خامسًا: نقد النسق الأشعري (نظرية الذات والصفات والأفعال)

بالرغم من حديث ابن رشد عن الفرق إلا أنه ينقد علم الكلام باعتباره نسقًا عقائديًّا له بنيته الخاصة بالرغم من عدم إظهارها تمامًا بأقسامها المختلفة. وهي بنية خماسية تتضمَّن خمسة فصول: الأول البرهنة على وجود الله دون نظريتي العلم والوجود، والثاني القول في الوحدانية وهو أحد أوصاف الذات الستة: الوجود، والقدم، والبقاء، والقيام بالنفس، والتنزيه، والوحدانية. والثالث الصفات وهي سبع: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع والبصر والكلام والإرادة. والرابع في معرفة التنزيه، عودًا إلى أوصاف الذات الستة. والخامس في معرفة أفعال الله، انتقالًا من التوحيد إلى العدل في خلق الأفعال (القضاء والقدر)، والنبوة، والمعاد، والاستِحقاق، باستثناء الإيمان والعمل والإمامة. والغريب التخلي عن المشكلة السياسية لأن الخصم فيها ليس الأشاعرة بل الشيعة، وهي معركة داخلية بين فرق أهل السنة. ومع ذلك كان يُمكن رفض شرط القرشية، موضوع الخلاف بين الأشعرية والشيعة من ناحية والمعتزلة والخوارج من ناحية أخرى. وإذا كانت الفكرة الشائعة عن ابن رشد أن مشروعه فكري يهدف إلى السياسة فأين الإمامة؟ ونظرًا لأهمية التأويل فقد خصصت له الخاتمة «قانون التأويل». ويغلب موضوع العقل والنقل في مبحث العدل وغلبة خلق الأفعال. ومن الطبيعي ألا تكون القسمة ثنائية، إلهيات ونبوات أي عقليات وسمعيات وابن رشد هو العقلاني فهي قسمة متأخرة غلبت على القرنين السابع والثامن. ومن الطبيعي ألا تظهر المقدمات النظرية الأولى، نظرية العلم ونظرية الوجود لأنهما لم يتضخَّما ويُصبحا نصف العلم أو أكثر إلا بعد القرن الخامس في عصر ابن رشد وفي القرنين التاليين له قبل أن يتوقف العلم كلية في دورته الأولى. ومن حيث الكم أطول الفصول الخامس، في معرفة أفعال الله، ثم الرابع، في معرفة التنزيه، ثم الأول، في البرهنة على وجود الله، ثم الثالث، في الصفات، وأصغرها الثاني، القول في الوحدانية.١

(١) الأدلة على وجود الله

يبدأ ابن رشد نقده لعلم الكلام بموضوع البراهين على وجود الله دون أن يتعرَّض لنظريتي العلم والوجود بل يدخل في العقائد مباشرة دون أصولها النظرية. ربما لأنه فقيه يرى أنها أمور زائدة.٢ وربما لأنها عقلية خالصة لا اعتراض عليها. ومعرفة الصانع أول معرفة تجب على المكلف. وهكذا قصد الشارع في الكتاب. وقد يوضع سؤال: هل معرفة الصانع نظرية أم عملية، معرفة الخير والشر أو الحسن والقبح أو الواجب والمحرَّم أي معرفة قواعد السلوك؟ المعارف النظرية بعدية وليست قبلية بدليل عدم اعتماد علم الأصول على معرفة الله واكتفائه بذكر الشارع لأن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية كما يقول الشاطبي في «الموافقات». وكيف يُمكن الجزم بأن هذه الطريقة التي يستنبطها ابن رشد هي التي قصدها الشارع في الكتاب ما دام أصبح مقروءًا ومؤولًا.٣
وتتضمن البرهنة على وجود الله نقد دليل أهل الظاهر ونقد دليلي الأشاعرة، دليل الجوهر الفرد، ودليل الممكن والواجب ثمَّ عرض ابن رشد الدليلين البديلين، دليل العناية، ودليل الاختراع.٤ وليس لأهل الظاهر أي الحشوية منهج إلا السمع دون العقل. وليس للأشعرية منهج إلا العقل المزيف الذي يُساء استخدامه تبريرًا للشرع. ويقترح ابن رشد المنهج العقلي الشرعي الذي يُحسن استخدام العقل، ويعرف مقاصد الشرع من الكتاب أي الجمع بين الحسنيين. والعقل الشرعي هو العقل المنطقي البديهي الفلسفي الفطري وليس العقل المزيف، الإيمان المقنع، العقل الغيبي الذي يدمر العالم ويقلبه رأسًا على عقب.

(أ) دليل القدم والحدوث

والبرهان الأول وهو الأشهر الذي تَعتمد عليه العامة هو برهان القدم والحدوث. ويقوم على ثلاث مقدمات:
  • (أ)

    الجواهر لا تنفكُّ عن الأعراض. وهي مقدمة طبيعية يتفق عليها علماء الطبائع ولكن الأشاعرة يُثبتون عكسها.

  • (ب)

    الأعراض حادثة أي متغيِّرة وليس بالإضافة إلى موجود قديم.

  • (جـ)

    ما لا ينفكُّ عن الحوادث حادث، وهو تحصيل حاصل؛ فإذا كان البرهان يقوم على الإضافة، فالمتضايفان متساويان في القيمة ومشروطان بعضهما بالبعض، يعتمد كل منهما على الآخر مثل الكبير والصغير، العظيم والحقير، الطويل والقصير، البدين والنحيل. وكلاهما نسبيَّان، نسبة كل منهما إلى الآخر وليسا مطلقين. ولا يوجد طرف واحد مُطلَق.

والمقدمة الأولى، إذا كان المقصود بها الأجسام المشار إليها فهي صحيحة. فهي مقدمة علمية تجريبية يتحقَّق من صدقها العلم الطبيعي فهي صحيحة علميًّا. وإذا عنوا بها الجزء الذي لا يتجزَّأ، الجوهر الفرد غير القابل للقسمة ففيه شك لأنه غير معروف بنفسه. وفي وجوده أقاويل متضادة، ولا تستطيع قوة صناعة الكلام التحقُّق من صدقها كما يستطيع ذلك البرهان. والأدلة التي تستعملها الأشعرية لإثباته خطبية أي إنشائية شعبية تصويرية مثل ضرب المثل بالفيل والنملة على الأجزاء ونقصها. الجوهر الفرد أسطورة، مجرَّد افتراض، قول لا يُمكن البرهنة عليه بعلم المنطق بل بعلم الطبيعة. كما تقوم المقدمة على الخلط بين الكم المنفصل والكم المتصل أو باختصار بين الكم والكيف. المتصل هو الذي له طرفان ووسط، والمنفصل ليس كذلك. المتصل به أعظم وأكبر، والمنفصل أكبر وأقل. الهندسة في مقابل الحساب، والرياضة في مقابل الطبيعة. وقد يقال: ألا توجد ذوات أقل وقدرات وأوسع نطاقًا (مخ الإنسان) وقدرات أكثر وقدرات أقل (الحيوان)؟ ألا توجد نوعيات في الذرات الطبيعية؟ هل الذرات الحيَّة هي نفسها الذرات المصمتة؟ ألا يؤدِّي الاختلاف الكمي إلى اختلاف كيفي؟٥
ولا يُمكن الانقسام إلى ما لا نهاية لأن أقسام المتناهي متناهية. وهي من البديهيات وفي نفس الوقت لماذا لا يَنقسم الجزء الذي لا يتجزأ إلى ما لا نهاية، ويكون في المتناهي أجزاء لا نهاية لها؟ وهو تناقض لأن أجزاء المتناهي مُتناهية كالبديهية الأولى. فالأشاعرة في حموة الفكر الديني ينسون أوائل المعلومات. وإذا كان الجزء الذي لا يتجزَّأ حادثًا فما المقابل للحادث ما دام الحدوث عرضًا من الأعراض؟ وإذا وجد الحادث ارتفع الحدوث لأن الأعراض لا تُفارق الجواهر. وإذا كان الوجود من غير عدم فبماذا يتعلَّق فعل الفاعل ما دام لا يوجد وسط بين الوجود والعدم؟ وهذا هو الذي اضطر المعتزلة أن تجعل العدم شيئًا. ويلزم المعتزلة أيضًا أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل موجودًا بالفعل. ويلزم الفرقتَين، المعتزلة والأشاعرة، القول بالخلاء.٦

هذه الشكوك كلها ليست في قوة صناعة الجدل. ومن ثَمَّ لا تصح أن تكون هذه المقدمات طريقًا إلى معرفة الله وبخاصة للجمهور؛ لأن طريقة معرفة الله في الشرع أكثر وضوحًا. قد تكون مقدمة إلهية مُقنعة، صورة المركز والمحيط ثم تنتقل بعد ذلك إلى الفكر السياسي، الحاكم والمحكوم. فلا فرق بين علاقة الجوهر والأعراض وعلاقة الذات والصفات من حيث البنية. ولما كان الحدوث عرض لزمهم وضع الجوهر كحامل للأعراض مثل الذات كحامل للصفات حتى يُمكن الانتقال من المحمول إلى الحمل، ومن التغير إلى الثبات، ومن المحيط إلى المركز.

المقدمة الثانية، جميع الأعراض محدثة، مقدمة مشكوك فيها تقوم على قياس الغائب على الشاهد، بعض الأجسام وبعض الأعراض محدثة. وهو تحصيل حاصل، ما دام عرضًا فهو محدث لأن المحمول يساوي الموضوع، مجرد خلاف لفظي، ولا حاجة إلى المرور بالأعراض إلى الأجسام، بل من الأجسام إلى أجسام أخرى مباشرة ما دام الأمر في الحالتين قياس الغائب على الشاهد. والجسم السماوي الغائب مشكوك في إلحاقه بالجسم الأرضي في الشاهد. الشك في حدوث أعراض كالشك في حدوث نفسه لأنه لم يحسَّ حدوثه، لا هو ولا أعراضه. لذلك يكون الفحص في حركته من أجل الانتهاء إلى معرفة الله بيقين، وهو طريق الخواص، طريق إبراهيم لأن الشك كله في ألوهية الأجرام السماوية. والزمان عرَض ويَصعب تصور حدوثه لأن الحادث يتقدَّم العدم بالزمان. ويصعب تصور حدوث المكان الذي تكوَّن فيه العالم لأنه إن كان خلاء يتقدم حدوثه خلاء آخر. وإذا كان المكان نهاية الجسم المحيط بالتمكن لزم أن يكون هذا الثاني في مكان فيحتاج الجسم إلى جسم إلى ما لا نهاية.٧

هذه كلها شكوك عويصة. وأدلتهم لإبطال قدم الأعراض لازمة لمن يقول بقدم ما يحس منها حادثًا، من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة إن لم تكن حادثة. فإما أن تكون متنقِّلة من محل إلى محل أو أن تكون كامنة في المحل، ويُبطلون القسمين. ويظنون أنهم أثبتوا أن جميع الأعراض حادثة في حين أنهم بينوا أن ما يظهر من الأعراض حادثًا فهو حادث لا ما يظهر حدوثه ولا ما يشك في أمره مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية. ترجع كل أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الغائب على الشاهد، وهو دليل خاطئ لأن النقلة معقولة بنفسها، وهو أساس الفكر الديني الكلامي مثل المهندسين في الإلهيات.

والدليل كله أيضًا تدمير للعالم وقياس للغائب على الشاهد. فهل الجبل والشمس والقمر والسماء والأرض والعالم أعراض؟ هل يجوز أن تكون على غير ما هي عليه؟ كلها قسمة داخلية وحديث العقل مع نفسه لإيجاد اتساق له، ونوع من الرضا والطمأنينة الذاتية والإيهام بالتفكير والاستقلال، خداع أمام النفس، واتِّساق واطمئنان لتطابق الفكر مع الإيمان ذاتيًّا بالوهم. ومحاولة المتكلِّمين إيجاد برهان عقلي، حدوث الأعراض لإثبات حدوث الأجسام اجتهاد يقوم علم الكلام كله عليه، ويكاد يقترب من تصور علوم الحكمة التي تَستعمل أيضًا ثنائية الحادث والقديم.

والمقدمة الثالثة، مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، مشتركة الاسم لأنها يمكن أن تفهم على معنَيَين: الأول ما لا يخلو من جنس الحوادث ويخلو من آحادها. والثاني ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه. والمعنى الثاني صحيح أي ما لا يخلو من العرض المشار إليه لأنه لو كان قديمًا لخلا من الأعراض، هو خلف لا يُمكن. وأما المعنى الأول فلا يلزم منه المحال؛ لأنه يُمكن تصور المحل الواحد تتعاقب عليه أعراض غير متناهية، متضادة أو غير متضادة كما يرى ذلك كثير من القدماء في العالم أنه يتكوَّن واحدًا بعد آخر. لذلك لما شعر متأخرو المتكلمين ضعف هذه المقدمة أرادوا تقويتها فبينوا أنه لا يُمكن أن تتعاقب على محلٍّ واحد أعراض لا نهاية لها إذ لا يوجد عرض في محل إلا ووجدت قبله أعراض لا نهاية لها. وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها المشار إليه لأنه لا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له. ولما كان لا يَنقضي وجب ألا يوجد هذا المشار إليه. والقول بأن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده ليس صادقًا من جميع الوجوه لأن الأشياء التي توجد بعضها قبل بعض قد توجد إما على جهة الدور أو على جهة الاستقامة. على جهة الدور تكون غير متناهية، وعلى جهة الاستقامة لا يكون متناهيًا لأنه إذا لم يوجد الأول لا يوجد الأخير. وتحديد طريقي التعاقب على الدور أو الاستقامة يكشف مسارين فكريَّين. الأول المسار العلمي حيث هناك تداخل بين العلَّة والمعلول، والمسار الديني الذي يوجب الوصول إلى علة أولى. والمعاب هو الفكر التمثيلي. فكل مثل يطابق ولا يطابق، ونقص في التجريد. وهذا كله توهم برهان وليس برهانًا. وليس برهانًا بسيطًا يليق بالجمهور والذي كلَّف الله به عباده بالإيمان به. فطرق الأشعرية ليست برهانية للفلاسفة ولا شرعية للجمهور. والحقيقة أن هذه المقدمة تحصيل حاصل وكأنها تقول الحادث حادث، تكرار الموضوع والمحمول. وقد لا تكون هناك حاجة إلى كل هذا النقد المنهجي المنطقي الذي قام به ابن رشد، ولكنه الفيلسوف الذي يَنقُد المتكلم من تصور أدق ومنظور أوسع. ولا فرق بين ما لا يخلو من جنس الحوادث أو حادث واحد. والمطلوب في الحجج الكلامية ليست الحقيقة في الواقع بل الاتِّساق العقلي حتى لا يعيش الإنسان موزعًا بين عقله وإيمانه. فهذه ليست براهين علمية خالصة للخاصة كما هو الحال في براهين الفلاسفة، ولا هي واضحة وبسيطة للعامة كما هو الحال في الشواهد الروحية.٨

(ب) دليل الجوهر الفرد

والدليل الثاني هو دليل الجوهر الفرد (دليل الجزء الذي لا يتجزَّأ) يقوم على أن العالم حادث. وهي مقدمة تقوم بدورها على مقدمات أخرى هي تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزَّأ. ولما كان الجزء الذي لا يتجزأ محدث والأجسام محدثة بحدوثه فإن العالم حادث. ويتركب هذا القياس على النحو الآتي:
  • (أ)

    تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ.

  • (ب)

    الجزء الذي لا يتجزأ محدث.

    الأجسام حادثة بحدوثه.
    العالم حادث.

وإذا كان العالم محدثًا فلا بد أن يكون له محدث طبقًا للتفسير بالعلة الفاعلة، وكأنها لا بد أن تكون من الخارج باستمرار، وكأن العلل المادية أو الصورية أو الغائية ليست عللًا. إنَّ افتراض محدث إيمان عقلي، أقرب إلى التناقض، يتضمَّن الشيء ونقيضه، منطق وطبيعة وإلهيات، عمل للذهن لا يطابق شيئًا في الواقع، وما زال في حاجة إلى دليل للانتقال من المنطق إلى الطبيعة.

إن الانتقال من المحدَث إلى المحدث يضع احتمالات ثلاثة لا تجعل المحدث أزليًّا ولا محدَثًا وهي:
  • (أ)

    لو كان محدثًا لافتقر إلى محدث إلى ما لا نهاية، وهو استعمال لحجة الخصم، العلة الفاعلة، واستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية.

  • (ب)

    لو كان أزليًّا لتعلَّق بموجودات أزلية.

  • (جـ)

    استحالة خروج حادث من قديم لأن الشبيه لا يخرج إلا من الشبيه، ولو كان المحدث يفعل حينًا ولا يفعل حينًا آخر فإنه يكون خاضعًا للتعليل، علة وعلة العلة إلى ما لا نهاية.

والحقيقة أن ابن رشد ما زال ينقد الدليل الأشعري بعقلية أشعرية بحيث لا يتجاوز الخلاف الأشعرية بين أشعريين. ينقص نقد ابن رشد للدليل النقد الجذري المنطقي الطبيعي، العقلاني التجريبي اعتمادًا على رُوح ابن رشد نفسه تطويرًا لابن رشد دون اعتباره آخر الأنبياء، ونهاية التاريخ.٩

إنَّ هذه البراهين هي مجرد إيجاد نسق عقلي والبحث عن أصول عقلية يستند إليها الفكر لإثبات وجود الله، إما عن طريق وضع مقدمات والانتهاء منها إلى نتائج، وهو الأغلب أو عن طريق وضع مقدمة تحتاج إلى مقدمات أخرى لإثباتها قبل استعمالها مع مقدمات أخرى. فالفكر قد يكون «تقدميًّا»، من المقدمات إلى النتائج أو تراجعيًّا، من المقدمات إلى مقدمات أخرى سابقة عليها. والبداية بالطبيعة من أجل إما تقنيتها بالأجسام ثم تفتيت الأجسام في الأجزاء التي لا تتجزأ وكأن إثبات وجود الله لا يأتي إلا على حساب الطبيعة أو من أجل إدانتها ووصفها ببعض صفات النقص الإنساني من أجل الانتهاء إلى صفات الكمال الإلهي مثل القدم. الحالة الأولى تدمير للطبيعة، والحالة الثانية اغتراب عنها.

والسؤال هو: هل هذه المقدمات عقلية أم تجريبية أو هي إيمانية مُقنعة؟ الحقيقة أنها ليست مقدمات عقلية برهانية كما لاحظ ابن رشد، وليست مقدمات تجريبية لأن المتكلِّمين ليسوا علماء بل هي مقدمات إيمانية مقنعة تستعمل العقل لتبرير الإيمان. طريقة صياغة المقدمات تسمح بوجود الله مثل اعتبار العالم حادث لإثبات أن الله قديم، أو اعتبار العالم أجسام. والجسم من أجزاء لا تتجزَّأ لإثبات حدوثها لأن الله قديم. فالإيمان يأتي مبطنًا أولًا بأن الله قديم ثمَّ يتكيف العقل طبقًا له في صياغات تبدو عقلية تجريبية وهي في حقيقتها إيمان مُصطَنع. ويُمكن معارضة هذه المقدمات العقلية والتجريبية التي تعبر عن إيمان مقنع بمقدمات أخرى تعبر عن طبيعة العقل مثل أن العالم قديم إذ ينشأ الإنسان فيه، ويستمر بعده، أو أنَّ هناك جسمًا لا يتجزأ مثل الجبل والشمس والقمر والإنسان. وأحيانًا يبدو الدليل مُصطنعًا إذا ما حاول إثبات مقدمة بمقدمات أخرى مثل إثبات أن العالم حادث بطريقة الجزء الذي لا يتجزَّأ. إذ يكفي إدراك حدوث العالم بملاحظة التغير فيه. الدليل إذن أقرب إلى الإلهيات العقلية منه إلى الطبيعيات العلمية، لا هو إيمان صريح بتوجيه النص إلى الشعور كما تفعل الحشوية، ولا هو عقل مقنع وهو ما يستحيل في الإلهيات لأنها طبيعيات مقلوبة إلى أعلى أو نفسانيات مسقطة من الداخل إلى الخارج.

وفي علاقة القديم بالحادث يرى ابن رشد أن الحادث يخرج من الحادث، والقديم من القديم، ولكن الحادث لا يخرج من القديم، ولا القديم من الحادث. المتشابه يخرج من المتشابه ولكن المُختلِف لا يخرج من المتشابه. ومن ثَمَّ، ليس أمام المتكلمين إلا احتمالات ثلاثة يُجوِّزونها على القديم:
  • (أ)

    إرادة حادثة وفعل حادث، وهو ما يستحيل على الله عقلًا.

  • (ب)

    إرادة قديمة وفعل قديم، وهو ما يستحيل طبيعيًّا أيضًا. فإذا خرج القديم من القديم يكون حادثًا. فالخروج حدوث. والعالم خرج من الله على هذا الأساس، ولا يوجد قديم خارج.

  • (جـ)
    إرادة قديمة وفعل حادث، وهو ما يقبله المتكلِّمون ويرفضه الحكماء لأنه يستحيل دون واسطة أو القول بالخلق من عدم. والعزم على الإيجاد في وقتٍ مخصوص يعني أن الحادث كان موجودًا في الإرادة القديمة، النية على الإيجاد. وكان العالم موجودًا في العلم الإلهي قبل الخلق؛ ومن ثَمَّ فهو قديم كفكرة ونيَّة وإرادة. فهذا الاختيار للاحتمال الثالث لا يخلص المتكلمين من الشك لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بالمفعول. فإذا كان الفعل حادثًا وجب أن يكن الفعل المتعلق بإيجاده حادثًا. فالحادث لا يخرج من القديم. وقد استعمل المتكلمون نفس البرهان لإثبات حدوث دورات الفلك فيتناقضون. يقبلون شيئًا في الإلهيات ويرفضونه في الفلك أو العكس، ما يقبلونه في الإلهيات يقبلونه في الفلك. وقد صرح المتكلمون — أي الأشعرية — أن الله مريد بإرادة قديمة، وهي بدعة؛ إذ كيف يكون مراد حادث عن إرادة قديمة حتى ولو تمَّ ذلك في وقت مخصوص، الوقت الذي وجد فيه.١٠
ويختلط القديم والحادث أحيانًا بالزمان. فالقديم سابق على الفعل، والحدوث معه أو تالٍ له بناءً على التجربة البشرية، أن القديم أعلى قيمة من الحادث مثل القدم والإبداع. فالقدم من صفات الله ومن صفات الحادث، العرجون القديم، والجبن القديم، مع أن الله أيضًا هو بديع السموات والأرض، والإبداع حدوث. ولكن استقر في الوجدان الشعبي أن صفة القديم أعلى قيمة من صفة الحديث، ومن ثَمَّ إسقاطها على الله. كما جرت عادة المتكلمين بالقول بأن الله تعالى يعلم الأشياء قبل كونها على ما تكون عليه في حين كونها من زمان ومكان غير ذلك من الصفات المختصة بالموجودات، وذلك كحل لإثبات تغير العلمين، العلم القديم والعلم الحادث. ولا يوجد حد يشمل العلمين معًا كما توهم «المتكلمون من أهل زماننا».١١
والحقيقة أن هناك احتمالًا رابعًا لا يُعقل ولكنه وارد من حيث منطق الاحتمالات، وهو إرادة حادثة وفعل قديم. وهو ما تؤكده تجربة الحب البشري الذي يأتي بفعل حادث ثم يكتشف أنه فعل قديم بعد التعرف والحب والعودة إلى الأصول. ومن لقاء عرضي بين الأب والأم قد يخرج الإسكندر أو نابليون أو صلاح الدين. كما أن الإنسان الحادث قادر على أن يُخرج القديم، يتصوره ويبدعه ويتمثله ثم يعبده ويقدسه ويؤلهه.١٢

والاختلاف بين المتكلمين الأشعرية والحكماء المتقدمين في مسألة قدم العالم وحدوثه إنما يرجع إلى التسمية خاصة من بعض القدماء؛ إذ يقول المتكلمون مع الحكماء بتناهي الزمان والوجود في الماضي وعدم تناهيه مع الوجود في المستقبل عكس الحكماء الذين يقولون بلا تناهيه في الماضي والمستقبل؛ إذ لا يحرص المتكلمون على الخلق قدر حرصهم على البعث في حين أن البعث عند الحكماء بعث روحاني لا يحتاج إلى مكان أو زمان.

وقد ظنَّ المتكلمون أن القدم والحدوث من الأسماء المتقابلة وهي ليست كذلك. فإنهما لفظان ليسا متباعدَين إلى هذا الحد. وهما أقرب إلى التضايف منهما إلى التقابل. التضايف في الذهن، والتقابل في الطبيعة. ومن ثَمَّ يكون التحدي هو كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان؟

وينقل ابن رشد الفكر الكلامي إلى الفكر الفلسفي عبر المصطلحات، من الحادث إلى الضروري في الأدلة على وجود الله. منظور المتكلمين إلهي في حين أن منظور ابن رشد طبيعي.

ويرجع الخلاف بين المتكلمين وابن رشد إلى فهم كلٍّ منهما للآيات. فعند ابن رشد لا يوجد فقط اختلاف الأفعال بل أيضًا اتفاقها باستثناء أبي المعالي في حين أن المتكلِّمين يفهمون فقط اختلاف الأفعال. يفكر ابن رشد بمنطق الهوية في حين يفكر المتكلمون بمنطق الاختلاف. عند ابن رشد الحادث من الحادث، والقديم من القديم، ولكن لا الحادث من القديم، ولا القديم من الحادث. وعند المتكلمين لا القديم من القديم، ولا الحادث من الحادث، الحادث من القديم وليس القديم من الحادث. وهو ليس برهانًا عقليًّا بل مجرد تعبير عن الإيمان الشائع، منطق الشرف، أن الله أفضل من العالم وسابق عليه.

والحقيقة أنهما مفهومان إضافيان، يعيش كل منهما على الآخر، ولا يوجد بذاته. فالحادث أي البشر يحيل بالتمني إلى ما هو أكثر صلابة. والصلابة أمنية تجعل الإنسان يشعر بحده. والتضايف في الداخل وليس في الخارج، في الذهن وليس في الطبيعة، مطلب نفسي ومقتضى أخلاقي. وليس في الوجود سلم تراتبي.

(ﺟ) دليل الممكن والواجب

والدليل الثالث هو دليل المُمكن والواجب. فإذا كان دليل القدم والحدوث ودليل الجوهر والأعراض على مستوى الطبيعة فإن دليل الممكن والواجب على مستوى ما بعد الطبيعة. الأول مستوى اللاهوت (الثيولوجيا)، والثاني على مستوى الوجود (الأنطولوجيا). وهما برهان واحد في مرحلتين مختلفتين في تطور علم الكلام، من الكلام المشخص المشبه إلى الكلام المجرد المنزَّه. يفصل بينهما القرن الخامس، ما قبل البرهان الطبيعي وما بعد البرهان الفلسفي بعد تحول الفلسفة، بعد نقد الغزالي لها، من الباب الخلفي وعودتها في صورة علم الكلام وكما بدا ذلك خاصة في المواقف للإيجي. وأول من استعمل هذا الدليل أبو المعالي في القرن الخامس الذي حدث فيه التحوُّل من الكلام إلى الفلسفة في «الرسالة النظامية». فهو أول من قال بأحكام العقل الثلاثة؛ الواجب والممكن والمستحيل.

ويقوم الدليل على مقدمتين. الأولى أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه. والثانية أن الجائز مُحَدث وله محدث أي فاعل يصير أحد الجائزين أولى من الآخر. المقدمة الأولى خطبية، ظاهر كذبها في بعض أجزاء العالم مثل كون الإنسان موجودًا على غير خلقته، والبعض الآخر مشكوك فيه مثل تحول الحركة من شرقية إلى غربية أو العكس وكأنه لا توجد علة ظاهرة معروفة أو باطنة خفية على الإنسان. وهي طريقة تفكير من هو من غير أهل الصنعة الذي يظن أن كل شيء يُمكن أن يكون خلاف ما هو عليه غير مدرك للغاية أو الحكمة منه. أما من هو أهل الصنعة فإنه يُدركها ويدرك ضرورته وكماله. والخلق في النهاية صنعة من صانع. هذه المقدمة الخطبية تصلح لإقناع الجميع ولكنها كاذبة ومُبطلة لحكمة الصانع لأن الحكمة معرفة أسباب الشيء. وإن لم يكن للشيء سبب ضروري فإنه يَقضي على وجودِه وعلى الصفة التي هو موجود بها. ودون هذا الوجود لا تكون معرفة يختصُّ بها الحكيم الخالق. ولا توجد صناعة أصلًا، ولا حكمة الصانع، ولا حكمة في حياة الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يُمكن أن تكون باتِّفاق. فيحدث الأبصار بالأذن، والسمع بالعين. وهذا إبطال للحكمة. والحكيم اسمٌ من أسماء الله الحسنى.١٣

وينطبق هذا النقد على ابن سينا لأنه يعتبر كل موجود سوى الفاعل ممكنًا وجائزًا في ذاته. والجائزات صنفان؛ جائز باعتبار فاعله وواجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته. أما الواجب بجميع الجهات فهو الفاعل الأول. وهو قول ساقط لأن الممكن في ذاته لا يكون ضروريًّا من قبل فاعله إلا لو انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري. ولا يُمكن أن يكون ممكنًا بارتفاع فاعله لأن ارتفاع فاعله مستحيل. وقد اخترع هذا الرجل أشياء لا يجوز حتى نقاشه فيها.

