الفصل التاسع

صندوق حلوى مهمل في غير ترتيب

سألت في الفصل السابق السؤال التالي: إذا كان علم الأنثروبولوجيا ذاته نشأ في رحم فيض أحداث الحياة البشرية والعلاقات البشرية — أو بعبارة أخرى تولد عن شيء متحول متغير جدًّا — فكيف لنا أن نضع ثقتنا فيه؟ وأجبت عن سؤالي بالقدر المتاح، وقلت: إننا نستطيع أن نضع ثقتنا إجمالًا في علم الأنثروبولوجيا بقدر ما نضعها في أي نشاط جمعي آخر. وقد استلزم هذا من ناحيةٍ نقصًا متناسبًا ومدروسًا من ثقتنا في العلوم الطبيعية. ويقضي من ناحية أخرى بزيادة اعتمادنا على الحكم أو التقييم الشخصي، وهو ما يعني الاعتماد على حكم يجري بين الأشخاص ومشترك بين الذوات.

وليسمح لي القارئ بأن أُعيد تلخيص الرحلة الطويلة التي أوصلتنا إلى هذه الإجابة. لقد بدأت مع استهلالي الأول للفرض بتوجيه ثلاثة أسئلة وثيقة الصلة ببعضها البعض. أولًا: ما هي الوحدة التي يقوم عليها التنوع الثقافي للبشر؟ وأجبت عن هذا السؤال بقولي: إننا بصفتنا بشرًا لدينا مجموعة خاصة ومميزة من السمات والقدرات، هي ما أُسميه الروح الاجتماعية. وتبلغ هذه الروح الاجتماعية أوجها في صورة القدرة على اقتفاء فيض معقد من النشاط الاجتماعي. وهذه ليست إجابة كاملة شاملة؛ ذلك لأنني أسقطت الكثير من الاحتمالات الواعدة، وأعني بها الكثير من الصفات التي يمكن أن تشتمل عليها «الوحدة النفسية للنوع البشري». بيد أن القدرات التي ضمنتها الروح الاجتماعية هي تلك القدرات التي اعتقدت، حسب تقديري، إنها الأكثر بروزًا في خلق التنوع الاجتماعي والثقافي لنوعنا البشري. إنني، بعبارة أخرى، شددت على تلك الأمور المشتركة بيننا جميعًا والتي هيأت لنا أن نختلف اختلافًا عقليًّا عظيمًا.

وقادتنا هذه الاعتبارات مباشرة إلى سؤال الثاني: كيف تولَّد التنوع؟ إنني لم أعالج جميع الموضوعات وثيقة الصلة بالسؤال؛ وإنما قنعت ببيان كيف يمكن أن ينشأ التنوع؟ وعند الإجابة أكدت أن الناس ليسوا فقط قادرين على اقتفاء فيض معقد من النشاط والأحداث، بل أيضًا قادرون على الاستجابة بطريقة ملائمة داخل هذا الفيض. وأكدت على أننا ونحن نتصور ورطتنا البشرية في ضوء هذه المصطلحات، فلا بد أن يكون معنى عبارة «بطريقة ملائمة» معنًى مرِنًا وتقريبيًّا وليس قاطعًا مطلقًا. ونحن لسنا بحاجة، أو على الأصح يجب ألا تكون لنا حاجة، إلى تصور أنفسنا ككائنات آلية automaton، أو عرائس متحركة، ما دامت الظروف الاجتماعية التي نواجهها هي، بلغة نيقولاس همفري، ظروف «عابرة زائلة مبهمة وقابلة للتغير لأسباب كثيرة ليس أقلها أنها متغيرةٌ نتيجة لأفعالنا نحن.» وأشرت أيضًا إلى أن مفهومنا للفيض الاجتماعي وما نفعله داخل هذا الفيض، خاضع للتفاوض بين الأفراد المشاركين فيه. ومن ثم خلصت إلى أننا قادرون كأفراد على إدراكه، وقادرون جماعيًّا على خلق النظم والمؤسسات الجديدة والمفاهيم الجديدة وأشكال الحياة.

وقادتنا هذه الإجابة إلى السؤال الثالث: كيف يتسنى لنا أن نفهم عن ثقة ذلك التنوع؟ وقد أكدت في الفصل السادس أثناء حديثي عن قصة سيدهاساجار، وكذلك في الفصل الثامن، أن أساس المعارف الأنثروبولوجية ليس مختلفًا عن أساس المعرفة عن أي إنسان في العالم الاجتماعي. وهذا فهم يفيد، وإن كانت فائدة محدودة، ويتميز بملاءمته للسلوك المرن القابل للتكيف الخاص بالعلاقات البشرية. ولكنني قلت كذلك: إن الباحثين الأنثروبولوجيين يحولون هذه المعارف الاجتماعية إلى نوع آخر من المعرفة هو ما اصطلحنا عليه باسم الإثنوجرافيا. ومن ثم فإن الإثنوجرافيا هي أسلوب من أساليب التعلم القائم على نموذجٍ قياسي والوثيق الصلة بجماعة محدودة من الناس في أماكن بذاتها وفي أوقات بعينها، وسأقول في الفصل الحالي شيئًا عن طبيعة هذا التعلم وعن قيمته واستخداماته.

إنه أكبر من صندوق الخبز

كتبت بين الحين والآخر في هذا الكتاب، وبخاصة في الفصل السابق، عن «أرشيف» الإثنوجرافيا، والفكرة عن وجود مثل هذا الأرشيف كشهادة حاسمة على التنوع الاجتماعي الثقافي بين البشر هي فكرة طرحتها لتكون بمنزلة فرض أساسي؛ ولكنني الآن أريد أن أضع هذه الفكرة بهدوء موضع تساؤل، وسبب ذلك أن الفكرة لا تحيط تمامًا، أو لا تحيط على نحو شامل بطبيعة العمل الذي يقوم به الباحثون الأنثروبولوجيون.

ولأبدأ بتقصِّي فكرة الأرشيف الإثنوجرافي وبعض تفرعاتها. يمثل الأرشيف العمل المتراكم للباحثين الأنثروبولوجيين باعتبارهم فريقًا جمعيًّا. وعندي قدر ضئيل من هذا الأرشيف موزع على الأرفف داخل حجرتي هنا، علاوة على قدر أكبر مصفوف فوق أرفف المكتبة الرئيسية للجامعة. وطبعي أن هذا الأرشيف في مجموعه غير متجمع في مكان واحد، ولكن يجري الاحتفاظ به في المخططات المختلفة الخاصة بتصنيف القوائم في المكتبات تحت عنوان «الأنثروبولوجيا». وتعتبر فكرة الأرشيف بعد هذا محفوظة ضمن ممارسات متنوعة؛ مثل الممارسات السائدة في الجامعات البريطانية الخاصة بتقديم امتحانات آخر العام: ثلاث ساعات للمادة لمعرفة كم حجم المادة من الأرشيف التي يمكن أن تفرغها خلال هذه الفترة.

وأحسب أن مفهوم «تفريغ» المعرفة ليس خياليًّا تمامًا؛ ذلك أن فكرة الأرشيف نجدها من زاوية فكرة مهمة، ووثيقة الصلة جدًّا بمفهوم المعرفة كمفهوم موضوعي، أي محتويات أداة توصيل، ومن حيث هي محتويات يمكن إفراغها ونقلها من مكان إلى آخر، ومن فصل في كتاب إلى تلميذ، أو من كتاب إلى مخ. وهنا تبدأ المشكلة في الظهور على السطح؛ إذ بينما يكون يسيرًا تبين المعرفة كمحتويات مستودع أو أداة نقل عندما نسأل عن استخدام مثل هذه المعرفة: ماذا نفعل بها؟ هل المعارف الأنثروبولوجية ذات أهمية تتجاوز حدود إفراغها دون نهاية من عقل إلى كتاب، ثم من كتاب إلى عقل؟ إنها رؤيةٌ تشبه الكابوس، أو أنها على الأقل عبث بلا طائل، يستبد بالعالم الأكاديمي. ومن يدري ربما كان موراي جيل-مان Murray Gell-Mann على صواب، عندما قال ذات يوم: إن تعليم القرن العشرين يشبه دخول أعظم مطاعم العالم … ليعطيك قائمة الطعام لتأكل.

وقد تبدو هذه الاعتبارات ذات تأثير أقوى إذا ما تأملنا العملية الاجتماعية الخاصة بصناعة الأرشيف الإثنوجرافي. لقد أصبح علم الأنثروبولوجيا في القرن العشرين حرفة أو مهنة، أي وسيلة لكسب العيش، وهذا مصدر مهم في حد ذاته. إن الباحث الأنثروبولوجي يطلب درجة الدكتوراه، والتي تمنحها له الجامعة، لكي يسهم في تقديم المزيد من المعارف الأنثروبولوجية يُضيفها إلى المستودع الجمعي. ويشرف على هذا العمل باحثون أنثروبولوجيون. وتخضع وظائف هذه المهنة لإدارة باحثين أنثروبولوجيين، وتعتمد الإدارة هنا أساسًا على قاعدة من المنشورات. ويجري استعراض هذه المنشورات وقبولها أو رفضها من جانب علماء أنثروبولوجيين آخرين. وبعد ذلك فإن التقدم في مجال المهنة والارتقاء فيها رهن منشورات أخرى يستعرضها بدورها علماء أنثروبولوجيون؛ وهكذا تمضي الأمور. وحسب هذا المنظور نجد أن المعارف الأنثروبولوجية، شأن أي سلعة، تظهر وكأن لها قيمة في ذاتها ومن ذاتها.

