الفصل الرابع

تحليل الروح الاجتماعية

أنتقل الآن إلى وصف أكثر تفصيلًا لسمات الروح الاجتماعية البشرية. ودليلنا هنا مستمدٌّ من الدراسات الخاصة بالبشر الأحياء، سواء الكبار منهم أم — وهو ما كان مفيدًا أكثر — الأطفال والرضع، علاوة على الرئيسات من الحيوانات. وخطتنا الرئيسية هنا هي المقارنة سواء على نحوٍ صريح أم ضمني.

وطبَعي أن مثل هذه المقارنات لا يمكن أن تكشف عما حدث أثناء التطور؛ بيد أنها تنقل لنا وبصورة حية وواضحة كلًّا من المحصلة النهائية لهذا التطور، وللقدرات الذهنية اللازمة لحياتنا الاجتماعية المعقدة.

والملاحظ أن علماء النفس حين يكتبون عن القدرات الذهنية غالبًا ما يحاولون التمييز بين قدرة وأخرى. ويأتي هذا التمييز حسبما هو شائع تأسيسًا على زعم أن العقل مؤلف من وحدات قياسٍ مستقلة عن بعضها البعض. وأنا هنا لا أناقش الأمر باعتباري عالمَ نفس. وجدير بالملاحظة أن القدرات الذهنية التي أصفها هنا هي قدرات شديدة التباين. ولعل الأوفق أن ننظر إليها باعتبارها دوائر متداخلة معًا في ذات المجال الذي نُسميه الروح الاجتماعية.

الذاتية المشتركة

الدائرة الأوسع، إذا ما التزمنا الطريقة الأكثر تعميمًا عند الحديث عن الروح الاجتماعية، أشبه بحالة الذاتية المشتركة بمعنى النزوع الفطري لدى البشر للتعاهد المتبادل والنزوع للاستجابة المتبادلة. وإن بعض هذا النزوع الفطري عرفاني أو فكري، وبعضه وجداني؛ ولكن الطبيعة البشرية والشخصية البشرية لا توجدان على أي حالٍ، إلا داخل ومن خلال العلاقات بين الناس وبعضهم البعض. ونجد وصفًا لهذا عند كولوين تريفارتن الذي أسهم في دراسة رائدة عن الأطفال الرضع وشاركته في تأليفهما كاترين لوجوثيتي. إذ يقول:
«لدينا الآن بينة على أن الطفل حديث الولادة يمكنه أن يُحاكي تعبيرات الأشخاص وأن يتبادل معهم المشاعر. وبعد عام واحد من تاريخ الولادة يكشف الطفل عن حاجة مميزة إلى المشاركة في الأغراض والمعاني، وإلى تعلم كيف يُشير إلى أفكار مشتركةٍ عن طريق تعبيرات رمزية. ويبدو لنا أن الذكاء الثقافي البشري مؤسس على مستوى من ترابط العقول أو الذاتية المشتركة، على نحو لا نجده لدى الأنواع الأخرى، وليس بإمكانها أن تكتسبه … وبينما تكون خطوات النمو النفسي الباكر قابلة للتلاؤم مع مختلف أساليب التنشئة التي تغرس مختلف المبادئ الأساسية الاجتماعية والأخلاقية، فإنها أيضًا تكشف عن قوًى وحاجات عامة وشاملة للعاطفة والتواصل، والتي تعدُّ ضرورة لازمة للتنشئة الاجتماعية السوية و«للنمو المعرفي» السوي.»1
وقدم جيروم برونر وصفًا للذاتية المشتركة من وجهة نظر الطفل الرضيع: «أداة الطفل الأساسية للحصول على أهدافه هي كائنٌ بشريٌّ آخر مألوف لديه. وها هنا يبدو الأطفال الرضع أقدر على التفاعل الاجتماعي من أيٍّ من القِردة العليا الشبيهة بالإنسان. وربما يعادل هذا الفرق نفس الدرجة الفاصلة بين القردة العليا الشبيهة بالإنسان وبين قردة العالم القديم أو الجديد … إن الأطفال الرضع، في كلمة واحدة، مُهيئون للدخول في عالم النشاط البشري.»2

ويتعين أن نفهم جزئيًّا هذين الرأيين في ضوء أنطولوجيا سابقة، أعني نظرة وجودية سابقة عما كان واقعيًّا ومهمًّا حقيقة في نمو وتطور الناس. وهذه النظرة السابقة مشتركةٌ بدرجة أو بأخرى بين علماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس، وتقضي بأن ما هو واقعي أصيل يشتمل على الأفراد وقدراتهم الفطرية على التعامل مع عالم الأشياء، بما في ذلك الناس. ومن ثم تكون الثقافة أو ما تم تعلمه علاوة على هذه الموجودات القائمة؛ ولكن النظرة هنا مختلفة تمامًا؛ إذ هناك أفراد، ولكن لا سبيل إلى فهمهم إلا من خلال علاقاتهم بالآخرين. وعندما تنشأ الثقافة فإنها تنبني على قاعدة موجودة فعلًا، وتظل وثيقة الارتباط بالعلاقات وبالأفراد الآخرين.

وهذه الأنطولوجيا أو النظرة إلى طبيعة الوجود، وهذا التقييم النسبي لما هو أكثر أساسية ولما هو دون ذلك، إنما وضع ركائزها الراسخة منذ سبعين عامًا مضت عالم النفس الروسي فيجوتسكي؛ إذ قال: إن أي وظيفة تشتمل عليها عملية النمو الثقافي للطفل إنما تظهر في صورتين أو على مستويَين؛ إذ تظهر أولًا على المستوى الاجتماعي، ثم على المستوى النفسي. تظهر أولًا بين الناس كحالةٍ نفسية متبادلة interpsychological ثم تكون داخل الطفل، باعتبارها حالة نفسية باطنية intrapsychological.3
ولكن علماء النفس بدءوا في السنوات الأخيرة فقط يوجهون بحوثهم نحو وصف الذاتية المشتركة. وهنا، على سبيل المثال، يلخص تريفارتن ولوجوثيتي قدرًا هائلًا من البحوث التي أُجريت على الطفل البشري الرضيع في عامه الأول:
«الأطفال حديثو الولادة، حتى من وُلد منهم قبل اكتمال النضج بعشرة أسابيع، يمكنهم تحقيق ترابط مباشر عن طريق سماع ورؤية «آخر» حنون؛ وكذا عن طريق الإحساس بتلامس الجسد والرَّبت عليه … ويبدي الرضيع توجهات وتعبيرات وإيماءات وحركات متوافقة مع الطرف الآخر الودود المتعاطف معه. وبحَثنا أثر التواصل بالعين، وتبين أن الطفل يمكنه أن يُحاكي حركات العينين والفم … وهذا نوع من الذاتية المشتركة الأولية، أو لنقُل: وعي شخصٍ بشخص في بداياته الأولى … ويفيد نمو مخ الطفل من الانفعالات المتولدة عن مثل هذا التواصل الذي يؤكد وجوده، أن الطفل لديه في عقله تنظيم ثنائي من «الذات + الآخر»، وأن هذا التنظيم مُهيأ للتواصل مع المشاعر التي يعبر عنها طرف آخر حقيقي.»4

وخلال مراحل النمو التالية تفضي هذه الميول إلى ظهور استجابات يوجهها باطراد متزايد أسلوب المربين المسئولين عن رعاية الطفل. ويعيش الأطفال حياة التجربة أثناء اللعب خلال علاقات مختلفة، وما تنطوي عليه العلاقات من مجموعات متباينة من المواقف والأحداث. ويمكن القول، بعبارة أخرى، إن القاعدة الأساسية التي تتألف من حالة الانتباه المركز إلى الآخرين والاستجابة نحوهم، إنما تتهيأ للطفل عند الولادة. ثم يبدأ استخدام هذه القاعدة أساسًا لبناء قاعدة أخرى هي الصيغة المتميزة للعلاقات التي تشكل خصوصية مجتمع الطفل.

وهكذا فإن البشر منذ طفولتهم الأولى لديهم توجه إزاء البشر الآخرين باعتبارهم القسمة الأهم المميزة للبيئة. ويدل هذا بالضرورة، من منظورٍ تطوريٍّ، على تحول وجداني ومعرفي ونزوعي، وعلى اعتمادية متزايدة من الطفل على أبناء نوعه والانفتاح تجاههم والضعف إزاءهم. إن البشر بعضهم لبعض عونٌ وفائدة، وقدراتهم لا تنمو وتتحول إلا بفضل الآخرين وفي إطار وضع اجتماعي. حقًّا إن قدرات الروح الاجتماعية قد تكون متوافرة لدى الأفراد؛ بيد أنها لا تكتمل إلا فيما بينهم.

