أولًا: نقد إخوان الصفا

بالرغم من أن علوم الحكمة نشأت من ثنايا علم الكلام، فقد كان الكندي متكلمًا قبل أن يتجاوَز نفسه ويُصبح فيلسوفًا، إلَّا أنها نشأت منه لتخرج عليه وتتجاوَزَه وتُنشئ نمطًا فكريًّا جديدًا. أما الفارابي فقد جعل علم الكلام أحد مراحل تطوُّر الفكر البشري، المرحلة اللاهوتية.١ بل إنَّ الفارابي أخضع المنطق أيضًا إلى مراحل التاريخ وجعل منطق الظن، الجدل والسفسطة والخطابة والشعر، يُمثِّل مرحلة أولى قبل منطق اليقين، منطق البرهان. لم يكن الكلام عند الفارابي يُمثِّل خطرًا بعد على الفلسفة بل كان في قمته. وضعه الفارابي في إحصاء العلوم مع العلم الفقهي والعلم المدني، النظر والعمل في المجتمع. فالفارابي (٣٣٩ﻫ) والأشعري (٣٣٠ﻫ) مُتعاصِران. الأول نصير الفلسفة مُمثَّلة في الوافد، أرسطو. والثاني نصير السنة بعد انحرافه عن الاعتزال، نصير الموروث، ممثلًا لأهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية. وكلٌّ في طريقه يؤدي وظيفته، الأول مع الخارج، والثاني مع الداخل دون صدام بين الوافد والموروث كما سيحدث عند إخوان الصفا في القرن الثالث، والتوحيدي وابن سينا في القرن الرابع، والغزالي في القرن الخامس، وابن رشد في القرن السادس.

كان الكلام مُمثلًا للموروث أكثر من التصوف وأصول الفقه والفلسفة. كان أول محاولة للتفكير النظري، تحويل النص إلى فِكرة بعد أن قرأ الواقع نفسه في النَّص واحتاج إلى دليل نظري يُواجه القراءات الأخرى التي تُعبِّر عن مواقف سياسية مختلفة. فنشأت النظريات حول الإيمان والعمل، والإمامة وخلق الأفعال قبل الأمور النظرية الأخرى السمعية مثل النبوة والمعاد أو حتى العقلية مثل التوحيد. بدأ تنظير الواقع العملي قبل تنظير الواقع النظري.

كان علم الكلام مُمثلًا للموروث أكثر من المصادر الأولى، القرآن والحديث نظرًا لاعتماد الفلسفة على العقل أكثر من اعتمادها على النقل وأنها آتية من الخارج على أيدي الخاصة ولا تتبع من الداخل على أيدي فقهاء العامة. وكان أصول الفقه عمل خاصة الفقهاء لوضع منطق الاستدلال، وكان التصوف اختيار بعض الأتقياء بعيدًا عن مزايدات وجدليات المتكلِّمين.

ويغلب على إخوان الصفا نقد علم الكلام من أوله إلى آخره، منهجًا، وموضوعًا، وغاية، ونتيجة، مما يُحتِّم بعد ذلك التحوُّل منه إلى الفلسفة وهو نفس موقف التوحيدي وابن سينا وابن رشد، في حين أن موقف الغزالي نسبي. فهو علمٌ مُهم في الدين، غايته نصرة العقيدة والذب عنها ضد أهل البدع والتشويش والضلال، ولكنه مقصور على الخاصة دون العامة كما هو معروف في «إلجام العوام عن علم الكلام» مثل التصوُّف في «المضنون به على غير أهله». فعلم الكلام من وجهة نظر التصوُّف علم اليقين، والفلسفة حق اليقين، والتصوف عين اليقين. فهو صحيح على أحد المستويات يتم تجاوزه بالبرهان العقلي إلى المشاهدة والرؤية.

وأحيانًا يُعمم الإخوان نقدهم لأهل الجدل أو المجادلين وهم المتكلمون لا فرق بين معتزلة وأشاعرة. وأحيانًا يُخصِّصون النقد بفرقة معنية إسلامية أو غير إسلامية. ويعني المتكلِّمون عند الإخوان أهل الكلام بالمعنى الحقيقي وليس بالمعنى المجازي. وأحيانًا يستعمل لفظ الجدليين بالمعنى المجازي أي المجادلين والمختلِفين في النظر مثل اختلاف زعماء الحيوانات وزعماء الإنس. فالمُجادِل هو كل من يخلط بين الأمور، وكل من ساءت نيته، وكل من يُجادِل في الحق.

وتنقسم الإحالات إلى علم الكلام إلى نوعين: إيجاب وهو ما تمَّ إنجازه وهو القليل، وسلب وهو ما يُمكن تجاوُزُه. والفلسفة تكمل الإيجاب وتتجاوَز السلب وهو الأكثر.

(١) نقد المنهج الجدلي

لقد استعمل المتكلِّمون القياس بعد أن استعاروه من الحكماء لاحتياجهم إليه ولكنهم وقعوا في شكله الجدلي. والجدل ليس منهجًا موصلًا إلى الحقيقة. لذلك يُسمون أهل الجدل أو المجادلة، أصحاب الجدل والمناظَرات. يَتجادلُون في أشياء لا فائدة منها في الدين علمًا ولا في الحكمة، مثل الحديث عن التعديل والتجوير، والجزء الذي لا يتجزَّأ. وهي مسائل مموَّهة لا حقيقة لها، ولا وجود لها إلا في الأوهام، لا يسأل عنها ولا يُجاب. كلها مضيعة للوقت في مجادَلات ومعارَضات ومناقضات عقيمة مثل المكابرة والحجاج بأن قطر المربع مساوٍ لأي أضلاعه، وأن النار لا تحرق، وأن الشعاع جسم يبلغ طرفة العين إلى تلك الكواكب، وأن علم النجوم باطل. وكله زور وبهتان. يَرفض الإخوان رياضيات المتكلِّمين وطبيعياتهم، ويدافعون عن السببية والمناظر والنجوم. وينكر بعض أهل الجدل النفس وأنها جوهر وهم الطبائعيون. ينكرون النفس، ويَجهلُون حقيقة الروح وتصاريف أحوالها. لذلك حاول الإخوان إثباتها عن طريق السمع والإخبار ثم بالحُجَج العقلية لأن المجادلة لا يقبلون السمع وحده لشكوك في النفوس وريبة في القلوب. ورسالة «الآراء والمذاهب» كلها تقوم على نقدِ الجدل من أجل إفساح المجال للإشراق في رسالة «خصال المؤمنين والطريق إلى الله». فالسلب يَسبق الإيجاب. مهمَّة الجزء الرابع من «الرسائل» هدم العقل لحساب الإشراق، والقضاء على التعدُّدية لحساب الوحدة. أحد أسباب الخلاف إذن هي فُنون الطرق المؤدِّية إلى المعرفة؛ أي إلى المنهج الجدلي السائد في علم الكلام، والقياسات المتفاوِتة وهو ما يَحتاج إلى الدربة والارتياض.

ويبدو أن هذا النقد لأهل الجدل فيه ظلم كبير. فهم الذين حاجُّوا الخصوم لإثبات النبوة، والمعجزة دليل عليها. ولا ينكرون المنامات، ولا يجعلون المعجزات مجرد أعاجيب وتصاريف وحيَل وقلب للأعيان وتغير للعادات. وقد طالب القرآن بالجدل مع الخصوم ومناظرتهم. والجدل مع المؤمنين حوار. وهم الذين ردُّوا على شبهات الخصوم من أجل الذب عن العقيدة ضد المشوشة وأهل البدع كما يقول الغزالي في «المنقذ». ألا يُمكِن استعمال الجدل لنزع سلاح العقيدة من الخصوم وتأسيس لاهوت الثورة بدلًا من النزول تحت الأرض وتنظيم جماعات صوفية إشراقية كما يدعوا الإخوان؟٢

يعتبرون حجج العقول كافية عما جاءت به الأنبياء من الوصايا حتى ينبذونها مع أن العقل مقدمة للرسالة والوحي، والوحي والرسالة مقدمة للبعث والقيامة، والبعث والقيامة مقدمة للغاية. فكيف يكون العقل وهو الوسيلة والأداة كفاية عن الوصايا في الرسالة على ألسنة الأنبياء من النهي والأمر والأحكام والحدود؟ وهل يستطيع العقل أن يعرف بعث الإنسان بعد الموت ولقاء الله للحساب والعقاب أو يعرف حديث آدم وقصة إبليس وخطابه الملائكة وما هو مذكور في القرآن، سبع وخمسون آية؟ يجعل الإخوان هنا العقل مجرَّد مقدمة للوحي، مجرَّد إخبار بالبعثة والقيامة من أجل الغاية القصوى وهو الإشراق وكأنَّ العقل لا يتوجه نحو الواقع الطبيعي والاجتماعي، وكأنه غير قادر على إثبات البعث أو الحساب والعقاب. أما قصَّة آدم وإبليس فهي قصة رمزية من أجل الإخبار عن معاني الخير والشر والتحدِّي والغواية. وهي معانٍ عقلية يُمكن للعقل الوصول إليها. العقل ليس ناقصًا، والقياس شرعي. العقل أساس النقل. وتأويل النقل طبقًا للعقل منهج إسلامي.

المتكلمون عند الإخوان يُحاجُّون بآيات كتب إلهية يشكون فيها، ويتبعُون متشابهاتها، ويتركون المحكمات، ويحتجُّون بها بغير علم، وينسبون على هواهم ومذاهبهم وآرائهم وقياساتهم. والحقيقة أنَّ الاحتجاج بآيات عند كل الفرق والفلاسفة بمَن في ذلك الإخوان تفسير طبقًا للمذاهب والآراء أو المواقف الاجتماعية والسياسية أو لأعماق النص. فلا يُوجد تفسير موضوعي واحد وشامل للكتب المقدَّسة لكل العصور.

المُتكلِّمون عند الإخوان أضر طائفة على الأنبياء، وأشقها على المؤمنين، سواء كانوا في زمانهم من جملة المنافقين أو بعدهم. في زمانهم يُطالبون بالمعجزات، ويعارضونهم بالخصومات، ويُجادلون المؤمنين بالشبهات استصغارًا لهم، وانتقاصًا لعقولهم، وجدلًا معهم. وبعد الأنبياء يُؤَوِّلون الشرائع والأحكام سواء كانوا من الأعداء الذين يأتون بالشبهات ويُجادلون المؤمنين أو المنافِقين الذين يُنكرون الأحكام والشرائع والآيات ثم يُؤِّولونها تأويلات فاسدة ومذاهب مختلفة، ويضعون لها قياسات مُتفاوتة بعقولهم الناقصة، يُجادلون بها المؤمنين ويناقضونهم. والقرآن نفسه يذمُّ هذه الطائفة ويذمُّ الجدل.٣
اعتمد المتكلمون على قياساتهم فخرجوا عن كتاب الله وسنة الرسول، وظنوا أن الشريعة ناقصة في حاجة إلى بيان بآرائهم وقياساتهم واجتهادهم واختراعاتهم وبِدَعهم، فهدموها وهم يظنون أنهم ينصرونها. أتوا ببدعٍ لم يأتِ بها الرسول، ثم اقتنعوا ببدعِهم وتصوَّروا أنها الحق، ثم حولوها إلى شرائع وأحكام. استكبروا على العلماء وهم أهل الذكر، ولم يَسألُوهم عما أشكل عليهم، واستغلُّوا العوام، وأوهموهم أن بِدَعَهم سنن من زمن الرسول وسيرته، وإذا ما نبَّهَهم بعض العلماء إلى أخطائهم صرفوا أقوالهم وشوَّهوها أمام العلماء فناصبهم العوامُّ العداء. ترأسوا العوام وأوهموهم أن سكوت العلماء إنما لبُطلان ما عندهم فيزداد ترأسُّهم للجهال، وبطُولِ صمت العلماء وزيادة صخب رؤساء الجهل يَنسخون أحكام الشريعة، ويغيرون كتاب الله، ويُؤَوِّلون أخبار النبي، يَقلبون المعاني، ويَتوارثون ذلك أبًا عن جد، وخلفًا عن سلف حتى تَهلك الأمة. هم أعداء الحق في كل بلد. يقتلون الأنبياء ويَجحدُون الأوصياء، ويُشرِّدون العلماء. وكان هذا هو السبب في نسخ الشرائع وتجديدها. هم جم غفير، لا يُطاقون، ولا تؤمن غوائلهم، أشرُّهم على أهل الدين والورع وأضرُّهم على العلماء، وأشدهم عداوة للحكماء؛ ومن ثَمَّ يتحوَّل نقد علم الكلام عند الإخوان إلى فلسفة في التاريخ في أسباب انهيار الأمم وسقوطها.٤ يقولون إنَّ لهم اعتقادات لم يسمع عنها أحد. ويموتون مع اعتقاداتهم فتندرس مع مذاهبِهم ولا يَعلم أحد عنها شيئًا.
والمتكلمون جهال؛ يتشبَّهون بأهل العلم، ويتدلَّسون بأهل الدين، لا يعرفون الفلسفة، ولا يحتفون بالشريعة بدعوى معرفة حقائق الأشياء. المتكلمون أشباه علماء، مُدلِّسُون في الدين، يَجهلون الحكمة وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، لا يُميِّزون الأمور الجلية، ولا يتفكَّرون في الموجودات الظاهرة المدرَكة بالحواس المشهورة بالعقول؛ فهم أقرب إلى الغموض منهم إلى الوضوح، يشكُّون في الأشياء الظاهرة الجلية، ويقُولون فيها بالمحالات. يخُوضُون في المعقولات وهم لا يعلمون المحسوسات. فالحسُّ أساس العقل وضابط له. والعقل بلا حسٍّ تجريد وصورية. يقومون بالبراهين والقياسات وهم لا يُحسنُون الطبيعيات؛ فالطبيعيات مقدمة للإلهيات. يستعملُون فصيح العبارات وأوضح الاحتجاجات، وأصح الخطوط، وأجود الأوراق للتعبير بها عن اعتقاداتهم الفاسدة ومذاهبِهم الرديئة. هم رجال علاقات عامَّة، وتزويق وتزييف، فلقوا اللسان عميان القلوب، فصحاء الألفاظ جهال بالمعاني، ينسبونها إلى أقوامٍ عُرفُوا بالعلم والحكمة، وجودة الرأي، وصحة التمييز للتشنيع عليهم، والوقيعة بهم بسخفِ الرأي، ويُسمُّونها الأحداث. يصورونها في القلوب، ويُمكنونها في النفوس. ولو أنَّ هؤلاء العلماء اجتهدوا في إظهار مذهبهم وإيضاح اعتقادِهم لما بلغُوا شأو هؤلاء المجادلة في تملُّكهم من النفوس. فهم رُواة كَذَبة. يستعملون سلطة العلماء للترويج لآرائهم الفاسدة. وهم مُعادون لأهل العلم، ومُخالفون لأهل الورع ومضادُّون لإخوان الصفا لأن أخلاقهم أخلاق الشياطين، وقوتهم قوة الدجالين. يُجادلون العلماء، ويناقضُون الحكماء، ويُمارون السفهاء. لا يَعرفون الحكمة ولا أحكام الشريعة. يبغضون الناس في العلماء، ويُبعدونهم عن العلم. ينكرون ما لا يَفهمُون. فما لا دليل عليه يجب نفيُه طبقًا لقواعد الجدل. يُنكرون الإلهام بقلوبهم ولا يظهرون ذلك بألسنتهم مخافة السيف. وأحيانًا يكون نقد المتكلِّمين نوعًا من السب. فهم جنود إبليس، أشرار كفار، فساق منافقون، أهل بدع وضلالات، مجادلة مخاصِمة، كفَرة فجَرة، وهم كالأنعام أو أضلُّ سبيلًا.٥
وهم مُستكبرون مُتعصِّبون، كلٌّ منهم يَعتبر مذهبه هو الحق، ويُكفِّر الخصم، يتنافَسُون فيما بينهم طلبًا للرياسة والتصدُّر في المجالس. ثم يُوقِعون الخلاف في الأمة، فتفرَّقت وتحزبت، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء. وأدَّت إلى الفتن والحروب واستحلال الدماء؛ إذ يستحلُّون دمَ مُخالفيهم وأموالهم. ويتبرَّأ بعضُهم من بعضه ويشهدون على مُخالفيهم بالكفر والزندقة والخلود في النار. يعيب الإخوان على المتكلِّمين كثرة التفرُّق والتشتُّت في الآراء والمذاهب واختلاف الديانات. ففيهم اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والمُشركون وعبَدة الأصنام والنيران والشمس والقمر والنجوم والكواكب، لا فرق بين دينِ الوَحي ودين الطبيعة. ومِن ثَمَّ يتفرَّق أهل الدين الواحد إلى مذاهب مختلفة وآراء متعدِّدة بين سامريٍّ وغيابيٍّ وجالوتي ونسطوري ويعقوبي وملكاني وشنتوي ومالوي وخرمي ومزدكي وديصاني وبهرمي وشمسي وخارجي ورافضي وناصبي وعذري وجهمي ومعتزلي وسنِّي وجبري، كل فرقة تُكفِّر الأخرى وتلعنها، والأمة كلها موحِّدة مُؤمنة مسلمة غير مشركة ولا ضالة أو مضلَّة أو هالِكة. تعرف ربها وخالقها ورازقها ومحييها ومُميتها، تُسبِّحه وتُهلِّلُه وتُقدِّسه. تُكبره بكرةً وعشيًّا. وهؤلاء المجادِلة لا يَفهمون التسبيح. يُعدِّد الإخوان هنا فرق اليهود والنصارى وديانات فارس والهند والعراق ثم فرق المسلمين. وهي أول مُحاولة قبل ابن رشد لنقد التعدد والتشتت والتفرُّق في علم الكلام من أجل صياغة نسقية كلية شاملة، ومن أجل تجاوز الجدل إلى الإشراق. يَقتل أهل الشرائع المختلفة بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا كما يفعل النواصب والروافض والجبرية والقدرية والخوارج والأشاعرة. وحدث نفس الشيء عند العبرانيِّين بين الغيبية والسمعية، وفي الملة السريانية بين النسطورية واليعقوبية، وفي الملَّة الصابئية. فالاختلاف والتفرُّق مصير المِلَل كلها. كما وقعت الاختلافات في الشريعة الواحدة عند اليهود والنصارى والمسلمين. والاختلاف المذموم ما كان في المذاهب والآراء حتى ظهر دين الإسلام على جميع الأديان، واللغة العربية على جميع اللغات، فأصبح الدين واحدًا. ولكن قومًا من علماء الإسلام تعاطَوا العلوم والكلام والجدل فتفرقوا في الدين مدَّعين أنهم ينصرونه ويُدافعون عنه.٦
وعلم الكلام أكثر العلوم إثارة للحيرة والدهشة والشك والظن والخطأ والعدوان والبُغض؛ يتقدم الجدل على النظر والبحث، يدخل فيه من ليس أهل له بالسؤال والمعارضة، فالسائل والمسئول من الجُهال، يقوم على التعصُّب والحمية دون ورع أو تقوى. الجدليون مقلِّدون في الأصول وبالتالي جهَّال في الفروع؛ فالتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. الجدل أشر صناعة على العلماء والأنبياء، وأشد عداوةً للدين وأفسد للعقول. يعرف المُجادلون الكلام الجيد والفصاحة والبلاغة ولكن يَجهلون حقائق الأشياء. فتضيع الحكمة في سبيل البلاغة، والمضمون حفاظًا على الشكل. وكلام الجدليِّين ينقُض بعضُه بعضًا. وآراؤهم أسخف من آراء الصبيان؛ لشدة تعصُّبهم وإعجابهم بأنفسهم واعتقادهم بأصول خاطئة وفروع شيعية. الجدل أحد أسباب العداوة والبغضاء والخصومة، وأحد أسباب الخلاف في العقائد والمذاهب. فكل مسألة يتنازع فيها اثنان، واحد من أهل الصناعة وواحد ليس من أهلها، ثم يتنازع أهل الصناعة اثنان متفاوتان في الدرجة فيظلم أحدهما الآخر، أو متساويان في الدرجة ولكنهما يختلفان في قوانين الصناعة فيتنازل أحدهما عن رأيه للآخر أو يحتكمان لرأي ثالث.٧