وهي في الحقيقة مقدمة خطبية أي وجدانية شعبية خيالية، صورة فنية وهمية لا برهانية، لا عقلانية، دينية صوفية. مهمتها الإيهام والإيحاء من أجل الاقناع السريع بالتأثير على النفس، والإبهار ومخاطبة الوجدان الديني مثل مقدمات المشايخ الدعاة، الفيل أكبر من النملة، تقوم على التشخيص. فلماذا علة فاعلة مشخصة وليس قانون الطبيعة الذاتي أي العلة المادية أو الصورية أو الغائية؟ وهي مقدمة كاذبة لا يُصدقها الحس. وإذا كانت هناك لا حتمية في الطبيعة فإنه يمكن معرفتها علميًّا، والتنبؤ بها إحصائيًّا، وإخضاعها للقانون العلمي اللاحتمالي. فالاحتمال يخضع لقوانين الاحتمال. لا بخت ولا مصادفة ولا عشوائية في الطبيعة. وهي مقدمة تقوم في النهاية على تدمير العالم. تُعطي الأولوية للقدرة على الحكمة، وللإرادة على العناية، ولله على الطبيعة والإنسان، سبقًا لموضوع الحرية والإرادة في الطبيعة لأنها مشكلة العلية والسببية والقانون. بعد أن يثبت الله تثبُت صفاته، الإرادة والقدرة. وليس بإثبات الإرادة والقدرة تثبت الذات. هناك قفز منطقي بإعلان النتائج قبل المقدمات. تبطل حكمة الصانع، والحكمة معرفة الأسباب والمسببات. تقضي على عنصر الثبات في العالم، وتضحي بالعلة الغائية من أجل العلة الفاعلة. والغاية هي الحكمة في الصنع. تثبت وجود الله وتضحي بوجود الإنسان في العالم، والثقة بالنفس وبمناهج السلوك. يُمكن أن تكون لها قوة تدمير ضد العلم. نقد ابن رشد هنا أكثر وضوحًا وأقل تجريدًا، وأكثر حسية حتى ولو قيل إن هذه العقلانية تعبير عن إيمان عميق (فسبحان الخلاق العظيم).١٤
والمقدمة الثانية، الجائز مُحدث، غير واضحة بذاتها. اختلف فيها العلماء وهو مطلب عويص لا يتبين حقيقته إلا أهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصَّهم الله بعلمه، وقرن شهادته بشهادتهم وشهادة الملائكة في الكتاب. أهل صناعة البرهان ليسوا أنصار اليونان بل القادرُون على فهم أدلة الكتاب وبراهينه. وقد حاول أبو المعالي إثبات هذه المقدمة بمقدمات أخرى مثل أن الجائز لا بدَّ له من مخصص يجعله أولى بأحد الوضعين الجائزين، وأن هذا المخصص لا يكون إلا مريدًا، وأن الموجود عن الإرادة حادث. وبيَّن أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد. فكل فعل إما أن يكون عن الطبيعة أو عن الإرادة. والطبيعة لا تجعل أحد الجائزين المتماثلين أولى من الآخر. الإرادة هي التي تختص الشيء دون مماثلة. ولما كان العالم قد وجد من الخلاء بلا مماثلة فإنه يكون خلق عن إرادة. ويرى ابن رشد أن القول بأن الإرادة تخص أحد المماثلين صحيح. أما القول بأن الخلاء يُحيط بالعالم فغير صحيح أو غير بين بنفسه، ويلزم منه أمر شنيع، وهو أن يكون قديمًا لأنه إذا كان محدثًا احتاج إلى خلاء. أما القول بأن الإرادة لا يكون منها مراد مُحدَث فغير بيِّن لأن الإرادة بالفعل مع فعل المراد. الإرادة من المضاف، وإذا وُجد المُضاف وجد المضاف إليه، الفعل بالفعل، والقوة بالقوة، والقديم بالقديم، والحادث بالحادث. والحقيقة أنه لا يوجد خلاف كبير في المعنى بين الجائز والممكن والمُحدث والحادث والموجود بغيره. كلها مُصطلحات لهدم الوجود وتدمير العالم، وإنكار الاستقلال الذاتي للأشياء نتيجة للاغتراب الديني الذي يُعطي الله ما يأخذه من العالم، ويسلب العالم ما يهبه لله. يبدأ بالزيف، وينتهي بالزيف، ويظنُّ أن مجموع الخطأين صواب.١٥

كما يقوم الفكر كله على التشخيص، لا بدَّ أن يكون المخصص مريدًا. والتشخيص نوع من التجسيم والتشبيه، وأقرب إلى تصور العوام والبسطاء، أن هناك قوى مشخصة تسير أحداث الكون، في حين أن قوانين الطبيعة التي تعبر عن قوى الطبيعة ذاتها أقرب إلى التصور العلمي سواء كان قانونًا حتميًّا أم احتماليًّا. فالطبيعة عاقلة ومريدة. وترجيح أحد المتماثلين لا يحتاج إلى إرادة مشخصة. يكفي مسار الطبيعة ذاته. كما لا توجد إرادة مشخصه في الجسم العضوي بل هي قوى الطبيعة. وقد يكون للإرادة معنى مجازي عند ابن رشد أي قوى البدن الطبيعية. وإن لم تخضع لقانون فإنها تكون هوائية انفعالية مزاجية. فالقانون أساس الإرادة. وقد هرب المتكلمون من الأشعرية من القول بفعل القوى الطبيعية التي ركبها الله في الموجودات التي ها هنا كما ركب فيها النفوس وغيرها من الأسباب المؤثرة. كما أن قياس الأولى قياس إنساني خالص، أخلاقي شرفي، يمثل درجات الشرف والكمال والرقي الطبيعي في الإنسان. هو اقتضاء ووجوب ومطلب. ولفظ «يجب» هو وجوب عقلي طبيعي في الظاهر، ووجوب نفسي وأخلاقي في الباطن، والاستدلال به في النهاية نوع من التكرار وتحصيل الحاصل مثل الموجود من الإرادة حادث لأن الجائز حادث، وكلها مترادفات.

(د) الأدلة البديلة

العناية والاختراع. وبعد نقد أدلة المتكلمين يأتي البديل، أدلة ابن رشد. بعد الهدم البناء، وبعد السلب الإيجاب. الطرق الشرعية التي نبه الله عليها في الكتاب ويمكن استقراؤها منه والتي استعملها الصحابة طريقان: الأول طريق العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله وهو دليل العناية. والثاني ما يظهر من اختراع الأشياء الموجودة مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، وهو دليل الاختراع أي جعل الحياة في الجماد وليس الخلق، جعل النطق في الإنسان أي الحياة، النفس في البدن. وبالتالي يقلب ابن رشد الفرقة الناجية إلى فرقة ناجية أخرى بمنطق الاستبعاد، مزحزحًا الأشعرية ليحل محلها، وليس مجرد اجتهاد باجتهاد. مع أن الأشعرية تدعى أيضًا أن أدلتهم هي طرق الشرع.

ودليل الاختراع أوسع نطاقًا من دليل العناية لأن العناية قصد إنساني خالص في حين أن الاختراع يدخل فيه الوجود كله، نبات وحيوان وأرض وسماء. وإذا كان الاختراع دعوة إلى التعرف على الأشياء، الله يدفع إلى الطبيعة، والطبيعة طريق إلى الله، معرفة الحكمة أولًا أي السبب والغاية من أجل الوقوف على العناية فالاختراع إذن مرادف للعناية تقريبًا. إنما العناية أهم من الاختراع. الاختراع أقرب إلى الطبيعة في حين أن العناية أقرب إلى الإلهيات. وهما في الحقيقة دليل واحد بلغتين مختلفتين، الإسهاب في دليل العناية والاختصار في دليل الاختراع، وكأن كل شيء قد قيل في الدليل الأول، ولم يعد للدليل الثاني شيء. وهو أقرب إلى الدلالة منه إلى الدليل لأنه مجرد معنى عام أو إدراك إنساني عام دون قضايا منطقية محددة أو استدلال منطقي معين.

ويرى ابن رشد أن الآيات منحصرة في هذين النوعين من الأدلة، آيات العناية وآيات الاختراع، وآيات تجمع بين الاثنين. وهما دليلان مغروزان في الفطرة وفي طبائع البشر، يتحد فيها الوحي والعقل والطبيعة. وهما دليلان إنسانيَّان لا كونيان، يستطيع الإنسان تصورهما ببديهته وفطرته. وكيف تكون في الكتاب فقط طريقتان والكتاب أغنى وأرحب، وبه طرق نفسية واجتماعية وسياسية، لا يتميز فيها التصور عن التصديق أو التعريف عن البرهان أو الذات عن الصفات أو الله عن العالم والمجتمع؟ كيف يعتمد الصحابة عليها والصحابة لم يكونوا أهل نظر؟ والاستناد إلى حجة التراث حجة سلطة كما يستعملها المتكلمون، حشوية أو سلفية أو صوفية. وهل يمكن البحث عن الامور النظرية في الشرع أم إن الشرع لا يتعلق إلا بالأمور العملية؟ هل الفلسفة كالفقه، تجعل أفعال العقل مثل أفعال الجوارح؟ وأيهما أكثر يقينا، وأيهما تدعو الحاجة إليه، أيهما وسيلة وأيهما غاية، النظر أم العمل؟ ألا تحتاج هذه الطرق إلى قدر من التفلسف لفهم العناية والاختراع والموافقة مع الغرض والاتفاق مع القصد؟ وهل تستطيع العامة ذلك؟

يظل الدليلان قراءة ابن رشد وليست أدلة الشرع، اجتهاد مثل اجتهادات المتكلمين، تصيب وتخطئ. وما العمل لو قرأ أحد الكتاب ولم يشعر بهذين الدليلين أو شعر بأدلة أخرى؟ ألا تكون شرعية.١٦
ويعني دليل العناية خلق جميع الموجودات من أجل الإنسان. ويقوم على أصلين: الأول، جميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان مثل موافقة الليل والنهار والشمس والقمر لوجود الإنسان، وموافقة الأزمنة الأربعة والمكان الذي هو فيه وهو الأرض وكثير من الحيوان والنبات والجماد والأمطار والأنهار والبحار وبالجملة الأرض والماء والنار والهواء. كما تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان وموافقتها لحياته ووجوده. كل ذلك يعني منافع الموجودات. يقوم الأصل على العلة الغائية وليس العلة الفاعلة، وأن الإنسان هو الغاية، اتفاق الطبيعة والإنسان. والثاني أن هذه الموافقة ضرورة من فعل فاعل قاصد مريد. وليس اتفاقا.١٧

والدليل قراءة إسلامية صرفة في مقابل التصور اليوناني القائم على أن الله صنع العالم ثم تركه، ويتحرك العالم نحوه بالعشق كما هو معروف عند أرسطو. وهو ليس دليلًا بل مجرد ملاحظة على مجموعة من الآيات ويمكن ملاحظات أخرى على مجموعات أخرى من الآيات. المقدمة الأولى وجدانية حسية تجريبية وليست عقلية مجردة طبيعية ميتافيزيقية، تعارضها شواهد حسية أخرى مثل العقارب والحيات والسبع والهوام والامراض والحروب والحوادث والكوارث والفيضانات والجفاف والرياح والأعاصير والزلازل والبراكين. هل هذه كلها موافقة للإنسان؟ كيف يمكن تبرير الشر؟ أليس هذا انتقالًا من التوحيد إلى العدل، نظرة تفاؤلية، أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة؟ كما أن الطبيعة لا تكون طبيعة مواقة للإنسان إلا بعد السيطرة عليها وتسخيرها والتعرف على قوانينها كما فعل الرسل من خلال الآيات وتسخير الطبيعة لهم، البحر لموسى، والمياه لنوح، والرياح والحشرات والطيور لسليمان، والبدن لعيسى، واللغة لمحمد. إن هذه الموافقة ضرورة من فعل فاعل قاصد مريد وليست مجرد ضرورة طبيعية، فالطبيعة سيدة وملهمة عند الشعراء والأدباء والفلاسفة والحكماء. هناك قفزة في الدليل. بعد المقدمتين تكون النتيجة: إذ العناية موجودة دون تشخيص العناية في معتن. قد تكون هذه العناية حكمة الطبيعة ذاتها. فقد تصور القدماء الطبيعة عاقلة. وهي مثل قفزة الأشاعرة في إثبات المحدث دون إثبات أن هذا المحدث هو الله. وهي من عمل الوهم، من الصفات إلى الذات، ومن الأعراض إلى الجوهر. والتجوهر والتموضع والتشيؤ تجسيم طبيعي.

أما دليل الاختراع فيضم النبات والحيوان والسموات. ويقوم أيضًا على أصلين موجودين بالقوة في فطر الناس. الأول كل الموجودات مخترعة. وهي مقدمة معروفة بنفسها في النبات والحيوان، وتدخل الحياة في الجماد مما يتطلب وجود واهب للحياة. كما أن حركات السموات توحي بالعناية، والتسخير يوحي بالاختراع. والثاني كل مخترع له مخترع، ومن ثَمَّ يكون للموجود فاعل مخترع، ويكون للوجود كله مخترع واحد لجميع الموجودات، وهو أيضًا من معاني الحكمة معرفة السبب والغاية والقصد مثل دليل العناية.

وترجع أهمية الدليل إلى البحث أولًا في الطبيعة عن أوجه الاختراع مثل الصوفية كما قال الغزالي في «في حكمة الله عز وجل» مما يدل على وحدة الوحي والعقل والطبيعة، وكما ظهر ذلك في علم الأصول. وهي الطريقة الشرعية التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب وكما قال الشاعر:

وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد

وعيب الدهرية أنها تجحد الصانع، تؤكد العلم بالمصنوعات دون العلم بالصانع. وتنسب الصنعة إلى الاتفاق وما يحدث من ذاته.

وهاتان الدلالتان هما طريق الخواص أي طريقة العلماء وطريقة الجمهور. إنما الخلاف بينهما في التحصيل؛ إذ يقتصر الجمهور على ما هو مدرك بالحس أي بالمعرفة الأولى. أما العلماء فيزيدون عليه ما يدرك بالبرهان حتى لقد فصلوا في أعضاء الإنسان والحيوان أوجه منفعتها بالآلاف. كما يزيد العلماء على الجمهور التعمق في معرفة الشيء الواحد. فالجمهور ينظر في المصنوعات دون علم بصنعتها في حين أن العلماء يعلمون الصنعة ووجه الحكمة فيها. وهذا يدل على أن المعارف سابقة على الدليل، وما النص إلا تابع للمعارف وليس سابقًا عليها معطيًا إياها. يفضل العلماء الجمهور كمًّا وكيفًا، اتساعا وعمقا. وهل نزل الشرع للعامة دون الخاصة؟ وماذا عن أواسط الناس؟ وكيف يكون الفرق بين العلماء والجمهور أن العلماء تقول بأن العالم متكون من أجزاء بعضها من بعض كالجسد الواحد في حاجة إلى علم من العلماء وهو مالا يفهمه الجمهور مع أنه قادر على فهمه نظرًا لأنه حديث نبوي ينطبق على المجتمع وتعاون الأفراد فيه.١٨

والحقيقة أن المقدمة الأولى قد توحي بأن الطبيعة كذلك، تراكم كمي يحدث تغيرًا كيفيًّا كما لاحظ حي بن يقظان في التولد الذاتي. فهل تراجع ابن رشد عن ابن سينا وابن طفيل في نظرته إلى الطبيعة؟ ولماذا تصور الموجودات مصنوعة؟ أليس هذا قضاء على الوجود الطبيعي وجعل كل شيء مصنوعا أي مزيفًا؟ فإذا كان الوجود حادثًا فإن المصنوع يكون حادثًا مرتين، آليا، يفقد عنصر الطبيعة. كما يحتوي الدليل على قفزتين الأولى من الاختراع إلى المخترع بناء على التشخيص، وهو نوع من التجسيم. والثانية من المخترع إلى الله وهو ما زال في حاجة إلى إثبات. قد تكون الطبيعة والاختراع شيئًا واحدًا دون تشخيص في طبيعة ومطبوعة وطبيعة طابعة. قد تكون الطبيعة هي المخترع. وقد يكون العلم بالمصنوع دون تشخيص في الصانع أكثر عمقًا وتقدمًا للعلم على تشخيص المصنوع في الصانع. قد تكون الدهرية أكثر علمية من التشخيص. وطالما ارتبط تطور العلم بالدهرية.

(ﻫ) نقد دليل التمانع

وينقد ابن رشد دليل التمانع الشهير عند الأشاعرة لإثبات وحدانية الله، الوصف السادس من أوصاف الذات وليس مع باقي الأوصاف. فقد دخل القدم والبقاء في الأدلة على وجود الله. أما القيام بالنفس والتنزيه فإنهما يأتيان بعد السمع والبصر خلطًا بين أوصاف الذات الستة وصفاتها السبع.١٩ وهو دليل شرعي على الوحدانية. وهو معنى النفي الزائد على الإيجاب في «لا إله إلا الله». دليل التمانع لإثبات النفي، نفي تعدد الآلهة، نفي الالوهية عما سواه. وهو دليل في الكتاب بنص الآيات، معزوز في الفطر بالطبع لأنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان لكل منهما فعل صاحبه فلا يمكن أن يكون عند تدبيرهما مدينة واحدة إلا أن يفعل أحدهما ويعطل الآخر، وذلك نقص في صفة الألوهية. فإذا اختلفت الآلهة، ولا يكون أحدهما طيعًا للآخر، اختلفت الأفعال. ولما كان العالم واحدًا فإن فاعلها يكون واحدًا، ويمتنع إلهان. ولو كان هناك إلهان لوجب أن يكونا على العرش معًا. فكيف يوجد موجودان متماثلان في محل واحد بنية واحدة وإلا اتحد المنسوب. وضرب المثل بالملك والمدنية يدل على صلة الله بالسلطان والتوحيد الديني بالتوحيد السياسي، ومما يعطي النظام السياسي ضرورة أن يكون فاعله واحد فيستحيل الفاعلون، ومن ثَمَّ يشرع الحكم الفرد المطلق ويقضي على التعددية السياسية. ويفسر ابن رشد معنى النفي في «لا إله إلا الله» على أنه وصف للوحدانية مع أنهما فعلان من أفعال الشعور، الأول سلب من أجل تحرير الشعور من كل أواصر القهر والعبودية. والثاني إيجاب، ارتباط الشعور بمعيار عام واحد وشامل يتساوى أمامه الجميع. ليس الأمر قضية عددية، الله واحد أو استحالة التعدد في الآلهة بل أثر ذلك على وحدانية الشعور، وشمول القيم حماية له من الشك والنسبية واللاأدرية والعدمية. والوحدانية لا تَثبت نظرًا كقضية عددية بل تتحقَّق عملًا، وحدة الشعور، ووحدة الأمة، ووحدة العالم. والشهادة ليست نطقًا بل فعلًا. فالشهادة العقلية والشهادة الفعلية من نفس الاشتقاق، الشاهد والشهيد. والتصديق بالقول والوجدان والفكر والفعل.٢٠ وتبدو ظاهرية ابن رشد في تصوُّره الله على العرش واستحالة جلوس إلهين عليه في مكان واحد. ليست القضية قضية حسية، نسبة العرش إلى الله، ونسبة الله إلى العرش، بل هي قضية ذهنية صرفة عن الموجود بذاته والموجود بغيره. ولقد استطاع اللاهوت المسيحي حل القضية بالقول بالتعددية داخل الألوهية.
ويرجع الفضل إلى الأشعرية التي ينقدها ابن رشد الذي لم يكن قادرًا على اكتشاف هذه الآيات وإعادة تأويلها لولا دليل التمانع. فالأشعرية ما زالت هي «المهماز» في فكر ابن رشد، المثير الذي لم يستطع التخلُّص منه. والخلاف بينهما في الدليل على جهة التركيز؛ إذ تُركز الأشعرية على احتمال الاختلاف كافتراض نقيض بينما يركز ابن رشد على احتمال الاتفاق وهو أليق بالآلهة. يقوم الدليل في كلتا الحالتين على إثبات ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن، على مقتضى معياري من العقل والبداهة والفطرة السليمة. وهل يحتاج المسلم في عقيدته إلى أن يقيمها على هذه الأدلة وأن التصديق بها يكون معيارًا لإسلامه وإلا كان مسلمًا باشتراك الاسم؟ ميزة هذه الطرق الاستدلالية أنها تحيل الإلهيات إلى المنطق، والموضوع إلى الذهن، وتقضي على الاغتراب الديني والتشيؤ العقائدي.٢١
ودليل التمانُع يُفضي إلى محال غير المحال المذكور في الآية. المحال في الدليل أكثر من محال واحد، ثلاثة أقسام وليس في الآية تقسيم. دليل المتكلمين شرطي منفصل وهو السبر والتقسيم عند الأصوليين، ودليل الآية شرطي متصل. واضح أن ابن رشد ينكر على المتكلمين القسمة العقلية التي وضعوها أصلًا عقليًّا للآية. المحالات في دليل التمانع ثلاثة وهي غير المحال في الآية، أن يكون العلم إما لا موجودًا ولا معدومًا وإما موجودًا ومعدومًا وإما أن يكون الإله عاجزًا مغلوبًا. وهي مستحيلات دائمة لاستحالة أكثر من واحد. والمحال في الآية ليس على الدوام بل في وقت مخصوص، وهو فساد العالم وقت الوجود. وهذه دقيقة من ابن رشد لا تطعن في قوة دليل التمانع، وهو من أفضل ما صدر عن الأشاعرة والذي يعزوه ابن رشد للمتكلمين عامة. كما أن محاولة المتكلمين إيجاد قسمة عقلية للآية قدرة على التنظير وإيجاد الاتساق العقلي لها أي تأسيس النقل على العقل. والاحتمالات الثلاثة التي يذكرونها ليست في الآية ذاتها. فالمتكلمون ذاتيون في الفهم، يضعون من عقولهم في النص ما ليس فيه في حين أن ابن رشد هو الموضوعي الذي يأخذها في عقله من الآية. وهذا ربما ادعاء من ابن رشد. فالمتكلمون يحاولون إيجاد نسق عقلي للآية من داخل العقل من أجل فهم النص تأسيسًا للنقل على العقل. وابن رشد يحاول فهم الآية ذاتها. المتكلمون عقليون، وابن رشد عالم طبيعي، يُحاول إدراك الأشياء ذاتها. عند المتكلمين العقل أساس النقل وعند ابن رشد النقل أساس العقل. يضع المتكلم النقل في إطار العقل في حين يضع ابن رشد العقل في إطار النقل. هنا يبدو المتكلمون أكثر عقلانية من ابن رشد بينما يبدو ابن رشد فقيهًا أزهريًّا. يبدو المتكلِّمون أكثر اقترابًا من الحكماء، وابن رشد أكثر اقترابًا من المتكلمين الأشاعرة وربما الحشوية.٢٢
دليل الممانعة لا يجرى مجرى الأدلة الطبيعية والشرعية. فهو ليس دليلًا طبيعيًّا لأنه ليس برهانًا. البرهان هو الطبيعي نظرًا لتماثُل العقل والطبيعة، وليس شرعيًّا لأنه صعب على الجمهور أن يقتنعوا به. فكر الأشعرية مُتكلَّف مصطنع، لا هو من نتاج العقل، ولا هو متفق مع الشرع، ولا هو مقنع للجمهور. وينتهي ابن رشد إلى أن براهين المتكلمين إما غائبة مثل غياب البرهان على إثبات العلم ونفي الجسمية أو أنها براهين ضعيفة من ذهن المتكلِّم وليس من الآية أو أنها بدعة لا أصل لها في الإسلام. وهو موقف أصولي فقهي خالص، غياب البرهان أو ضعفه أو خروجه على الصراط المستقيم.٢٣ دليل الأشعرية غير مواقع على الطبع؛ لأنه ليس برهانًا. والمخالف للطبع مخالف للعقل لأن الطبيعة عاقلة. ولا يتَّفق مع الشرع لأن الشرع يقوم على العقل والطبيعة، والدليل مخالف لهما.

ويوجز ابن رشد نقده للدليل في أربع نقاط. الأولى أنه صعب على الجمهور ولا يقتنع به؛ لأنه دليل صوري خالص. والجمهور في حاجة إلى تحليل بسيط يعتمد على الصورة الفنية. والحقيقة أن نقد ابن رشد أيضًا صعب على الجمهور. فالأشعرية تكتب للخاصة وليس للعامة. والثانية أنه يقسم الآية وهي خالية من التقسيم. وهو نقد متحامل لأن القسمة العقلية أحد طرق المعرفة في الكلام والفلسفة. وهي محاولة لتنظير الآية وإيجاد نسق عقلي لها. والثالثة أن الدليل شرطي منفصل والآية شرطي متصل وهو أيضًا نقد متحامل لأن الحكم على نوع القضية الشرطية أنها منفصلة اجتهاد من الأشعري وبأنها متصلة اجتهاد من ابن رشد، اجتهاد باجتهاد، دون خطأ أو صواب. ولا ضير حتى على صحة رأي ابن رشد أن يعيد الأشعري صياغة الدليل بما يتفق مع الاستدلال المنطقي، وهو نفس النقد السابق دليل الجوهر الفرد مع ابن رشد الأصولي بمصطلحات الأصولية. والرابعة ينتهي الدليل إلى محالات ثلاثة في حين أن الكتاب ينتهي إلى محال واحد في وقت مخصوص وهو فساد العالم. ولما كان العالم غير فاسد يبطل احتمال أكثر من واحد. وهو أيضًا نقد متحامل لأن تفصيل الاحتمالات الثلاثة عند الأشعري أكثر تفصيلًا وتحليلًا من الاحتمال الواحد. وهذا نتيجة عمل العقل في النص، وقد فصل ابن رشد نفسه حالة الاتفاق وهي ليست في النص. ويمكن للمتكلمين أيضًا نقد دليل ابن رشد بنفس الطريقة وهو أن طريقته في فهم الآية ليست الطريقة الصحيحة، فما مقياس الصواب والخطأ؟ الكل يعبر عن اجتهاد وقراءة، ويعبر عن مزاج وعمق، وظرف وغاية.

ودليل التمانع لا يتفق مع الشرع والعقل والطبيعة طبقًا للوحدة المبدئية بين الوحي والعقل والواقع. فهو لا يتفق مع العقل؛ لأنه ليس برهانًا بل قسمة، ولا مع الشرع لأن الجمهور لا يقدر على فهمه أو الاقتناع به؛ لأن احتمالاته صعبة: يستحيل إلهان لأنهما لو كانا اثنان لاختلفا أو اتفقا. ففي حالة الاختلاف فأما أن يتم مرادهما وهو مستحيل لأن العالم لا يكون موجودا ولا معدوما أو يتم مراد أحدهما دون الآخر. ويكون ما يتم مراده هو الله، والآخر ليس كذلك. وفي حالة الاتفاق اما مناصفة في الشيء وهو مستحيل لأن القادر على اختراع البعض قادر على اختراع الكل أو بالتداول في الزمان وهو مستحيل لأن التداول نقص في حق كل واحد.

وضعف دليل الأشاعرة أنه يقوم على افتراض الاختلاف مع أن الاتفاق بين الآلهة أولى. وجه الضعف في الدليل أنه قياس للغائب على الشاهد. والحقيقة أن ابن رشد يكمل الدليل بتفصيل حالة الاتفاق بعد افتراضها. وقد وصل أبو المعالي إلى نفس المعنى. فالمتكلم قادر على أن يكون حكيما إذا أمعن النظر، وهو يحظى باحترام أكثر مما يحظى به الأشعري والغزالي.

