ثالثًا: تكوين البِنية الثنائية والثلاثية (الكندي)

تكوَّنت البنية الثلاثية للحكمة عند الكندي تدريجيًّا قبل أن تمرَّ بمُنعطفاتها الرباعية عند إخوان الصفا، والخماسية عند الفارابي قبل أن تستقرَّ وتحكم في الثلاثية عند ابن سينا.

وبالرغم مما يتَّسم به فكر الكندي في الرسائل الفلسفية من التكرار والإسهاب؛ لأن الحكمة لم تَنبنِ بعد، والفكر الفلسفي ما زال ليِّنًا لم يظهر هيكله بعد إلا أنه يمكن وصف تكوين البنية الثلاثية ابتداءً من إدخال العلم الإلهي مع العلم الإنساني، ثم تفصيل العلم الإنساني في نظرية المعرفة ومناهج البحث.

وعلى العكس من ذلك، مِن مميزات الكندي في الرسائل العِلمية الاختصار والإيجاز دون التطويل والإسهاب؛ إذ إنه يَتعامل مع الموضوعات على نحو عِلمي على عكس ابن سينا في التطويل، حتى في الموضوعات الصورية الخالصة مثل أشكال القياس.

ومع ذلك يظلُّ أسلوب الكندي مُضطربًا؛ فالفلسفة ما زالت في البداية لم تستقرَّ على منهج محدَّد في البحث، بالإضافة إلى صعوبة الخروج من الكلام إلى الفلسفة، ومن الجدل الكلامي إلى البرهان الفلسفي، كما هو الحال في «سجود الجرم الأقصى».

(١) العلم الإنساني والعلم الإلهي

وبالرغم من اقتراب هذه القسمة من موضوع اتِّفاق الفلسفة والدين، إلا أنها أقرب إلى نشأة قسمة علوم الحكمة لإفساح المجال للعِلم الإلهي بجوار العلم الإنساني في نظرية واحدة للعلم، ولإيجاد مكان للوحي، المعطى الجديد، داخل الحكمة وللنبوة داخل الفلسفة من أجل اتساع المنظور الفلسفي لصالح الفلسفة وتعقيل الوحي لصالح النبوة. ترتيب العلوم يَفسح المجال إلى إدخال علم الأنبياء ولكنه لا يأتي إلا في النهاية بعد معرفة العلم الأول، وهو العلم الطبيعي، ثم العلم الثاني وهو علم ما بعد الطبيعة، ثم يأتي العلم الثالث وهو علم النبوة والوحي.١ ولا يَستطيع كل البشر الحصول على المرتبة القصوى للعلم لما في طبائعهم. ولكن الله يختصُّ مِن عباده من يُلهمهم رسالاته إلهامًا، ويُثيره في نفسه بلا مقدمات أو أوائل لأنه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ليس الغرض هنا توسيع نسق أرسطو فقط، بل إكمال منهج العلم. الدين حالة خاصة، والعلم حالة عامة، ومن ثَمَّ يكون السؤال: هل صحيح أن علوم الأنبياء لا يحتاج إلى أوائل؟ كيف يُمكن إرجاع كل شيء إلى الإرادة بلا أسباب أو علل، وفي رسالة البحث عن العلة؟ وهل الغاية خضوع الأنفس دون اعتراض أو فهم؟

ولا يَعني الجمع بين العلمَين، الإنساني والإلهي، إلغاء الفرق بينهما. فالعلم الإنساني يأتي بطلب وتكلُّف وحِيَل، وهي نظرية المعرفة ومناهج البحث، في حين أن العلم الإلهي يُعطى بلا طلب ولا تكلُّف ولا حيلة بشرية، ولا زمان ولا منطق ولا رياضيات. تكفي إرادة الله وتطهير النفس وإنارتها للحق بتأييده وتسديده وإلهامه ورسالته.

وهي تَفرقة غير دقيقة؛ فالجانب الحدسي في العلم الإنساني يأتي بلا تكلُّف وعناء. إنما يأتي بغته مثل العلم الإلهي. والجانب النظري في العلم الإنساني يأتي أيضًا بلا تكلُّف نظرًا لوجود بداهات العقول والمعارف الفِطرية. ويأتي العلم الإلهي بتكلف وعناء، سماع النبي له، ونزع نفسه من بين جنبَيه، ونقله وكأنه يَحمل الجبال، وخوفه وارتعاشه «زمِّلوني، زملوني»، «دثِّروني، دثروني». كان الرسول يبحث قبل الوحي عن الحقيقة، ويتعبَّد في غار حراء. كما أنه بعد التبليغ جاهدَ الكفار والمنافقين، وحارَبَ وعانى، وجُرحت ثنيَّته. واستعمل الرسول عقله واجتهاده في الفهم والسلوك والحوار والحرب، وأشار عليه الناس. ولا يأتي العلم اللدني عند الصوفية إلا بعد الرياضيات والمجاهدات وعناء الطريق ومشاقِّه. وإن قيمة العلم الإنساني هو في البحث والطلب. ولو خُيِّر الإنسان بين البحث عن الحقيقة وإعطائها له جاهزة لآثر البحث عنها.٢

ويَمتاز العلم الإلهي بالإيجاز والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب على عكس العلم الإنساني الذي في حاجة إلى دأب طويل في البحث والتربُّص. فعندما سُئل الرسول مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أجاب الوحي قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إلى قوله كُنْ فَيَكُونُ. فهو دليل عقلي سمي فيما بعد قياس الأولى، بين وموجز. يُبين الكندي عقلانية الوحي ووسائل إقناعه ممَّا يُبين حاجة العلم الإلهي إلى العلم الإنساني ليفهمه ويبين عقلانيته وطرق إقناعه. ربما لم يكن السؤال عن الأمد والخفية، بل عن الواقع ومسائله وحياة الناس، ومن ثَمَّ توضع المسائل النظرية مثل الرُّوح بين قوسين.

والحقيقة أن الكندي يُعلي من شأن العلم الإلهي على حساب العلم الإنساني. هل كان الإعجاب باليونان قد بلغ درجة الإعلاء من شأن العلم الإلهي على حساب العلم الإنساني وإفساح المجال للوحي كي يكون أعلى من الفلسفة أم إنَّ ذلك طبيعي في البداية حتى ينشأ التعادُل بعد ذلك عند الفارابي وابن سينا واتِّفاقهما معًا عند ابن رشد؟ ولم الإقلال من شأن العلم الإنساني، المنطق والرياضيات، من أجل الدفاع عن العِلم الإلهي؟ وكيف يأتي يقين العقول من الله وليس من يقينها الداخلي ومنطقها وطرق النظر والاستدلال؟ ولماذا لا يكون العلم الإلهي وسيلة لإدراك العلم الإنساني ما دام الله قد تكلَّم للبشر، وأرسل رسله للناس وتحدث بلغة البشر وبصور البشر، وقرَّب نفسه للناس بلغتهم ويبين لهم مصالحهم؟ واضح أن الكندي ما زال مُتكلمًا أو فقيهًا داعية إلى القرآن. يُرجِّح أساليب القرآن على منطق اليونان في بداية الحضارة الإسلامية كما رجَّحها السيوطي في نهايتها في فترتها الأولى. ويستعمل عبارات الكافرين والمؤمنين، وهي عبارات غير فلسفية بل فقهية لا تدل على حوار بل على قطيعة ورفض واستبعاد.٣

ويُبيِّن الوحي خروج الشيء من نقيضه؛ النار الحمراء من الشجر الأخضر وهو دليل على الإعجاز؛ إذ يخرج الشيء من ذاته ولكنَّه لا يخرج من نقيضه. إذا خرج الشيء من ذاته، والذات من ذات، تسلسل الأمر إلى ما لا نهاية. الله يَخلق الأجرام من لا أجرام، والأيس من الليس. كذلك خلق السموات والأرض في لا زمان في حين أنكر الكفار ذلك قياسًا على أفعال البشر. كلما عَظُم الخلق احتاج إلى زمان أطول. والله لا يحتاج إلى ذلك.

والحقيقة أنه إذا كان خَلق الشيء من نقيضه دليلًا على القدرة فإنه يكون أيضًا دليلًا على السِّحر كالساحر الذي يُخرج حمامةً من كمِّه، وأمواسًا من فمه، ونارًا من حلقه، وبيضةً من علبة خاوية. والجدل مُمكن في الطبيعة، إخراج الشيء من نقيضه. بل ممكن أيضًا في العقل بدليل إخراج اللاهوت السلبي من نقيضه، ووصف الله مناقضًا لوصف الإنسان، ووصف الإنسان مناقضًا لوصف الله. ولماذا لا تستمدُّ النار من النار إلى ما لا نهاية؟ هل من الضروري لإثبات العلم الإلهي إيقاف التسلسل إلى ما لا نهاية، والانتهاء إلى نارٍ أُولى خلقها الله من نقيضها؟ هناك تصور دائري لعلاقة العلة بالمعلول أن تكون العلَّة معلولًا وأن يكون المعلول دون ما حاجة إلى علة أولى أو نارٍ أولى. التصور الطولي هو التصور الديني. والتصور الدائري هو التصور العِلمي. وكيف يُمكن الخلق في لا زمان، والزمان شرط الخلق لما فيه من توتُّر، وليس عيبًا أو نقصًا؟ ليس العلم الإلهي علمًا عجيبًا وآيات فاصلة على نقيض العلم الإنساني وتفسير الظاهر بالجواهر الثواني. بل هو علم يمكن فهمه بالعقل، والتحقق من صحته بالتجربة. كانت المُعجزات دليلًا على صدق الأنبياء لا على صحة الوحي قبل أن يكتمل العقل ويُصبح قادرًا بنفسه على التصديق. كما أنه علوم مصلحية دفاعًا عن مصالح الناس وليس به أعاجيب ولا آيات ولا أسرار كما هو معروف من صفاته في تاريخ الأديان السابقة على الإسلام.