ونتيجة أخرى لازمة من هذا الطابع شبيه السلعة للأرشيف وهي أن مدخلاتها وما يفيد منها ينبغي أن يكون في الحقيقة أشبه بالموضوعات، أعني ينبغي أن تكون موضوعية؛ إذ يجب ألا تكون نتاجًا لنزوة فردية، ويجب ألا تكون ذات معنى واحد لشخص بذاته، ومعنى آخر لشخص آخر. ويتعين أن تكون ذات قيمة واحدة لكل شخص يتعامل معها، خارج القيود التي تفرض أصول نشأتها الاجتماعية والتاريخية. وتنعكس هذه النظرة، في الغالب الأعم، فيما يقوله علماء الأنثروبولوجيا عن الإثنوجرافيا. وهنا، على سبيل المثال، نرى روبرت بوروفسكي يبحث الموضوع في خاتمة دراسته الإثنوجرافية عن شعوب إحدى جزر البولينيز المسَّماة بوكابوكا Pokapuka ويقول:
«على الرغم من أن علم الأنثروبولوجيا ليس موضوعيًّا بالمعنى المطلق، إلا أن له قدرًا من الموضوعية يجعله أكثر من أن يكون مجرد نموذج لصورة من صور المعارف الشعبية أو «المحلية». ويتضمن علم الأنثروبولوجيا في جوهره مقارنة وتحليلًا لأوجه الاختلاف والتماثل في الثقافات.»1 وها هنا يمكن أن تكون كلمات بوروفسكي صدًى لكلمات رادكليف-براون أو بنيديكت، مع تصورهما لعلم الإثنوجرافيا باعتباره أشبه بالمتحف، وكذا فكرتهما عن التراكم التدريجي للمزيد والمزيد من المعارف للمقارنة. وها هنا أيضًا نرى أن الأرشيف له بعض الدلالات الضمنية التي لا تروع، وإن كانت لدرجة ما مثبطة. وإذا كان البحث الإثنوجرافي يهدف فقط إلى إنتاج موادَّ من هذا النوع، أعني مواد يمكن أحيانًا مقارنتها، فإنه قد لا يستحق ما نبذله معه من عرَق ودموع.
ولكننا نجد في العبارات التالية مباشرة أن بوروفسكي يتخذ وجهة مغايرة؛ إنه يخطو بحسم إلى ما بعد فكرة المستودع الإثنوجرافي، ويلقي على الموضوع مزيدًا من الضوء الواقعي والمثير للاهتمام في آن واحد.

«إن علم الأنثروبولوجيا بحكم طبيعة بحثه يفتح صدره للحوار مع الآخرين، متسلحًا باستبصارات ومنظورات مختلفة تتعلق بنفس الموقف. وإن التفسيرات الأنثروبولوجية تجعل الأفكار موضوع البحث واضحة بذاتها، في إطار ثقافة هي موضع شك وموضع مقارنة مع أساليب بديلة شائعة لدى الثقافة الأخرى. ولا يزال علم الأنثروبولوجيا ثاويًا داخل السياقات؛ ولكنه نسبيًّا أكثر حرية من هذه السياقات، ذلك لأنه يهيئ نفسه دائمًا وأبدًا لتنوع الأطر التي تتحدى الإطار الذي هو فيه.»

إن هذه الفقرة والكلمات الأساسية فيها التي تمثل المفتاح، وهي كلمات «حوار» و«الشك» و«التحدي»، هي، حسب ظني، أكثر صدقًا مع الممارسة والتطلعات وكذا مع القيمة المتحققة فعلًا للأنثروبولوجيا. ويوجد بالفعل، ولأغراض كثيرة، أرشيف إثنوجرافي. ولكن المعارف الإثنوجرافية، من حيث ابتكارها واستعمالها، بعيدة جدًّا فعلًا وعملًا عن كونها سلعة قابلة للتخزين. وإذا ما رغبنا في تشخيص مثل هذه المعرفة تأسيسًا على هذا المنظور، فسوف تكون معرفة قابلة للتغير وأكثر قوة، وجزءًا من عملية منسابة وطليقة من التفاعل والتداخل المتبادل.

وتأتي رواية بوروفسكي في ختام كتاب أثبت مرارًا أن طبيعة العمل الميداني الإثنوجرافي مُثيرة للشك وللنزال أحيانًا. لذلك فإن الحوار والشك والتحدي هي في المحل الأول من خصائص العمل الميداني ذاته، وخبرته الناجمة عن العمل من خلال الاندماج. ولكن كلمات بوروفسكي تعكس كذلك عملية إدراك جديدة بدأت تبزغ في أذهان الباحثين الأنثروبولوجيين، وتفيد بأن ما يكتبونه سوف يقرأه على الأرجح أولئك الذين هم موضوع دراستهم. والمعروف أنه كان من الممكن لعلماء الأنثروبولوجيا في الأجيال السابقة أن يغفلوا المتطلبات التي قد يفرضها عليهم قرَّاء لهم هذه الخبرة والمعلومات والحساسية. ومن ثم كان بالإمكان آنذاك الالتزام بالموضوعية جزئيًّا عن طريق افتراض أن من ندرسهم هم مجرد موضوع. ولكن اليوم باتت أخلاقيات المهنة الناضجة، علاوة على تقدم حالة من ندرسهم، وانتهاء كل علاقة استعمارية صريحة بين مجتمعات شمال الأطلسي والآخرين، كل هذا جعل الناس والجماعات موضوع الدراسة الأنثروبولوجية، أو مستشاري الباحث الأنثروبولوجي حسب تعبير دوجلاس كولكين، بمنزلة قراء وناقدين أيضًا. والمعارف الإثنوجرافية في نظرهم لا يمكن أن تبدو سوى باعتبارها صوتًا واحدًا داخل محادثة متصلة تجري داخل مجتمعهم.

لهذا فإن نظرة بوروفسكي تتجاوز علاقات المواجهة في الميدان إلى التفاعلات المفصلة في وحدة متكاملة بين طاولة الكتابة وكرسي القراءة. ويحدث القدر الأكبر من التحدي للمعارف الأنثروبولوجية بين الكاتب والقارئ، وليس بين الباحث الإثنوجرافي وأحد مستشاريه. ولقد كانت مرجريت ميد وكذلك روث بنيديكت تعرفان هذه الحقيقة عندما خاطبتا المجتمع الأمريكي، وقدمتا معارفهما عن المجتمعات الأخرى بعد إخضاعها لدراسة نقدية قوية. والملاحظ أن الغالبية العظمى من الباحثين الأنثروبولوجيين لهم طموحات أكثر تواضعًا، ولهم قراء أكاديميون متواضعون. ولكن هذا الحضور الوهمي، أعني حضور القراء، ليس أقل من الباحث الإثنوجرافي ومجتمع المستشارين من حيث الأهمية والانتماء، كجزء من الوضع الاجتماعي للإثنوجرافيا المكتملة.

لذا فإن ما توافر لنا هنا هو قدر من الفهم للأنثروبولوجيا عند التطبيق. وعبارة «عند التطبيق» تعني المعرفة كحجة أو المعرفة كأداة تحدٍّ. وهذا من شأنه أن يجعلها في آن واحد أقل ثباتًا وأكثر إثارة للاهتمام، ومن ثم فإن ما أريد أن أفعله الآن هو العمل، وأيا كان حجم العمل كبيرًا أم صغيرًا في سبيل الوصول إلى هذه النتائج ذاتها ولكن من اتجاه آخر، أعني من اتجاه الكتابة الأنثروبولوجية ذاتها.

المصيص

سأشرع مرة أخرى من البداية لأنظر إلى المعرفة الإثنوجرافية للحظة من خارج السياق — أو على الأقل فقط من داخل سياق يُماثلك أنت أيها القارئ — وسوف أحتاط ضمنًا. وسوف أستهل ببعض فقرات من كتاب إدوارد شيفلن «أسى المتوحد وتوهج الراقصين». والكتاب عن شعب كالولي الذي يعيش قريبًا من جبل بوسافي في بابوا نيو غينيا. واقتبست هذه الفقرات من فصل في الكتاب يبدأ بملاحظة عامة، تُفيد أنه يشيع بين شعب كالولي اهتمامٌ بالطعام؛ ولكن ليس بسبب نقص الطعام … وإنما الطعام مهم لأنه أداة تحقق علاقة اجتماعية.» ويستطرد قائلًا:
«أدركت هذا فور دخولي ولأول مرة مَسكنًا خشبيًّا مقامًا فوق هضبة. جلست منهكًا على حافة إحدى المصاطب الخاصة بنوم الرجال؛ بينما كنت أستخرج ديدان العلقة من داخل جوربي. وبينما أنا كذلك اقترب منِّي رجل وبيده حزمة مغطاة بالسواد وتشبه الرغيف. كسر كسرة وأعطانيها، وإذا بها تشبه الطباشير المغطى بمادة رمادية وقشرة مطاطية. وسادت فترة صمت بينما الحضور داخل المسكن يرقبونني ليروا ماذا عساي أن أفعل. وأخذت قضمة وأنا على مضضٍ. وذكرني الطعم بمادة المصيص؛ إذ يشبهها كثيرًا. وسألني أحد المضيفين مشجعًا «نافا؟» أي «جيد؟» … وأجبت قائلًا: «نافا» ولكن بعد أن جاهدت لأستجلب بعض اللعاب في فمي … وقال مضيفي: «آه»، وهو ينظر حوله إلى الآخرين. وأحسوا براحة واسترخاء؛ إذ ما دمت قد أكلت الخبز المصنوع من نبات الساغو فقد استقر في أذهانهم أنني أصبحت رفيقًا لهم.»2

