الفصل السابع

التحول

ركزت حتى الآن على نطاقٍ صغير ومحدود من الخبرة الاجتماعية، وكنت في هذا متأثرًا بالتيارات الكثيرة السائدة في العلوم الاجتماعية التي لخصتها في عبارة «النزعة التبادلية» Mutualism. ونال أحد هذه التيارات منِّي اهتمامًا خاصًّا في الفصل السابق، وأعني به التيار المعني بأدق أنواع التحليل الممكنة للتفاعلات التي تجري بين اثنين أو أكثر من الناس، ويتناولها الواحد بعد الآخر. ويُجري مثل هذا النوع من التحليل في علم الاجتماع علماء متخصصون في مناهج البحث الإثنوجرافية Ethnomethodolgist، وأخصائيون في تحليل المحادثات، كما يجريها في علوم اللسانيات باحثون متخصصون في التفاعل الاجتماعي-اللغوي Interactive Socio-Linguist. وإذا كانت ألقابهم تتألف من كلمات متعددة المقاطع، فإن هذا ربما يكشف عن مدى غموض موضوعات اهتماماتهم. حقًّا إنهم كانوا ينزعون إلى تشكيل وحدة خاصة مستقلة ومختلفة نوعًا بين الباحثين بعامة؛ بيد أن دراساتهم ألقت، على الرغم من هذا، ضوءًا قويًّا كاشفًا يوضح لنا كيف يعيش البشر معًا.
ولم يكن هؤلاء الباحثون أصحاب نفوذ قويٍّ في مجال الأنثروبولوجيا، ويرجع هذا على الأرجح لأسباب عدة. تحدث عن أحد هذه الأسباب إرنست جيلنير الذي وصف علم مناهج بحث الإثنوجرافيا Ethnomethodology، بأنه «الذاتية على الطريقة الكاليفورنية».1 ويعني بهذا أن مثل هذا الاهتمام بالأحداث المباشرة التي تجري بين الأفراد هو في الواقع إخفاق في البحث السوسيولوجي على أساس الترابط بين خبرات الحاضر والماضي. وهذه في رأيه إحدى صور الفكر الفردي النزعة الخاطئ في التطبيق. وفي رأيه أيضًا أن مثل هذا الفكر يغفل ذات القوى والأحداث الواقعية التي تشكل العالم الأكبر التاريخي والاجتماعي الذي نعيش فيه. بيد أنني افترضت منذ البداية أن نظرة جيللينر — وبالأَولى وولف — التي تعالج الأحداث العيانية في إطارها العام macroscopic scale، والنظرة المجهرية المدققة microscopic إلى «سوسيولوجيا كاليفورنيا»، لا بد وأن يكونا جزءًا من الكيفية التي نفهم بها الروح الاجتماعية البشرية. ذلك أننا على مستوى النظرة العيانية العامة إنما نخلق بوضوح أشكالًا اجتماعية شديدة التنوع، «تماثل الشبكة ومن ثم ذات روابط شبكية» بين عناصرها وبعضها البعض، وداخل كل عنصر، وتشمل في الواقع نطاقًا واسعًا جدًّا. أما على المستوى المجهري المدقق «الميكروسكوبي» فإننا نستطيع أن نرى كيف يخلق الناس بالفعل الروابط فيما بينهم، وكيف يتعاملون معها ويغيرون أشكالها.

أنتقل الآن من مستوى الدقائق إلى مستوى العام. لقد مايزت في الفصل الأول، عند الحديث عن الفكر الروائي، بين تطلعات علماء النفس وبين تطلعات علماء الأنثروبولوجيا. وأوضحت أننا نحن علماء الأنثروبولوجيا قد تحركنا في اتجاه منظور يغلب عليه الطابع التاريخي. إننا نكتب الآن عن ناس «يبدلون أنماط أدوارهم» وهم في علاقة مع بعضهم البعض ومع بيئتهم داخل مجتمع قائم على مواجهة مباشرة. ويقوم هذا المجتمع على تنظيم اجتماعي معقد وله ماضٍ عريق ومستقبل غير معروف، وتراث ثقافي تليد. ونحن ماضون قُدمًا رويدًا رويدًا في اتجاه الكتابة عن هذه الشعوب عند «ارتباطها بآخرين وضد آخرين، وفي جماعات مصالح وجماعات عرقية وطبقات. وهدفنا إعادة وضع تاريخهم في مواجهة القوى البيئية الاجتماعية المحلية والعالمية المتحولة. وها هنا في هذا الفصل أعرض حجة تتسق مع الأسلوب الأخير المشار إليه في علم الأنثروبولوجيا.»

سوف ألتزم فكرتين؛ الأولى تتعلق بطريقة فهم حالة من حالات التحول واسعة النطاق ذات الطابع المتميز من جانب بعض المشاركين فيها، وأذهب إلى أن فهمهم لهذه الأحداث هو فهم تفاعلي ومتبادل بين الذوات المختلفة، ويكاد يكون على نفس النحو الذي فهمت به أنا والسيد س بصورة تفاعلية متبادلة قصةَ سيدهاساجار. أو لنقُل، بعبارة أخرى: إن الناس يدركون الدفق الأضخم من الأحداث التي يعيشونها بنفس الشروط وبنفس الوسائل التي يدركون بها وضعهم المباشر. والفكرة الثانية هي الآتي: لقد كان فهم هؤلاء المشاركين تحديدًا فهمًا إبداعيًّا في الأساس؛ إنه يمثل وجهة نظر جديدة ومنظورًا جديدًا وثيق الصلة بالظروف والملابسات الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها. وعلاوة على هذا فإنهم إذ يفرضون هذه الزاوية من النظر على الآخرين إنما يسهمون في تدفق الأحداث، ويساعدون على خلق تنظيمات جديدة تشارك في عملية التحول ذاتها.

ودراسة الحالة التي نعرض لها هنا مستمدة من نصٍّ بوذي شديد القِدَم. لقد اعتدنا تصور عالمنا الحديث باعتباره في حركة متغيرة سريعة على النحو الذي وصفه وولف إذ قال: «جميع المجتمعات البشرية التي لدينا سجلات عنها هي مجتمعات «ثانوية»، وغالبًا ما تكون في الحقيقة في ترتيب ثالث أو رابع أو مئوي، وإن التغير الثقافي أو التطور الثقافي لا يعمل داخل مجتمعات منعزلة، وإنما يتعلق دائمًا بأنساق مترابطة متشابكة؛ حيث تكون المجتمعات في علاقات وروابط متباينة داخل «مجالات اجتماعية» أوسع.2 وحدث التحول موضوع البحث داخل النسق المترابط للمجتمعات الممتدة على طول ضفتي نهر الجانج في شمال الهند منذ ٢٤٠٠ عام مضت. والنص المعتمد في البحث هو كتاب أجانا سوتانتا Aganna Suttanta — وسوف أسمِّيه اختصارًا أجانا — والذي يكشف عن تحولات بعيدة المدى في مجريات حياتهم الاجتماعية.

ويكشف كذلك عن إدراك جاد للعلاقة بين مبدعيه والمتحدثين بلسانه من ناحية، وكذا جمهوره وعالمه الأوسع من ناحية أخرى. وهنا، وكما كان الحال في قصة سيدهاساجار، يشكل الإطار جزءًا من الصورة، وكذا فإن ظروف وملابسات رواية أجانا تشكل جزءًا من المعنى. واستخدم الناس أجانا، مثلما استخدموا قصة سيدهاساجار، للتأثير في آخرين، ومن ثم كانت إحدى أدوات تغيير الحياة.

عالم أجانا

سوف أبدأ بتقديم عرض سريع جدًّا للوضع التاريخي الاجتماعي.3 بلغ بوذا — شأن معاصرِه ماها فيرا مؤسس العقيدة اليانية — أوج ازدهاره حوالي ٤٠٠ق.م. في منطقة سهول حوض نهر الجانج. وكانت قد انتشرت آنذاك قبل بضعة قرون مجموعة من المجتمعات المحاربة البطولية الصغيرة على طول ضفتي النهر. وتطورت هذه المجتمعات لتصبح في ذات الوقت ولايات ملكية مركزية. ونجد قائمة تقليدية تضم ستة عشر اسمًا لهذه «البلدان العظيمة»؛ ولكن وقت ظهور بوذا كانت بعض هذه البلدان قد ابتلعت البعض الآخر وبدأت طريقها لتحقيق انتصارات جديدة. وتسمى إحدى هذه البلدان كوسالا Kosala التي غزت بلاد الساكيين Sakayas، وهم شعب بوذا بينما كان بوذا لا يزال على قيد الحياة. وثمة بلد آخر هو ماجادها Magadha الذي كان يُسيطر بالفعل على بلاد البنغال الغربية. وابتلعت ماجادها أيضًا اتحاد ولايات فاجي Vajji المؤلف من جمهوريات قبلية. وحدث ذلك بعد وفاة بوذا مباشرة، واستطاعت في أقل من قرنين أن تشكل نواة لإمبراطورية موريان التي كانت في عصرها أضخم إمبراطورية في العالم، كما كانت أعظم قوة ستعرفها الهند حتى عصر قيام إمبراطورية راج البريطانية التي بلغت أوج عظمتها بعد ذلك ﺑ ٢٣٠٠ عام. وشهدت البلاد تحولًا عظيمًا يجري باطراد، حقق لشعب حوض نهر الجانج نتائج لا تقل في شيء عن النتائج التي واكبت انتشار الرأسمالية والنزعة الاستعمارية التجارية على سواحل الأطلسي.

ونشأت وسط هذه الولايات مدن جديدة ضمت قصورًا للملوك، وأفضت القصور الملكية والمدن إلى نشوء حياة حضرية متكاملة؛ تجار، وصناع حرفيين ذوي مهارات جديدة، وجنود وعمال، علاوة على الأمراء المهزومين الملتزمين بدفع الجزية، والمشردين والأجانب والانتهازيين. ونشأت علاقات بين المدن والريف، وبسطت المدينة هيمنتها عن طريق جنود الملك وجباة الضرائب، وكذا من خلال النتائج البارعة للرحلات التجارية بعيدة المدى. ونشأ تقسيم للعمل أكثر تعقدًا عن ذي قبل، وكذا تقسيم للقوى والمكانات الاجتماعية، وأصبح كل أصحاب اللغات والثقافات المختلفة تجمعهم ساحة مشتركة للتفاعل المتبادل؛ حيث يحقق الجميع أقصى ما لديهم. وقد يهتم وولف هنا بالقوى التي تقود إلى تكوين الإمبراطورية؛ ولكنني معني بأمر آخر: كيف فهم الناس أنفسهم حقًّا وسط هذه الأشكال غير المسبوقة للحياة العامة؟

لقد بدءوا بأداة فكرية عتيقة جدًّا هي تصور عن الأوضاع والمراتب الاجتماعية المختلفة في المجتمع. وكانت هذه الأداة خاصية من خصوصيات المجتمعات المعتمدة على البطولات العسكرية، وتذكرنا بتقسيم المجتمع في أوروبا خلال العصر الوسيط إلى ثلاث مراتب: القائمون على شئون العبادة، والمحاربون، والعمال. أو لنقل: الكنيسة، والنبلاء، والفلاحون. وعرف المخطط الهندي أربع مراتب اجتماعية: البرهمانيون في القمة، وهم رجال الدين القائم على القرابين، والمثقفون في آن واحد؛ ولكن على الرغم من سمو مرتبتهم إلا أنهم لم يكونوا أصحاب السلطان، وإنما تركوا أمر السلطة للمرتبة التالية لهم في الترتيب وهم الخطيون Khattiyas أو المحاربون. وهؤلاء مهمتهم الحرب والحكم وتحمل تكاليف القرابين. وتضم هذه الفئة الملوك والنبلاء. ويمثل الطبقة الثالثة العامة أو المنتجون أو المزارعون. أما الطبقة الرابعة، وهي الأدنى، فهم العبيد Menials أو أولئك الذين لا يصلحون لعمل شيء يفيد العقيدة الدينية، القائمة على تقديم الفداء والقرابين، ومن ثم هم مكرهون على أن يعيشوا حياة عبودية تحت هيمنة الطبقات الثلاث الأولى. ويبين هذا التصور علاقة تراتبية متتابعة بين المكانات أو المنازل الاجتماعية؛ ولكن يبدو محتملًا أنها تصف، إلى حد ما، مجتمع المحاربين القديم، الذي ضم صفوة من المحاربين ومعهم كهنتهم واستأثروا بالسيادة على العامة وغيرهم.
ولقد كان هذا التصور العتيق أسلوبًا شائعًا لرؤية العالم الإنساني. وجرى في ضوئه تقسيم المعالم إلى ما تمثل في صورة أنواع مختلفة. ومن ثم فإنك، على سبيل المثال، حين تسمى شخصًا ما خطيًّا Khattiya فإنك لا تصفه فقط بأنه محارب يحمل السلاح أو حاكم؛ بل وتعزو إليه أيضًا صفات بذاتها منها الكرم والبطولة والنبالة. وكذلك لم يكن البراهمي مجرد رجل دين أو كاهن بحكم المهنة؛ بل وأيضًا حكيمًا بالفطرة، ويتحلى بطبيعة تتصف وراثيًّا بالفضيلة والعلم وطهارة الحياة الشخصية والنقاء بحكم الميلاد. إنها نظرة تحمل بعض خصائص الفرقة والتقسيم الساذج لنظام العزل العنصري (الأبارتهيد) Apartheid، حيث لا يوجد بشر وإنما هناك فقط سود وبيض وملونون.