الجدل في ذاته كجزء من صناعة المنطق لا عيب فيه. إنما العيب في طريقة استخدامه في علم الكلام، وهو مُستعمل في علم أصول الفقه لحلِّ قواعد الخلاف بين الأصوليِّين. ويتضمَّن أحكام السؤال والجواب، والاستِدلال بالشاهد على الغائب، وبالظاهر على الباطن، وبالمَحسوس على المعقول، والحكم على الكلِّ باستقراء الأجزاء، واطراد العلَّة في معلولاتها، ومعارضة الدعوى بالدعوى، والدليل بالدليل، وقلب المسألة على الأصل، ومناقَضة الأصل للفرع، ومُقايَسة الأصل بالأصل، والفرع بالفرع، ومعرفة لوازم الشناعات وما يعرض فيها وما ينتج عنها من انقطاع في الاستدلال وشكوك وحيرة وتردُّد في الحكم.

ويبدو أن إخوان الصفا يُحملون الجدل أكثر مما يحتمل، ويُحملونه أوزار الكلام والمتكلِّمين، وكأن الجدل في حدِّ ذاته كمنهج لا يرقى إلى مستوى المعرفة الإشراقية المطلوبة. فليس خطأ الجدل مطالبة الأنبياء بالبرهان أو إنكار الرؤية حفاظًا على التنزيه أو تفسير الرجوع إلى الله بمعنى تلقِّي ثوابه منعًا للتشخيص، بالرغم من عدم ذكرهم المعتزلة وقد كانوا موجودين قبلهم والأشاعرة بعدهم. يستعمل القرآن الجدل مع الخصوم. وقبل الله أن يدخل في جدل مع إبليس. وإذا كان له في القرآن بعض المعاني السلبية فإن له أحيانًا بعض الفوائد العلمية. صحيح أن معظم معانيه سلبية مثل الجدال بغير علم والإكثار منه، واستعماله في الباطل وبعد بيان الحقائق البديهية، وعن سوء نية، وبعد بيان الحق، ولكن بعض المعاني إيجابية مثل جدال المرأة مع زوجها، والجدال مع المخالفين في الرأي بالتي هي أحسن للوصول إلى الحق.٨

(٢) الاختلاف الطبيعي في الدين

ويعمم إخوان الصفا تجربة علم الكلام على الإيمان بالدين ووقوع الاختلاف فيه. فقد ترك الناس الدِّين بسبب الاختلافات فيه. ولما تأمَّلُوا بعقولهم اختلاف أهل الديانات، ووجدوا دين كل قوم مُعابًا عند قوم آخرين، وعندما لم يجدوا مذهبًا ولا دينًا بلا عيب تركوا الأديان جملة دون معرفة أن العاقل بلا دين أعيب وأقبح. فالعيب ليس في الدين بل في رجال الدين كما قال الكندي في رسالته للمُعتصم بالله في الفلسفة الأولى.

وقد يَرجع السبب إلى اختلاف طبائع الناس وأمزجتهم وعصورهم، وتكيف الدين طبقًا للواقع. فما هو مذموم عند قوم قد يكون محمودًا عند قوم آخرين. وقد يرجع إلى اختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب وارتباط الدين بها. وما يُقبل عند قوم قد يرفض عند قوم آخرين. وقد يكون السبب في أغراض واضعي الشريعة. العقيدة واحدة، والشرائع مختلفة. لا يختلف الأنبياء في الدين سرًّا أو علانية. الاختلاف في الشرائع فقط؛ أي في الأوامر والنواهي، والأحكام والسنن. وهو اختلاف غير ضار نظرًا لتطوُّر الأزمان واختلاف المصالح تنظيرًا لآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. واختلاف الشرائع مثل اختلاف الأدوية. الأنبياء أطباء. لكلِّ شريعة زمان ومكان، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. الدين واحد والشرائع مُختلفة. والذين أنكروا النسخ لا يعرفون الفرق بين الدين والشريعة. هذه الأسباب طبيعية. فليس هناك دين بلا رجال دين أي بلا سلطة دينية. ولا يُوجد دين خالص بين الزمان والمكان والبشر أي دون واقع تاريخي، إنساني اجتماعي. الدين سياق اجتماعي وسياسي ومرحلة تاريخية. الدين تاريخ للأرض حيث يقطن البشر وليس تاريخًا للسماء. السماء بلا تاريخ لأنها بدون بشر.٩
والرسالة الأولى في «الآراء والديانات» من القسم الرابع عن «العلوم الناموسية الإلهية والشرعية» أكبر ردِّ فعلٍ على علم الكلام. وهي ثالث أكبر رسالة بعد رسالة «الحيوان» ورسالة «السِّحر واللغات». ويبدأ تحليل أسباب الخلاف في الدِّين من عدة مداخل؛ نظرية المعرفة، المنطق، الاجتماع، العقائد في التوحيد والعدل خاصة قدم العالم وحُدوثه. فالخلاف في علم الكلام لا يرجع إلى الموضوع بل إلى الذات. وأخيرًا النفس والأخلاق؛ أي أثر هذه الاختلافات في العقائد على سلوك الأفراد والجماعات؛ فالعقائد هي قواعد أخلاقية بدلًا من التفرُّق، وحدة الجماعة وليس فرقة الأمة.١٠ ويتكرَّر الموضوع في رسالة «اللغات» آخر رسالة في «الجسمانيات» في الطبيعيات.
وترجع الأسباب المعرفية إلى التُّربة والهواء أي إلى العامل الجغرافي المؤثر في المزاج، وإلى الأمزجة وتركيب الأخلاط؛ أي إلى العامل الإدراكي النفسي، وإلى عادات التربية وطرق التحصيل؛ أي إلى العامل الاجتماعي، وأخيرًا إلى أشكال الفلك أثناء الميلاد طبقًا لأحكام النجوم؛ أي العامل الكوني. وهي أسباب خارج إرادة الإنسان فالاختلاف طبيعي في البشر. الاختلاف في الآراء مثل الاختلاف في الأبدان. وكما تَختلِف الأبدان في أشكالها تَختلِف النفوس في إدراكاتها.١١
وقُوى النفس ثمانية، الحواس الخمس بالإضافة إلى المتخيَّلة في مقدَّم الدماغ، والمفكِّرة في وسط الدماغ، والحافظة في مؤخَّر الدماغ. فالحواس تعمل فزيولوجيًّا؛ لأن النفس مزاج البدن كما يقول كثير من الطبيعيِّين. ويقع الخلاف في عمل الحواسِّ ليس في القوى ذاتها من حيث إدراكها، بل من حيث إدراكها لموضوعاتها وتوفُّر شروطها. فكلُّ حاسَّة في حاجة إلى شرائط مثل الضوء للبصر، وإدراك اللون بواسطة الضوء، والإشكال بتوسُّط اللون.١٢ وتتفاوَت الحواسُّ فيما بينها من حيث الشرف، السمع أو البصر كما هو الحال عند المتكلِّمين في نظرية العلم. عظمة البصر أنه معرَّض للخطأ وهو أشرف الحواس للتأمُّل في الطبيعة والوصول إلى حكمتِها على عكس من يرى أن السمع أفضل الحواس؛ لأنَّ الوحي أتى سمعًا لا بصرًا.١٣ وبعض المحسوسات مختصَّة بالذات والأخرى بالعرض. والخطأ يأتي في المدركات التي بالعرض. ويتفاوت الناس في القوة المتخيَّلة نظرًا لتفاوت تركيبها العُضوي وارتباطها بالمحسوسات وبالنفس، وعجزها عن تخيُّل شيء لم تؤدِّ إليه الحواس. ويتفاوت الناس في القوة المفكِّرة. من عجائبها تركيب القياسات والحكم بلا روية. ومن تأسيسها أثر الخيال على القياسات الخاطئة. لذلك لا يجب إصدار حكم على خيال أو إنكار شيء لا يتصوَّره خيال. الحكم عقلي وليس إراديًّا وذلك مثل التفكير في كيفية حدوث العالم وخلق السموات والأرض ظنًّا وتوهمًا أن ذلك في زمان قديم بلا حُجة أو بُرهان.
والقوة المفكِّرة هي التي تحكم بين الخصوم ودعاويهم بناءً على المعرفة الشرعية الوضعية المعروفة بينهم، والمقاييس العقلية المُتَّفَق عليها بين الخصوم، ولا يُمكن الحكم في الاختلافات في الآراء والمذاهب بينَهم إلا بعد شاهدَين من الحواسِّ الخمس أو مقدمات أو نتائج من أوائل العقول. وأفعال القوة المفكِّرة نوعان؛ أفعال في ذاتها وما يخصُّها، وأفعال مُشتركة مع غيرها، مع الحافِظة والمخيلة في الرسوم، واللسان في اللغة، واليدَين في الصنائع. فهي تَجمَع بين الفكر ونشاطاته، مثل الفراسة للطبائع، والزجر للحوادث والأهوال، والتكهين للكائنات بموجب الأفلاك، والمنامات للبشارات والإنذارات، والوحي والإلهام للنواميس وتدوين الكتب المُنزَّلة. أما الفكر ذاته فيضمُّ التفكُّر والاعتبار والتصوُّر والتركيب والتحليل والجمع والقياس. التفكُّر لغوامض العلوم والسياسة، والاعتبار للأمور الباطنية، والتصور لحقائق الأمور، والتركيب للصنائع، والتحليل للجواهر البسيطة والمركَّبة، والجمع للأنواع والأجناس، والقياس للأمور الغامضة.١٤

ونظرية العلم تسبق نظرية الوجود. وكما هو الحال في علمِ الكلام للعلم طريقان. الأول الاستبصار والمشاهَدة بالبصيرة واليقين وهو علم الحُكماء صُعودًا من المحسوسات إلى الرياضيات إلى المعقُولات إلى القياسات إلى القلب الصافي. والثاني الإقرار باللسان والإيمان بالقلب والتسليم بالملائكة والأنبياء والمؤمنين والعوام والخواصِّ والصبيان، إلهام الملائكة، ووحي الأنبياء، وتسليم المؤمنين، وبرهان الخواص والعلماء، وتقليد العامي، وتعليم الصبيان من المعلِّمين والآباء والأمراء والملوك. فالدِّين علمٌ وطاعة، عقيدة وانقياد، نظر وعمل. والعلم قسمان: علوم الدين، نبوية وحكمية، وعلوم الدنيا. فالحكمة والنبوَّة قرينان. والآراء الفاسدة إما في الدين والسنَّة وعُلومها وأحكامها أو في الدنيا، الآداب والرياضيات والعلوم والصانع. وتَشمل الطاعة عدة طاعات؛ طاعة الأولاد للآباء والأمهات، طاعة الصبيان للمُعلِّمين، طاعة التلاميذ للأستاذِين، طاعة الأزواج لبعولتهنَّ، والمرضى للأطباء، والجُهَّال للعلماء، والرعية للسلطان العادل، والسلاطين والأمراء لخلفاء الأنبياء، والخلفاء للأنبياء، والأنبياء للملائكة، والملائكة لله. الله هو الآمر للملائكة، والملائكة للأنبياء، والأنبياء للخلفاء، والخلفاء للسلاطين، والسلاطين للرعية.

والسؤال هو: إذا كانت العلاقة بين الآمِر والمأمور، الرئيس والمرءوس هي هذه العلاقة التراتبية التي تقوم على السمع والطاعة، فمَن الذي يقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر إذا كانت علاقة الأدنى بالأعلى علاقة طاعة؟ ألم يحدث عصيان الأدنى للأعلى مرةً على الأقل بالتساؤل مثل سؤال الملائكة الله عن جعل آدم خليفة في الأرض وهو يَسفك الدماء ويفسد في الأرض، وعصيان إبليس رافضًا السجود لآدم، وعصيان الخلفاء للأنبياء في رأي مُعارضي عثمان، وعصيان السلاطين للخلفاء، بل وفي رأي غالبية الشيعة عصيان جبريل في التبليغ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.١٥
وبعد هذه التقسيمات يُوضَع سؤال: ما هي الخصال المانعة للإنسان من الشرور؟ التفكير في الأخلاق سلبًا ابتداءً من الدين، هل هو مانع من الأخلاق أم مساعد عليها؟ والجواب بديهي: أشرُّ الناس من لا دين له، ولا يؤمن بيوم الحساب. فالدين أساس الأخلاق. الدين قامع جازر. الدين في السر، في عالم الضمير والفكر والوجدان، وفي العلن، في القول والعمل، في الجهر والإعلان. والسؤال هو: وماذا عن الأفعال الخيرة للمُلحدين؟ وماذا عن النفاق في السر والعلن للمؤمنين؟ وماذا عن الأخلاق أساس الدين؟ وماذا عن الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء؟١٦

والخلافات بين العقلاء في أوائل العقول تُمثِّل إعادة عرض ومراجعة لنظرية العلم عند المتكلِّمين لبناء علم العقائد. وترجع إلى أن المعقولات رسوم المحسوسات الجزئية ثم اجتماعها في الأنواع والأجناس في النفس، وهو سبب اختلاف المشايخ المجرِّبين عن الأحداث. لا توجد أفكار فِطرية في النفس، يُمكن تذكرها بالتعلم. كما يتفاوَت العقلاء في درجات العقول وفضائلهم ومناقبهم وعدم اتفاقِهم على رأيٍ واحد. وعلى الإنسان أن يختار الأَولى والأشرف. وربما كان أحد أسباب النبوة ونزول الوحي. كما أن خواصَّ نفوسهم تابعة في أفعالها أمزجة الأبدان. وعجائب أفعالهم وظنونهم واختلاف صناعاتهم وتصاريفهم في طلب المعاش وأحكام التدبير في السياسات لا ينهض بها عاقل واحد. وغرائب العلوم والمعارف لا يُمكن أن يَحويها إنسان واحد. واختلاف أخلاقهم المتضادَّة في الحُسن والقُبح ومجاري العادات لا تجتمع في إنسان واحد. واختلاف دياناتهم ومذاهبهم لا يُمكن الاتِّفاق عليها من عاقل واحد. وما يتمُّ تعلُّمه بأوائل العقول تتفاوَت هذه الأوائل فيما بينَها بين الوضوح والغموض.