فالحقيقة أنه لا يُمكن التمييز بين العلمَين؛ الإلهي والإنساني. فالوحي يقوم على أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ؛ أي إنه مُرتبط بالمكان والزمان، ومقيس على القدرة الإنسانية، ومُطابق للفطرة، وليس خارج الطبع والجِبلَّة. والوحي بعد التصديق والإقناع الحر يُصبح طبيعةً ثانية وتعبيرًا عن الكمال، وتحقيقًا للغاية الإنسانية. ولا يَتبعه الإنسان عن طاعة وانقياد أعمى كالبهيمة العجماء. العلم الإلهي علم إنساني بدليل إرساله للإنسان. موضوعه إنساني، ولغته إنسانية، وتصوراته وتشبيهاته إنسانية، وفكره نظام إنساني. بل إنَّ الكندي يستشهد بلغة العرب وبشعر العرب لفهم نصوص الوحي، مما يدلُّ على عدم استغناء العلم الإلهي عن العلم الإنساني. ويُحيل إلى عادة العرب في تشخيص الطبيعة والحديث عن مظاهرها والتعامل معها تعاملًا إنسانيًّا، مخاطبة الليل، وكما فعل القرآن في جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، ونسبة الإرادة إلى الجماد. والعلم الإلهي في حاجة إلى العلم الإنساني، صفاء النفس وطهارة القلب. فالاختيار الإلهي للأنبياء ليس اختيارًا بلا شروط وبلا ضرورة اجتماعية وحاجات بشرية، وما تَفرضه ظروف المجتمعات في مراحلها التاريخية مثل وضع شبه الجزيرة العربية وتشتُّت قبائلها والتعبير عن ذلك في أيديولوجية الوحدة والقوة في وقت انهيار إمبراطوريتَي الفرس والروم.

كيف لا يَتأسَّس العلم الإلهي ويكون بلا أساس، مجرَّد التعبير عن الإرادة الإلهية، مجرَّد إلهامٍ للرسُل يطلب من الناس الانصياع وكأنَّهم آلات لا إرادة لها؟ إن كل مُحاولات تأسيس العلوم إنما كانت لتأسيس العلم الإلهي موضوعًا ومنهجًا؛ مثل علم أصول النظر، علم العقائد، وعلم أصول العمل، علم أصول الفقه. ودون ذلك يتحول العلم الإلهي إلى نوع من الاغتراب الديني، بدلًا من أن يتوجه الله إلى الإنسان يتوجَّه الإنسان إلى الله، فينقلب قصد الله وهو الإنسان، ويُبدل اتجاهه. ألا تقوم علوم الأنبياء أيضًا على مقدمات وأوائل وأصول؟ وهل تَنقاد العقول لها بالتبعية أم بالبرهان؟٤
إنَّ ارتباط العِلمَين في صالح العلم الإلهي أولًا؛ إذ يُؤدي العلم الإنساني إلى اكتشاف العلم الإلهي وهو علم الربوبية. العلم الإنساني ليس مُستقلًّا بذاته وليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإدراك العلم الإلهي. ويترقَّى إلى عدة مراتب أولى وثانية وثالثة حتى يصل إلى أقصى مرتبة وهو علم الربوبية. الفلسفة صناعة الصناعات، وحكمة الحكم، مجرَّد مرتبة أولى ثم ثانية وثالثة حتى تصل إلى علم الربوبية. وكل علم يقوم على العلم الآخر. ومن ثَمَّ يقوم العلم الإلهي على أسس العلم الإنساني وأوائله حتى لو وهبه الله لمن يشاء اعتمادًا على الأمر. فالأمر لا يكون مفهومًا إلا بأوائل العلوم وبداهات العقول، ولا يُدرك العلم إلا أهل الاختصاص والذي وصل في علمه إلى مرتبةٍ تُؤهله لأن يكون عالمًا. ومن يبلغ هذه المرتبة يقصر فهمه.٥

(٢) نظرية المعرفة ومناهج البحث

نظرًا لأنَّ الكندي أول الفلاسفة المتميزين عن المترجمين فقد اهتم بنظرية المعرفة ومناهج البحث الفلسفي والمنهج في بداية التفلسف له الأولوية على الموضوع. ومُعظم الأحكام على الموضوعات مشروطة بطرق الوصول إليها.٦
ونظرًا لأهمية مناهج البحث فإن الكندي يُذكِّر بها في خاتمة رسالته في الفلسفة الأولى وفي مقدمتها. ويبرز في معظم رسائله أهمية المنهج والمران فيه.٧ فمثلًا نظرًا لأهمية المنهج الرياضي يُعاد إلى التذكير به أحيانًا في نهاية الرسالة «إيضاح تناهي جرم العالم». كل رسالة من رسائل الكندي تقوم على منهج أو عدة مناهج في نفس الوقت. كان الكندي على وعي بالمنهج، القسمة، والحد، والترتيب، والمبادئ الأولى يذكرها في بداية الرسالة أو في نهايتها، ويشرحها قبل استعمالها أو بعده.

وتتعدَّد المناهج بين الحسية، والعقلية، والرياضية، والبرهانية، والتي تقوم على القسمة، وتحليل اللغة والتأويل، والإشراقية والتاريخية في آخرها وهي تسعة. وتتداخل فيما بينها خاصة الخمسة الأولى لاعتمادها أساسًا على العقل، والأربعة التالية لأنها تعتمد على اللغة.

(أ) الحس والعقل

ونظرًا لأن حدس الكندي الرئيسي هو التصور الثنائي للعالم، الأساس النظري للخلق فإن طرق المعرفة نوعان؛ الحس والعقل. والمعلومات نوعان؛ المحسوسات والمعقولات. والعلوم علمان؛ علم الطبيعة وعلم ما بعد الطبيعة. ويبدو أن هذا التفكير في مناهج البحث هو بداية تكوين علم المنطق في البنية الثلاثية للحكمة عند ابن سينا: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات.

طريق المحسوسات طريق الصبي في تعلم الرياضيات؛ لأنها متَّصلة بالحواس ومفارقة لها في نفس الوقت. ثم يظهر علم ما بعد الطبيعة بعد ذلك الذي لا يحتاج إلى المحسوسات. وهي القسمة الثلاثية للموجودات التي ظهرت بعد ذلك عند ابن سينا، بعد الكثرة، ومع الكثرة، وقبل الكثرة. فالرياضيات بين الطبيعيات والإلهيات وليسَت مع المنطق. ومع ذلك، الرياضيات أقرب إلى ما بعد الطبيعة. فكلاهما بحث في ما لا هيولى له، بالإضافة إلى أن علم الطبيعة يبحث فيمالا يتحرَّك. لذلك تحير كثير من الناظرين في الأشياء التي تفوق الطبيعة والبحث فيها بعد تمثلها في النفس على قدر عاداتهم للحس؛ إذ يسهل التعليم على التضاد، تشبيه المجرَّد بالمحسوس. لذلك يسهل تعليم الخطب والرسائل والشعر والقصص والخرافات لارتباط ذلك كله بالعادة منذ النشوء. فالحسُّ بداية المعرفة.٨
وعلم الطبيعة هو علم الأشياء المتحرِّكة. والانفعالات حركات النفس. فالنفس جزء من الطبيعة وليست موضوعًا مستقلًّا. لذلك لم تظهر النفسانيات إلا عند إخوان الصفا في القسمة الرباعية للحكمة. وماهية النوم والرؤيا من موضوعات النفس، وهو من العلوم الطبيعية.٩ الطبيعة علَّة أولى لكل مُتحرِّك أو ساكن. وهي أشياء ذات هيولى. لذلك لا يمكن النظر فيها كما ينظر في العلم الرياضي لأنه يختص بما لا هيولى له. ولا يكون الفحص فيها على نحو طبيعي وإلا تم الخلط بين العلمين والحود عن الحق. لذلك يجب تحديد موضوعات العلوم. علة الأشياء الطبيعية المتحركة مثل الطبيعيات أو طبيعة علَّة كون الذات وهو غير متحرك مثل علم ما فوق الطبيعة. ويستعمل الكندي تعبير «ما فوق الطبيعة»، وليس ما بعد الطبيعة توجهًا من الموروث وتصورًا دينيًّا لله على أنه فوق وأعلى. ومن ثَمَّ يكون السؤال: هل مقياس التمييز بين الطبيعي وما فوق الطبيعي هو الحركة، الأول متحرِّك والثاني لا يتحرك؟ وهل الميتافيزيقا علم ما لا يتحرك؟ وهل الحركة بالضرورة مادية أم إن هناك حركة الفكر والشعور والوجدان؟ ولماذا يكون موضوع ما بعد الطبيعة أو الإلهيات بتعبير ابن سينا الثبات وليس الحركة، الوجود وليس الصيرورة؟١٠ وهل في الحديث عن الطباع علَّة للحركة أكثر من مدرسة الطبائعيين الاعتزالية؟