وسوف يُبين لنا كتاب «أجانا» أن مخطط المراتب أو المنازل الاجتماعية استمر كلغة اصطلاحية شائعة، أي نوعًا من اللغة المشتركة بين أبناء المجتمع للتعبير عن التقسيمات الاجتماعية. (الحقيقة أنه بعد إجراء اصطلاحات كثيرة وإضافات عشوائية من هنا ومن هناك ظل التقسيم قائمًا حتى اليوم تعبيرًا عن النظرة البرهمانية للمجتمع الطبقي في الهند)؛ ولكن حدث أن ضعف كوسيلة لزيادة القوة والنفوذ في المجتمعات الجديدة القائمة على ضفتي نهر الجانج، قياسًا إلى ما كان عليه الحال في المجتمعات القديمة المعتمدة على الروح العسكرية البطولية. ومن ثم لم يعد ممكنًا فهمه الآن بنفس الطريقة القديمة. إنه لا يشتمل على نوع المهن الجديدة وما تنطوي عليه من تعقد. فنحن على سبيل المثال لا نجد شيئًا في النصوص السابقة على البوذية يحدثنا عن التجار؛ بينما نراهم يشكلون جانبًا بارزًا جدًّا على مسرح الحياة في النصوص البوذية واليانية. ونلحظ في النصوص الأقدم أن الخطيين هم الفئة الوحيدة صاحبة النفوذ؛ ولكن نجد في النصوص الأحدث كلامًا عن جنود مأجورين وموظفين يعملون برواتب. وتوضح النصوص البوذية — ومن بينها نص «أجانا» ذاته — في السياق موضوع الحديث أن علاقة منزلة المرء الوراثية بالمكانة الاجتماعية الفعلية باتت موضع شك شديد. إذ أصبح بإمكان من ليسوا في عداد الخطيين أن يصبحوا ملوكًا. كما أصبح بالإمكان معاقبة الخطيين باعتبارهم مجرمين عاديين. وأكثر من هذا أن أي امرئ سواء أكان من البرهمانيين أم الخطيين يمكن أن يهبط إلى وضع الموظف الحكومي الصغير. وتمثل جميع هذه الاحتمالات إجمالًا جزءًا من خبرة العالم الشجاع الجديد على ضفتي نهر الجانج، وهي بطبيعة الحال لم تكن أمورًا يمكن تصورها في مخطط المراتب الاجتماعية القديمة.

أخيرًا — وهنا نقترب كثيرًا جدًّا من نص أجانا — فإن المخطط القديم الذي غرسه ورسخه البرهمانيون، لم يكن به مكان لقسمة أخرى بارزة في العالم الجديد، ونعني بها «المجاهدين الدينيين». والمجاهدون هم الرهبان المتسولون الذين يستجدون بدافع ديني، ويشكلون جماعة طليقة من الباحثين الروحيين، وتسود بينهم منافسة داخلية. إنهم مثل التجار المتجولين الذين يطوفون بإرادتهم من مملكة إلى أخرى. ولقد نشأت البوذية واليانية من هذه الأخوة الخصبة فكريًّا وإن كانت بغير مهنة. ونشأت معهم ومن خلالهم، كما أشرت سابقًا، العديد من صور فكرهم القائم على نموذج قياسي. ونعرف أن بإمكان أي شخص — من الخطيين أو الشحاذين أو البرهمانيين أو المزارعين — أن يكون مجاهدًا. وعلاوة على هذا فإن العامة العاديين الدنيويين هم جميعًا في نظر المجاهدين، وعلى قدم المساواة، عُرضة لتطبيق قوانين أخرى غير خاصة بعالمنا الدنيوي؛ مثل: قانون أفعال المرء وما يترتب عليها من إعادة الميلاد، وهي قوانين متماثلة عند البوذية واليانية. والملاحظ عند تشديد النكير على هؤلاء أثناء تقديم العظات أن المرتبة الدينية لا تعني شيئًا إزاء قضاء وقدر التقمص، وهو قضاء حتمي لا فكاك منه. وإذا تأملنا حجج البرهمانيين التي تبرر تفوقهم المسبق نجدها أمرًا يثير الضحك؛ فالمعروف أن مخطط البرهمانيين صاغ المجتمع في صورة متناغمة وإن كانت غير متكافئة. بيد أن المجاهدين أعربوا عن آراء كشفت عن مدى اللجاج والتنافر السائدين فعلًا داخل المجتمع. وهكذا نجد أن كل امرئ داخل عالم بوذا هو رامون، وأن كل إنسان غرق بكيانه في خضم تيارات التغير والصراع العقلي والتفسيرات المتصارعة.

تفكيك مؤقت لنص أجانا الغامض

لعل الأفكار الأساسية في نص أجانا كانت سائدة في عصر بوذا؛ بل وربما جاء أكثرها على لسان بوذا نفسه. غير أن النص على نحو ما هو عليه الآن في صيغته الكاملة والنهائية ظهر إلى الوجود على أرجح تقدير بعد ذلك بقليل، أي بعد مُضي فترة من الزمن على وفاته، وقبيل ظهور أباطرة أسرة موريان؛ إذ قبيل هذه الفترة كان النظام البوذي للرهبان الشحاذين قد أصبح راسخًا، كما كان قد بدأ العمل الجاد والمجهد للحفاظ على كلمات بوذا، وكذا تنقيحها أو تجميلها. والجدير بالذكر أن أصول أي فقرة من هذا النص مثار نزاع واختلاف في الرأي دائمًا وأبدًا؛ بيد أنني سوف أتناول نص أجانا باعتباره عملًا جماعيًّا صاغه بوذا و/أو أتباعه في صياغة موحدة قوية، لعلها مستمدة من مقطوعات بينها في الأصل اختلافات وفوارق (والنسخة التي أعتمد عليها هنا هي نسخة بوذيي ثيرافادا Theravada الموجودين في سري لانكا وبورما وتايلاند، والمكتوبة بلغة بالي Pali. وهناك نسخ من هذا النص بلغات أخرى وقريبة من نص ثيرافادا).
ويتسم نص أجانا بالجمال الشديد، والحِدَّة المثيرة. ولكن يشوبه أيضًا بعض التعقيد والغموض والسخرية والطقوس الملغزة. ويظهر بوذا فيه ليحكي أصل نشأة العالم والمجتمع، ويؤكد، من منظور المجاهد، تفوق النظام الروحي على الاجتماعي. ومن هنا جاء اسم الخطاب الذي يعني شيئًا قريبًا من قولنا: «خطاب عن الأصول والنشأة الأولى»؛ ولكنه ليس بهذا القدر من البساطة. ذلك أن النص يشوبه طابع عدم اليقين أو على الأقل به فروق دقيقة أدركها روس دافيد الذي ترجمه إلى الإنجليزية، وكتب عنه يقول: «إنه واحد من أهم الحوارات وأخصبها بالمعلومات … أشبه بأن يكون سِفر بوذا عن التكوين.»4 ولكنه يستطرد قائلًا: «إننا نلحظ دائمًا سخرية خفيفة الظل تسري بين أسطر القصة كلها … وإن نكهتها قد تفقدها أذن السامع الذي يأخذها مأخذًا جادًّا خالصًا.»5 ولكنني أريد للحظة أن أغفل مسألة السخرية والألغاز وأشرع في تفكيك نص أجانا عن طريق إعادة صياغة جديدة موجزة له، وكأنه عظة تنطوي على خلاصة واضحة. وهدفي من ذلك ببساطة أن أوجه نظر القارئ إلى شكل النص في مجموعه.

يبدأ الخطاب بمحادثة بين بوذا وشابَّين من البرهمانيين اتخذا مقامهما بين الرهبان بهدف الانضمام إلى طريقهم. ويكشف الشابان أثناء الحديث عن موقف أقارب لهما، فخورين بمرتبتهم الاجتماعية ويزدرون الرهبان البوذيين. ويجيب بوذا بأمثلة عملية، ونجد أنه يضع الخطيِّين في مرتبة أعلى من البراهمة؛ إذ اعتاد أن يذكرهم أولًا قبل غيرهم. ولكنه يوضح في جميع الحالات أن أعلى المراتب استأثر بها المجاهدون والرهبان الذين تخلوا عن الدنيا التماسًا للخلاص. ويوضح بوذا بعد ذلك أن الجميع بمن فيهم الملك باسينادي ملك كوسارا — الذي هزم شعب بوذا المعروف باسم الساكيين — يعامل بوذا بإجلال وتوقير اعتبارًا لإنجازاته الروحية.

ويحكي بوذا هنا الأسطورة: الكون مآله إلى زوال. ثم يعود إلى الظهور، وتغدو الكائنات ذات الحواس الموجودة فيه كائنات نورانية حياتها بهجة خالصة. وتتشكل تدريجيًّا قشرة طيبة النكهة والرائحة (على نحو ما تتشكل قشرة على سطح اللبن المغلي) وتشرع الكائنات في تذوقها بنهمٍ. ويشيع النهم بينهم علاوة على أعمال أخرى تتسم بالشح والحمق. ويفضي هذا كله إلى أن يزداد العالم غلظة، وتصبح الكائنات والحياة أشد قسوة، وينتهي الأمر بأن تنشأ لهم أجساد، وتضطرهم قسوة الحياة إلى العمل قسرًا من أجل زراعة الرُّز ضمانًا للحياة. ومع تطور العالم على هذا النحو تنشأ وتتولد عادات مختلفة آخرها المراتب الاجتماعية. ولقد كانت مرتبة الخَطِّيِّ هي أول ما ظهر إلى الوجود، وذلك عندما تم اختيار أحد الكائنات البشرية ملكًا لينظم الآخرين ويضع كلًّا في مكانه. وتوالت بعد ذلك بقية المراتب الاجتماعية. وبناء على هذا يمثل الخطيُّون، وليس البراهمانيون، المرتبة الأسمى قياسًا إلى الشروط والاعتبارات الدنيوية.

والدرس المستفاد من الخطاب هو أن الخطيين أعلى مرتبة، وإن كان المجاهدون والرهبان هم الأسمى منزلة، وهذا ما تؤكده أبيات شعر في قصيدة هي فصل الختام:

الخطيون هم الأسمى منزلة بين هذه الجموع.
المؤمنون بالنسب (ولا شيء سواه).
ومن يحتل المرتبة الأسمى شأنًا بين الآلهة والبشر،
هومن يفيض حكمة وفضيلة.

(قد يبدو أسلوب الترجمة غير شعري؛ وذلك لأن النص الأصلي ليس آسرًا تمامًا. والمعروف أن جمال نص أجانا لا يكمن في بنائه النظمي.)