أرجو أن نلحظ أولًا أن هذه الفقرة تشبه كثيرًا جدًّا الفقرة التي تُحدثنا عن با رانجفوري. إنها فقرةٌ روائية، قصيرة للغاية، وقد كتبت لتوضيح الدوافع وحالات الذهن عند المشاركين: التوتر في البداية مع الخطوات الأولى لمخاطرة تقديم الطعام، وأعقبتها حالة الاسترخاء العامة عندما أجاب شيفلن إجابة ودية. وقد تبدو التفاصيل الخاصة بديدان العلقة في الجوارب شيئًا دخيلًا وغريبًا؛ ولكنها في واقع الأمر تحدد إيقاع اللقاء وتبين كيف اجتذب الرجل من أبناء كالولي انتباه شيفلن ليتخلى عما يفعله حتى يقدم إليه الطعام. وتشتمل الفقرة على قدرٍ كبيرٍ من العمل الفني، وبعض هذا الفن هو في الحقيقة من طبيعة «استراتيجيات الاندماج» التي قالت بها ديبورا تانين، مع فارق واحد وهو أن الاندماج هنا بين الكاتب والقارئ. ونذكر كمثال أن ديدان العلقة تُفيد هنا في تحديد بؤرة عامة للمشهد، وهي بؤرةٌ ستكون يقينًا موضع اهتمام مشترك سواء بالنسبة إلى شيفلن وكذا بالنسبة لأي قارئٍ غير معتاد عليها.

ولكن القسمة البارزة التي أريد أن أؤكد عليها هي العلاقة بين التعميم الأوَّلي — الطعام مهم لأنه أداة خلق علاقة اجتماعية — وبين القصة. ذلك لأن ما سوف نتبينه في هذا التحليل الموجز هو عملية نسج مستمرة جيئة وذهابًا بين الرأي العام الفضفاض عن شعب كالولي إجمالًا وبين الحدث الحي والمميز الذي يصوره بوضوح. وسوف نخطئ إذا ما عالجنا التفاصيل النوعية، مثل القصص وما شابهها، باعتبارها مجرد برهان أو بيِّنة على صدق حجة مجردة، أو للإيحاء بأن الحجة المجردة هي جوهر الخطاب. ونحن من ناحية لا نجد محاولة لإثبات علاقة محددة بين القصص والتجريد؛ وستعمل القصص ذاتها من ناحية أخرى على اطراد الفهم، تمامًا مثلما فعلت قصة سيدهاساجار. ونتعلم هنا، على سبيل المثال، عن طريق القصة درجات الأهمية المنسوبة إلى تقديم الطعام؛ وهذا من نوع الحدث الذي يجعل جمعًا من الناس داخل إحدى القاعات يهبُّون وقوفًا ليشاهدوا ما يحدث. وهذا ما لم يوضحه شيفلن صراحة، ولكننا نجده مع هذا مندمجًا مع ما يقوله. ويصبح هذا جزءًا من فهمنا، حتى إن لم يُشر إليه صراحة. وكذلك يراوح فهمنا إلى أمام، من رواية عامة إلى حدث خاص ومحدد، ثم إلى أمام مرة ثانية وصولًا إلى رواية عامة أخرى.

وهنا أتخطى إحدى الفقرات لألتقط رؤية شيفلن وحجته:
«إن تقديم الطعام والمشاركة فيه عند شعب كالولي هما عملية توصيل عاطفي. إنها تعبير عن المشاعر الوجدانية وعن الألفة وحسن الطوية. والطفل الذي لا يزال يدرج وانفجر باكيًا حين رآني أول مرة أنَّبهُ أبوه قائلًا: «لا تبك، إنه يقدم الملح» وشرح لي الرجل قائلًا: «إن على المرء أن يقدم طعامًا إلى صغار الأطفال» حتى يعرفوك ويحبوك ولا يخافوك.»3

تأتي هذه الرسالة في موازاة الرسالة السابقة عليها؛ رؤية عامة تعقبها قصة شديدة الإيجاز؛ بيد أنها أيضًا تعرض نظرة شيفلن بطرق ثلاثة متمايزة؛ أولًا: تقدم رؤية عامة ذات علاقةٍ واضحة بالسابقة عليها (الطعام أداة خلق علاقة اجتماعية). ولكن هذه العبارة العامة تكشف عن جانب مغاير للموضوع؛ إنها تؤكد الحالة العاطفية والوجدانية وليس فقط الواقعة المجردة الخاصة بالارتباط عن طريق الطعام. ثانيًا: يوضح شيفلن الآن علاقة شعب كالولي ببعضهم البعض وليس علاقتهم به هو. لذا فإذا كان هناك من ظن أن لشعب كالولي سلوكياته المميزة التي يختص بها الأجانبَ، سيبين له الآن بوضوح عدم صحة هذا الظن. ثالثًا: تؤكد الفقرة كيف يتحدث أبناء شعب كالولي أنفسهم عن الطعام، وكيف يفكون فيه، وما هي رؤيتهم الأساسية إلى الطعام والعلاقات الاجتماعية. أو بعبارة أخرى أن شيفلن هنا يدع شعب كالولي يقدم رؤية عامة على مسئوليته هو.

سوف آتي بفقرة أخرى واحدة فقط، وهي فقرة تبدأ من حيث انتهت الأخيرة (ينبغي أن يُقدم المرء الطعام لصغار الأطفال «حتى يعرفوك ويحبوك ولا يخافوك …») تقول الفقرة:

حريٌّ بأن تطبق النصيحة بالعدل على كل العلاقات الاجتماعية لأبناء شعب كالولي. ويمارس أبناء شعب كالولي هذه العلاقات فور مجيء طفل إلى العالم:
«بعد يوم أو أكثر قليلًا من ميلاد الطفل يأخذه أبواه وقليل من أقربائه في خروجة سريعة إلى معسكر في غابة حيث يقضون بضعة أيام يصطادون جراد البحر وديدان نبات الساج لإطعامه. والهدف المشترك هنا جعل الطفل قويًّا، وإدخال السرور عليه وأن يشعر بأنه موضع ترحيب حتى لا «يعود أدراجه إلى حيث أتى» ويموت. ويتعين وجود آخرين مع الأم التي تطعم وليدها من صدرها، وحتى تتهيأ الفرصة لخلق علاقة معه من خلال إطعامه.»4

وتستمر بعد هذا عملية تقديم الطعام والمشاركة فيه جماعيًّا، ليكون الاصطلاح الاجتماعي الذي تتشكل في إطاره العلاقات الوثيقة والمشاعر الوجدانية الجمعية. وقد يحاول فتًى مغرم بفتاة أن يدسَّ لها سرًا قدرًا قليلًا من الملح أو قطعة لحم لكي تعرف حقيقة مكنون شعوره. وإذا كان ثمة رجل شاء أن يعبر عن حزنه لفراق عزيز عليه فإنه يقول: «أعطاني قطعة من لحم الخنزير.»

تتواصل في هذه الفقرة عملية تطور الرؤى العامة عن حياة شعب كالولي. وترسم الآن في خطوطٍ عريضةٍ مدًى واسعًا من الميلاد إلى مراحل التغزل والتودد إلى فتاة، ثم إلى الوفاة. ولكن تأخذ الرؤى التفصيلية الآن شكلًا آخر. إنها لم تعد أحداثًا خاصة ومحددة تقع في أزمنة معينة؛ بل باتت هي الأخرى أكثر عمومية في ذاتها. وتعكس لنا ما هو نموذجي في حياة شعب كالولي. وبوسعنا، بل يجب علينا في الحقيقة، أن نفترض أن شيفلن شهد بنفسه هذه الأحداث، مثل تقديم الطعام لطفل حديث الولادة، أو النحيب والولولة على متوفى؛ ولكننا أيضًا مدعوون لكي نرى أن أيًّا من هذه الحوادث هي نوع من روتين الحياة بدرجة أو بأخرى، وأنها متوقعةٌ، وهي اصطلاح اجتماعي بصورة ما. إنها من نوع الأمور التي يعملها أبناء شعب كالولي بطبيعتهم في إطار خبرتهم ومجتمعهم. والحقيقة أن هذه الاصطلاحية الاجتماعية في أداء الأمور هي التي حفزت إلى استخدام الأحداث الأكثر تميزًا وتخصصًا السالف ذكرها. وسوف نخطئ، بطبيعة الحال، إذا ما نظرنا إلى هذه الأفعال وكأنها أفعال تلقائية، أو أنها تجري دون تفكير فيها. إن أهم ما يميزها أنها تجري باهتمام كبير وتروٍّ كبير. ولكنها تمثل المعيار الجمالي المشترك عند شعب كالولي، كما تكشف لنا عن الحس الجمالي إزاء الشيء الصواب لكي يفعله، ومع من، وفي أي مناسبة.