والحقيقة أنَّ أوائل العقول لا خلاف عليها بين العقلاء. وهي لا تأتي من المحسوسات، بل من طبيعة العقل. ولا تُؤثِّر الاختلافات بين العقلاء في الأمزجة والطبائع والعادات والأعراف والمِهَن والصنائع في الاتِّفاق على بداهات العقول؛ إذ تتميَّز بوحدتها وبساطتها. وأوائل العقول لا تتأثَّر بطبقات العقلاء. ربما كان هذا الاختلاف من حكمة الله حتى تجد النبوة لها سببًا وحتى يكون الإنسان خليفة الله في الأرض يتمُّ السجود له وإن تكثَّرت الأشخاص ونظرًا لما به من اعتدال الفِطرة. فالعادات الرديئة تُخرجه عن الطبيعة.١٧

وفي المنطق هناك أصول مُتَّفق عليها وفروع مختلَف فيها؛ فالمنطق نوعان: الأول منطق لغة ويشمل النحو، الأسماء والأفعال والحروف والإعراب، والخطابة، والسجع والفصاحة والأمثال والتشبيهات، والشِّعر. والثاني منطق حكم أو فلسفة ويشمل البرهان الألفاظ (إيساغوجي) والألفاظ (قاطيغورياس) وباريمنياس، وأنالوطيقيا، والجدل، والسفسطة. وهنا يخرج الإخوان عن المنطق الوافد بقسمة المنطق إلى لغة وبرهان، ووضع الخطابة والشعر والنحو في اللغة، واعتبار المقولات ألفاظًا. فالمنطق لغة وتصورات.

وتختلف هذه الأصول وضوحًا وخفاءً في أذهان العلماء. وتقوم كل صناعة على أخرى نظرًا لارتباط العلوم بعضها ببعض. وأهل كلِّ صناعة أعلم بصناعتهم. وأعظم بلية من يتكلَّم في صناعة من ليس بأهلها. ولا يجوز للجاهل بالصناعة مناقشة العالم بها. ولا بدَّ من التعمُّق في الجدل لمعرفة قواعد الحوار. والقصاصون هم أهل الجدل، وهو صنعة الصنائع. الغرض منها غلبة الخصم بحجة أو شبهة. أما الاختلاف في الفروع فيرجع إلى الاختلاف في الدُّربة. فالأصول نظرية، والفروع عملية.١٨

وتختلف القياسات حسب الصنائع والعلوم والقوانين والبلاد، ولكن الغرض واحد، وهو مطلب الحق والعدل، ليس الحق النظري في النظريات بل العدل العِلمي في المعاملات. فالقياس ليس صوريًّا مجردًا بل هو مطبق في كل مجتمَع وفي كل عصر. ومن ثَمَّ كان القياس أقرب إلى الميزان. وهو تصوُّر ديني في موازين العدل والقسط التي نصَبها الله. هو لفظ قرآني وليس أرسطيًّا. فالقرآن هو الميزان الحق، ميزان الموازين. وهي متعدِّدة الأشكال والطُّرُق ولكن موضوعها واحد وهو الحق العمَلي.

وهناك ثلاثة أنواعٍ من القياسات ابتداءً من الداخل إلى الخارج، من الضمير إلى اللسان إلى اليد. فقياس الضمير هو قياس الحُكماء والفقهاء؛ أي ما يدور في النفس والخاطر. وقياس اللسان عند النُّحاة والشعراء فيما يُبدعونه من نحو وخطابة وشعر وموسيقى. وقياس الأيادي عند التجَّار والصناع والمهندسين بالآلات والموازين والمكاييل مثل القبان والشاهين والذراع والبركار والأَسْطُرْلاب والمسطرة والشاقول والزاوية وكافَّة آلات الرصد.

وقد ينشأ الخلاف في القياس مما يُؤدِّي إلى المنازعات إلى الذاكرة سهوًا أو إلى العقل جهلًا أو إلى اعوجاج الميزان أو إلى القصد غشًّا. كما يَنشأ الخطأ في القياس إما عن الجهل بصحة الموازين واستعمالها أو الجهل بحقيقتِها وكيفية استعمالها أو الغرض من الموازين وربما تطبيقها فيما لا وزنَ فيه. ويُمكن حسم الخلاف وتصحيح الخطأ باللجوء إلى الحواس واللغة وإلى القياس نفسِه باعتباره منطقًا دقيقًا. وكل ذلك في إطار الجهد الإنساني والعلاقات الإنسانية وليس في موازين الكون وإحصاء نعمِه التي يصعب على الإنسان إيجاد موازين لها وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا، أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ.١٩

وتُعرف أكثر العلوم بالقياسات. وتختلف باختلاف العلوم. فهناك قياسات الفقهاء والأطباء والمنجمين والنحويين والمتكلِّمين والمتفلسِفِين والجدليين والمنطقيين في الطبيعيات والرياضيات والإلهيات.

والقياس هو الحكم على الكليات الغائبات الصفات بالجزيئات الحاضرات. وهو غير مطرد، ومُرتبط بالزمان والمكان، نظرًا لفردية الوقائع على عكس الاستقراء. فاطِّراد القياس في الصفات الذاتية لا العرضية. وأكثر الأخطاء فيه من استعماله اللاشعوري، وقياس ما لا قياس فيه.٢٠ وأمان الزلل فيه بالبرهان، وهذا لا يتمُّ بمجرَّد الاعتماد على الذكاء الفِطري دون الارتياض والتعليم والعَون من الله. الاعتماد على الذات في البداية والتوفيق من الله في النهاية.

وتتقدَّم المعرفة ارتقاءً من الحواس وإدراك الحاضر من خلال الزمان والمكان إلى الكتابة والقراءة إلى الإخبار والمعرفة عن طريق الرواية. ويشهد تطور الطفل على هذا الارتقاء المعرفي من الحس إلى الخبر. فإذا شارك الإنسان الحيوان في الإدراك الحسِّي فإنه يمتاز عليه بالإخبار أي بالمعرفة التاريخية وفهم الأمور الغائبة عن الحس. ومعرفة القراءة والكتابة متأخِّرة عن فهم الكلام الشفاهي، وهو بدوره متأخر عن إدراك المحسوسات. المعرفة ارتقاء من المحسوس إلى المعقول إلى المروي، من الإدراك الحسِّي إلى النظر العقلي إلى المعرفة التاريخية. ويكون الارتقاء على ثلاث درجات مثل الانتقال من المحسوسات إلى الكلام إلى الكتابة، من الرياضيات إلى الطبيعيات إلى الإلهيات أو على درجتَين من المحسوسات إلى المعقولات أو من الحاضِرات إلى الغائبات.

ونظرًا لطبيعة الموروث يتمُّ تفصيل المعرفة الخبرية أي المعرفة التاريخية التي تسترجع الماضي بالإخبار عنه عن طريق الرواية أو التي تدرك الحاضر بالحس والعقل وتدون إحدى لحظات المجتمع في التاريخ أو تتنبَّأ بالمستقبل وتُخبر عن توقعاته. وتقوم النبوة بالوظيفة الأولى، الإخبار عن الماضي، والمعاد بالوظيفة الثالثة، الإخبار عن المستقبل. أما الحاضر فتقوم به وسائل المعرفة البشرية الحسية والعقلية. وكما أنَّ هناك وسائل التحقُّق في المعارف الحسية والعقلية هناك أيضًا طرق التصديق في المعرفة التاريخية. فقد يكون الخبر كاذبًا والمُستمع مصدقًا. وقد يكون الخبر صادقًا والمستمع مكذبًا. وتكون المعرفة التاريخية صحيحة عندما يتطابق الخبر الصحيح مع التصديق. ما يعلمه الإنسان، إما حاضر بالحواس ويكون فيه مصيبًا أو مُخطئًا أو مستقبل غائب ويكون صحيحًا أو فاسدًا أو ماضٍ عن طريق السمع والإخبار ويكون صادقًا أم كاذبًا.

ويرجع خطأ العلماء لتفاوتِهم في القياس بين القياس الخطابي والقياس الجدلي والقياس الهندسي أو المنطقي أو الصوري. فالتقابُل هنا بين الخطابة والجدل من ناحية وبين البرهان من ناحية أخرى والذي يَشمل الرياضة والمنطق. وهي التفرقة التي استحوذ عليها ابن رشد فيما بعد منظرًا إياها من الحكماء السابقين. فالقول بقدم الهيولى خطأ في القياس، قياس هيولى الطبيعة على هيولى الصناعة. ماهية الهيولى أنها أجزاء صغار لا تتجزَّأ، نار أو هواء أو ماء أو تراب، وأنها أجزاء متماثلة فتكون المعادن والنبات والحيوان والكواكب من أدنى إلى أعلى. وهي أيضًا جوهر بسيط رُوحاني مُعرَّى عن الكيفيات. العالم مصنوع يعقل بالعقل الغريزي، والهيولى مُبدعة مخترعة بالعقل المكتسَب.

والخلاف أيضًا حول العلَّة الغائية وقياس الله عليها. والله غير الغائية. الغائية تُنكر أن يكون خلق العالم لا لعلَّة، بختًا وعشوائية، وتُثبت خلق العالم بعلة. وقد يتمُّ هذا الخلق بالعلم المسبَق خلقًا بالعلم أو بالحكمة أو بالإرادة والقصد. وكلاهما، العلم والإرادة صفتان ذاتيتان قائمتان بالنفس.

ويُميز الإخوان بين طريقَين للتفكير في الأمور الحسية والعقلية والبحث عن العلل في الطبيعة، يَمين يُؤدي إلى الهداية والرشاد، وشمال يؤدي إلى الغيِّ والضلال. الأول طريق الكليات، طريق الدين المؤدي إلى الله. والثاني طريق الجزئيات، طريق العلم الذي يبعد عن الدين ويشكُّ فيه. والنظر في كتب العلم ينتهي إلى الدين. فالدين حقيقة العلم. العلم وسيلة، والدين غاية. والتفكير في الإنسان الحي، نطفة فمُضغة فعظامًا فلحمًا فجنينًا ثمَّ الروح، ثم طفلًا وصبيًّا وشابًّا وعالمًا وزاهدًا وعابدًا وضعيفًا وشيخًا، تفكير في الجزئيات يُؤدِّي إلى العلم الذي يؤدي بدوره إلى الدين.

طريق الشمال يؤدِّي إلى الشكوك والحيرة والضلال والعمى لأنَّ الإنسان قبل النظر في العلوم والآداب والرياضيات وقبل أن يُحسن أخلاقه ويهذب نفسه. يبدأ بالكشف عن الأمور الجزئية الخفية المشكلة على الحذاق من العلماء والفلاسفة. لا يُمكن معرفتها إلا بعد النظر في العلوم الإلهية والأمور المعقولة والتفكر في المحسوسة، والارتياض بهذه العلوم والمعارف والتأدب بها مع صفاء النفس وصلاح الأخلاق وإلا صعبت عليه الأمور، ورجع خاسرًا متحيِّرًا فاضلًا وسواسًا فينظر إلى العلم لما كان الفلاسِفة هم العلماء.٢١
يضع إخوان الصفا هذا التقابل بين الكليات والجزئيات، بين الدين والعلم في تعارُض، وعلى الإنسان الاختيار.٢٢ والعجيب تسمية طريق الدين يمين وطريق العلم شمال، وهي علاقة تفضيل وليست علاقة مساواة. وإذا كان طريق الدين أصبح معروفًا وسائدًا فإن طريق العلم هو الذي به فلاح الناس ومصالح الأمم. وليس من الضروري الاتِّفاق في العلم فذلك جزء من اجتهاد العلماء. والاختلاف موجود أيضًا في الدين بين المفسِّرين. وإذا كان الدين طموحًا في الوصول إلى الطريق الكُلي فإن العلم أكثر تواضعًا يعرف إمكانياته وحدوده وفي نفس الوقت لا يعرف العلم العجز لأنه تجهيل واستعباد.

إنَّ هذا التقابل بين الكليات والجزئيات، بين الدين والعلم، بين اليمين والشمال، هو تقابل قيمي وليس تقريرًا لواقع. فالأول أفضل من الثاني. وهو بهذا المعنى تقابل مُصطنع. فقد يؤدي التفكير في الكليات إلى العلم الكلي كما هو الحال في نظرية العلم المعاصرة التي تفسر الطبيعة كلها أسوة بالطبيعيات الذرية القديمة. كما أن التفكير في الجزئيات قد يؤدِّي إلى الدين كما هو الحال عند الإخوان في استدراج العامة بالتأمل في العلل الجزئية من أجل الانتقال إلى العلل الأولى. والبحث في الجزيئات هو أساس التساؤل والدهشة في العلم. فالنظر في الجزيئات لا يؤدِّي بالضرورة إلى الحيرة والشكِّ والضلال. بل قد يؤدِّي إلى يقين يستند إلى الحس والمشاهدة والتجربة والاستقراء، وهو اليقين العِلمي. لذلك نشأ «اللاهوت الطبيعي» والأدلة الطبيعية على وجود الله.

ويُمكن النظر في الأمور الطبيعية دون أخذ الإلهية في الاعتبار. فالطبيعيات تسبق الإلهيات، والإلهيات نتيجة للطبيعيات. وإن اشتراط الرياضيات والآداب والعلوم هو نوع من الارتياض والدربة يُعادل المنطق آلة العلم. أما استخدام اليمين والشمال فإنه قد يعني عند المعاصِرين اليمين واليسار، ومن ثَمَّ يكون الدين يَمينًا والعلم يسارًا. وهناك دين يساري مثل لاهوت التحرير وعلم يميني مثل العلم في النظم الرأسمالية. ويعادل هذا الموضوع الطبيعيات في علم الكلام والتي تسبق التوحيد.

وفي الرسالة الرابعة، في استنباط النفوس الجزئية لسائر العلوم من القسم الثاني من النفسانيات العقليات، انتقال من نظرية المنطق إلى نظرية العلم أو تحويل للمنطق من مُستوى الرياضة إلى مُستوى علم النفس مع بعض التحليلات اللغوية مثل واو العطف. وهي متَّصلة بعدة رسائل أخرى مثل «المبادئ العقلية» و«الحس والمحسوس». فالعقل شامل للحس.٢٣ والوجود مشتق من وجد، يجد، وجدانًا، واجد، موجود. فاسم المفعول يَقتضي اسم الفاعل كما هو الحال في عاقل ومعقول.٢٤ والواحد يُدرك بالحس والعقل والبرهان على نحوٍ تصاعُدي، انتقالًا من الموضوع إلى الذات معرفةً ثم من الذات إلى الموضوع وجودًا. والعدم ما يقابل كل نوع من هذه الطرق الثلاثة، عدم من إدراك الحس، وتصور العقل، وإقامة البرهان. العدم نفْي الوجود بطرق المعرفة الثلاثة، ولا يُقال إنه واجد للأشياء بل موجود ومُحدِث ومُخترِع ومُبدِع ومُسبِق ومُتمِّم ومُكمِّل، ولا فرق إلا في اشتقاق اسم الفاعل من الفعل الثلاثي أو الرباعي دون زيادة تعظيم، وهو تنزيه عن طريق النفي. وعلم الإنسان بالباري علمان: علم الجمهور بالعزيزة، علم العامة الذي يقوم على الخوف والطمع كالبهائم، وعلم الخاصة بالبرهان. الحس قادِر على معرفة العالم، والعقل قادِر على معرفة العلم، والبرهان قادر على معرفة الله.٢٥

والموجودات جسمانية تدرك بالحس وهي المولدات الكائنة والأركان الطبيعية والأجرام الفلكية أو روحانية تدرك بالعقل وهي الهيولى الأولى البسيطة المنفعلة، والنفس وهي بسيطة، والعقل وهو جوهر بسيط مدرك.

ثم يصور الإخوان هذه العقائد بحكايات رمزية كنوع من الأدب الشعبي للتسهيل والتفهيم والتثبيت وربما للترويح عن النفس تخفيفًا من تجريد العقائد ومنطقها البرهاني أسوة بالقصص القرآني. وقد استعمل لذلك الإخوان القصة والحكاية والرمز والمثل والأقوال المأثورة في الأدب الشعبي. حكايتان من الوافد وحكاية من الموروث.