إعادة تجميع نص أجانا

ولكن — وهذا ما أدفع به وأؤكده الآن — يشتمل نص أجانا على ما هو أكثر بكثير من المذهب الاجتماعي والروحي. ولأشرع ببيان هذا بداية. إن نص أجانا مجموعة مركبة من الأُطُر المحصورة داخل بعضها البعض. ويتألف الإطار الأول الخارجي من كلمات ثلاثة هي: الاستهلال وبداية الكلام، ومعناها: «هكذا سمعت». وتُستهل جميع النصوص البوذية عادة بهذه العبارة الاستهلالية؛ ولكن إذا أسميناها مجرد صيغة فإن هذا يعني أن تفقد رنينها المعجب الهائل. وهي من حيث الهدف تشبه العبارة التي كان السيد س يستهل بها كلامه معي، وتقول: «حكى لي جدي قصة سيدهاساجار.» ذلك أنها تضع ما يليها في وسط اجتماعيٍّ مميز له دفء خاص هو الوسط المألوف في نظام الرهبان البوذيين.

ومع هذا تشير تلك الكلمات أيضًا إلى شيء آخر يتجاوز حدود الرواية في ذاتها عند السيد س، إلى هدف راسخ قائم على قدر أكبر من التروي قصدَ تبليغ رسالة ونشر الدعوة. وسبق أن أوضح كي آر نورمان أن الرهبان البوذيين نظموا أنفسهم على نحوٍ معقَّد داخل مجموعات، كل مجموعة مسئولة عن حفظ واستظهار باب من نصوص بودها فاكانا Buddha Vacana التي تعني «كلمة بوذا»؛6 وكذا تعليم آخرين غيرهم حفظ واستظهار باب منها. وصيغت هذه النصوص، علاوة على هذا، صياغات خاصة تساعد الذاكرة على التذكر؛ مثال ذلك: تكرار العبارات، واستخدام الإيقاع الشعري، والجناس الاستهلالي والسجع. وهذا كله من شأنه أن يساعد كثيرًا على الاحتفاظ بالنص في الذاكرة كما ييسر إعادة الترتيل الدقيق دون تحريف. واستحدث الرهبان أخيرًا معجم مفردات شاملًا الملاحظات النقديةَ على النص، بُغية مناقشة وإثبات أمانة نقل الرسالة ودقة محتويات أي نص. والنتيجة أن القسط الأكبر من أدبيات عصر صدر البوذية — التي تَملأ بعد طبعها عديدًا من أرفف المكتبات — تم حفظها والحفاظ عليها شفاهيًّا على مدى قرون طويلة قبل الاستعانة بالكتابة. وسبق أن أشرت إلى أن التنظيم الاجتماعي الذي يدعم هذا الشكل أو ذاك من أشكال التكنولوجيا إنما يكون، على أقل تقدير، بالغًا قدرًا من الروعة شأن التكنولوجيا ذاتها؛ بيد أننا هنا إزاء حالة نجد التكنولوجيا فيها لا مادية تمامًا؛ وإنما هي عقلية ولغوية واجتماعية للغاية. وهذه حالة لافتة تمامًا للنظر بسبب افتقارها الكامل لأساس مادي.

وإن فهم نصوص تنتمي إلى وسط اجتماعي يستلزم أيضًا بعض التفسير. وعلمت بخبرتي في سري لانكا أن الرهبان يعتبرون النص الذي يستهل بكلمتَي «هكذا سمعت» إنما هو نص بكلمات بوذا نفسه … فالكلمات هنا تمثل رابطة مباشرة بتراثهم، وهي رابطة يحسون بها إحساسًا عميقًا، وتجعل إدراك الرهبان جليًّا بفيض الأحداث الاجتماعية الذي يمتد إلى الماضي البعيد … إلى أيام حياة بوذا. ونلحظ في حالة نص أجانا أن هذه الرابطة أغناها شعور واضح يضيفه النص بعد ذلك، بالأداء التأثيري وبأن المتكلم يتلاعب بمشاعر مستمعيه ويؤثر فيهم في وضع محدد. وإنه لعسير الآن أن نستعيد الوضع الأول لأساليب الأداء هذه في أي من تفاصيلها. ولكن واضح أن هذه النصوص كانت تتم تلاوتها؛ لما تتضمنه من معان، وابتغاء الحفاظ عليها، وهي مهمة منوط بها أساسًا الرهبانُ. ولنا أن نقول عن يقين في هذا الصدد: إن نص أجانا — وأجانا بوجه خاص — كان يتميز بقدرته على إثارة الذكريات والأشجان، لدى جميع الرهبان مثلما كانت مسرحية «أوديب ملكًا» على سبيل المثال تؤثر في جمهور الإغريق. لقد كان النص يخلق إحساسًا بالمعرفة المتبادلة، وقراءة متبادلة للأفكار على نحو يسمح بالدعابة والسخرية، ويسمح للكلمات بأن تحمل من المعاني أكثر مما تقول في الواقع العملي.

البرهمانيون لا شيء والرهبان أولًا

يلي هذا الإطار إلى الداخل مباشرة الإطار الثاني. وهذا الإطار قصة مستقلة، وإن ربطته علاقة ما بالخطاب. وسوف أعيد صياغة الاستهلال ملتزمًا نظام النص الأصلي قدر المستطاع:
«هكذا سمعت. بينما توقف بوذا قليلًا داخل أحد المنازل الواقعة في الأحياء الشرقية لمدينة سافاتي Savatthi، كان بين رفاقه الرهبان شابان هما بهارادفاجا Bharadvaja وفازيتا Vasettha اللذان يتطلعان إلى أن يكونا راهبَين ضمن حواريِّيه. وحدث أن اختلسا النظر إليه بينما كان يسير في الهواء الطلق بعد فترة تأمل. واقتربا منه يراودهما أمل في أن يسمعا منه بعض حديثه عن الحكمة. وبعد تبادل كلمات الترحيب الودودة سألهما عما إذا كانا برهمانيين وقد تركا بيتهما ليسلكا طريق الراهب المتجول. فأجابا بنعم.»

ومن ثم فالقصة هي قصة محادثة دارت في مكان وزمان محددين. أما عن التفاصيل الأخرى — مثل وقوعها داخل مدينة سافاتي حيث توقف بوذا للبقاء فيها بعض الوقت — فإن لها نفس فعالية وتأثير الملاحظة التي أبداها السيد س الراوي من أن قصة سيدهاساجار وقعت «بالقرب من هنا». والمحادثة غير متوازنة؛ إذ تجري بين معلم وتلميذَين. وهي من هذه الزاوية أقوى، ويغلب عليها طابع شكلي أكثر مما هو الحال في المحادثة الفلسفية، القائمة على فكر نموذجي قياسي والتي دارت بيني وبين السيد ف الفيلسوف.

ولكن بؤرة المحادثة ليست فلسفية، وإنما تتعلق بالموقف الاجتماعي للشابين بهارادفاجا وفازيتا. حقًّا لقد تكشف موضوع الحديث عند ذكر اسميهما؛ إذ بدا واضحًا أنهما برهمانيان. ويسأل بوذا فازيتا (الذي يُجري الحوار) عما إذا كان أقاربهما البرهمانيون لا يسرفون في صبِّ اللعنات عليهما ويشددون عليهما النكير لأنهما تركا البيت ابتغاء أن يكونا راهبَين بوذيين. ويجيب فازيتا على النحو التالي:
«سيدي، يقول البرهمانيون الآتي: البرهماني يحتل أسمي المراتب، وغير البرهمانيين دونهم. ويمثل البرهماني أكثر المراتب نوارنية وإشراقًا، أما الآخرون فهم في ظلام. والبرهمانيون كُرَماء المَحْتِد؛ إنهم ليسوا من سلالة غير البرهمانيين. والبرهمانيون أبناء براهما، خرجوا من كلمته، وولدوا منه، وهو الذي صوَّرهم، وهم ورثته. ولكنك سقطت من أعلى عليِّين حيث المكانةُ الأسمى، وانحدرت إلى من هم من السلالة الأدنى … الشحاذين حليقي الرءوس، وأصحاب العون المأجور، السُّود الذين يشبهون شيئًا ينفضه أقرباؤكم من أقدامهم.»7
ويُدلي بوذا بالجواب التالي ذائع الصيت: «حقًّا يا فازيتا … هل نسي البرهمانيون ميراثهم؟ ذلك أن نساء البرهمانيين لهن دوراتهن الشهرية، ويحملن وينجبن ويُرضِعن أطفالهن، ومع هذا فإن هؤلاء البرهمانيين أنفسهم ولدتهم أمهاتهم من أرحامهن … ثم يُقال إنهم خرجوا من فم براهما وبكلمته.»8 وهكذا تحدد إطار المشهد الباقي من الخطاب والذي يتمثل فيما يلي: الفتيان فرَّا من بيتهما ليدخلا في رمزة «أبناء بوذا» Buddhaputta: ولم يسمعا من أسرتيهما كلمة طيبة عن نفسيهما أو عن بوذا، ولكن بوذا من ناحية أخرى يأخذ بالرأي القائل: الهجوم أفضل وسائل الدفاع.
ولنحاول أن ننظر عن كثب أكثر إلى الحديث المتبادل. سوف نجد هنا حديثًا سافرًا؛ بيد أنه جاء غاية الجد أيضًا. إن الفكرة القائلة إن البرهمانيين خرجوا من فم براهما وبكلمة منه، وهو الإله الأعظم، هي جزء من أسطورة الإنسان الأول الذي ظهر فيما يسمي بوروسا-سوكتا Purusa-Sukta، كما يقول النص البرهماني الأقدم في كتاب ريج-فيدا Reg Veda. وتحدد الأسطورة أصل نشأة المراتب الاجتماعية. وتقول الأسطورة إن البرهمانيين هم الأسمى مرتبة والأرفع منزلة، وقد ولدوا من فم الرب. وجاء من بعدهم الخطيُّون (ويسمون في اللغة السنسكريتية الكشاتريون Kshatriyas) إذ ولدوا من ثديَي الرب. وولد المزارعون من عورته، أما الشحاذون فقد ولدوا من أصابع قدميه. وهنا نلحظ الواقعية الفسيولوجية في حديث بوذا وهو يتصدى لهذه الأسطورة. ويكاد يكون حديثه هذا جزءًا من أسلوبه المعتاد في هذا الحوار أو في غيره في كل الأدبيات البوذية.

ولكنني أريد أن أؤكد بوجه خاص على معنى الاقتباس الذي يبدأ هنا ويستمر بين ثنايا الخطاب كله؛ إذ نجد بوذا أحيانًا، وكما سنرى بعد ذلك، يقتبس أفكارًا برهمانية، وأحيانًا أساليب تفكير برهمانية، وأحيانًا ثالثة عبارات بنصها من الكتب المقدسة البرهمانية. ونلحظ هنا في هذا الاقتباس — وهو اقتباسٌ ينطوي على سخرية لاذعة — فإن المتحدث لكي يبلغ أقصى تأثير له إنما يفترض مقدمًا أن المستمع لديه معرفة بالخلفية الأساسية.