ونظرًا لاتفاق الوحي والعقل والطبيعة أحيانًا يكون الوحي إلى الشرع هو الأساس، وأحيانًا العقل أي البرهان، وأحيانًا الطبيعة أي الفطرة. ومن ثَمَّ توجد ستة احتمالات إذا كان كل مقياس بمفرده تنشأ احتمالات ثلاثة: الوحي أو العقل أو الطبيعة. وإذا كان اثنين تكون احتمالات ثلاثة: الوحي والعقل أي الشرع العقلي، الوحي والطبيعة أي الشرع الطبيعي، العقل والطبيعة. أي العقل الطبيعي.

(٢) أوصاف الذات

يعتبر ابن رشد أن موضوع الصفات هل هي عين الذات أم زائدة على الذات، نفسية تقوم بالذات أو معنوية أي معنى زاد عليها بدعة. وهو حكم من ابن رشد الفقيه على علم الكلام. ولماذا يكون الموضوع بدعة مع أنه يعبر عن الرغبة في الحفاظ على وحدة الذات دون تكثرها في بيئة تقول كثير من الفرق المحيطة بها بتعدد الآلهة سواء قبل الإسلام في النصرانية أو في الديانات الهندية والفارسية واليونانية. فبالإضافة إلى الطوائف الأربع التي يذكرها ابن رشد، الأشعرية والمعتزلة والحشوية والصوفية يذكر أيضًا من الفرق غير الإسلامية النصارى في قضية الذات والصفات، واليهود في موضوع الشريعة، والبراهمة في مسألة النبوة. فالاتصال بالهند قدر الاتصال باليونان.

اختار المعتزلة أن الصفات عين الذات. واختار الأشعرية أنها زائدة عليها طبقًا لمنطق الهوية والاختلاف. وفي كلتا الحالتين يقاس الغائب على الشاهد. ويلزم من هذا أن يكون الله جسمًا، صفة وموصوفًا، حاملًا ومحمولًا. فتتعدد الآلهة كما هو الحال عند النصارى في الأقانيم الثلاثة: الوجود والحياة والعلم. وإذا كانت الذات قائمة بذاتها، والصفات قائمة بالذات تكون العلاقة بينهما علاقة الجوهر بالعرض، والجوهر جسم بالضرورة.

يرفض ابن رشد موقف المعتزلة في التوحيد بين الذات والصفات. فالمشكلة أساسًا بعيدة عن المعارف الأولى بل مضادَّة لها؛ إذ إن من المعروف أن العلم غير العالم وإلا كان المضافان شيئًا واحدًا. كما أنه بعيد عن أفهام الجمهور، التصريح به بدعة تضلل الناس أكثر مما تُرشدهم. ولا يوجد عند المعتزلة برهان على وجوب هذا التوحيد بين الذات والصفات في الله. كذلك ضل النصارى لاعتقادهم أن صفات العلم والحياة عين الذات. فالله واحد له جهات ثلاث، موجود وعالم وحي. وافترقوا إلى مذاهب: التوحيد بين الذات والصفات أو اعتبار الصفات متعدِّدة زائدة على الذات سواء كانت قائمة بذاتها أو قائمة بغيرها.٢٤

وهذا كله بعيد عن مقاصد الشرع، وما يجب على الجمهور معرفته هو ما قصد به الشرع وحده، التسليم بها دون تفصيلها لأنه لا يُمكن حصول اليقين عند الجمهور فيه، لعدم حصول صناعة البرهان له سواء حصلت له صنعة الكلام أم لا؛ إذ لا تستطيع صناعة الكلام وحدها الوصول إلى اليقين في هذا الموضوع دون صناعة البرهان. الكلام جدلي، والحكمة برهانية. ولا يستطيع الجدل الوقوف على الحق. والسؤال هو: من الذي يحدد مقاصد الشرع، المتكلمون أم الأصوليون، الحكماء أم الصوفية؟ الكل يجتهد، ولا يمكن استبعاد فريق دون آخر، تصويب علم وتخطئة علوم أخرى.

كما يرفض ابن رشد الأشعرية، الصفات المعنوية زائدة على الذات. الله يعلم بعلم زائد على ذاته، حي بحياة زائدة على ذاته كالحال في الشاهد. وينتج عن هذا أن الخالق جسم لوجود، صفة وموصوف، حامل ومحمول. الذات قائمة بذاتها والصفات قائمة بها أو أن تكون كل واحدة قائمة بنفسها مثل قول النصارى في الأقانيم الثلاثة، الوجود والحياة والعلم. ولو كان أحد قائمًا بذاته وآخر قائمًا به يكون هناك جوهر وعرض، والمؤلف من جوهر وعرض جسم.

فإلى أي الفريقين يحيل ابن رشد، المعتزلة أم الأشاعرة؟ أم إنه يأخذ موقف الفقيه في رفض الحلَّين المتعارضين، ويتوقف عن الحكم، ويعيد وضع السؤال؟ السؤال نفسه موضوع وضعا خاطئًا. الموضوع كيفي، والسؤال كمي. الموضوع متصل والسؤال منفصل. الموضوع صوري والسؤال مادي. ولا حلَّ لها إلا بالرجوع إلى التجارب الإنسانية، والعودة بالغائب إلى الشاهد، ومِن الله إلى الإنسان. ولا يمكن فهم نظرية الذات والصفات والأفعال كنظرية في الله إلا كوصف الشخصية الإنسانية في تجربتَي الحب والإعدام. هل يحب الإنسان إنسانًا آخر لصفاته فيكون معتزليًّا أم لذاته فيكون أشعريًّا؟ وهل يُعدم القاتل بسبب صفة القتل فيه فيكون القاضي معتزليًّا أم إنه يُسجن مدى الحياة فيكون القاضي أشعريًّا؟ علم الكلام كله يقوم على قياس الغائب على الشاهد، وتصوُّر الله على أنه إنسان كامل؛ ومن ثَمَّ فهو علم مقلوب مغترب في حاجة إلى أن يصحح وضعه، ويعود إلى العالم، والعودة بالإلهيات إلى أصلها في الإنسانيَّات.٢٥

(أ) التنزيه

ويعرض ابن رشد لصفات الذات السبع «في الصفات» قبل أن يعرض لأوصافها الست «في التنزيه»، بالرغم من أهمية التنزيه وتجاوز الصفات الثلاث أضعاف من الناحية الكمية.٢٦
وقد صرَّح الكتاب بالتنزيه والتقديس. وإذا كان الشرع قد صرَّح بنفي المماثلة بين الخالق والمخلوق، فقد أعطى أيضًا البرهان الواجب لذلك في شيئين. الأول أن يعدم الخالق صفات المخلوق، والثاني أن توجد فيه صفات المخلوق على جهة أتم وأفضل بما لا يتناهى في العقل. لقد صرح الشرع بنفي صفات المخلوق، ما كان ظاهرًا من صفات النقص مثل الموت والنوم والغفلة والسهو والنسيان والخطأ. وهو علم ضروري صرح الشرع بنفيه. وما كان بعيدًا عن العلم الضروري نبَّه عليه الشرع أنه من علم الخاصة. والدليل الشرعي على انتفاء هذه النقائص حفظ الموجودات دون أن يتخللها فساد.٢٧ وإذا سكت الشرع عن باقي الصفات فإن ذلك مدعاة للعالم كي يستقصي عنها بدافع حب الاستطلاع الطبيعي في البشر. بل إن القول بأن الشرع سكت عن باقي الصفات هو في حد ذاته معرفة سلبية تدفع الذهن البشري إلى تحويلها إلى معرفة إيجابية. وهي حجة أهل الظاهر في نفي القياس، عدم جواز إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به. يبقى السؤال: هل هناك وسيلة أو ميزان لمعرفة ما صرح به الشرع وما سكت عنه؟ وهل يمكن السيطرة على ذهن الأفراد والمجتمعات بأحكام الشرع أم إن التأويل عملية اجتماعية ضرورية معرفية للفهم والتفسير للموروث الثقافي ومصادر سلطته؟ هل هناك مقياس أو معيار كمي أو كيفي لقيادة عقول الناس وتوجيهها وإنكار الدافع والبواعث على الفكر والتساؤل؟ ولماذا تضمن الشرع ظاهرًا وباطنًا إلا لحكمة، وهي الحاجة إلى الباطن والمؤول والمتشابه قدر الحاجة إلى الظاهر والمحكم نظرًا لتشابك الحياة واختلاف مستويات الفهم، وتغير الظروف والأحوال؟ ولماذا تقتصر معرفة الباطن على العلماء وحجبها عن الجمهور دون أن تكون مسئوليتهم إفهام الجمهور؟
ومن المغروز في فطر البشر أن الخالق يجب أن يكون على غير صفة الذي لا يخلق أو بصفة غير شبيهة بصفة الذي لا يخلق وإلا كان من يخلق ليس بخالق. فإذا أضيف أن المخلوق ليس بخالق لزم من ذلك أن تكون صفات المخلوق إما منتفية عن الخالق أو موجودة فيه على جهة أخرى غير التي في المخلوق. فمن الصفات في الخالق استدللنا عليها بالصفات التي في أشرف المخلوقات وهو الإنسان مثل العلم والحياة والقدرة والإرادة. فالفطرة البشرية تقتضي ما صرح به الشرع نظرًا لاتفاق الفطرة والشرع؛ إذ تقتضي الفطرة نفي صفات الخالق عن المخلوق أو إثبات صفات المخلوق للخالق على جهة أخرى. الأول لاهوت السلب، والثاني لاهوت الإيجاب. الأول نفي صفات النقص الإنسانية عن الله، والثاني إثبات صفات الكمال الإنساني لله على نحو مطلق، قياسًا للغائب على الشاهد، والله على الإنسان. وإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله فإن الإنسان أيضًا قد تصور الله على صورته ومثاله.٢٨ فالوجود والمعرفة على التبادل. ويبقى السؤال: ما هي مقاييس النقص والكمال الإنساني قبل نفي الأولى عن الله ونسبة الثاني له؟ هل النوم والغفلة والخطأ صفات نقص في الإنسان أم صفات كمال، والإنسان من النسيان؟ أم أن الأمر كله اقتضاء مطلب كما تدل على ذلك ألفاظ «يجب»، «يلزم» وكأن الأمر كله مطلب نفسي أو اقتضاء أخلاقي، الذات التي تخلق موضوعها؟

وهذان الطريقان، السلب والإيجاب يقومان على عدة عمليات نفسية على مراحل متتالية. أولًا اتهام النفس ونظرة دونية لها واعتبار مظاهر نقصها نقصًا بالفعل دون إدراك مظاهر عظمتها. فلولا النسيان ما كان التذكر، ولولا النوم ما كانت اليقظة، ولولا الخطأ ما كان الصواب، ثانيًا قلب هذا الإدراك الخادع إلى وهم وتصور أن في عكسه تكون مظاهر العظمة فيتخلى الإنسان عن عظمته ويشوه نفسه محولًا عظمته إلى نقص. ثالثًا إسقاط ذلك على الله وتشخيصه في جوهر ثابت بدلًا من تحقيقه في الحياة العملية وخلق الإنسان الكامل في نفسه وفي الأمة. ولماذا لا تكون الطبيعة كاملة منظمة بطبيعتها دون حاجة إلى موجود كامل؟ لم القذف بالكمال خارج العالم دون إبقائه في داخله كقوة كامنة تتحقق في المستقبل؟ لماذا تصور الكمال رأسيًّا وليس أفقيًّا، مفارقًا وليس محايثًا، متعاليًا وليس متدانيًا؟ لماذا ترك العالم ناقصًا دون تغييره نحو الكمال، وقذف الكمال خارج العالم الناقص ثم تشخيصه ثم عبادة ما تم صنعه وخلقه؟ قد يكون السبب في ذلك اغتراب الإنسان في العالم وعجزه عن الفعل والتغيير وتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم. فإذا ما صعب الأفقي نحوِّل إلى رأسي. وإذا ما صعب الدخول في العالم سهل الخروج منه. إذا ما استحالت الثورة الاجتماعية تحولت إلى عزاء ديني.

(ب) نفي الجسمية

ويتجلى التنزيه في نفي صفات ثلاث عن الله: الجسمية، والجهة، والرؤية. وهي مترابطة فيما بينها أدخل في وصفي القيام بالنفس والمخالفة للحوادث، وهما الوصفان الرابع والخامس من أوصاف الذات الستة عند الأشاعرة. فقد دخلت الصفات الثلاث الأولى، الوجود والقدم والبقاء، في الأدلة على وجود الله، والصفة السادسة الوحدانية في نقد دليل التمانع في صفة الوحدانية.

لا يوجد برهان عند المعتزلة ولا عند المتكلمين على نفي الجسمية عن الله باستثناء وجوب الحدوث للجسم. إنما العلماء وحدهم هم الذين لديهم البرهان على ذلك. قالوا إن كل جسم محدث، نظرًا لحدوث الأعراض، وأن ما لا يتعرى عن الحوادث فهو حادث. وهو طريق تبريري غير برهاني لا تصل إليه طباع الغالب من الجمهور. كما أن تصور المتكلمين للباري على أنه ذات وصفات زائدة عليها يوجب له الجسمية أكثر مما ينفيها بدليل انتفاء الحدوث. لذلك لم يصرح الشرع بهذه الصفة. وهو نفس موقف الفقهاء منذ رفض ابن حنبل الإجابة عن مسألة خلق القرآن، مخلوق أو قديم.٢٩
والجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع. ومع ذلك فهي في الشرع أقرب إلى الإثبات منها إلى النفي لأن الشرع قد صرح بالوجه واليدين مما يوهم بأن الجسمية صفة مشتركة بين الخالق والمخلوق مثل القدرة والإرادة إلا أنها في الخالق أتم وجودًا. لذلك قال الحنابلة وكثير من أهل الإسلام في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام وهو تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف.٣٠ لم يقصد الشرع التصريح بنفي هذه الصفة عن النفس للجمهور لأن الشرع لم يصرح للجمهور بماهية النفس؛ لأنه يصعب عند الجمهور قيام برهان على موجود قائم بذاته ليس بجسم. لذلك لم يحاول إبراهيم الخليل ذلك في محاجة الكافرين بأن الله ليس بجسم لأن كل جسم محدث كما تقول الأشعرية. كذلك لم يحاول موسى ذلك في محاجته لفرعون وكذلك لم يفعل محمد في محاجته أمر الدجال بأنه جسم والله ليس بجسم. وأكتفي لإثبات كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة التي ينفيها كل صاحب عقل. الأمر كله بدعة حادثة في الإسلام من فرقة ضالة من مجموع فرق الأمة الضالة. لقد سكت الشرع عن هذه الصفة لأنه لا يعترف بموجود في الغائب أنه ليس بجسم إلا من أدركه في الشاهد أنه كذلك مثل النفي. ولما كان ذلك يصعب على الجمهور، عقل ما ليس بجسم، فقد حجب عنهم هذا اليقين. يحكم ابن رشد على الجمهور وطبعه وأنه في صفة وكأنه هو المعبر عن الطبيعة والمتحدث باسم الجمهور.٣١

ويبدو أنها بنية واحدة، علاقة الله بالعالم مثل علاقة النفس بالبدن، والصورة بالمادة، واللامرئي بالمرئي، والمتعالي بالمحايث. وإذا عرف الله بالنفس وعرفت النفس بالله فيكون ذلك دورًا منطقيًّا. تعريف الموضوع بالمحمول وتعريف المحمول بالموضوع في آنٍ واحد.

ويأخذ ابن رشد موقف الشرع الذي صرح فيها لا بنفي ولا إثبات ويتوقف عن الحكم لأسباب ثلاثة. الأول أن إدراك هذا المعنى ليس معروفًا بنفسه على عدة مستويات. فقد نفي المتكلمون ويعني الأشعرية هذا المعنى، أنه جسم، لأن كل جسم محدث لأن الاعراض محدثة، وأن مالا يتعرى عن الحوادث فهو حادث. وهي طريقة غير برهانية. ولو كانت برهانية لعرفها الجمهور بالطبع. ولما قالوا إن الصفات زائدة على الذات كانوا أقرب إلى الإثبات منهم إلى النفي. والثاني أن الجمهور يرى أن الوجود هو المتخيل المحسوس وإلا كان عدما. الموجود الذي ليس بجسم يكون معدوما خاصة لو كان لا خارج العالم ولا داخله، لا فوق ولا أسفل. لذلك اتهم المثبتة النفاة بأنهم «ملشية» واتهم النفاة المثبتة بأنهم مكثرة. والثالث أن نفي الجسمية يؤدي إلى شكوك كثيرة في الشرع فيما يتعلق بالمعاد مثل نفي الرؤية من المعتزلة والأشعرية وقد صرحت بها السنة. أراد الأشعرية الجمع بين الامرين فعسر ذلك، ولجئوا إلى أقاويل سوفسطائية. كما يؤدي نفي الجهة إلى جعل الشريعة متشابهة لأن بعث الأنبياء قام على إثباتها. الوحي نازل من السماء، والله في السماء، والملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها. وقد يؤدي إلى نفي الحركة مع أن الحشر يستلزم الحركة. ويصعب تأويل حديث النزول وإن أمكن ذلك في الحشر. والحشر متواتر في الشرع. وهو دور منطقي. لا يمكن إثبات الجسمية إلا بعد إثبات الرؤية والمعاد، ولا يمكن إثبات الرؤية والمعاد إلا بعد إثبات الجسمية. كما أن حديث النزول صورة فنية لأن العلو أعلى قيمة من السفل. كذلك تم تصوير الله في السماء وليس في الأرض بالرغم من أن الكتاب صوره أنه (إله السموات والأرض)، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.٣٢

ويبدو أن ابن رشد بسبب هذا التحريم الشرعي المسكوت عن صفة الجسمية وصعوبة فهم الجمهور لنفيها كان أقرب إلى إثباتها مع الجهة والرؤية، وأنه من الافضل أن يظل الجمهور في عماه وحسيته وتشبيهه. بل أن ابن رشد قد ضحي بالتنزيه خوفًا على الحشر والمعاد. يضع الجمهور تحت وصايا الشريعة أي تحت حماية الفقهاء. والعجيب أن ابن رشد يصدر هذا الحكم باسم الشريعة وحكم الشرع مع أن الشريعة لا تتناول التصورات بل الأفعال، ولا تتعامل مع النظريات بل مع السلوك. يوسع ابن رشد من مفهوم الشريعة بحيث تشمل النظر والعمل وليس العمل وحده. يتعامل مع الفكر كما يتعامل الفقيه، والاشتباه في موقفه بين الحكيم والفقيه، بين الفيلسوف والظاهري.

وهناك تناقض في حكم ابن رشد الأصولي. فإما أن تكون صفة الجسمية من المسكوت عنها أو أن الشرع صرح بإثباتها أو نفيها. ولا يمكن الجمع بين الاثنين. وهل المسكوت عنه توقف عن الحكم على مشكلة قائمة أم إلغاء المشكلة ورفض الدخول فيها لأنها تؤدي إلى حكمين متناقضين يستحيل اختيار أحدهما؟ وإذا سكت الشرع عنها فإن الواقع لم يسكت وتساءل الناس عنها وأجابوا نفيًّا أم إثباتًا. وهل مصير السكوت هو الاشتباه أم توجيه الإنسان إلى العالم بعيدًا عن المتاهة العقلية وقضاء على الاغتراب فيه؟ النهي عن السؤال ليس عملًا فلسفيًّا إذا كانت الفلسفة هو التساؤل. وهل الحل هو النهي عن السؤال أم توجيه الشعور نحو العمل والعالم والطبيعة والإنسان والمجتمع؟

وينتقل ابن رشد من الموضوع وهو الجسمية إلى المنهج وهو التأويل، خطورة تأويل الظاهر للجمهور بلغة الفقيه، وما ينبغي أن يكون أي الواجب أو الغرض كحكم شرعي. يجب ألا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر فإن تأثيرها يكون أفضل إذا حملت على ظواهرها؛ إذ يؤدي تأويلها إلى أحد أمرين: إما تمزيق الشريعة كلها وإبطال الحكمة المقصودة منها أو اعتبارها كلا من المتشابهات وهو أيضًا ابطال للشريعة ومحوها من النفوس دون الشعور بمدى الجناية على الشريعة.٣٣ ودلائل التأويل كلها غير برهانية، والظواهر الشرعية أقنع منها والتصديق بها أكثر مثل نفس الجسمية ودلائل نفي الجهة. وإذا كان الطريق إلى دلائل الله هو نفي صفات النقص فكيف يكون كل سؤال بدعة وكل محاولة لإزالة الاشتباه تأويلا؟ وهل يمكن إصدار حكم شرعي بمنع التأويل أم إن التأويل ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالفهم والرغبة في إيجاد التطابق بين الوحي والعقل والطبيعة؟ إن منع التأويل والأخذ بظاهر الشرع إلغاء للعقل والحاجة والمصلحة وقضاء على التنزيه ووقوع في التشبيه. وقضية التأويل في الحقيقة هي قضية العقل والنقل أدخلها ابن رشد مع التوحيد وليس مع العدل، وأدخل في العدل موضوعات السمع مثل النبوة والمعاد دون اتباع النسق الأشعري المستقر، الإلهيات والنبوات أو العقليات والسمعيات.٣٤
ويبقى السؤال: هل الجسم صفة موضوعية أم تصور ذهني يقوم على تفسير حرفي للنصوص وليس على قياس الغائب على الشاهد الذي يؤدي إلى النفي لأن الله ليس كمثله شيء، ويؤدي إلى المفارقة أحيانًا وليس إلى المماثلة؟ هل التنزيه كله اقتضاء يعبر عما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن؟ ويعترف ابن رشد بأن السؤال ما زال قائمًا في الذهن البشري، والإجابة عليه بالشرع لا تنفي السؤال والإجابة عليها بأنه لا ماهية له لأن ما لا ماهية له لا ذات له. وهنا يستعمل ابن رشد جوابًا آخر من الشرع هو طريق التشبيه أو المماثلة وهو أنه نور كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث. والخيال مناسب للخالق لأنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، والأفهام عن تصوره مع أنه ليس بجسم.٣٥ ويليق بالجمهور لأن الموجود عندهم هو المحسوس، والمعدوم هو غير المحسوس. ولما كان النور أشرف الموجودات فإنه يمثل أشرف الموجودات. وهو عند العلماء الراسخين في العلم مقبول عند النظر إليه بالعقل مثل حال الإبصار عند النظر إلى الشمس، بل حال في عيون الخفافيش. ولما كان الله سبب الموجودات وسبب إدراكنا لها وكان النور سبب وجود الألوان ورؤيتنا له سمى الله نفسه نورا، وبالتالي يمحي الشك في الرؤية التي جاءت في المعاد، وكأن غاية ابن رشد استعمال الإلهيات من أجل النبوات، والاعتماد على العقليات من أجل السمعيات.٣٦
بعد أن رفض ابن رشد طريق الإيجاب وطريق السلب قبل طريق التشبيه.٣٧ والحقيقة أن وصف الله بالنور عن طريق المثال ليس تعريفا ولا حدا بل هو استعارة ومجاز، إنشاء لا إخبار، مما يدل على أن البرهان في الإلهيات أقرب إلى الخيال منه إلى العقل، وإلى التخييل منه إلى الاستدلال. ينتقل ابن رشد المنطقي من الحد والتعريف، والتصور والتصديق، والاستدلال والبرهان إلى التمثيل. وهو يعرف الفرق بين الحد والرسم، بين الحد التام والحد الناقص، بين التصور والتصوير، بين شروط الحد، الجنس القريب والفصل البعيد، وشروط التعريف، أن يكون المعرف به أوضح من المعرف. فالله نور، والنور ليس أوضح من الله. يستعمل ابن رشد المثل، والمثل يتطلب التأويل، والشرع لم يصرح به، وهو تناقض بين الأديب والفقيه، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. ولماذا مثال النور وحده والقرآن مليء بالصور الفنية الأخرى؟ هنا يبدو ابن رشد صوفيًّا مؤثرًا مثال الصوفية وكل الاتجاهات الإشراقية لتصوير الله. ويضيع التوحيد العقلي والتنزيه وتقترب الحكمة من كل الاتجاهات الصوفية الإشراقية في كل حضارة مثل الديانات الهندية والبوذية والمسيحية. أصبح ابن رشد مثل الغزالي في «مشكاة الأنوار» والبرامج الإعلامية «نور على نور» وأحاديث العلم والإيمان. يستشهد بكل التراث النصي حول النور منتقلًا من الكلام إلى التصوف، ومن الحكمة العقلية إلى حكمة الإشراق، ومن المنهج العقلي إلى الطريق الذوقي الذي رفضه ابن رشد من قبل في إحصائه لفرق الأمة الأربع وهو منهج الصوفية أو الباطنية. ولماذا النور أشرف الموجودات؟ وما ذنب الظلام ونور القمر الخافت وضوء الشموع؟ هل يستطيع الإنسان أن يعشق في نور الشمس؟ أما أحاديث الإسراء والمعراج فحالة خاصة وليست حالة عامة، يدخل فيها كثير من الخيال الشعبي.

(ﺟ) نفي الجهة

وهي صفة يثبتها أهل الشريعة وينفيها المعتزلة مع متأخري الأشعرية كأبي المعالي مع أن ظواهر الشرع أقرب إلى الإثبات في كثير من الآيات قبل تأويلها حتى لا يعود الشرع كله مؤولًا أو متشابهًا. تقول الشرائع إن الله في السماء. ومنها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين والكتب. وإليها كان الإسراء حتى سدرة المنتهى. كما اتفق الحكماء مع الشرائع على أن الله والملائكة في السماء. وكلها صور فنية عن العلو وليست أماكن أو جهات.

والعجيب أن ابن رشد يدافع عن صفة الجهة مع أهل الشريعة، ويعني أهل السنة الذين كانوا يثبتونها أولًا قبل أن تنفيها المعتزلة ومتأخرو الأشعرية مثل أبي المعالي ومن تابعه. ابن رشد هنا سني ظاهري، أقرب إلى الأشاعرة منه إلى المعتزلة، وأقرب إلى متقدمي الأشاعرة من متأخريهم الذين حاولوا الاقتراب من المعتزلة ابتداءً من أبي المعالي والماتريدي. ما الحكمة إذن في إثبات الجسمية والجهة والرؤية وفي نفس الوقت نقد الأشعرية، وهو في الحقيقة نقد المعتزلة دون أن يعلم ابن رشد أنه أقرب إلى الأشعرية منه إلى الاعتزال؟

ابن رشد ظاهري. يرى أن ظواهر الشرع تثبت الجهة وكأن النفاة يخرجون على ظواهر الشرع، وبالتالي يحيدون عن الطريق المستقيم. يؤكد ابن رشد هنا دوره كمتكلم سلفي ويتخلى عن دوره كحكيم. ويكون ابن سينا أكثر جرأة في تأويله وتصريحه بالحكمة في رسالته الأضحوية في أمر المعاد وفي الصلاة. هل يقصد ابن رشد الحكيم التأكيد على ظاهر الشرع حتى يهرب العقلاء منه خوفًا من التجسيم والتشبيه إلى المعتزلة دفاعًا عن التنزيه عن طريق دفع الرأي المعارض إلى أقصى حدوده حتى ينفر منه الناس؟

لقد درس ابن رشد علم الكلام بعقلية الفقيه وبمصطلحات الأصول مثل المحكم والمتشابه، الظاهر والمؤول لا بعقلية الحكيم على عكس الغزالي في «الاقتصاد» وابن سينا في «العرشية» بل يبدو ابن رشد أحيانًا سلفيًّا أكثر من السلفيين، ابن تيمية فيما بعد في أسلوبه ونعوذ بالله من هذا الظن. ينسب الشرع إلى الرسول صاحب الشرع كما يفعل الفقهاء مع أن الشرع مستقل عن مبلغه وواضعه كما قال الشاطبي في «الموافقات»، الشريعة الإسلامية شريعة وضعية.٣٨

يصر ابن رشد على أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأن نفيها إبطال للشرائع. وصعوبة إدراك ذلك مع نفي الجسمية أنه لا يوجد له مثال في الشاهد. لذلك لم يصرح الشرع بنفي الجسمية عن الله لأن الجمهور يصدق بالغائب بناء على الشاهد مثل العلم. وإذا كان الغائب غير معلوم في الشاهد عند الجمهور ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته مثل العلم بالنفس أو يضرب لهم مثالًا من الشاهد إن احتاج الجمهور إلى معرفته لسعادتهم وإن لم يكن المثال هو المقصود مثل ما جاء في أمور المعاد. أما شبهة النفاة فإن الجمهور لا يفطن إليها خاصة أن الشرع لم يصرح لهم بالنفي. لذلك يظل الجمهور في إطار حكم الشرع.