الأولى نبي الله توضَّأ من عين في سفح جبل وارتقاه ليصلي، وفارس شرب من الماء هو وفرسه ونسي صرة أخذها راعي غنم، وشيخ مسكين على ظهره حزمة حطب ليستريح. رأي النبي أن الشيخ المسكين أولى بالكيس. رجع الفارس ولم يَجد الصرة فضرب الشيخ وعذَّبه حتى قتله. وكانت الحكمة التي أعطاها الوحي للنبي أن أبا الشيخ قتل أبا الفارس من قبل وأن على أبي الفارس دين لأبي الراعي. وهي قصة يُمكن قراءتها على أنحاء عدة سلبًا وإيجابًا. القراءة سلبًا أن النبي فكر في العدل، لو أنَّ الشيخ أخذ الكيس، ولم يفعل شيئًا لتغيير العالم، مجرَّد أمنيات دون تحقُّق فِعلي، نظر النبي إلى الصراع من أعلى ولم يفعل شيئًا للدفاع عن الشيخ الضعيف ضد الفارس القوي.

فالدين برجٌ عاجي ونظر وتأمل. وهي ضد قانون الاستحقاق وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. والقصاص شيء والثأر شيء آخر. فهل الله منتقم إلى هذا الحد؟ هذا هو جدل السيد والعبد في التاريخ، وأن تاريخ العالم هو الحكم الأخير. ويؤدي ذلك إلى مسلسل العنف والانتقام إلى ما لا نهاية. والثواب والعقاب في الدنيا وليس في الآخرة، وهي حجة الماديِّين الملحدين. وظيفة النبي الوضوء والصلاة والصعود إلى أعلى الجبل وليس الصراع في الدنيا وأخذ حقوق الضعفاء من الأقوياء، والفقراء من الأغنياء. وقد تعني القصة تبرير الوحي للشر والقتل والعنف ضد التسامُح والعفو والمغفرة.

والقراءة إيجابًا اجتماع الغِنى والقوة، السلطتَين الاقتصادية والسياسية في رمز الفارس، المال والعُدوان، الرأسمالية والاستعمار بلغة العصر، وعجز الفقير عن الدفاع عن نفسه. وحاجة الراعي للمال لا تقل عن حاجة الشيخ، يأخذه من الفارس، سارق عن سارق. عند الراعي كل شيء مشاع مثل العشب للغنم، والكل يفعل ذلك كعادة البدو الرحَّل. الماء للوضوء للنبي، وللشرب عند الفقير من عناء العمل وكما هو الحال في المثل الشعبي «اللي عايزه البيت يحرم على الجامع». يسأل النبيُّ الله بحثًا عن العلم خارج ذاته وليس بالتأمُّل في النفس والطبيعة. يبحث عن أصل الظلم، الدافع على الجريمة الأولى، قتل أب الشيخ لأب الفارس، ودَين أب الفارسي على أب الراعي. وهي حكاية تدعو إلى الثورة والغضب على الدِّين الذي يُبرِّر وقوع الشر في العالم. والأفضل للإنسان التوجُّه إلى الشمال بعيدًا عن اليمين. وقد يكون هذا الغضب هو الهدف غير المُعلَن للإخوان. ولماذا لم تحدث المعجزات دفاعًا عن المظلوم؟ متى تقع ومتى تغيب؟٢٦
والحكاية الثانية عن نبيٍّ اجتاز نهرًا فيه صبية تلعب وبينهم صبي كفيف يغوصونه في الماء وهو لا يظفر بهم. فدعا النبيُّ اللهَ أن يردَّ بصره ويُساوي بينه وبينهم. فرد إليه البصر وتعلَّق بآخر فغوَّصه في الماء حتى قتله، وهرب الباقون. فطلب النبي من الله أن يكفيَهم شرَّه فاستجاب الله مما يُبيِّن اعتراض النبي على خلق الله وعدم رضائه بحكمه، وأن كل ما يجري في العالم بحكمة الله. والحكاية مشوبة بالإيجاب والسلب ولكنَّها إلى السلب أقرب. باعثها ظلم القوي للضعيف، الصبية الذين يُضايقُون الكفيف في مكان خطر يُهدد بالغرق. وبعد ذلك يبدأ بالسلب؛ إذ لم يدافع النبي عن الكفيف بل دعا الله لإحداث مُعجزة للمُساواة بين البشر دون أن يغير الواقع بنفسه وتأديب الصبية وتحنين قلوبهم على الكفيف. وعجز مرةً ثانية عن الدفاع عن الغريق الثاني الذي تشبَّث به الكفيف بعد أن أبصر. ولماذا استجاب الله للنبيِّ ولم يعط الحكمة بدل التجربة والتضحية بالنفس؟ ما ذنب الغريق إلا أنه هزأ بالأعمى وهي جريمة لا تستحقُّ القتل؟ ولماذا لم تتدخَّل المعجزة مرة ثانية لإنقاذ الصبي؟ ولماذا لم تردَّه كفيفًا حماية للناس من شره؟ وهل الحنان ضار بالبشر إلى هذا الحد، ورد نعمة البصر إلى الكفيف؟ يبدو أن الشر مغروز في طبيعة البشر، وأن التغيير لا يأتي إلا بالدعاء حتى يأتيَ الفرج من السماء. فقد هرب الصبية ولم يتكاتفوا لإنقاذ زميلهم الغريق. وتقوم الحياة على منطق السيد والعبد بإغراق الكفيف الذي أبصر لأحد الصبية بعد أن كاد هو يغرق قبل أن يرتدَّ إليه بصرُه. فالشر ضروري في الكون في كلتا الحالتَين، العَمى والإبصار. والحكمة في قبول الشر الأقل وهو العمى درأً لشرٍّ أعظم وهي الحياة. وفي كلتا الحالتَين الشر ضَروري، إنما الخلاف في الدرجة. ومن ثَمَّ لا يوجد عدل أو قانون في الكون مثل رفع الظُّلم. فالشر أقوى. ولعب الأطفال يُؤدِّي إلى تدخُّل الكبار، فإنَّ أعظم النار من مُستصغَر الشرر. وقد يؤدي مغزى الحكاية إلى الاستسلام كلية إلى الواقع وعدم تغيير شيء؛ لأنَّ كل تغيير جديد يكون أسوأ من الوضع القديم.٢٧
والحكاية الثالثة القصة المُستمَدة من القرآن، موسى والخضر وكلاهما نبي. موسى صاحب الشريعة، أمر ونهي، حدود ورسوم. والخضر صاحب سر وغيب وتستر وكتمان. اعترض موسى عليه طالبًا الحكمة في أفعال. واعتذَرَ الخضر له لعدم استطاعته الصبر. ومدلول الحكاية أقرب إلى السلب منه إلى الإيجاب؛ إذ إن الاعتراض غير مقبول، سطحي ساذج. والإنسان لا يفهم إلا الظاهر دون الباطن. لا يَجوز السؤال عن شيء وقبول كل شيء، الرضا ضد القلق، والتسليم ضد التساؤل. لا فرح ولا حزن على شيء، ربما سوء تأويل لآية وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وتَنتهي إلى نفس النتيجة، ضرورة الشر في العالم، وقَبول الشر الأقل تفاديًا لشرٍّ أعظم، استِشهاد يوحنا المعمدان وصلب السيد المسيح وموت سقراط، وحرق جيوردانوبرونو ومحاكم التفتيش ومذابح الأبرياء، كل ذلك جزء من الحكمة الإلهية. فالحكايات الثلاث تُؤدِّي إلى نفس المغزى، الحقيقة لها ظاهر وباطن، وقبول الواقع أفضل من تغييره، والاستِسلام للقضاء أعقل من الثورة عليه.٢٨

(٣) الاختلاف في العقائد والفرق

وينقد الإخوان موضوع علم الكلام، نظرية الذات والصفات والأفعال أو أصلي التوحيد والعدل، وفي ذهنهم وهو ما سيصبح فيما بعد النسق الأشعري. ينقد الإخوان بعض مباحث التوحيد في علم الكلام مثل علم الله الأشياء قبل أن يُخرجها من العدم إلى الوجود، وهو ما اتبع فيه بعض المتكلمين من أهل العصر بعض القدماء. فالمتكلمون يعطون الأولوية للعلم على الوجود في حين يعطي الإخوان الأولوية للوجود على العلم.

ويُخطئ المتكلمون في إثبات رؤية الله، يثبتها الحشوية رؤية بصرية حسية. ويثبتها الأشاعرة بلا كيف. والمعتزلة وحدهم هم الذين يجعلونها انتظارًا للثواب؛ لأن الله لا يُرى كالأجسام ولا تلتقي العين به لقاء جسميًّا في رؤية حسية. وعند الإخوان الأجسام غير مرئية بالحقيقة إلا عن طريق الألوان، والألوان عن طريق النور. والنور ليس بجسمٍ ولا عرض وكذلك الملائكة والشياطين والجن والأرواح والأنفس والعقل الفعال، كل ذلك ليس بجسم ولا عرض وإن كانت أفعالها تظهر من خلال الأجسام. وقد تجلَّى الله للجبل، والتجلِّي إثبات للرؤية. والله أعلم بصفاته. وقد أخبر أنه مرئي ولكن المجادِلة تُنكر الصفات. ويردُّ الإخوان عليهم في إثبات صحة المنامات بأن الإنسان إذا رأى في منامه رأسه مباينًا لبدنه فبأي عين يبصر رأسه؟ فالنفس جوهر غير كمِّي لا يَنقطع.٢٩

ويَنقد إخوان الصفا المجادلة؛ لأنهم لم يعرفوا ما الطبيعة عندما نسبوا أفعالها كلها إلى الله فوقعوا في شبهة عظيمة وحيرة وشك. لما تبين لهم أن لكل فعل فاعلًا، وشاهَدُوا أفعالًا ليس لها فاعل نسبوها إلى الله حتى ولو كانت شرورًا وفسادًا. وهؤلاء هم المجبِّرة ثم الأشاعرة. فلما كرهوا نسبة ذلك إلى الله نسبوها إلى التولُّد أو البخت والاتفاق أو إلى النجوم أو إلى الله مُكافأة ومجازاة أو إلى العرض وسابق النظر أو بالأصلح واللطف إلى آخر ما هو معروف في التعديل والتجوير. وقد نقَد الإخوان كل ذلك في رسالة «الآراء والمذاهب والديانات». فنسبة كل شيء إلى الله خطأ الأشاعِرة الذين ينكرون أفعال الطبيعة. ونسبة بعض أفعال الطبيعة إلى التولُّد أو البخت والاتِّفاق أو النجوم أو العرض أو الأصلح أو اللطف أو الله مكافأة ومُجازاة خطأ المعتزلة. الفلسفة إذن تجاوز التقابل بين الأشاعرة والمعتزلة. ويقول المعتزلة بالطفرة، والنقلة، والجزء الذي لا يتجزأ. وهي أمور مُتوهَّمة لا وجود لها في العالم.

والإيمان فعل باطني، إضمار القلوب باليقين على تحقيق الإقرار باللسان. أما الإيمان الظاهري فهو مجرَّد الإقرار باللسان تمييزًا له عن اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والمشركين. وبهذا الإقرار تجري عليه أحكام المسلمين من صلاة وزكاة وصيام وسائر أحكام شريعة الإسلام. وإذا أقر بلسانه وشك بقلبه فهو مسلم وليس مؤمن. وقد ذمه الله.٣٠
لذلك وقع الخلاف في علم العقائد، في التوحيد، في مسألة الذات والصفات وهي أكثر المسائل إلجاجًا ومحاجاة. مع أنه موضوع سهل إذا ما تم الاستبصار فيه بالنور الطبيعي. الخطأ فيه ناشِئ أن البحث فيه يُقاس على الأمور الجزئية كما سأل فرعون موسى، وتطبيق المقولات العشر للأشياء المصنوعة عليه. وقد اختلف الناس فيه إلى عدة آراء. فالله أولًا شخص من الأشخاص الفاضلة، ذو صفات كثيرة ممدوحة، وأفعال متغايرة. لا يشبه أحدًا من خلقِه ولا يُماثلُه، مُتفرِّد من جميع خلقه. وهو رأي العامة وكثر من الخواص (الطاوية). هو مبدأ الأخلاق والسلوك الفاضل. وهو ثانيًا أيضًا في السماء فوق رءوس الخلائق. وهو رأي المشبهة المجسمة الحسية، رأي الحشوية الذي يُخاطر بالوجود في المكان. وهو ثالثًا فوق العرش، مطلع على أهل السموات والأرض. مطَّلع على أهل السموات. ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، ويعلم ما في ضمائرهم. وهو رأي جيِّد للنساء والعبيد والصبية والجهال، رأي من لا يعلم شيئًا من العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية والإلهية. وهذا يَكفي لإثبات وجوده، ومعرفة وصايا الأنبياء والأوامر والنواهي، خوفًا ورجاءً، وعدًا ووعيدًا، وتجنب الزور والشرور وعمل الخير والمعروف صلاحًا لهم ولمن يعاشرهم من الخواص، ولا يضرون الله شيئًا مما اعتقدوه. فالاعتقاد به نافع عملًا. وهو رابعًا صورة روحانية سارية في جميع الموجودات دون زمان أو مكان. لا تدركه الحواس ولا يقع فيه تغيير. لا يَخفى عليه شيء. يعلم ويشاهد قبل كون الأشياء وبعد فنائها. وهو رأي أقرب إلى التنزيه العقلي. وهو خامسًا نور بسيط رُوحاني ليس بذي صورة لعدم احتياجه إلى هيولى. وهو رأي أصحاب العلوم والمعارف والعقول. ينتقل من التنزيه كحكم عقلي إلى المَجاز كصورة في الخيال. وهو سادسًا وأخيرًا هوية وحدانية وقوة واحدة، وأفعال كثيرة، فاضت منه الموجودات. ليس بشخص ولا صورة، له أفعال كثيرة وصنائع عجيبة. معرفة هويته في النفوس، فطرية لا اكتسابًا. والسعادة نوعان؛ دنيوية وأخروية. وأحسن حالات النفوس أن تكون عالمة بالأمور الإلهية. وهو تصور شامل يجمع بين التنزيه والتشبيه، بين الدين والأخلاق، بين الله وتجلياته في الطبيعة والنفس.٣١

ومشكلة خلق القرآن وقدمه فرع على أصل الذات والصفات، وصفة الكلام، هو قديم من حيث هو كلام نفسي ومخلوق من حيث هو أصوات حسية. فالكلام لفظ ومعنى. إذا كان الكلام حروفًا وأصواتًا يُحدثُها المتكلم في الهواء فهو مخلوق. وإذا كان المعاني والأفكار في النفوس، والحروف والأصوات مجرد سمات وآلات، فهو قديم لأن الله لم يزل عالمًا بتلك المعاني. وإذا كان كلام كل مُتكلِّم إفهام غيره معنى بأيِّ لغة وأي عبارة أو إشارة فكلام الله لجبريل إفهامه لتلك المعاني ثم إفهام جبريل لمحمد، ومحمد لأمَّته، وأمته بعضُهم لبعض. وكلُّها مخلوقة. وإفهام الله لجبريل ليس مخلوقًا لأنه إبداع. فهناك فرق بين الخلق والإبداع. الخلق بإيجاد شيء من شيء، والإبداع إيجاد شيء من لا شيء.

واختلف العلماء في العلم الإلهي بالنسبة للمعلوم على رأيَين. الأول أن معلومات الله لم تزل، وهي أشياء في القدم، جواهر أو أعراضًا لأن الشيء هو الذي يُخبر عنه ويعلم. لذلك علم الله الأشياء قبل إخراجها من العدم إلى الوجود واختراعها. وهو رأي بعض القدماء ومتكلِّمي «هذا الزمان». والثاني أن الله لم يزل عالمًا بأنه لا شيء سواه. وكان عالمًا بأنه سيخلق الأشياء ويجعلها جواهر وأعراضًا، يؤلفها على ما هي عليه الآن ثمَّ فعل كما علم. والحقيقة أنه لا فرق بين الرأيين إلا أن الأول يتعلق بالمعلوم، والثاني بالمُعلِّم، الأول بالموضوع، والثاني بالذات.٣٢

وقد وقع الخلاف في أحكام النجوم بين العلماء. وانقسموا فيما بينهم إلى ثلاثة آراء. الأول أنها دلالات على الكائنات قبل كونها. ولها أفعال وتأثيرات. وهي أحياء ناطقة، ملائكة الله، وملوك أملاكه، وسكان سمواته. وتم الوصول إلى ذلك بعد النظر في العلوم الإلهية والطبيعية والرياضية، وتسمية المؤثِّرات رُوحانية الكواكب. وهو رأي الإخوان أيضًا. والثاني أن لها دلالات دون تأثيرات نظرًا لصحة تجارب الأمم والعصور، وما تواتَرَ عن أهل العلم. والثالث أنها دلالات ولا تأثيرات لها، وترك النظر في أحكام النجوم وإغفال تعاليمه والإعراض عن البحث فيه، وهو رأي الفقهاء. وهو أقرب إلى الرأي العِلمي والديني. فهي موضوع للعلم الطبيعي وليس الإلهي. ولا شريك لله في ملكه.