إذن فهذا الاقتباس يفيد كوصف وتفسير في آن واحد لطبيعة العالم الاجتماعي المحيط بالحدث. إنه يخرج موضوعًا محددًا من منطقة الظل ليلقي عليه الضوء — وأعني به المعارف البرهمانية — هذا بينما يكشف في الوقت ذاته عن مشاركته للمستمع في تقييم موضوع الحديث المشار إليه. ذلك أنه قد لا يكون ملائمًا مع الأسطورة أن يأتي ذكر أسطورة برهمانية على لسان راهب بوذي في حديثه إلى رفاقه الآخرين الرهبان. وتعادل هذه المشاركة في الرأي مع المستمعين ما يُسميه عالمة اللسانيات ديبورا تانين «استراتيجية الاندماج» Involvement strategy.9 وتؤكد استراتيجيات الاندماج في آن واحد علاقة مع المستمع، وتخلق في داخله فهما يدرك معه أنه مشتركٌ بين الطرفين. وتمثل هذه الإضافة في المعلومات فارقًا جوهريًّا يغير تمامًا من الأمر. ذلك أنها توضح الإطار الذي يجري فيه الخطاب في ذات الوقت الذي تقدم تفسيرًا له. ومن ثم يغدو بإمكان المتحاورين — أو المتحدث وحده في هذه الحالة التي نحن بصددها — أن يلعبا؛ سواء على العلاقة القائمة مع المستمعين، أو على المعنى، أو على كليهما. ويؤثر المعنى في الإطار، مثلما يؤثر الإطار في المعنى.
وثمة بُعد آخر للرواية المتبادلة بين بوذا والشابين. فقد جاءت مزاعم البرهمانيين في صورةٍ مقابلة بين موقفهم وموقف الآخرين. وينطوي هذا على ذمٍّ فاضح، وإن كانت اللغة في واقع الحال بها دقة ورقة لا تكشف عنهما الترجمة؛ مثال ذلك أن كلمة «مكانة» أو «منزلة» في لغة بالي هي «فانا vana». أو بالسنسكريتية «فارنا varna» وهذه كلمة غنية بالدلالات الضمنية. وأكثر معانيها شيوعًا «اللون». ولقد كانت الألوان تستخدم في الأصل رموزًا للمكانات الاجتماعية على الرغم من أنه لم يكن المقصود بالألوان في البداية ألوان البشرة والجلد. وتعني كلمة «فانا» أيضًا «الشكل الخارجي» أو ربما «الجمال». وتسهم هذه المعاني جميعها في التلاعب بالألفاظ هنا في هذا الخطاب. وتجري المقارنة في هذا الخطاب بين البياض والجمال والسمو عند البرهمانيين من ناحية وبين السواد والدونية عند الرهبان. ومن ثم يغدو ضروريًّا أن يدخل لون البشرة ضمن الكلام. ولعل المتحاورين استهدفوا كشف أوجه التباين بين من يعملون ويحيون خارج بيتهم وبين من هم ليسوا بحاجةٍ إلى ذلك. وهنا قد يكون الرهبان الطوافون الشحاذون هم السود؛ بينما البرهمانيون المقيمون المستقرون (الأثرياء) ليسوا بحاجة إلى ذلك.
وهناك ما هو أكثر؛ إذ نعرف أن بوذا من جماعة الساكيين وهم جماعة متمايزة عرقيًّا، ومن مرتبة، أو لنقل: «فانا» الخطِّيِّين، أو هكذا على الأقل كانوا يعتبرون أنفسهم. وهنا نجد أن البرهمانيين يعتبرون بوذا وحواريِّيه، حسب هذا الوضع بالضرورة، خدمًا لهم، أي إنهم من مرتبة، أو «فانا»، الشحاذين الطوافين menials أو حثالة المجتمع. معنى هذا أن ثمة حدًّا لملاحظات البرهماني التي يمكن النظر إليها بتفكيرنا الآن، باعتبارها ملاحظات عِرقية، وأنها تعليقات ليست مقتصرة فحسب على اللون؛ بل وأيضًا على القيمة الاجتماعية بعامة. إنهم يعمدون إلى احتقار بوذا أو رهبانه وشعبه أجمعين وفي وقت واحد.

ولكن بوذا في إجابته يضع مزاعم البرهمانيين ومعارفهم المتغطرسة مقابل نوع آخر من المعارف، هي في الأساس معارف بيولوجية لم تكن لتقترن بها عادة. وهذه في ظني ليست ملائمة فقط وعلى نحو فريد (وإن بدت فجة)؛ بل وفعالة مؤثرة كذلك. ويمثل هذا جانبًا إبداعيًّا في الخطاب: إنه يؤكد تفسيرًا خاصًّا ويبرزه لمستمعيه. وطبعي أن هذا التفسير وبقدر فعاليته من شأنه أن يغير أفكار الناس، أو يؤكد لهم ذواتهم على الأقل في مواجهة المعارضة، ويحول دون تحولهم عما هم فيه أو أن يضلوا السبيل.

ونجد في الفقرات التالية أن المحادثة التي تتحول من حوار ليغلب عليها طابع الوعظ والنصح تكشف عن هذه الأفكار الأساسية المتعلقة بالمراتب الاجتماعية. يؤكد بوذا أن الناس جميعًا، أيًّا كانت مراتبهم، قد يأتون أفعالًا شريرة تمامًا، مثلما أن الناس جميعًا وأيا كانت مراتبهم يمكنهم الإحجام والامتناع عن أفعال الشر. ويعمد بوذا في كلامه هذا إلى تكرار أسماء المراتب جميعها حصرًا، ولكن نجده في كل مرة يضع الخطيِّين على رأس القائمة فهم الأوائل. وهذه فكرة جرى تلخيصها فيما بعد لتكون، كما أوضحتُ، ذروة الخطاب إجمالًا. ونتصور وكأن بوذا يقول: إذا كان لنا أن نتحدث عن المراتب الاجتماعية فسوف يكون الخطيون، وليس البرهمانيون، هم الأوائل وصدر القائمة.

ويطرح بوذا في هذه الفقرات أيضًا سببًا آخر يفند به مزاعم البرهمانيين وادعاءهم التفوق على سواهم. إذ نراه يؤكد أن الحكمة الحقيقية، والفضيلة الحقيقية، والتفوق الحق لا علاقة لها جميعًا بالمراتب الاجتماعية في عالمنا؛ بل هي خاصة بمن أصبحوا رهبانًا ويلتزمون طريق الخلاص ابتغاء التحرر الكامل. ويوضح أن الحقيقة الروحية هي الأسمى والأرفع شأنًا بين هؤلاء القوم. ويؤذن قوله هذا بالعبارة التي استكملها بالنظم الذي اختتم به الخطاب. وتشير عبارة «هؤلاء القوم» إلى مرتبة الرهبان البوذيين. معنى هذا أن الترتيب يأتي على النحو التالي: «الرهبان أولًا، يليهم الخطيون». ولا نجد مكانًا هنا صريحًا وواضحًا للبرهمانيين. والحقيقة أن الخطاب إذا ما كان معادلًا للصياغة التي جرى تفكيكها دون زيادة، فسوف يكون بالإمكان أن نضع هنا الأبيات الشعرية لتكون فصل الختام لكل الخطاب.

الملوك والبرهمانيون لا شيء،
والخطيون والرهبان وجود حق.
ولكن هنا يأخذ الخطاب منحًى آخر مفاجئًا؛ إذ رغبةً من بوذا في توضيحَ رأيه هذا بالأمثلة، وبيانَ أن أصحاب الإنجازات الروحية هم «الأسمى بين الشعب» يقول:
«يدرك الملك باسينادي ملك كوسالا أن جوتاما المجاهد (ويعني بوذا) قد خرج من بين أهله في ساكيا، ومضى في سبيله إلى حياة الرهبان؛ حيث لا مأوى يؤويه. علاوة على هذا فإن الملك باسينادي ضم شعب ساكيا إلى مملكته، وهكذا يعرب له شعب ساكيا عن فروض الطاعة والإجلال، ويخاطبه بما يجب من تمجيد واحترام، ويهبُّون له واقفين إذا ما دخل عليهم، ويحتفون به تملقًا ومداهنة. ولكن ملك باسينادي يعامل بوذا الآن بنفس المعاملة التي يعامله بها شعب ساكيا؛ إذ يقدم الملك له فروض الطاعة والإجلال، ويخاطبه بتبجيل وتوقير، ويقف إذا ما دخل عليه بوذا، ويحتفي به تملقًا ومداهنة. يسأل ملك باسينادي نفسه: أليس جوتاما المجاهد سليل حسب ونسب؟ ويقول في نفسه: ألست أنا من منبتٍ وضيع؟ أليس جوتاما المجاهد ذا شأن خطير بينما أنا لست كذلك؟ أليس جوتاما المجاهد أنيق المظهر وأنا حقيره (حرفيًّا) و«فانا» أي مكانة وضيعة؟ أليس هو صاحب نفوذ قوي؛ بينما أنا قليلًا ما أُثير انتباه أحد؟ وهكذا يا فازيتا يعرف المرء عن يقين أن الحقيقة الروحية هي الأسمى بين الشعب.»10
ويضيف بوذا إلى هذا مباشرة قوله:
«فازيتا أنت (والآخرون) خرجتم من بيوتكم إلى حياة بلا مأوى، وأنتم من أبناء شعوبٍ متباينةٍ اختلفت وتباينت أسماؤها، وتعددت عشائرها، وكثرت عائلاتها. وإذا سألتكم من أنتم فسوف تُجيبون: «نحن مجاهدون من أبناء ساكيا»، وإن من حسم أمره، وصدق إيمانه ببوذا قد يكون على صواب إذا قال: نحن أبناء بوذا، خرجنا إلى الوجود من فمه بكلمة منه … نحن أبناء الحق، صنعنا الحق، ونحن ورثة الحق.»11

وقد يعنُّ للمرء أن يقول: إن ما سبق ليس إلا مبالغات لذات الفكرة التي سبق التعبير عنها، تأكيدًا لسمو الحياة الروحية وسمو منزلة أصحابها؛ بيد أن هذا فيه غبن لما تنطوي عليه هذه الكلمات المحدودة من تعقد مفرط.

لنتأمل معًا فكرة المنزلة الاجتماعية والعلاقات المتبادلة. إن شعب ساكيا يقدم فروض الطاعة والتقدير لبوذا. هذا على الرغم من أن بوذا ذاته من أبناء ساكيا، ومن ثم فإن الملك يجد نفسه يقدم واجبات الاحترام لواحد من هؤلاء الذين انتصر عليهم وعزا أرضهم. زدْ على هذا أن وضع الملك أكثر إثارة للمهانة بسبب أفكار منسوبة إليه؛ إنه يعتبر نفسه وضيع الأصل والمنبت، قبيحًا، من مكانة اجتماعية حقيرة، وأنه غير ذي شأنٍ وبلا نفوذ قياسًا إلى نفوذ بوذا. إذن ما معنى هذا؟ هذا أكثر من مجرد الإعلاء من شأن ومكانة بوذا ورهبانه؛ إنها عمليةٌ تحط من قدر الملك حقًّا، الذي يَلقى معاملة ربما أسوأ من المعاملة التي يتلقاها البرهمانيون. ولكن الدافع إلى ذلك ليس واضحًا بعد.

أحسب أن المتحدث عن نص «أجانا» ومستمعيه هنا يشتركون معًا في الإحساس برجفة المعرفة. وطبعي أن الإشارة إلى هزيمة وغزو شعب ساكيا، والإهانات المنصبَّة على باسينادي هي تعبير عن شعور بالظلم والقهر، على أيدي شعب باسينادي، وبيان أن هذا شعب غير جدير بأن يكون صاحب سلطان؛ إذ ما دام هذا شعبًا وضيع الأصل والنسب، أي ذا مكانةٍ أو «فانا» حقيرة، فإن شعب ساكيا بالمقابل شعب كريم المحتِد وذو مكانةٍ «فانا» رفيعة القدر. ويتسق هذا تمامًا مع خط التفكير الذي سبق الالتزام به عند الحديث عن البرهمانيين؛ حيث أوضح أن الخطيين لهم الأسبقية مكانةً ومنزلةً. ويبدو في الحقيقة أن شعب ساكيا يسوده نظام حكم ذو طابعٍ جمهوري جزئيًّا وليس ملكيًّا خالصًا؛ ولهذا فإن منزلتهم باعتبارهم خطيين منزلة جمعية، وجرى تمييزهم عن العالم الملكي فيما بعد. ويبدو واضحًا كذلك أن صفة «العصبية» التي يمكن إلصاقها بشعب ساكيا قد أسقطتها عنهم عبارة «أبناء بوذا» ورهبانه، وأنهم كذلك، وحسب هذا الرأي، «أبناء ساكيا»، ومن ثم فإنهم غير متوحدين مع البرهمانيين، ومع مرتبة السلطة الملكية الراهنة؛ بل متوحدون مع بوذا، كما وأنهم هم ضمنًا شعب ساكيا المتوحدون مع الخطيين.

بيد أن هذه الصلة التي تصل المرتبة الاجتماعية بالخطيين والساكيين هي دائمًا وأبدًا ذات علاقة برابطة أهم شأنًا، وهي الحقيقة الروحية. ذلك أنه بالمقارنة بعالمنا الأرضي القائم على المنازل الاجتماعية والتباينات نجد مرتبتهم ونظامهم هما نقطة الانصهار حيث يشترك الجميع بهدف أسمى، وحيث تمتزج جميع المكانات في مكانةٍ واحدة «أنهم من شعوب مختلفة ولهم أسماء متعددة، وينتمون إلى عشائر متباينة وأسر كثيرة.» وأخيرًا نجد هذه الفكرة تتكرر في اتجاه عكسيٍّ في الأصل المتخيل للأسطورة إذ يُقال: سوف يبين أن جميع المنازل الاجتماعية سوف تصدر عن إنسانية هي في جوهرها ذات طبيعةٍ واحدة.