والتمييز بين العلوم، الطبيعيات والإلهيات بداية إحصاء العلوم عند الفارابي وأقسام العلوم العقلية عند ابن سينا. والسؤال هو: هل صحيح أن ما بعد الطبيعة لا يتعلَّق بالمحسوسات أم إنه قائم على التشبُّه بالحس ثم نفيه وتجريده، وهو موقف المهندسين في الإلهيات؟ هل تُدرَس الميتافيزيقا بالمنهج التمثيلي الحسي، ورد موضوعاتها إلى النفس كما تعود الحس مثل الصبي في تعليمه، وكما هو الحال في الخطابة والشعر والقصة والرسالة، وكما هو الحال في رواية الأحاديث والخرافات في بداية نشأتها؟ هل هذا نقد مُبطَّن للكندي لاستعمال أساليب الخطابة والجدل في الميتافيزيقا مثل ابن رشد فيما بعد، أم أن هذا إنكار منهج تحليل التجارب الحية وإن كان يبحث أيضًا عن الخالص ولكن ابتداءً من التجربة الحسية؟ هل هذه دعوة إلى التنزيه كما هو الحال عند المعتزلة ضد التشبيه عند الأشاعرة؟

يعتمد الكندي على شهادة الحس، وأكثر اعتماد العوام عليه. وقد يُوسع مفهوم الحس فيُصبح الملاحظة والمشاهدة، ورؤية العادات والطباع. ويعتمد على مشاهدة الطبيعة والجغرافيا المحلية في مصر والعراق. جو مصر شمالًا وجنوبًا، وأثر البحار على المطر. ويتحدَّث عن بحر الإسكندرية والحبشة، ويعتمد على القياس الجغرافي، وتحديد البحر الأبيض المتوسط بالفاعل بين ليبيا وأوروبا طولًا، وبين مصر والمغرب عرضًا، وطولًا بين الشام من ناحية صيدا وصور والمغرب والأندلس إلى ناحية أعلام هرقل. والبحر الأبيض المتوسط وسط العالم، وآخر عمارة الأرض. ويتحدث عن بحر الحبشة والبحر الأحمر والمحيط الهندي ونهر النيل. ويضَع طنجة في الأندلس. كما أن أعلام هرقل والبحر الأبيض المتوسط وسط العالم وآخر عمارة الأرض. ويتحدَّث عن بحر الحبشة (البحر الأحمر أو المحيط الهندي أو نهر النيل) ويَقيس المسافات بالأميال. ويُشاهد التضاد في الطبيعة. فالمطر سبب المضادات في الطبيعة، الحرارة والبُرودة، والتمدد والانقباض، وهو تفسير علمي للظاهرة الطبيعية بالحركة. ومع ذلك للطبيعة أوائلها ومقدماتها التي عليها يقوم العلم. يُفسِّر الكندي ظواهر الطبيعة طبقًا للملاحظة للظروف والأسباب المحسوسة مُستبعدًا كل تفسير خيالي أو أسطوري أو حتى استنادًا إلى استنباط من أصول نظرية مجرَّدة. منهج الكندي أقرب إلى روح العلم والاستناد إلى التجارب. وتعتمد ملاحظة التجربة على قياس كمي دقيق وقت دوران القمر بالدقائق والثواني، ولحركته وسرعته على الجرم الأوسط. وكما نشأت الجغرافيا من الاعتماد على الحس والمشاهدة كذلك نشأ علم الفراسة عند العرب من تحويل الأثر المادي إلى دلالة غير مادية.١١
ويختلط الحس الخارجي بالحس الباطني، خاصة في موضوعات نفسية تقوم على الاستبطان مثل النوم والرؤية. فالقوة الحسية تعمل بآلات، هي الحواس، الآلات الثانية في حين أن القوة المصورة لا تعمل بآلة بل بعصبٍ في الدماغ، الآلة الأولى، ويقوم الكندي بتحليل عضوي للحسِّ كآلة خارجية وإرجاعها إلى عصب الحس في الدماغ كما هو الحال في علم التشريح.١٢ ويوحد بين المحسوس والحاس، بين الموضوع والذات في النفس لإنتاج شيء ثالث هو الصورة. ولا يختلف المحسوس والحاس والصورة الحسية عن العقل القابل للصور الحسية.١٣

والاعتماد على شهادة الحواس يُؤدي إلى تحليل العلل كما هو الحال في علم الأصول. والبحث عن العلَّة بحث مركَّب من عدة بحوث. أولًا البحث عن العلة المباشرة إجابة على سؤال «لم». وهي أشياء تتمُّ بالملاحظة والمشاهدة والتجربة. ثانيًا سبب العلم بالأشياء، العلم بعلَّة العلم وليس فقط علة الظاهرة حتى يُمكن التحقق من صدق العلم ومراجعة أخطائه. ويعتمد في ذلك على القياس العلمي، أي على العلم الكمي أو على طلب الحجة والدليل والبرهان العقلي. ثالثًا دخول الدين في العلم ليس كمسألة دينية بل كمسألة عقلية. فلا فرق بين السؤال عن علل الظواهر الطبيعية وبراهين المسائل الدينية. العلم واحد.

وتتَّضح هذه المستويات الثلاثة للبحث العلمي في عدة أمثلة. أولًا البحث عن سبب جمود البخار في الجو والماء إذا ارتفع في الهواء مع أنه طبقًا لطبيعة الحرارة والرطوبة أنه يسخن بحركة الفلك، وأن حَر الأرض يصل إلينا من حركة الفلك. وسبب معرفة الفيلسوف أن أقصى ارتفاع للبخار فوق الأرض ستة عشر اسطاديًّا، وسؤاله عن أقرب مسافة بين الأرض وأقرب غيم، وسبب هاتين المسافتين والحجة عليهما. ثانيًا في حالة الصحو دون غيم وفي حالة الغيم هل يمكن معرفة موضع الصحو على قدر عرض البلد أو على قدر تعدد الفراسخ؟ ثالثًا إذا كانت الأعداد بلا نهاية فكيف تكون المعدودات بلا نهاية؟١٤ واضح تكوين الطبيعيات من البحث العلمي في الطبيعة.
وقد تتداخل مناهج البحث عن العلة مع مناهج أخرى عقلية لتحديد المفاهيم، مثل البحث عن علة المد والجزر مع تحديد المفاهيم؛ فقد يكون لهما معنيان، يتم استعمالهما على التبادل؛ ومن ثَمَّ يجب رفع الخلط بينهما. وربما يوجد لكلِّ معنًى علة، ومن ثَمَّ تجتمع علتان على نفس الظاهرة، ويكون الاعتماد في ذلك على الحس. كما يَعتمد البحث عن العلَّة على المقاييس الكمية الدقيقة لقياس مساحة الأرض. وقد يكون التعريف بالحدِّ والرسم، مثل تعريف المد والجزر رسمًا بأنهما المد البَحري. ويظهر هذا التداخل في المناهج في تحليل ظاهرة المد والجذر في حالتَين. فزيادة الماء في العيون له علتان. وقبول بطون الأرض الماء على وجهين وخروجه لعلتَين. ويعلم ذلك بالحس. وهناك قياس لطول بحر الحبشة وعرضه في حين أن البحر الأبيض المتوسط الفاضل عرضه بين ليبيا (لوبيا) وأوروبا (أورفي) وطوله من صور وصيدا بالشام إلى أعلام هرقل بالأندلس آخر عمارة الأرض المتصل ببلاد العرب.١٥
والغالب هو الجمع بين الحس والعقل. لا يُدرِك الحس وحده دون العقل. الحس مجرَّد انطباع، ويُصبح إدراكًا بنور العقل. كما أن العقل لا يُدرك إلا إذا كان مرتبطًا بالحس. ولا يُمكن معرفة لون السماء إذا كانت ذات لون بالاستدلال وحدة دون إدراكه بالحس. والأدلة العقلية على وجود الله من هذا النوع، دليل العناية والتدبير يبدأ بالحس ثم يُدرك بالعقل واستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية وضرورة وجود المدبِّر. بل إن العقل نفسه موجَّه بالغاية والقصد إلى الحق. وكما يَحتاج الحس إلى العقل يَحتاج العقل إلى الحق، وهو نور العقل أو بصر العقل أو عين العقل واليقين المبدئي، وربما تقوى النفس.١٦