ويُحاجج الإخوان منكري علم أحكام النجوم انتقالًا من الموضوع إلى المنهج أي من موضوع العلم إلى إمكانية العلم بين الإثبات والإنكار. يُدافع الإخوان عن إثبات العلم ضد مُنكِريه إذ لا يُمكن ترك علم تعود الناس عليه وتعلَّموه بسبب إنكار فرقة له لمجرَّد شُبهة. ونظرًا لتفاوت الناس في العلوم لا يُمكن إبطال علم لخطأ الضعفاء في الاستدلال. وكيف يَنصب الله الأدلة لهم ثم يُخطئون؟ ويتذرَّع الإخوان بالنبي إدريس على أنه هو واضع أسس هذا العلم مع أنَّ الأنبياء ليسوا علماء ولم يُؤسِّسوا علومًا. قد يكون إدريس هنا هو الوعاء الذي وضع فيه هرمس الحكيم المثلَّث العظمة الذي نسب إليه القدماء أيضًا وضع علم الفلك.

والحقيقة أن عيوب مذهب إثبات أحكام النجوم لا تقلُّ عن عيوب نفْيه. فإذا كان الله قد نصب لمُثبتي العلم فلماذا تركهم يُخطئون ولم يضمن لهم حسن القياس؟ فإن العلم لا يبطل لخطأ في الاستدلال بل لوقوعه كلية في الخرافة. إن إبطال صناعة النجوم ليس فقط لخطأ في الاستدلال بل لعدم توافُر شروط العلم، موضوعًا ومنهجًا، مقدمة ونتيجة. إنَّ النجوم الآن موضوع لعلم الفلك، وتأثيراتها موضوع للعلوم الطبيعية خاصة الأنواء والجغرافيا.٣٣

ويظهر الخلاف في الرأي في موضوع المشيئة والإرادة الإلهية في آراء ثلاثة؛ الأول أنَّ الله يعلم أشياء لا يُريدها مثل الشرور والعصيان والكفر. والثاني أنه لا يجُوز في علم الله أشياء لا يُريدها مع قدرته على تغييرها. والثالث أن الله لا يُوصَف بالإرادة والمشيئة إلا مجازًا. وقد دلَّنا بالعلم فقط ما علم أنه سيكون وما لا سيكون لا يكون، ولا حاجة إلى الإرادة.

وينتج عن هذا الخلاف مسألة أخرى وهي: هل يحُوز علمُ الله المسبق بالمعاصي ثم محاسبة العباد؟ والرد بالإيجاب لأنَّ الإنسان يظلُّ مسئولًا لأنه ترك الاجتهاد. وهناك مكان للتوبة والاستغفار. ولا ضرورة للاتكال على الرحمة، فلا لزوم للاحتجاج بعالم الله المُسبَق على فعل المعاصي.

ويمتدُّ الخلاف إلى أفعال الإنسان بين الجبر والاختيار. وهو موضوعٌ صغير بالرغم من أهميته واختلاف المتكلِّمين فيه بين الجبرية والقدرية. عند الجبرية عواقب الأمور بخواتيمها. الأمور كلها التي تخرُج من الكون إلى الفساد، ومن الوجود إلى العدم في مقدور الله وفي علمه المُسبَق والإنسان لا يستطيع شيئًا، ولا يقدر على شيء دون علم الله به وقدرته عليه. ونسبوا ذلك إلى القضاء والقدر. وخاصمهم القدرية وخالفوهم في ذلك. فالأوامر والنواهي، والمدح والذم والوعد والوعيد على الإنسان العاقل المُستطيع. وهو محجوج دون أن يحتجَّ عند الله أو عند الناس بالقضاء والقدر وعلم الله المسبق لأنه لم يعرف ذلك قبل الفعل بل بعد الفعل أو الترك.٣٤
ويبدو أنَّ الإخوان هنا أقرب إلى الجبر منهم إلى خلق الأفعال. فليس أحد من المَخلوقين بقادِر على شيء من الأشياء ولا عمل من الأعمال إلا إذا أقدره الله عليه، قواه ويُسره دون إجبار لأحد منهم على فعل أو عمل أو ترك. كل قدرة متعلقة بالتيسير أو مع الدواعي على الفعل والترك. وكلٌّ ميسَّر لما خلق له. وكل قد سبق في علم الله، وهو القضاء المبرم والقدر المحتوم. وهما من مُوجبات أحكام النجوم وتأثير الأشكال الفلَكية. ولا عجب من عدم ذكر الأشعرية لأن الرسائل كُتبت حوالي ٢٧٠ﻫ وتُوفِّي الأشعري عام ٣٣٠ﻫ. والحقيقة أن الجبرية كانت إفرازًا من السلطان، والقدرية من إفراز المعارضة. فالعقائد سلاح أيديولوجي في الصراع السياسي.٣٥

واختلف العلماء أيضًا في الوعد والوعيد. فعند البعض واجب على الله الوفاء بالوعد والوعيد وإلا كان كاذبًا. وعند البعض الآخر أن الكذب في الخبر، بأنه قد فعل وهو لم يفعل. أما الوعد بالفعل ثم لا يتحقَّق الفعل فإنها مخالفة. والمخالفة في الوعد عدم وفاء، وفي الوعيد رحمة وإشفاق وكرم وسماحة وإنعام مثل قول الشاعر:

وإني إذا أوعدته أو واعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

ووقع الخلاف أيضًا في وقت وفاء الوعد لثواب المُحسنين وكيف يكون بين رأيَين. الأول يجعله في الآخرة بعد الممات، عند العامة بعد خراب السماء والأرض ثم البعث، وعند الخاصة الحكماء وجود متأخِّر عن الكون. والثاني إنكار الآخرة وجعله في الدنيا قبل الممات. إيمان العوام أقرب إلى التقليد، وإيمان الخواص أقرب إلى العلم. الأول تجسيم والثاني تنزيه. الأول واقع، والثاني مثال. الأول شيء حسِّي، والثاني صورة فنية.

ويتفاضَل جزاء المُحسنين في الآخرة بحسب درجاتهم في المعارف واجتهاداتهم في الأعمال الصالحة، وأجود أحوال العامة والجُهال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع المشغلة لهم عن فضول وبطالة كي لا يقعوا في الآفات. وأفضل أعمال الخواص التفكر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات خاصة فيما يتعلَّق بالدين. وقد تكون أفضل أعمال الخير خصلة واحدة هو التفكر.٣٦ الشرائع للعاطِلين ولحمايتهم من الآفات على عكس أهل النظر والاعتبار.

ويبدو هنا التحوُّل من الكلام إلى الفلسفة. فالمعاد من الأمور السمعية عند الأشاعرة وهي قضية الواجبات العقلية عند المعتزلة وقانون الاستحقاق. والخلاف فيه بين الوجوب واللاوجوب، بين المُعتزلة والأشاعرة، وليس بين المعتزلة أنفسهم. وكثيرًا ما تظهر الموضوعات الكلامية بلا عناوين على عكس حدوث العالم وقدمه. فالكلام يذوب في الفلسفة عن طريق نقدِ منهجه وموضوعه وغايته وتصوراته. فالإخوان قريبو عهد بالكندي. ويَنجح الفارابي في التحول كلية من الكلام إلى الفلسفة بالرغم من استمرار نقدِه عند التوحيدي وابن سينا وابن رشد.

ويُعطي الإخوان نماذج الاختلاف في العقائد على طريقة المعتزلة من عقيدتين: التوحيد والعدل. ويُركز التوحيد على حدوث العالم. ويشمل الخلق والعناية والتدبير والحكمة والنظام. كما يَشمل بعض الموضوعات الأخرى مثل الملائكة وبني آدم والمصطفَين والأمر والنَّهي والحساب والعقاب وكل ما يتعلَّق بالمعاد، وكأن الخلق في البداية يُحيل إلى البعث في النهاية، وكلها مُستنبَطة من حدوث العالم.

فالآراء الحكمية في العالم رأيان. رأي الدهرية الأزلية، والثاني رأي المحدثة المعطِّلة. ويرد عليهما الإخوان باللجوء إلى نظرية العلل الأربعة، الصورية والتمامية والفاعلة والهيولانية. فالقول بقدم العالم نتيجة عدم فهم العلل الأربعة ومعانيها الدقيقة. وأدَّى الجهل بالعِلل الثلاثة الأولى، الصورية والغائية والمادية إلى إنكار العلة الفاعلة نظرًا لارتباط العلل بعضها بالبعض الآخر مع أنَّ الدهرية كان لهم بعض التمييز والفهم. كل شيء فيه أشياء ثلاثة من الصنعة، الشكل والنقش والتصاوير. ولكن الدهرية لم يرَوا أنواع التضاد في النقوش والأصباغ وأنواع العلل الصورية. الدهرية عاجِزة عن البحث لخَواء النفس، والإعجاب بالذات، والغرور بأبحاثهم. فالجهل يَرجع إلى نقص الأخلاق. والباحث في العلل يحتاج إلى نفس زكية فاضلة تجمع بين العلم والعمل، وذهنٍ صافٍ خلو من الغشِّ والدجل، ونظر دقيق وبحث سديد.٣٧
كما يرجع خطأ الدهريين إلى آفة العقل. فالعقل هو العقل الأخلاقي نظرًا لارتباطه بالنفس، والنفس بالجسد. لذلك لزمت مقاومة الجسد حتى تصفو النفس ويصح العقل. ومناقب العقل كثيرة لا تحصى. وآفاته كلها آفات النفس مثل: الهوى الغالب، العُجب المُفرط بالنفس، الكبر المانع عن قبول الحق، الحسد للاقتران، الحرص على الشهوات، العجلة وقلة التثبت، البغض والعداوة عند الحكومة والخصومات، الميل والتعصب لمن يَهوى، الحمية الجاهلية عند الافتخار والأنفة من الانقياد والطاعة. وهو العقل الأداتي الطيع للرؤساء والحكومات وليس العقل أداة للثورة.٣٨
لم يذكر الإخوان آية وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وهم أكثر الحكماء استِشهادًا بالآيات والأحاديث خاصة وأن المُصطلحات الفلسفية من الوافد لم تستقرَّ بعد كما هو الحال عند الكندي. فالغائية ما زالت التمامية. ويظلُّ السؤال قائمًا: لماذا تصور الله من جانب العلَّة الفاعلة دون العلة الصورية أو الغائية أو المادية؟٣٩ وهل الدهرية تنقصها الأخلاق؟ وهو نقد الأفغاني لها الذي هو أقرب إلى النقد الخطابي منه إلى النقد البرهاني؟
والسؤال الآن: كيف يكون خطأ القول بقدم العالم هو معرفة العلَّة الفاعلة قبل معرفة المعلول؟٤٠ وعلماء الكلام يدعون أنهم يبدءون بالمعلول قبل العلَّة في الأدلة على وجود الله، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجوهر الفرد، ودليل الممكن والواجب. إنَّ القول بقدم العالم يُنهي التشخيص في النظر إلى الطبيعة، وردها إلى ذاتها، وقضاء الاغتراب عنها، والتحوُّل من العلم إلى العالم، ومن الفعل إلى الفاعل. والقول بأن العالم مصنوع بالإضافة إلى أنه تشخيص الطبيعة عاقلة تحتوي على قوانينها في ذاتها، وتعمل من تلقاء نفسها. وتشخيص الطبيعة تصور بسيط ساذج يخاطب هوى العامة ويُطابق الإيمان الشعبي والطرق البدائية في التفكير وإحراج الخاصة أمام العامة. إنَّ البحث في العلل المادية، كما هو الحال في علم الأصول أكثر اقترابًا إلى العلم من البحث عن العلل الصورية والغائية والفاعلة. العلة الصورية في الرياضيات والعلة الغائية في الأخلاق، والفاعِلة في الدين، والمادية في العلم. وإغفال العلل المادية يُؤدِّي إلى التحوُّل من العلم إلى الأخلاق والدين، ومن ثَمَّ إلى تدمير العلم والأخلاق معًا. فالأخلاق في النفس بالرغم من أن الطبيعة عاقلة.٤١

وفي حدوث العالم إما أن يكون العالم مُحدثًا مصنوعًا له علَّة واحدة مبدعة ومخترَعة، حي قادر حكيم، وهو رأي الأنبياء وبعض القدماء الموحِّدين والحكماء أو أن يكون محدثًا مصنوعًا بعلتين قديمتَين أزليتين، علَّتان عند اليونان، فاعل ومنفعل، والهان عند زرادشت. والقول بأصلين قديمين، فاعل ومُنفعِل شنعة وقبح. ويدل على نقص وعجز في كليهما. وينتهي إلى ظل العالم وفساد كلي. وهو نقد أقرب إلى دليل التمانع عند الأشاعرة الذي صاغَه الأشعري فيما بعد.

كما يُؤدِّي إلى انتقاء الشر ومسئولية الإنسان عنه. العالم متقن من حيث سعته، وكثرة خلائقه، خال من الفساد والشر ألبتة، على أحسن نظام وترتيب. الشرور في عالم ما تحت فلك القمر، في العالم الإنساني. عمر الإنسان هو عمر العالم لا يُوجد إلا في الإنسان وليس في الحيوان والنبات وسائر الموجودات. ولا يوجد إلا لأسباب عارضة وليس بالقصد من الفاعِل بل لنقصٍ في الهيولى وعجز ما فيها عن قبول الخير. ويوجد في وقت دون آخر وليس على الدَّوام.

يعرض الإخوان الموضوع في إطار من تاريخ الأديان القديم كما هو الحال عند مؤرِّخي الفرق كابن حزم أو الشهرساني بالإضافة إلى أساطير الخلق في الشرق القديم. ويبدو ارتباط التوحيد بالعدل. وقد يكون الدافع على القول بالهين تفسير مشكلة الشر، وجعل الخير والشر إلهين. فالثنائية في التوحيد إنما هي ناتجة عن الثنائية في العدل.٤٢

فإذا بطل القول بأصلَين لم يبقَ إلا القول بعلة واحدة قديمة. ويستعمل الإخوان برهان أهون الضررَين. فالقول بوجود فاعلين قديمين قبيح، والقول بوجود فاعل واحد قديم أقلَّ قبحًا اعتمادًا على دليل التمانع مما يُبين المصدر الداخلي لعلوم الحكمة، علم الكلام. وإذا كان القول بعلة واحدة قديمة أفضل من القول بوجود أصلين قديمَين يكون القول بحدوث العالم النتيجة الطبيعية لذلك، انتقالًا من الأكثر ضررًا إلى الأقل ضررًا إلى الخالي من الضرر. وهي برجماتية نفعية.

كل شيء في هذا العالم مصنوع. وحاجة المصنوعات البشرية إلى العناصر أكثر من حاجة الطبيعة. فإذا احتاجت الطبيعة إلى الهيولى والمكان والزمان والحركة فإن المصنوعات البشرية في حاجة إضافية إلى الأدوات والآلة. وإذا كانت النفس في حاجة إلى الحركة والهيولى فإنَّ الإلهي لا يَحتاج إلى شيء. ويقوم تصور الصنعة أيضًا على تشخيص الطبيعة وليس على موضوعيتها، وخلط بين الطبيعة والصنعة. بل إن التمييز بين المبدع والمصنوع الأول لله والثاني للإنسان، الأول من عدم والثاني من شيء، لا يُغير من الأمر شيئًا. وهي ألفاظ ابن رشد فيما بعد.٤٣
وكل ذلك لا يُعرف إلا بعد معرفة النفس.٤٤ مما يدلُّ على سيادة موضوع النفس في البيئة الثقافية التي خرج منها ابن سينا. يَعتمد الإخوان على الحُجج النقلية وابن سينا على الحُجج العقلية. لذلك تقلُّ التصورات عند الإخوان وتكثر الآيات في حين تقل الآيات عند ابن سينا وتكثر البراهين. الغاية واحدة، النفس جوهر وليست جسمًا، حي فعال مؤثر. والعقل أشرف من النفس. بل إنه أشرف الموجودات على الإطلاق. وهو مقرٌّ بأنه مُبدِع من الله. وهو نوعان؛ غريزي يتأمَّل المحسوسات، ومكتسب أصفى نفسًا، يعلم حدوث الهيولى. ويتم إثبات حدوث الهيولى بعد النظر في الرياضيات والطبيعيات والإلهيات. فالموضوعات إما طبيعية مثل الأركان الأربعة، والحيوان والنبات والمعادن أو بشرية مثل ما يعمله الصناع في الأسواق أو نفسية مثل الأفلاك والكواكب والأركان أو إلهية كالعقل الفعَّال والنفس الكلية والهيولى الأولى والصورة المجرَّدة.