وعلى الرغم من أن هاتين الفقرتين تشتملان فقط على جزء صغيرٍ من كتاب «أسى المتوحد وتوهج الراقصين» إلا إنهما تصوير جيد للكتاب كله. إنهما في واقع الأمر عينة من خيوط نسيج، أو قطعة نسيج تكشف بوضوح عن ألوانها الأساسية وعن نوع القماش. وواضح أن بعض هذه الخيوط من عند شيفلن. ولكن الغزل الأساسي ليس غزله هو، ذلك لأن النسيج يصور جيدًا طابع المعرفة الأنثروبولوجية عند أهم مستوياتها الأساسية. وتتألف هذه المعرفة تحديدًا من الرؤى والعبارات العامة في تطورها المطرد عبر مراحل مختلفة، ومن أحداث مميزة، ومن علاقاتها ببعضها البعض داخل إطار جامع متطور. وهذا الكل أو الإطار الجامع هو الخاصة الأساسية للمعرفة القائمة على نموذج قياسي في مجال الأنثروبولوجيا؛ إنها الفهم الأساسي الذي يتعيَّن على الدارس أن يبدأ بالنظر في ترابطاته وأن يستعرضه عقليًّا بينه وبين نفسه، وأن يستقصي بخياله من أين تكون البداية ليدرس الإثنوجرافيا. وإذا ما كان كل حدث بمفرده يمثل نمطًا بذاته، إذن فإن الإثنوجرافيا ستكون نمطًا للأنماط، وسيتمثل التفكير الإثنوجرافي في العمل تأسيسًا على هذه الأنماط العليا meta-patterns. وتمثل المعرفة الإثنوجرافية في الحقيقة لقاء، ولكنه لقاء يبدأ داخل إطار هذا الضرب المحدد من الفكر القابل للتمدد. إنها وسيلة التفكير تحيل هذه المناسبات المتباينة مثل النُّواح على الميت، أو هدية إلى زائر غريب. وننسجها شيئًا واحدًا قابلًا للفهم والمعقولية.

وهناك جداول من التنظيمات أوسع من ذلك، وأنماط أكبر في كتاب شيفلن. ونجد الفقرتين المذكورتين آنفًا في الفصل المعنوَن «أنا لا آكل هذا الشيء يا أخي». ويمضي فيه شيفلن محاولًا استقصاء كيف أن مقاسمة الطعام تخلق هذه العلاقة أو تلك، بين الأخوة الأشقاء، وبين الأقارب والأنساب، وبين الأطراف حين يتبادلون الحديث، وبين الزوج وزوجته، وبين الأم وطفلها. ثم بعد ذلك يتناول النقطة التي اتخذها عنوانًا للفصل؛ إذ يُغير مساره ووجهته ويوضح كيف أن قيودًا بذاتها مفروضة على أنواع محددة من الأطعمة، وهي بالتالي قيود على مقاسمتها، ولها نتائج متباينة؛ إذ بينما تخلق المقاسمة روابط، فإن التحريمات الخاصة بالطعام تخلق حواجز بين الناس على نحو ما يكون بين المتزوجين وغير المتزوجين من الرجال، أو بين النساء والرجال. وحسب هذا المنظور فإن مقاسمة الطعام التي استهل بها الفصل من الكتاب، تبدو مثالًا على الكيفية التي يتناول بها أبناء شعب كالولي علاقاتهم مع بعضهم البعض. ويفعلون هذا بوسائل كثيرة، أبرزها تقديم عدد من الأطعمة المختلفة، أو الامتناع عن ذلك، والأكل منها أو تحاشيها. ومن ثم فإن العبارة العامة التي تقول: «الطعام مهمٌّ لأنه أداة خلق علاقة اجتماعية» تفضي في النهاية إلى معالجةٍ أكثر أو أقل شمولًا لطبيعة وأسلوب علاقات شعب كالولي في مجموعها.

والملاحظ أن هذا التوزيع النمطي الأوسع نطاقًا في الإثنوجرافيا عند شيفلن يفتح الباب نحو أنماط أخرى تتجاوز شعب كالولي وتتجاوز الكتاب ذاته. والحقيقة أن الفصل المعنون «أنا لا آكل هذا الطعام يا أخي» يفي بدور يمكن أن تكتبه في دراسة إثنوجرافية أكثر تقليدية أو أقدم عهدًا تحت عنوان «صلة الأرحام» Kinship». والجدير بالذكر أن علم الأنثروبولوجيا عندما اعتبر نفسه دراسة عن المجتمعات البدائية صغيرة الحجم، كانت «صلة الأرحام» هي الفصل الذي يُمثل المدخل الكامل على صدر قائمة موضوعات الأنثروبولوجيا. ولا يزال في الحقيقة هذا الموضوع يحتل أولوية كبيرة ومكانة بارزة. ونلاحظ أن شيفلن لا يقارن صراحة بين أشكال وأساليب العلاقة، عند شعب كالولي وبين نظيرتها لدى شعوب أخرى. ولكن التفاصيل التي يعرض من خلالها شيفلن موضوعه وترد متناثرة هنا وهناك بين ثنايا الكتاب، تبين بجلاء أنه كان يفكر كثيرًا في عمل مقارنة بين ما يدرسه وبين تلك الأشكال الأخرى بعد أن يفرغ من دراسته.
وفي هذا الإطار نفسه نجد هذا الفصل من كتاب شيفلن يمتزج مع فصول أخرى من الكتاب، بغية دراسة فاحصة لفكر مهمة أخرى يتضمنها علم الأنثروبولوجيا في مجموعه. ونعني بها فكرة التبادلية أو التعامل المشترك. ولقد كان الباحث الأنثروبولوجي مارسيل موسى هو الذي ثبَّت وضع مادة «الهدية The Gift» على جدول أعمال الأنثروبولوجيا. وأوضح ملاحظته الأساسية من خلال العديد من الأمثلة الإثنوجرافية المنتشرة على نطاق واسع. وتقضي هذه الملاحظة بأن السلع المادية ليست مجرد بضائع؛ بل هي، بكلمات شيفلن، أدوات لخلق علاقات اجتماعية. إننا إذا اقتصرنا في بحثنا على شعب كالولي وجيرانهم سيتولد إحساس يُفيد بأن عملية الأخذ والعطاء المستمرة للهدايا، وهي ليست فقط هدايا حكام؛ بل وأشياء أخرى، هي موضوع أساسي يمايز بين بابوا نيو غينيا وبين منطقة ميلانيزيا على اتساعها، والتي يشكل شعب كالولي جزءًا منها. ولكن نجد بعد هذا كله أن استخدام موضوعات مادية باعتبارها رموزًا أساسية للروح الاجتماعية البشرية، مسألة عامة وشاملة بين البشر جميعًا. وليس لنا أن ندهش، في ضوء ما عرضناه في كتابنا هذا، حين نعرف أن علماء الأنثروبولوجيا قد اكتشفوا هذا. والسبب أن الأنثروبولجيا بصورة أو بأخرى عُنيت دائمًا ببحث التنوع في صور العلاقات البشرية. بيد أنني الآن أفيد هنا من سبعين عامًّا من تاريخ الإثنوجرافيا التي غرست أفكار موسى وغذَّته بها.

وهذه يقينًا أُطُر نسبية ويتعين أخذها في الاعتبار؛ حيث إن بوروفسكي أشار إلى بعضها في حديثه عن الأنثروبولوجيا كمبحث نسبي يعتمد على المقارنة. لكن على الرغم من إسهابي في شرح هذه المقارنات إلا أنها ليست سوى نوع من التحدي الذي يتميز بطابع خاص. وإنه لأمر مثيرٌ معالجة موضوع صلة الأرحام، على نحو ما فعل شيفلن كمثال، باعتبارها مجال نشاط يتحلل جزئيًّا داخل نطاق محدود جدًّا، نطاق مقتصر على بعض الإخصائيين المعنيين بموضوع صلة الأرحام داخل مبحث الأنثروبولوجيا في مجموعه. وليس معنى هذا عمل أن شيفلن لا يمكن النظر إليه باعتباره معارف في علاقة تحدٍّ مع مجتمعات شمال الأطلسي بعامة؛ إذ يمكن النظر إلى القسط الأكبر منها باعتبارها كذلك. ولكنني أتحول بدلًا من هذا إلى مبحث إثنوجرافي آخر، لنستقصي كيف يمكن أن يظهر تحدٍّ آخر أكثرُ عمومية.