وثمة دلالة ضِمنية أخرى للذاتية المشتركة وتتعلق بالطريقة التي نعرف بها العالم؛ إن بعض الكُتَّاب يستخدمون الآن مصطلح «المعالجة الشبكية» Distributed processing للتعبير عن الفكر البشري. وها هنا مناظرة بين المجتمع وشبكة الحواسب الإلكترونية «الكومبيوترات» التي تشتمل على أكثر من وحدة معالجة مركزية (أو في الواقع أكثر من مخ واحد) أو التي تجري عمليات حسابية بالتعاون مع حواسب إلكترونية أخرى. وبالمماثلة، فإن كل ما يتعلمه المرء منا ويستخدمه هو، حسب هذه النظرة، أكثر كثيرًا مما هو في رأس كل منا على حدة، رجلًا كان أم امرأة.

وهذا، بمعنًى من المعاني، تشبيه واضح. وكنت قد افترضت منذ البداية أن وجود مجموعة أكبر حجمًا، وتعيش على تقسيم عمل أكثر تعقدًا يمكنها أن تتعامل مع بيئة متغيرة موسميًّا، ومتباينة على نحو أكثر فعالية من نفس عدد الأفراد إذا لم تكن بينهم رابطة. ذلك أن المنتمين إلى الجماعة المترابطة إنما يفيدون من معارف بعضهم البعض، علاوة على معارف كل فردٍ على حِدة. وإنني بالمثل أستخدم الآن ماكينة شديدة التعقيد لكتابة هذه الكلمات، ومن ثم لا بد أن يتوافر لي على الأقل قدر من المعرفة الشخصية بها. غير أنني أعتمد في الوقت ذاته على الآخرين؛ مثل ذلك أنني أعتمد على ماكينات أكثر تعقدًا يتولى صيانتها آخرون، وظيفتهم أن يعرفوها وأن يحافظوا على ما أكتبه خوفًا من أي خطأ أو عيب إلكتروني أو خطأ في طبع النتائج. علاوة على هذا فإنه إذا ما أصاب هذه الآلة عطل بسبب خطأ ما، فإنني أقف أمامها عاجزًا في انتظار متخصص. ولهذا فإنني أعتمد على معارف الآخرين وأفترض هذا مقدمًا. ولأضرب مثالًا على المعالجة الشبكية في نطاق أصغر، وإن تضمن قدرًا أكبر من الكثافة والتفاعل، فلتحاول تأمُّل وضع ملَّاح الطائرة ومساعده داخل غرفة القيادة. إذا ما حدث طارئ فإن كلًّا منهما يعتمد على معارف الآخر، وعلى ما لدى كلٍّ منهما من معلومات وسط دوامة أحداث سريعة التغير، وشديدة التعقد، بل وربما تنذر بالهلاك. وإذا نظرنا إلى مستوى أوسع نطاقًا ويقتضي قدرًا أكبر من التروي والتريث، فإن المعارف المتوافرة لدى كل منا عن مبحثٍ علميٍّ جيد التنظيم، ولنقل علم الأنثروبولوجيا، إنما هي معارف ماثلة أمام بصر علماء الأنثروبولوجيا الآخرين والناس جميعًا، ويتم نشرها بفضل ما يبذله هؤلاء من جهود ومساعٍ حميدة، واعتماد على هذه الجهود، وتبدو في النهاية، حسب رأيهم، عملًا نافعًا ومفيدًا. ولعل ما يُسميه مايكل إينيس «فئات اجتياز الاختبار» قد يُعطي تصورًا بأن الأفراد وحدهم هم مستودع المعارف؛ بيد أن الأمر ليس كذلك أبدًا. وبدأت العلوم الإنسانية مؤخرًا فقط في الكشف عن الدلالات الضمنية لهذه المجموعة الأساسية من الأفكار. وإنه من الصعوبة بمكان، على الأقل الآن، أن يفكر الباحثون والدارسون تأسيسًا على هذه التصورات.

قراءة الأفكار

إحدى طرق معالجة هذه المشكلة أن نثبِّت للحظة أحد المتغيرات، أعني أن نُثبِّت واحدة من اتجاهات ومعتقدات المشارك ونركز على الآخر. وهذا عين ما فعله علماء النفس والفلاسفة المعنيون بفهم ودراسة القصدية intentionality في أعلى مراتبها. ويبدأ مفهوم القصدية انطلاقًا من مُسلَّمةٍ تقضي بأن الحيوانات مثل الرئيسات والبشر يصورون العالم لأنفسهم، ومن ثم فإن القصدية تعني بالدقة أن ثمة تصورًا بشأن حالة أمر ما بحيث إنه موضوع قصد أو تصور تمثيلي. ويتبدى هذا التمثيل في صيغة عامة للكلام على نحو ما نقول: إن مايكل تخيل أنه لا يزال يملك مِفتاح المشكلة، أو أن آمي تأمل في أن ترى جدها، أو أن إليزابيث تتوقع أن تكون الطرقات زلقة هذه الليلة. ويوضح الشطر الأول (مثل قولنا آمي تأمل في) أن ما يلي هو من تصور شخص ما.
وتطابق الكلمات الملفوظة على هذا النحو المرتبة الأولى من القصدية. أما القصدية من المرتبة الثانية فإنها تظهر على النحو التالي: «أحسَّت آمي أن مايكل طلب منها أن تأكل بيضتها مع الإفطار تحديدًا، وأن إليزابيث خشيت من أن يظن مايكل أنها ترهق نفسها في عملها» ها هنا يتصور شخص ما تصوره شخص آخر، كأن تُصور آمي لنفسها ما تصوَّره مايكل في نفسه، ويمكن المضي إلى أبعد من ذلك للتعبير عن هذه القصدية. وهنا نجد، على سبيل المثال، قصدية من الدرجة الرابعة: «أعتقد أنك تقر معي بأنني أظنك تفهم أن القصدية من المرتبة الأرقى، هي شأن من شئون الأحداث اليومية السائدة بين البشر». ويمكن أن تصل القصدية في أعلى درجاتها إلى حالةٍ شديدة التعقد؛ ولكنها في أساسها ليست أكثر تعقدًا من لعبة إعادة قصاصات الورق إلى شكلها الأصلي. وجوهر المسألة أن الناس حين يفكرون في غيرهم يتصورونهم على نحو معين من حيث إنهم مثلهم؛ لهم أفكار وخطط وطموحات ومعارف. وهذا هو «موقف دنيت العمدي»،5 ولكن هنا إضافة أخرى ألا وهي إمكانية تمثل مواقف متبادلة ومعارف متبادلة بين كل طرف وآخر. ويحدثنا أندرو هوايتن عن قصدية أعلى مرتبة وهي «قراءة الأفكار».6 ومن الملائم الحديث عنها ما دُمنا ندرك أنها لا تتضمن شيئًا يتجاوز حدود الخبرة اليومية غير المعصومة من الخطأ.
وتتضمن أدبيات هذه الدراسة حالات من قراءة الأفكار بين الرئيسات الاجتماعية.7 ويبدو أنه حتى القصدية من المرتبة الثالثة — عندي تصور ما عن تصورها لتصوري لها — قد يكون هو أفضل تفسير لعدد من الملاحظات المتناثرة. غير أنه من العسير تفسير الدليل عليها. وهذه غالبًا حالات من الخداع القصدي، ومن ثم تُشير إلى الجانب الماكر في طبيعة الرئيسات الاجتماعية. ولكن يبدو حتى الآن أنه ليس من المرجح أن أنواعًا أخرى من الرئيسات لديها عادة مثل هذه التصورات المعقدة عن العالم.
إن البشر شيء آخر. ولعل واحدة من أفضل حالات قراءة الأفكار التي تم تقصيها بين الناس هي قراءة الأفكار أثناء المحادثة المشتركة؛ إذ يستخدم البشر عادةً القصدية من المرتبة الثالثة أساسًا لحرف موضوع المحادثة إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك. وهذا هو ما أشار إليه الفيلسوفان بول جرايس وجوناثان بينيت.8 وفي رأيهما أن المتحدث يعمد إلى أن يعترف الحضور بأنه يريد أن تصدر عنهم استجابات محددة هي كَيت وكَيت. وإن هذا التحول إنما ينبني من ناحية على تلك الاستعدادات الأصلية — على الأقل تأسيسًا على فهمنا للنمو — المتمثلة لدى الأطفال الرضع في الانتباه ناحية الآخرين والاستجابة لهم. علاوة على هذا فإن القسط الأكبر من المحادثة قد يُجدي في واقع الأمر على نحو تلقائيٍّ نسبيًّا. ولكن نجد من ناحية أخرى أن القدرة على المشاركة في محادثة ممتدة ومعقدة — خاصة المشاركة بطريقة معقولة وملائمة في محادثة تجري بين كبار على حظٍّ وافر من اللغة والتعليم — إنما تقتضي متابعة دقيقة وتركيزًا شديدًا على فيض مواقف ومقاصد الآخرين. وعلى الرغم من تسليم الكثيرين منا بهذا الأمر إلا إنه لا يزال من الصعوبة بمكان فهمه ومعالجته.