(ب) المقدمات الرياضية

ويتجلَّى عمل العقل في عدة خطوات مُتناثرة منها البداية بالمقدمات الرياضية. وهي أشبه بالمُصادرات. وتُعادل بداهات الحس والمشاهَدة. الأولى للاستنباط، والثانية للاستقراء. وكلاهما بديل عن النقل عند المُتكلمين والفقهاء. وهي مقدمات بديهية لا تحتاج إلى برهان، واضحة بذاتها دون توسُّط من الحس أو التجربة. وتتَّضح هذه المقدمات في رسالة «في وحدانية الله وتناهي جرم العالم» ورسالة «إيضاح تناهي جرم العالم».١٧ واستعمال المقدمات الرياضية من باب تعريف المجهول بالمعلوم. ولما كان لا يُوجد أوضح من المقدمات الرياضية استعملها الكندي أساسًا للبراهين الفلسفية؛ فالوضوح الرياضي أساس البرهان الفلسفي، ولا يمكن التضحية بالوضوح الرياضي بسبب العقائد والجدل التي يُسمِّيها «اللجاجة». هي مقدمات رياضية يشهد لها الحسُّ عند كل الناس ولا تحتاج إلى براهين أخرى لتفسير الألفاظ. ومِن ثَمَّ تعتمد العقائد مثل تناهي جرم العالم على المبادئ الرياضية والمقاييس المنطقية والمُشاهَدات الطبيعية. المبادئ الرياضية جزء من كل ولا تقوم وحدها.١٨ ومع ذلك كل موضوع مُستعين بنفسه عن غيره لأنَّ له وضوحه الخاص حتى لو كثرت البراهين. مهمَّة المبادئ الرياضية التخفيف على القارئ والتوضيح له بمَبادئ مُتوسِّطة للحس والعقل.
هذه المقدمات الرياضية كيفية أو كمية كالمقدمات المذكورة في «ماهية ما لا يُمكن أن يكون لا نهاية وما الذي يقال لا نهاية له.»١٩ وقد تبتلع الرسالة كلها كما هو واضح في «إيضاح تناهي جرم العالم».٢٠ وإثبات تناهي الجرم نتيجة للعلوم الرياضية وليس تأويلًا لعقيدة دينية. وهذا هو الفرق بين الفلسفة والكلام. المقدِّمات الرياضية هي الشروط الوضعية أي الأسس العِلمية. فالرياضة وضع مثل الشريعة في علم الأصول.٢١ وتبدأ المقدمات الرياضية بتعريف مفاهيم المصادرات مثل عظم متجانس. فالعظم ما له طول فقط أي الخط، أو ما له طول وعرض وهو السطح، أو ما له طول وعرض وعمق وهو الجرم. والعظام المتجانسة هي التي خطوط كلها أو سطوح كلها أو أجرام.٢٢
ويستعمل الكندي نفس المنهج لإثبات أن العناصر والجرم الأقصى كرية الشكل بوضع عدة مقدمات أولية ثلاث.٢٣ كما يستعمل الرسم الرياضي لإثبات أن نهاية الجرم الأقصى لا بد وأن تكون كرية، مُحولًا الطبيعة إلى رياضة؛ ومن ثَمَّ تكون مَراتب الاستدلال: المقدمات الرياضية، والأقوال الطبيعية، والحُجَج المنطقية، والبرهان الفلسفي.٢٤ وكلها منطق داخلي دون ما حاجة إلى شواهد نقلية من الوافد أو الموروث. كما استعمَله أيضًا في «السبب الذي نسبَت القدماء الأشكال الخمسة إلى الأسطقسات» بالبرهنة على التقابُل بين المجسَّمات الخمسة والعناصر الخمسة بالبراهين الرياضية مما يدلُّ على انبثاق الإلهيات من الطبيعيات الرياضية أو من الرياضيات أي من اجتماع المنطق والطبيعيات بإحالة بعض الموضوعات الطبيعية إلى أقاويل منطقية. كما هو الحال في رسالة «الجواهر الخمسة».٢٥ لذلك قد يَستعمل الكندي المنهج الطبيعي المنطقي دون الاعتماد على المقدمات الرياضية مباشرة. فيبدأ بالتعريفات ثمَّ بالبراهين الداخلية المنطقية عليها.٢٦ ويظلُّ السؤال: ألا يُؤدي ذلك إلى تحصيل حاصل، مجرَّد بيان اتساق العقل مع نفسه؟ ألا يُؤدي ذلك إلى الوقوع في الصورية بعيدًا عن الأسس العملية في حياة الأفراد والمجتمعات وحركة التاريخ وقوانينه؟

(ﺟ) البرهان

وكل مقدمة رياضية لها حقٌّ ومثال وبرهان. ومِن ثَمَّ يتمُّ الانتقال من المصادرات الرياضية إلى البراهين الفلسفية. فالرياضة سابقة على المنطق، والمنطق سابق على الفلسفة.

ولا يُوجد لكل مطلَب برهان. فإذا كان المطلب نفسيًّا أو وجوديًّا أو حسيًّا أو بديهيًّا فلا برهان عليه. أما الوجود العقلي فيَحتاج إلى برهان عقلي استدلالي. وليس للبرهان برهان وإلا استمرَّ الأمر إلى ما لا نهاية، واستحال العلم، ولما وُجد شيء البتَّة يُمكن البرهنة عليه لأنَّ ما لا ينتهي إلى أوائله فلا يكون معلومًا. ومن ثَمَّ يستحيل إقامة علم للبرهان على البرهان مثل علوم ما بعد المنطق أو ما بعد الرياضيات.٢٧
ولكلِّ علم وسيلته في البرهان. فلا تُطلب الرياضيات بالإقناع، ولا الإلهيات بالحسِّ والتمثيل، ولا الطبيعيات بالجوامع الفِكرية، ولا البلاغة بالبرهان. ولا البُرهان بالبرهان. العلم الرياضي برهاني صرف لا حجاج فيه ولا جدال. والعلم الإلهي لا حسَّ فيه ولا تمثيل لأنه يقوم على التنزيه وقابل للبرهان.٢٨ والعلم الطبيعي لا تأمُّل فيه بل يخضع للتجريب. والبلاغة لا برهان عليها لأنها تقوم على التأثير. لكلِّ علمٍ منهجه، والتمييز بين العلوم هو تمييز بين المناهج. وكما تتعدَّد العلوم تتعدَّد المناهج، الإقناع، والأمثال، وشهادات الأخبار، والحس، والبرهان. والجمع بين هذه الطرق كلها في مطلب واحد تقصير أو كشف لتعدُّد المناهج.٢٩
وقياس صحة البرهان هو الاتِّساق، اتِّساق النتائج مع المقدِّمات وإلا كان خلفًا أو محالًا. لذلك تَكثر عبارات مثل «وهذا خلف لا يُمكن»، «وهذا من أشنع المحال». يتمُّ الاستدلال عن طريق إثبات تناقض الخلف، إذا فرض جرم لانهاية له عن طريق الزيادة والنقصان فيه بناء على المقدمات الطبيعية الأولى فباقي النظريات عن تناهي الزمان والحركة صادرة عن النتيجة الأولى، تناهي الجرم.٣٠ وتناهي الزمان والحركة، معًا نظرًا لأن الزمان مدة الحركة. هناك زمان وحركة ما دام هناك إبداع أي خروج من القوة إلى الفعل. وبرهان الخلف، إثبات التناقُض الناشئ عن القول بالضد لا شأن له بأرسطو بل هو من طبيعة الفكر الإنساني، وموجود في أصل الموروث، القرآن والحديث، حتى وإن وُجد في الوافد.