ما فوق الطبيعي

يُمثل الاقتباس التالي مطلع الفصل الرئيسي من كتاب جودفري لينهارت «الإلهيات والخبرة: ديانة قبائل الدنكا Divinity and Experience: The Relegion of the Dinka» وقبائل الدينكا رعاة في جنوب السودان.
يزعم أهل الدنكا وهم داخل عالمهم الأوحد المعروف لهم (ذلك لأن فهم تخييلات محدودة عن «عالم آخر» له تكوين مغاير) أنهم يلتقون «أرواحًا من أنواع مختلفة، يطلقون عليها اسمًا عامًّا هو جوك Jok». وسوف أتخذ لها هنا اسمًا خاصًّا هو «القوى». وينظرون إلى هذه القوى باعتبارها أرفع شأنًا في سلم الوجود، فهم أرقى من البشر ومن الكائنات الأرضية الأخرى، وتعمل هذه القوى فيما وراء الزمان والمكان كبعدين يحددان نشاط الإنسان. ولكن ليس متصورًا أنها تشكل «عالم أرواح» مستقلًّا خاصًّا بها. وتهتم هذه القوى بشعب الدنكا باعتبارها قوى فوق بشرية، تشارك في الحياة البشرية وغالبًا ما تؤثر في الناس تأثيرات ضارة أو نافعة. وتظهر عند تفسير الوقائع والأحداث. ومن هنا نجد شعب الدنكا يُقسم عالمه الأوسع إلى «عالم البشر» و«عالم القوى». وهو ما يعني، جزئيًّا، تقسيم الأحداث إلى نوعين. عالم الإنسان وعالم يقاسمه ويشاركه طبيعته الأرضية، ويمكن مقارنته فكريًّا بالقوى التي يعتبرها المجتمع جماعيًّا ذات طبيعة مغايرة. والملاحظ أن الفكر الديني والممارسة الدينية عند أهالي الدنكا تحدد وتنظم العلاقات بين الموجودات التي لها هاتان الطبيعتان المختلفتان، وتجمعها في عالم واحد هو عالم الخبرة البشرية الذي يمثل مقرهم المشترك.
ولم أجد من المفيد أن ألتزم بالتميز بين موجودات أو أحداث طبيعية، وأخرى «فوق طبيعية» بغية وصف الفارق بين البشر والقوى. وسبب ذلك أن التمييز يعني ضمنًا تصورًا لمسار أو لسنة الطبيعة على نحو مخالف تمامًا لفكر الدِّنكا. إذ حين يغزو شعب الدنكا البرق كمثال إلى قوة خاصة فوق بشرية، فإن هذا يزيف فهمهم ويبالغ في الحقيقة في الفارق بين فهمهم وفهمنا نحن عند الإشارة إلى قوة خارقة للطبيعة. إن قوة البرق هي أيضًا قوة فوق بشرية عندنا وعند شعب الدنكا على السواء، هذا على الرغم من اختلاف تأويلنا عن تأويلهم. ومن ثم فإن أحد مهامِّي التالية إثبات وبيان كيف أن قسمات كثيرة من فكر الدنكا الديني وأعمالهم، مرتبطة بخبرتهم عما نسميه «الطبيعة» وعن نطاق وحدود السيطرة البشرية داخل بيئتهم بخصائصها المميزة.5

وإذا قارنا الآن هذه الفقرات التي كتبها لينهارت بما سبق أن اقتبسناه من كتاب شيفلن نجد أنها جميعًا تختص بالجانب العام. فهذه هي الملاحظات العامة التمهيدية التي تضيف الإيقاع المميز للباحث الإثنوجرافي (الفردي المميز في تبادل مع العالم) والذي يلي ذلك.

علاوة على هذا فإن النظرة المعروضة إنما هي رجع صدى لأفكار عرضَها باحثون أنثروبولوجيون آخرون. مثال ذلك أنها تردد صدى مثلما ترفض أيضًا تعريف تايلور للدين بأنه (اعتقاد في موجودات خارقة للطبيعة). وسبق أن واجه هذا التعريف معارضات ضارية واسعة النطاق ابتداء من إميل دوركايم. وترفض ميلًا عامًا لدى علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع للحديث عن «عالم الروح»، أو استخدام الصياغة الفيكتورية «عالم آخر» لوصف أفكار وممارسات مثل أفكار وممارسات الدنكا. والملاحظ أن من القسمات المميزة لأسلوب لينهارت هو أن يدع للأصداء وجودها الضمني بدرجة أو بأخرى؛ غير أن القوة الفاعلة لحجته تتجاوز الكلمات ذاتها. ويقول بعد ذلك ما يلي: «قد يظن الأنثروبولوجيون أن كذا وكذا هو الحالة بعامة، ولكنها في واقع الأمر بالنسبة لشعب الدنكا شيء مختلف، وشيء أكثر دقة ورفاهة. وإذا لم تصدق هذه الأفكار بالنسبة لشعب الدنكا فإنها، وتأسيسًا على هذه الحقيقة، ليست قابلة للتصديق بصورة عامة وشاملة، وربما تكون غير ملائمة وغير صحيحة في حالات أخرى.»

وهكذا فإن مبحث الإثنوجرافيا عند لينهارت، شأنه شأن الجزء الذي اقتبسناه عن شيفلن وناقشناه آنفًا، يشكل تحديًا داخل علم الأنثروبولوجيا ذاته. ولكن فكرة التحدي التي عرضها بوروفسكي هي فكرة أعم، ذلك لأنها تؤكد أن الروايات الأنثروبولوجية من شأنها أن تجعل الأفكار موضوع البحث واضحة جلية بذاتها في إحدى الثقافات، وموضوعًا للشك وموضوعًا للمقارنة مع أساليب بديلة مشتركة في ثقافة أخرى. وها هنا نجد إثنوجرافيا لينهارت عن شعوب الدنكا تحقق أعظم تأثير لها من حيث تحديها للأنثروبولوجيا ولكن ليس في نطاقها الضيق، بل تحديها للأفكار العامة السائدة في شمال الأطلسي عن الدين.

ولنتأمل أسلوبه في معالجة التقسيم بين ما هو طبيعي وما هو خارق للطبيعة. إنه تقسيم لم يبتدعه علماء الأنثروبولوجيا، كما أن استخدامهم له يعكس الاستخدام الأوسع نطاقًا له على أيدي علماء شمال الأطلسي. إنه تقسيم للأشياء ويعود بتاريخه إلى عهد اللقاء بين اللاهوت المسيحي، والفكر الإغريقي وبخاصة الفكر الأرسطي عن العالم الطبيعي. زدْ على هذا أن النمو الهائل للعلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر لم يقدم ما ينقض هذا التمييز ذاته، بل دعمه فقط حتى عند الشك في حقيقة وأهمية جانب من التقسيم، وهو القسم الخارق للطبيعة أو عالم الروح؛ لذا فإن استخدام التمييز ضمنًا أو صراحة من جانب الباحثين الأنثروبولوجيين لا يمكن اعتباره تطبيقًا لمصطلح تقني بسيط وواضح. ونحن هنا، على العكس من ذلك، إزاء مجموعة متداخلة من الأفكار التي تعتبر واضحة بذاتها في إحدى الثقافات وتكون موضع شك، وكذا موضع مقارنة مع أفكار خاصة بثقافات أخرى.

والآن التحدي الذي يمثله لينهارت، وكذا التحدي الذي يمثله شعب الدنكا من خلال لينهارت، ليس هو إنكار وجود قدر من التمييز. والحقيقة أن الفصل الذي ظهرت فيه هذه الفقرة يحمل عنوان «التقسيم في العالم». ويقر لينهارت بهذا التقسيم بكتابته عن «القوى» باعتبارها المقابل للبشر. لا؛ إن التحدي أكثر دقة ورهافة من هذا. إنه يوضح أن القوى والبشر يسكنون معًا عالمًا واحدًا «العالم الأوحد للخبرة البشرية التي هي موئلهم المشترك». علاوة على هذا يشدد لينهارت على أن هذا العالم الأوحد هو عمليًّا نفس عالم الخبرة البشرية، أو هو بكلمات بروفسكي «نفس الحالة» التي تسكنها شعوب شمال الأطلسي. ويضفي لينهارت على هذه النقطة قدرًا من الحيوية بمثال البرق، الذي هو تمامًا «فوق بشري» في نظرنا وفي نظر شعب الدنكا.

لهذا فإن الدعوة إلى قراء شمال الأطلسي هي دعوة تتسم بالقوة والصراحة: أن ينظروا إلى عالم خبرتهم العادية بعيون شعب الدنكا. ولقد تبين لي من خلال خبرتي في مجال التعليم في مجتمعات شمال الأطلسي، أن الأفكار التي تشبه تلك الأفكار التي يقدمها — أو ينقلها — لينهارت قد يتعذر إدراكها وفهمها. وليس مرجع ذلك ما انطوت عليه هذه الأفكار من صعوبة أصلية فيها، وإنما بسبب أنها تناقض بشكل شامل وتام الأفكار التي هي موضع إيمان وتسليم. وتتمثل إحدى هذه الأفكار المسلَّم بها في ميل شعوب شمال الأطلسي، إلى أن يضفوا زيفًا وتعسفًا على شعب الدنكا درجة من التفصيل والإحكام الغريبين عن أفكاره. ويوضح لينهارت ذلك ببساطة حين يقرر أن القوى «تظهر خلال تفسير الأحداث». ومناط الأمر هنا أن شعب الدنكا لا يشارك في التأمل الفكري التفصيلي المحكم. ولهذا فإنه لا يضفي على القوى صفات تتجاوز الصفات وثيقة الصلة بتأثيرها المباشر في الناس. وفي هذا يقول لينهارت بعد قليل في نفس الفصل:
«ومن ثم فإن ديانة الدنكا هي علاقة بين البشر والقوى فوق البشرية التي يلتقي بها الناس؛ أي بين قسمين من العالم كلاهما منفصلٌ عن الآخر انفصالًا جذريًّا. وكما سيتضح فيما بعد فإنها ديانة ظاهراتية أكثر منها لاهوتية؛ إذ إنها تفسير لعلامات خاصة بالنشاط فوق البشري أكثر منها عقيدة عن الطبيعة الأصيلة للقوى الثاوية وراء تلك العلامات.»6
والمقارنة الرئيسية هنا هي مقارنة بين «تأويل العلامات» من حيث تعارضها مع «عقيدة عن الطبيعة الأصيلة». فالبرق، على سبيل المثال، هو حسب الاعتقاد: تدخل مباشر من قبل الآلهة في شئون البشر، والمألوف في حالات العواصف الرعدية أن يجلس الناس في صمتٍ وإجلال لأنهم إزاء حضور مباشر للآلهة.7 ويكشف العمل بهذه الطريقة عن تأويل لمعنى ما يجري من أحداث، وعن فهم الدنكا للآلهة وظهورهم المباشر؛ ولكن مثل هذا السلوك ليس مجرد عقيدة محكمة التفاصيل عن الآلهة. إنه لا يعني بالضرورة أن لدى شعب الدنكا فكرة عن جوهر الآلهة أو مكانهم أو أحجامهم، أو ألوانهم أو عددهم أو أصلهم ومنشئهم أو حركتهم. ولكن شعب الدنكا على النقيض من ذلك أميل إلى اعتبار أكثر ما يتعلق بأمور الآلهة هو شيء مجهول لنا ببساطة؛ إنه في النهاية فوق بشري. ويمكن بالمثل لمسيحي عامي من غير رجال الدين أن يتصور الآن، أو ربما تصور في الماضي، أن الملائكة هم قوى فاعلة مسئولة عن حدثٍ غريب أو حدث يتعذَّر التحكم فيه. ولكن هذا المسيحي العامي لن يكون بحاجة إلى أن يعرف، مثلما يعرف رجل الدين، كم عدد الملائكة الذين يمكن لهم أن يتجمعوا ليرقصوا فوق رأس دبوس. والفكرة التي يهدف إليها هنا لينهارت مرتبطة بفكرة سبق أن تحدثت عنها، وهي أن إضافة فقه الإلهيات والفلسفة إلى الدين ليس أمرًا ضروريًّا عن أصالة، وإنما هو نتاج تطورات تاريخية محددة. إذ كان لدي المسيحيين، ولا يزال، فقهاء إلهيات يصوغون الرؤية بشأن عالم آخر غير مرئيٍّ. ولكن شعب الدنكا ليس لديه أحد. إنهم قنعوا بالنزر اليسير من التخييلات عن «عالم آخر».