الكياسة

فكرة القصدية فكرةٌ فاترةٌ تعوزها الحيوية نسبيًّا، غير أنها تقود مباشرة إلى فكرةٍ أخرى، هي في الحقيقة جوهر الحياة البشرية، ألا وهي الطريقة التي لا نكون بها واعين بأنفسنا بقدر ما نحن واعون بأنفسنا وبالآخرين. ولنتأملْ معًا المثال الإثنوجرافي التالي الذي يصطبغ، شأن الكثير من الأمثلة الإثنوجرافية بصبغة روائية ضئيلة حماية للمذنب. إن بِن Ben ونيجل Nigel زميلان في مكتب — لعله إحدى جامعات إنجلترا — وقد سار كل منهما عبر دهليز أحدهما في اتجاه الآخر. ويبدو أن بن لم يشعر بوجود نيجل أول الأمر وقتما كان كل منهما لا يزال عند الطرف الآخر المقابل من الدهليز. وطبيعي أنه مع استمرار خطوهما بدآ يقتربان كلٌّ منهما من الآخر مع كل خطوة يخطوانها. وما أن اقتربا حتى بدأ بن يشعر بوجود نيجل؛ بيد أن وعي بن لم ينتهِ عند هذا الحد؛ إذ لو كان بن مدركًا وجود نيجل فلا بد أن نيجل مدرك هو الآخر وجودَ بن! أو هذا هو على الأقل الشعور الذي خطر في نفس بن. وربما تبدَّى هذا الشعور كحالة من القلق الغامض؛ لأنه ما كان ينبغي عليه أن يرتدي هذه الجوارب السخيفة في عيد الميلاد. وطبيعي أن نيجل ساوره شعور مماثل، ربما إحساس بأنه يكره بن؛ ولكنه يريد أن يؤكد مشاعر الانسجام بينهما.

وتزايد الشعور المتبادل لدى كل منهما بالآخر كلما اقتربا أكثر بأكثر. ولكن لو أن بن بدأ بتحية نيجل — الذي يريد أن ينقل إليه مشاعره — وهو لا يزال بعيدًا عنه لبدا الأمر فجًّا ومثيرًا للحرج، أو أن هذا، على الأقل، شعور بِنْ الغريزي الغامض. وأمسك عن فعل أي شيءٍ. أما نيجل فإنه إذا ما انتظر طويلًا حتى يبدأ بتحية بن، فسوف تبدو تحية باردة جاءت كرهًا؛ ولكنه يجد نفسه مرغمًا على أن يرسم على شفتيه ابتسامة. وهكذا مع كل ثانية تمضي يزداد اقتراب كليهما من الآخر، وينظر كلٌّ منهما في جميع الاتجاهات دون أن ينظر إلى وجه الآخر. ومن ثم فإن كلًّا منهما يشعر بنفسه، ويشعر بالآخر، ويشعر برد فعل الآخر نحوه. ترى هل سيعمد كلٌّ منهما إلى وسيلة للكلام مع الآخر؟

أو لنتأمل هذه الحالة المماثلة، المأخوذة عن دراسة أعدَّها إيفو ستريكو عن مقاطعة حمر Hamar في إثيوبيا:
«الملاحظ في مقاطعة حمر أن (الاعتراف بمطالب الآخرين) يظهر ببطءٍ شديد عندما يقتضي الأمر تحية الزائر. ويكمن سبب ذلك في … نمط التنظيم الاجتماعي في مقاطعة حمر؛ حيث توجد جماعات صغيرة متربصة ببعضها البعض دائمًا وأبدًا؛ ولذلك فإن التحية لا تحدث إلا بعد أن يتضح كل شيء ويكون المرء إزاءَ أمر واقع، أي بعد أن يتم التأكد من أن الضيف عازم على البقاء، ويتعيَّن أن يوفروا له مأوى وطعامًا … إلخ، ولكن حق الضيافة لمن هم ليسوا من ذوي القربى هو أمرٌ موضع شك … إذ عندما يصل ضيف رجل، فإنه بادئ ذي بدء ودون أي تعليق، يجلس على كرسي يحمله معه دائمًا في يديه، ويتخذ مجلسه إما تحت ظل شجرة، إذا كان ذلك نهارًا في عزِّ حرارة الشمس، أو قريبًا من سور زريبة، إذا كان ذلك في الصباح الباكر أو في المساء. ويبدو الأمر وكأن أحدًا من أهل المنزل أو المنطقة لم يلحظ وجوده آنذاك. (وهي تجربة مثيرة بالنسبة لأي زائرٍ أوروبي يتوقع، بحكم تكوينه الثقافي، أن يجد من يُلبِّي مطالبه فورًا). ولكن بعد قليل قد يدرك الزائر أن ثمة امرأة ليست على مقربة منه، كما أنها ليست بعيدة تمامًا عنه، وقد بدأت تكنس الأرض من حوله. وهذا هو أول مؤشر يدل على أن أحدًا لن يصدَّه أو يزجره. وإذا ما كان قد جاء أصلًا لا لشيء سوى إنجاز بعض الأعمال المحددة، فإنه عندئذ يتحرك من مكانه ويطلب ماءً ليشرب، كما يطلب الحديث إلى شخص ما عن عنزة ضلَّت الطريق. هذا أو أن يقول أي شيء آخر كان دافعه إلى المجيء. ومن ثم فإنه بهذه الطريقة يُشير إلى أنه لا يريد دعوةً للبقاء طويلًا. وبذا يعرف المضيفون الآن أنه لا حاجة إلى الإصرار على دعوته، كما أنه يتجنب رفض مثل هذه الدعوة نظرًا لأن رفضها يُعتبر (إهانة). ولكن إذا ما أراد البقاء عندهم فإنه يظل منتظرًا في صمت، حتى تأتي الإشارة الثانية، التي قد تتمثل في أن تبسط المرأة جلد بقرة فوق الأرض التي كنستها ونظفتها، وهنا تومئ المرأة برأسها إليه، ومن ثم يخلع نعليه ويجلس فوق جلد البقرة. ويظل حيث هو ساعة من الزمن ثم بعدها تبدأ طقوس الترحيب والاحتفاء به. وشيئًا فشيئًا يبدأ رجال الدار في الظهور وكأنهم يتجوَّلون عرضًا، ثم يسيرون إلى حيث يجلس الضيف ويتخذ كل منهم مجلسه فوق كرسيه، ولكن دون أن يكون قريبًا جدًّا ولا بعيدًا جدًّا عنه. وبعد لحظة صمت يبدءون التحدث إليه.»9

تبدو هذه الأمثلة وكأنها تتعلق بأحداث تافهةٍ. بيد أنها ذات شأنٍ كبير؛ ذلك لأنها تُشير إلى نوعية من الحياة البشرية التي تبدو وكأنها تفصل البشر بصورة حاسمة عن غيرهم من الرئيسات الاجتماعية؛ ذلك أن الناس إذ يصادفون هذا الطراز في الحياة اليومية قد يشعرون معه دائمًا بشيءٍ من الحرج أو الزهو، أو يشعرون بشيء من عدم الأمان أو الثقة، ويساورهم فيض من المشاعر الانفعالية الأخرى والاتجاهات التي أمكن ملاءمتها، بدقة شديدة، مع الطراز المحلي للروح الاجتماعية عند البشر. إن المرء من أبناء مقاطعة حمر له أن يتفضل على الآخر أو أن يمتنع عن مجاملته، وله أن يشمل الآخر برعايته أو أن يعترض سبيله. كذلك كان يمكن أن يوجه بِن إهانة إلى نيجل أو أن يُحيِّيَه ويطريَه، وكان بإمكان بن أن يكون موضع إكبار أو ازدراء في نظر نيجل؛ ولكن في جميع الحالات تكون للناس مطالب وحاجات ليست بالضرورة مطالب وحاجات مادية مباشرة، وإنما يتعين عليهم أن يُعبروا عما يريدون بقسمات وجوههم، أو إذا ما استخدمنا عبارة أرفنج جوفمان أن يستخدموا وعيهم بذاتهم إزاء الآخرين.