وهل يحتاج الإنسان إلى أن يتصور الله طبقًا لأحكام الشرع أم إن الله دافع على السلوك، غاية وهدف ومصير وتحقق؟ أليس ذلك كله تشخيصًا لله بالإضافة إلى التشبيه والتجسيم وقد نشأ علم الكلام كله دفاعًا عن التنزيه؟ واضح أن علم الكلام كله يقوم على قياس الغائب على الشاهد، وقياس الله على الإنسان بالنسبة للجمهور. أما العلماء الراسخون في العلم فإنهم يدركون الغائب مباشرة اعتمادا على العلوم البرهانية.٣٩

وشبهة نفي الجهة هو الاعتقاد بأن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية. ويرى ابن رشد أن ذلك كله غير لازم. فالجهة غير المكان. الجهة سطوح الجسم وهي ستة. وليست مكانًا، إنما سطوح الجسم المحيطة به مكان. سطح آخر أجسام العالم ليس مكانًا لأنه ليس محيطًا لجسم آخر. فإثبات الجهة لا يتضمن بالضرورة إثبات الجسمية. وهي تفرقة دقيقة ولكنها غير مقنعة. فكيف يكون المكان سطوح الأجسام الأخرى المحيطة وليس سطح الجسم ذاته؟ أليست سطوح الجسم ذاته مكانًا للأجسام الأخرى ما دام الأمر على التبادل؟

والحقيقة أن الجهة والمكان كلاهما مرتبطان ببدن الإنسان. فالمكان أحد مقولات البدن، والجهة أحد آفاق حركته. وحجج ابن رشد لإثبات أن الجسم قد يكون له مكان وقد لا يكون حجج لا معه ولا ضده، لا مع خصومه ولا ضدهم. والمقصود فقط نقد الفكر الكلامي ذاته والعودة إلى ظاهر النص وحكم الشرع. يعتمد على ثقافة العصر في تصور المكان والجسم والفلك. ويمكن لأي متكلم جديد استعمال ثقافة العصر لتعقيل النص، وبيان اتفاق الوحي والعقل والطبيعة. فهي اجتهادات فردية وتاريخية. ولا يوجد حكم نهائي لا مع ابن رشد ولا مع خصومه.٤٠

وإثبات الجهة أو نفيها مرتبطة بإثبات الجسمية أو نفيها. ويدل على ذلك ترك موضوع الجهة والعودة من جديد إلى موضوع الجسمية، عودًا بالفرع إلى الأصل في صيغة سؤال: هل يجوز نفي الخلاء لإثبات الجسم! فلا يمكن تصور جهة بلا جسم. رفض ابن رشد القول بأن خارج العالم خلاء لامتناع وجود خلاء كما بان في العلوم النظرية. ليس الخلاء إلا أبعاد الطول والعرض والعمق. وهي ليس فيها جسم. إذا رفعت الأبعاد عنه صار عدمًا. ولو ثبت الخلاء لزم أن تكون الأعراض موجودة غير جسم. فالأبعاد أعراض كمية. ويستعمل ابن رشد ثقافات الشعوب الماضية وديانات الأمم المغايرة لإثبات أن الخلاء كان مسكن الروحانيين، الله والملائكة لأنه ليس بمكان ولا يحويه زمان حتى لا يطرأ عليه الفساد. هناك إذن موجود غير فاسد ولا كائن هو الجهة أولى بالوجود من العدم. فالوجود أشرف من العدم. ولما كان الله أشرف الموجودات فإنه ينسب إلى أِشرف الجهات وهي السموات. وهذا ما يدركه الراسخون في العلم. واضح إذن ارتباط الخلاء بالإلهيات لإفساح المجال للوجود الإلهي. ولما كان إثبات الخلاء هو نفي للجسمية والجهة ينفي ابن رشد الخلاء اعتمادًا على العلوم النظرية أي الطبيعية وليس الإلهية مع أن الله في كل مكان شعوريًّا. وهو الأساس اللاشعوري لنفي الخلاء. والأمر كله لا يتعدى الاقتضاء والمطلب النفسي والإنشاء الذي يظهر في ألفاظ مثل «يجب»، «يلزم». وكلها محاولات واجتهادات لا يخطئ فيها أحد أو يصيب بل تعبر عن قصد التنزيه.

وإذا كان الشرع قد سكت عن صفة الجهة دون إثبات أو نفي، وإذا كان الإثبات يؤدي إلى التجسيم أو التشبيه كما هو الحال عند الحشوية ومتقدمي الأشاعرة فالأولى النفي دفاعًا عن التنزيه كما هو الحال عند المعتزلة. وإذا كان لا بد من التأويل، فالتأويل للنفي دفاعًا عن التنزيه أولى من التأويل للإثبات دفاعًا عن التجسيم والتشبيه. ولكن ابن رشد يبين مخاطر التأويل. ويستمر ابن رشد في تناول موضوع الجهة منهجيًّا وليس موضوعيًّا أي من حيث شرعية التأويل.

فالناس ثلاثة أصناف. الأول صنف لا يشعر بالشكوك العارضة في هذا المعنى بعد أن ترك على ظاهره في الشرع، وهم أكثر الناس، الجمهور. والثاني صنف عرضت له هذه الشكوك ولا يقدر على حلها. وهؤلاء فوق العامة، وأقل من العلماء. وهم الذين يرون التشابه في الشرع ذمهم الله. والثالث صنف لا يعرض لهم في الشرع شك ولا تشابه. وهم العلماء الراسخون في العلم. وهي نفس القسمة التي عبر عنها ابن رشد سلفًا في «فصل المقال» قسمة القول إلى خطابي للجمهور، وجدلي للمتكلمين، وبرهاني للحكماء.

وواضح أن ابن رشد في قسمته الناس إلى علماء وجمهور ومتكلمين، وأنصاف متعلمين أنه يضع اليقين العلمي عند العلماء، واليقين العملي عند الجمهور. والشك والتشابه والخروج على ظاهر الشرع والتأويل عند المتكلمين أنصاف العلماء، فلا هم وصلوا إلى مرتبة العلم ولا هم آمنوا كالجمهور. فإما أن يكون الإنسان عالمًا أو جاهلًا. ولا مكان لأنصاف المتعلمين وأنصاف الجهال، أن يكون برهانيًّا أو خطابيًّا ولا مكان للجدلي، طرفان نقيضان ولا وسط بينهما. وهي قسمة تابعة لطبقات الناس طبقًا للعلم وكأنها قسمة ثابتة أزلية لا يتحرك فيها الجمهور ليصبح من العلماء، ولا العلماء ليتحولوا إلى جمهور. ولا توجد مرتبة وسطى في طريقها إلى مرتبة العلماء بمزيد من البرهان أو إلى الإيمان بمزيد من التسليم واتباع ظاهر الشرع. ولما كان العلماء هم الصفوة، والجمهور هم الدهماء تتحول الطبقات العلمية إلى طبقات اجتماعية وسياسية فيقع الجمهور تحت سيطرة العلماء، ويتسلط العلماء على رقاب الجمهور خاصة وأن العلماء مقربون من السلطان. وهل يظل الجمهور تحت وصاية فقيه السلطان وفقيه الحيض والنفاس؟ وهو موقف مشابه لموقف الغزالي بالرغم من التناقض بينهما في «التهافتين». فقد ألجم الغزالي العوام عن علم الكلام، وجعله مضنونًا به على غير أهله مثل التصوف، وفضل للعامة ظاهر الشرع والتسليم والإذعان.

التعليم الشرعي نافع للأكثر وضار للأقل. ويتضمن الاعلام عن الغائب، وليس له مثال مطابق في الشاهد، فيعبر عنه بأقرب الموجودات إليه وأكثرها شبهة به. فيأخذ بعض الناس المثل ويتركون الممثول فتلزمهم الحيرة والشك، وهو ما يسمى المتشابه في الشرع. وهذا لا يعرض لا للجمهور ولا للعلماء، وهم صنفا الناس بالحقيقة. هم الأصحاء الذين يوافق أبدانهم الغذاء الملائم في مقابل المرضى وهم الأقل، وهم أهل الجدل والكلام. فقد تأولوا كثيرًا مما ظنوه أنه لا يؤخذ على ظاهره. فقد أتى الله به متشابها اختيارا لعباده وابتلاء لهم. ومع ذلك يرى ابن رشد أن الكتاب معجز من جهة الوضوح والبيان دون تشابه. ولكن المتأولين يبتعدون عن قصور الشرع في اعتبارهم ما ليس متشابهًا متشابهًا. وفرضوا على الناس تأويلاتهم كما فعلوا في آية الاستواء. وهي تأويلات لا برهان عليها، ولا تؤثر كما يؤثر الظاهر في الجمهور وعمله بها. فإن المقصود من علم الجمهور العمل. وما كان أنفع في العمل فهو أجدر. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهما الأمران معا، العلم والعمل.٤١

ولما كان التشابه قليلًا في الكتاب ولقليل من الناس فكيف يكون المتكلمون بهذه الأكثرية؟ هم أكثرية بالنسبة إلى العلماء، وأقلية بالنسبة إلى الجمهور. وقد خرج المتكلمون من الحرفيين وأرباب الصناعات، ومنهم النجار والغزال والنشار والعلاف والحداد. قد يكون المتشابه في الشرع قليلًا ولكن الآيات الشرعية المحكمة أقل بكثير من آيات العقائد المتشابهة التي لا يمكن أخذها على ظاهرها دفاعًا عن التنزيه وتحرزًا من الوقوع في التجسيم والتشبيه. وفي النهاية ألا يؤدي الظاهر في الشرع إلى الظاهر في السلوك فتضيع التقوى الباطنية كما يضيع العمق في الفهم؟

ويستعمل ابن رشد الطبيب مثالًا من الطب والدواء والمريض ليبين مخاطر التأويل، الدواء الشافي العاجز للجميع والأدوية المفردة الضالة، فمن أول شيئًا من الشرع زاعما أن تأويله مقصد الشرع وصرح به للجمهور كمن أتى إلى دواء وركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر ثم لم يلائم هذا الدواء رجل واحد لمزاج فردى. فزعم أن هذا الدواء العام المنفعة لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة به في اللسان. وإنما أريد به دواء آخر باستعارة بعيدة واستبدل به دواء آخر ظنه قصد الطبيب الأول، وأخبر الناس به. فاستعمله الناس ففسدت أمزجة كثيرة. فجاء آخر لإصلاح هذا الدواء الثاني مستبدلًا به دواء ثالثًا فنتج نوع آخر من الأمراض. فجاء ثالث وتأول في الدواء غير التأويل الأول فعرض للناس نوع ثالث من الأمراض، ثم جاء متأول رابع، وتأول من جديد، واستبدل بالثالث دواء رابعًا فعرض للناس نوع رابع من المرضى. ولما طال الزمان بهذا المركب العظيم الأول وتأوله الناس فبدلوه وغيروه عرضت للناس أمراض كثيرة حتى انقضت المنفعة المقصودة من هذا الدواء المركب في حق أكثر الناس، وهذا هو حال المتكلمين الذين استحدثوا فرقًا في الشريعة، كل فرقة تؤولها بطريقتها زاعمة أن تأوُّلها هو المقصود من الشرع حتى تمزق الشرع وتفرق وبعد عن موضعه الأول. وقد تنبأ الرسول صاحب الشرع بذلك في حديث الفرقة الناجية مبينًا إنها هي التي سلكت ظاهر الشرع، ولم تؤوله، ولم تصرح بتأويلها للناس.٤٢

والسؤال هو: هل هناك دواء جامع شاف لكل الأمراض، نوع من الوصفة السحرية التي يسخر منها الأديب الشعبي أو التي تؤيدها الأمثال العامية والأغاني الشعبية؟ ولماذا إنكار الأدوية المفردة والفروق الفردية ورغبة الأطباء في التطوير والتجديد؟ وما عيب المنهج التجريبي، وهو المنهج العلمي الذي استعمله ابن رشد نفسه في علم الطب وأن يصلح الثاني ما أفسده الأول؟ وهل المريض الذي لم ينفعه الدواء يكون العيب فيه أم في الدواء؟ وهل يتكيف الجسم حسب الدواء أم يتغير الدواء بحسب طبيعة الجسم؟ وهل يُعقل أن يخطئ كل المتأولين من أجيال المجتهدين؟

واضح أن ابن رشد هنا سلفي. يرى أن العودة إلى الأصول الأولى خير وسيلة للإصلاح، العودة إلى الوحدة الأولى بدلًا من التفرق والتشتت والتحزب نتيجة الاجتهادات والتأويلات المتعددة للفرق. وبتكرار عادة التغيير يتم الانقاذ بالعودة إلى المركب السحري الأولى الذي تمثله الفرقة الناجية، فرقة السلطان، التي تخلص العالم من فرق الضلال، فرق المعارضة. كل فريق يعتبر نفسه الفرقة الناجية كما يهوى لاستبعاد الخصوم. الكل يؤول ويستبعد التأويلات الأخرى. كل يعتبر نفسه المعبر عن مقاصد الشرع، والآخرون منحرفون عنه.

وبالرغم من أن ابن رشد ينقد علم الكلام كنسق للعقائد إلا أنه حين يعرض لمنهج التأويل يستعمل منهجًا تاريخيًّا لرصد تاريخ التأويل أي نشأة الانحراف عن ظاهر الشرع وتطوره. وأول من غير هذا الدواء الاعظم الذي أتى به الشرع هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية. ثم جاء أبو حامد «قطم الوادي على القرى». فقد صرح بالحكمة إلى الجمهور وبآراء الحكماء كما فهمها في «المقاصد» للرد عليهم. ثم كفر الحكماء في «التهافت» في ثلاث مسائل، خرجوا فيها على الإجماع وبدعهم في سبع عشرة مسألة. وأتى بحجج مشككة وشبه عيرة أضلت الناس عن الحكمة والشريعة. ثم صرح في «الجواهر» بأن ما أتى به في «التهافت» إنما هي أقاويل جدلية. ثم أثبت الحق في «المضنون». ثم ذكر في «المشكاة» مراتب العارفين، وجعلهم جميعا محجوبين عن الله إلا الذين اعتقدوا أن الله غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك. وهذا تصريح منه باعتقاده مذهب الحكماء في الإلهيات والتي اتهمها بأنها مجرد تخمينات بخلاف سائر علومهم. وفي «المنقذ» مال على الحكماء، وجعل العلم يحصل بالخلوة والفكرة. وهي مرتبة الأنبياء في العلم. وهو ما صرح به أيضًا في «الكيمياء». فصار الناس بسبب هذا الخلط والتشويش فريقين. الأول يذم الحكماء، والحكمة. والثاني يؤول الشرع فيصرفه إلى الحكمة. وكلاهما على خطأ، والصواب في رأي ابن رشد هو الإقرار بظاهر الشرع وعدم التصريح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة لأنه لا يجوز التصريح لهم بنتائج الحكمة دون البرهان عليها. وهذا لا يحدث إلا للعلماء الجامعين بين الشرع والعقل لا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع. فينتج عما فعله أبو حامد الاخلال بالأمرين معا، الحكمة والشرع عند فريق، الاخلال بالشريعة من جهة إفصاحه فيها بالتأويل الذي لا يجب الافصاح به، والاضلال بالحكمة لإفصاحه عن معان لا يجب التصريح بها إلا في كتب البرهان عند فريق آخر لأن كثيرًا من الناس لا يرى بينهما تعارضًا كما بين ذلك في «التفرقة». فقد عدد أصناف التأويلات، وقطع بأن المؤول ليس بكافر وأن فرق الإجماع في التأويل. فإذا فعل أبو حامد ذلك فهو ضار بالشرع بوجه، وبالحكمة بوجه، ولهما معًا بوجه، ضار لهما بالذات، ونافع لهما بالعرض لأن الافصاح بالحكمة لمن ليس أهلها يلزم عنه بالذات إما إبطال الحكمة أو إبطال الشريعة. وقد يلزم بالعرض الجمع بينهما.٤٣ وواضح أن تاريخ التأويل هو تاريخ أبي حامد وأنه الحاضر والغائب في فكر ابن رشد، هاجسه الأول ومحاوره الرئيسي، صديقه اللدود، وعدوه الحميم. يقرؤه في بعض كتبه مستبعدًا فضائح الباطنية، والاقتصاد، والإحياء، والتبر المسبوك، والمستصفى بالرغم من اختصار ابن رشد له في «الضروري». كان على أبي حامد ألا يصرح بالحكمة للجمهور. أما وقد صرح فالصواب أن يعلم من يعلن ألَّا شريعة مخالفة للحكمة أنها ليست كذلك، وأن يعلم المنتسبون للحكمة أن الحكمة ليست مخالفة للشريعة. كل فريق لم يقف على كنههما معًا بالحقيقة، لا كنه الشريعة ولا كنه الحكمة، وأن من يظن أن الشريعة مخالفة للحكمة مبتدع في الشريعة ليس في أصلها أو خطأ في الحكمة وتأويلها مثل إنكار علم الله بالجزئيات. لذلك عرض ابن رشد في «مناهج الأدلة» أصول الشريعة مبينًا مطابقتها للحكمة من المُؤَولين لها فعرض الحكمة مبينًا موافقتها للشريعة، وأن من ظن خلافهما فإنه لم يحظ علمًا لا بالحكمة ولا بالشريعة. وهو ما قرره ابن رشد في «فصل المقال». طريقة ابن رشد إذن في تصحيح مفهوم الحكمة وفي الأخذ بظاهر الشرع حتى يظهر اتفاق الحكمة والشريعة. فالاختلاف بينهما ليس بالذات بل بالعرض، سواء فهم الحكمة وسوء تأويل الشريعة.٤٤ وواضح استطراد ابن رشد في المنهج أكثر من التطبيق، في الجدل أكثر من العقائد حتى أن التأويل كمنهج نظري يصبح موضوعًا مستقلًّا عن موضوعات التنزيه الثلاثة: الجسمية والجهة والرؤية. ويشعر ابن رشد بهذا الاستطراد ويعود إلى الموضوع.٤٥
لم يعط ابن رشد أمثلة على تأويل الخوارج. ربما يقصد رفعهم المصاحف على أسنة الرماح ومطالبتهم بألا حكم إلا لله، وهو تأويل سياسي. واعتبر المعتزلة أوائل المتأولين لأنهم كانوا يمثلون أهل السنة في مقابل الشيعة وقبل انقلاب الأشعري عليهم. ويمثلون مع الخوارج التأويل السياسي المعارض للأمويين، المعتزلة المعارضة العلنية الفكرية في الداخل، تطبيقًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخوارج المعارضة المسلحة في الخارج تطبيقًا لمبدأ الخروج على الحاكم الظالم، والشيعة المعارضة السرية في الداخل انتظارًا لظهور المخلص. ثم تعاونت الأشعرية والصوفية ممثلة في الغزالي حتى جاءت الدولة العثمانية. فأبو حامد يصب فيه التاريخ وقوة الدولة.٤٦

ولم يعط أيضًا نماذج من تأويل الصوفية وهم أهل التأويل وأربابه. أما الغزالي فإنه هو الذي طم الوادي على القرى وصرح بالحكمة كلها إلى الجمهور وطبقًا لفهمه إياها. فاجتمعت في الغزالي مساوئ المتأولين كلهم، الخوارج وتأويلهم السياسي، ودفاعه عن نظام الملك، والمعتزلة وتأويلهم العقل دفاعًا عن التنزيه، والردة الأشعرية في سوء استخدام العقل والشرع معًا ثم التأويل الباطني المضاد للعقل.

لقد أرخ ابن رشد للتأويل عند الفرق مع إبراز دور الغزالي في مؤلفاته قبل أن يضع قانونًا للتأويل في النهاية للإجابة على سؤال: هل سبب الوقوع في خطأ التأويل هو مجرد اللسان وتغيير المعنى الحقيقي للفظ إلى معنى آخر مؤول كما هو الحال في الاستعارة وأساليب البيان؟ هل السبب هو مجرد اللغة أم اختلاف الناس في الفهم وطبقات المفسرين وتعبيرهم عن مختلف المصالح الاجتماعية والقوى السياسية؟ قد تتغير الأسماء وتبقى المسميات. وقد يتبع تغير الأسماء أحيانًا اكتشاف أبعاد جديدة في المسميات كما هو الحال في منطق التجديد اللغوي.٤٧

(د) نفي الرؤية

ينفي المعتزلة والأشاعرة معًا الرؤية. إلا أن الأشاعرة أرادوا الجمع بين النقيضين، تفنى الرؤية وإثباتها، انتفاء الجسمية وجواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس نظرًا لتداخل الرؤية مع الجهة والجسمية وهو مستحيل أو عسير. فلجئوا إلى حيل وأقاويل سوفسطائية مموهة كاذبة. الحجج كالناس، فيها الفاضل والأقل فضلًا ومن يوهم أنه فاضل هو المرائي. كذلك الحجج يقينية أو أقل من اليقينية أو مرائية توهم بأنها يقينية مثل حجج الأشعرية في نقض دليل المعتزلة على نفيها والقول بجواز الرؤية لما ليس بجسم. والأشاعرة غير متسقين مع أنفسهم يطلقون قياس الغائب على الشاهد في الشرط، الحياة شرط العلم، ولا يجعلونها شرط الرؤية. الله ليس بجسم لأن كل جسم محَدث كما تقول الأشعرية. لم تصرح الأشعرية بنفي الرؤية كالمعتزلة لأنها تثبت الجسمية وإلا كان ناقصًا.

وحجج الأشاعرة إنما هي لتفنيد أدلة المعتزلة ولإثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم، وأنه لا يعرض من فرضها محال. فالأشاعرة يعيشون على فكر غيرهم سلبًا دون أن يكون لهم ايجاب. يمثلون رد فعل ولا يقدمون فعلًا. ومع ذلك فأقاويلهم قسمان: الأول نقد أدلة المعتزلة والثاني إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنها لا تتضمن المحال. عارضوا قول المعتزلة من أن كل مرئي فهو من جهة الرائي.٤٨

وينقد ابن رشد حجج الأشعرية لإثبات رؤية ما ليس بجسم وهما حجتان: الأولى، وهي الأشهر، أن الشيء يرى من جهة ما هو ملون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه وجود. فهذه أربعة احتمالات وربما يوجد أكثر منها. ثم يبطل الدليل احتمالًا وراء الآخر. فباطل أن يرى من حيث أنه جسم وإلا لما رؤى اللون، وباطل أن يرى لأن له لون وإلا لما رُئي الجسم. ومن ثَمَّ لم يبق إلا الاحتمال الرابع أنه يرى من قبل أنه موجود. وهذا الدليل مغالطة لأن المرئي اما مرئي بذاته أو مرئي من قبل المرئي بذاته وهو حال اللون والجسم. فاللون مرئي بذاته، والجسم مرئي من قبل اللون. لذلك ما لا لون له لا يُبصر. ولو رُئي الشيء من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمسة، وتكون الحواس كلها حاسة واحدة، وتكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا حتى المتضادات. وهذا ضد المعقول، ورأي سوفسطائي تبناه أقوام قدماء مشهورون بالسفسطة. لذلك اضطر المتكلمون إلى القول بإمكانية سماح الألوان ورؤية الأصوات. وهو خروج على الطبع والمعقول. فلكل حاسة وظيفتها، ولا تنقلب حاسة إلى أخرى.

والطريقة الثانية طريقة أبي المعالي في «الإرشاد». وهي أن الحواس تدرك ذوات الأشياء. وما تنفصل به الموجودات بعضها عن بعض أحوال لا تدركها الحواس. والذات هو نفس الوجود المشترك لجميع الموجودات. ومن ثَمَّ تدرك الحواس الشيء من حيث هو موجود. وهي طريقة في غاية الفساد. فلو كان البصر يدرك أشياء لما أمكن التفريق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه وإلا لأدركت الحواس كل المحسوسات على التبادل وليس على التفرد كجنس واحد. وهو مضاد للعقل والفطرة. إنما تدرك الحواس ذوات الأشياء بحواسها الخاصة. يرجع الفساد إذن إلى أن ما يدرك ذاتيًّا اعتبر مدركًا بذاته. ولولا شهرة هذه الاقاويل وتعظيم قائليها لما أمكن الاقناع بها ولا وقع بها تصديق من صاحب فطرة سليمة.٤٩
والحقيقة أن الاحتمال الأول، رؤية الشيء من جهة أنه ملون، والاحتمال الثالث، رؤية الشيء من جهة أنه لون، احتمال واحد لأن الدليل واحد، «وإلا لما رُئي الجسم». ومن ثَمَّ يقوم الدليل على احتمالات ثلاثة. بطل اثنان وصح الثالث. وهو برهان الخلف، إثبات الشيء بفساد نقيضه. وهو دليل سلبي وليس دليلًا إيجابيًّا. كما يمكن للحواس أن تعمل على التبادل كما يقول كثير من الفنانين «العين تسمع والأذن ترى»، وكما هو الحال في إدراكات الأعمى الأصوات، والأصم للمبصرات. كما ترى الصوفية أن تبادل الحواس ممكن، وأن الله يسمع، وأن الصوت يرى كذبذبات، وأنه من خلال الصوت يمكن تجسيد المرئي مثل صوت المرأة الجميلة وإدراك تكوينها بالعقل. وقد رأى الله موسى بالصوت. وتعبر الموسيقى عن جمال الطبيعة بالصوت. وقد تناول المتكلمون في نظرية العلم عمل الحواس وأثاروا إشكال السمع والبصر، وأولوية كل منهما على الآخر.٥٠ خطأ الدليل جعل الله ذاتًا وهو أقرب إلى الحال، ومشاركة الذات الإلهية لباقي الذوات الموجودة، وعدم تفرد الله بوجود خاص.
ويعرض ابن رشد رد الأشعرية على المعتزلة في نفي الرؤية اعتمادًا على أن كل مرئي فهو من جهة الرائي بأن هذا هو حكم الشاهد لا حكم الغائب، وأن هذا الموضوع لا ينطبق عليه قياس الغائب على الشاهد، وأنه يجوز أن يرى الإنسان ما ليس فيه جهة بالقوة المبصرة دون عين. ومن ثَمَّ خلط المعتزلة بين العقل والبصر. الأول يدرك ما ليس بجهة أي في مكان على عكس الثاني الذي يدرك في جهة مخصوصة بأوضاع وشروط محدودة ثلاثة: حضور الضوء، الجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصَر، كون المبصَر ذي ألوان بالضرورة. ولا يمكن نقد ذلك وإلا بطلت أوائل العلوم المعلومة بالطبع، وبطلت جميع علوم المناظر والهندسة. يقاس الغائب على الشاهد عند الأشعرية مثلًا في حالة الشرط، الحياة شرط العلم. وقد عاند أبو حامد هذه المقدمة «كل مرئي من جهة الرائي» في «المقاصد» بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة، وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة. فهو يبصر ذاته في غير جهة. وهذه مغالطة منه. فإن الذي يبصره هو خيال ذاته. والخيال في جهة المرآة، والمرآة في جهة.٥١

وبعد نقد ابن رشد الأشاعرة ثم ضرب المعتزلة بالأشاعرة ينقد المعتزلة مباشرة في جدل صاعد؛ إذ ليس عند المعتزلة برهان ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية، فقد انبنى نفي الجسمية على وجود الحدوث للجسم بما هو جسم. ومن يملك البرهان على ذلك هم العلماء، فهذه موضوعات طبيعية أصبحت لاهوتية وأصلها في الطبيعة. ومع ذلك أنكر المعتزلة الرؤية. وسبب وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية، واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين وجب عندهم أن تنتفي الجهة وبالتالي انتفاء الرؤية. فكل مرئي في جهة من الرائي. فردوا الشرع المنقول، واعتلوا بأن الأحاديث أخبار آحاد وهي لا توجب العلم، وأن ظاهر القرآن معارض لها. أنكر المعتزلة الرؤية بالرغم من ورد الشرع بإثباتها في نصوص كثيرة ومشهورة. فشنع الأمر عليهم مما يكشف عن خطر الشرع على حرية الفكر ومنطق البرهان. وسبب شبهتهم أن المعتزلة قد نفوا الجسمية من الله، وصرحوا بذلك لجميع المكلفين مما ينتج عنه انتفاء الجهة. ويرد وابن رشد على المعتزلة وفي نفس الوقت دون استعمال حجج أبي حامد الصوفي الذي اجتمعت فيه مساوئ الأشعرية والتصوف ولكن يرفض قياس الغائب على الشاهد في موضوع الرؤية، ويكون صاحب معيار مزدوج، يطبقه في الحياة شرط العلم، ويرفضه في الرؤية. يرفض تطبيق قياس الغائب على الشاهد وهو أساس الفكر الديني من أجل اثبات الغائب ضد الشاهد وهو أساس الفكر الغيبي.