والملاحظ أن الخصوصية التاريخية المميزة لهذه الرواية — وهي ذكر شعب باسينادي التاريخي وشعب بوذا — إنما تتسق أيضًا مع تعليق أكثر عمومية وثباتًا خاص بالملكية؛ فالملوك بعامة لم تعاملهم دائمًا الأدبيات البوذية الباكرة معاملة كريمة جدًّا. وإنما ترِد أسماؤهم ضمن قائمة الكوارث للعمل على تجنبهم مهما كان الثمن، وتقترن مراتبهم بالفيضانات والمجاعات وأوبئة الطاعون وعصابات قطَّاع الطرق. وهذا أمرٌ مفهوم تمامًا سواء في ضوء الملابسات التاريخية المحلية لتوسُّع النظم الملكية، وأيضًا في الإطار الكلي لكيفية ممارسة الملوك لسلطانهم الغشوم. ونلحظ أيضًا أن الملوك في الحوار مع الرهبان لا يبدون في صورةٍ جيدةٍ كريمة؛ إذ يعرضهم الحوار في صورة القساة الأغبياء، ويوجه لهم الرهبان نصحًا صارمًا بشأن النتائج المترتبة على قسوتهم وما سوف يلقونه في الحياة الأخرى. وفي هذا الصدد غالبًا ما يظهر الملوك في صورة مطابقة دالة على الحمق الدنيوي والنزعة التدميرية في الحياة الدنيا. حقًّا إن بعض الملوك يلقون معاملة كريمة في سياقات أخرى، حتى ولو ملوك باسينادي … ولكن بقدر مساندتهم لبوذا أو نظامه. وتشتمل الأدبيات البوذية الأولى على تمثيل جيد للملكية الخيرة أو العادلة المسمَّاة «الغازي الصالح» أو كاكافاتي Cakkavati. ولكن النظرة إلى الملوك الشديدة القرب للنظرة السائدة في كتاب أجانا هي نظرة الشك التي تفيض ريبة.

ولكن نص أجانا ذاته لا يفسر لنا أخلاقيًّا وبشكل مباشر النظام الملكي. وإنما نلحظ أنه يُقدم تعليقات غير مباشرة وتتسم بالسخرية منها، ويصورها في عالم دافق في حالة سيلان، عالم قوامه علاقات متبادلة وصفات يعزوها البعض إلى البعض، وعالم تسوده حالات قراءة أفكار متبادلة. ولكن هذا النهج غير المباشر في نص أجانا استطاع أن يصور بحيوية مفهوم الاستجابة المحكمة الحذرة بين الأطراف وبعضها البعض، بين المتحدث والمستمع أو بين البرهماني والمجاهد، أو بين الساكيين وأهالي باسينادي. ولا ريب في أنه ليس بالإمكان تصويرها وإدراكها بهذا الصدق من خلال بياناتٍ تقريرية مبينة على النموذج القياسي؛ مثل الرواية والاقتباس والسخرية وتعدد التعبيرات، أو بعبارة أخرى، عن طريق الإعراب عن أمور كثيرة مختلفة في كلماتٍ قليلة موجزة.

ونجد خير تعبير عن هذا حين دعا بوذا رهبانه إلى أن يؤكدوا على «أننا أبناء بوذا، أخرجنا إلى الوجود من فمه بكلمة منه، نحن أبناء الحق، صنعنا الحق، ونحن ورثة الحق.» هذه الكلمات ازدادت ثراءً وخصوبة بفضل الاقتباس الأساسي، وبفضل التنويع على الموضوع الرئيسي الذي اشتمل عليه الكلام الأول للبرهمانيين. إن الكلمات لا تضع أمام أعيننا فقط الصفة المطلقة لأسلوب حياة الرهبان؛ بل تُبين لنا كذلك الولاء والمجد صفتين أساسيتَين لهم في علاقتهم مع بوذا، مثلما توضح العداوة المتبادلة التي تتسم بها علاقتهم مع خصومهم المنافسين لهم، على مساحة الخلافات التي عرفتها الحياة الهندية القديمة وهم البرهمانيون.

قشرة مبهجة تغطي وجه الأرض

يشرع بوذا بعد هذا في رواية قصة الأصول المختلفة للعادات والنظم الملكية والمنازل الاجتماعية. وهذا الجزء من كتاب أجانا هو الذي افتتن به خيال المعلقين في شمال الأطلسي. وليس ثمة شك في أن القصة، في مجملها، تتسم بالتأثير القوي والجمال. ويعبر الشكل العام لها عن حركة تدهور بعد الكمال الأوَّلي الذي نشأ عليه الكون في مبدئه، ثم تجدد متحولًا إلى حالة من الانحطاط والتحلل المعنوي الذي تهيأت خلاله مناسبة نشوء النظم الملكية والمنازل الاجتماعية. وهذه في الحقيقة إحدى خاصيات منظور الرهبان إلى القصة والتعبير عنها في هذا الإطار؛ بحيث تكون النظم الملكية والمنازل الاجتماعية نتيجة مترتبة على زيادة الفسوق الخلقي؛ بيد أن الرواية لا تتخذ شكل الحكاية الرمزية ذات الدلالة، والتي يمكن ربطها بالوازع الأخلاقي. وإنما هي على النقيض من ذلك تتسم بثراء بنيتها، وأنها أقل قابلية لإعادة صياغتها في عبارات جديدة، على نقيض الحال بالنسبة لبقية الخطاب.

وإحدى قسمات هذا التعقد طبيعة التوالي في عرض أحداث القصة. وليسمح لي القارئ بأن أبدأ بالحدث الأول في هذا العرض والذي يعطي مذاقًا عادلًا لطبيعة الأحداث الأخرى في تواليها. يستهل بوذا حديثه ببيان أن هذا العالم عادة آخذ طريقه إلى زوال ليبدأ في النشوء والتطور من جديد. وفي البداية خلقت الكائنات الحساسة المقدر لها أن تكون بشرًا، خلقت من عقل، حياتها سعادة وهناء، تعيش في مجد مُقيم. ثم — وهنا يتغير حديث بوذا فجأة إلى الزمن الماضي — بدأت الأمور تتحول إلى جدٍّ لا هزل فيه. ورغبة منِّي في الحفاظ على أسلوب الحديث سوف أستخدم هنا ترجمة روس-دافيد:
«وفي ذلك الوقت أصبح كل شيء عالمًا واحدًا من ماء وظلام، وفي ظلمة تعمي الأبصار. لم يظهر قمر ولا شمس، واحتجبت النجوم وأبراج السماء، ولم يعد يبين ليل من نهار … ولا ذكر ولا أنثى. الكائنات مجرد كائنات موجودة ولا شيء آخر. وهذه الكائنات تسمى فازيتا. وعقب زمن طويل غير معروفٍ تقديره انبسطت الأرض لهذه الكائنات أو الفازيتا فوق سطح الماء، وكان لها أريجها الخاص. وتشكل على سطح ما يشبه الزَّبَد الذي يتشكل فوق سطح الأرز المغلي مع اللبن حين يبرد تدريجيًّا. وهكذا ظهرت الأرض، واتخذت لونًا خاصًّا بها له رائحته المميزة ومذاقه الخاص. وبدا لونها مثل لون الزبد الجيد النقي، وبدت حلوة مثل العسل ذي القوام المتسق المتماسك.»12
وأحسب ان الأسلوب التوراتي الفيكتوري للترجمة يحتفظ ببعض الرنين الحقيقي الذي وجده في النص عالم التراث الهندي ريتشارد دومبريتشي؛ ذلك لأنه أبان أن قدرًا كبيرًا من الصورة الخيالية، بل وأيضًا بعض المصطلحات والكلمات، إنما تُردد صدى أساطير النشأة الموجودة في النصوص البرهمانية القديمة.13 إذ تتحدث هذه النصوص عن العماء الأوَّلى والظلمة والوجود غير المتمايز، وعن زبد يشبه غشاءً رقيقًا فوق اللبن المغلي والذي يتكون فوق سطح الماء. وها هنا نصادف مرة أخرى اقتباسًا يكاد يُطابق الأسطورة البرهمانية عن الإنسان الكوني، والتي سبق ذكرها في الخطاب.

وهنا أيضًا نلمس قصدًا هجائيًّا؛ ذلك أن بعض الكائنات النهمة اندفعت بنهمها لتذوق الأرض، وأحست برغبةٍ ملحة وشوق عارمٍ إلى ذلك، وتبعهم آخرون. وبسبب هذه الدوافع النهمة اختفت النورانية الذاتية الصادرة من البشر، وظهرت إلى الوجود الشمس والقمر والنجوم. واستمرت الكائنات في التغذي على الأرض زمنًا طويلًا. ثم:

ومع استمرار الكائنات في تناول هذا الغذاء … ازدادت أبدانهم غلظة، وظهرت الفنانية Vannaness واللافنانية، أي تباين المنازل التي تفرق بين من هو ذو منزلة اجتماعية ومن هو عاطل منها. وكانت بعض الكائنات ذات منزلة كاملة، والبعض الآخر دون منزلة بين الكائنات. أما أصحاب المنزلة الكاملة فقد نظروا باحتقار إلى من هم دون منزلة، وقالوا لهم: «نحن أفضل منكم؛ لأننا أصحاب منزلةٍ كاملة، أي لنا منزلة بلغت غاية الكمال، وهم بلغوا من حيث منزلتهم قاع الحضيض بالقياس إلينا. واختفت الأرض الحلوة بسبب هذا الزهو وتلك الغطرسة الناجمة عن هذا الغرور بالمكانة. ومع اختفاء الأرض الحلوة تجمع الناس حول بعضهم البعض ينوحون ويندبون حظهم: «آه، أين المذاق الحلو؛ آه … أين المذاق الحلو!» ولهذا فإنه كلما تذوق امرؤ شيئًا طيب المذاق قال: «آه لهذه الحلاوة … آه لهذه الحلاوة!» إنهم في الحقيقة يلتزمون قولًا قديمًا بدائيًّا لا يعرفون معناه ونشأته.14

ولنتأملْ معًا إمكانيات الأداء هنا. إن البدايات الأولى لأسطورة النشأة يمكن، على سبيل المثال، ترتيلها بأسلوب برهماني رزين وقور بقدر ما يمكن التلاعب بالتورية في لفظ «فانا» أي المنزلة، والذي يعني «الجمال» و«اللون» وأيضًا «المنزلة» أو «المكانة». وعلاوة على هذا فإن بالإمكان نقل النغمة بسهولة واتساق مع خط التورية إلى كلمات «آه لهذه الحلاوة» بحيث تعني فقط «الطعام الطيب». ويبدو الأمر وكأن هناك من يقول لك من فوق المنبر إن الله في اليوم الثامن للخلق … خلق دجاج كنتاكي المقلي. وهنا تكون رجفة المعرفة كافية للجمع بين موضوع رفيع القدر رزين المستوى وموضوع غبي. وهنا هجاء يُماثل تمامًا الدراسة الزائفة لأصول الكلمات التي تختتم بها «الإبيزود» أو سلسلة الأحداث العرضية. ذلك أن إحدى خصائص الفكر البرهماني هي الإنتاج المستمر للإيتمولوجيات» أي للاشتقاقات اللغوية أو للدراسات المعنية بأصول الكلمات وتطورها التاريخي في الاستعمال، وهي غالبًا ما تكون دراسات اشتقاقية «إيتمولوجية» زائفة زاعمة أنها تفسر دلالة هذا الشيء أو آخر.