وقد يبدو الإطراء والازدراء أمرين معنويَّين على نحو مميز؛ بيد أن هذه الوقائع، أو هذه الأحداث الواقعية تمامًا يمكن أن تترتب عليها نتائج تستمر زمنًا طويلًا؛ ذلك أن الموقف قد يتحول إلى صداقة أو إلى أمر يستوجب الثأر، لو لم يعمد نيجل إلى إخفاء التعبيرات الجامدة على وجهه. وقد تحدث أمور أشد خطرًا في مقاطعة حمر. وقد تبدأ هذه إثر حادث أولي، قد يكون إهانة على سبيل المثال، وهو حدث ليس له نتيجة مادية عملية مباشرة بالنسبة لأي من الطرفين، ولا ينطوي على إضرار مباشر بحالة أي من الطرفين الغذوية أو الصحية، فضلًا عن أنه لا تترتب عليه مباشرة أي نتائج تؤثر فيما يصيبونه من نجاح في إنتاجهم. وأوضح بنيلوب براون وستيفن ليفنسون النتائج الهائلة المترتبة على ذلك؛ إذ قالا إن مظاهر الالتزام بآداب السلوك أو الخروج عليها تمتص قدرًا هائلًا من طاقة الإنسان وجهده.10 ويرجع سبب ذلك إلى أن البشر يعمدون إلى التوافق السلوكي بدقةٍ شديدةٍ بين بعضهم البعض، وبينهم وبين أنفسهم في علاقاتهم بالآخرين. ويجري كل هذا داخل شبكة مُحكمة من التفاعل. وإن العمل على صَون أو تدمير هذه الشبكة يقتضي استيعاب المصلحة أو تجاوز الأهمية.

التربية والمعايير الجمالية

إن تعلم ضَربٍ من ضروب الروح الاجتماعية — مثال ذلك: كيف تُحيِّي الناس، وكيف تفارقهم، وكيف تُبدي أو لا تبدي اهتمامًا بتعبيرات وجوههم واحتياجاتهم الأخرى — يعتبر مظهرًا محوريًّا من مظاهر النضج الاجتماعي البشري. ولقد أوضح عالم النفس دافيد بريماك أن البشر تجمعهم سمة واحدة مميزة فيما يتعلق بهذا المطلب التعليمي، ويسمي هذه السمة «التربية». ويرى أن التربية تنشأ من الإحساس بالذات وبالآخر؛ بيد أن لها طابعًا خاصًّا؛ إذ إنها طائفة من القدرات التي بفضلها يرصد المرء الآخر، ويحكم عليه وَفقًا لمعاييرَ ما، ويتدخل ليضع سلوك المبتدئ في اتِّساق وتماثل مع ذلك المعيار.11 ويؤكد بريماك أن مجموعة القدرات المعرفية التي يمكن أن نعزوَها إلى الشمبانزي حين تنقل التقنيات المادية ليست تربية بالمعنى الصحيح؛ بل هي تعلمٌ قائم على المحاكاة، حتى إن كانت محاكاة رفيعة المستوى؛ ذلك أن الشمبانزي تمارس شكلًا من أشكال التدرب، غير أن هذا التدرب لا يتضمن معيارًا جماليًّا. ويحرص بريماك على التفرقة بين التدرب والتربية. ونحن نجد دائمًا في تدرب الشمبانزي قدرًا من العائد المباشر للمدرب، نظرًا لأن المبتدئ إنما يتدرب على أداء خدمة لحساب المدرب.

وعلى النقيض من هذا نجد التربية البشرية في أوج كمالها تفترض مسبقًا ما يلي؛ أولًا: استعدادًا لاستثمار وقت التدرب دون أي عائد مباشر. ثانيًا: أن تشتمل التربية على تقييم جمالي معقد لما يؤلف أداء جيدًا، سواء عند استخدام المهارات الاجتماعية أو المهارات التقنية. ثالثًا: تشتمل على تمثيل الفارق بين قدرة المدرب الذاتية وقدرة المبتدئ، ومن ثم على قصديةٍ رفيعة المستوى.

ويمثل العائد المؤجل من التربية أكثر قسماتها إثارةً من وجهة النظر الداروينية؛ ذلك لأن هذا العائد المؤجل يحقق ما يصفه عالم البيولوجيا التطورية جون ماينارد سميث، بنموذج «لعبة العقد الاجتماعي» Social Contract Game إذ يقول: «إنني سوف أتعاون، وإذا ما اقترف أي قردٍ آخر نقيصة ما فإنني سوف أشارك في عقابه، وإذا ما امتنع أي شخصٍ آخر عن المشاركة في العقاب سأعتبر هذا منه عملًا مساويًا للتقصير.»12 ويفترض ماينارد سميث أن مثل هذه الخطة لا نجدها إلا عند البشر الذين — بلُغة بريماك — يملكون معيارًا جماليًّا يُقيمون على أساسه السلوك؛ ولكن لعبة العقد الاجتماعي ما هي إلا المكافئ الوظيفي للتربية، نظرًا لأن «العقاب» و «المشاركة في العقاب» تحققهما التربية أساسًا خلال تنشئة الفتى أو الفتاة، وليس من خلال صفقاتٍ بين كبار كاملي النضج. علاوة على هذا فإن الاعتماد الوجداني القوي على الآخرين، سواء في الطفولة أو في البلوغ من شأنه أن يجعل مثل هذه السمة الثانية مفهومة على نحو أوضح، كما يجعل قوتها أقدر على الإقناع السلِس مما تُوحي به لغة نظرية اللعبة.

وإذا استخدمنا لغة بريماك نقول: إن نتائج التربية تتمثل في قدرة البشر على نقل «معيار جمالي». وتصدق مثل هذه المعايير بين البشر على أول مثال للتفاعل بين الناس؛ ذلك لأنه هو البؤرة الأولى، إن لم تكن الأخيرة، لاهتمامنا كنوعٍ. ويتميز المعيار الجمالي بخاصية أنه تفاعليٌّ.

وثمة ما يغريني بترجمة فكرة المعيار الجمالي إلى فكرة أكثر ألفةً؛ مثل فكرة القواعد الاجتماعية أو الأخلاق أو الثقافة بكل ما في الكلمة من معنى. ولكنني أرى أن من المهم مقاومة هذا الإغراء؛ وذلك لأن تلك المصطلحات قد تنقل قدرًا من اليقين أو من القدرة على التنبؤ إلى غير موضعها. ولعل الأوفق تصور المعيار الجمالي باعتباره ذا طبيعةٍ مرنة في جوهره، وأنه يستلزم قدرًا من التقييم والخيال. فالمعايير الجمالية تقيِّم النشاط العقلي تقييمًا غير قاطع؛ إذ أيًّا كانت هذه المعايير فإنها لا تشبه المخطط العام الذي يتعيَّن الالتزام به، كما لا تشبه نظام حساب الكومبيوتر، وطبَعي أنه سوف ينتفي التاريخ إذا لم تكن المعايير الجمالية مرنةً، ومن ثم قادرةً بالتالي على أن تتحول إلى معايير جديدة وإمكانات جديدة. معنى هذا أننا كنا سنعيد دائمًا وأبدًا إنتاج نفس نمط السلوك ونكرره المرة بعد الأخرى.