(د) القسمة العقلية

يستعمل الكندي وغيره من الحكماء طريقة القسمة العقلية التي تَعتمد على الأقاويل البرهانية والتي تُعطي بنية للموضوع الكلي من خلال أقسامه.٣١
ويُسميها الأقاويل المنطقية ظاهرة الإيضاح مثل قسمة الفلك أي الجرم إلى حي ولا حي، وقسمة العلَّة الطبيعية إلى عنصر وصورة وفاعل وغائية، وقسمة المكوَّن إلى حي ولا حي، وقسمة كلٍّ منها إلى حي ولا حي. ويتدخل البرهان مع القسمة لإثبات المقسوم مثل الحج لإثبات المكان، والاستدلال على أنَّ الزمان ليس إلا القبل والبَعد أي العدد. فالبرهان عن طريق القسمة يحتاج إلى برهان عن طريق الاستدلال. ويَستعمِل البرهان الداخلي لإثبات التناقض كالمحاجة الكلامية، وهو برهان الخلف، إثبات تناقض الضد كما هو الحال في الوسيلة السابقة لدفع الأحزان. وتقوم القسمة أساسًا على التمييز بين المستويات، وهو أساس التصور الديني الجديد من أجل التوحيد والتنزيه.٣٢
ومع القسمة يأتي الحد من أجل تعريف المقسوم. فالقسمة أحد وسائل التعريف مثل تعريف الصورة بالقِسمة بأنها تفيد إما الكون والفساد في الجوهر أو الربو والاضمحلال في الكيف أو الاستحالة في الكيف. وكذلك تعريف الزمان المتصل بأنه الآن المُتوهم الذي يُواصِل ما بين الماضي والمستقبل. وقد يكون الحد عن طريق القِسمة بتحويل المركب إلى البسيط؛ ومن ثَمَّ يتعاون الحد والقسمة على التبادُل ولما كان الحد بالجنس والفصل، والهيولى لا جنس لها فلا تُحد بالحد. لذلك كان ترتيب الجواهر الخمسة الهيولى والصورة قبل المكان والحركة والزمان. الهيولى والصورة مبادئ المبادئ، أصل العناصر الأربعة عناصر المركبات.٣٣
وفي «الجواهر الخمسة» تعريف الهيولى أصغر التعريفات لأنها المبدأ الأول مثل الأصول. وفي رسالة «دفع الأحزان» القسمة من أجل التعريف فالحزن إما فعلنا أو فعل غيرنا. وإن كان فعلنا فهو إما ما نُريد أو ما لا نُريد. وإن كان فعل غيرنا فأمَّا ما نستطيع دفعه أو ما لا نستطيع دفعه. وتبدأ رسالة «الجرم الحامل بطباعه» بتَعريف العناصر الأربعة ثم اللون. ويبدأ الاستدلال في رسالة «الجواهر» بالعلم الطبيعي بتعريف الجسم بأنه العظم الآخذ الأقدار الثلاثة. وتَنقسم حياة الأجسام الحية إلى ذاتي فاسد وعرضي غير فاسد. والأقرب العكس. مما يدلُّ على أن القسمة قد تتتبع نسقًا عقليًّا صوريًّا دون تعريفٍ دقيق للمقسوم.٣٤
فإذا صعب التعريف الكامل استعمل الكندي التعريف الناقص. وإن استحال الحد استعمل الرسم أو الوصف. وتَعتمِد هذه الطريقة أيضًا على القسمة المتباعدة من أجل إفساح المجال لباقي مناهج المعرفة الأخرى، الحس والعقل.٣٥ ويَصل منهج الرسم أو الوصف إلى مشارف تحليل الخبرات ووصف الماهيات حفاظًا على الحد المنطقي الصوري. والماهية هي المائية بلفظ الكندي قبل أن تستقر الألفاظ مثل الأيس والوجود، والليس والعدم، والعلَّة التمامية أو المتمِّمة والعلة الغائية. ويبدأ وصف الماهية بالتجارب النفسية والعقلية ووصف القوى المتوسِّطة بينهما. والكل في الإنسان، وهو الجرم الحي النامي. ولا يُمكن فهم ما قيل في ماهية النوم والرؤيا إلا بإرجاعها إلى قوى النَّفس الحسية والعقلية والقوى المتوسِّطة بينهما. كما يَستعمل لفظ «حامل» لأنَّ الوصف للماهية وليس للواقعة. الواقعة حامل للماهية. والأشخاص حوامل للصور المُدركة بالحس. بعد القسمة تظهر ماهية الرؤيا كصورة ذهنية. فالصورة ليسَت فقط بالمعنى الأرسطي، ولكن أيضًا بالمعنى التخييلي.٣٦ فعمل القوة المصوَّرة في النوم أكثر منه في اليقظة. والاستغراق في الفكر يؤدي إلى النوم حتى يكتمل عمل القوة المصورة. ويُميز الكندي بين الإنسان العادي والإنسان المتميز، بين الشعور النائم والشعور اليقظ.٣٧

وقد تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية إلى ما لا نهاية. وقد تكون مُتداخلة من قسمة إلى قسمة، كل جزء فيها قسمة ثانية ثم قسمة كل جزء من القسمة الثانية إلى قسمة ثالثة على شكل عنقود أو هرم. وعادة ما تكون القسمة الثنائية مُتضادة والثلاثية تضاد ووسط مثل الكل والبعض، الذاتي والعرضي، والكون والفساد، والربوبية والاضمحلال، والنَّقلة والاستحالة.

والأمثلة على ذلك كثيرة. فالحركة ذاتية أو عرضية. وقد تكون ستة أقسام، اثنان على التضاد مثل ربوبية واضمحلالية، كون وفساد، واثنان ليسا كذلك، مكانية واستحالية. وإن كان في الذهن أرسطو تكون نقلة واستحالة. والعلة القريبة للكون والفساد في أجزاء العناصر قسمة ثلاثية، قد تكون منها أو من غيرها أو بعضها منها وبعضها من غيرها. ثم ينقسم الجزء الأول من القسم الأول قسمة ثلاثية منها أو بعضها أو كلها. ثم ينقسم الثالث إلى قسمين، في حدود التماس أو في غيرها. ثم يَنقسم الأول إلى كل الأجزاء أو بعضها.٣٨
وأحيانًا تتجاوَر القسمة ولا يخرج بعضها من البعض الآخر على شكلٍ عنقودي أو هرمي نظرًا لغياب الربط بينهما. تَنتهي القسمة بقسمة أخرى مُتجاورة ويصعب ضمهما معًا في قسمة واحدة في شكلٍ عُنقودي وكأننا في عمليات حسابية متتالية. بل يُمكن أن تتوازى وتتجاوَر وتتشابه لأن وحدة القسمة الكلية لم تظهر بعد، وذلك مثل قسمة الفلسفة إلى علم وعمل، والنفس إلى عقلٍ وحسٍّ، والأشياء إلى ما لا تفارق الهيولى (الجوهريات والجسمانيات) وقائمة بالهيولى (النفس)، وغير متصلة البتة بالهيولى (الإلهية والربانية). وتظل بنية القسمة الثنائية قائمة. فقسمة الفلسفة إلى نظر وعمل هي نفسها قسمة النفس إلى عقل وحس. والقسمة الثانية نتيجة للأولى ومرتبطة بلام التعليل «لأن». وعادة ما تكون القسمة ثنائية ثم تتحوَّل إلى ثلاثية لتسمح بالموجودات المتوسطة مثل النفس التي لا هي تُفارق الهيولى مثل الجوهريات والجسمانيات ولا هي التي لا اتصال لها البتَّة بالهيولى مثل الأشياء الإلهية والربانية بل هي قائمة بالهيولى. النفس متوسطة بين الطبيعيات والإلهيات، بين الله والعالم. وهو ما استمر في الفلسفة كلها حتى ابن سينا. والتركيز على العلم دون العمل لأن الموضوع فلسفي وليس أخلاقيًّا. وينقسم الفكر الذي هو أحد أقسام النفس إلى علم الأشياء الإلهية وعلم الأشياء المصنوعة أو المخلوقة أي الإلهيات والطبيعيات مؤدية إلى قسم ثالث.٣٩
وتحتوي القسمة الثنائية والثلاثية على بعض المتضادات داخل الجزء الواحد مثل قسمة أثر الجرم الفاعل طباعًا بالغلبة كالنار ولا طباعًا كباقي العناصر. الطباع لا تكون غلبة لأنها طبيعة الشيء. والغلبة لا تكون بالإرادة أكثر مما تكون بالطبع.٤٠ وهنا يُصبح تكرار القسمة تحصيل حاصل. في كل مرة تظهر الطباع كأحد شقيها أو الشوق. ويأخذ الطبع معاني متعدِّدة، الغلبة مثل النار، التوسط مثل المغناطيس والحياة في الجرم، والشوق مثل الشوق الذي هو أثر الجرم في الجرم قسمة المكوَّن إلى حي ولا حي ثم قسمة كل منهما نفس القسمة. وتظل الألفاظ الإنشائية سائدة مثل الحب والشوق، والأكثر فضلًا والأقل فضلًا تدل على الإسقاط على الطبيعة وبقايا الفكر الديني ما قبل الفلسفي. وهذا هو السبب في تصوُّر الجرم متحركًا حركة ذاتية كالنفس إسقاطًا للنفس على الفلك وتصوُّرها حيًّا مدركًا مريدًا فاعلًا.٤١ على أية حال هي خطوة إلى الأمام، من الأشعرية إلى الاعتزال، ومن الكلام إلى الفلسفة، ومن الفكر الديني إلى الفِكر العلمي. فالقسمة نصفها عقل ونصفها إيمان كما هو الحال في استعمال العقل عند الأشعرية وكما لاحظ ابن رشد في «مناهج الأدلة».
ونظرًا لنِسبة الحياة إلى الفلك، فلا بدَّ من قسمة أخرى تنفي الشبه بينه وبين الإنسان، الحيوان الناطق والنفس وأنواعها، التغذي والنمو والتوليد، وقوى النفس الناطقة. فالحيوان إما فاسد أو لا فاسد. والفاسد تام واللافاسد غير تام.٤٢ والأثر إما طباعًا أو بآلة حيوانية. والقُوى النفسانية إما شهوية أو غضبية أو نطقية. وهذا كله تعقيل آية السجود، موجه ضد الصابئة وعبدة الكواكب في الجاهلية. والبراهين كأنها جنبات حكم قضائي وإبداء الأسباب «لأن»، «ولا بد إذن». ويقوم الاستدلال على حجة الأشرف والأولى. وهي حجة أخلاقية تقوم على التراتب في الشرف والكمال. وهو أساس قياس الأولى الذي صاغه ابن تيمية كمنطق للقرآن مُتمايز عن منطق اليونان.
وذلك كله إسقاط من الإنسان على الطبيعة العُلوية وإكسابها صفات الألوهية من حياةٍ وحسٍّ وسمع وبصر وإرادة أو علم وقدرة والحركة أيضًا، ولكنَّه لا يتغذى ولا ينمو ولا يذوق أو يشم أو يحس. يتدخَّل اللاهوت السلبي في الفلك لنفي صفات النقص عنه كما يتدخَّل اللاهوت الإيجابي لإثبات صفة الكمال له. والسمع والبصر هما سبب العلوم الخفية، والسبيل إلى نيل الفضائل. للأفلاك قوة التمييز ومن ثَمَّ فهي ناطقة بالضرورة. ويصُوغ الكندي خمسة براهين لإثبات النطق بعد إثبات الحياة والحس والسمع والعقل وهي:
  • (١)

    إذا كانت حيَّة وبالتالي حاسة لها السمع والبصر، وبالتالي القُدرة على نيل الفضائل فهي بالضرورة ناطقة.