وهذه هي إحدى الفقرات التي يُقارب فيها كتاب أجانا كثيرًا الكوميديا بمعناها الواسع؛ ولكنها تحمل أيضًا طابع التأمل والتعليق. إذ تُقدم لنا الفقرة حدثًا يبدو وكأنه مجرد حدث عرضي خلال مسار عملية التدهور، وهو تقسيم الكائنات إلى جميلة وقبيحة، علاوة على التورية والتلاعب بكلمة «فانا» المنزلة إلى منزلة رفيعة وأخرى وضيعة؛ بيد أن هذا حدث عرضي ترتبت عليه نتائج خطيرة بسبب الحمق والنهم. إنه رجْعُ الصدى للتأمل في موضوع ملك باسينادي العاطل من المنزلة. ويتراءى على السطح فيما أظن عامل تذكرة وثيق الصلة، وهو إشارةٌ ضمنيةٌ إلى روح نظام مراتب الرهبان أنفسهم والمستمعين إلى القصة. إنهم من حيث المقارنة جماعة لا تَمَايز بينها. لقد خرجوا جميعًا من بيوتهم إلى حياة بلا مأوى، وجاءوا من شعوب متباينة، وأسماء متعددة. وعشائر مختلفة وعائلات كثيرة. ومن ثم فإن حمق الناس هو حمق أليَقُ بالعالم وهو على نقيض النزعة اللادنيوية أو الروحية التي توحد شمل الرهبان وتؤالف بينهم في منزلة وحيدة حيث حياة بلا مأوى. ونلحظ أن هذه الفكرة، التي عرضت سابقًا، يتردد صداها قويًّا مرة أخرى فيما بعد.

وتتوالى القصة بعد الحديث عن فساد الكائنات لتحدثنا من خلال أصلَين آخرين لاشتقاقين لغويَّيْن أكثر زيفًا. الأول يتعلق بالتعبير عن معنى شيء يُشبه قولنا: «واحسرتاه، لقد ضاع كل شيء!» وبحلول هذا الوقت كانت الكائنات انحطت إلى مستوى العمل من أجل الحياة، وذلك بزراعة الأرز. وتمادوا إلى حد تقسيم الأرض إلى ملكيات خاصة، حتى بلغ بهم الأمر منتهاه ولم يعد بالإمكان تصور قدرتهم على الغرق أكثر من ذلك. ولكن وقع المحذور، وغاصوا إلى ما هو أحط بسبب كائن نهِم جشِع استحوذ على قطعةٍ أخرى من الأرض. أمسك به الآخرون وعنفوه وقذفوه بكتل من الأوساخ؛ بيد أن شخصًا آخر حذا حذوه، ثم ثالث ورابع، وهكذا حتى سقط الجميع في جريمة سرقة بعضهم بعضًا، وتبادُل التعنيف والتوبيخ واللوم. وإليكم ما فعلوه في هذا الصدد:

تجمعت الكائنات من هنا وهناك تجأر بالشكوى. لقد ظهر إلى الوجود الآن الكذب والسرقة والملامة والعقاب. تعالوا نتفق معًا بشأن كائن واحد. وأن يكون قادرًا على فضِّ أسباب الغضب والإزعاج إذا ما حدث شيء يزعجنا ويثير غضبنا، ويكون له حق انتقاد ما يراه جديرًا بالانتقاد، وأن يطرد بحق إذا ما كان الطرد ضرورة، وسوف نعطيه في المقابل نصيبًا من الأرز.

وقصدوا أكثر الناس أناقة وجاذبية، وأكثرهم إرضاء لغرور النفس، وأقواهم نفوذًا على الآخرين، وقالوا له: «أنت أيها السيد الكائن، لك أن تغضب عن حق إذا ما وقع شيء جدير بأن تغضب بسببه، وأن تنتقد عن حق ما هو أهل للانتقاد، وأن تطرد عن حق حين ترى الطرد ضرورة.»

وأجاب: «لكم ما أردتم.»15

وتتابعت بعد ذلك سلسلة متلاحقة من الاشتقاقات اللغوية «الإيتمولوجية» الزائفة:

وبناء على اتفاق الناس يا فازيتا كانت عبارة «المتفق عليه الأعظم» هو أول تعبير يظهر [mahajana-sammato ← mahasammto].
والتعبير الثاني يا فازيتا هو «سيد الحقول» أو الخاطي، وهو ثانية العبارات التي ظهرت إلى الوجود [Khettanam pati-khattiyo] إنه يُدخل السرور إلى النفس بالحقيقة يا فازيتا، ومن هنا كان لقب: الملك هو التعبير الثالث في الظهور [Adhammena pare renjeti → Raja].

وهكذا يا فازيتا بدأت في النشأة الأولى دائرة الخطيين، وفقًا لهذه التعبيرات القديمة الأولية، لقد كانوا من بين هذه الكائنات وليسوا من أي كائنات أخرى. ولقد كانوا من نفس نوع هذه الكائنات وليسوا مختلفين عنهم. وحدث ما حدث وفقًا للشكل، ولم يكن في ذلك ظلم.

وإن كلمتَي «ملك» و«محارب» من الكلمات المعروفة جيدًا في بقية أدبيات بالي ومفهومة جيدًا الآن. وإن هذه التوريات اللغوية ونشوة معرفة كلمات الحياة اليومية في استخدامات وأوضاع جديدة هي من المسائل الصريحة المباشرة؛ ولكن مصطلح «المتفق عليه الأعظم» هو مصطلح إشكالي؛ لأنه لم يظهر بهذه الصورة في باكورة أدب بالي. إذن نسأل ماذا كان يعني؟ ما الذي تمت معرفته في ضوء جديد عندما سمع الرهبان هذه اللغة؟

أحسب أن بإمكاني أن أجعل بدايتي هي العودة إلى الظروف والملابسات التي أحاطت بكلام كتاب أجانا. إن الراهب الخطيب ومستمعيه يشتركون معًا، كما سبق أن أكدتُ، في بعض القيم. وأريد أن أُضيف الآن أنهم يشتركون أيضًا في قدر من الخبرة الاجتماعية. واشتملت هذه الخبرة الاجتماعية على؛ أولًا: أنه عند مباشرة نظام الأخوية يتعين رد جميع المنازل والمراتب وجميع سبل الحياة إلى وضع واحد هو وضع الرهبنة. ثانيًا: إن نظام الأخوية يجري تنظيمه بعد ذلك وفقًا لمبادئ متكافئة قائمة على التراضي، أو على الأقل وفقًا لمبادئ أكثر عدلًا وتوافقًا مما هو سائد في المجتمع من حولهم. وتمَّ التعبير عن المبادئ الأساسية بتأكيد شديد يعتمد نسيجه في جميع أسطر النصوص البوذية على التناغم والدعم المتبادل والاعتبار المتبادل.

ولقد كان النظير المؤسس لهذه القيم هو التماس حذر يصل إلى حد التدقيق الشديد في التفاصيل بغية الوصول إلى إجماع وتوافق في الرأي. ومن ثم فإن الأعمال الرسمية المتعلقة بنظام الأخوية؛ مثل: رسم راهب جديد، أو تعيين راهب لأداء مهمة خاصة، أو حسم نزاع، إنما كانت تتم بناء على تراضٍ إجماعي لجموع الرهبان. وإذا ما تحدثنا عن الأخوية البوذية باعتبار أن لها نظامَها المميز نجد أن أول أشكال هذا النظام هو نظام أصرَّ على توافر هذا التراضي الإجماعي باعتباره الأداة الرئيسية للحكم الجمعي (في اتساق مع حكم عملي للشيوخ يكون مسئولًا عن إدارة وتدبير شئون الحياة اليومية). ومن ثم، وكما أشار ستيفن كولينز، فإن العبارة الأكثر قابلية لأن تكون بديلًا عن الأصل الاصطلاحي لعبارة «المتفق عليه الأعظم» إنما نجدها في تنظيم الأخوية الرهبانية؛ حيث نجد كلمة ساماتا Sammata، مع كلمات أخرى ذات علاقة، كانت تستخدم لوصف تعيينات وممارسات يجري التصديق عليها بالموافقة الإجماعية.16 ومن ثم فإن «المتفق عليه الأعظم» هو تحديدًا راهب جرى تنصيبه وفقًا لهذا النظام لأداء غرض يكون غرضًا مؤقتًا في العادة. ويتردد هذا الصدى في كل ثنايا الفقرة حتى ختامها؛ حيث يتم الاتفاق بشأن السيد الكائن، ونجد أصل نشأة الخطيين إنما حدث «وفقًا للشكل» بين ناس «من النوع ذاته». معنى هذا، وحسب تفسير كولينز، وهو أكثر التفسيرات المتاحة قبولًا، فإن هذا الملك الخيالي الأول، وهؤلاء البابوات الخطيين الأوائل الذين ورد ذكرهم في الرواية وفي التاريخ البوذي إنما يصفهم ويعبر عنهم مصطلح رهباني شرعي، ويذكِّر المستمعين بنظامهم الرهباني.
ولكنَّ ثمة بعدًا آخر؛ إذ نجد نصًّا بوذيًّا شهيرًا آخر يفسر نظام الأخوية قائلًا إنه جاء على غرار نموذج نظام شعب من الخطيين يشبه تمامًا الساكيين، وأولئك هم الفاجيون Vajjis. وقد أدار هؤلاء جمهوريتهم تأسيسًا على الإجماع والتناغم؛ إذ كان لقاؤهم على وئام وصفاء، وينفضون على وئام وصفاء، ويؤدون عملهم في وئام وصفاء.»17 وكانوا مثل شعب ساكيا يتهددهم ملك مجاور. وانتهى الأمر بالاستيلاء عليهم وابتلاعهم؛ ولكن هذا الحدث المميز لم يرد ذكره في كتاب أجانا؛ ولكن لا بد أن وقع هذا الغزو بعد اكتمال صياغة النص. وأسهم الغزو، شأنه شأن غزو شعب ساكيا، في زيادة الوعي الاجتماعي والتاريخي على أوسع نطاق، وهو الوعي الذي أثاره نص أجانا. إن الخطيِّين في نص أجانا، وكذا «المتفق عليه الأعظم»، كانوا أكثر جاذبية وإرضاء للنفس، وأقوى نفوذًا من ملك باسينادي القبيح الذي قليلًا ما يعبأ به أحد. ومن ثم فإن سلطة باسينادي أبعد ما تكون عن السلطة «المتفق عليها». ولكن الحاضر والمستقبل رهن يديه ونوع الملوك من أمثاله. وهكذا نجد إثارة العاطفة تأتي قريبة من السخرية في هذه الفقرة، وإن أتت متثاقلة. ومصدر العاطفة آخذ في التلاشي سريعًا أو قد اختفى تمامًا.
ترى هل كان «المتفق عليه الأعظم» يحظى ببعض الرواج في ذلك الوضع السياسي كذلك؟ ترى هل كان لقب ماهاساماتا Mahasammata أو «المتفق عليه الأعظم» هو اللقب الذي اختاره شعب ساكيا لقائدٍ اختاره هذا الشعب لنفسه، كأن اختاره مثلًا من بين أنداد في حكومة للأقلية؟ ربما. وهذا من شأنه أن يُضيف عمقًا جديدًا للخطاب إذا ما كان افتراضًا صحيحًا. ولكننا ببساطة لا نعرف.
بيد أن القصة الأصلية هي يقينًا مجرد تعليق سياسي خالص؛ ذلك لأن المتحدث ما إن فرغ من الكلام عن أصل ونشأة الخطيين حتى تحول إلى الحديث عن البرهمانيين. لقد بدءوا، فيما يبدو، وسط بعض الموجودين الذين لاحظوا أنه قد ظهرت إلى الوجود الآن السرقة والملامة والكذب والعقاب والطرد. وطبعي أن الطرد كان إجراءً جديدًا آنذاك يأتي بأمر السيد الكائن ذي الجاذبية وصاحب النفوذ. وقررت هذه الكائنات التخلص من العادات الشريرة وغير المجدية، وذلك بالذهاب إلى الغابة للتأمل داخل أكواخ من أغصان الشجر. وها هنا نجد تورية واضحة صريحة وإن بدت بعيدة باستخدام عبارة «الخلاص من» وكلمة البرهمانيين (bahenti → Brahmana)، وتستخدم الفقرة أيضًا المصطلحات اللغوية البوذية، الأمر الذي يردد بوضوح صدى ممارسات نظام الأخوية ويعرب عن وجهة نظره. زدْ على هذا أن وصف الأشخاص في طريقهم إلى الغابة وقد خلفوا وراءهم كل مستلزمات منزلية وشعائرية خاصة بالبيت البرهماني، والعيش في قرى حيث يستَجْدون الصدقات إنما هو وصف يشتمل على أطول وأصرح اقتباس مأخوذ عن نص برهماني. وإن هذا المزج بين اللغة البوذية وبين الاقتباس البرهماني إنما يعني اطراد نزوة السخرية، التي تبرز على السطح كثيرًا جدًّا في الأسطورة الأصلية.
وهكذا، نشأ في البدء المجاهدون والمتأملون؛ ولكن تبين أن بعض هؤلاء لا يقوى على تحمل حياة الزهد؛ لهذا استقروا حول القرى وشرعوا في تجميع نصوص برهمانية. وهؤلاء المجاهدون المتقاعسون الذين عجزوا عن أن يكونوا متأملين jhayaka، أصبحوا «مرتلين» أو «غير متأملين» ajjhayaka: «مرتلون» للأدب البرهماني، أي البرهمانيون المعروفون لنا الآن. وتم الاتفاق على أن يحتلوا أدنى المراتب آنذاك يا فازيتا؛ ولكن ذهب الظن الآن إلى أنهم هم الأفضل.18 وهكذا تم إخراج البرهمانيين وباتوا مرفوضين. ولم يكن المزارعون والعبيد أفضل حالًا. إذ كان المزارعون أشخاصًا مارسوا الجنس ومختلف أنواع التجارة؛ بينما عاش العبيد على القنص، والمعروف أن تعاليم البوذية لا تعترف بأي من هذه الأنشطة. ولكن المنازل الاجتماعية الأخرى فإنها تنجو من هذا الوضع بصعوبة؛ بينما يكون وضع المجاهدين والخطيين أحسن حالًا.