ويمكن أن نرى دليلًا على هذا التقييم غير القاطع underdetermination في الإثنوجرافيا المعاصرة. مثال ذلك أن روزالدو في دراستها التسجيلية عن شعب الإلونجوت ILONGOT في الفلبين تكتب عمَّا أسميه معيارًا جماليًّا، بوصفه أفكارًا وصورًا موجهة عاطفيًّا، «والتي من شأنها أن تحفظ لأهالي الإلونجوت بإحساس من الاتساق بين الأشياء التي يصنعها الناس. وإنها بذلك تتيح لهم أن يروا على مدى الزمان أن الناس يعملون بطرق مألوفةٍ بدرجة أو بأخرى، ومن أجل أسباب معروفة جيدًا لهم بدرجة أو بأخرى.»13 ومعنى «بدرجة أو بأخرى» هنا ليس أكثر من أن الأفكار والصور غير ذات فعالية في ذاتها، وإنما تكتسب قوتها بفضل استخدام الناس لها لتفسير علاقاتهم ببعضهم البعض في مواقف محددة بذاتها.
ويقدم لنا إدوار شيفيلين نقطة مماثلة في معرض كلامه عن أهالي كالولي Kaluli في بابوا نيو غينيا. ويحدثنا هنا عن «السيناريوهات الثقافية التي تقوم دليلًا يُبيِّن لنا كيف أن الناس يصوغون الواقع في صور مفهومة عقلًا.»14 ويؤكد شيفيلين معنًى حيويًّا للدور البشري عند العمل من أجل ومن خلال معيار جمالي، وللناس إذ يرتجلون تفاعلاتهم وَفقًا لإحساسهم إزاء ما يبدو لهم ملائمًا أو غير ملائمٍ. وكم هو يسيرٌ، بناء على رأيه، أن نتبين كيف أن مرونة المعيار شيء أساسي فيه. وليس لنا أن ندهش، على سبيل المثال، من أن أهالي كالولي اكتسبوا مؤخرًا طقوسَ وآداب الجيسارو Gisaro المعقدة؛ ولكن تم تطبيقها خلال فترة قصيرة نسبيًّا، وأضحت اليوم صورة من صور حياة الكالولي ذات الأهمية الحيوية. والجدير بالملاحظة أن التقييم غير القاطع للمعيار الجمالي يسمح بكلٍّ من إمكانية التنبؤ التقريبي والتجديد، وكذا التَّكرار مع وجود تغير مطرد، وهو ما يُجسده تاريخ هذه الثقافة وتغيرها مع الزمن.
وطبعي أن أمورًا أخرى يجري تعليمها وتعلُّمها: صناعة رءوس الحراب، والغزل والنسج، والقراءة، والبستنة، وقيادة السيارات، والعزف على الناي. وهذه ليست معايير جمالية، ولعل من الأوفق أن نُسمِّي أكثر هذه الإجراءات أو بعضها حركاتٍ تلقائيةً automatism؛ وذلك لأن المرء ما إن يتعلمها حتى يؤدِّيها دون تفكير. ويساعد خلق الحركات التلقائية على وجود أشكال جديدة من العلاقات السببية البشرية التي تتهيأ بفعل الكتابة والقراءة، مثال ذلك أثر الماضي على المستقبل، أو أثر شخصٍ ما على آخرين وهم بعيدون عنه. ولكن مهما كان شأن وأهمية المهارات التقنية والحركات التلقائية في التاريخ البشري، إلا أن وجودها لا يزال رهن معيارٍ اجتماعيٍّ جمالي، مثال ذلك، وكما تؤكد حجة نيقولا همفري، التكنولوجيا البسيطة لدى الرئيسات الاجتماعية الأخرى، إذ إنها تعتمد اعتمادًا كليًّا على علاقات اجتماعية لها مصداقيتها، ولنا في الحقيقة أن نمضي إلى أبعد من ذلك؛ نظرًا لأن المهارات والأدوات لا تكون موجودة فقط حيث تكون هناك علاقة بين الناس والعالم المادي؛ بل إنها أيضًا تمثل مكونات الأنشطة التي يقوم بها الناس إزاء آخرين. إنك يا عزيزي القارئ تمسك بهذا الشيء المادي، أعني الكتاب، وهو نتاج حركاتٍ تلقائيةٍ كثيرة وعلاقات عديدة بين الناس والعالم المادي؛ ولكنه أيضًا نتاج علاقات اجتماعية كثيرة، إن الغرض الراهن منه، أي وجوده — أو قل أنطولوجيته — بين يديك هو غرض تفاعلي واجتماعي وليس ماديًّا طبيعيًّا؛ فأنت على علاقة بي من خلال هذا الكتاب، كما أنك من خلالي على علاقة بكل من روث بنيديكت وإريك وولف، وصولًا إلى أهالي الكالولي والإلونجوت والحَمَر، وحتى بن ونيجل، وربما أيضًا على علاقة بنفسك.

الإبداع والتَّكرار مع التغير المطَّرِد

كما أسلفنا فإن خاصية التقييم غير القاطع للمعايير الجمالية، وطبيعتها التي تتصف جوهريًّا بالسيولة وعدم قابليتها لإعادة التفسير، ناهيك عن التحكم فيها والتخطيط المسبق لها تتيح فرصة لدورٍ جوهريٍّ للابتكار والإبداع. ووردت هذه النقطة ضمنًا في دراسة همفري؛ ذلك أنه حين كتب عن المجتمع، مناظرًا بينه وبين المدرسة، استخدم صورة الحساب أو الاختبارات، ومن ثم صورة العقل الاجتماعي الذي يعمل مثلما تعمل آلة حاسبة؛ بيد أنه حين كتب عن التعقد الشديد الذي تتصف به الحياة داخل وضع اجتماعي متحول، استخدم كلمات مثل الإبداع والخيال. وتقول بالمثل عالمة النفس سلفيا سكريبنر إنه تكمن «تحت سطح (التفكير العملي) أفعال إبداعية مطردة ابتكار طرق جديدة لتناول المشكلات القديمة والجديدة.»15 وتبحث مشكلات اجتماعية وتقنية بسيطة نسبيًّا في داخل تنظيم العمل وصولًا إلى هدف محدد تمامًا؛ ولكن العالم الاجتماعي يطرح المزيد من المناسبات الأكثر تنوعًا والأكثر التباسًا، والتي يتعين على الناس خلالها أن يبتكروا علاقة، وهذا هو ما يوجب أن تكون قدرات الروح الاجتماعية أكثر إبداعية لتواكبها.
وثمة طريقة يكون الناس فيها مبدعين ومعنيين بوضع الأمور في نصابها الصحيح، ونجد هذا متمثلًا بوضوح عند تفسير أحداث الماضي القريب وعند رؤية قصص عما حدث بالفعل؛ إذ في مثل هذه الحالات، وكما كتبت روزالدو في حديثها عن شعب الإلونجوت، ليس مناط الأمر فقط هو العمل على تطبيق «برامج تخطيطية»، وإنما استخدام حلقات وصور مترابطة تحكي لنا أي الأحداث والدوافع يمكن أن يرتبط على نحو معقولٍ بأحداث أخرى.16 ويفيد لفظ «معقول» هنا أن ثمة أكثر من نهجٍ روائي، وأن ثمة أكثر من سبيل لتحديد النهج الروائي ومطابقته بالظروف الفعلية. معنى هذا أن عملية الربط الإبداعية، والقائمة على تداعي الأحداث في أي حالة بذاتها، يمكن أن تأخذ أشكالًا كثيرة.

وكلمة الإبداع غنية بالمعاني؛ ولكنني أستخدمها هنا بالمعنى الذي يربطها بأفعال معرفية أخرى وثيقة الصلة بها، والتي يؤديها الناس عند محاولتهم فهم تجربتهم التفاعلية المعقدة. ومن ثم يمكن أن يندرج تحت كلمة إبداع ليس فقط «الحساب» الذي حدثنا عنه همفري؛ بل أيضًا التفسير والتقييم والاستدلال. ولهذا فإن أيا من الأفكار التي اقترنت باكتشاف السمات التي تؤلف الروح الاجتماعية إنما تمثل فكرة جديدة عن التواصل البشري. ويمكن القول اتساقًا مع النموذج القديم: إنني أتأمل أولًا أفكاري وأصوغها في كلمات، ثم أنطقها لتخرج من فمي في صورة ذبذبات تلتقطها أذن السامع، وتنتقل بعد ذلك إلى مخ السامع؛ حيث يستكشف المعاني أو الأفكار التي قصدت إليها، ويستخرجها من الظلمات التي صيغت فيها.

وتأسيسًا على النموذج التبادلي الجديد فإن الحديث اليومي، بل والأفعال المشتركة إنما تتضمن خطوة حاسمة في اتجاه التأويل والاستدلال. وحسب هذا النموذج فإن أي اثنين يتحادثان إنما يبذلان أقصى جهدهما ليؤكد كلٌّ منهما للآخر أن ثمة محادثة تجري بينهما، وأنهما يتحدثان في موضوعٍ واحد، وأن كلًّا منهما راغب في الاستماع إلى الآخر. وإذا عبرنا عن هذا بلُغة جرايس نقول: إن المتحدث والمستمعين يتعين عليهم جميعًا أن يقيموا علاقة فيما بينهم. فالمتحدث يتكلم؛ ولكن ما يفعله هو بالفعل إنما هو شيء آخر، إنه يضع كلماته في النطاق العام. ولا يزال على المستمعين أن يقوموا بنقلة مغايرة تمامًا، وهي أن يستنتجوا ويُؤَوِّلوا، وأن يدركوا أنهم مرتبطون بحوار عن موضوعات سابقة، وإنه حوارٌ هادف وأنهم هم المقصودون بالمعاني المستهدفة … وهكذا.

ونجد تعبيرًا صادقًا عن معنى التأويل والتقييم والاستنتاج، بل والإبداع من ناحية، وعن التواصل الفعال من ناحية أخرى في المثال الحي والواضح، الذي قدمه الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين:

«شخصان يجلسان في غرفة صامتَين. ثم قال أحدهما: «حسن». ولم يجب الآخر.»