والسؤال الآن هو: هل إدراك علة واحدة قديمة يؤدِّي إلى القول بحدوث المادة أم العكس، إدراك حدوث العالم يُؤدِّي إلى القول بعلة قديمة؟ طريق المتكلِّمين الثاني، البداية بحدوث العالم لإثبات علَّة قديمة، وطريق الإخوان الأول، البداية بإثبات وجود علَّة قديمة لإثبات حدوث العالم. طريق المتكلِّمين من المحسوس إلى المعقول، ومن الجزئي إلى الكُلي صعودًا. وطريق الحكماء من المعقول إلى المحسوس، ومن الكُلي إلى الجزئي نزولًا. وهو التقابل بين التأويل والتنزيل. وكلاهما ثنائية رأسية متطهِّرة وموقف أخلاقي مثالي صُوفي مُغترِب من الحياة. فالمعرفة أفقية من الماضي إلى الحاضر مثل المعرفة التاريخية أو من الحاضر إلى المستقبَل مثل المعرفة المستقبلية أو تقدمه المعرفة بإصلاح القدماء.

ولا ينفصل أصل العدل عن أصل التوحيد كما هو الحال عند المعتزلة بصرف النظر عن أيهما أسبق، أيهما علَّة وأيهما معلول. وعلى اعتبار أن التوحيد هو الأصل هناك رأيان في الهيولى. الأول أنها قديمة عديمة الصور ثم صوَّرها الله في أجسام بأبعاد ثلاثة وأشكال كريات، مسكن للنفوس السارية في العالم، أجناس الملائكة وقبائل الجن. أما الأرض فقد خلقت من أجل البعث والخلود. والثاني أنها مخلوقة. والشر فيها بالعرض لا بالقصد في كل من الرأيَين طبقًا لمنطق الثنائية المتطهِّرة. الشر هو عدم الخير أو نقصه. وأسبابه إما سعود الفلك ونحُوسه أو الأمور الطبيعية في الكون والفساد والآلام والأوجاع أو جبلَّة الحيوانات وطباعها من تآلف وتنافُر ومودة وتباغض وإما النفوس التي تحت الأمر والنَّهي، سعادتها ونحسُها في الدنيا والآخرة. والخير والشر درجات ومراتب بين الخير الأقصى من أعلى والشر الأقصى من أسفل طبقًا لنظرية الفيض. والحقيقة أن سعود الفلك ونحوسه ليس من الله وإلا كان شركًا. وكيف يَصدُر الشر عن الله وهو الخير المطلَق؟ وكيف يكون الخير بالقصد والشر بالعرض وأفعال الله قَصدية لا عرضية وتتَّجه نحو غاية؟ ولماذا يكون قسم من البشر مع الحيوان الذي يُعاني من الشر العرضي بينما يتمتَّع القسم الآخر بالخير الأقصى؟ أليست هذه القسمة أقرب إلى الظلم منها إلى العدل؟ وكيف تكون حكمة الموت عدم اكتظاظ الأرض حتى لا تضيق بمن عليها وفي الأرض خير عميم، والموت في النهاية عذاب وفراق.٤٥

والشرور بالنسبة إلى الحيوان، إما الآلام التي تعرَّض لها دون سائر الموجودات كالجوع والعطش أو الضرب والصدم والكسر أو الأمراض والأسقام أو العداوة التي في جبلتها أو الأفعال بالقصد والإرادة غير العاقِلة والخيرات التي تنسب إلى جبلة الحيوانات بالقصد الثاني، وليس بالقصد الأول في حين أن الخيرات التي تُسبَّب إلى الله بالقصد الأول وليس بالقصد الثاني. وهو نوع من التنزيه النَّفسي والإسقاط المزدوج، يسلب عن الحيوان ما يُعطي لله، ويسلب عن الله ما يعطي للحيوان طبقًا للتصور الرأسي بين الأعلى والأدنى. وهو رأي الحكماء على الأغلب.

كما ينسب الشر إلى النفس انتقالًا من الموضوعية إلى الذاتية مما يدلُّ على أن الأمر كله إنشاء. وهو نوعان: الأول نتيجة لاكتساب الأعمال، وهي من الأدنى إلى الأعلى أعمال وحركات، كلام وأقاويل، آراء واعتقادات، أخلاق وسجايا، علوم ومعارف. والثانية جزاء للأعمال. والأعمال المكتسَبة خير وشر في آنٍ واحدٍ تأويلًا لا شعوريًّا لآية وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

والخيرات والشرور إما عقلية أي فعل شيء طبقًا للشروط، وإما وضعية وهي الأوامر والنواهي الشرعية. والله مُعلِّم الكل من الله إلى العقل الفعال إلى النفس الكلية إلى الملائكة إلى أصحاب النواميس إلى الأستاذَين إلى البشر نزولًا وكأنه لا يوجد تعلم ذاتي، وكان البشر مجرَّد متعلِّمين وليسوا معلمين، ناقلين وليسوا مبدعين.٤٦

ويَنقد إخوان الصفا الفرق الكلامية الإسلامية وغير الإسلامية، ويُوضع الحكماء معهم وكأنهم فرقة كلامية ويُسمُّونَهم الطبيعيين المنطقيِّين دون ذكر للإلهيين وكأن إخوان الصفا هم الإلهيون وحدهم. وكلهم يتصورن الدين على أنه عقائد. فيقعون في التشبيه (التوحيد) والتعطيل (العدل).

يبرز الإخوان الخلاف بين الجبرية والثورية في موضوع خلق الأفعال. وكلاهما يعتمد على النقل، ويَنقُدون رأي الجبرية لأنه يُؤدِّي إلى فعل المعصية وارتكاب الفاحشة. فهي عقيدة أصحاب الكبائر من الذنوب لأنهم علموا أنها إذا انتشرت في العالم بعد ذهاب أيامهم وانقراض دولتهم يكثر لعنُهم وسبُّهم وشتمُهم. تخشى الناس من نقدهم وهم في السلطة. فإذا تُوفُّوا قبل بقضاء الله وقدره، وما شاء الله قدر. فيستمر ذكراهم، ويتمُّ التستُّر على أفعالهم. الجبرية جبر في الدنيا، وتستر على القبائح بعد الموت. فيقتنع جهال الناس خاصة النساء. فإذا اعترَض أحدهم عليهم اتُّهم بالكفر والقدرية أي الاعتزال والقول بخلق الأفعال، وإمكانية الاحتزاز من القضاء والقدر، ولم يَعرف الناس معناه، ولم يطلُبُوه من أصله. نشأ على ذلك القليل، واعتمده الكثير، وهو مذهب أكثر العوام. ويقارن الإخوان بين الخوارج واليهود. كل فريق يعتبر أن سفك دماء المخالفين وكل يكفر بالرب حلال. ويشار إليهم كخوارج لخروجهم في أطراف المملكة ثم الغارات عليها.

وأما الحَشوية فهم أيضًا من أهل الجدل يتعصَّبون في الورع من غير حقيقة ولا معرفة بأحكام الدين. يُكفِّرون المؤمنين بالذنوب ويفسقونهم، ويحكمون عليهم بالخلود في النار بغير علم ولا برهان بل بقياسات ملفَّقة بعقول ناقصة. انقطعوا عن الله، ويئسوا من رُوحه، وقنطوا من رحمته. فهم مُزايدون في الإيمان. كما اعتبرت الحشوية أن أصوات الرعد للملك، يزجر السحاب ويسُوقه ويفرقه يمينًا وشمالًا، وأنَّ الملائكة يسبحون بتسبيحه ويسكتون بسكوته. وهذا عمى البصيرة، وقلَّة عقل، وتمام جهالة. فالإخوان ينقدون الحشوية لغلبة التأويل الحرفي المادي للنصوص، ولعدم تحليل ظواهر الطبيعة تحليلًا عمليًّا كما فعلت الفلسفة. يَفهم الحشوية المعاني على مُستوى العوام والنساء والصبيان. البلاغة عندهم حسن الصوت وحلاوة النطق وصفاء الكلام.

وبالرغم ممَّا يبدو على فكر الإخوان من تيار شيعي إسماعيلي إلا أنهم ينقدون التشيُّع. فمن الشيعة من يقول إن الأئمة يسمعون النداء، ويُجيبون الدعاء. وهو غير صحيح. ومنهم من يقول إنَّ الإمام المنتظر مختف من خوف المخالفين وهو ظاهر يعرفهم وهم له مُنكرون. يرفض الإخوان إذن تأليه الأئمة وغيبتهم. ويعتقدون أن الأنبياء خزائن علم الله، وأن الخلفاء والأئمة وارثُون علم النبوات دون معرفة معنى ذلك أو التصديق به. ينقد الإخوان الفهم السطحي لعقائد الشيعة مثل أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأئمة خلفاء الرسل، وهو ما تقول به الشيعة الثورية حتى الآن.٤٧
وقد جعل قوم من الأشرار التشيُّع سترًا لهم عما يَرتكبونه من مخالفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فيتركون كل مأمور، ويرتكبون كل محظور، إظهارًا للتشيع، واستعاذة بالعلوية. فهم ينسبون إلى التشيع بأجسادهم لا بنفوسهم. يسمون أنفسهم العلوية وليسُوا من العلويين. لا يعرفون من القرآن إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه. لا يتعلمون علمًا، ولا يَدرُون فقهًا، ولا يُقيمون صلاة، ولا يؤدون زكاة، ولا يحجُّون بيتًا، ويعرفون جهادًا، ولا يَجتبون حرامًا، ولا ينتهون عن منكر، ويَركبون كل قبيح، ولا يتوبون. يستطيلون على الناس، وينفرون من الشيعة. فهم أبعد الناس عن حقيقته، وأسرار حكمته إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا. الإخوان حركة تطهير داخل التشيُّع ضد أدعيائه الذين يُسقطون التدبير، ويتسترون به من أجل الإباحية.٤٨
والبعض جعل التشيع مكسبًا له مثل النائمة والقصاصة. لا يعرفون من التشيع إلا التبري والشتم والطعن واللعنة والبكاء وحب الشيعة وترك طلب العلم، وتعلم القرآن والتفقُّه في الدين. شعارهم لزوم المشاهد، وزيارة القبور كالنساء، والتواكل، يبكون على فقدان نفوسهم والبكاء على فقدان النفوس أولى. وهو ما عرضه التشيُّع الثوري المعاصر وتحويل مظاهر الحزن والبكاء التقليدية يوم عاشوراء إلى يوم فرح بعد انتصار الثورة.٤٩

وينقد الإخوان المتكلِّمين لعدائهم للفلسفة وجهلهم بها ثم إنكارها وهم لا يَعلمونها. وقد يضعون في إبطالها مقالات مزخرفة يعارضون بها الحكماء والعلماء ويُشنِّعون عليهم. وقد فعل ابن خلدون ذلك فيما بعد في فصل «في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها» باعتباره مؤرِّخًا أشعريًّا. فيبطلون العلوم الفلسفية مثل علم المنطق والطبيعيات ويَعتبرونهما كفرًا وزندقة وإلحادًا يؤديان إلى المحالات والخرافات. ويبطلون علم الهندسة باعتبارها وهمًا لا حقيقة لها. ويبطلون علوم الطب وأنها لا منفعة فيها. وأخيرًا يبطلون علم النجوم، وأن الكواكب جمادات، وأنَّ الأفلاك لا وجود لها. لقد تركوا النظر في علم أحكام النجوم، واعتبرُوا أحوال الفلك وأشخاصه وحركاته ودورانه من الأمور الطبيعية. وعادوا أصحابه. ومن ثَمَّ يكون انشغال الفلاسفة إضافة على علم الكلام، والانتقال من العقيدة إلى الكون، ومن التوحيد إلى العالم.

بدَت خطورة علم الكلام عند إخوان الصفا في الجدل في مقابل الإشراق، والفرقة في مقابل الوحدة، والخصومة في مقابل المحبة. وربما يكون الدافع على هجوم الإخوان على المتكلِّمين أنهم هم الذين ناظروا الشيعة وجادلوهم وأثبتوا أخطاء عقائدهم وسوء تأويلهم. فهم أهل الحجج والبرهان لكشف الزيف والبطلان. والإخوان يعتمدون على الإيحاء والإقناع والحيل النفسية للدعاة وطرق استِمالة الجمهور.٥٠

وينقد إخوان الصفا الفرق الإسلامية والفرق غير الإسلامية مثل اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمسلمين الذين جادلوا من أجل إثبات بقاء النفس وفراقها، أصل كل ديانة وقوام كل شريعة. ولولا ذلك لتعطَّلت الأحكام. ينقد إخوان الصفا خاصة الثنوية، ثقافة فارس الوطنية، في قولهم بأن الخير والشر فعلان مُتضادان غير متفقين، وأن لهما خالقين متضادَّين غير متفقين. ويجادلونهم لإثبات أن فاعل الخير والشر فاعل واحد، هو الله مثل دليل التمانع عند الأشاعرة. فاعل الخير خير كله، وفاعل الشر شرٌّ كله. ولما كان من الخير إبطال الشر فإن فاعل الخير يكون واحدًا. والخير بقاء والشر فناء. والبقاء مُتقدِّم على الفناء مثل تقدم الوجود على العدم. ومن ثَمَّ وجبت الوحدانية وبطلت الثنوية. الشر لا أصل له في الإبداع. والقضاء والقدر ليسا بشرٍّ، والمخلوق ليس معانًا على فعل الشر. الشر عجز ونقص عن بلوغ التمام، يترقَّى إلى الخير والكمال. ومن ثَمَّ كان الخير هو الغية القصوى وهو الله. فصَح التوحيد. وانفعت حجج التشبيه والتعطيل والشرك. ويتكرر نقد الإخوان للثنوية بحجج جديدة مثل أن العلة إما أن تكون الله أو غيره. فإن كانت غيره كما تقول الثنوية فقد فسد هذا الرأي فبقيَ أن الفعال ليس غيره وهو الله. تستأنف علوم الحكمة إذن علم الكلام اعتمادًا على العقل الخالص في نفس الموضوعات مثل إثبات الوحدانية، ويتساءل الإخوان عن بعض الموضوعات الكلامية الأخرى وكأنهم متكلِّمون فلاسفة أو فلاسفة متكلِّمون حول الحكمة والصلاح، كيف صار الكافر غنيًّا، والمؤمن فقيرًا، واليهودي عزيزًا، والمسلم ذليلًا. وهي موضوعات من غوامض العلوم ودقائق الأسرار.

ويذكر الإخوان فرقًا أخرى تنتسب إلى الأعداد. فقد أطنب أهل الهند في المتَّسعات. وانشغل قوم من الموسيقيين بالثمانينات. وتوغَّلت المسبعة في الكشف عن المسبعات، وآخرون بالأمور السداسية. وأطنب الحزمية في المخمَّسات. وفعل الطبيعيون في المربعات، والنصارى في المثلثات، والثنوية في المثنيات، والمسلمون بالوحدانيات. كل منها انشغل بعدد وترك الأعداد الأخرى إلا الفيثاغوريِّين. فقد أعطوا لكل عدد حقه.٥١

(٤) الاختلاف في الشرائع

وتقع الاختلافات في الشريعة الواحدة مثل اختلافات اليهود والنصارى والمسلمين في ألفاظ التنزيل بسبب دقة المعاني ولطافتها وخفائها واختلاف القراء بسبب الألفاظ المشتركة والمعاني المترادِفة والمتواطئة والمشتقة نظرًا لاختلاف الناس، وفي المعاني بسبب اختلاف المفسِّرين، فاللفظ يَحتمل أكثر من معنى، والمُفسِّرون على درجات مختلفة في الفهم، وفي أسرار الدين وحقائق معانيه الخفية كاختلاف المُقلِّدين والمستبصرين، واختلاف العلماء الفقهاء والمُفسِّرون على درجات مختلفة في الفهم، وفي أسرار الدين وحقائق مُعاينة الخفية لاختلاف العلماء الفقهاء بسبب اللغة في ألفاظ التنزيل، والأثر في أقاويل المُفسِّرين، الرأي في قياسات واجتهاد الفقهاء، وفي الأحكام بسبب الروايات السمعية. وسبب اختلاف الأئمة خلفاء الأنبياء أن صاحب الناموس يَحتاج في تكميله إلى نيف وأربعين خصلة تبقى وراءه في أصحابه وأنصاره، ولا تَجتمع في واحد، ولكن لا يخلو أحد منها. ثم تجتمع الأمة على واحد بعد النبي. أما إذا تنازعوا وتركوا الوصية كما هو الحال في الفكر الشيعي فاختلافهم رحمة بينهم. واختلاف أهل الديانات في أمر الدين وسنن أحكامه حكمة جلية لا يعرفها إلا المُحقِّقُون المستبصرون. فلاختلاف العلماء فوائد، فقد يكون داعيًا لطالب الحجة عند خصمائه، عذرًا عند العقلاء وتبنِّيها للجميع. وقد ساعد على كشف عيوب وذكر مساوئ بعضهم البعض، فلا يكون أمر الدين ضيقًا حرجًا لا رخصة فيه ولا تأويل، وهنا تبرز عقائد الشيعة مثل احتياج النبوة إلى الإمامة، إلى أربعين خصلة تبقى وراثة في أصحاب النبي. هذا هو الخلاف المحمود ضد أحادية الطرف ومنطق الفرقة الناجية.٥٢

ويرى الإلهيون أن الخلاف له أسباب موضوعية في المعاني المستقلَّة، دقتها ولطافتها، جلائها وظهورها مثل التفاوت بين الأمور الحسية والأمور الروحانية التي لا تعلم إلا بأوائل العقول.

