تاريخنا الدارويني؛ بيد أن أفكارًا كثيرة حول التطور البشري لا تزال حتى الآن، كما يقول ميزيا لاندو، بسيطة ومباشرة نسبيًّا يمكن اختزالها في بضع حكايات بسيطة واضحة.15
إحدى هذه الحكايات، والتي عرضنا لها في هذا الفصل، عن تطور الذكاء التقني. ولقد كانت موضوعًا أساسيًّا ثابتًا في المفاهيم الخاصة بالتطور البشري. وها هنا، كمثال، سابقة في فترة متأخرة نسبيًّا، لعالم الأنثروبولوجيا البيولوجية فيليب طوبياس، الذي كتب عام ١٩٦٥م واصفًا الحدث الرئيسي قائلًا:
«إن عاجلًا أم آجلًا حدث أن البعض من بين القطاعات السكانية العديدة المنتشرة في أنحاء أفريقيا من الإنسان الأول المعروف باسم أوسترالوبيثيسين australopithecines١ (أحد أسلاف السلالة البشرية) أن اكتسب القدرة العقلية على تجاوز أعلى حدود القدرة التنفيذية … وإن عاجلًا أم آجلًا اكتسب بعضهم الكم و/أو النوع اللازمين للمخ ليكون قادرًا على استخدام أداة لصنع أداة أخرى. وربما جاء هذا في البدء كحدث مفاجئ قصير كأنه ومضة برقٍ على الساحة؛ ولكن إذا ما كان هذا الحدث قد هيأ ميزة انتخابية كافية، فلا بد أن القدرة الخاصة بهذه الميزة قد انتشرت … وها هنا حدث إنجاز تاريخي كبير وجديد. صناعة الأدوات الحجرية … أصبح مجديًا؛ إذ تهيأت إمكانات جديدة بغير حدودٍ في الواقع.»16

وكما أوضحتُ، فإن هذه القصة تتلافق تمامًا مع نهاية قصة مسيرة الحضارة التكنولوجية، ابتداء من اليونان وحتى الولايات المتحدة. إنها حدثٌ باكر في مسيرة التقدم المظفرة، وهي المعادل بأكثر الكلمات رصانة واعتدالًا للصورة الكاريكاتورية التي تصور الإنسان مخترع النار أو العجلة.

حكاية ثانية تتعلق بالاكتشاف المفاجئ للمعنى، والقفزة الروحية المفاجئة، والاندفاع عبر الحاجز الذي يفصل الإنسان عن الحيوان. وفي هذا يتحدث ليزلي هوايت عن تصوُّره قائلًا: «لم يعد شيء على حاله مثلما كان. كل شيء يغتسل في نورٍ سماويٍّ، وانطبعت على راحات الأيدي دلائل الخلود.» وتمتد هذه القصة بجذورها، كما ذكَّرنا جيمس راشيل، أخيرًا إلى الماضي البعيد … إلى أعماق العقيدة المسيحية. وكتب الأسقف ويلبر فورس المعاصر لتشارلس داروين وخصمه العنيد: «إن سيادة الإنسان المستمرة على الأرض، وسلطان الإنسان المتمثل في الكلمة المنطوقة، وموهبة الإنسان التي يمثلها العقل، وحرية الإنسان ومسئوليته، وهبوط الإنسان وخطيئته وافتداءه، وتجسد الابن الخالد، وحلول الروح القدس؛ هذا كله لا سبيل إلى التوفيق بينه وبين الفكرة المخزية عن الأصل الوحشي للإنسان الذي خلقه الرب على صورته.»17

وحاول فيما بعد المفكر المسيحي تيلهارد دي شاردان أن يمزج قصة تطور العقل التقني مع هذه الفكرة، ووافق على أن البشر تطوروا فعلًا؛ غير أنه أصرَّ على أنه كانت هناك على الرغم من ذلك عند نقطة إعجازيةٍ ما، طفرة قادت الإنسان من حالة اللامعنى إلى المعنى.