ونجد ما يؤكد أمانة لينهارت في حديثه عن هذه العلاقة المباشرة في ديانة الدنكا. ولكن الدليل يتمثل في شيء لم يأت على يديه هو. إنه حسبما تبين لي لم يستخدم كلمات مثل «يعتقد» أو «اعتقاد». وسبب ذلك أن مثل هذه الكلمات تحمل في مضمونها شحنة من الممارسات والأفكار والمفاهيم ذات الطابع الخاص المميز، وأعني بذلك طابعًا مسيحيًّا على وجه التحديد؛ إذ حين يؤمن المرء فإنه يؤمن المرء فإنه يؤمن بأقوال مفترضة أو روايات، ويؤمن بهذه الروايات حتى وإن لم تكن موضوع خبرة مباشرة. قد يؤمن المرء بأن الله ثالوث مؤلف من أقانيم ثلاثة. وهذه من ناحيةٍ رؤيةٌ صقلها وأحكم صياغتها فقهاء الإلهيات. وهي رؤيةٌ عن عالم «خارق للطبيعة» وليس عن عالم «طبيعي». ولكنها من ناحية أخرى تشكل عملًا من أعمال الإيمان. إنها عقيدة، وموافَقة صريحة وإقرار بصدق الرؤية، علاوة على أنه تم صراحة إرساء قواعد الممارسة المتعلقة بقبول مثل هذه الرؤية ضمن الطقوس والشعائر المسيحية. ولكن، وكما أوضح لينهارت، لا نجد لدى شعب الدنكا شيئًا يُقابل هذه الأفكار والممارسات. فالقوى «تظهر» من الوقائع والأحداث، وترتبط بشعب الدنكا «من خلال» الخبرة بما نسميه الطبيعة. ولم يحدث أن طُلب من أحد من أبناء شعب الدنكا بأن «يؤمن» بمثل هذه القوى، ومن ثم يغدو من الحمق أن ننسب «الإيمان» إلى شعب الدنكا.

وهكذا يؤلف كتاب «الإلهيات والخبرة» تحديًا للأفكار السائدة والمسلَّم بها لدى شعوب الأطلسي. والحقيقة أن هذا التحدي موجَّه صراحة إلى المسيحية. ويكشف لينهارت مرارًا عن وعي القراء بذلك من خلال توجيه خطابه إليهم صراحة. ولكن الفكرة الرئيسية القائلة، على سبيل المثال: إن الدين أساسه «الإيمان». هي فكرة تتعلق بالقسمات التي نعزوها إلى «الدين» من حيث هو، حتى إن كان المتحدث غير مؤمنٍ بدين. إنها، كما يقول لينهارت، تعيد إلى الذاكرة «تصورات خاصة بنا غير محددة، وإن بدت محددة على نحو تقريبي في نظر كل فرد.»8 وهذه التصورات، وكما تشهد خبرتي، يتعذر علينا تجاوزها في شمال الأطلسي، بل من العسير تصور بديل عنها.
لذلك فإن القراءة المضنية والكاشفة لكتاب «الإلهيات والخبرة» تحقق لقارئه ما هو أكثر من مجرد معارف خاصة بأرشيف شخصي. وتثير القراءة أيضًا شكوكًا بشأن أبعاد الفكر، والتي من دونها تظل كامنة وموضع تسليم. ويوحي لنا الكتاب بمنظور آخر عن الحالات البشرية المشتركة. وإنني مقتنع تمامًا بأن هذا المنظور ما كنا لنتصوره بسهولة أو نحلم به لو لم يفعل شعب الدنكا ذلك، ولو لم يحرص لينهارت على تعلم أسلوب حياتهم وترجمته لنا. ولقد عمدت إلى الإشارة في كل ثنايا الكتاب إلى فكرة هوفستادتر، عن قابلية التحولslippability أي القدرة على تخيل بدائل لما هو ماثل مباشرة أمام أعيننا. ويبين لنا كتاب لينهارت كيف يمكن لمبحث الإثنوجرافيا باعتباره أمرًا يعلو على المعارف الأرشيفية، ويتجاوزها، أن يدعم ويقوي هذه القابلية للتحول. إنه نوع من المعارف التي تشحذ خيالنا وتغنيه، وتحفز قدرتنا على تبني أفكار جديدة عالية الإمكانات عن الطبائع البشرية في مواقف بشرية تمامًا.

علبة حلوى غير مرتبة

خصصت الجزء الأكبر من هذا الكتاب لقضية تُفيد أن علم الأنثروبولوجيا لا بد له أن يتجاوز الفكرة العامة عن مهمته، والتي تحددت بأنها ترجمة الثقافات، وذلك بأن يكون الهدف هو غرس أسلوب أكثر تاريخية، وخلق وعي أكثر حدة بالتحول في الحياة البشرية؛ بيد أنني التزمت نظرة محافظة — ولعل الأفضل أن أقول: نظرة وقائية — عن مباحث الإثنوجرافيا التي هي في عمومها ترجمات للثقافات. ويوضح لنا مبحث الإثنوجرافيا عند كل من لينهارت وشيفلن أن ما فعلته إنما جاء لسبب حقيقي معقول؛ ذلك لأنهما أضفيا على الأفكار الخاصة بالمقارنة والترجمة في الأنثروبولوجيا لونًا خاصًّا يتسم بالثراء والابتكارية. ولكنني مع هذا أودُّ أن أوكد أن عملية إعادة التجميع، أي عملية إعادة وضع خصوصيات أسلوب من أساليب الحياة في وضعها الاجتماعي الفعلي التاريخي والأوسع نطاقًا لا تزال تشكل قيمة إضافية، بل لعلها ستضيف قيمة أخرى حتى لهذه البيانات الرائعة التي تم تفكيكها. ورغبة منِّي في دعم هذه النقطة الختامية أنتقل إلى مبحث إثنوجرافي آخر، تمثله جوليت دي بولاي في كتابها «صورة قرية يونانية جبلية» Portrait of a Greek Mountian Village.
يبدو في ظاهر الأمر أن مبحث الإثنوجرافيا عند دي بولاي لا يتلاءم مع قالب إعادة التجميع، بل التفكيك والترجمة الثقافية. وتكاد تكون قد خصصت الكتاب لدراسة أسلوب حياة غير مفهوم مباشرة، أو لا يمكن فهمه بسهولة؛ وذلك رغبة منها في أن تجعله معقولًا ومفهومًا لجمهورها الذي آثرته من قرائها. وتنتمي تحديدًا، وحسب هذا الإطار، إلى تراث لينهارت وشيفلن. ولكن نلاحظ أن دي بولاي منذ البداية الأولى تتخذ لنفسها وجهة أخرى مغايرة قليلًا. وتستهل بقولها:
«هذا الكتاب دراسة لظاهرة بدأت تتكرر وتشيع في أيامنا هذه؛ ظاهرة مجتمع قروي يندثر. ولكن حيث إن الأمر معنيٌّ أساسًا بالقيم والاتجاهات المستمدة من تراث عريق، والتي تدعم القرويين حتى في أيامنا هذه من حيث تحديد الغرض والمصير، فإنه معنيٌّ بالحياة أكثر من الموت.»9

والآن، تأسيسًا على نظرة تاريخانية صارمة وتعتمد إعادة التجميع، فإن فكرة «تراث عميق» التي تعرضها دي بولاي هنا والتي تستخدمها في كل ثنايا الكتاب، يمكن تصورها فكرة مغالية ومبالغًا فيها. وقد يكون ميسورًا بيانُ أن التراث كان أكثر قابلية للحركة، وأقل ثباتًا مما تفترض دي بولاي. ولكن دي بولاي من ناحية أخرى معنية فقط، وإلى حدٍّ كبير، ولأسباب لها ما يبررها، بمدى التغيرات التي تمس الذاكرة الحية لدى السكان الحاليين. وتكشف كذلك في الحقيقة عن حسٍّ حادٍّ بقابلية التحول على مدى أصغر وأكثر مباشرة. مثال ذلك: أنها تلحظ أن فيما بين مغادرتها عام ١٩٦٨م وزيارتها الثانية عام ١٩٧٠م، تم هجر خُمس المنازل بسبب دواعي الهجرة أساسًا. ترك المهاجرون الأرض وذهبوا إلى المدن، أو رحلوا إلى الخارج بحثًا عن عمل. ولهذا السبب أصبحوا أسرى عمليات أضخم ليست هي تحديدًا العمليات التي أرخ لمواقيتها وولف؛ بل خاصة بتطورات راهنة ناجمة عن تلك العلميات. وبناء على هذا المدى الذي نقيس عليه التغير فإن كلمة «تقليدي»، وكذلك «حديث» للسبب نفسه، لهما معان واضحة تتطابق مع اتجاهات القرويين اليونانيين أنفسهم.