  • (٢)

    إن لم تكن ناطقة تكون أشرف منها. ولما كانت علَّة وجودنا بترتيب الباري كانت العلة بالضرورة أشرف من المعلوم. كما أن الأفلاك تُؤثِّر فينا بآلة فلانٍ عن نطق؛ لأن التأثير بالآلة أشرف من الإنسان الذي كرمه الله في البر والبحر وخلَقه على صورته ومثاله، ولماذا لا يكون التأثير بالطبيعة أشرف من التأثير بالآلة؟

  • (٣)

    لما كانت قوى النفس ثلاثة لا يحتاج الفلك إلى الشهوية والغضبية لأنه لا ينمو فلم يبقَ إلا المنطقية.

  • (٤)

    أقاويل رياضية تدلُّ على كم البشر الناطق ابتداءً من حساب قُطر كرة الأرض، وزيادة عدد السكان على المساحة، وإلا لاحتاجوا إلى سبعة أصناف المساحة. وهذا إعجاز الله وقدرته. وهو استعمال افتراضي للرياضة؛ لأن عدد الناس يتغير وليس ثابتًا أو مفردًا.

  • (٥)
    خلق الله الجواهر، والجوهر النفساني في الأشخاص العالية أو الحرث والنسل وفيهما فساد، والنفسانية لا تكون ولا تفسد.٤٣

فهل معنى ذلك ضروري لإثبات معنى آية وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وهو معنًى واضح، طاعة الكون الطبيعي والحي للألوهية. فإذا أطاع الكون، وهو أعظم من الإنسان فالأولى طاعة الإنسان. ومع ذلك فهو تحوُّل طبيعي من الكلام إلى الفلسفة، ونقل اعتبار الحياة شرط العلم والقدرة من نطاق الذات المشخص إلى الوجود العام، كما تتحوَّل بعض المفاهيم الاعتزالية الموروثة؛ مثل خلو الطبيعة من العبث إلى تصور غائي عام للكون.

وقد تتوازى القسمة مثل قسمة الأشياء إلى في كل الجواهر ولا في كل الجواهر، ثم خروج الأشياء في كل الجواهر إلى خمسة غير مضمونها الثلاثي، في الأرض، وعلى الأرض، وفوق الأرض. والأشياء التي تكون في الجواهر خمسة: الهيولى، والصورة، والمكان، والحركة، والزمان. وفي الجواهر الخمسة تتقابل الهيولى والصورة، ثم المكان والزمان. أما الحركة فهي عدد الزمان. لذلك أتى مكانها بين المكان والزمان كرابط بينهما. ويكون الترتيب طبيعيًّا. كل شيء له مادة وصورة. ويُوجد في المكان، ويتحرَّك في الزمان لأن الزمان عدد الحركة. كل جوهر لاحق يتبع تلقائيًّا الجوهر السابق. وتستمر القسمة حتى تصل إلى الأشياء التي يَعتريها الكون والفساد. ونظرًا لصورية منهج القسمة يضرب الكندي الأمثلة الشارحة للتخفيف منه والعودة إلى عالم الأشياء. ويدخل البُعد الديني الجديد في القسمة حتى تكتمل النظرة. ويكون البحث عن الجواهر الخمسة واقتناصها ابتداءً من القسمة المركبة المتكامِلة التي تدخل فيها الجواهر المادية والروحية على السواء.٤٤
والتساؤلات عن القِسمة كثيرة. هل القسمة منطقية أم إنها المطلوب إثباته؟ هل هي مقدمة أم نتيجة؟ هل هي في عالم الأذهان أم في عالم الأعيان؟ إن الغاية من القسمة هي التوضيح؛ أي تحويل الموضوع الخارجي إلى موضوعٍ ذهني. ويُفترض مسبقًا تطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان، تطابق العقل والطبيعة ركيزتَي الوحي. ومع ذلك تبدو القسمة وكأنها مجرَّد افتراض. وأحيانًا أخرى يتم البرهنة عليها مثل البرهنة على قسمة الفلك والانتهاء إلى أنه فاعل. لما كان الفلك ليس عنصرًا لأنه لا يتغيَّر، ولا صورة لأنها غير مفارقة، ولا غاية لأنها لا تلحق الجسم، فلم يبقَ إلا أنها علَّة فاعلة. ويمكن نقد البرهان بأنه يقوم على حكم مسبق، أن الفلك ليس مادة ولا صورة ولا غاية، وأنه علة غائية، وأن الحي الكائن الفاسد مبتدع من لا شيء. وأحيانًا تصبح القسمة بلا غاية، مجرَّد تحليل الكل إلى أجزائه الأولى لمعرفة تمايُز المستويات، توضيحًا للعقل أمام نفسه وليس أمام غيره، محاولة العقل للفهم، واجتهاداته في تحويل الدين إلى فلسفة، يُخطئ مرةً ويُصيب أخرى، يتعثَّر مرةً ويُحسن مرةً أخرى، فيُصبح الفكر مجرَّد تحصيل حاصل، تطابق العقل مع نفسه دون أن يُطابق موضوعًا في الخارج.٤٥ وتكون النتيجة مجرَّد إنشاء وإسقاط من الإنسان على الطبيعة، وإدخال مقولات الأخلاق على العلم، وإسقاط القيمة على الواقع بعبارات مثل أشرفِ وأفضلِ حتى يفسح المجال للفكر الديني القديم.
وتَضطرب القسمة أحيانًا حتى تختلط الأمور؛ وبالتالي يتحوَّل البرهان إلى غير ما هو مطلوب منه وهو التوضيح. أحيانًا تكون القسمة العقلية أكثر غموضًا من الموضوع ذاته، فتُصبح الفلسفة غامضة والدين واضح، والغاية من الفلسفة هو التوضيح والتنظير.٤٦ وأحيانًا لا يحتاج الموضوع إلى أي برهان عن طريق القسمة أو الاستدلال مثل أثر الجرم في الجرم؛ ومن ثَمَّ تُصبح القسمة لا لزوم لها؛ لأنها توضيح الواضح، وبرهنة على ما هو مُبرهَن عليه.٤٧ ولما كانت القسمة طريقًا للتعريف سواء بالحدِّ أو بالرسم أحيانًا يكون التعريف تحصيلَ حاصل، غامضًا مُضطربًا مُلتويًا. يطول بلا هدف. وقد لا يحتاج الموضوع البسيط إلى كل هذه التعريفات المُتشابكة. فينشأ طابع التجريد وتقع الفلسفة في الصورية من أجل احتواء الوافد العقلي الصوري حتى ولو تمَّت التضحية بالموروث في عملية التنظير له. فتنشأ الغربة مع الفلسفة وردِّ الفعل عليها عند الأصوليين والفقهاء تمسكًا بالموروث الحي العُضوي الفاعل ضد صورية الوافد والموروث معًا.