والحقيقة أن المعتزلة متسقون مع أنفسهم، نفي الجسمية يؤدي إلى نفي الجهة الذي يؤدي إلى نفي الرؤية. وما الضير طبقًا لمناهج الاستدلال بالمنقول معارضة أخبار الآحاد بظواهر القرآن، بالإضافة إلى ضعف رواية الرؤية، والقرآن مقدم على خبر الآحاد؟ فالحكم الأصولي بالضرورة هو نفي الرؤية.

وهل خطأ المعتزلة التصريح بالنفي للمكلفين أم كان من الأفضل إبقاء الناس على تجسيمهم وتشبيههم وحسيتهم أي وثنيتهم لا فرق في ذلك بين المسلمين أنصار التنزيه وبين باقي الديانات الأخرى كالنصرانية التي تقوم على التشبيه؟ أي الطريقين أفضل، ظاهر الجمهور أم تأويل العلماء؟ والمكلفون لفظ جديد يستعمله ابن رشد للجمع بين العلماء والجمهور. وهل سيحاسب الله الناس يوم القيامة بمقياسين، الظاهر للجمهور، والمؤول للعلماء، وكلاهما مكلف بنفس التكاليف؟ إن خطورة المعتزلة في نفي الرؤية أقل من خطورة الأشعرية في إثباتها. ونفي الرؤية عند المعتزلة دفاعًا عن التنزيه خير من إثباتها عند الأشعرية وقوعًا في التشبيه والتجسيم.

ثم يحول ابن رشد الموضوع إلى منهج في صيغة سؤال: هل يجوز التصريح في الشرع بالمسكوت عنه للجمهور؟ إن السبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى الجأت المدافعين عنها إلى بعض الأقوال الهجينة التي ينفر منها من يميز بين الأقاويل هو التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله قبل التصريح بنفي الجسمية للجمهور لأن من العسير أن يجتمع في اعتقادٍ واحدٍ أن هناك موجودا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن المدركات الحسية في الأجسام أو أجسام. لذلك اعتبر النفاة أن الرؤية هي مزيد من العلم. وهذا أيضًا لا يصح الافصاح عنه للجمهور. ولما كان عقل الجمهور لا ينفك عن التحليل وأن ما لا يتخيل هو عدم، وأنه يستحيل تخيل ما ليس بجسم، والتصديق بما هو غير متخيل عدل الشرع عن التصريح بهذا المعنى، ووصف الله بأوصاف تقرب من قوة المتخيل مثل وصفه له بالسمع والبصر والوجه بالرغم من التأكيد على نفي المماثلة والمجانسة مع الموجودات المتخيلة. ولو كان قصد الشرع التصريح بأنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من هذه المقالات، ولما ضرب المثل بالنور أشهر الموجودات في الحس والتخيل. ومن ثَمَّ أمكن للجمهور فهم المعاني الموجودة في المعاد بأمور متخيلة محسوسة. فإذا أخذ الشرع على ظواهره في أوصاف الله لما عرضت فيه شبهة إن قيل إنه نور وأن له حجابان من نور كما جاء في القرآن والسنة، وأن المؤمنين يرونه في الآخرة كما نرى الشمس سواء في حق الجمهور أم في حق العلماء. فقد قام البرهان عند العلماء على أنها مزيد علم. فإذا صرح بذلك للجمهور بطلت الشريعة أو كفروا المصرح لهم بها. والخروج على الشرع ضلال. لقد ضرب الشرع للجمهور الأمثلة التي لا يمكن جعل الناس شرعا واحدًا في التعليم أو في عمل من الأعمال فذلك مناقض للمحسوس والمعقول. الرؤية إذن معنى ظاهر، ولا تعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره، ولم يصرح بنفي الجسمية أو إثباتها.٥٢

يبدو أن ابن رشد هنا من أنصار الحقيقتين، التصوير والاستدلال، الخيال والعقل، العامة والخاصة، الجمهور والعلماء. الأولى علانية والثانية سرية لا يصرح بها الشرع سواء في القرآن أو عند العالم، وهو اتجاه شيعي إمامي وليس اتجاهًا سُنِّيًّا، أعوذ بالله من علم لا ينفع. وذلك يطرح عدة تساؤلات: إلى متى يُؤخذ بظاهر الشرع دون تأويله دفعًا لمخاطر التجسيم والتشبيه وإثباتًا للتنزيه؟ وإلى متى يظل الجمهور على عماه والمجتمع كله يسعى نحو مزيد من العقلانية؟ وهل يتحدث الله على مستوى الجمهور أم على مستوى العلماء؟ إن نزل على مستوى الجمهور تضايق العلماء، وإن نزل على مستوى العلماء لم يفهم الجمهور؟ أم إنه نزل على المستوين وخاطب الفريقين على نحوين مختلفين؟ وهل الوعي السياسي فيه أيضًا علماء وجمهور، علماء لهم حق التفسير وجمهور له واجب الطاعة؟ أليست هذه هي ولاية الفقيه عند الشيعة ومن ثَمَّ لا خلاف بين سنة وشيعة فيما يتعلق بأولي الأمر؟

والحقيقة أن الرؤية ليست فقط مزيدًا من العلم بل تأكيدًا على أن العلم الإلهي علم حسي وليس مجردًا، تجريبي وليس نظريًّا. أليس مفهوم النور مجرد مخرج، الله نور، والنور يرى، وبالتالي لا تكون شبهة عند الجمهور وإن ظلت عند العملاء لأن الصورة الفنية ليست مقياسًا برهانيًّا بل قياسًا تمثيليًّا. والتحدي المعرفي هو العلاقة بين الرؤية الإلهية والرؤية العلمية في مواضيع الضوء والأشعة والأجسام والعين، أيهما مقياس للآخر، أم إنهما يخضعان لنظرية واحدة؟ وقد تحدث ابن الهيثم في كتاب «المناظر» عن الرؤية الإلهية والرؤية الحسية كموضوع واحد.٥٣ وهل المسائل النظرية جوهرية إلى هذا الحد أم إن المسائل الاجتماعية والسياسية هي التي تعبر عن مصالح الناس؟ أيهما أفضل، اللاهوت النظري أم اللاهوت العملي، اللاهوت العقائدي أم اللاهوت السياسي؟

(٣) صفات الذات

وهي سبع في النشق الأشعري: الثلاثي: العلم والقدرة والحياة، والرباعي السمع والبصر والكلام والإرادة.٥٤ ولكن ابن رشد يغير الترتيب بادئا ببعض الصفات مثل العلم ثم الحياة، وجامعا بين الإرادة والقدرة بالرغم من اختلاف الصفتين، ثم واضعا الكلام قبل السمع والبصر. العلم أول صفة عند الأشعرية وابن رشد نظرًا لأولوية النظر على العمل. ثم يفترقان بعد ذلك. تحول الأشعرية العقل النظري إلى عقلي عملي في القدرة، وتجعل الحياة، ملكة الحكم، شرطًا لهما، وابن رشد يجعل العلم تعبيرًا عن الحياة أولًا ثم يتحقق في القدرة. والصلة بين القدرة والإرادة مثل الصلة بين القضاء والقدر أي العام والخاص، وقد يكون نسق الأشعرية أحكم. فالترتيب الأشعري: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة. وترتيب ابن رشد، العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. ويُلاحظ عدم تناسب كمي في عرض الصفات، العلم والكلام أكبرها، والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر أصغرها. ربما يكفي التمرين في صفة واحدة مثل العلم أو صفتين مثل العلم والكلام وليس في كلها. وربما لأن العلم أول الصفات، والكلام أخطرها نظرًا لارتباطها بقضية خلق القرآن.

(أ) العلم

ليس لدى المتكلمين برهان على إثبات العلم إلا القول بأن العلم المتغير بتغير الموجودات علم محدث. والباري لا يقوم به حادث لأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث. وهي مقدمة كاذبة. ولا يقال إن الباري يعلم حدوث المحدثات لا بعلم محدث ولا بعلم قديم، فهذه بدعة في الإسلام.٥٥ واضح أن ابن رشد يرفض كل تأسيس عقلي للآيات، وكل عرض لمقدمات نظرية بديهية من أجل تعقيل الآيات. صحيح أن حجة المتكلمين لا تثبت العلم، ولكنها تثبت العلم القديم. ولماذا تكون «ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث» مقدمة كاذبة؟ ولماذا يكون رفض أن يعلم الله المحدثات لا بعلم حادث ولا بعلم قديم أي رفض الدخول في القسمة العقلية ذات الاحتمال الضيق، وهو نوع من التوقف عن الحكم، وتجاوز الثنائيات المتعارضة، لماذا يكون ذلك بدعة في الإسلام؟ والحكم بالبدعة حكم فقهي يرى أن الكلام بدعة.

ويثبت ابن رشد العلم في الكتاب لأن المصنوع يدل على الصانع من جهة ترتيب أجزائه أي كون الأجزاء بعضها لبعض، وموافقتها للمنفعة المقصودة منه. وإن جواز أن تكون الأشياء المصنوعة على غير ما هي عليه هو ما تتصف به المصنوعات الخسيسة وليست الشريفة وبالتالي فإن رأي المتكلمين مضاد للحكمة والشريعة أي للعقل والنقل. والصانع ليس هو الطبيعة بل صانع رتب كل شيء من أجل غاية توجب أن يكون عالمًا بها بالرغم من وجود حفائر وسدود طبيعية وكهوف وقدرة الكائنات الحية التكيف مع الطبيعة. دليل إثبات العلم أشبه بدليل العناية. ولماذا تصور الطبيعة وكأنها سفيهة؟ ولماذا لا تكون الطبيعة عاقلة؟ وهل يحتاج العلم إلى إثبات بالدليل العقلي والنص واضح ومقنع؟

ثم يتناول ابن رشد وصف العلم بالقدم لأنه لا يجوز على الله الاتصاف بها في وقت ما دون التعمق أكثر من ذلك كما فعل المتكلمون، أن الله يعلم المحَدث وقت حدوثه بعلم قديم وإلا لكان العلم بالمحدَث وقت وجوده ووقت عدمه علما واحدًا، وهو مناقض للعقل لأن العلم علم بالموجود. ولما كان الموجود مرة بالفعل ومرة بالقوة كان العلم بالحالتين مختلفا. وهذا ما لم يصرح به الشرع بل صرح بخلافه وهو العلم بالمحدثات حين حدوثها، وعلمه بالأشياء قبل كونها وبعد كونها ومع تلفها لأن الجمهور لا يفهم إلا هذا المعنى. هنا يبدو ابن رشد فقيهًا ظاهريًّا حنبليًّا يرفض الدخول في متاهات عقلية كما رفض أحمد بن حنبل من قبل القول بقدم القرآن أو بحدوثه. ويعتبرها بدعة. وهو مفهوم فقهى. وتعني المتاهة العقلية التي لا حل عقلي لها لأنها خالية من المضمون، مجرد افتراض نظري بعيد عن الواقع، تنزه الله باسم الوحي، وتضحي بما سواه، العقل والطبيعة وقول المتكلمين بعد إثبات قدم الصفة أن الله يعلم المحدث بعلم قديم قول طبيعي بالرغم مما فيه من مشاكل، وهو الاختلاف بين العلم والمعلوم.

وقد حاول المتكلمون الخروج من المأزق عن طريق التفرقة بين وجود العلم بالقوة ووجوده بالفعل. ولكن ابن رشد نقد هذا المخرج بأن هذه التفرقة لم يصرح بها الشرع وكأن الشرع يصرح بكل شيء، وهو استنتاج من مقدمة أولى متسقة من صنع العقل. ومع ذلك، الانتقال من القوة إلى الفعل حركة، والقديم لا تجوز عليه الحركة. وقد وقع ابن رشد نفسه في مأزق الأشعرية بإثبات صفة العلم قديمة. ويمكن تجاوزه ونقد ابن رشد له بطريقة أفضل، الخروج من المسار المجرد نفسه الذي يفترض استحالة الجمع بين المختلفين على نحو تجريدي، علم الله القديم بمعلوم حادث عن طريق مستويات التحقق أو نقل الموضوع كله إلى مستوى الذات والصفات في الشخصية الإنسانية. فالفكر الكلامي كله يقوم على قياس الغائب على الشاهد. فهو فكر تمثيلي تشبيهي قياسي لا يختلف عن القياس الفقهي إلا في المجال، العقيدة دون الشريعة، النظر وليس العمل، الفكر لا السلوك. وكل فكر إنساني في النهاية يعبر عن مطلب واقتضاء، لا يصف شيئًا في الخارج، كما يبدد ذلك من أفعال الوجوب إيجابًا أم سلبًا مثل «يجب أن»، «لا يجوز عليه».

(ب) الحياة والقدرة والإرادة

يعرض ابن رشد صفة الحياة قبل القدرة خارج الترتيب الأشعري، ويستنبطها من العلم، قياسًا للغائب على الشاهد لأن الحياة شرط العلم. يقبل ابن رشد القياس لو كان في صالحه ويرفضه لو استعملته الأشعرية والنسق الأشعري يبدأ بالعلم أولًا والقدرة ثانيًا أي النظر والعمل ثم الحياة شرط لهما. الحياة لها وجهان، النظر والعمل، الفكر والسلوك، العقيدة والشريعة، وهو أكثر اتساقًا مع العقل من ترتيب ابن رشد، العلم فالحياة، ثم الإرادة والقدرة.

ويضم ابن رشد صفتي الإرادة والقدرة معًا مع أن القدرة ثاني صفة بعد العلم في النسق الأشعري في الثلاثي، والإرادة سابع صفة بعد السمع والبصر والكلام في الرباعي. صحيح أن الإرادة والقدرة متصلتان مثل علاقة العموم بالخصوص. فالقدرة هي الصفة العامة، والإرادة هي القدرة الخاصة على تجاوز الهوى والانفعال. والإرادة تعبير عن العلم لأن العالم لا يكون إلا مريدًا، وصدور الشيء عنه لا يكون إلا بإرادة. والقدرة أيضًا شرط العلم. ومن ثَمَّ يكون للعلم شرطان، الإرادة والقدرة. ويتصور ابن رشد العلم على أنه صدور للشيء وليس مجرد تعلق عالم بمعلوم كما هو الحال في الأشعرية. ويبدو أن نظرية الصدور التي عاداها ابن رشد في الحكمة خاصة عند ابن سينا قد تسربت إليه في نقد علم الكلام.

ثم تعود قضية قدم الصفات وحدوثها صفة الإرادة، فيستحيل القول بأنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة تحت وهم أن ما تقوم به الحوادث فهو حادث. هو غير معقول عند العلماء، ولا يقنع الجمهور الذي بلغ مرتبة الجدل، وأقرب إلى البدعة. وهو مريد للشيء وقت تكونه وغير مريد لكونه في غير وقت تكونه، نوع من التلاعب بالألفاظ وإيثار لحدوث الصفات على قدمها. فابن رشد أقرب إلى الاعتزال دون التصريح بذلك بالقول بحدوث الصفات. يقبل ابن رشد أن تكون الإرادة صفة دون القول إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فتلك بدعة من توهم المتكلمين تقوم على وهم أن ما تقوم به الحوادث فهو حادث. يرفض ابن رشد أي تأسيس نظري للآية. ويرى أن في الفكر ابتداع، وأن الرأي قد يكون بدعة وليس اجتهادا، وهو موقف الفقهاء. وتلك بداية التشخيص بالإرادة والرغبة والعزم والنزوع واستمرار قياس الغائب على الشاهد.٥٦

(ﺟ) الكلام

ويثبت ابن رشد صفة الكلام استنباطًا من صفة العلم وصفة القدرة على الاختراع. فالكلام فعل يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه أو يصير المخاطب بحيث ينكشف له العلم النفسي. الكلام فعل من أفعال الفاعل. وإذا كان الإنسان الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على الكلام؛ لأنه عالم قادر فالأولى أن يجب ذلك في الفاعل الحقيقي، قياسًا للغائب على الشاهد، وتصور الله قياسًا على الإنسان.

وشرط آخر قياسًا للغائب على الشاهد أن يكون الكلام بواسطة اللفظ سواء من الإنسان أو في نفس من اختار الله من عباده بواسطة. وقد تكون الواسطة ملكا. كما أخبر به النبي دون وجود برهان عليه. وقد تغيب فيكون وحيًا من النفس إلى النفس مباشرة. وقد أشار النص إلى هذه الطرق الثلاثة، الوحي من النفس إلى النفس وهو طريق عيسى، والوحي من وراء حجاب الألفاظ وهو طريق موسى أو إرسال الرسول وهو طريق محمد وطريق العلماء الذين عرفوا الله من هذا الطريق أن القرآن كلام. وهنا يبدو ابن رشد شيعيًّا إماميًّا يرى أن العلماء يأخذون علومهم من الله مثل الرسول، ليس فقط بتفسيره ولكن أيضًا باستقبال أدلة صدقه. هذه الطرق الثلاثة متطورة وليست خارج حدود التطور وبالتالي يكون آخرها أكملها. أولها أدل وأوقع على صلة الله بالإنسان أي الذاتية وآخرها صلة الوحي بالعالم أي الموضوعية. وينتهي ابن رشد إلى أن كلام الله قديم وأن اللفظ الدال عليه مخلوق لله لا للبشر. لذلك باين لفظ القرآن نفس اللفظ الذي ينطق به سائر البشر. فهو فعل للإنسان بإذن الله. أما ألفاظ القرآن فهي خلق الله واستبعاد كل رأي آخر. القرآن كلام الله وحروف المصحف من صنع الإنسان بإذن الله، يجب تعظيمها لأنها دالة على اللفظ المخلوق لله وعلى المعنى غير المخلوق. فمن نظر إلى اللفظ دون المعنى قال بخلق القرآن، ومن نظر إلى المعنى دون اللفظ قال بقدم القرآن، والحق الجمع بينهما. أراد ابن رشد أن يجمع بين الموقفين المتعارضين، الأشعرية والمعتزلة، والتوسط بينهما كقاضي يصلح بين المتخاصمين. والحقيقة أن هذا الجمع أقرب إلى موقف الأشعرية القائل بقدم القرآن لأن لفظ القرآن مخلوق من الله، ونفس اللفظ خارج القرآن من فعل الإنسان بإذن الله. فلم يعد يبق من الاعتزال شيء. بل ويستبعد ابن رشد أي حل آخر «ومن لم يفهم هذا على هذا الوجه لم يفهم هذه الصورة».٥٧

والحقيقة أن تفرقة ابن رشد بين لفظ القرآن ونفس اللفظ المتداول خارج القرآن، الأول من خلق الله والثاني من فعل الإنسان بإذن الله تفرقة يصعب قبولها لأن كليهما نطق إنساني وصوت إنساني. وما سمعه النبي لا نعرفه. وإنما نعرف ما تلفظ به النبي بصوته وبلغه عنه الصحابة والحفاظ بأصواتهم. كما أن حرف الكتابة من صنعنا وخط أيدينا وخط كتابة الوحي. والقرآن قد بُلِّغ صوتًا وليس كتابة بألواح نزلت من السماء. وإن تعظيم الكتابة لأنها دالة على اللفظ وقوع في أسوء صور التشبيه. والقول بأن اللفظ مخلوق لله، والمعنى غير مخلوق يثير نفس الإشكال الذي يعيبه ابن رشد على الأشعرية، كيف يخرج المخلوق من الله وهو غير مخلوق؟ كيف يخرج المراد الحادث من الإرادة القديمة؟ وتصور ابن رشد للفظ القرآن المخلوق ونفس اللفظ بالحادث من فعل الإنسان بإذن الله لا يمنع من الشركة بين اللفظين. فالله والإنسان كلاهما خالق للفظ على مستوين مختلفين.

وقد نفت الأشعرية أن يكون المتكلم فاعلًا للكلام وإلا كان الله فاعلًا لكلامه، والكلام متقدم بذاته وبالتالي يكون الله فاعلًا للكلام بذاته فتكون ذاته محلًّا للحوادث، فنفوا أن يكون الله فاعلًا للكلام وجعلوه صفة قديمة لذاته كالعلم. وهذا يصدق على كلام النفس ويكذب على اللفظ. وظنت المعتزلة أن الكلام هو فعل المتكلم وهو اللفظ فقط. لذلك قالوا القرآن مخلوق. فليس من شرط الفعل أن يقوم بفاعله على عكس الأشعرية التي تتشرط أن يقوم الكلام بالمتكلم. وكلاهما صحيح في الشاهد، كلام النفس واللفظ الدال عليه.

والحقيقة أن كلام النفس وحده في الخالق دون اللفظ وهو القائم به. اشترطت الأشعرية أن يكون الكلام بإطلاق قائما بالمتكلم. لذلك أنكرت أن يكون المتكلم فاعلًا للكلام بإطلاق. واشترطت المعتزلة أن يكون المتكلم فاعلا للكلام بإطلاق لذلك أنكرت كلام النفس. وقول كل منهما فيه جزء من الحق وجزء من الباطل.٥٨ والحقيقة أنها تفرقة أصولية تحل مشكلة كلامية. يظل الموضوع قائما على قياس الغائب على الشاهد. فكل تفكير في الله هو قياس على الإنسان.

(د) السمع والبصر

وهما صفتان ثابتتان بالشرع لاختصاصهما بمعان مدركة في الموجودات لا يدركها العقل. ولما كان الصانع يدرك كل ما في المصنوع فإن له هذان الإدراكان، عالمًا بالمبصرات والمسموعات. فهما ضروريان للعلم. وهما من شروط المعبود. فمن العبث عبادة الإنسان لإله لا يسمع ولا يبصر. هذا هو ما صرح به الشرع كي يعلمه الجمهور، لا أكثر من ذلك، وكأن العقل لا عمل له في الاستنباط وفي إيجاد النسق. وارتباطهما بالعلم حقيقي. والعلم حسي من خلال السمع والبصر، أفضل حاستين في الحواس الخمس كما قال الأصوليون بصرف النظر عن أولوية السمع على البصر (محمد) أو البصر على السمع (موسى). صفتان تدركان ما لا يدركه العقل، وكأن هناك تعارضًا بين المعرفة العقلية والمعرفة الحسية، وكأن العقل عاجز عن الإدراك دون الحس، وكأن الحس هو الذي يمد العقل بمدركاته. وهل الإنسان في حاجة إذا عبد أن يدرك أن المعبود يدركه ويشعر به؟ إذا كانت العبادة صلة بين شعورين نعم، إدراك متبادل. والحقيقة أن كل ذلك وجوب واقتضاء أي إنه فكر معياري يصف ما ينبغي أن يكون ولا يقرر ما هو كائن، فمن العبث أن يعبد الإنسان إلهًا لا يسمع ولا يبصر في حين أن الإنسان كذلك طبقًا لقياس الأولى، إعطاء الله ما يستحقه الإنسان. وجعل الله في حاجة إلى حواس حتى يدرك المدركات؟ وهل العلم الإلهي في حاجة إلى مدركات حسية حتى يكون كاملًا.٥٩

(٤) الأفعال

ويتناول ابن رشد خمس مسائل:
  • (أ)

    إثبات خلق العالم، وقد تم تناوله من قبل في الأدلة على وجود الله، دليل القدم والحدوث وأحيانًا في صفات الذات، صفة القدرة، القدرة على خلق ما لا يكون.

  • (ب)

    بعث الرسل، وهو أول موضوع في السمعيات، النبوة.

  • (جـ)

    القضاء والقدر، وهو أول موضوع في العدل أو ما يجوز على الله تعالى عند الأشعرية في أحكام العقل الثلاثة بين العقليات والسمعيات.

  • (د)

    التجوير والتعديل، وهما لفظان اعتزاليان، ويعنيان الحسن والقبح، وبالتالي يكتمل العدل، ولكن في نظرية الأفعال بعد أن انضم أصل العدل إلى أصل التوحيد.

  • (هـ)

    المعاد، وهو الموضوع الثاني في السمعيات.

ولا يتعرض ابن رشد للإيمان والعمل مع أنه من الموضوعات الرئيسية في وضع موضوع الصلة بين النظر والعمل وموضوع الإمامة وهي المشكلة السياسية، نشأة السلطة ومصدرها. كما تغيب ملحقات الإمامة وكل ما يتعلق بالتفضيل والفرقة الناجية. وهو ما بدأه الغزالي في «الاقتصاد»، معاركه مع الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة. وإذا كان مشروع ابن رشد له غاية سياسية فلماذا ترك الموضوعين السياسيين المباشرين؟ هل لأنه فقيه يعتبر الإيمان والعمل من الأحكام الشرعية كما يعتبر الإمامة من الموضوعات الفقهية، موضوعها «بداية المجتهد»؟ ابن رشد صاحب مشروع كبير يتلخص في تخليص الوافد من سوء تأويله على أيدي الشراح المسلمين، الحكماء الإشراقيين عامة خاصة ابن سينا، وتخليص الموروث من سوء تأويله على أيدي المتكلمين خاصة الأشعرية.

(أ) خلق العالم

ويختلف المتكلمون في مسألة قدم العالم وحدوثه بين الأشعرية من ناحية، والحكماء المتقدمين من ناحية أخرى. وهو اختلاف راجع إلى التسمية خاصة عند بعض القدماء.٦٠ والحقيقة أن الفرق ثلاث: المتكلمون الذين يقولون بحدوث العالم، والدهرية التي تقول بقدمه، والفلاسفة متوسطون بين الفريقين يقولون بقدم الحركة أو قدم الزمان أو قدم المادة. وهو عود إلى موضوع الأدلة على وجود الله ولكن عن طريق الأفعال، خلق العالم، وليس عن طريق الذات، إثبات وجود الله.

ويقوم هذا الدليل العقلي البسيط على أصلين معترف بهما عند الجميع. الأول أن العالم بجميع أجزائه موافق للإنسان، والثاني أن كل ما يوجد موافق في جميع أجزائه لفعل واحد متجه نحو غاية واحدة. والنتيجة إذن هو مصنوع بالضرورة، وكل مصنوع له صانع. وتدل العناية على الأمرين معًا. لذلك كانت أشرف دلالة على وجود الصانع.

وهذا الاستدلال موجود في الكتاب في عديد من الآيات التي يذكر فيها بدأ الخلق، وموافقة أجزاء العالم لوجود الإنسان، والتنبيه على أمر معروف للبشر، خلق الأرض بحيث تكون سكن لهم. ولو كانت متحركة أو بشكل آخر أو في موضع آخر أمكنهم الحياة فيها. فالمهاد ويجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع بالإضافة إلى الوثارة واللين استعارة وإعجاز وإيجازًا. كما نبه على المنفعة الموجودة في سكون الأرض من قبل الجبال. فلو كانت الأرض أصغر لتزعزعت من حركات باقي العناصر ولهلك الحيوان. وموافقة سكونها لما عليها من الموجودات ليس عن اتفاق بل عن قصد قاصد، وإرادة مريد. وكذلك موافقة تعاقب الليل والنهار لحياة الإنسان في الحيوان. الليل ستر من حرارة الشمس، وإلا هلكت الموجودات، النبات والحيوان. لذلك سمى الليل لباسا، استعارة بليغة. وفي الليل منفعة أخرى للحيوان هو النوم بعيدًا عن الضوء ويقظة الحواس. الكون بنيان يدل على الاختراع والاتقان والنظام والترتيب. فيه قوة وحركة. كل ذلك يدل على موافقته في أعداده وأشكاله وأوضاعه وحركاته الموجودات على الأرض. فلو وقف جرم واحد لحظة واحدة لفسدت الأرض ووقفت حركتها. لذلك زعم البعض أن النفخ في الصور، سبب الصعقة، هو وقوف الفلك. ومنفعة الشمس أنها سراج وهاج لأن الأصل الظلمة، والضوء طارئ عليها للانتفاع بحاسة البصر بالإضافة إلى سائر منافعها. وينزل المطر للنبات والحيوان بقدر محدود، وفي وقت محدود، لينبت الزرع. ولا يمكن أن يكون ذلك اتفاقًا بل قصدًا وعناية. وكثرة الآيات في العناية تستحق أن يفرد لها كتاب خاص. وهو موضوع موروث خالص من الأصول الأولى، لم تعرفه اليونان.