وتنتهي القصة هنا، ويعود بوذا بعدها إلى قضايا وموضوعات سابقة ليتحدث عنها بأسلوب الوعظ والتصنيف والفكر القياسي. إن أي امرئٍ من أي منزلة اجتماعية يمكنه أن يصبح راهبًا. ولهذا فإن دائرة الرهبان تتألف من «أربع دوائر» للمنازل الاجتماعية. وإن أي امرئ من أي منزلةٍ يمكنه أن يحيا حياة أخلاقية أو شريرة. ولكن يمكن لأي امرئ من أي منزلة أن يصبح راهبًا ويتحرر … وهكذا. ونلحظ في هذه الفقرات الأخيرة أن الإطار يمضي بعيدًا ويزايله الدفء السابق، أو على الأقل يتلاشى الحنين إلى منزلة الخطيين وأسلوب حياة الساكيين. ويتعين في ضوء هذا الكلام التأكيد أكثر وأكثر على المعنى الضمني لكلمة «فقط» في النظم الختامي التالي الذي يقول:

«الخطيون هم الأسمى بين هذا الشعب،
المؤمن (فقط وعن حق) بالنسب؛
ولكن الأسمى بين الأرباب والناس
هو من يفيض حكمة وفضيلة.»
وبهذه الكلمات يكون ختام نص أجانا-سوتانتا Agganna-Suttanta. هكذا يا فازيتا تكلم بوذا، وهكذا استشعر البهارادفاجيون Bharadvaja سرورًا، وكان سرورهم عميقًا بما قاله لهم.

العالم في مرآة

لو تأملنا لحظةَ نص أجانا باعتباره بيِّنة وشاهدًا، وباعتباره وثيقة تاريخية تعكس عالمها سلبًا، كما تعكس مرآة معلقة على حائطِ المشهد العابر أمامها. فإن هذا العالم سيبدو بوضوح شديد عالمًا في تحور، وعالمًا في تحول مستمر. وإن أحد هذه التحولات هو الانهيار الممتد البطيء لنظام اجتماعي وسياسي قديم، وكذا ظهور دول ملكية تحولت فيما بعد إلى إمبراطورية. وهكذا ارتبطت شعوب سهول نهر الجانج ببعضها البعض، واعتمد رباطها على ما أسماه وولف نظام الإنتاج الخراجي. إذ في هذا النظام يستخلص الحكام لأنفسهم فائضًا من رعاياهم عن طريق التهديد أو ممارسة القوة العسكرية. ويتجاوز مثل هذا النظام الإنتاجي أي مجتمع بذاته منفردًا، أو ثقافة أو شعبًا؛ وخير شاهد على ذلك شعبَا الساكيين والفاجيين Sakyas and Vajjis. وهذه العلاقات الجديدة ليست موضوع الحديث الصريح في نص أجانا وإنما هي في واقع الأمر سداة نسيجها.

والتحول الأخر الذي لم يأت ذكره صريحًا بتاتًا، ولكنه يمثل في الوقت ذاته لحمة نسيج أجانا، هو ظهور واستقرار نظام الأخوية البوذي. إذ قبل وصول بوذا كانت هناك يقينًا جماعة مفككة من المجاهدين تتجاوز حدود الفئة الاجتماعية، وسادتها دون شك نزاعات وخصومات. ولكن بوذا ترك بعد وفاته معلمًا جديدًا يميز المشهد يتمثل في مؤسسة جديدة وأنواع جديدة من العلاقات. وكانت بعض تلك العلاقات جزءًا من النظام الأخوي؛ ولكن بعضها الآخر كان خاصًّا بالمجاهدين والمجتمع المحيط بهم.

وليسمح لي القارئ بأن أمضي بهذا الرأي خطوة أبعد من ذلك. إن الطبيعة المتحورة المميزة للعالم التي انحرفت عن مسارها في نص أجانا ما هي إلا الوجه الآخر للعملة. والوجه المقابل هو الطابع التعددي للعالم. وعلى الرغم من أن النص مؤلف من وجهة نظر متماسكة نسبيًّا، ومما قد يسميه أرفنج جوفمان «نظامًا شاملًا» إلا أنه مع هذا يصور نظام الأخوية والرهبان في علاقتهما بالنظم الأخرى، التي تجسد ممارسات وقيمًا مختلفة ومتعارضة مع بعضها البعض. حقًّا إن الرهبان البوذيين إنما يمثلون، بشهادة نص أجانا، رأيًا موحدًا عن الآخرين في العالم. وحقًّا أيضًا إنهم يلتمسون ما يمكن أن نُسميه الانتصار بفضل العمومية، أي يلتمسون انتصارًا فكريًّا تأسيسًا على تفسير أو تفنيد آراء واتجاهات الآخرين، أي باختصار: الانتصار بناء على ما يبتكره كل امرئ من شكل خاص بفكره القياسي وطرحه ضمن حجج للدفاع عنه؛ ولكن ليس معنى هذا أن البرهمانيين بعامة قد انضموا إلى نظام الأخوية، أو أنهم تلاشوا في واقع الأمر وحقيقته. وإنما الأمر على النقيض؛ إذ كلما أصبح البوذيون أكثر رسوخًا وتشددًا قوِيَ عود معارضة البرهمانيين واليانيين وكل الطوائف والعقائد الأخرى القائمة وسط هذه الحضارة الابتكارية. لقد اشتمل هذا العالم على مراكز كبيرة؛ ولكن لم يوجد به مركز واحد أو سلطة واحدة تحدثت إلى الجميع وباسمهم.

بيد أننا، علاوة على هذا، إذا ما نظرنا عن كثب إلى نص أجانا يمكن أن يتبين لنا، أنه يتألف من تلك الكثرة، وهو ما يمثل معنًى مهمًّا بالنسبة له. أو لنقُل بلغة أكثر تحديدًا: إنه مؤلفٌ من علاقات نظام الأخوية والرهبان في تعارضها مع الآخرين وخصومتها معهم. ولنتأمل للحظة القصيدةَ الختامية، إنها عبارة تقرر التفوق، ولا نجد شيئًا أو شخصًا يمكن الزعم بأن المقارنة الضمنية تستهدفه مما قد يفرغها من المعنى. وبالمثل فإن الحديث عن طبيعة نظام الأخوية، ووصفه بأنه دائرة واحدة من الناس الذين نشئوا أصلًا داخل دوائر أربع للمنازل الاجتماعية؛ إنما لا نستطيع أن نتبينه إلا تأسيسًا على المقارنة. ومن ثم فإننا إذا استطعنا أن نجري تجربة فكرية قاسية نزيل معها من نص أجانا كل أثر للوعي بالذات وبالآخر فإنه لن يتبقى أي شيء آخر.

وهذا هو الطابع التفاعلي المميز لنص أجانا. ولا ريب في أن التفاعل هنا مختلف تمامًا عن التفاعل بين السيد س الراوي وبيني. لقد كان هذا التفاعل من النوع الأول مباشرًا، وقائمًا على المواجهة في اللقاء وفي تبادل الرأي؛ ولكن التفاعلات في نص أجانا فهي على النقيض من نوع يمكن أن نُسميه «التفاعلات المفصلة في وحدة متكاملة exploded interactions. والصورة التي في ذهني الآن هي صورة الرسوم الميكانيكية لإحدى الآلات، ولتكن دراجة طفل، ويستخدمها أبوان أخرقان دليلًا لتجميع أجزائها. ومن ثم فإنهما يعرضان الآلة وكأنها في لحظة انفجار وتفككت أجزاؤها وانفصلت بعضها عن بعض؛ ولكن الأجزاء لا تزال بفضل الصواميل والمسامير مرتبطة بعضها ببعض في وضع سليم حسب علاقة كل جزء بالآخر في الوضع الصحيح.

ومن ثم فإن التفاعل المفصل المحوري داخل وحدة متكاملة الذي نلمسه في نص أجانا هو ذلك التفاعل بين المستمعين للخطاب وبين بوذا. حقًّا إن المستمعين لا يلتقون بوذا حقيقة ويستمعون إليه؛ ولكن الرهبان هم الذين ينقلون الخطاب. ولكن يمكن القول: إنهم تأسيسًا على معنى متخيل حيوي وواسع النطاق، إنما يقفون وجهًا لوجه قبالة سلفهم العظيم؛ إنهم موجهون نحوه تمامًا مثلما يتعلم رهبان اليوم أن يتوجهوا بأنفسهم نحوه، باعتباره المعلم والمدرس عندما يقدمون واجبات الطاعة والتقدير لصورته. وتطوف بخاطري الآن فكرة قالها بنيديكت أندرسون تُفيد بأن الدول/الأمم الحديثة إن هي إلا «أمم متخيلة». ويرى أن مواطني الدولة/الأمة إنما يتخيلون أنفسهم من خلال وسائط الإعلام المختلفة، وكأن الأمة جميعها هي مجتمع قائمٌ على المواجهة الصريحة. وإن هذا التصور للذات وللآخر، حتى إن كان الآخرون ليس لهم — ولن يكون لهم — حضور مباشر، إنما يساعد على خلق معنًى حقيقي وفعَّال لقومية الأمة. كذلك، وبناء على السبب نفسه، فإن التفاعلات المفصلة في وحدة متكاملة لنص أجانا ووضعها، إنما تفضي إلى خلق معنى ضمني مشترك لنظام الأخوية ولمعلمه يتجاوز أي تجمع راهن ويواجه العالم الأوسع نطاقًا.

وأحسب أنه من المعقول أيضًا أن نتوسع أكثر في فكرة التفاعل المفصل داخل وحدة متكاملة. فالجمهور يرتبط ببوذا؛ ولكنه بعد ذلك، ومن خلال قوته (الروائية)، يكون إما شاهدًا أو مواجهًا لسلسلة شخصيات أخرى: الأقارب، البرهمانيين، وباسينادي، والساكيين، والأشخاص من بقية الموجودات. والتفاعلات التي يُقال عنها هي تفاعلات غير مباشرة تقع بين أشخاص لم يسبق أن التقى بهم المستمعون؛ بل إن بعضهم لم يكن له وجود قط. ويمكن القول من وجهة نظر أدبية خالصة: إن الطريقة التي تمَّ بها تصوير هذه الشخصيات وعلاقتها هي طريقةٌ فنيةٌ ومركبة. فالمزج بين الحقيقة والسخرية، وكذا بين الحديث المباشر والدلالات الضمنية غير المباشرة هو عملية معقدة. ولهذا فإن الشخصيات وعلاقاتهم يكتسبون، بوسيلة أو بأخرى، حيويةً، وتتهيأ أمامهم احتمالات عديدة. ويبدو الأمر وكأن جمهور المستمعين يتأملون، على نحو مباشر وبسيط، عالمًا يتعرفون على حقيقته.