إن هذه «المحادثة» برمتها تبدو لنا باعتبارنا غرباء عن السياق أمرًا عبثيًّا وغير مفهوم تمامًا، ومع هذا فإن هذه المكالمة الغريبة بين شخصين والتي دارت في الواقع على لسان شخص واحد فقط — على الرغم من أنها يقينًا لم تزد على الترنُّم بكلمة — إنما هي ذات دلالة ولها معنًى كامل وهادف تمامًا.

ولكي نكشف عن معنى ودلالة هذا الحديث يتعين علينا أن نُجري تحليلًا له؛ ولكن ما هو بالضبط الذي يجب أن نخضعه للتحليل؟ إننا مهما حاولنا وجاهدنا إزاء النطق اللفظي البحت (أعني مهما حاولنا الكشف عن المعنى واستخراجه من الكلمات) فإننا لن نخطو خطوة واحدة تقريبًا في سبيل فهم الحديث كاملًا.

ترى ما الذي يعوزنا إذن؟ ينقصنا السياق الكامن فيما وراء اللفظ extraverbal الذي يجعل الكلمة تعبيرًا ذا معنًى للمستمع (أي ينقصنا ما يعرفانه معًا وما يعرف كلٌّ منهما أن الآخر يعرفه) إذ عندما بدأ الحديث بينهما تطلع كلا المتحدثين إلى النافذة وأبصرا الثلج وقد بدأ يتساقط، وعرَفا معًا أن الربيع قد أزف … لقد كانا معًا ينتظران الربيع، وأحسَّا معًا بخيبة أمل لتأخر سقوط الثلج. ها هنا هذه الرؤية المشتركة (ندف الثلج خارج النافذة)، وهذه المعرفة المشتركة (الوقت بالنسبة لفصول السنة)، أي الربيع، وهذا التقييم المشترك (الشتاء الذي أثار السأم والربيع المنتظر)، كل هذا يشكل الإطار أو القاعدة التي يرتكز عليها الحديث مباشرة. وتم إدراك هذا كله بكل ما يتضمنه من معان عملية وحيوية … ولكن ظل هذا كله دون تحديد أو تعبير لفظي منطوق. بقيت ندفُ الثلج خارج النافذة، وبقي التاريخ مسطورًا على صفحة روزنامة، ثم هناك التقييم الثاوي في نفس المتحدثين، ولكن كل هذا افترضته ضمنًا واشتملت عليه كلمة «حسن».17

وإحدى طرق التفكير في الإبداع بهذا المعنى في الحياة اليومية هي أن نتصوره مثل اللعب، لعبة إعادة تركيب الصور والتداعيات، والمشاعر، والعلامات الرمزية وعلاقاتها على نحو ما نرى في الموسيقى، أو في الرياضيات، أو في الأساطير، أو في الفن التشكيلي. ومناط الأمر هنا أن اللعب لا يتحدد باعتباره شيئًا غير هادف. وسبب ذلك أولًا: أن اللعب بالرموز وبعلاقاتها ومعانيها على نحو ما نجد، على سبيل المثال، في اللعب بالرموز الرياضية؛ إنما يُفضي إلى اكتشافٍ أصيل، وإلى أفكار وتأكيدات يمكن إثبات صوابها تأسيسًا على التواصل المشترك بين الذوات. وثانيًا: يمكن أن يكون اللعب جادًّا للغاية؛ إن اللعب بالألفاظ والأصوات عند الأطفال وقت تعلمهم الكلام ليس «مجرد» لعب، وإنما هو تجريب وممارسة على استخدام نفس مادة الكلام.

والنمط الأساسي هنا هو عمل تنويعات على نفس الفكرة. وهذا هو ما أوضحه بجلاء دوجلاس هوفستادتر. معنى هذا أن التنغيم النمطي والتجنيس اللفظي عند الأطفال في سن الرابعة، وكذا تكرار وترديد جملة موسيقية لباخ مثلًا وتنويع لحنها إنما يعتمد على كون أي من هذه الأمور موضوعًا مدركًا ويجري تنويعه. وهنا لا يعني الإبداع خلقًا من عدم؛ بل أشبه بالتطريز على نسيجٍ موجود فعلًا. ومن ثم فإن الإبداع يحوم قريبًا جدًّا من الطريقة التي تكون الأشياء موجودة عليها ويمثل، كما يقول هو بلغته، خروجًا أو انزلاقًا عما هو قائم إلى ما هو بالتقريب. ويعطينا هوفستادتر المثال التالي عما يسميه قابلية الانزلاق slippability العادي في الحياة اليومية وإن ظل شيئًا مثيرًا للإعجاب:
في إحدى أمسيات الصيف الماضي استمعت مصادفة إلى التنويع التالي على لحن موسيقي بينما كنت في مقهى شديد الزحام. وبينما كنت أنصت إلى اللحن دخل رجل وبصحبته امرأة، وقال لها: «إني سعيدٌ حقًّا أنني لست المرأة التي تعمل على خدمة الزبائن هنا الليلة.» وهذا مثالٌ جيد لتنويع احتمال على اللحن المعزوف؛ ولكن (وكأن الأمر ليس زلة متعمدة تتسم بالجهد) فإن هذا التنويع حدث دون أي دافعٍ خارجي … ذلك أن (الزلة المتعمدة) تحمل خصائص الحياة الدنيوية الحقيقية، ولا تُقاس بهذه الملاحظة العابرة. هذا فضلًا عن أن صاحبته لم تعتبر الملاحظة أمرًا ينطوي على ذكاء أو أصالة متميزة. إنها اكتفت بأن وافقته على الفكرة قائلة: «آه».18
إنني لم أر هذا المثال مجرد مثال ينطوي على قدرٍ من الأهمية؛ بل رأيته مثيرًا جدًّا، وإذا ما حاولنا تحليله فسنجد للوهلة الأولى أنه يُجبرنا، بصفتنا مستمعين، على تخيل عملية إبدال بين جنسين sex-change وقد حدثت في زمن قياسي؛ ولكن إذا ما قنعنا فقط بفهم الملاحظة فسنجد عملًا وفعلًا أن المتحدث لم يدر بخلده أبدًا استحضار مثل هذه الصورة الغربية الشاذة. لقد كانت ملاحظاته مجازية ومجردة أكثر من أي شيء آخر. لقد اعتمدت على الإدراك الفوري للحالة، وكأن لسان حاله قال: «آه يا إلهي! أين أذهب وسط هذا كله؟» واقترن شعوره بخاطر سريع: «فقط لأنني إنسان يمكن أن أضع نفسي مكان هذه العاملة المرهَقة المكدودة. لذا هل كان بوسعي أن أنهض بدور هذه العاملة؟» وإن هذه هي الطريقة التي تتخذها أفكارنا في تتابعها سواء أكان ذلك منطقيًّا أم لا.

وأكثر من هذا نستطيع أن نقول: إن الرجل فهم الموقف، ولدينا الدليل على أنه فهمه؛ لأنه وقع في هذه الزلة، هذه النقلة البسيطة، ولكنها حيوية، مما هو كائن إلى ما كان يمكن أن يكون. ولقد كانت زلة اللسان هي فهمه للموقف.

الخطوة التالية خطوةٌ قصيرة ولكنها لازمة. إنها خطوةٌ تنقلنا من هذا الفهم المعتاد لموقف معتاد إلى تلك المناسبات الأكثر حسمًا بدرجة ما، أعني بها تعلم لحن جديد واكتشاف تنويعات جديدة. والملاحظ أن هوفستادتر لا يجد سببًا لأن نرى فهم الرجل وكأنه في نظره اكتشاف. ويرى أكثر من هذا أنه من حيث المبدأ لا يوجد أي اختلاف بين اللحظة الأولى التي يكتشف فيها المرء شعوره، ولسان حاله يقول: «آه، ولكن يا إلهي إلى أين أذهب؟» وبين المرَّة المائة. إذ ها هنا التعلم والفهم كلاهما عمليًّا نفس الشيء؛ ذلك أن كلًّا من الكبار والأطفال يفيدون بالخيال والإبداع — الزلل — للتعلم، خاصة التعلم فيما يختص بالمواقف. وهذا هو عين ما يفعله العمال المهاجرون والأسرى والعبيد والنساء المتزوجات من خارج out-marrying women، والرجال المتزوجون من داخل in-marrying men والمسافرون، بل وعلماء الأنثروبولوجيا. هؤلاء جميعًا يبدءون بتلمُّس طريقهم شيئًا فشيئًا داخل مجتمع جديد، راغبين في قفزة تنقلهم من حالة الجهل والعجز إلى حالة الفهم. ولهذا فإن هذا الإبداع اليومي كان للحياة اليومية، وهي حياةٌ يومية تبدو دائمًا وكأنها هي هي نفسها وإن كانت دائمًا مختلفة. إنه كافٍ للأطفال للاندماج في تلك الحياة، كما أنه كافٍ للغرباء.