وميزة الإنسان على الحيوان في صناعاته ولغاته. الحيوان للأمر والنهي والخدمة فقط، والأصوات والمعاني للإنسان. ويفهم الحيوان الزجر والأمر والنداء وهي بعض أقسام الكلام. أما معاني الخير والسؤال والجواب والاستفهام فإنها للإنسان.

ويتعامل الإنسان مع اللغة شفاهًا بالأصوات، وكتابة بالحروف. قبل أن يمارس حياته الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وهكذا يُحلِّل الإخوان أسباب الاختلاف من أعلى ومن أبعد البدايات ومن أصل الأصول، نهاية بالأخلاق والاجتماع والسياسة والتاريخ. وتتفاوَت الناس في معرفة اللغات بين الأكثر والأقل، شفاهًا وكتابة. وطبقًا للحاجات تمَّت القرانات أي الأدوار والمراحل. يتحوَّل الشفاهي إلى مدوِّن، والأصوات إلى حروف. ويُعطي الإخوان أكبر قدر مُمكن من التحليلات في علم اللغة الاجتماعي والسياسي والثقافي والتاريخي.

ويتفاوَت الناس في معرفة اللغات. فمنهم من يفهم لغة واحدة ومنهم من يفهم لغتين، منهم من له معرفة قليلة ومنهم من له معرفة كثيرة، منهم من يقتصر على مستوى اللفظ مثل علماء النحو ومنهم من يتجاوز إلى مستوى المعنى مثل علماء البلاغة. ينشأ الخلاف من وحدة اللفظ وتعدُّد المعنى خاصة واللغات متطورة، تتكلم بها الشعوب في التاريخ. وقد تكون كمية المعلومات أحد أسباب الخلاف؛ إذ إن فضل آدم في كثرة العلوم. فقد كان جيد المعرفة قليل النسيان.٥٣

ويتم تحليل اللغة العربية أكثر من باقي اللغات الوافدة، وأول من نطق بها هو يعرب بن سام. وانتشرت وتشعَّبت بحسب اتفاقات في مواليدهم وبقاعهم وأمزجتهم وطباعهم وأبدانهم وأهويتهم. وتباينت الأسماء، ونشأت المترادِفات، وتباينت القراءات وطرق النسخ.

ثم تحول الخلاف من اللغة إلى الشرائع والآراء والديانات لاختلاف الناس في الرياسة. فتتداخَل السلطة مع اللغة. ويتشعَّب الخلاف في الموضوعات والمواليد والرؤساء والأساتذة وطالبي الرياسة بل وحب الخلاف لحب الظهور طبقًا للمثل الشعبي «خالف تُعْرف».٥٤

ويقع الاختلاف الطبيعي في الدين بسبب مستويات الفهم عند المفسر والمتلقي. ففي الدين ثلاثة مستويات؛ الأول ظاهر جلي للعامة مثل الصلاة والزكاة والصوم والصدقات والقراءة والتسبيح والتهليل والعبادات والإخبار والروايات والقصص. وكلها تسليم وإيمان. والثاني متوسط مثل التفقه في الأحكام والسير والتفسير والبحث عن السير العادلة والنظر في معاني الألفاظ مثل التنزيل والتأويل، والنظر في المحكم والمتشابه، وطلب الحجة والبرهان دون تقليد بل بضرورة الاجتهاد والنظر. والثالث الباطن الخفي، أسرار الدين للخواص البالغين في الحكمة، الراسخين في العلم، النظر في الأسرار وبواطن الأمور الخفية، والأسرار المكنونة، ومرامي أصحاب النواميس في رمزهم وإشاراتهم المأخوذة معانيها من الملائكة وتأويلها وحقيقة معانيها في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف الأنبياء.

وبالرغم من إفهام الله الكل ومخاطبة النبي الناس بلغاتها إلا أن اختلاف اللغات والصالح يوقع الخلاف في فهم الشريعة. فاللفظ له معناه الاشتقاقي الثابت، والاصطلاحي الجديد، والصرفي المتغير. ومع ذلك لا تأويل للشريعة والأحكام بل في العقائد والنظريات. لذلك كان الخلاف نوعين، محمود مثل اختلاف القراء والفقهاء والروايات، ومذموم وهو اختلاف المذاهب والآراء. ولما كانت العربية آخر اللغات والإسلام خاتم الرسالات فإن الوحدة تكون أولى من الفرقة.٥٥

ويقع الخلاف في الدين بسبب الجمهور، فالدين ليس مُعطًى موضوعيًّا بل هو موضوع إدراك فهم. الدين علاقة بين ذات وموضوع. ولما كانت الذوات متفاوتة الفهم كانت للموضوع أيضًا مستويات للفهم. وتتطابق المستويات بين الذات والموضوع لدرجة استحالة معرفة هل هي في الموضوع أم في الذات.

وعلم الدين وآدابه أيضًا له مستويات ثلاث: الأول ظاهر جلي للعامة، مثل الصلاة والزكاة والصوم والصدقات والقراءة والتسبيح والتهليل والعبادات والإخبار والروايات والقصص، وكلها تسليم وإيمان، وهي أفعال ظاهر، مكشوفة، وهي العبادات. والثاني متوسِّط، وهو التفقُّه في الأحكام والسير والتفسير، وهي العلوم النقلية التي تَجمع بين الفقه والسيرة، البحث في السير العادلة، والتفسير، النظر في معاني الألفاظ، والفرق بين التفسير والتنزيل والتأويل، والمحكَم والمتشابه، وطلب الحجة والرهان دون تقليد لضرورة الاجتهاد والنظر. فهو علم بين الفقه وأصول الفقه، بين العلوم النقلية والعلوم العقلية. والثالث الباطن الخَفي الذي يتضمَّن أسرار الدين. وهو للخواصِّ البالغين في الحكمة، الراسخين في العلم، القادِرين على النظر في الأسرار وبواطن الأمور الخفية والأسرار المكنونة، ومرامي أصحاب النواميس في رموزهم وإشاراتهم المأخوذة معانيها من الملائكة وتأويلها وحقيقة معانيها في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف الأنبياء، الإخبار عن بدأ كون العالم وخلق السموات والأرض في ستة أيام ثم الاستواء على العرش، وخلق آدم من تراب، وأخذ الميثاق عليه وعلى ذريته، وعتاب الملائكة لربها، ومراجعتها له، وسجودهم لآدم، وعصيان إبليس واستكباره وشجرة الخلد والملك الذي لا يَبلى، وكل ما يتعلَّق بما في الزمان ودلالتها على المستقبل كالمُكث والبرزخ والبعث والقيامة والحشر والنشر والميزان والوقوف على الأعراف، والجواز على الصراط، ودخول الجنة، نعيمها ولذاتها، ودركات النار وعذاب أهليها. وهي كل ما يتعلَّق بعلم الغيب وأمور الخلق والمعاد.

وهناك أمور مُشكلة في الدين، يُمكن إجمالها في تسعة أصول لأنها تضم ثلاثة موضوعات: جسمانية طبيعية محسوسة، ورياضية متوسطة، وروحانية معقولة. وكل منها على ثلاث درجات، جلي ومتوسِّط وخفي. أما الفروع فلا متناهية على النحو الآتي:

ولا تجوز المعرفة الحسِّية بالله وإلا تمَّ الوقوع في التشبيه. والأمور المعقولة هي المحسوسة بعد غياب الحس. فالقسمة الثلاثية إذن ترجع إلى قسمة ثنائية. والأمور الرُّوحانية هي الأمور الإلهية المُبرهَن عليها. فالبرهان ميزان العقل. ومن ثَمَّ لزم المنطق ومناهج البحث. والبراهين من نوع موضوعاته. المَحسوسات براهينها حسية، والمعقولات براهينها عقلية، والإلهيات براهينُها مثل البراهين الهندسية والمنطقية، تبدأ بالحس والمشاهَدة وتنتهي إلى الاستدلال. وهي أشياء لا تُدركها الحواس ولا تتصوَّرها الأوهام ولكن بالدليل والبرهان. يَعرفها العلماء الموحِّدون بالله مثل أنَّ الله قادر وحكيم وخال لا يُوصف بالقيام والقعود.

ولا يَليق كل علم بكل إنسان. وكما أن الفروع لا متناهية كذلك طبقات الناس غير مُتناهية. ولما كانت لكل موضوع، جسماني أو رياضي أو رُوحاني ثلاثة مُستويات: القريب من الأوهام، والمتوسِّط، والبعيد عن الأوهام كانت الناس على ثلاث طبقات: الأولى العامة والنساء والصبيان والجهال، والثانية المتوسِّطون، والثالثة الخاصة والعلماء والحكماء. ويَنطبق ذلك على كل الأنبياء وليس على الإسلام وحده على النحو الآتي:

وواضِح أن علوم الباطن عند الإخوان علوم نظرية صرفه، كلها تأويل وألغاز ورموز انتهت مع الزمن مع أنها أسس نظرية للعمل. فالخلق والبعث الخطيئة والخلاص يشيران إلى البداية والنهاية، الماضي والمستقبل. والذات والصفات والأفعال تُشير إلى الإنسان الكامل. والإمامة والإيمان والعمل يُشيران إلى الدولة والمواطن. ولا تفاضل بين العلوم أو بين الصنائع. فكلها وظيفية تُؤدي دورها في النظر إلى الشريعة. فلم تظهر مقاصد الشريعة وهي التي يتَّحد فيها النظر بالعمل.

قد يكون الخلاف بين الإنسان ونفسه في مذهب. ولا يدلُّ ذلك على قلة التحصيل ورداءة التمييز ونقص العقل؛ إذ يتَّسم العقلاء برجحان العقول وحسن تصرفاتهم في أمور الدنيا. يتَّفقون في الأصول ويختلفون في الفروع. يتفقون في أوائل العقول في الصناعات والمعارف ثم يَختلفُون بعد ذلك في الوسائل والتطبيقات. ففي كل علم هناك اتفاق بين أهل الصنعة على أصوله واختلاف على فروعِه ففي العدد اتفاق في الماهية واختلاف في كميته وأنواعِه. وفي الهندسة اتفاق في الأبعاد الثلاثة واختلاف في كمياتها. وفي التنجيم أي علم الهيئة اتفاق في الأصول مثل كرية الإشكال واختلاف في تركيبها. وفي صناعة التأليف أي الموسيقى، اتفاق في النسب واختلاف في التأليف. وفي الطبيعيات اتِّفاق على الأصول الخمسة: الصورة والهيولى والمكان والزمان والحركة، واختلاف على تطبيقاتها في عالم الأفلاك وعالم الأرض. وفي عالم الأفلاك الاتفاق حول وحدة المحرِّك والاختلاف في الكيفية. وفي الكون والفساد، الاتِّفاق على الطبائع الأربعة والاختلاف في كيفية المقادير، وفي حوادث الجو الاتفاق حول طبائع كرة النسيم والزمهرير والأثير والاختلاف في كمية المقادير. وفي المعادن الاتفاق على الزئبق والكبريت والاختلاف في التعليل. وفي النبات والحيوان الاتفاق على الأنواع والاختلاف في علل الاختلاف.

ويقوم هذا الوصف كله على رؤية أصولية، الاتِّفاق في الأصول والاختلاف في الفروع. وهي مشكلة الواحد والكثير بتعبير القدماء، والوحدة والتنوع بتعبير المُعاصِرين، ويَنطبق ذلك على كل حضارة. فإذا كان التنوع غالبًا على الوحدة في الحضارة الغربية، والوحدة غالبة على التنوع في الحضارة الإسلامية فإنَّ التوازن بين القطبين في الحضارتين يُعيد التوازن بينهما في الوعي الجمعي مما يتطلَّب بعض الوحدة في الحضارة الأوروبية وبعض التنوع في الحضارة الإسلامية.٥٦
وقد يَرجع الخلاف في الآراء إلى اختلاف الطبقات للعقلاء. وتعني الطبقات الاجتماعية الطبقات المهنية لما كانت المِهنة تُحدِّد الطبقة وكانت الطبقة تتحدَّد بالمهنة، ابتداءً من علوم الدين ونهاية بأمور الدنيا. ويُحصي الإخوان حوالَي سبع طبقات اجتماعية مِهنية مع أنَّ العدد الصحيح لا يُحصيه إلا الله. وهي كالآتي:
  • (١)

    أهل الدين والشرائع والنبوات والنواميس وحفظ إحكامها والتعبد بها. فالعلماء ورثة الأنبياء. وهي الطبقة العليا. في حين يَتساءل الفلاسفة هل الأنبياء أذكى عقلًا أم أخصب خيالًا؟ وفي نسبة العقل للخيال يَختلف الفلاسفة عن الأنبياء.

  • (٢)

    أهل العلم والحكماء والأدباء والفلاسفة وأصحاب الرياضيات والمعارف. فالحكماء بعد الفقهاء في الترتيب الطبقي من أعلى إلى أدنى.

  • (٣)

    الملوك والسلاطين والأمراء والرؤساء وأرباب السياسات والقوَّاد والأعوان والكُتاب والعمال والمخزان والوكلاء أي كل جهاز الدولة الإداري الذي يَستعمل عقله قبل إرادته، ونظره قبل قوته. فالدولة هي الدولة العاقلة.

  • (٤)

    البناءون والزراع والرعاة والأكراء. وهم قِوَام في الزراعة والتشييد والتجارة. وهي طبقة المُنتجين وتيسير المنتجات ونقلها.

  • (٥)

    الصناع وأصحاب الحرب والمُصلحُون للأمتعة والحوائج. وهي طبقة العمل اليدوي الحرفي وكل ما يتعلَّق بتحسين المنتجات الزراعية والرعوية.

  • (٦)

    المتعيشون وهم الخدم الذين يقومون بتسهيل الأعباء عن الغير مثل العمالة اليومية والقيام بالخدمات العامة.

  • (٧)

    الضعفاء والفقراء والمساكين مثل الشحاذين والمكدون. هم ملح الأرض الذين يقومون بأدنى الحرف أو العاطلين العاجزين من قاع المجتمع.