وبهذا المعنى يكون مهمًّا، بطبيعة الحال، إدراك أن التفاعل بين سيدهاساجار وصاحب الثور كان أيضًا نوعًا من التفاعل المفصل الأجزاء؛ ولكن في وحدة متكاملة. حقًّا إن قصة سيدهاساجار كما رواها لي السيد س، وكذا نص أجانا كما روته أجيال الرهبان، كلٌّ يمثل قطبًا مستقلًّا. القصة قصيرة وتلقائية وتبدو عاطلة من الفن، بينما النص طويل خصب بمعانيه، وفنيُّ البناء؛ بيد أن كلًّا منهما يمسك مرآة تعكس عالمًا بعيدًا عن موقف المتحاورين. ويفرض كل منهما على المستمع صلة وثيقة تربط بين هذا العالم البعيد وبين العالم الحالي.

المرآة التي تعكس العالم

يعتبر نص أجانا من هذه الزاوية أبعد من أن يكون وثيقة، أي مرآة مثبتة سالبة. وإنما هو أداة، مثلما تكون المرآة أداة حين يمسك بها شخص ما أمامك لترى ما إذا كنت راضيًا عن قصة الشعر، أو لكي ترى المرأة بقعة من أحمر الشفاه على أنفها. إنها مرآة ابتكرها الناس ليستخدموها إزاء آخرين لغرض في أنفسهم. والغرض في هذه الحالة هو التثقيف والإعلام، وتقديم تأويل للحقيقة الروحية داخل تفسير لعالم نهر الجانج، بكل شخصياته وحبكاته المميزة وفيض أحداثه. ولقد نشر أجانا وروَّج صورة من صور الفهم الاجتماعي.

ولكن ما هي طبيعة هذا الفهم؟ إن جزءًا من هذا الفهم يُمثل من ناحية إحدى خصوصيات أشخاص وأماكن محددة لها مميزاتها: سافاتي، وبوذا، وباسينادي. ولكن جزءًا من البراعة الفنية في نص أجانا يتألف من أسلوبه في الانطلاق من هذه الشخصيات المحددة إلى أنماط أخرى أكثر عمومية. مثال ذلك: أن فازيتا وبهارادفاجا، على سبيل المثال، قد وردا باسميهما؛ ولكنهما في الحقيقة نموذج، إنهما نموذج للبرهمانيين الصالحين من وجهة نظر بوذية، أعني برهمانيين راغبين في دعم نظام الأخوية أو الانضمام إليه. كذلك فإن اسم باسينادي له خصوصيته، وكذا علاقته مع شعب ساكيا علاقة لها خصوصيتها.

ولكنه مهم أيضًا من حيث علاقاته العامة باعتباره ملكًا في نظر المثل الأعلى العام عند الخطيين، وأيضًا في نظر المثل الأعلى للمجاهد الحقيقي. وهكذا فإن الفهم الذي شاع وانتشر ليس كما أكدت سابقًا فهمًا خاصًّا بأحد الأرباب، أو فهمًا خاصًّا بحدث تاريخي بعيد. إنه على الأصح فهم كافٍ لتوجيه راهب في خضم الأحداث ليعرف المسار ويتحرك بمسئولية وحساب، مستعينًا بوعي اجتماعيٍّ ملائم، وليكون هذا كله بعض تكوين شخصيته كراهب. (وهذا الوعي ليس هو ذاته الوعي الذي تحدثت عنه في تفسيري له؛ ذلك لأن الرهبان يتعيَّن عليهم أن يكونوا رهبانًا لا مؤرخين أو أنثروبولوجيين). ومن ثم، وفي ضوء ما سبق، فإن تلاوة نص أجانا كانت جزءًا من فيض أحداث عالم نهر الجانج، وعملًا من بين أعمال أخرى عديدة يؤديها الناس في تفاعلهم مع آخرين. وبذا تقع أحداث الحياة.

وكم هو يسير أن ترى تأسيس نظام الأخوية والتكوين الجمعي لنص أجانا والنصوص المرتبطة به باعتبارها جميعًا أعمالًا ابتكارية تسهم في عملية التحول؛ بيد أن هذا يُثير تساؤلًا آخر: إن نص أجانا له حياته الآن مثلما كانت له حياته آنذاك. كيف لنا أن ننظر إلى شيء أمكن الحفاظ عليه لأكثر من ألفي عام، على الرغم من أنه كان في البداية يتحلَّى بنضارة الجدة وحداثة العهد؟ أليس لنا الحق في النظر إلى نص أجانا باعتباره مقترنًا، الآن ليس فقط بالتحول والابتكارية، بل أيضًا بتراث وحالات ركود؟ حقًّا إنه لأمرٌ طبيعيٌّ أن أي شيء يمكن أن يغدو مبتذلًا وموضع تسليم عام ومكرر ومعاد إلى حدِّ السأم. وإن أي شيء مآله إلى أن يبدو تقليديًّا ومَعلمًا ثابتًا في فيض الأحداث الاجتماعية؛ ولكن مصير نص أجانا ذاته مصير له دلالاته ومغزاه؛ ذلك لأنه أدى إلى ظهور سلسلة طويلة من التحولات والتبدلات والأعمال الابتكارية.

إننا من ناحية لا نجد أثرًا فيما يلي من أحداث التاريخ للمثل الأعلى الخاص بالخطيين الجمهوريين، أو للعقد الاجتماعي الذي قالت أسطورة النشأة الأولى إنه أدى إلى ظهور أول ملك في الوجود. لقد اختفت جمهوريات الأقليات من مسرح أحداث الهند. وربما حدث هذا عقب وفاة بوذا بقليل. ويمكن القول، في هذا الشأن: إن نص أجانا أصبح إجمالًا ثاويًا بين مجموع الأدبيات البوذية المنقولة؛ إذ لا بد أنه حظي بقدر من الرواج في بداية عهده، ولكنه فقد قوته، وقليلًا ما نجد من يقتبسه كاملًا.

ولكن لم تكن هذه إطلاقًا النهاية وفصل الختام؛ إذ على الرغم مما أصاب النص من كمون ألقى به في طي النسيان، استعادت إحدى شخصياته وجودها وقوتها، وهي الشخصية التي حظيت بالتمجيد باسم «المتفق عليه الأعظم أو ماهاساماتا Mahasammata». وكم هو مستحيل تتبع الآثار الأولى لنشأته؛ ولكننا نستطيع أن نقول شيئًا عن وصفه: لقد ظهر في إطار أدب بوذي تشكل داخل نظم ملكية بوذية؛ ذلك لأنه مع اطراد التحولات في الحضارة الهندية نشأت ونمت ملكيات بوذية من بينها الإمبراطور العظيم أسوكا Asoka الذي ازدهرت إمبراطوريته في القرن الثالث ق.م. وكان النظام الأخوي البوذي شديد التلاؤم مع هذا التغير. كذلك كانت القصص ملائمة تمامًا لكي تروى عن ملكية بوذا وحظيت بالقبول والرواج. ونجد من بين هذه القصص قصة جديدة وذات طابع جديد إلى حد ما هي قصة أول إمبراطور يحكم شعب ساكيا واسمه ماهاساماتا Mahasammata، جد بوذا، والسلف الأول لأسرة الملوك المعروفة باسم «العائلة الشمسية». وتناولت القصة هنا ماهاساماتا بتطويرات بارزة ذات دلالة، سواء بما أضفته عليه من مظاهر تجميل لشخصه، أو مظاهر أهمية لشأنه. والجدير بالملاحظة أن التاريخ الهندي عن مثل هذه القصص تاريخ مبهم غامض. ولكن نعرف أن أسوكا أوفد بعثة بوذية إلى سري لانكا التي أضحت أيضًا مملكة بوذية على رأسها ملوك أبَوا أن ينسبوا أنفسهم إلى أحد غير الإمبراطور ماهاساماتا نفسه.

واستمرت شخصية ماهاساماتا في الازدهار وبذر الجديد من القصص في أطر جديدة. وانتقلت بوذية سري لانكا إلى بورما، وهناك، كما يلحظ روبرت لينجات، تحول البراهمة البوذيون في بورما، ذوو العقيدة الوثنية، في القرن الحادي عشر إلى ما كان عليه رهبان سري لانكا؛ أعني تحولوا إلى نساخ وكتبة ومثقفين وظيفتهم دعم نظام سياسيٍّ ملكي. لقد كانت مهمتهم، على سبيل المثال، صياغة القانون المحلي والبحث عن سابقة ما تتصف بالأصالة ينسبون إليها الصياغة التشريعية الجديدة، وتذكروا هناك ماهاساماتا. وكما يقول لينجات:

ماهاساماتا أول ملوك العالم، اختاره شعبه ليضع نهاية للفوضى والاختلاف، إنه وحده وضع عناصر الحل، ومن ثم كانت من أسباب الإغراء بالضرورة نسبة المبادئ الأساسية (للقانون المحلي) إلى ماهاساماتا … ولكن يتعين أن يبقى ماهاساماتا أسمي من أي نموذج لملك عادل، وإنما يمكن فقط أن يكون الشارح للقانون. وهكذا استطاع المؤلفون بعد أن أدركوا مغزى الأسطورة أن يستكملوا مهمتهم على النحو اللائق؛ اعتبروا ماهاساماتا مستشارًا، والذي يحمل في موضع آخر صفة الناسك البرهماني مانو Manu وتخيلوا أن ذلك الحكيم قد قام في السموات العُلا وبلغ كاكافالا cakkavala، أي السور المحيط بالعالم المنقوش عليه، بأحرف عالية بارتفاع قرون الثور، القانون الحاكم لهذا العالم. وإن هذا النص من الشعرية الذي يستظهره من الذاكرة الناسك مانو قد تم إثباته في «القانون المحلي المدون».19 وهكذا نجد أهل سري لانكا حتى ماضيها القريب، وكما لحظ الباحث الأنثروبولوجي إس جي تامبياه، ينظرون إلى ماهاساماتا باعتباره مؤسس نظام الطوائف الاجتماعية، كما يرجعون المنزلة المنحطة لبعض الجماعات داخل الطائفة (الرفيعة المحلية) إلى مرسوم صدر عن هذا الملك الأول.20

لقد استخدمت نص أجانا لأصور التحول والابتكار في حياة البشر، ولأوضح كيف يستخدم الناس القصص لابتكار أشكال اجتماعية جديدة. ولكن نص أجانا جرى استخدامه أيضًا لغرض مناقض، ألا وهو الدفاع بالحجة، من أجل ما سميته هنا نظرة «أصداف البحر» عن الثقافة والمجتمع. وتأسيسًا على هذه النظرة التي يعتنقها ويدعمها إس جي تامبياه نفسه فإن نص أجانا هو الأسطورة الجادة غاية الجد المؤسسة للملكية البوذية. وإن معناه، حسب هذه النظرة في سري لانكا المعاصرة، إنما يتجاوز موضوعيًّا أحداث التاريخ، كما يتجاوز فوارقها المعترف بها؛ إذ يظل هو ذاته مثلما كان في الهند القديمة. إنه، حسب رأيه، قصة تحكي الأصل المقدس لنشأة الملكية وموافقة بوذا على النظام الملكي. ويمضي تامبياه مؤكدًا أنه حسب هذا المنظور يبين لنا أن الأمور لم تتغير.

ولكن لا سبيل إلى الموافقة على صحة هذا الرأي؛ ذلك لأنه يدحض ويُكذِّب حتى أبسط تفسير لكلمات نص أجانا، ويغفل التحولات الفريدة التي طرأت على مصطلح ماهاساماتا. إن قراءة مُتأنِّية وعن كثب لنص أجانا سوف تبين لنا أن النص يقف دليلًا، ليس على وجود نمط ثقافي ساكن أبدي بشكل ما يردد ذات الأصداء على مر العصور، بل هو دليل على الطابع العام للحياة الاجتماعية، وهو طابعٌ تعددي يتعذر عليه الثبات والتوقف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