ولكننا ما إن نخطو هذه الخطوة حتى يتعذر علينا تجنب اتخاذ خطوة أخرى. ويمثل لب اهتمامي هنا سؤال محوره: كيف يعمد البشر إلى صناعة التاريخ؟ ما هو الشيء الذي يدعوهم مثلًا إلى تغيير مجتمعهم الراهن بمجتمع آخر غيره؟ أجد أن الإجابة لا بد أن تتمثل جزئيًّا فيما يلي: إنهم يفعلون هذا بنفس القدرات التي تسمح لأي امرئ بأن يفهم ويتعامل مع موقف جديد غير مسبوق. يفترض هذا الرأي بطبيعة الحال أن ثمة مواقف جديدة تظهر دائمًا، وأن الحياة المشتركة التي تبتكرها قدرتنا الإبداعية سوف تتجاوز قدرة أي امرئ فرد، على ضبطها وتوجيهها لتمضي في مساراتٍ مألوفة. ونجد هذا الواقع ماثلًا في عبارة خالدة ذات دلالة قالها ماكس فيبر: «النتائج غير المتوقعة.» وأعتبر هذه العبارة أساسية بالنسبة لطبيعة الحياة الاجتماعية، وهي طبيعةٌ سببية ومتحولة. ومن ثم فإن صناعة التاريخ هي في الغالب الأعم مسألة معالجة إبداعية للتحولات التي اكتملت، وهي تحولاتٌ تطرح نفسها كواقع تام مكتمل. علاوة على هذا فإن التحول لا يجري واحدًا واحدًا، أي على نحو تجزيئي فردي؛ بل يجري في صورة فيضٍ دافق من النشاط «العابر، الغامض والمتقلب»، ناهيك عن أنه لا يظهر وكأنه نتيجة لأفعال المرء الذاتية وحده. كيف يتسنى لنا أن نفهم مثل هذا الفيض الدافق؟ ثم كيف لنا أن نبتكر سبلًا للاستجابة إزاءه؟ السبيل الوحيدة، هي أن نتحرك على أساس الاحتمالات بأن نحول ما لم يكن وإنما كاد أن يكون، إلى ما هو كائن الآن فعلًا. فالناس حين يستعينون بذات القدرة الإبداعية التي تجعلهم يفهمون ويبعثون القديم، القائم فعلًا، إنما يخلقون أيضًا الجديد، إذ يبدعون أشكالًا جديدة من العلاقة، وأشكالًا جديدة من الحياة العامة المشتركة.

الكلام والحكايات

أنتقل أخيرًا إلى موضوع الكلام. وأؤكد أن اهتمامي منصبٌّ على الكلام وليس اللغة. وقد سبق أن مايَزَ عالم اللغة الفرنسي سوسير بين الاثنين منذ مطلع القرن العشرين. وذهب إلى أن اللغة أو اللسان هو محطُّ الاهتمام الرئيسي لعلماء اللسانيات، والمقصود بذلك البنية الذهنية المجردة ومجموع العلاقات بين الكلمات المختلفة في معجم ما، وبين أنواع الكلمات في البناء النحوي لها. ويمكن الإفادة بهذا التجريد لبيان درجة الوضوح. وليس يسيرًا اكتشاف اليقين بين الوقائع المختلطة والمتشابكة للكلام العادي.

لقد سادت طوال القرن العشرين تقريبًا هذه النظرة إلى الكلام والتي تقضي بأن تكون دراسته باعتباره لغة، أي نسقًا صوريًّا بحتًا، أو باعتباره هكذا في الأساس. ولكن نعوم شومسكي، وهو عالم لسانيات فذٌّ، خرج علينا خلال السنوات الأخيرة بنظرية أكَّد فيها أن معرفة اللغة تختلف تمامًا عن أنواع المعارف الأخرى. إذ يمكن تمييز اللغة باعتبارها نسقًا من القواعد النحوية بحيث يتألف، في التحليل الأخير، من بنيةٍ عميقةٍ فِطرية لدى أفراد البشر. وتشكل هذه البنية النحوية العميقة قاعدة البنية السطحية للنمو الفعلي لأي لغة بذاتها. وأكد علاوة على هذا أن هذه النظرة توضحها لنا السرعة التي يتعلم بها أطفال البشر كل تعقدات اللغة؛ خاصة إذا ما قارنَّا سرعتهم هنا بظاهرة البطء النسبي عند تعلمهم المهارات الأخرى. وأطلق شومسكي على هذه الآلية الذهنية الموروثة عبارة «جهاز اكتساب اللغة» Language Acquisition Device واختصارها بالأحرف ج أ ل، أو LAD.19
ومع هذا فإن بالإمكان أن توجه ضد «ج ا ل» ذات الاتهامات التي وجهتها في السابق ضد الأفكار عن الثقافة؛ ذلك أنها أساسًا لا اجتماعية وفردية النزعة، لا تضع اعتبارًا للروح الاجتماعية البشرية. وبناء عليه شرع الباحثون في استكشاف المزيد من الأطر التفاعلية والاجتماعية. وهنا، على سبيل المثال، نجد جيروم برونر، الذي لا يزال يُصرُّ على استخدام فكرة «ج ا ل» مع وضعها في سياق آخر، يقول:
«يبدأ الطفل اكتساب اللغة قبل أن يلفظ أول كلام له معجم نحوي lexico grammatical. إنه يبدأ عندما يبتكر الطفل والأم صيغة للتفاعل يمكن التنبؤ بها، وتفيد كعالَم صغير للتواصل وتأليف واقع مشترك … ولا يستطيع (الطفل) أن يحقق … اكتساب اللغة دونها. وتتوافر له في ذات الوقت طائفةً فريدة من قدرات تعلم اللغة، ومن شأنها أيضًا أن تهيئ استعداده المسبق؛ وهو شيء شبيه بما سمَّاه نعوم شومسكي جهاز اكتساب اللغة (ج ا ل). ولكن جهاز اكتساب اللغة عند الطفل لا يمكنه العمل دون مساعدة أحد الكبار الذي يدخل معه في صيغة تعامل تبادلي. وتوفر هذه الصيغة التي تعمل بداية تحت سيطرة الكبير، نسقًا داعمًا لاكتساب اللغة (ن د ك ل LASS) Language Acquisition Support System … أو في كلمة واحدة، إن التفاعل بين «ج ا ل» و«ن د ك ل» هو الذي يُمكِّن الطفل من دخول مجتمع اللغة، وفي الوقت ذاته الثقافة التي يدخلها عبر اللغة.20
ولكن عالم النفس ميشيل توماسيلو يمضي بهذه الحجة إلى مدى أبعد. ونلحظ أنه في سعيه هذا يرفض الأفكار الخاصة عن وجود جهاز خاص (ج ا ل)، كما يرفض القول بوجود نحو فطري كلي شامل؛ إذ يقول:
«واضح أن اللغة واكتسابها يعتمدان بصورةٍ حاسمة على عمليات أساسية هي: الإدراك والاهتمام والتصنيف والتعلم والذاكرة … وغير ذلك من عمليات معرفية عامة؛ ولكن الملاحظ في الغالبية العظمى من الحالات أن الصيغ الاجتماعية لهذه العمليات — الإدراك الاجتماعي، والاهتمام الاجتماعي، والمعرفة الاجتماعية، والتعلم الاجتماعي — هي التي لها أهمية حاسمة في اكتساب الجوانب الفريدة للغة، والتي تُمايِزها عن غيرها من الأنشطة البشرية … ولكن اللغة البشرية، وعلى وجه التحديد خصوصياتها النسقية التي يعبر عنها النحو، إذا ما نظرنا إليها داخل إطار هذه المهارات الاجتماعية/الثقافية، فإننا على الفور نجد أن فهم القدرة على تعلمها ليس أصعب من اكتساب الكثير من المعتقدات والمهارات الثقافية الأخرى.»21

وهذه القضايا لا تزال أبعد ما تكون عن الحسم؛ بيد أنني فيما يلي أتبنى وجهة النظر القائلة بأن القدرة على فهم النحو، والقدرة على فهم عالم مشترك مع الناس، ومن خلال التفاعل معهم ليستا قدرتين منفصلتين إحداهما عن الأخرى، إنهما معًا هما معادل الكلام.