وظاهر القول إن القصتين على خلافٍ، وإنْ ظلت كلٌّ منهما موازية للأخرى دون أن تفترقا. وقد كتب طوبياس في العام نفسه تفسيرًا للذكاء التقني والذي صادف قبولًا من شاردان:

تمامًا مثلما عرض شاردان الأمر «اتجه التطور مباشرة إلى التأثير في المخ مغفلًا كل ما عداه، والذي ظل طبقًا لذلك مطواعًا. وفي مكان ما على مسار الوعي المتَّقد دائمًا.» تفجرت شعلة في موضع متمركز تمامًا. وتولد الفكر … وهكذا، وعلى الرغم من أن الطفرة التشريحية من اللاإنسان إلى الإنسان هي طفرةٌ صغيرة وضئيلة؛ إلا إنها كانت تحولًا تحددت معالمه بميلاد مجال نشاط جديد هو التفكير. ومع الإنسان دخلنا «حقبة نشوء النفس في التاريخ التطوري» Psychozoic era.18

وحين نتأمل هذا الكلام فإننا لن ندهش إذ نجد قصة الذكاء التقني تمضي في اتساق وموازاة مع القصة الأخرى؛ ذلك لأن المسيرة إلى الحضارة التكنولوجية غالبًا ما نُعبر عنها وكأنها تحمل معها التنوير وصورة روحانية أرقى.

ولقد أبديت حماسًا فاترًا لكل من القصتين. حقًّا ثمة شيء في كل منهما يمكن التوفيق بينه وبين قصة التفاعل المتبادل التي عرضتُها. إنني، على سبيل المثال، لا أنكر أن الإنجازات التقنية كانت ذات شأن كبير. بيد أنني، اقتداء بما رآه همفري، جعلتها ثانوية وتابعة بالنسبة لتطور الذكاء الاجتماعي. وبالمثل فإنني أسلم في الفصل التالي بأن ثمة شيئًا إضافيًّا في كلام البشر يجعله أقوى فكريًّا بكثير من أي شكل عرضنا له حتى الآن للتواصل الحيواني؛ ولكنني سوف أؤكد على أن الكلام معتمد أيضًا على النشوء السابق للذكاء الاجتماعي، وللوضع الاجتماعي الذي يمكن في إطاره أن تزدهر مهاراته الخاصة. ولا حاجة بنا إلى أن نتصوره شعلة مقدسة تفجرت، أو أن نراه إضافة إلى كمٍّ جوهريٍّ وغامض انتقل بالإنسان من حالة البهيمية إلى الإنسانية.

وهناك فوارق كثيرة بين قصة همفري وهاتين القصتين السابقتين؛ ولكن الشيء الأساسي هو أن قصة همفري قصة متدرجة، على نقيض الأخريين؛ إذ نراه في عرضه يوضح أن «شيئًا ما جديدًا وأصيلًا حدث في حقبتنا التاريخية»، وقد حدث على نحو بطيءٍ وثابت وهادئ ومطرد خطوة خطوة. وبدأت القصة في الماضي البعيد ولكل سلالة الرئيسات، وأفضت إلى ظهور فصيلةٍ متباينة من أشكال الروح الاجتماعية. وإن الروح الاجتماعية الخاصة بالبشر هي أهم ما يعنينا، وتتميز ببعض الانعطافات الخاصة بها، وإن لم تختلف جذريًّا عن غيرها.

وإن إحدى النتائج المترتبة على هذه النظرة هي أن «الأساس الأول الغامض» للطبيعة البشرية ليس مختلفًا جذريًّا عن الأساس الأول للحيوانات الاجتماعية، وكما قال داروين فإن «الإنسان بدافع من غطرسته يظن نفسه عملًا فذًّا فريدًا. إنه أكثر تواضعًا، وأحسب أنه من الأوفق لنا أن نراه امتدادًا لسواه.»19 وهذا الرأي يُناقض تمامًا الموقف بشأن خصوصية الإنسان الاستثنائية، والذي يضرب بجذوره عميقًا في فكر شمال الأطلسي، ولا يجد حاجة إلى الاعتراف بمصدره المسيحي. ولكن نظرة داروين تتسق مع ما ذهبت إليه التقاليد الأخلاقية العظمى الأخرى؛ مثل البوذية والعقيدة اليانية، اللتين تريان أن جميع الكائنات المتمتعة بالحواس، بشرية وحيوانية، موجودة على قدم المساواة أخلاقيًّا، وإن اختلفت قدرات كل منها. وبقدر ما تكون قصص تطور الإنسان مدفوعة ليس بما نلقاه مصادفة من عظام وأحجار وسلوك فعلي، بل بما نتلقاه من أفكار، فإنه سيكون من الأفضل — كما أكد جيمس راشيل بما ساقه من حجج مقنعة — أن نتلقى مجموعة مختلفة من الأفكار.20 والشيء اليقيني، على نحو ما نُدرك الآن، أن النتائج الأخلاقية، وكذلك العملية، لتصورنا لأنفسنا رفاقًا للحيوانات الأخرى وللعالم الطبيعي يمكن أن تكون نتائج مفيدة للغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