ولأبدأ بترجمة دي بولاي لمعنى المجتمع المحلي في القرية أمبيليAmbeli. وسوف آخذ حجتها من منتصفها؛ حيث تُقارن بين معنى المجتمع المحلي في القرية أمبيلي وبين معنى آخر مقابل في مكان مغاير. وتكتب لنا عن اللحظة عندما اﻟ «نحن» أبناء المجتمع المحلي نركن إلى اﻟ «هم» أو الآخرين في العالم الخارجي، ونبدأ نحس معها بعملية التغير نابضة بالحياة.

«يظل أبناء القرية طوال هذا الحدث متحدين ما دام المجتمع المحلي جميعه يعيش في المكان نفسه ملتزمًا بالقيم نفسها … ولكن المجتمع المحلي بدأ يفقد الثقة في نفسه ما إن بدأ يتشكك في توحده مع أسلوبه التقليدي والموروث في الحياة، وبدأ العالم الحديث يجتذب ولاءه. هذه هي الحالة التي يجد فيها الآن أبناء قرية أمبيلي أنفسهم. ولكنها مرحلة أكثر اندماجًا وتكاملًا مما هو موجود في القري الأقل بعدًا منها؛ حيث يسود كل قرية حالة تشظٍّ عميقة للقيم. إذ نجد في هذه القرى طبقات متنوعة من أهلية الاحترام (وهي عبارة تعني، في السياق، الحداثة) ظاهرة للعيان مباشرة، وحيث نجد المرأة العجوز، كمثال، تختار أسلوبًا ما في اللباس، وتنسب أسلوب الأخريات إلى مجموعة خاصة من القيم، بينما الشابات بأسلوبهن المهذب في الكلام وصداراتهن غير ذات الأكمام، قد يبادرنني بالقول: «أنت لست بحاجة إلى أن تُبدي أدنى اهتمام بالعجائز المتخلفات من النساء».»

ولكن هذه الحالة لم تكن بعدُ سائدة في قرية أمبيلي. إذ على الرغم من ارتفاع نسبة هجرة سكانها، إلا أننا لا نزال نجد ثقافة القرية متجانسة نسبيًّا. ويتركز طموح أبناء القرية على العالم الخارجي، وهو الطموح الذي يعني الرغبة في التمتع بحياة أيسر، وبسحر المدن، وأن يحظوا بتعليم أبنائهم. ونظرًا لفشلهم في ترجمة قيمهم التقليدية إلى طيبات القرن العشرين المقبولة، فإننا قد نسمعهم يتحدثون عن أنفسهم باعتبارهم شعبًا متخلفًا يعيش حياة السائمة. ومع هذا فإن لب احترامهم لأنفسهم، وعلى الرغم من أنه قد اهتز، لم تصبه بعد جروح قاتلة.10

أرجو أن أتريث هنا لحظة أوضح خلالها كيف، وكيف أجادت دي بولاي هنا في إثبات وتوضيح طابع الترجمة الإثنوجرافية. هناك أولًا: الإشارة إلى موضوع أهم نسبيًّا يعتمد على المقارنة في علم الأنثروبولوجيا؛ بل وأيضًا في علم الاجتماع، ألا وهو طبيعة المجتمع المحلي. ثانيًا: تقدم لنا دي بولاي رؤى عامة عن أهل قرية أمبيلي وأن ثقافتهم «لا تزال متجانسة نسبيًّا». وتصور في الفقرة التي اقتبسناها هذه الحالة تصويرًا دقيقًا مرهفًا للغاية، عن طريق مقارنة أهل أمبيلي بغيرهم من أبناء القرى المجاورة التي تشغل وضعًا أقرب إلى المدن العالمية. وثالثًا: تعرض علينا صورة موجزة حية ومدغمة للغاية، والتي تحاول أن تجعل منها صورة عامة وخاصة في آن واحد، الشابات من النساء بأسلوبهن المهذب في الكلام وبصداراتهن غير ذات الأكمام، يقلن لي: «لا حاجة بك إلى الالتفات إلى العجائز المتخلفات من النساء». وها هنا يمكن — إذا ما تذكرنا واجب الأمانة الذي التزمت به دي بولاي مع الناس الذين التقت بهم فعلًا — أن نتبين كيف امتزجت الحساسية الإثنوجرافية بالحساسية الروائية.

هذا لا يعني أنه لا توجد معايير ثانوية أو غير ذلك للسلوك ويحتكم إليها الناس … ولكن المقصود هو تأكيد التضامن المعنوي لمثل هذا المجتمع المحلي في شموله. وتوضيحًا لهذه الفكرة أحكي حدثًا حيث أخذت امرأة شابة تتهيأ لعرض حلوى الملبن، والمسمَّاة عندهم لوكوميا loukoumia، بمناسبة أحد الأعياد الدينية، ووضعت الصندوق بكل ما فيه فوق الصينية. لقد كان الصندوق مهملًا غير مرتبٍ، وتدلت على حوافه قصاقيص ورق. وقلت لها: ما أحراكِ لو أخرجت قطع الملبن ووضعتِها في طبق.

– لا، ليس هذا هو ما ينبغي أن يكون.

قلت لها: لا أوافقك.

وأجابت بشكلٍ قاطع وكأنها تنهي الحوار: المسألة ليست أنك لا توافق، ولكن أنك لا تعرف.

أحسب أن هذه الكلمات، وإن صورت حدثًا محليًّا متواضعًا، إلا أنها ذات فعالية مؤثرة شأن أي حدث سطَّرته أقلام الباحثين الإثنوجرافيين. ما الذي يمكن أن تقوله دي بولاي بعد ذلك؟ ما الذي يمكن أن يقوله أي إنسان؟ إن رد المرأة في وضعها الذي هي فيه يمثل ترجمة قوية للثقافة؛ ولكنها أكثر من هذا لأنها تشق طريقها عنوة نحو فهم قائمٍ على إعادة التجميع، إلى مفهوم خاص بهذا اللقاء في إطاره الأوسع اجتماعيًّا وتفاعليًّا وتحوليًّا.

أولًا: يجسد اللقاء مع «المرأة الشابة» ما سبق أن أكدته بشأن المفهوم الخاص بالتعلم، من خلال المعايشة والتفاعل الابتكاري باعتبارهما من القسمات المميزة لمبحث الإثنوجرافيا؛ ولكن هذه السمة لها وجه آخر، لأن اللقاء يعتبر في الوقت نفسه مثالًا جيدًا للطريقة التي يعرف بها كل إنسان ما يجري حوله في ضوء عملي. أو لنقل، بعبارة أخرى: إنها غنية بالإيحاءات المقارنة تمامًا شأن مثال المواطن من شعب كالولي الذي يقدم إلى شيفلن كسرة من خبز الساغو. فهو مثالٌ ينطوي على إيحاءات أيضًا. إنها توضح استبصارات وأُطرًا مختلفة بشأن الحالة نفسها، وهي حالةٌ خاصة بتعلم معيار جمالي، ويمكن تقدير هذا على خير وجه من جانب أي شخص بوسعه أن يتذكر خبرته في الطفولة لتعلُّم أفضل السبل لأداء عمل ما. حقًّا إن اللقاء من نوع الخبرة الفجائية الحادة التي عايشتها، حسبما يمكن أن نفترض، قريبات المرأة الشابة عندما هاجرن إلى بلد آخر، ليكن إنجلترا أو ألمانيا مثلًا. ويصور الحدث نموذجًا للمفاجأة ولابتكار الطريقة التي تقع بها الأمور بين الناس وليس داخلهم.

ولكن أخيرًا، فإن الحدث وتفسيره الذي قدمَتْه دي بولاي ينطويان على قدر آخر من الحدة؛ نظرًا لأن الحدث يعكس صورة أخرى لورطة رامون التي أشرنا إليها. ولعل القارئ يذكر أن رامون كان هو الراوي الذي يمد بنيديكت بالمعلومات. وهو شيخ رئيس، ومسيحي، وخبير بين أهله في مجال زراعة الخوخ والمشمش في الأراضي المروية. وأسهم بدور نشط في تحويل عالمه هذا. ولكن المرأة الشابة من ناحية أخرى أخذت جانبًا مختلفًا في عملية التغيير والتحول. إنها تمثل، ولو للحظة فقط، صوت أولئك الذين يقاومون التحول. ويبدو هنا وكأن الباحثين الأنثروبولوجيين قد فرضوا أنفسهم في تلك اللحظة وتدخلوا في المحادثة؛ إذ في حالة بنيديكت كانت تواجه الدعوة إلى التغيير، ولكن في حالة بولاي فإننا نسمع صوت مناهضة التغيير.