وهو دليل شرعي. فقد قصد الشرع من معرفة العالم أنه مصنوع لله ومخترع له وأنه لم يوجد عن اتفاق أو من تلقاء نفسه. وهي طريقة بسيطة معترف بها عند الجميع في تعليم الجمهور لإثبات حدوث العالم إن لم يكن لها مثال في الشاهد فقد استعمل الشرع مقالًا من حدوث الأشياء في المشاهدة. لقد سلك الشرع في تعليم الجمهور أن العالم مصنوع، وهو طريق العناية. وهنا يكرر ابن رشد من جديد دليل العناية الذي عرضه أولًا في الأدلة على وجود الله، ويقوم على الموافقة بين الإنسان وبين كل شيء في هذا العالم في منفعته وغايته مما يدل على وجود صانع مريد عاقل، وليس عن اتفاق. كل ما في العالم من شمس وقمر وكواكب التي هي سبب الفصول الأربعة، وتعاقب الليل والنهار وسقوط الأمطار، وجريان المياه، وهبوب الرياح، وعمارة الأرض، ووجود الناس، وسائر الكائنات من الحيوان والنبات وموافقة الأرض لسكنى الناس والحيوان، الماء للحيوان المائي والهواء للحيوان الطائر. ولو اختل فيها لاختل وجود المخلوقات. ولا يمكن أن تكون هذه الموافقة باتفاق بل عن قصد من قاصد، وإرادة من مريد، هو الله. فالعالم مصنوع، إذ لا يمكن أن توجد الموافقة عن اتفاق من غير صانع.

وطريق الشرع إلى ذلك ليس طريق الأشعرية، وليس من الطرق اليقينية الخاصة بالعلماء ولا من الطرق العامة الخاصة بالجمهور. هي الطرق البسيطة القليلة المقدمات التي نتائجها قريبة من مقدماتها، المعروفة بنفسها. لا يستعمل الشرع في تعليم الجمهور المقاييس المركبة الطويلة، المنبه على أصول متقنة. وكل من دعا الجمهور إلى غير هذه الطرق البسيطة، وتأول الشرع جهل مقصده، وحاد عن طريقه. لا يعرِّف الشرع بأمثال هذه المقاييس إلا ما كان له مثال في الشاهد. وما كانت الحاجة إلى تعريف الجمهور ضرورة مُثِّل له بأقرب الأشياء شبها به كما حدث ذلك في أمور المعاد. ولما لم تكن لهم به حاجة لما يطالبوا به مثل معرفة الروح.٦١

الطرق الشرعية التي نصبها الله لعباده لمعرفة أن العالم مخلوق ومصنوع هو طريق الحكمة والعناية بجميع الموجودات خاصة الإنسان. وهي طريقة ظاهرة في العقل ظهور الشمس للحس.

ولفظ مصنوع أو مخترع أقل حكمة من لفظ مخلوق أو مبدع. فالمصنوع يؤدي إلى الصانع في حين أن المخلوق يؤدي إلى الخالق، والمبدع إلى المبدع. فالصفة توحي بالتشكيل من مادة قديمة وبالمصطنع وبالآلية والمنفعة والجزئية والحرفية في حين أن الخلق والإبداع ليسا كذلك. الاختراع يوحي بأنه اكتشاف معلوم بعد أن كان مجهولا كما هو الحال في الاختراعات العلمية. والله ليس صانعا كالنجار والحداد. وصلته بالعالم ليس كصلة النجار بالكرسي أو الحداد بشباك الحديد.

وقد سلك الشرع طريقًا للجمهور لتصوير هذا المعنى، وهو التمثيل بالشاهد. وإن كان ليس له مثال في الشاهد استعمل الشرع ما يقرب من فهم الجمهور مثل الخلق في الزمان، والخلق من شيء. فهما الصفتان المعرفتان في الشاهد دون تأويل هذا التمثيل، وإلا بطلت الحكمة كما فعلت الأشعرية. أما القول بالخلق من غير شيء ومن غير زمان فذلك ما لا يمكن تصوره من العلماء فضلًا عن الجمهور. هذا التمثيل هو الموجود في القرآن وفي التوراة وفي سائر الكتب المنزلة. وهو يطابق معنى الحدوث في الشاهد. لم يصرح الشرع بهذا اللفظ تنبيهًا للعلماء على أن حدوث العالم ليس مثل الحدوث الذي في الشاهد. إنما الشرع يستعمل ألفاظا أخرى مثل الخلق والفطور وهي تصلح للمعنيَين الحدوث في الشاهد والحدوث الذي أدى إليه البرهان عند العلماء في الغائب. استعمال لفظي الحدوث والقدم إذن بدعة في الشرع، ويؤدي إلى شبهة عظيمة تفسد عقائد الجمهور وبخاصة الجدليين منهم.

ثم نشأت شبهة أخرى عند المتكلمين من أهل الملة الأشعرية. قالوا إن الله مريد بإرادة قديمة، وهي بدعة. وجعلوا العالم محدثًا فنشأت الحيرة. كيف يكون المراد الحادث من الإرادة القديمة؟ ولتبديد الحيرة قالوا إن الإرادة القديمة تعلقت بإيجاد وقت مخصوص، وقت الإيجاد. إذا كانت نسبة الفاعل المريد إلى المحدث وقت عدمه هي نفسها نسبته إليه وقت إيجاده، فالوجود ليس أولى من العدم، ولا يوجد فعل في وقت الوجود لا يوجد في وقت العدم، وإن كانت مختلفة تصبح الإرادة حادثة. ولا يمكن جعل الإرادة هي الفعل فذلك محال لأن الإرادة سبب الفعل في المريد. ولو كانت الإرادة هو الفعل لوجود الفعل من غير فاعل، وخرج الفعل الحادث عن إرادة حادثة خرج الفعل القديم عن إرادة قديمة. ويستحيل أن يكون مراد القديمة والحادثة شيء واحد.٦٢

ونتجت هذه الشبهة لتصريح في الشرع بما لم يأذن به الله. ليس في الشرع أن الله مريد بإرادة حادثة ولا قديمة. لم يتبع الأشعرية ظاهر الشرع فكانوا سعداء مع أهل الظاهر، ولا وصلوا إلى مرتبة اليقين فكانوا من أنصار اليقين. لا هم من بين الجمهور المصدقين ولا من بين العلماء البرهانيين. إنما من الذين في قلوبهم زيغ ومرض، يقولون بما لا يؤمنون به بدافع العصبية والمحبة. والتعود على هذه الأقاويل سبب الانخلاع عن المعقولات كما هو الحال عند الأشعرية التي ارتضاها الناس منذ الصبا فأصبحوا محجوبين عن الحق بحكم العادة والمنشأ.

الظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور. ولم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة. بل صرح بالأظهر والأوضح والأسهل، أن الإرادة موجدة موجودات حادثة لأن الجمهور لا يفهم موجودات حادثة عن إرادة قديمة. لم يصرح لا بإرادة قديمة، ولا حادثة لأنها من المتشابهات في حق الأكثر. ولا يوجد عند المتكلمين برهان يقيني على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود قديم واستثناء الأصل في نفي قيام الإرادة بمحل قديم اعتمادًا على أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

والقول بأن هذا الاستدلال موجود في الكتاب أو غير موجود من اجتهاد ابن رشد وقراءة له. فالكتاب لا ينطق بل ينطق به الرجال. والنص الشرعي لا هذا ولا ذاك. إنما هو توجه نحو الفعل والشعور والإدراك وليس متاهات عقلية أو مسائل نظرية لا يدركها إلا الخاصة. ومع ذلك أثار المتكلم مسألة قدم الإرادة وحدوثها ردًّا على الوافد الذي شاع عن الفلاسفة، وبالتالي إثارة المشكلة في الواقع الثقافي وليس من الشرع الظاهري.٦٣

ومن الذي يقرر مستوى الفهم ثم يصنه إلى جمهور وعلماء؟ هذا حكم تقديري اجتهادي صرف. وهل الخلق من شيء أسهل على الجمهور فهمه من الخلق من عدم؟ وهل الخلق في زمان أسهل على الجمهور فهمه من الخلق في لا زمان مع أن الأسهل والأكثر إثارة للخيال الخلق من عدم وفي لا زمان مثل الحاوي الذي يخرج الحمامة من كمِّه؟ وهل الشرع مزدوج اللغة، مرة للجمهور ومرة للعلماء؟ ألا تؤدي الوصايا على الجمهور وحجب المعرفة عنهم إلى سهولة قيادهم سياسيًّا؟ ولماذا لا يعي الجمهور ويصبح من العلماء؟ الجمهور ليس طبقة بل حرم من التعليم ويمكنهم أن يصبحوا علماء.

دليل العناية على النقيض من أدلة الأشعرية التي زعمت أنها طريق إلى معرفة الله. فدلالة الموجودات عندهم ليست من أجل حكمة تقتضي العناية ولكن من قبل الجواز. كل شيء في هذا العالم جائز في العقل أن يكون بهذه الصفة وضدها. فإن كان الجواز على السواء فلا توجد حكمة ترجح أحد الجائزين على الآخر. ولا توجد موافقة أصلًا بين الإنسان والعالم. ويستوي خلق الإنسان في العالم أو خلقه في الخلاء. ويستوي أن يكون الإنسان بهذا الشكل أو بشكل آخر في هذا العالم أو في عالم آخر مخالف. لا توجد نعمة يمتن بها. وما ليس بضروري أو أفضل فالإنسان مستغن عنه لا يوجب إنعامًا عليه. وهذا كله بخلاف الفطرة والطبيعة.

يتفق دليل العناية مع العقل والطبيعة والشر. هو دليل يقيني برهاني (العقل)، وبسيط نظري (الطبيعة) ومستمد من ظاهر الآيات ولا تحتاج إلى تأويل (الشرع)، فلا فرق بين تحليل النص وتحليل الطبيعة وتحليل التجربة البشرية. ميزته أنه إنساني الطابع. فكل شيء موافق للإنسان. كما أنه يعتمد على العلة الغائية وليس على العلة الفاعلة. كما أنه دليل طبيعي يعتمد على الطبيعة والتأمل في الموجودات وقدرة الإنسان على السيطرة عليها. ويساعد التأمل في الطبيعة على نشأة العالم. كما تساعد الموافقة على تسخير الطبيعة لصالح الإنسان. الجغرافيا الطبيعية والجغرافية البشرية دليل على خلق العالم ووجود الله، وفي نفس الوقت موضوع علمي لعلوم الطبيعة والفلك. وبالرغم من الطابع الإنساني العام لهذا الدليل وبيان أن الطبيعة متفقة مع الإنسان وكلاهما قصد واحد إلا أنه ما زال إسقاطًا من الإنسان على الطبيعة وقراءة لها قراءة إنسانية، ووضع سلم القيم على نظام الطبيعة. فالعناية أشرف الدلائل على وجود الصانع. فلا الأدلة ولا الطبيعة تعرف سلم القيم.

يقوم الدليل على مفاهيم إنسانية خالصة مثل المراد والعزم والحالة. والتقدم والتأخر والأشرف والأخس مقولات إنسانية تشخيص الطبيعة وأنسنة الكون كما هو الحال في القرآن مثل جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ. كما تكشف عبارات «يجب»، «ينبغي» على أن الفكر كله اقتضاء ومطلب للتعبير عما ينبغي أن يكون. بل إن قياس الأولى نفسه وهو عماد الفكر الديني مثل قياس الغائب على الشاهد قياس إنشائي محض يقوم على قياس الشرف والقيمة في النفس وليس في الخارج، فالفكر الديني فكر إنشائي وليس فكرًا خبريًّا.

فضل الأشاعرة الجواز على الحكمة كطريق إلى معرفة الله. والحكمة تقتضي العناية، والجواز ينفيها، وبالتالي انتفاء الموافقة بين الإنسان والطبيعة وشكر المنعم وكأن الإنسان يستطيع أن يعيش في عالم ويوجد في عالم آخر، وهو قادر على الاستغناء عما هو ضروري. كل شيء في العقل جائز أن يكون على غير ما هو عليه، على هذه الصفة وضدها. ولما كان الطريقان يستويان غابت حكمة تغليب طرف على آخر، وهذا كله ضد فطر الناس. ومن هنا نشأت ضرورة الاعتراف بالأسباب والمسببات.

كان الدافع لدى المتكلمين من الأشعرية هو الهروب من الاعتراف بفعل القوى الطبيعية التي ركبها الله في الموجودات كما ركب فيها النفوس حتى لا يدخل عليهم القول بوجود أسباب فاعلة غير الله. ولا خوف من ذلك لأن الله هو مخترع الأسباب، وتأثيرها بإذنه. خافوا أن يؤدي القول بالأسباب إلى أن يكون العالم صادرًا عن سبب طبيعي مع أن الطبيعة مصنوعة ودالة على الصانع. إن إنكار فعل الطبيعة يسقط جزءًا عظيما من موجودات الاستدلال على وجود الصانع بجحده جزأين من موجودات الله. ففي الطبيعة إذن نقى لله.

يرفض ابن رشد التضحية بالعناية والحكمة والتدبير وقوانين الطبيعة من أجل الجواز والإمكان. والحقيقة أن سبب نفي الحكمة، وإنكار القوى الطبيعية هو القول بأن العالم مصنوع مما يفتح الباب إلى تدخل الصانع في صنعة كما يستنتج الناس. ومن ثَمَّ يكون القول بأن العالم مطبوع له قوانينه أفضل حتى لا يثار الغبار ثم يشتكي من عدم الرؤية. وهو أقرب إلى التفكير العلمي الذي يفسر الشيء بنفسه، بعلله الداخلية، وليس التفكير المشخص الذي يفسر الشيء بعلله الخارجية المشخصة، وهو الفرق بين التفكير الدائري الذي تكون فيه العلة والمعلول على التبادل، والتفكير الطولي الذي يجعل العلل والمعلولات تتسلسل إلى ما لا نهاية حتى الوصول إلى علة أولى ليست معلولة لعلة أخرى. وهو الفرق بين الفكر العلمي والفكر الديني.٦٤

تنكر أدلة الأشعرية ارتباط الأسباب بالمسببات في الأمور الصناعية وفي الأمور الطبيعية مما يؤدي إلى جحد الصانع الحكيم. ولا يكفي في ذلك القول بالعادة التي أجراها الله دون أن يكون لها تأثير فعلي، فإن ذلك نفي لمقتضى الحكمة ومبطل لها. فإذا وجدت المسببات دون الأسباب فأي حكمة في وجودها؟ فوجود المسببات من الأسباب لا يخلو من ثلاثة أوجه: الاضطرار مثل الغذاء أو من أجل الأفضل مثل أن يكون للإنسان عينان أو بالاتفاق ودون قصد فلا تكون هناك حكمة أصلًا ولا تدل على صانع مثل اليد وأصابعها للإمساك. ولو غابت الحكمة لاستوت اليد مع الحافر.

فإذا رفعت السببية لم يوجد شيء يرد به على القائلين بالاتفاق وإنكار الصانع وحدوث كل شيء عن الأسباب المادية لأن أحد الجائزين أحق أن يقع عن الاتفاق منه أن يقع عن فاعل مختار إلا قول الأشعري إن وجود أحد الجائزين دال على مخصص وفاعل. وهنا يضرب ابن رشد الاتفاق بالأشعرية ثم يضرب الأشعرية بالسببية.

تخضع الطبيعة لنظام ثابت لا عن اتفاق بل عن ضرورة. ولا يوجد أتقن ولا أتم منه. الامتزاجات محدودة مقدرة. والموجودات الحادثة واجبة. وذلك ليس عن اتفاق بل عن ضرورة. ولا اتقان عن جواز فالجائز ليس أولى بالشيء من ضده. ولا يوجد تفاوت أعظم من أن تكون الأشياء على ضد ما هي عليه. فلعل المعدوم أفضل من الموجود. لو كان الغرب شرقا، والشرق غربًا لما كان هناك فرق في صنع العالم، ولبطلت الحكمة في أن يكون اليمين يمينا والشمال شمالًا. وهل يمكن للمصنوعات الخسيسة أن تكون أفضل مما هي عليه، وأن تكون المصنوعات الشريفة أتم وأفضل مما عليه، وكل ذلك من اتفاق؟ وهو رأي مضاد للحكمة. إذا قال الأشعري إن وجود أحد الجائزين أو الجائزات دال على وجود مخصص فاعل قد يكون عن اتفاق. فالقول بالجواز أقرب إلى نفي الصانع من اثباته، ونفي الحكمة عنه. وإذا تم إنكار الوسائط بين المبادئ والغايات في المصنوعات لم يكن هناك نظام ولا ترتيب وبالتالي غياب الدليل على أن لهذه الموجودات فاعلًا مريدًا لأن الترتيب والنظام وبناء المسببات على الأسباب يدل على العلم والحكمة. أما وجود الجائز على أحد الجائزين فقد يكون من فاعل غير حكيم أو عن اتفاق مما يؤدي إلى ابطال وجود فاعل على الإطلاق ووجود فاعل حكيم.٦٥

وقد استمدت الأشعرية آراءها من الظنون التي تخطر على البال من أول وهلة من الأفكار الشائعة التي يسميها ابن رشد «بادئ الرأي». فاسم الإرادة يطلق على القدرة على فعل الشيء وضده. ومن ثَمَّ جعلوا الموجودات جائزة لإثبات فاعل مريد منكرين الترتيب في الأمور الصناعية. وهو أيضًا صادر عن فاعل مريد وهو الصانع. فأنكروا الحكمة عن الصانع، وأدخلوا بدلًا عنها الاتفاق في الموجودات، وأصبحت الإرادة مجرد عبث منسوب إلى الاتفاق. فأنكروا نظام الطابع والصانع للعالم، وأثبتوا العبث والاتفاق. وأنكروا الأسباب وهي جند الله التي سخرها بإذنه لحفظ العالم. وهي الأجسام السماوية والأسباب الموجودة في ذوات الموجودات مثل النفوس والقوة الطبيعية لحفظ الموجودات وتحقيق الحكمة. هذا ما فعلته الأشعرية من تغيير في الشريعة.

كان الدافع الذي أدى بالمتكلمين الأشعرية إلى إنكار فعل القوى الطبيعية التي ركبها الله في الموجودات كما ركب فيها النفوس وغيرها من الأسباب المؤثرة وإنكار الأسباب خشية أن تكون هناك أسباب أخرى فاعلة غير الله. وهذا وهم. فلا فاعل إلا الله لأنه مخترع الأسباب، تأثيرها وحفظ وجودها بإذنه. وهو ما سيؤكد عليه ابن رشد من جديد في بحثه القضاء والقدر. خشوا أن يؤدي القول بالأسباب الطبيعية إلى أن يكون العالم صادرًا عن سبب طبيعي مع أن الطبيعة مصنوعة وأنها دليل على وجود الصانع. ففي الطبيعة إذن إسقاط جزء عظيم من موجودات الاستدلال على وجود الصانع العالم وجحد جزء من موجودات الله. وإن جحد جنس من المخلوقات أو صفة من صفات الله يكون جحد الفعل من أفعال الخالق.٦٦
فابن رشد هنا ضد الأشعرية فكريًّا وعمليًّا وشرعيًّا وطبيعيًّا وإنسانيًّا. فقد ضحت الأشاعرة بالحكمة والعناية من أجل الجواز العقلي والطبيعي أي هدم قوانين العقل والعلم ومعايير السلوك. وترك الجائزين بلا ترجيح إنكار للقصد والغاية في الطبيعة والإنسان.٦٧

يأخذ ابن رشد صف المعتزلة أصحاب الطبائع في إثبات السببية دون استعمال مصطلحاتهم، الفطرة والكمون والتوليد. ويشبه موقف ابن حزم في اثبات السببية كذلك ردًّا على الأشعرية. وقد يكون الدافع على تفضيل الأشعرية الإرادة على الحكمة دافعًا سياسيًّا. فإرادة الحاكم وليس عقله تعبير عن الوضع السياسي وتبرير له.

وتدل إحالة موضوع وجود الله إلى الإرادة أو العالم والحدوث على استحالة فصل الذات والصفات والأفعال، واستحالة التمييز بين الإلهيات والطبيعيات، والفصل بين الله والعالم. فهما موضوع واحد، مرة موقف مغترب في الإلهيات، ومرة موقف طبيعي في الطبيعيات. المغترب يبدأ بالله فيزيف الطبيعة، والصحيح يبدأ بالطبيعة فيضيع الوهم.٦٨ وهذا هو الذي أدخل بعض النظريات الفلك القديم في فكر ابن رشد مثل دور الأجرام السماوية في الفعل كوسيط أو سبب، وقسمة الأسباب إلى نوعين، خارجية مثل الأجرام السماوية وداخلية مثل النفوس والقوى الطبيعية. والحقيقة أن الأجرام السماوية موضوع لعلم الفلك ولعلم الجغرافيا. كذلك تصور الأسباب جنود الله صياغة دقيقة علميًّا في الطبيعيات. وكل الألفاظ المستعملة في الدليل ألفاظ دينية مثل الحادث والقديم والتي تكشف عن موقف مغترب في العالم.

والحقيقة أن ذلك كله من أفعال الشعور بغية التنزيه وعلى درجات متفاوت من الإحساس به بين المتكلمين أو بين المتكلمين والحكماء فبالرغم من عدم وجود برهان على استحالة إرادة حديثة من موجود قديم إلا أن هناك نفورًا عقليًّا من ذلك؛ إذ إن العقل مع اتساق المتضايفين قدمًا أو حدوثًا.

وينتقل الفكر الديني من النقيض إلى النقيض. فليس المقصود موضوع التنزيه بل درجة الإحساس بالتنزيه. وينتقل من رفض الاتفاق في الطبيعة إلى الفاعل المشخص. والحقيقة بينهما في غائية الطبيعة وقوانينها. ولماذا التشخيص؟ لماذا لا يكون القصد من داخل الطبيعة وليس من خارجها؟ أليست الطبيعة عاقلة؟ كما أن الدليل على هذا النحو يقع في الدور، اثبات الخالق بالعناية ثم اثبات العناية بالخالق. فالمقصود ليس الدليل بل اتساق الفكر مع نفسه. كما أنه ينقلب من اثبات خلق العالم إلى اثبات وجود الله، ومن ثَمَّ استعمال دليل العناية مرتين، مرة كدليل على وجود الله في المقدمات الأولى، ومرة لإثبات خلق العالم كفعل من أفعال الله في نظرية الأفعال.

ويمكن نقد قلب الدليل بأنه يقوم على تبرير الشر في العالم، وتبرير الكوارث والزلازل والبراكين والأمراض والحروب والاغتيالات والظلم والألم والعذاب بأنها موافقة لغاية الإنسان واعتمادًا على وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وإذا كان من صفات الله أو أسمائه الجود والكرم والخير والعالم مصنوع فكيف يصدر الشر من الخير؟

ويستعمل ابن رشد بعض الألفاظ المعربة مثل الأسطقسات بعد أن استقر وأصبح عربيًّا. كما يحلل بعض الألفاظ الأخرى لبيان معانيها الدينية مثل المهاد والأوتاد وهو ما يتجاوز قدرات المعاصرين الذين يتفوقون ربما في التحليلات السياسية والاجتماعية. كانت اللغة والأدب ثقافة القدماء، والعلوم الاجتماعية ثقافة المعاصرين.

يبدو ابن رشد الحكيم أحيانًا ظاهريًّا اسميًّا حرفيًّا في تحديد معنى الحدوث في الشاهد. ولفظ الحدوث ليس لفظًا شرعيًّا مذكورًا في القرآن وإن كان معنى الحدوث موجود. وهنا يبدو ابن سينا أكثر حكمة عندما يقول «لا مشاحة في الألفاظ». والعجيب إزاحة ابن رشد للاجتهاد، وهو الفقيه، والاستناد إلى ظاهر الشرع، والكلام كله اجتهادات حسب الطاقة والوسع، تخطئ وتصيب. كما يضع علم الكلام في إطار تاريخ الأديان المقارن، فتمثيل الخلق للجمهور موجود في القرآن والتوراة وسائر الكتب المنزلة دون أن يثير قضية التحريف التي يثيرها ابن حزم. ولكنه يستعمل لغته الحادة وإلقاء الاتهامات على الذين في قلوبهم زيغ ومرض، ويشق على قلوب الناس، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والحيد عن الطريق، والضلال بعد الهدى.

(ب) بعث الرسل (النبوة)

وهو أول الموضوعات السمعية في النسق الأشعري. يتناوله ابن رشد في أصلين. الأول إثبات الرسل من حيث المبدأ وهو ما يسمى عند الأشعرية إمكان النبوة أو استحالتها أو ضرورتها، والثاني صدق الرسالة والدليل عليه.

ويفضل ابن رشد لفظ الرسل على لفظ النبوة، والرسل على لفظ الأنبياء. ويتحدث عن «بعث الرسل» للإشارة إلى جانب الرسالة أي علاقة الرسول بالمرسل إليهم وليس النبوة أي علاقة النبي بمصدر النبوة.

حاول المتكلمون إثبات النبوة بالقياس، قياس الغائب على الشاهد. لما ثبت أن الله متكلم مريد ومالك لعباده وجائز على المتكلم المريد المالك في الشاهد أن يبعث رسولًا إلى عباده المملوكين وجب أن يكون ذلك ممكنًا في الغائب.

وعيب دليل القياس لإثبات النبوة عند المتكلمين استنباطا من كلام الله وارادته وملكه للعباد هو التركيز على العلة الفاعلة وغياب العلة الغائية. غاية الرسالة تحقيق مصالح العباد في النظر والعمل. والنبوة ليست موضوعًا نظريًّا بل موضوعًا عمليا؛ إذ يمكن الوصول إلى الحقائق النظرية والأخلاقية ببداهة العقل وتصديق الواقع. فهل المطلوب من النبوة اثبات الله، مالك الملك، وأن الإنسان مملوك أم اثبات الإنسان، مصالحه وحقوقه؟ الدليل من خارج النبوة وليس من داخلها. ومن ثَمَّ تكون حجة البداهة في استحالة النبوة أقوى لأنها دليل داخلي.

ولا يدل العقل على وجود الرسل نظرًا لجوازه فيه؛ لأن هذا الجواز جهل وليس في طبيعة الموجودات، يوجد مرة ولا يوجد مرة أخرى. ثم يقضي العقل بالجواز على عكس الواجب. يوجد في الطبيعة ثم يحكم عليه العقل. الجواز والاستحالة والوجوب ظواهر في الطبيعة يحكم عليه العقل وليست من طبيعة العقل. ولما كانت الرسالة لم تثبت بعد فالقول بالجواز العقلي يكون قفزًا على المطلوب وجهلًا بأحد المتقابلين، الإمكان والامتناع. وإمكان وجود الرسل من الناس يدل على الإمكان من الخالق. أما وجودهم من زيد ووجودهم من عمرو فيتساوى فيه الاحتمالان وهو أمر عسير.٦٩ لذلك يبطل إنكار البراهمة الرسل لما ينتج عن هذا الإنكار من المحالات.٧٠

والدليل على صدقه ظهور المعجزة عليه، ويغيب الدليل على أن المعجزة دليل على صدق الرسول، إما بإشارة من الله على ذلك أو من عادة ظهورها على الرسل. وذلك يدرك إما بالشرع أو بالعقل. ومحال أن يدرك بالشرع لأن الشرع لم يثبت بعد. ولا يستطيع العقل ذلك إلا إذا تكرر ظهور المعجزة مرات عديدة عليهم دون سواهم وهي طريقة مقنعة ولائقة بالجمهور إلا أن بها بعض الخلل في الأصول.

ويقوم دليل المعجزة على مقدمتين. الأولى أن هذا المدعى للرسالة ظهرت على يديه المعجزة. والثانية أن كل من ظهرت على يديه معجزة فهو نبي. المقدمة الأولى تؤخذ من الحس. فبعد ظهور المعجزة يتم التأكد أنها لم تستفد من صناعة أو خاصية. والثانية تصح بعد الاعتراف بوجود الرسل وبأنها لم تظهر إلا على من صحت رسالته. وهذا شرط القول الخبري الذي يبرهن على أن العالم محدث بشرط أن يكون معلومًا بنفسه أن العالم موجود، وأن المحدث موجود أي وجود الموضوع والمحمول. فابن رشد يفرق بين الجواز المعرفي والجواز الوجودي. الأول جهل، والثاني وقوع.

وبالرغم من موافقة ابن رشد على محاولة المتكلمين إثبات النبوة بالقياس لإبطال نفي البراهمة لها إلا أنهم لم يدركوا وجه الإعجاز والدلالة عليه. فأقاموا الإمكان بدل الوجود، وجعلوا كل من تصح منه المعجزة فهو رسول. وقد تظهر المعجزة على يد غير رسول مثل الساحر والولي. كما أن المعجزة لا دلالة لها على وجه قاطع إلا من حيث أن من يقوم بها يكون فاضلا. والفاضل لا يكذب. فالمعجزة وحدها دون الأخلاق دلالتها ظنية.