(ﻫ) التحليل اللغوي والتأويل

واللغة أحد فروع القسمة؛ فاختلاف الأشياء إما بأعيانها أو بأسمائها. يأتي منهج التحليل اللغوي ليُساند المنهج العقليَّ بأنواعه والمنهج الحسي بدرجاته من أجل ضبط الحُجة النقلية القديمة في علم الكلام انتقالًا من النص إلى تحليل النص، ومن النقل إلى تحليل اللغة. فأفضل شيء في رسالة «سجود الجرم الأقصى» هي المقدمة اللغوية الأولى؛ أي البرهان العقلي اللغوي وليس البرهان العقلي المنطقي حتى تخفَّ حدة صوريةِ العقل، ولا يَبعد عن النقل خاصة وأن الفلسفة ما زالت قريبة العهد بعلم الكلام. فمثلًا يُعرِّف الكندي «ما بعد» عند أهل اللغة بأنه نوعان؛ العدد المُنفصِل والعدد المتصل. كما يُحلل لفظ «نائم» من أجل معرفة معانيه، ثم وصف ماهياته من خلال الوقائع النفسية؛ أي التجارب الشعورية. فيدخل تحليل اللغة في تحديد الموضوعات الطبيعية. فالنعت إما مُتواطئ أو مُتشابه. المتواطئ هو الذي يُعطي المنعوت اسمه وحدَّه. والمتشابه هو الذي يُعطي المنعوت اسمه لا حدَّه. فالبحث في الألفاظ تقليد أصولي لا شأن له بمنطق أرسطو. ويُحلل الكندي أشكال النص الأدبية، ويتحدَّث عن القول الخبري. ولفظ الخبر مُشتقٌّ من علم الحديث أولًا، ومن أصول الفقه ثانيًا.٤٨
والتأويل ضرورة طالَما أن الوحي مُدوَّن باللغة المُتشابهة الأسماء والتصاريف والاشتقاقات، ليس فقط اللغة العربية، بل كل لغة على العموم. ويستعمل الكندي لفظ «تفسير» وليس «تأويل» أو «شرح»، مما يدلُّ على ارتباط الفلسفة بالعلوم النقلية. ويَضرب المثل على ذلك بتأويل آية وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ بناءً على سؤال عن سجود النجم والشجر وما يتطلَّب ذلك من مقاييس عقلية. فبتحليل لفظ «يسجد» يجد له الكندي أربعة معانٍ؛ السجود الشرعي، والطاعة، والتغيُّر من النقص إلى التمام، والانتهاء إلى أمر الآخر. وهذا المعنى الرابع هو المعنى المقصود؛ لأنَّ الأفلاك متحركة أسراحًا أي أسرابًا كالماشية. وقد يُستعمَل اللفظُ على الضد فيكون معنى السجود الطاعة أو العصيان في نفس الوقت. ويُبرهن الكندي على المعاني الأربعة مُستشهِدًا بالشعر العربي للنابغة الذبياني ولغيره. ومن الواضح أنها صورة فنية، تُبيِّن طاعة الكون لله من أجل حث الإنسان على الطاعة. إذا كان الأكبر مُطيعًا فالأولى طاعة الأصغر. وقد تطلَّب ذلك تشخيص الطبيعة وجعل الأفلاك حية عاقلة مُريدة عالِمة. بذلك يُصبح الإنسان أعظم من الكون؛ لأنَّ الأرض والسموات والجبال خشين من الأمانة ورفضت حمْلَها وحمَلها الإنسان.٤٩ لم تذكر قوانين الطبيعة التي تتحكَّم في ظواهرها لأنَّ المقصود هنا ليس العلم بل الأخلاق. وتوحي بهذا الهدف الدِّيني كثرة العبارات المملوءة بالثناء على الله والدعاء للسائل. وبعد التأويل العَقلي للنقل تتَّضح الأقاويل المنطقية؛ ومن ثَمَّ يُمكن الإجابة على سؤال سجود النجم والشجر؛ لأن الأفلاك أشخاص حية ناطقة.
يَستعمِل الكندي منهج التأويل العقلي باعتباره مُعتزليًّا. فيتحوَّل النقل إلى عقلٍ، كما يتحوَّل العقل إلى مسلَّمات ومصادرات رياضية. وإن إثبات النبوة وإنكار التأويل أي إثبات النقل دون العقل هو إنكار للعقل نفسه ولوحدة العقل والنقل. ولا يتعرَّض الكندي للنبوة بمعناها الرأسي؛ أي نظرية الاتصال بالعقل الفعال كما يَفعل الفارابي وابن سينا وابن رشد، بل يَكتفي بالبُعد الأفقي أي بالتفسير اللغوي العِلمي وفهم الآيات.٥٠

(و) الإشراق

ويتسرب الإشراق إلى مناهج البحث عند الكندي كلغة عادية، مجازًا واستعارة مثل النور الطبيعي، وأضواء العقل، والعيون العقلية الصافية، والعشق والعاشق والمعشوق. ثم تحوَّلت اللغة الاستعارية إلى نظرية في المعرفة بالفعل، معرفة إشراقية تتجاوَز المنطق وشهادة الحس والعقل. ثم تحوَّلت أخيرًا من المعرفة إلى الوجود في نظرية الفيض في عبارات مثل فيض وجوده، الجواد في الفيض، فيض الفضائل. ويُمكن تتبُّع هذا المسار في علوم الحكمة، من اللفظ إلى المعنى إلى الشيء، من الصورة الفنية إلى الشيئية كما حدث في السيد المسيح، والتحول من الغاية إلى الشخص في المسيح الكوني. كما ظهَرَت لغة الشوق والعشق في الطبيعيات. وتنشأ في البداية من إسقاط الإنسان على الطبيعة لعدم استطاعته تحويل الدين إلى عقلٍ لفهم الطبيعة، ثم تحويل ذلك إلى تجارب روحية إنسانية خالصة بعد إسقاط الطبيعة ونهاية العلم.٥١
وتتحوَّل الطبيعة إلى تصوف، والملاحظة والمشاهَدة الحسية إلى إدراك حدسي مباشر مثل مشاهدة الغائية في الطبيعة والانتقال من التأمُّل في المخلوق إلى معرفة الخالق.٥٢ فالإدراك الحسِّي المباشر يُشاهد العناية والتدبير في الكون وتَناهي الأشياء مثل دليلَي العناية والاختراع عند ابن رشد. ويُغني الحس عن الحساب وطريق عدِّ الأشياء وإحصائها.٥٣ وأحيانًا يتمُّ الإيغال في الحدس بحيث تَبرز النتائج قبل المقدمات، ويَثبت وجود الله قبل أن تتم البرهنة عليه. فالكلام ما زال في طريقه إلى الفلسفة. وتتحوَّل النتيجة إلى دعوات وابتهالات وحمدلات وثناءات حتى تُصبح الفلسفة شبيهة بالتصوف والحكيم قرينًا بالصوفي. صحيح أنها ابتهالات فلسفية تَستعمِل ألفاظ الجوهر والآنية والأيس والليس والعلة الأولى والفاعلة والمتمِّمة والغائية والكون والفساد. ومع ذلك فالرُّوح واحدة. وقد قويَ هذا التحول إلى النزعة الصوفية في علوم الحكمة عند إخوان الصفا والفارابي وابن سينا والغزالي والفكر الشيعي وابن طفيل وابن باجه حتى صدر الدين الشيرازي، بالرغم من محاولة ابن سينا إخضاع علوم الحكمة خاصة في «الشفاء» إلى منطقٍ تجريدي خالص. وبدلًا من البداهة والوضوح يحلُّ الغُموض والأسرار. وبدلًا من عيون العقل يتمُّ إسقاط الحجاب. فهناك أسرار خفية وإشارات سرية وأقاويل عميقة تتجاوز أنوار العقل.٥٤