ولكن إذا تفحصنا الحالتين عن كثبٍ أكثر لن نجد أيًّا منهما تطابق هذا التقسيم الثنائي البسيط؛ ذلك أن رامون، بقدر معرفتي، لم يكن له تأثير شخصي مباشر على الأحداث التالية. ولكنه كان يمثل كلًّا من حالتَي التكيف والحنين المرضي nostalgia، وامتزجت هذه التوليفة بالغضب والإحساس بالظلم. وأدى هذا فيما بعد إلى تدخل واضح التأثير في الحياة الاجتماعية الأمريكية، وهو ما تمثله الحركة الوطنية الأمريكية أو الحركة الأمريكية لأبناء البلد الأصليين Native American Movement، ذلك أن تكهن بنيديكت بأن ماضي رامون مآله إلى الاندثار في الحاضر القريب لم يصدق. وإنما ما حدث هو تحول اشتمل جزئيًّا على عناصر من الماضي، ولكن أفضى من خلال التوليفة الجديدة إلى ابتكار حقيقي. ولم يتحقق الابتكار بفضل شخص فرد بذاته؛ بل على أيدي شعب يعمل في تضافر، أحيانًا، ضد بعضه البعض، وأحيانًا أخرى في تعاون مشترك.11

يساعدنا هذا على أن نتبين المرأة الشابة في وضوح أكثر. إن الريف اليوناني يعيش أيضًا حالة مخاض تسبق التحول، أعني التحول الذي يشكل في النهاية قسمة ثابتة ومستقرة في الحياة البشرية. وتدرك دي بولاي بوضوح شديد هذا التحول؛ ومن ثم فإنها في كتاباتها تضع المرأة بحسم في خضم هذا الفيض الأوسع من الأحداث. وبات في استطاعة المرأة الآن أن تواجه دي بولاي عن غير وعي بذاتها محتمية بمعارفها التقليدية التي تحظى بدعم قوي. ولكن دي بولاي أحاطتها بإطار تراجيديا أوسع نطاقًا، أو على الأقل قصة ذات نهاية غير سعيدة. وها هنا تأخذ دي بولاي نفس الموقف الذي اتخذته بنيديكت؛ إذ توقعت اندثارًا ونهاية تراهما أمرًا حزينًا ولا سبيل إلى إصلاحه. ومع هذا، وكما يمكن أن تُعلمنا حالة رامون وبنيديكت، لن يضيع تمامًا صوت وموقف المرأة الشابة؛ بل سيتحول ليأخذ وضعًا جديدًا ودلالة جديدة. حقًّا، وكما أوضح لي بول سانت كاسيا، إن القدر الأعظم من معنى الوطنية اليونانية في الداخل، ومن معنى العرقية في الخارج، إنما يرتكز على الحنين المرضي لبلدهم اليونان الريفي الذي لم يختف، بل دُفع به على طريق التحول.

البداية

وتمثل المرأة الشابة أيضًا صوت التحول بمعنى آخر. إنها بالفعل وفي نهاية الأمر غيَّرت من فهم دي بولاي تمامًا على نحو ما فعلت تلك الشخصيات المجهولة، التي قادت رامون إلى عالم الزراعة التجاري وغيرت من فهمه.

ومن ثم فإن ممارسة البحث الأنثروبولوجي يمكن على الأقل أن ينجز تحولًا، وأن يعمق من الفهم المتبادل بين الناس. وهذه هي إحدى الاستخدامات الواضحة للجهود المضنية في مجال العمل الميداني والكتابة. ولكن كيف لنا أن نُقيم هذا كله؟ نحن بعامة نفكر في إحداث بعض التحولات — أن يتعلم المهاجرون عادات وأعرافًا جديدة، أو أن يتعلم أبناء منطقة ما الزراعة التجارية — باعتبار التحولات هي المادة الحقيقة للتاريخ. فالتحولات عظيمة الشأن هي التي تصنع عالمنا؛ ولكن ثمة تحولات أخرى مثل التحولات الدقيقة التي أحدثها فينا لينهارت أو شيفلن، أو التحولات التي أحدثتها المرأة الشابة بتأثيرها في دي بولاي، فإننا ننظر إليها باعتبارها تحولات غير ذات شأن، أو غير موضوعيةٍ، أو غير ذات تأثير؛ إذ تبدو لنا وكأنها مجرد تحولات تتمثل في حالة تقمص وجداني وتغيير فهم شخص ما عن المعيار الجمالي أو الحالة عند شخص آخر. وتبدو في جميع الأحوال أهون أمرًا؛ ولكن هل تستحق المعاناة على الرغم من كل هذا؟

بهذا السؤال أصل إلى نهاية هذا التمهيد لعلم الأنثروبولوجيا. إنه يمثل العتبة التي يبدأ عندها علم الأنثروبولوجيا بمعناه الحقيقي؛ أعني ممارسته عملًا وفعلًا أكثر مما أعني التفكير في ممارسته. وسوف أقدم إجابتين عن السؤال، وأرجو من القارئ إذا كان حديث عهد بهذا العلم أن يمضي في سبيله ويقدم إجابته هو أيضًا.

الإجابة الأولى سهلة ومباشرة: نعم، علم الأنثروبولوجيا يستحق كل هذا العناء ما دام معنيًّا بعالم الشئون العملية. إن الحكومات والوكالات الدولية شرعت هنا وهناك في اكتشاف المزايا التي تعود على المنتفعين بالسياسة العامة، المتعلقة بالمعارف الاجتماعية التي يبدعها علماء الأنثروبولوجيا. وهذا الشكل من البحث الإثنوجرافي، والذي يُسمى عادة الأنثروبولوجيا التطبيقية، يملك حجة جاهزة يدافع بها عن نفسه تتمثل في النتائج التي تم إنجازها. وهذه حجةٌ فاعلة ومقنعة، فضلًا عن أنها تكشف عن فارق واقعي. ولكن قضيتها لا تزال بحاجة إلى دعم وتأييد أكثر فأكثر، نظرًا لأن من يمارسون اختصاصهم ليسوا دائمًا واعين بمدى الحاجة إلى تحدي المعارف الأنثروبولوجية.

الإجابة الثانية أعم وأكثر ريبة: لقد رسمت في هذا الكتاب صورة للناس باعتبار أنهم في حالة تداخل معقد مع بعضهم البعض داخل عالم يمر بحالة تحول مستمرة. ويشتمل هذا العالم على بعض المعالم المميزة وبعض المعايير الجمالية والتقاليد المستعادة، وهي أمورٌ يستخدمها الناس لتوجيه علاقاتهم ونظمهم ومؤسساتهم. وأكدت كذلك على أن الناس يتمتعون بالابتكارية وبالذكاء الاجتماعي، الذي يؤهلهم لاستخدام هذه الموارد بغية إعادة صياغة ثقافاتهم. وإلى هنا والصورة التي رسمتها قد تبدو إيجابية؛ بيد أن هذا العالم المتغير لا تحركه فقط حاجة بعضنا إلى بعض، بل تحركه أيضًا التأويلات المحدودة وضيقة الأفق لاهتماماتنا الخاصة، كما تحركه الهيمنة والنزعة التدميرية وسوء التصور الذي يأتي عمدًا أحيانًا، وعرضًا أحيانًا أخرى. ويبدو أن هذه جميعًا غالبًا ما تتحكم في الشئون البشرية مستبعدة من الحوار أيِّ ناصحين أكثر تهذيبًا.

ولكنني أظن أنه لا يزال هناك مكان لثقة محكومة ومدروسة بعلم الأنثروبولوجيا؛ إذ لنا، على سبيل المثال، أن نأمل في أن نفيد من عادة التفكير الإثنوجرافي، ومن المهارات البارعة في فتح أنفسنا لوجهات نظر الآخرين وخبراتهم، بحيث يمكن أن يؤدي هذا، ولو جزئيًّا، إلى تغيير مناخ أي مجتمع. ويمكن لنا، تأسيسًا على هذه النظرة، أن ننظر إلى علم الأنثروبولوجيا باعتباره جزءًا مستصوبًا من بين أجزاء التعليم العام، والذي يحتاج إليه الناس ليعرفوا كيف ينجزون حياة ناجحة. ومن المقدر أن تكون المعارف الإثنوجرافية إحدى ضرورات عالم يعيش فيه الناس معتمدين روتينيًّا على العلاقات القائمة بينهم وبين الآخرين، مع ما فيها من معايير جمالية مختلفة، ومع ما هنالك من مصالح متباينة. ومن المتوقع أن يمثل علم الأنثروبولوجيا تحديًا للناس، وحافزًا لهم يشجعهم على البحث في إمكانات جديدة لتوجيه مثل هذه العلاقات والتحكم فيها. وطبعي أن علم الأنثروبولوجيا سوف يكشف عن فارق، لأن العلاقات تخلق هذا الفارق.

لا أستطيع الزعم أنني على يقين مطلق من هذه الإجابة، ومن ثم سأدع الأمر لك أيها القارئ. والسؤال يمكن أن يكون ملائمًا، مثلما يمكن دحضه من خلال تطبيقه عملًا، ومن خلال رؤيتنا لنوع العالم الذي سوف يتمخض عن هذا التطبيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