لو كان هذا الإمكان في المستقبل لكان بحسب الأمر في نفسه وليس بحسب العلم به. ولما خرج أحد الإمكانين إلى الوجود، فقد تحول إلى علم بالإضافة إلى الوجود. والإمكان فقط دون وجود جهل لأن العلم لا يكون إلا علما بواقع، والواقع لا يكون إلا في الماضي والحاضر، ولا يكون في المستقبل. فبعد وقوع الرسالة ووقوع المعجزة لا بد من دليل على أن من ظهرت عليه المعجزة رسول. ولا يكون الدليل سمعيًّا وإلا كان دورًا منطقيًّا، إثبات الشيء بنفسه، صدق النبوة بالمعجزة وصدق المعجزة بالنبوة. والتجربة أو العادة تقتضي مشاهدة هذا التلازم بين الرسالة والمعجزة أكثر من مرة. العقل عند ابن رشد تجريبي مرتبط بالعادة. فالمعجزة لا تثبت بالعقل إلا إذا تكرر وقوعها على أيدي رسل كثيرين وهو تعريف مجرى العادات عند ابن حزم. لذلك أخطأ المتكلمون عندما أقاموا الإمكان بدل الوجود، وغاب الدليل على أن المعجز يدل على الرسالة نفسها أي ضرورة التلازم بينهما. قد يكون المعجز فعلًا خارقًا للعادة يعتبره الجميع إلهيًّا وهو ليس كذلك. ولا يكفي مجرد الاعتقاد دون دلالة قاطعة على أن من ظهرت عليه هذه الأشياء فهو فاضل، والفاضل لا يكذب، وظهور المعجزة صدق لأن الكذب ممتنع عليه وهذا نقل الدين إلى مستوى الأخلاق وليس برهانًا. يكون الرسول رسولًا إذا كانت الرسالة موجودة، ولا يظهر المعجز إلا على يد الرسول إنما المعجز نفسه لا يدل على الرسالة لأنه لا يوجد ارتباط عقلي بينهما إلا الاعتراف بأن الإعجاز من أعمال الرسالة كالإبراء الذي قد يكون من أفعال الطب. ومن يفعل الإبراء يكون طبيبًا. وقد تظهر المعجزة على يد ساحر أو ولي. ودعوى الرسالة ليس عليها دليلي سمعي أو عقلي بحيث يكون دليلًا على التلازم الضروري بين النبوة والمعجزة. لذلك رأي البعض أن الخوارق لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وأن السحر هو تخيل لا قلب عين، ومن ثَمَّ أنكروا الكرامات. وابن رشد يستنكر هذا الإنكار.٧١
إن المعجزة في الحقيقة ليست دليلًا فقط على صدق الرسول لقصور في بنية البرهان المنطقي بل لانتهاء عصر المعجزات، وبداية عصر الإعجاز، الإعجاز الأدبي والتشريعي والفلسفي كحدوس معطاة سلفًا يتم التحقق من صدقها في الواقع.٧٢

لذلك ينتقل ابن رشد من المعجزة إلى الإعجاز، من خرق قوانين الطبيعة إلى التحدي البشري، من الأشياء إلى الإرادة، من التقليد إلى الإبداع، من الوجود إلى القيم، ومن الله إلى الإنسان. لم يدع الرسول أحدًا عن طريق خوارق الأفعال، وقلب الأعيان. وما ظهرت عليه من كرامات وخوارق إنما ظهرت أثناء أحواله دون أن يتحدى بها. ويفضل ابن رشد الإعجاز لأنه يقوم على أصلين: الأول وجود الأنبياء والرسل معلوم بنفسه، وهم الذين يصنعون الشرائع للناس بوجه من الله لا بتعلم إنساني، ولا ينكر متواتر، فالتواتر مصدر العلم. واتفقت الفلاسفة وجميع الناس باستثناء الدهرية على وجود أنبياء ورسل يوحي إليهم، يفهمون الناس العلم والعمل وبها تتم سعادتهم، وينهون عن الاعتقادات الفاسدة والأفعال القبيحة. والثاني أن كل من قام بهذه الأفعال فهو نبي، وهو ما تقره الفطرة الإنسانية. فكما أن فعل الإبراء من الطيب كذلك وضع الشرائع بوحي من الله إلى النبي. وكلا الأصلين منصوص عليهما في الكتاب.

ويمكن الرد على حجج ابن رشد متكلمًا من متكلم آخر مثل اختلاف الدلالة بين المعجزات عند باقي الرسل والإعجاز عند الرسول، الأولى خارجية والثانية داخلية. كما أن السير على الماء لا يجعل السائر طبيبًا ولا حتى عن طريق الأولى. والسير على الماء والإبراء كلاهما بإذن الله إذا كان المتكلم أشعريًّا. لذلك يظل السؤال قائمًا: ما وجه دلالة الإعجاز على وجود الرسالة والمرسل له رسولًا وهو نفس الاعتراض الموجه ضد المعجزة ودلالتها على صدق الرسالة.٧٣

ويبدو أن ابن رشد ما زال يعزو للرسل بعض خوارق الأفعال والكرامات دون أن يجعله متحديًا بها لإثبات رسالته ومظاهر الشرع، بلغة ابن رشد، ليعلن نهاية المعجزات بالمعنى القديم، خرق قوانين الطبيعة، ليس فقط عند الرسل السابقين بل أيضًا عند خاتم الأنبياء. فدلالة القرآن على نبوة الرسول ليست كدلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى، ولا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على نبوة عيسى. تلك خوارق لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء. وهي مقنعة عند الجمهور. ولا تدل دلالة وضعية إذا انفردت لأنها ليست صفة داخلة في النبي بل خارجة عنه. أما دلالة إعجاز القرآن فهي دلالة داخلية مثل دلالة الإبراء على الطب عن طريق البرهان، وليس السير على الماء إلا عن طريق الإقناع. وعند الجمهور، من قدر المشي على الماء، وهو ليس من فعل البشر، أقدر على الإبراء الذي هو من فعل البشر. ومتى وجد الرسول، وقام بأفعال خارقة لا توجد صفة إلا منهم كان المعجز دليلًا على صدقه. وهو المعجز البراني الذي لا يناسب صفة النبي. وهو طريق لتصديق الجمهور فقط. أما المعجز الجواني، وهو الإعجاز فهو طريق تصديق العلماء لأنه الإعجاز البرهاني. وهو المعجز المناسب الأصلي والذي قد يقتنع به الجمهور أيضًا. هنا يجعل ابن رشد الجمهور لأول مرة يشارك ميزة العلماء.

لا يدل الخارق مثل انفلاق البحر دلالة ضرورية على النبوة. إنما يدل إذا اقترنت دلالته بالإعجاز. فقد تمت المعجزة على يد الأولياء دون الاعجاز. الإعجاز معجزة في العلم والعمل، وهو الدلالة القطعية على صدق النبوة وليس المعجز في الطبيعة. ليس الإعجاز في نفس الكتاب بل هو مختلف نوعيًّا عن باقي الأفعال. الإعجاز في التحدي البشري أي في الذات وليس في الموضوع، في استنهاض القدرة الإنسانية وليس في كمال القدرة الإلهية. ويبدو أن ابن رشد ما زال يصف الكتاب بأنه معجزة بالمعنى القديم وليس بالمعنى الجديد. فالمعنيان لديه ما زالا متداخلين دون إحساس بالفرق بين مراحل التاريخ بين تطور النبوة الذي حمل المعنى الأول واختتامها الذي حمل المعنى الثاني، خاصة وأنه من القائلين بالسببية واطراد قوانين الطبيعة.٧٤

لذلك لا يكون الإعجاز بالصرف أي منع الناس أن يأتوا بمثله لأن الصرف يمنع أن يكون الطرفان على نفس المستوى. طرف حر والآخر مُكبل، طرف طليق والآخر مقيد، طرف قادر والثاني عاجز منذ البداية. ففيم التحدي؟ وهل يجوز لمتسابقين أن يبدأ السباق، والأول طليق والثاني مقيد؟ لو حدث تكون النتيجة معروفة سلفًا ويثبت الإعجاز قدرة الله، وهي ليست في حاجة إلى اثبات وعجز الإنسان وهو موضوع البرهان. القول بالصرف يقضي على التحدي البشري إذ إن من شرط الإعجاز توفر الدواعي والقدرات على التحدي والإتيان بالمثل لا صرفها.

ولا يكون التحدي بصدق إنذار الأنبياء والإخبار عن المستقبل وما يتضمنه الكتاب من علم بالغيوب فذاك أقرب إلى الكهانة والعرافة والأزلام والأنصاب وضرب الأقداح وسائر فنون التنبؤ بالمستقبل عند العرب. والمعنى القديم للنبوة وهو الإخبار بالمستقبل. إنما يأخذ هذا الإخبار معنى جديدًا وهو التحقق من صدق النبوة في التاريخ أي في الواقع العريض الممتد من الحاضر إلى المستقبل. كما أن قصص الأنبياء يثبت تحقق النبوة أيضًا في التاريخ في الماضي. والقوانين واحدة، لا فرق بين التاريخ والطبيعة والمجتمع.

إنما التحدي في الإعجاز الأدبي عند قوم الفصاحة والبلاغة والبيان تراثهم القومي كما تمثل في الخطابة والشعر مهما اختلفت فصاحة العرب بين الأقل والأكثر. الفصاحة ليست من جنس الأفعال المعجزة لأنها قدرة بشرية على الإبداع. ولا حدود للإبداع البشري، ولا يفصل ابن رشد نواحي الإعجاز الأدبي كما فعل عبد القاهر في «النظم» و«التخييل» وسيد قطب في «التصوير». ولم يتناول الحروف الأولى في أوائل السور. يبدو أنه كان طبيبًا أكثر منه أديبًا بالرغم من تلخيصه وجوامعه على الخطابة والشعر. ويكتفي فقط بالحديث عن «النظم» الذي لا يأتي بفكر وروية كما هو الحال في نظم البلغاء المتكلمين بلسان العرب عن صناعة أم طبيعة.

ويفصل ابن رشد الإعجاز التشريعي باعتباره فقيهًا، فالشريعة الإسلامية أكمل الشرائع وخاتمتها بفضل التعليم الموضوع للمسلمين في معرفة الله والمعاد مقارنة بالشرائع اليهودية والمسيحية مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية كما يقول الشاطبي ولا تقوم على العقائد الإيمانية بل على تحليل علل السلوك الإنساني في الأوضاع الاجتماعية. يعزو ابن رشد إلى الأنبياء وضع الشرائع. وكما أن الإبراء قد يكون من الساحر أو الولي وليس بالضرورة من النبي فكذلك الشرائع قد تكون من وضع الحكماء وليس بالضرورة من تشريع الأنبياء. والحقيقة أن الشرائع تعبير عن مقاصد الوحي، وما الرسول إلا مبلغ عنها.

ويحتاج هذا الدليل إلى مزيد من الأدلة على أن كل من يضع الشرائع للناس بوحي من الله فهو نبي، وهي لا تتعلم إلا بوحي. يحاول ابن رشد إيجاد الادلة على ذلك بعدة طرق. الأولى أن معرفة وضع الشرائع لا تحدث إلا بعد المعرفة بالله وبالسعادة الإنسانية والوسائل الإرادية للحصول إليها هي الخيرات والحسنات ومعوقاتها من شرور وسيئات، وهذه المعرفة تستدعى معرفة النفس وجوهرها ومعادها وسعادتها وشقائها، وذلك كله لا يتبين إلا بوحي أو تكون معرفته بالوحي أفضل، وأن معرفة الله على الوجه الأكمل تتم بعد معرفة الموجودات. وهذا حكم لا يعرف بتعلم ولا صناعة ولا حكمة بل يوجد ذلك كله في الكتاب مما يدل على أنه وحي من عند الله. كان الرسول أميًّا، نشأ في أمة أمية عامية بدوية لم تمارس العلوم ولا تداولت الفحص في الموجودات كما جرت عادة اليونانيين وغيرهم من الأمم التي كملت الحكمة فيهم في الاحقاب الطويلة. وقد أثنى الله على الرسول في الكتاب لهذه الصفة فيه.٧٥ وهي الصورة الشائعة للعرب قبل الإسلام التي راحت في كتب التفريط والدفاع وفي الأقوال الخطابية، والعرب قبل الإسلام كانوا أصحاب حضارة، وأهل بيان وفصاحة، وحضارة وعمران.

ولإثبات الوحي يقلل ابن رشد من شأن المعرفة الإنسانية ويجعل كل المعارف الإنسانية الأخلاقية والتشريعية من الوحي وكأن الإنسان عاجز عن أن يعرف بنفسه الصالح العام ووضع ذلك في الشرائع، ومعرفة جوهر النفس ومعادها. وإلا فماذا تكون دلالة «حي بن يقظان»؟ ولماذا لا يعرف ذلك كله بالعقل كما عرف اليونان والفرس والهند والصين الذين عظمهم المسلمون من أجل ذلك؟ وإذا كانت كل هذه المعارف في الكتاب العزيز فلماذا اختلف الناس فيها وتطايرت الرقاب في معرفتها وتأويلها. يبدو أن ابن رشد بلغة المعاصرين من أنصار أن «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية».

ميزة هذا الدليل أنه عملي إنساني أخلاقي وليس دليلًا صوريًّا عقليًّا جدليًّا مجردًا. وله عيوب كثيرة. فهو دليل احتمالي، لو كانت الشرائع من عند الله. وماذا يحدث لو لم تكن، وكان الاحتمال غير واقع، هل يبطل الدليل؟

والقول بفضل الكتاب على باقي الكتب المنزلة في الشرائع المفيدة علميًّا وعمليًّا يُرضي كل صاحب شريعة يدعي أن شريعته أفضل الشرائع كما هو الحال عند اليهودي والمسيحي والمسلم على حد سواء، بل والشرائع الفارسية والهندية والصينية وشريعة ما بين النهرين، فهوا دعاء كل أمة وكل كتاب. وإذا كانت التوراة والانجيل محرفين فلبهما واضح. القياس كله قياس أولى، وهو قياس تفضيلي أخلاقي عملي مثل الرهان وليس قياسًا منطقيًّا صوريًّا يقوم على الحدود، وينتهي إلى إثبات أفضلية شريعة على أخرى وليس فقط إلى أنها وحي من عند الله. دليل الأولى هنا أقرب إلى الإيمان منه إلى دليل العقل، قفز على المنطق بالوجدان.

ويقوم منهج ابن رشد على الارتداد، لا تعرف الشرائع إلا بعد معرفة الله والسعادة والشقاء ومعرفة النفس مع أن معرفة الله استقرائية بالنظر في الموجودات، ومعرفة الشرائع استقرائية لمصالح الناس. وهو استدلال عملي وليس نظريا مثل استدلال المتكلمين يقوم على الفقه ومصالح الناس وليس على المعرفة الخالصة.

وفي النهاية لا يختلف ابن رشد كثيرًا عن الأشعرية في الجدل، ومحاولة إيجاد أفضل البراهين لإثبات النبوة وصدق النبي، بنفس الروح وإن تختلف الصياغة وطرق البرهان.

(ﺟ) القضاء والقدر

وفي «معرفة أفعال الله» تظهر مبادئ العدل مختلطة بالطبيعيات والسمعيات، تتضمن خمس موضوعات: في اثبات خلق العالم، بعث الرسل، في القضاء والقدر، في الجور والعدل، وفي المعاد.٧٦

في القضاء والقدر افترق المسلمون فرقتين، المجبرة والمعتزلة ثم توسطت الأشعرية بينهما بقولها إن للإنسان كسبا مخلوقًا لله. وهو تناقض يؤدي إلى الجبر. فلا وسط إلا وهو أقرب إلى الطرفين. الوسط لا وجود له أصلًا فليس الاكتساب إلا الفرق الذي يجده الإنسان بين حركة الارتعاش وحركة يده باختياره. والحركتان ليستا من قبله لأنه لا يملك القدرة على الامتناع عنهما. والاختلاف لفظي لا يوجب حكما في الذوات. قال المجبرة إن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور عليها. وترى المعتزلة أن للإنسان اكتسابا هو سبب المعصية والحسنة وما يترتب عليها من ثواب وعقاب. وقال الأشعرية بالتوسط بين القولين أنَّ للإنسان كسبًا، وأن المكتسب به والكسب مخلوقان لله. وهو تناقض لأنه إذا كان الاكتساب والكسب مخلوقين لله فالإنسان مجبور على اكتسابه. فالأشعرية ليست فرقة ثالثة بل هي أقرب إلى الفرقة الأولى، الجبرية، والمعتزلة هم أصحاب الكسب يستعمل ابن رشد لفظ اكتساب وهو لفظ أشعري لشرح موقف المعتزلة ولا يستعمل التعبير الاعتزالي وهو خلق الأفعال. وفي نفس الوقت يرفض الموقف الأشعري لأنه لا وجود له أصلًا. بل إن العنوان الذي اختاره ابن رشد أشعري «في القضاء والقدر»، يوحي بالشك بين الرفض والقبول وليس العنوان الاعتزالي. لقد ضحت الأشعرية بالإنسان في سبيل الله في الظاهر وفي سبيل السلطان في الحقيقة. فقد كان الأشاعرة فقهاء السلطة. لذلك يسمون «الأموية». فقد كانت النتيجة السياسية للأشعرية أولوية إرادة السلطان على القانون، يفعل ما يشاء ولا معقب على حكمه.

ثم تطور المذهب الأشعري. جوز قدماء الأشاعرة تكليف مالا يطاق هربًا من الأصل الذي نفته المعتزلة وهو كونه قبيحًا في العقل. ثم خالفهم المتأخرون منهم مثل أبي المعالي في «النظامية»؛ إذ جعل للإنسان اكتسابًا لأفعاله واستطاعة على الفعل بناء على امتناع تكليف مالا يطاق لكن من غير الجهة التي منعته المعتزلة. وتوسط أبي المعالي بين المعتزلة والأشاعرة مثل توسط الماتريدي.

والفريقان اللذان يقولان بالطرفين النقيضين، الجبرية والأشعرية من ناحية والمعتزلة من ناحية أخرى مخطئان. ومع ذلك فابن رشد مع الأشعرية في القول بالتوسط بالرغم من نقده للمقدمات النظرية لها. فهو أشعري دون أشعرية. والأسس النظرية الجديدة لا تختلف كثيرًا عن الأشعرية إلا باستعمال ألفاظ مثل القوى والأسباب والعوائق مما يوحي بالاعتزال في الظاهر وهي أشعرية في الحقيقة لأن الله هو خالقها ومزيلها.

والسؤال الآن: هل تتعارض الأدلة العقلية؟ إذا كان الإنسان موجدًا لأفعاله وخالقًا لها خرجت هذه الأفعال عن مشيئة الله واختياره فيكون هناك خالق غير الله. وإن لم يكن مكتسبا لأفعاله كان مجبورًا عليها إذ لا وسط بين الجبر والاكتساب، ويكون تكليفًا لما لا يطاق. ولا يعود فرق بين الإنسان والجماد في التكليف لأن الجماد ليس له استطاعة، والاستطاعة شرط التكليف كالعقل سواء بسواء. لذلك أقر أبو المعالي في «النظامية» بأن للإنسان اكتسابًا لأفعاله واستطاعة على الفعل بناء على امتناع تكليف مالا يطاق على غير الجهة التي قصدتها المعتزلة. في حين جوز قدماء الأشعرية تكليف مالا يطاق هربًا من الأصل الذي نفته المعتزلة، وهو كونه قبيحًا في العقل. وخالفهم المتأخرون منهم. وإن لم يكن للإنسان اكتساب لما هب واستعد لما يتوقع من الشرور، ولما جلب الخيرات، فتبطل الصنائع مثل الفلاحة، وما يقصد به دفع المضار مثل الحرب والملاحة والطب، وهذا كله مناقض للعقل.٧٧

والقضاء والقدر من المسائل الشرعية. نشأت من تعارض دلائل السمع وحجج العقول. ففي الكتاب هناك آيات تدل على أن كل شيء بقدر، وأن الإنسان مجبور على أفعاله. وهناك آيات أخرى تدل على أن للإنسان اكتسابًا بأفعاله وأنه ليس مجبورًا عليها. وقد يقع التعارض في الآية الواحدة. ويوجد نفس التعارض في الأحاديث. الإيمان والكفر أحيانًا مخلوقان لله، والعبد مجبور عليهما، وأحيانًا يكونان من صنع الإنسان وفعله.

ومن ثَمَّ يكون السؤال: كيف يمكن حل هذا التعارض في السمع والعقل؟ الظاهر من مقصد الشرع ليس التفريق بين الاعتقادين بل الجمع بينهما على التوسط الذي هو حق في هذه المسألة. فقد خلق الله للإنسان قوى تقدر أن تكسب أضدادا بموافاة الأسباب التي سخرها الله له من الخارج مع زوال العوائق عنها. وتتم الأفعال المنسوبة إليه بالأمرين معا، الإرادة الإنسانية وموافقة الأفعال التي من خارج لها والتي تسمى قدر الله. هذه الأسباب التي سخرها الله في الخارج ليست فقط متممة للأفعال الإنسانية أو عائقة عليها بل هي السبب في إرادة أحد المتقابلين. والإرادة نسق يحدث للإنسان عن تخيل أو تصديق ليس من اختيار. بل يعرض له عن الأمور من الخارج. فإرادته محفوظة بأمور في الخارج ومربوطة بها.٧٨

ولما كانت الأسباب في العالم الخارجي تجري على نظام محدود بحسب ما قدرها الله عليه، وكانت ارادة الإنسان وأفعاله لا تتم إلا بموافقة الأسباب في العالم الخارجي فإن أفعاله تتم على هذا النظام المحدد في أوقات محددة وبمقدار محدد لأنها المسببة عن تلك الأسباب في الخارج. فهي مقدرة طبقًا لضرورة محددة مقدرة. ولا يمكن إنكار هذا الارتباط بين أفعال الإنسان والأسباب الخارجية بل بينها وبين الأسباب التي خلقها الله داخل الأبدان. هذا النظام المحدود في الأسباب الخارجية والداخلية هو ما يُسمى بالقضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده. وهو اللوح المحفوظ، وعلم الله بها وبما يلزم عنها هو العلة في وجودها، لا يحيط بها إلا هو. وهو العالم بالغيب. ومعرفة الأسباب هو العلم بالغيب لأن الغيب معرفة الوجود واللاوجود في المستقبل. الغيب إذن ليس جهلا ولا سحرا ولا خرافة بل هو علم بالأسباب. والعالم يسير بالعلم بالأسباب وليس بالحيلة أو الإرادة أي الاهواء والقوى الغاشمة.

تتداخل الإرادة الإلهية مع الضرورة الطبيعية حتى لا يصبح للإنسان اختيار في أفعاله. فالله هو الذي سخر الأسباب في العالم الخارجي. بل إن الإرادة كشوق أو دافع أو تمثيل أو تصديق تعرض من الأمور في العالم الخارجي الإقدام والإحجام، المحبة والكراهية. كل ذلك مرهون بالعالم الخارجي، وليس بالعالم الداخلي، بالضرورة وليس بالحرية. لا يوجد تعارض إذن بين الموقفين، الجبر والكسب لأن الواقع متشابك يجمع بين الداخل والخارج، بين حرية الداخل وضرورة الخارج. ويتم الفعل بمجموع الداخل والخارج، الحرية والضرورة. قد تكون الضرورة الداخلية والضرورة الخارجية سببًا لإظهار حرية الفعل والثورة ضد الجبلة والمحددات الداخلية ومقاومة العوائق الخارجية. فالضرورة مناسبة لإظهار الحرية وليست نافيه لها. الحرية الداخلية دون ضرورة مجرد هوائية ذاتية، فارغة بلا مضمون، حركات عشوائية لا هدف منها ولا غاية، حرية عامة لا تتحقق في موقف، ولا تحرك تاريخًا. والضرورة الخارجية وحدها وضع الجماد بما في ذلك الشمس والقمر والجبال والسماء والأرض. بل إن هذه الضرورة أيضًا محددة بالخلق. البداية والنهاية ضرورة طارئة. كانت بعد أن لم تكن، ولا تكون بعد أن كانت.

إن ترتيب الأسباب ونظامها هو الذي يقتضي وجود الشيء أو عدمه في وقت ما. فالعلم بالأسباب هو علم بالوجود أو العدم سواء في وقت ما أو على الإطلاق. وهذا هو معنى «مفاتيح الغيب». وعلى هذا النحو يكون للإنسان اكتساب بقضاء وقدر سابقين. وهذا هو السبب في الجمع بينهما في عديد من الآيات والأحاديث التي يظن بها التعارض. فإذا خصصت عمومياتها على هذا النحو انتفى التعارض العقلي، وانحلت الشكوك حول كون الأشياء الموجودة عن الإرادة الإنسانية تتم بالأمرين معا، الإرادة الداخلية والأسباب الخارجية.٧٩

وإذا كان السؤال: كيف توجد أسباب فاعلة لمسببات مفعولة ولا فاعل إلا الله؟ يجيب ابن رشد بأن حكيهما صحيح لسببين. الأول، يفهم من قول لا فاعل إلا الله أحد أمرين! إما أن لا فاعل إلا الله وأن ما سواه من الأسباب التي سخرها لا تسمى فاعلًا إلا مجازًا. وجودها به هو الذي صيرها موجودة وأسبابًا، يحفظ وجودها في كونها فاعلة، ويحفظ مفعولاتها بعد فعلها، ويخترع جواهرها عند اقتران الأسباب بها، ويحفظها في نفسها. ولولا هذا الحفظ لما وجدت في زمان محدد. يقول أبو حامد إن من يشرك سببًا من الأسباب مع الله في اسم الفاعل مثل من يشرك في فعل الكتابة القلم مع الكاتب. الإنسان كاتب، والقلم كاتب، الكتابة تقال باشتراك الاسم، معنيان لا يشتركان إلا في اللفظ مع أنهما متمايزان. ويرى ابن رشد أن هذا المثال تسامح. ويكون أفضل لو كان الكاتب هو المخترع لجوهر القلم والحافظ له والحافظ للكتابة المخترع لها عند اقتران القلم بها. فالله مخترع لجواهر جميع الأشياء التي تقترن بها أسبابها التي جرت العادة أن يقال إنها أسباب لها.