وكل طبقة لها رئيس ومرءوس، على الرئيس حسن السياسة وعلى المرءوس حسن الطاعة في حدود الدين والاعتقاد. فالطاعة مشروطة بالخير. ورجحان العقل في كل طبقة حسن القيام بالواجب وحسن العشرة مع طبقتِه في إطار الفضيلة. فالمهنة حسن العمل وحسن العلاقات مع الآخرين.٥٧

فهل لقِسمة الطبقات الاجتماعية للعقلاء إلى سبع طبقات دلالة رمزية أم إنها قسمة طبيعية للحرف؟ وهل العقل هو العقل الحرفي المِهَني بالضرورة أي العقل العملي دون عقل نظري مُستقل عن الحرفة يَخترق الحرف والطبقات؟ وهل العقل مشروط بالطبقة الاجتماعية وبالتالي يكون عقل العلماء بالضرورة أرجح من عقل الفقراء والمساكين؟ وماذا عن العلماء الذين يَخرُجون من أدنى الطبقات والخبل أعلاها؟ هل هذه قسمة عقلية من بِنية الموضوع أم تبرير نظري للأوضاع الطبقية للعصر؟

والعجيب تبرير الفقر والدعوة له كما تفعل الصوفية. وحكمة الله في خلق الفقراء تَخفى على الأغنياء بالرغم من أن كل أسبابه غير مُقنعة. فسوء اختيار الفقراء وشؤمهم وخذلانهم رجم بالغيب وبحث عن سبب أسطوري غيبي وهمي. الفقر نقص في الوعي والممارسة. وعدم خلقهم أفضل مجرَّد تمنٍّ لا يلغي الفقر باعتباره واقعًا. الفقر ليس مخلوقًا من الله بل مصنوعًا وموضوعًا من فعل البشر. ليس الفقراء معاقبين بما سلف في الأدوار الماضية وهو رأي أصحاب التناسُخ. فهذا إنكار للمسئولية الفردية وأقرب إلى توارُث الخطايا كما هو الحال في المسيحية. وكيف يقال إن الله لا يفكر فيهم ولا يُهمُّه أمرهم وإلا كان قادرًا أن يغنيهم وأن يُريحهم لأن ذلك بناقض العدل، وتعليق وضع اجتماعي على علة خارجية وأشرفها وهي الإرادة الإلهية خاصة وأن الله قد شرع للفقراء الثورة وجعل لهم نصيبًا من بيت المال. ونقد تصور اليهود لله بأنه فقير وهم الأغنياء. ليس الفقر من مُوجبات أحكام الفلك دون قصد قاصد أو وضع واضع. فهي علَّة أسطورية لا علاقة لها بالوضع الاجتماعي. ولماذا يكون الفقر وحده من موجبات أحكام الفلك وليس الغنى؟ وما مقياس التمييز بينهما؟ ليس الفقر مجازاة في الثواب لأنَّ الحساب لم يتمَّ بعد، والزمن ما زال باقيًا. ولماذا يكون الفقر ثوابًا وليس الغنى؟ ولماذا يكون التعويض في الآخرة وليس في الدنيا؟ ولماذا يكون الفقر أصلح للفقراء ولا يكون كذلك للأغنياء؟ ولماذا يكون الغنى أصلح للأغنياء ولا يكون كذلك للفقراء؟ ليس الفقر نتيجة لسبق العلم الإلهي والقدر وما على الإنسان إلا الإيمان والتسليم والصبر والرضا وإلا كان الله ظالمًا، مُحابيًا للأغنياء على حساب الفقراء، والله عادل لا يَظلم، ويجعل أرزاق الناس من كسبهم وطبقًا لأعمالهم. ولماذا يكون الفقر إظهارًا للقدرة وتحكم الملك ولا يكون ذلك أيضًا للأغنياء؟ ولماذا يكون الفقراء ضحية البرهان؟ ولماذا يكون الفقراء موعظة لغيرهم ولا يكون الأغنياء كذلك؟ ولماذا يكون الفقر جزءًا من تسبيح الكون وأحد مظاهر عدله ويكون الفقراء هم أساس هذا الميزان وليس الأغنياء؟ وهل أسباب الفقر العلمية هي الظن بالله ظن السوء وتحويل المشكلة الواقعية إلى مشكلة وهمية، وهي نفس المشكلة الكلامية في العدل أيهما أفضل؛ الفقر أم الغنى.٥٨

ويتمُّ تسكين الفقراء ببيان فضائلهم وحكمة وجودهم التي تَخفى على كثير من المؤمنين. فهم أشد الناس يقينًا بالآخرة، وأسرع الناس استجابة لدعوة الأنبياء للخلاص، وأخف مؤنة لا يكلفون أحدًا شيئًا، وأقنع باليسر، وأرضى بالقليل، وأكثر ذكرًا لله حتى ولو كانت البطون جائعة، وأرق قلبًا في التفكُّر، وأخلص في الدعاء!

(٥) نهاية التاريخ أم بداية التاريخ؟

والخلاف أيضًا سياسي منذ وفاة الرسول والتطلُّع إلى الرياسة، واستعمال العقائد مثل القضاء والقدر لتبرير الخلاف السياسي، سلطة الحكام وطاعة المحكومين، فعلم الله المُسبق وإرادته نافذان بما في ذلك ارتكاب المعاصي والكبائر من الحكام السلاطين ومحاربة المعارضين باعتبارهم مُنكرين للقضاء والقدر ثم تربية العامة على الاستسلام حتى يتسلَّط الحاكم ويُطيع المحكوم، وإيهام العامة بأن ما وقَع لا يُمكن دفعه ومن ثَمَّ استحالة تغيير الأمر الواقع والانتهاء بالقبول والتسليم بدلًا من الرفض والاعتراض. وقد كان ذلك سلاح الأمويين في البداية والأشعرية في النهاية.

لذلك اختلف الناس اختلافًا سياسيًّا على خلافة الرسول وليس خلافًا دينيًّا. ثمَّ أتت العقائد والمذاهب لتبرير الخلاف السياسي طموحًا إلى السلطة. ثم تحول الخلاف إلى انحراف، والرأي إلى سيف. وأشعل المُتكلِّمون ذلك باسم الجدل والمناظرة. فأصبحت في ظاهِرهًا فرقًا تَتناظر وتَتحاور فيما بينها وفي باطنها أحزاب سياسية تتصارَع وتتقاتل بالسلاح. وشتان ما بين الحوار والاستئصال. ووصل الأمر إلى وضع عقائد لم يأتِ بها الرسول وإيهام العوام بها ونسبتها إلى الرسول، وإلى وضع شرائع ونظُم ما أنزل الله بها من سلطان. واعتبرت الشريعة ناقصة في حاجة إلى إكمال دون استنباط الفروع من الأصول.

نشأت الفتن ووقعت الحروب، في الظاهر خلافات عقائدية، وفي الواقع طلب الرياسة. واستُثيرت الدهماء ضد العلماء والأتقياء لاتِّهامهم بالكفر ونسبة أقوال لا يقولها عاقل إليهم اعتمادًا على الوصية والحمية والجهل. وبعد حصار العلماء الأتقياء تجتمع الأغلبية مع علماء السوقة فيُحرِّفون الشريعة، ويئولونها طبقًا لمصالحهم.٥٩ مصير الدين إذن أن يتحوَّل إلى السلطة، ومصير السلطة الفناء للصراع عليها بين الحاكم والمحكوم. ومن ثَمَّ يتحوَّل الدين إلى دور في التاريخ.

وقد يحدث هذا الانهيار في التاريخ لأنَّ الناس أشرار بطبائعهم. هم إلى الحيوانات أقرب، وعن الملائكة أبعد، ولا وسط بين الاثنين كما جرت عادة الحكماء. الصراع الطبقي هو الذي يتحكَّم فيهم.

والحسد هو الدافع الأول في سلوك البشر، وهو عام بين السلطان والرعية بين الرجل والمرأة، بين الغنيِّ والفقير، بين العالم والجاهل، بين الشريف والخسيس. فالسياسة أخلاق.

ثمَّ يحدث الانهيار في التاريخ، من الوحدة إلى الفرقة، ومن الخير إلى الشر، ومن المحبة إلى التباغُض، ومن الرحمة إلى القسوة، ومن الآخرة إلى الدنيا، ومن الفردوس الموجود إلى الفردوس المفقود. فالتاريخ انهيار من النبوة إلى الخلافة إلى الملك العضود، وخير القرون قرن الرسول. ثم تتلُو الطبقات فضلًا، طبقات العلماء والفقهاء، انتقالًا من الأكثر إلى الأقل حتى يَنتهي الفضل ويتوقَّف التاريخ. فيبدأ البعث من أجل العود إلى الفردوس الأول. فقد انتهى الامتحان، وانقَضى الاختبار.٦٠
ويُعطي الإخوان أمثلة على هذا الانهيار بالقصص على لسان الحيوانات خوفًا من الاضطهاد قصة الغربان والباز، وقصة الحمام والعقيق، وقصة الثعالب والذئب. ويُعطَى مثلان للتكالب على الدنيا، الأعمى والمقعد والناطور وصاحب البستان، والرجل السمكة. كما تَروي وصايا الملك لأولاده من أجل مُقاوَمة الدولة والحرص على تقدم التاريخ.٦١
ويُقدم الإخوان رؤيتهم لمقاومة انهيار التاريخ الذي سببُه الاختلاف في الدين، مناهج عقائد وشعائر عن طريق الإشراق من أجل عودة التاريخ إلى وحدته الأولى وبراءته الأصلية. «الإشراق هو الحل» بلُغة الحركات الإسلامية المعاصرة «الإسلام هو الحل»؛ فالإشراق حل للخلاف النظري، وتجميع للناس على المحبَّة والتضامن، والعودة بالسياسة إلى الكَمال الرُّوحي. هنا تَكتمل الشريعة كحقيقة وطريقة، وتصبح طريقًا إلى الله وليس جدل، وطريقة الرؤية المباشرة وليس الجدل والمناظَرات، سبيل الحق وليس الصراع السياسي، الوحدة وليس التفرُّق، الخاصة وليس العامة، الآخرة وليس الدنيا، الرياسة الروحية وليست الرياسة السياسية، طريق الله وليس طريق الناس، طريق النجاة وليس طريق الهلاك، سبيل الله وليس سبيل الشيطان، الاتجاه نحو العمل وليس القول وزخرف الكلام. ويَرمز الإخوان لذلك بحكاية «الأعمى والمقعد والبستان».٦٢

فهل «الإشراق» هو الحل؟ الانسِلاخ عن الدنيا، وهروب الفرد من المجتمع، ومن الواقع إلى المدينة الفاضِلة كالصوفية؟ وإذا كانت المقاوَمة السلبية هي الوحيدة المُتاحة بعد استِشهاد الأئمَّة من آل البيت الخارجين على الحاكم الظالم فهل المقاوَمة الإيجابية الآن ميئوس منها أم إن الحل في المقاومة والصمود والتغير الاجتماعي والسياسي والثقافي من أجل تحقيق ثورة دائمة؟

١  ويُشبه ذلك قانون المراحل الثلاث عند أوجست كومت في الفلسفة الغربية، المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة العلمية.
٢  ج١، ٢٦، ج٣، ٢٨٨، ج٤، ٤، ٨٤، ج٥، ١٣١.
٣  ج٤، ١٠٠-١٠١.
٤  ج٣، ١٥٣–١٥٥ ج٤، ٥٣٥-٥٣٦.
٥  ج٤، ٥١٤، ٥١٨، ٥٣٦–٥٣٨ ج٤، ١٠٢–١٠٨.
٦  ج٢، ٣٦٦، ٣٥٥، ج٣، ١٦١، ١٦٤، ٣٨٠، ج٤، ٤٨٨، ٣٥٦، انظر «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الخامس، من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية، ص٣٩٣–٦٥٣.
٧  ج٤، ٤٣٩–٤٤٢ انظر نقدنا للجدل في: العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول، المقدمات النظرية، ص١١١–١١٣.
٨  ذكر الجل ومشتقاته في القرآن (٢٩)، معظمها سلبية (٢٦)، والباقي إيجابية (٣).
٩  ج٤، ٤٨٤–٤٨٨، ٤٩٣–٤٩٨. هذا هو تصور المدرسة الاجتماعية التاريخية للدين عند كومت ودوركايم وبريل وعند كل فلاسفة التاريخ، هردر وهيجل وفيكو وكوندرسيه وتوينبي في الفلسفة الغربية.
١٠  ج٤، ١، ٤٠١–٥٣٨ انظر «من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية» في «من العقيدة إلى الثورة» ج٥ الإيمان والعمل والإمامة، مدبولي، القاهرة ١٩٨٨، ص٣٩٣–٦٥٣.
١١  ج٤، ١، ٤٠١–٤٠٨.
١٢  ويُشبه ذلك تحليل الحِسِّيين والعَقليين لوسائل المعرفة في بدايات العصور الحديثة في الغرب عند لوك وهوبز وهيوم وكانط. وهو التصور المادي السيكوفيزيقي الذي نقَده برجسون في «المادة والذاكرة».
١٣  انظر دراستنا: الفنون البصرية والفنون السمعية، أيهما أقرب في إلى الوجدان العربي؟ في «حصار الزمن» (تحت الطبع).
١٤  ج٤، ١، ٤١٦–٤٢٣.
١٥  ج٤، ١، ٤٥٢–٤٥٥.
١٦  وقد استخدم أثناء الجمهورية الثانية في مصر «من لا إيمان له فلا أمان له» ضد المعارضة السياسية.
١٧  ج٤، ١، ٤٢٤–٤٢٧.
١٨  ج٤، ١، ٤٣٦–٤٣٨.
١٩  السابق ج٤، ٤٠١–٤٥٠، ٤٤٣–٣٤٦.
٢٠  ج٤، ١، ٤٤٣–٣٤٦.
٢١  ج٤، ١، ٥٠٨.
٢٢  هذا هو صلب التجربة الغربية.
٢٣  وهذا مثل كل فلسفات القرن السابع عشر عند كبار الديكارتيِّين.
٢٤  وهو ما سمَّاه هوسرل Nose, Nome.
٢٥  ج٣، ٢٣٢–٣٣٣. ويُمكن إعداد عدة رسائل عن المنطق والرياضة، وعلم النفس، والمنطق واللغة عند إخوان الصفا.
٢٦  ج٤، ١، ٥٠٨.
٢٧  ج٤، ١، ٥٠٨-٥٠٩.
٢٨  ربما يجد الإنسان في حياته بعض التصديق لذلك. ففي الثانوية العامة دخلت شعبة الرياضة لأكون مُهندسًا ثم خروجي منه إلى شعبة الفلسفة بعد أن ملأ أستاذ الطبيعة السبورة بمُعادَلات رياضية لم أفهم منها شيئًا. وفي السنة الرابعة من الجامعة قلَّت درجاتي في مواد علم النفس التطبيقي دفاعًا عن علم النفس الخالص، وعلم الجمال نقدًا لعلم الجمال الحسِّي دفاعًا عن علم الجمال الوجداني، وفي الفكر العربي الحديث نقدًا لمحمد عبده. فسافرتُ إلى فرنسا غاضبًا دون انتظار. وأثناء إقامتي بالمغرب تمَّ طردي منها بعد عامَين لمُحاضَرة عامة عن نظام الحكم في الإسلام ونقد النظام الملَكي فسافرت إلى اليابان بعد اعتراض أجهزة الأمن في البحرين، واستمراري في اليابان بعد عدم قبولي في الإمارات، فعظُمَت تجاربي في الغرب والشرق.
٢٩  ج٤، ١٠٢، ٥١٨.
٣٠  ج٤، ٦٨، ١٣٢.
٣١  ج٤، ١، ٥١٦-٥١٧.
٣٢  ج٤، ١، ٥١٧-٥١٨. وهي التَّفرقة الشهيرة في الظاهريات المُعاصرة في الغرب بين Nose, Nome.
٣٣  ج٤، ١، ٥٠٠–٥٠٢.
٣٤  ج٤، ١، ٥١٨-٥١٩.
٣٥  فصل في مسألة الجبر ج٤، ٤٩٨–٥٠٠.
٣٦  ج٤، ١، ٥٠٢–٥٠٥.
٣٧  ج٤، ١، ٤٥٦–٤٥٩.
٣٨  انظر دراستنا «العقل والثورة عند ماركوز»، قضايا معاصرة ج٢ في الفكر الغربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٧، ص٤٦٦–٥٠٢.
٣٩  عدد كانط وفشته وهيجل في الفلسفة الغربية الله أقرب إلى العلة الغائية.
٤٠  ج٤، ١، ٤٥٩–٤٦١.
٤١  وهذا هو موقف الرواقية القديم وحكماء المسلمين ومعظم الفلاسفة الغربيين في العصر الحديث مثل اسبينوزا وكانط.
٤٢  ج٤، ١، ٤٦١–٤٦٣.
٤٣  ج٤، ١، ٤٦٤–٤٦٧.
٤٤  هذا الذي يسميه هوسرل نشأة العالم في الشعور Der Ursprung der Welt.
٤٥  ج٤، ١، ٤٧١–٤٧٦.
٤٦  ج٤، ١، ٤٧٦–٤٨٠.
٤٧  انظر طبعتنا: الإمام الخميني: الحكومة الإسلامية، القاهرة ١٩٨٠.
٤٨  ج٤، ١٤٧-١٤٨.
٤٩  انظر نشرتنا: الإمام الخميني، جهاد النفس أو الجهاد الأكبر، القاهرة ١٩٨١.
٥٠  ج١، ١٤٤، ١٤٥، ج٤، ٥٣٥-٥٣٦.
٥١  ج٣، ١٨٠، ١٩٩، ج٤٦٤، ٤٧٠، ج٥، ٤٨-٤٩، ٥٩، ١٨٩، ٣٣١.
٥٢  ج٤، ٤٨٨، ٤٩١.
٥٣  ج٤، ١، ٤٠٥–٤١٣، ج٣، ١٧، ٨٤-٨٥، ١٥١.
٥٤  ج٣، ١٧، ١٦٣–١٦٧.
٥٥  ج٣، ١٧، ١٦٤–١٦٧.
٥٦  ج٤، ١، ٤٣٢–٤٣٦.
٥٧  ج٣٤، ١، ٤٢٨-٤٢٩.
٥٨  ج٤، ١، ٤٢٩–٤٣٢.
٥٩  ج٣، ١٧، ١٦٥-١٦٦، ١٥٣-١٥٤.
٦٠  ج٣، ١٧، ١٦٠–١٦٦.
٦١  ج٣، ١٧، ١٦٧–١٧٧.
٦٢  السابق ج٣، ١٧، ١٥٥–١٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