(ز) المعرفة التاريخية

وتدخل المعرفة التاريخية ضمن مناهج البحث مع معرفة أوائل العلم وبديهياته الرياضية والمنطقية والطبيعية والحسية، وترتيب العلوم أي تصنيفها من أجل إدخال العلم الإلهي مع العلم الإنساني بعنوان «مراجعة كتب القدماء». فمراجعة الأدبيات السابقة تدخل ضمن منهج التأليف، بالإضافة إلى مناهج العقل والحس والنقل؛ إذ يتبع الكندي خطوات ثلاث؛ الأولى وضع المشكلة في بداية الرسالة. والثانية تصنيف المذاهب السابقة فيها إلى مذهبَين مُتعارضَين مع نقدهما معا. والثالثة إعطاء الحل. وقد يبدأ الكندي بنَقد المذهب المرفوض، مثلًا مذهب أهل التنجيم في عرض المسألة لبيان غرضِها، ثم نَقده مرة ثانية في نقد المذهب. وعادةً ما يكون المذهب الثاني أقلَّ نقدًا وأكثر تعاطفًا مثل مذهب الفلاسفة الموجودين، ولكن يَنقُصُهم فقط البرهان العلمي بعد اكتفائهم بالبرهان العقلي. ويكون المذهب المرفوض مثلًا هو مذهب المتكلِّمين، والمقبول نسبيًّا هو مذهب الفلاسفة. والصحيح هو المنهج العلمي عند الكندي.٥٥
والنظر في كتب القدماء بداية العلم ضد الجهل، والاطِّلاع على الأدبيات السابقة يُعطي التاريخ قبل اكتمال البنية. فتاريخ العلم جزء من العلم كي يَحدث التراكم المعرفي المطلوب. والصبر على مرارة التعب بهدف الاستفادة من جهد القدماء.٥٦ إذ يستحيل الإنسان تعلم القراءة دون الأبجدية أولًا، حرفًا حرفًا، ودلالتها البصرية حتى يُمكن قراءة العبارة كلها. وقد لا يكون التشبيه دقيقًا وأقرب إلى الدلالة على معرفة الأجزاء قبل معرفة الكل، ثم بعد ذلك التحقُّق من صحَّتها بالملاحظة والتجربة، بالعلم المباشر. كما أن آخر مرحلة في الوحي تتحقَّق من صدق المراحل السابقة في التاريخ وتُراجع نصوصها وأقوالها وصحتها.
ولا يعني الاطلاع على كتب القدماء تقليدها وتبعيتها بل نقدها ومراجعتها؛ إذ ينقد الكندي أقوال القدماء، بعض الأغبياء وكثير من الحكماء القائلين باتِّصال بالماء والأرض، وأن القمر مائي أو أرضي. وهي أقوال خبرية مجملة. يتحقَّق مِن صدقها بالأدلة العَقلية والحسِّية كي يثبت في النهاية أن حركة القمر هي الدليل الأول على زيادة الجرم الأوسط السائل ونُقصانه لحركته. ويطالب بمراجعة الملاحظة والمشاهَدة. يَنقد الكندي أقوال كثير من الحكماء وليس بالضرورة أرسطو. فهو فقط أبرزهم. كل حكيم يأخذ جزء البديل به على قوله، والمنهج العِلمي هو الكلي الذي لا يبدأ بآراء مسبقة، ويأخذ الظاهرة في مُجملها. لذلك كانت أقوال السابقين خبَرية مُجملة، أي منقولة، أي غير مطابقة للواقع. لا بد من مراجعة أقوال السابقين؛ إذ لا يكفي تأسيس العلم تكرارها دون مراجعتها والتحقُّق من صدقها والزيادة عليها بالعلم المباشر.٥٧
١  رسائل ج٢ الجو، ص٩٢-٣، المد والجزر ١٣٣.
٢  لسنج له عبارة مشهورة في ذلك: لو وُضعت الحقيقة في يميني والبحث عن الحقيقة في يساري لاخترتُ يساري. لسنج: تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٧م، ص١٨–٥٦.
٣  رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، ص٣٧٣-٣٧٤.
٤  السابق، ص٩٢-٩٣، ٣٧٤–٣٧٦.
٥  السابق، ص٩٢–٧٣، وأيضًا في العلة التي لها يَبرد أعلى الجو ويسخن ما قرب من الأرض، رسائل ج٢، ص٩٠–١٠٠.
٦  مثال ذلك ديكارت واضع المنهج العقلي، وبيكون واضع المنهج التجريبي، وهيجل صاحب المنهج الجدلي، وهوسرل مؤسِّس المنهج الظاهرياتي.
٧  رسائل ج١ في ماهية النوم والرؤيا، ص٢٩٣؛ إيضاح تناهي جرم العالم، ص١٩٢؛ الجواهر، ص١٦–١٨.
٨  الفلسفة الأولى، ص٨٨-٨٩.
٩  رسائل ج١ العلة، ص٢٣٧؛ في ماهية النوم والرؤيا، ص٢٩٣–٣١١، ٢٩٣.
١٠  موضوع الميتافيزيقا عند برجسون وإقبال حركة الشعور، وعند الصوفية الارتقاء في الأحوال والمقامات.
١١  رسائل ج٢، الجرم الحامل، ص٢٦٧؛ الحيلة ص١٠؛ المطر ص٧٠–٧٥؛ المد والجزر ص١١٩-١٢٠.
١٢  النوم، ص٣٠٠–٣٠٢.
١٣  وهذا ما تفعله الظاهريات في التوحيد بين Nose, Nome.
١٤  رسائل ج٢، ص٩٠-٩١.
١٥  رسائل ج٢، المد والجزر، ص١١٠–١١٣، ١٣٢.
١٦  السابق، العلة ص٢١٤-٢١٥، الجواهر ص١٦٧، في علة اللون اللوزوردي الذي يرى في الجو من جهة السماء ص١٠١.
١٧  وذلك مثل (أ) كل الأجرام التي ليس منها شيء أعظم من شيء مُتساوية. (ب) المتساوية أبعاد ما بينها نهاياتها واحدة بالفعل والقوة. (ﺟ) ذو النهاية ليست له نهاية. (د) كل الأجرام المتساوية إذا زيد على واحد منها جرم كان أعظمها، وكان أعظم ممَّا كان من قبل أن يزاد عليه ذلك الجرم. (ﻫ) كل جرمَين مُتناهيَي العظم إذا جُمعا كان الجرم الكائن عنهما متناهيًا العظم. وهذا واجب في كل عظيم وكل ذي عظم. (و) الأصغر من كل شيئين مُتجانسَين بعد الأعظم منهما أو بعد بعضه، وحدانية. ص٢٠٢.
١٨  تناهي جرم الرسائل، ج ص١٨٦-١٨٧.
١٩  وذلك مثل: (أ) إن كل شيء ينقص فإنه الذي يَبقى أقل ممَّا كان من قبل أن ينقص منه. (ب) كل شيء ينقص منه شيء فإنه إذا سار إليه ما كان نقص منه عاد إلى المبلغ الذي كان أولًا. (ﺟ) كل أشياء متناهية فإن الذي يكون منها إذا جمعت مُتناهٍ (د) إذا كان شيئا أحدِهما أقل من الآخر فإن الأقل بعد الأكثر أو بعد بعضه، وإن عدَّ كله فقد عد بعضه، مائية ص١٩٤-١٩٥.
٢٠  رسائل ج٣، ص١٨٦–١٩١.
٢١  السابق، تناهي جرم العالم، ص١٨٦-١٨٧.
٢٢  وذلك مثل: (أ) الأعظام المتجانسة التي ليس بعضها بأعظم من بعض متساوية. (ب) إذا زيد على أحد الأعظام المتجانسة المتساوية عظم مجانس لها صارت غير مساوية. (ﺟ) لا يُمكن أن يكون عظمان متجانسان لا نهاية لهما أقل من الآخر؛ لأن الأقل بعد الأكثر أو بعد بعضه. (د) الأعظام المتجانسة التي كل واحد منها مُتناه جملتها متناهية.
٢٣  هذه المقدمات هي: (أ) الجرم الأقصى يدور حول مركزِه ويتحرَّك على الوسط. (ب) لا يُمكن أن يكون هناك جرم لا نهاية له. (ﺟ) لا يُوجد خارج العالم لا خلاء ولا ملاء لأنَّ الأجرام المضلعة أو القواعد أو الزوايا لا تدور حول المركز. رسائل ج٢، ص٤٨–٥٣.
٢٤  وذلك مثل شجرة المعرفة عند ديكارت، الطبيعة والميتافيزيقا والأخلاق.
٢٥  رسائل ج٢، الأشكال ص٥٤–٦٣، جواهر ص٢٦٥.
٢٦  رسائل ج٢، طبيعة الفلك ص٤٠.
٢٧  رسائل ج١، ص١٥١.
٢٨  وقد أعجب ديكارت وليبنتز واسبينوزا وكانط بيقين الرياضيات وإمكانية استعمالها في الإلهيات.
٢٩  الفلسفة الأولى، ص٨٩-٩٠.
٣٠  العناصر ص٥٣؛ طبيعة الفلك ص٤٢؛ سجود ص٢٥٥. وهذا خلف لا يمكن ج١ ص٢٢١–٢٢٣، ٢٣٠؛ مائية ص١٩٥، ١٩٧؛ تناهي جرم ص١٨٩-١٩٠، ١٩٢، وهذا من أقبح المحال، الجرم الحامل ج٢ ص٦٦، وهذا خلف قبيح جدًّا، الجواهر ص٢٦٩، وهذا خلف شنيع، الجواهر ص٢٦٩.
٣١  رسائل ج١، سجود الجرم، ص٢٤٧-٢٤٨.
٣٢  السابق، الجواهر ج٣٠، ١٦–١٨، الحيلة، ص١٩-٢٠.
٣٣  الجواهر، ص٣٠، ٣٤.
٣٤  الرسائل ج١، الجواهر ص٢٠، ٢٦٧، ٢٦٩، ج٢ الجرم الحامل ص٦٤–٦٨.
٣٥  الرسائل ج١، في مائية النوم والرؤيا ص٢٩٣–٣١١.
٣٦  الصورة الأرسطية Forme والصورة التخييلية Image.
٣٧  يوجد هذا التمييز عند هوسرل.
٣٨  الرسائل ج١، العلة ج٢١٦-٢١٧، ٢٢١–٢٢٤.
٣٩  الرسائل ج١، الجواهر الخمسة ص٨–١٨.
٤٠  رسائل ج١، أثر الجرم الفاعل، ص٢٤٩–٢٥١.
٤١  الرسائل ج١، سجود ص٢٥٢.
٤٢  رسائل ج١، سجود ص٢٥٤.
٤٣  رسائل ج١، سجود الجرم، ص٢٥٤-٢٥٩.
٤٤  الرسائل ج١، الجواهر، ص١٢، ٢٠، ٢٢–٢٦.
٤٥  الرسائل ج١ العلة القريبة، ص٢٤٨، سجود ص٢٥٠.
٤٦  السابق، الفلك، ص٢٤٨.
٤٧  السابق، سجود، ص٢٥٠.
٤٨  رسائل ج١، الجواهر ص٣٤، ٢٦٦، النوم ص٣٩٤-٣٩٥.
٤٩  هناك عبارة لكيركجارد بنفس المعنى، أنَّ الإنسان أعظم من الجبل حتى ولو وقع الجبل عليه وهشَّمه؛ لأنه يشعر بأن عظامه تتهشَّم أما الجبل فلا يشعر بشيء. إنما الفرق بين الآية والعبارة هو الفرق بين الغاية والعبث.
٥٠  رسائل ج١، سجود، ص٢٤٤–٢٤٧.
٥١  السابق ج١ن وحدانية ص٢٠٧؛ العلَّة ص٢١٤-٢١٥، ٢٥٩-٢٦٠.
٥٢  وهو ما سمَّاه كانط الأدلة البعدية على وجود الله، الدليل الكوني وغيره من الأدلة التي تبدأ من العالم لإثبات وجود الله. وهي مُستحيلة عند كانط؛ لأنَّ الواقع لا يُنتج فكرًا، والبَعدي لا يُثبت القبلي.
٥٣  السابق، العلة ج٢٢٦، ٢٣٥.
٥٤  السابق، العلة ص١٥، ج٢، الإشكال ص٦٠، ٦٣، ٥٤-٥٥.
٥٥  هذا على خلاف الغرب الحديث والفصل بين البِنية والتاريخ، بين العلم وتاريخ العلم، إنكارًا لمَصادره، وأخذًا للحاضر دون الماضي في نقده للماضي واندفاعه نحو المُستقبَل بإيقاعٍ سريع للتغيير المستمر، فالفعل يُؤدي إلى رد الفعل.
٥٦  نصوص فلسفية ص٦٥–٦٨، الجو ص٩١-٩٢.
٥٧  الرسائل ج٣، المد والجزر ص١١٠، ١١٥، ١٢١-١٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