لذلك فإن الكلام نشاط متبادل ومشترك بين ذوات متعددة، ومن الأمور المحورية في هذه العلاقة التبادلية واقع أن الناس يصنعون من خلال الكلام أشياء للآخرين، ونيابة عنهم، وبواسطتهم، وتتعلق بهم. إننا بالكلام نقدم الوعود، ونهدد، ونسأل، وننطق، ونحذر، ونؤكد، ونوافق … وغير ذلك من أمور كثيرة. ويمكن لنا أن نتبين من خلال عمليات الاتفاق معنى العمل من أجل الناس وبواسطتهم عن طريق الكلام؛ إذ نستطيع للوهلة الأولى أن نتصور أن عملية الاتفاق هي مسألةٌ تتعلق ببعض أمور الحياة. ومن ثم فإن أحدنا يكون على علمٍ بها أول الأمر ثم يعرفها الطرفان. وطبعي أنه حين يتفق نيجل مع بن (وينتهي الأمر بأن يقررا تبادل التحية؛ بل أن يتوقفا عن السير ليثرثرا معًا) على أن اليوم يوم عاصف تمامًا ونموذج للطقس في إنجلترا؛ فإن هذا الاتفاق يتضمن يقينًا بعض المعلومات. ولكن هذه المعلومات في الحقيقة لا تعطي بينات جديدة عن عالم المادي؛ كأن تفيد بأن المطر البارد آتٍ من سيبيريا، وأن بن أو نيجل لا يتخيل أحدهما الآخر في صورة أي شخص مجهول إلى الآخر، حتى إن كان كل منهما يضيق بالآخر. ويؤكد الاتفاق بينهما، كبداية، شكلًا من أشكال القصدية من المرتبة الثانية، بمعنى أن كلًّا منهما يعرف الآخر، ويعرف أن الآخر على علم بكل ما دار من حديث للإفادة بأن المطر منهمر. وها هنا نعود مرة ثانية بطبيعة الحال إلى الكلمة التي جاءت على لسان أحد شخصيتي باختين، وهي «حسن». ولكن المتحدثين أقل تعاطفًا فيما بينهما وبحاجة إلى جهدٍ كبير لتحقيق الانسجام. وواقع الأمر أن المعلومات والنشاط المتبادل لا يتوقفان عند هذا الحد؛ ذلك لأن ما هو بسبيله إلى التحقق فعلًا خطوة خطوة هو أكثر من مجرد تفاهم متبادل، عن رغبة كلٍّ منهما للثرثرة مع الآخر، وأن يكون ودودًا معه، وأن يفتح صفحة جديدة لمزيد من التبادل بينهما. وهذه دون ريبٍ تعتبر من ناحيةٍ معلومة، وإن كانت هي الجوهر الذي تنشأ على أساسه العلاقات. ومن ثم يمكن القول من زاوية أخرى إن بن ونيجل يعملان أحدهما من أجل الآخر، وبسببه وليس بسبب المعلومات المتبادلة عن مسائل الأرصاد الجوية.

ويفيد التاريخ الحديث لأفكارنا عن اللغة أن «أفعال الكلام» التي من هذا النوع — والعبارة هنا للفيلسوفين أوستِن وسيرل22 — تبدو لنا حالات خاصة تالية للوظيفة الأولى للكلام، من حيث هو كساء خارجي لفكر باطني غير مجسد وتمثيلي ووصفي وخبري. وتأسيسًا على هذه النظرة القديمة عن التواصل تكون الأفكار أشياء؛ والتي هي جمل خبرية صادقة أو زائفة عن العالم الطبيعي، وأن الكلام ما هو إلا كساء أو غلاف يُحيط بها؛ ولكن إذا ما نظرنا إلى الكلام باعتباره مكونًا للروح الاجتماعية البشرية، فإن مثل هذا الفكر المجسد سيبدو، على النقيض من ذلك، حالة خاصة ومميزة من الكلام؛ كلام غير ملفوظٍ على نحو وصفي دون محاور صريح. ويمكن القول دون خطأ إن مثل هذا الكلام الباطني، أي هذا التفكير مع النفس الذي يجري دون كلمات تقريبًا، موجود فعلًا وله جذوره العميقة في ماضينا التطوري؛ ولكنه لا يكون في صورة المعيار، أي الصورة الجوهرية للُغةٍ باطنية، إلا بعد تطورات كثيرة. وأحد هذه التطورات التي وصفتها في كتاب «بوذا» هي ابتكار طراز معمم من الكلام موجه إلى مستمعين عامين، وليسوا خاصين، وموجه إلى المستقبل. وإن مثل هذا الفكر المجسد الذي يبدو في ظاهره فكرًا فلسفيًّا مجردًا ومبرأ من السياق، إنما تم ابتكاره في استقلال واضح في كل من الهند القديمة واليونان القديمة. وبعد ذلك أضفت الكتابة والرسم على هذه الأفكار والممارسات حياة جديدة في صورة جديدة للعلاقات الاجتماعية؛ إذ أتاح هذا للكُتاب أن يخاطبوا مجهولين إليهم؛ سواء غرباء أجانب أو من ذرياتهم.

وارتبط مفهوم الإعلام الآني بالتأثير في الآخرين برباط قوي تمثل فيما يوصف بأنه نشاط الكلام المثقل بالمعلومات أكثر من أي شيء آخر: أعني رواية القصة. ذلك أن رواية القصة كما أستخدمها هنا، قد تُشير إلى مناسبات متناهية الصغر مثل غمزة بطرف العين تفهم منها زوجتي أنني فعلًا ذهبت إلى المصرف اليوم. ولكنها قد تشير أيضًا إلى رواية ملحمة الإلياذة أو إلى كتابة وقراءة «سقوط وانهيار الإمبراطورية الرومانية». حقًّا إن رواية القصة تُشير إلى ما يمكن اعتباره أقوى القدرات البشرية، والذي نفهم به الحالات المزاجية والخطط والمعتقدات الخاصة بنا وبالآخرين، ونفهم من خلالها التحولات التي طرأت على تلك الحالات الذهنية عبر فيضٍ طويل من الأعمال والنشاطات. ويستطيع البشر من خلال هذا المنظور أن يفهموا وضعًا اجتماعيًّا معقدًا ذا بُعدٍ زماني عميق. ويستطيعون كذلك أن يفهموا التحولات التي طرأت على هذا الوضع، ويغدو بإمكانهم، علاوة على هذا، أن يستثيروا لدى كل منهم معلومات خاصة عن هذا الفيض من الأحداث وتفسيراتهم لها. وأن هذا الفكر الراوي إنما يكمن في قلب الروح الاجتماعية، والذي سأرصد له الفصل التالي.

تجميع أجزاء الصورة

هذه القدرات التي حللت إليها الروح الاجتماعية البشرية ليست بالضرورة قدرات يتعذر ردها إلى ما هو أبسط منها؛ كما أنها لا تشتمل على جميع القدرات المميزة للبشر. إن الأدوات الفعلية التي يستخدمها علماء النفس أو علماء الإيثولوجيا المعرفية،١ يمكنها أن تكشف عن الفوارق بين أنواع الرئيسات، وهو ما من شأنه أن يُفيد فائدة كبرى ويكون أكثر دقة وشمولًا. بيد أنني أريد أن أُقدم وجهة نظر عالم أنثروبولوجيا، مؤكدًا أن هذه القدرات تعمل فعلًا متضافرة مع بعضها البعض، وأنها تعطي معًا نتيجة موحدة هي القدرة على إبداع أشكالٍ للحياة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها.

ويشتمل هذا الفصل على إجابتي الأساسية عن سؤال هو: كيف أصبح للناس تاريخ؟ وعمدت فيما يلي — باستثناء بعض أجزاء من الفصل التالي — إلى أن أترك وراء ظهري المسائل البيولوجية والنفسية؛ وأن أعمل على استكشاف دلالات الروح الاجتماعية. إنني أدرس الفكر الراوي وكيف صاغ النشاط، معتمدًا على مثالٍ فعلي لفهم الناس لحركة تحول كبرى في الحياة الاجتماعية وطبيعة علم الأنثروبولوجيا؛ إذ على الرغم من أن علم الأنثروبولوجيا ليس سوى فكرة محدودة، لا تتجاوز هامشًا تفسيريًّا للروح الاجتماعية، إلا أنه يعتمد بصورة قاطعة على جانب من جوانب الروح الاجتماعية؛ أعني القدرة على تخيل قصص الآخرين … الآخرين الذين لم يكن لدى المرء في بداية الأمر أي رابطةٍ معهم يمكن تخيلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