إذن «لا فاعل إلا الله» قول يشهد له الحس والعقل والشرع أي الواقع والعقل والوحي. تتولد أشياء تبعا لنظام جار في الأشياء طبقًا لأمرين. الأول لما ركب الله فيها من الطبائع والنفوس والثاني من قبل ما أحاط بها من موجودات في العالم الخارجي. مثال ذلك الأجرام السماوية، والليل والنهار، والسمت والقمر وسائر النجوم، كلها مسخرات طبقًا لنظام جعله الله في حركاتها فحفظها حتى لو توهم ارتفاع واحد منها أو كان في غير موضعه أو على غير قدره أو سرعته التي جعلها الله فيه لبطلت الموجودات كلها بحسب ما جعل الله في طباعها. وذلك ظاهر في الشمس والقمر وتأثيرهما، والمياه والرياح والأمطار والبحار، وما يظهر في حياة النبات والحيوان. هذا ما يشهد به الحس. ولولا القوى التي جعلها الله في أجسام البشر من التغذي والإحساس لبطلت الأجسام كما يعرِّف بذلك جالينوس وسائر الحكماء.٨٠ ولولا القوى التي جعلها الله في أجسام الحيوان مدبرة لما أمكن أن تبقى هذه الأجسام ساعة واحدة بعد إيجادها. ولولا القوى التي في أجسام النبات والحيوان والسارية في العالم في حركات الأجرام السماوية لما أمكن أن تبقى أصلًا طرفة عين. وقد نبهت العديد من الآيات على ذلك. ولو لم يكن لها تأثير لما كان لوجودها حكمة امتن الله بها علينا، ولا جعلت من النعم التي يشكر عليها.٨١
يكاد ابن رشد يسلم بفكرة الطبائع عند متكلمي المعتزلة خاصة أصحاب الطبائع دون أن يشير إليهم. ولكنه ما زال أشعريًّا غزاليًّا يجمع بينهما وبين قوانين الطبيعة بحيث لا يبدو الفرق بين الله والطبيعة، بين الإلهيات والطبيعيات كما هو الحال في وحدة الوجود عند الصوفية.٨٢ بل إنه إلى الغزالي أقرب. فالإنسان ليس مجرد قلم في يد الكاتب وهو الله كما يقول أبو حامد لأن الإنسان ليس مجرد آلة. ليس للقلم فعل ذاتي أو إرادة أو علم أو اعتراض أو تساؤل. بل يبدو ابن رشد أكثر غزالية من الغزالي؛ لأن الله هو مخترع القلم والحافظ له والحافظ للكتابة والمخترع لها عند اقتران القلم حتى إنه لم يعد للإنسان شيء، لا علم ولا قلم ولا كتابة. وهو رأي أبي حامد والجمهور والسلطان وأجهزة الإعلام والرأي العام في عصرنا.
والثاني، من الموجودات جواهر وأعيان ومنها ما هو أعراض. الجواهر والأعيان من اختراع الله. وما يقترن بها من الأسباب يؤثر في الأعراض لا في الجواهر، المني من الرجل، وخلق الجنين من الله. البذرة في الأرض من الفلاح والزرع من الله. فعلى هذا النحو، لا خالق إلا الله، والمخلوقات هي الجواهر. وقد أشار الكتاب إلى ذلك. وغالط فيه الكافر إبراهيم أن مجد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها إبطال للحكمة والعلم. فالعلم معرفة الأشياء بأسبابها والحكمة معرفة الأسباب الغائية. وإنكار الأسباب جملة غريبة على طباع الناس، وإنكارها في الشاهد لا يثبت فاعلًا في الغائب طبقًا لقياس الغائب على الشاهد. ومن ثَمَّ تستحيل معرفة الله بعد إنكار أن لكل فعل فاعل. فلا يفهم من أنه لا فاعل إلا الله نفي وجود الفاعل في الشاهد، ويستدل على وجوده في الغائب. وبعد معرفة الغائب بذاته تبين أنه لا يوجد فاعل إلا بإذنه وعن مشيئته.٨٣ وينتهي ابن رشد إلى أنه لا تعارض إذن في السمع ولا في العقل. اسم الخالق أخص بالله من اسم الفاعل لأن الخالق بمعنى مخترع الجواهر لا يشاركه فيه المخلوق.
وأخيرًا يميز ابن رشد بين الخالق وهو الله، والفاعل وهو الإنسان، الخالق للجواهر والفاعل لأعراض. وهذا هو رأي الطبائعيين أن الجواهر تؤثر في الاعراض من خلال الأسباب. ومع ذلك يظل السؤال: ما هي أوجه الفرق بين الجواهر والاعراض؟ أحيانًا يكون الجوهر عرضًا والعرض جوهرًا. اللون عرض للشعاع، والشعاع عرض للشمس. وهل يمكن بمعرفة السبب بين الجوهر والعرض إيجاد العرض للجوهر ما دام السبب مقترنًا بينهما ودون الوقوع في حتمية المركز والمحيط أو الأعلى والأدنى أو الشرف والأخس؟ ولماذا الوقوف في منتصف الطريق؟ هي خطوة على أي حال.٨٤ وبقت خطوة أخرى.٨٥ ليست القضية هي الخلق بل التأثير في مجرى الأحداث. ليست إيجاد الأشياء من عدم بل إعادة تشكيلها في نظام أقرب إلى الطبيعة. الإنسان بفعله مساعد للطبيعة. المجتمع الطبقي يصبح لا طبقيًّا، والأرض الفاصلة تصبح خضراء، والجسم العليل يصبح صحيحًا. ومع ذلك لم ير بعض الحكماء غضاضة في القول بالتولد الذاتي في خلق الجواهر، نسبة معينة من الحرارة مع نسبة معينة من الرطوبة تخلق الخلية الحية كما هو الحال عند ابن طفيل استاذ ابن رشد وماذا عن الخلق الغنى، هل خلق عرض أم خلق جوهر؟ وهل الفنان فاعل أم خالق؟ ما زال ابن رشد أشعريًّا لأن الأسباب تفعل بإذن الله وليس لأنها أسباب خلقها الله وأودعها في الطبيعة.

الله لا يخلق الأفعال بل الأشياء. أما الأفعال فتصدر عن الإرادات الإنسانية والقوى الطبيعية في الكون المخلوق. الإنسان صاحب أفعاله بمعنى مسئوليته عنها وليس خالقها بمعنى منشؤها كأشياء في الكون. الخلق هنا لفظ متشابه بمعنى الإيجاد لله وبمعنى المسئولية للإنسان. الوجود لله والفعل للإنسان، ولا تناقض بين الاثنين.

والحقيقة أن العقل لا يتناقض بل التناقض في الأهواء والمصالح والمواقف النفسية والاجتماعية والسياسية. إنما يعبر ذا التعارض الفعلي عن مواقف مغتربة في العالم وكأن حرية الإنسان تنال من حرية غيره. ليست إرادة الإنسان وإرادة الله على التقابل أو على النقيض بمنطق «أما … أو». أن المقابل للحرية الإنسانية ليس الله بل الموقف الاجتماعي الذي تمارس فيه الحرية والضرورة الطبيعية التي تشق الحرية طريقها نمها. كما أن المسائل النظرية لا اجماع فيها مثل «لا خالق إلا الله». الإجماع فقط في المسائل العملية، فيما تعم به البلوى، في المصالح العامة. ولو كان هناك تعارض في حجج العقول لأدى ذلك إلى النسبية والشك. العقول واحدة، والبداهة واحدة. إنما تتباين العقول نظرًا لارتباطها بالأهواء البشرية والمواقف النفسية والاجتماعية.٨٦
وواضح أن ابن رشد يدرس علم العقائد دراسة شرعية لمعرفة حكم الشرع فيها تعميمًا لموضوع الإيمان والعمل الذي سماه الأشاعرة الأسماء الشرعية والإمامة باعتبارها جزءًا من الفقه، مرتبطين بالمصالح العامة وبالفروع وليس بالأصول.٨٧ ولا يدخل ابن رشد في اعتباره اختلاف المفسرين والصراع على السلطة. ويجعل التعارض موضوعيًّا في النص وليس ذاتيًّا في القراءة. فالاستعمال ليس تعارضًا موضوعيًّا بل صراعًا ذاتيًّا بين إرادات ومواقف متباينة وكأن المسئول هو الكتاب والعقل وليس الواقع السياسي في استغلال الوحي والعقل وتأييدًا للسلطة واستئصالًا للمعارضة هل هناك تعارض في النصوص أم إن كلها صحيحة تبعًا للمواقف وإيجاد التوازن في الشعور بين حرية الإرادة والمواقف الحتمية. الفعل تقابل مسارين، الحرية الإنسانية والضرورة الطبيعية. لو كان المجتمع يقول بالقدر، كما هو الحال في مجتمعاتنا اليوم، لركز المفسر للنصوص على خلق الأفعال. ولو كان يقول بخلق الأفعال لذكرّ المفسر المجتمع بقوانين الطبيعة التي لا يمكن خرقها وتغييرها أو استبدالها. هناك طبيعة مستقلة عن قدرة الإنسان ومقاومة له مثل المجتمعات الغربية. الله والطبيعة شيء واحد كما هو واضح في بنية الحكمة في الطبيعيات والإلهيات.٨٨ والتعارض في النصوص ليس فقط في موضوع خلق الأفعال بل في عديد من الموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل والإيمانية من أجل اختيار أفضلها وأكثرها فاعلية في كل عصر.
ويوجد ابن رشد بين المعرفة والوجود في علم الغيب. يوجد الوجود بدرجة العلم به. والوجود على الإطلاق يتضمن العلم على الإطلاق. في حين أن الوجود الخاص يتضمن علمًا خاصًّا. والوجود في العالم دون علم بالأسباب جهل وطغيان، إرادة بلا علم. الغيب إذن ليس جهلًا أو مقدسًا «تابو»، بل هو العلم بالأسباب.٨٩
ومع ذلك يمتاز موقف ابن رشد بالانتقال من إرادة الله إلى علمه مثل الفلاسفة في الخلق بعيدًا عن الأشعرية وأولوية لإرادة على العلم كما هو الحال عند السلطان. الله هو الأسباب والطبيعة وليس إرادة هوائية مزاجية مشخصة من أجل التوجه نحو الطبيعة. الله والضرورة والطبيعة شيء واحد. وتحدث الافعال باجتماع الحرية الداخلية والطبيعة الخارجية بين الإنسان والتاريخ.٩٠ والإنسان ظاهرة طبيعية يخضع لقوانين الطبيعة بما في ذلك حياة الإرادة والشعور. ومن ثَمَّ تكمن الحرية في الضرورة. ومن ثَمَّ يمكن تفسير القضاء والقدر تفسيرًا علميًّا طبيعيًّا.

(د) الجور والعدل

ويعني ابن رشد بالجور والعدل الحسن والقبح شرعيين أم عقليين. ويبدأ بالجور قبل العدل مع أن التعبير الاعتزالي العدل والجور. ويأخذ ابن رشد هنا صراحة موقف المعتزلة ضد الأشعرية على عكس القضاء والقدر الذي لم يأخذ فيه بخلق الأفعال، وقال نظرية معدلة في الكسب تقرنه بالسببية.

يبدأ ابن رشد بنقد مقالة الأشعرية، وهو رأي غريب جدًّا في العقل والشرع بعد أن صرحت بما لم يصرح به الشرع. بل إن الشرع صرح بضده. ولا يقوم على قياس الغائب على الشاهد. بل إن الغائب هنا بخلاف الشاهد. فالعدل والجور ما تقره الشريعة. العدل ما عدله الشرع، والجور ما جوره الشرع. وما يخرج عن حجر الشرع فليس بعدل ولا جور. لا يوجد شيء في نفسه عدل أو في نفسه جور. وهذا في غاية الشناعة. فالعدل معروف بنفسه أنه خير، والجور معروف بنفسه أنه شر. والشرك بالله في نفسه جور، والتوحيد في نفسه عدل. وقد وصف الله نفسه بالقسط، ونفي عنه الظلم. ولا يمكن للشرع أن يقلب الجور عدلًا أو العدل جورًا.

وفي الجور ظن المتكلمون أن الافعال كلها تكون في حقه لا عدلا ولا جورًا وأنه ليس يتصف بالعدل أصلًا. وهذا إبطال للعقل ولظاهر الشريعة. وهو في الحقيقة موقف الأشاعرة وحده الذين ينكرون الحسن والقبح العقليين في العدل كما ينكرون قانون الاستحقاق في المعاد. بل أن الأشعرية جوزت أن يفصل الله ما لا يرضاه أو يأمر بما لا يريده. وهو كفر صراح. وهو اعتقاد خاطئ. فالناس لم يخلقوا للضلال فإذا كان ظاهر بعض الآيات أن الله يضل العباد وبالتالي يفعل الجور فإنها لا يجب أن تحمل على ظاهرها لوجود آيات أخرى معارضة لها ينفي الله عن نفسه الظلم ولا يرضى لعبادة الكفر ولا يضلهم. ويمكن الجمع بين الآيات المتعارضة بأن المشيئة السابقة اقتضيت أن يكون في أجناس الموجودات ضالين أي مهيئين للضلال بطبائعهم ومسوقين إليه بالأسباب الداخلية والخارجية. ولو شاء الله أن يخلق خلقًا معرضين للضلال من جهة طباعهم أي بأسباب داخلية وخارجية أو لكليهما معا. فالإضلال عن طريق الطبائع الشريرة مثل الأبدان الرديئة التي تكون الأغذية ضارة بها. وقد اقتضت الحكمة الإلهية خلق صنف من المخلوقات يكونون بطباعهم مهيئين للضلال وهو ما يبدو جورًا ولكنه في الحقيقة ليس كذلك لأن الطبيعة التي منها خلق الإنسان اقتضت أن يكون البعض أقل شرًّا وأكثر خيرًا والآخرون أكثر شرًّا وأقل خيرًا لأسباب داخلية وخارجية تسمح بإمكانية التحرك من الأقل خير إلى الأكثر، ومن الأكثر شرًّا إلى الأقل. فالشر ضروري لفهم الخير والإقدام عليه. والخير ضروري لفهم الشر والابتعاد عنه. لذلك تفهم الملائكة جعل الله آدم في الأرض خليفة خشية من شره؛ لأن الخير أغلب عليه. فإذا نُسب إلى الله الإضلال يكون ذلك في سياق اثبات العدل ونفي الظلم وخلق أسباب الضلال لأن الهداية أكثر. فالطبيعة أمام خيارين: إما عدم خلق الأنواع فيقدم الخير الكثير على الشر الأقل أو خلق الأنواع فيها الخير الأكثر والشر الأقل. وقد اختارت الطبيعة البديل الثاني. فالطبيعة عاقلة خيرة لأنها من خلق الله. الطباع الشريرة ليست حتمية أو نفي المسئولية لأن هناك الأسباب الخارجية واختيار الإنسان لها مع الطبيعة الداخلية. والطبيعة الداخلية مرة بفعل البلوغ والعقل والوعي الذي يتجاوز التربية والنشأة الاجتماعية والتركيب المزاجي والبدني. قانون ابن رشد احتمالي ففي الإنسان الخير فيه أكثر من الشر، والملائكة كلها خيرًا، والشيطان كله شر، ومن ثَمَّ يصبح الإنسان مجال الحرية والحركة والاختيار في حين أن الملاك والشيطان كلاهما مجالان للحتمية.

والحكمة في ورود هذه الآيات المتعارضة في هذا المعنى مما يؤدي إلى التأويل بالرغم من خطورته وخروجه على ظاهر الشرع هو اضطرار تفهيم الجمهور إلى أن الله موصوف بالعدل، وأنه خالق كل شيء، الخير والشر لما أعتقد كثير من الأمم بوجود إلهين، إله للخير وإله للشر. ولما كان الإضلال شرًّا ولا خالق إلا سواه وجبت نسبة الشر إليه. ومع ذلك هو خالق للخير من أجل الخير وللشر من أجل الخير. ومن ثَمَّ يكون خلقه للشر عدلًا مثل خلق النار التي تدفئ وتحرق، ولكن دفأها أكثر من حرقها، وخيرها أكثر من شرها. فعلم الكلام علم بيئي ثقافي اضطر إلى جعل الله خالقًا للخير والشر كرد فعل على وجود أمم تقول بإلهين. علم الكلام جزء من تاريخ الأديان القديم.

وهذا القدر من التأويل ليست معرفة واجبة على كل الناس بل فقط لهؤلاء الذين عرض لهم الشك في هذا المعنى. ولا يشعر كل واحد من الناس بهذه المعارضات. يكفيه ابقاءها على ظاهرها. مهمتها بيان المستحيل من الممكن. والله لا يوصف بالقدرة على المستحيل لأنه عندهم قادر على كل المحلفات فيتصورون في الله نقصًا وعجزًا. يتصور الجمهور أن الله قادر على جعل جميع الموجودات بريئة من الشر. والخواص يفهمون من ذلك معنى آخر وهو أن الله لا يخلق من يقترن بوجود شر، ومن ثَمَّ تكون كل نفس قد أوتيت هداها. يأخذ الكتاب بعين الاعتبار آراء الجمهور أي الثقافة الشعبية الشائعة حتى ولو كانت خاطئة أو سطحية. ويستعملها حتى لا يكذب الجمهور الوحي ثم يعطي للخاصة آيات أخرى على مستواهم. الوحي يرضي كل الأذواق، ويخاطب الناس على قدر عقولهم، العامة والخاصة، المحافظين والمتحررين، الإيمانيين والعقليين، الصوفية والحكماء، المتكلمين والفقهاء، السلفيين والعلمانيين، الرأسماليين والاشتراكيين بلغة العصر. الوحي متعدِّد المستويات، يقوم على نظرية الحقيقتين. وهذا أحد أوجه الإعجاز بالرغم مما في ذلك من خطورة على مستوى الأخلاق، تعصب العامة، وانفعالات الخاصة. ويضطر ابن رشد إلى التسليم بضرورة تفهيم الجمهور الذي أخذ الوحي بعين الاعتبار آراءهم الشعبية.٩١

والموضوع يجمع بين خلق الأفعال والحسن والقبح. الله لا يضل لأن الضلال جور وكأن الحسن والقبح العقليين محددان للإرادة الإلهية. والقول بأن الله يفعل ما يشاء وإنكار العدل والجور في ذاتيهما هو تبرير للسلطان أن يفعل ما يشاء دون الالتزام بقانون أو دستور أو قيم اعتمادًا على القوة. فالعدل والظلم ما يقرره السلطان لا ما يقرره القانون. ويصطدم تحليل ابن رشد بقضية الأخوة الثلاثة التي على أساسها ترك الأشعري الجبائي في مسألة العدل والجور. ولماذا يكون البعض مهيئين للضلال أكثر من الهداية وآخرون مهيئين للهداية أكثر من الضلال؟ ألا تقوم الحكمة الإلهية هنا بتبرير الشر في العالم من أجل اثبات الخير؟ ولماذا يكون المريض هو الضحية لإثبات الصحة، والقتيل هو الضحية لإثبات الحياة؟

ومع ذلك يرفض ابن رشد الواجبات العقلية التي تقول بها المعتزلة فلا يجب على الله شيء كما تقول الأشعرية. الواجبات تقتضي أن يكون الله في حاجة ضرورية أو في حاجة يكون بها تامًّا، والله منزه عن الاحتياج والنقص لأنه كامل وعادل. وعدله ليس كما يتصف به الإنسان وإلا كان نقصًا. بل يتصف بالعدل لأن أفعاله في حقه عدل وجور لا كما يدعي المتكلمون من أن أفعاله في حقه لا عدلًا ولا جورًا. فهذا قضاء على العقل، وإبطال لظاهر الشريعة بإنكارهم العدل في ذاته والجور في ذاته، فابن رشد لا هو مع الأشاعرة ولا هو مع المعتزلة بل هو مع الطبيعة التي تجمع بين الضرورة والحرية.

(ﻫ) المعاد

يترك ابن رشد أحواله ولا يبقى إلا على مبدئه لأنها كلها غيب ولا تعرف إلا قياسًا على الشاهد. ويصعب في العادة تطبيق الغائب على الشاهد. وما يدرك منه في الوحي يختلف من نبي إلى نبي لتفاوتهم في إدراك المعنى واختلاف الشرائع في تمثيل الأحوال التي تكون لأنفس السعداء والأشقياء بعد الموت. من الشرائع من مثلت السعادة والشقاوة بعد الموت في الآخرة بأمور حسية في الدنيا مع اختلاف مستوى التأويل، مادي حسي في الدنيا، وروحي إلهي في الآخرة. وذلك إما لأن الوحي أمر بذلك وإما لأن هذه الطريقة أشد تفهمًا للجمهور، والجمهور إليها أشد تحرُّكًا. فأخبروا بأن الله يعيد النفوس إلى الأجساد كي تنعم فيها بالدهر كله باللذات الحسية مثله في الجنة أو كي تشقى فيها بالأذى ممثلًا في النار.٩٢
وهذا هو الطريق الذي اختارته الشريعة الإسلامية وكما عبر عن ذلك الكتاب في أدلة مشتركة التصديق للجميع؛ إذ ليس بإمكان العقل إدراك هذه الأحوال إلا قياسًا للغائب على الشاهد، والمساوي على المساوي، والأمثل على الأكثر وهو قياس الأولى، وقياس العودة على البدء، والحرارة والرطوبة في البداية والبرد واليبس في العودة، وإخراج الشبيه من الشبيه، والضد من الضد، لا فرق بين العقل والطبيعة، والبرهان والتجربة. تتَّفق الشرائع كلها على حياة النفوس بعد الموت وأحوالها من السعادة والشقاء وتفهيم وجودها للناس وتختلف في طرق التمثيل. وتمثيل الشريعة الإسلامية فيما يبدو وأكمل تمثيلًا وإفهامًا للناس، وأكثر تحريكًا لنفوسهم، والأكثر هم المقصود الأول من الرائع. أما التمثيل الروحاني فأقل تحريكًا لنفوس الجماهير من التمثيل الجسماني، وربما أكثر قبولًا عند العلماء المجادلين، وهم الأقل. التمثيل الجسماني للعامة، والتمثيل الروحاني للخاصة. والحقيقة أن اختلاف الشرائع والأنبياء في تصوير الوحي إنما يرجع إلى مستوى ثقافات الشعوب التي يأتيها الوحي وإلى طبيعة المرحلة التاريخية ودرجتها في مسار التاريخ. فالشعوب ذات الثقافات الأكثر رقيا والتي في مراحل تاريخية متقدمة تدرك الوحي بطريقة أكثر عقلانية وروحية من الشعوب الأقل ثقافة، والتي توجد في مرحلة تاريخية سابقة والإنسانية ما زالت في بداياتها الأولى.٩٣

وتقوم الأدلة مثل أدلة علم الكلام كله قياسًا على الشاهد. والشاهد تزكية النفس في الدنيا والأعداد للمستقبل أي العلة الغائية والقصد نحو الكمال والعمل الصالح وأثره على الفرد والمجتمع والتاريخ. ومن ثَمَّ يكون الخلود إما للنفس وإما للنفس والبدن وإما للعمل والفكر والأثر والتاريخ بعيدًا عن الثنائية التقليدية بين النفس والبدن، والسعادة والشقاء، الأخرويين والدنيويين، في حياة الاخرين وليس فقط في حياة الفرد، في قلوب الناس وفي تاريخ الحضارة. خطورة الثنائية التقليدية التضحية بالسعادة في الدنيا من أجل نيل السعادة في الأخرة؛ إذ يقوم دليل ابن رشد على ثنائية مبدئية بين الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، النفس والبدن، السعادة والشقاء دون الأخلاق الاجتماعية مثل العلم والجهل، التقدم والتخلق، العدل والظلم، الحرب والسلام من أجل تغيير الاوضاع الاجتماعية. وهو أقرب إلى الحجج الإحراجية التي تحاصر الإنسان وتتهمه إذا رفض خلود النفس وتثني عليه إذا أثبته، ومن ثَمَّ يبرز سؤالان: هل هناك قوتان في النفس، نظرية وعملية أم قوة واحدة؟ وهل الأمور النظرية معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، وهو مضمون الإيمان التقليدي، أم هي الأسس النظرية لفهم الإنسان والمجتمع والتاريخ؟

وبالرغم من أن برهان ابن رشد مستمد من العقل والشرع إلا أنه أقرب إلى البراهين الأخلاقية منها إلى البراهين النظرية على عكس أدلة ابن سينا العقلية العلمية باستثناء مقدمتين، الإنسان أشرف ما في الكون، وأنه مخلوق لرسالة وليس عبثًا. وهما أقرب إلى الأفكار الشائعة عما يحدث للإنسان بعد الموت. وهما أقرب إلى العلة الغائية التي تعبر عن الرغبة في البقاء والأمل في الخلود.٩٤
وقد اتفقت جميع الشرائع على وجوده وقامت البراهين عليه إنما الاختلاف في صفة وجوده لا في حقيقته وفي المثالات التي تعطي في الشاهد للجمهور. والاتفاق يقوم على السمع والعقل معًا، الوحي والبرهان. فقد اتفق الجميع على أن للإنسان سعادتين، دنيوية وأخروية على أصول مسلم بها مثل أن للإنسان أشرف من في الكون، وأن كل موجود لم يخلق عبثًا بل لغاية، وأن الإنسان أحرى بذلك. وقد صرح الكتاب بهذا المعنى في عديد من الآيات. فقد خُلق الإنسان من أجل أفعال مقصودة، وأفعال خاصة، وهي أفعال النفس الناطقة. فالنطق أخص ما في الإنسان. ولما كانت النفس الناطقة جزأين، علمي وعملي كان كماله في قوة هذين الجزأين، النظر والعمل، وكانت الأفعال التي يكسب بها الإنسان هاتين القوتين هما الخيرات والحسنات والتي تعوقها الشرور والسيئات. وقد أنذرت الشرائع كلها ببقاء النفس، وقدم العلماء البراهين على ذلك وبعد الموت؛ إذ تتعرى النفوس المطيعة عن الشهوات في حين أن النفوس الخبيثة تعاني من مفارقة، وتشتد حسرتها على ما فاتها من تزكية النفس لأنها لا تكتسب إلا بالبدن. وسميت هاتان الحالتان في الشرائع السعادة الأخيرة والشقاء الأخير. وجاء الوحي بتقرير ذلك، الحث على الفضائل والنهي عن الرذائل، ومقدار سعادة الناس في العلم والعمل أي السعادة المشتركة. معرفة الأمور النظرية هي معرفة الله وملائكته والموجودات الشريفة والسعادة. ومعرفة الأمور العملية هي معرفة الفضائل خاصة الشريفة وهي الشريعة الكاملة إذا ما قيست بالشرائع الأخرى. لذلك كانت خاتمة الشرائع.٩٥

وفي الشرع دليل على بقاء النفس في الكتاب، وهو التشابه بين النوم والموت في تعطيل قوى النفس. فلو كان تعطل فعل النفس في الموت بسبب فسادها لا بتغير آلتها فيكون تعطلها في النوم أيضًا لفسادها. ولو حدث ذلك لما عادت إلى اليقظة. ومن ثَمَّ يكون هذا التعطل لا لأمر في جوهرها وانما لتعطل آلتها. وتعطل الآلة لا يؤدي إلى تعطل النفس. والموت مجرد تعطل للآلة مثل النوم وبرهان مشابه لبرهان ابن سينا. لذلك سمي النوم الموت الاصغر في مقابل النوم الاكبر. ولا يذكر ابن رشد حديث الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا الذي يذكره الصوفية.

ويلجأ ابن رشد إلى تاريخ الاديان المقارن بين اتفاق الشرائع كلها على المعاد. ولا يحاجج المنكرين له مثل الصدوقيين في اليهودية والدهريين في الإسلام. لم يستثمر ابن رشد تاريخ الاديان بما فيه الكفاية بالرغم من إعلانه أن الشريعة الإسلامية آخر الشرائع. ولم يرصد مسار التطور للشريعة حتى الكمال.

وقد اختلف أهل الإسلام في فهم تمثيل المعاد وأحواله إلى ثلاث فرق، ولكنها منها حججه في الشرع. الأولى تشابه السعادة في هذا العالم مع العالم الآخر. إنما الخلاف في الدوام والانقطاع. فهما في الدنيا منقطعان وفي الاخرة دائمان. وهو موقف الحشوية أو المادية. والثانية تباين السعادة والشقاء في هذا العالم عنهما في العالم الآخر، في الأولى جسمانيان، وفي الثانية روحانيان. وكان الدافع لذلك البيان أي التأثير في النفس عن طريق التصوير الفني. والثالثة تشابه السعادة والشقاء في هذا العالم معهما في العالم الآخر. في الجسماني وتباينهما في الروحاني، تشابه في الكم وتباين في الكيف. في الأولى فانيان وفي الثاني باقيان.٩٦
ويبدو أن ابن رشد من أنصار الفرقة الثالثة لأنه يبين وجهاتها وأنها تنبني على أمور لا خلاف عليها بين الناس مثل أن النفس باقية وأنه لا يلحق عند عودتها إلى الجسم محال يلحق بعودة الجسم ذاته فمادة الأجسام التي توجد على التعاقب في أوقات مختلفة واحدة. الإنسان يموت، وينحل جسمه إلى تراب، والتراب إلى نبات يغتذى منه إنسان آخر فيتولد منه إنسان ثالث.٩٧ ولكل إنسان الحق في أن يتبنى النظرة التي يريد بحيث لا يؤدي نظرة إلى ابطال الأصل جملة وهو إنكار الوجود كله وإلا يُكفر صاحب هذا الإنكار لما هو معلوم من الشرع والعقل.

والحقيقة أنهم فرقتان. الأولى التي تقول بالتشابه بين العالمين، والثانية التي تقول بالتباين بين العالمين. ثم تنقسم الثانية إلى فرقتين. الأولى التباين بين الجسماني والروحاني والثانية بالتشابه بين الجسماني في العالمين والتباين في الكيف. ولا يحدد ابن رشد رأي الطائفة الثانية التي تقول بالمعاد الروحاني، والأغلب هم الحكماء خاصة ابن سينا. والغريب أنه بعد أن يترك ابن رشد لكل إنسان الحق في تبني أي نظرية يريد بحيث لا يبطل الأصل وهو إنكار الوجود جملة يكفِّر من ينتهي إلى هذا الإنكار لأنه ينكر ما هو معلوم من الشرع والعقل.

(٥) قانون التأويل

ويعقد ابن رشد خاتمة بعنوان «قانون التأويل» أي المنهج الذي وراء علم الكلام والذي يسبب كثيرًا من أخطاء المتكلمين. وهو قانون أي منهج دقيق ومحكم. هل فالتفسير هو الوسيلة للانتقال من الفهم إلى التعبير. وهو يعادل نظرية المعرفة في الحضارة النصية، كيفية التعامل مع النص، العلاقة بين النص والشعور من ناحية والنص والعالم الخارجي من ناحية أخرى. وهو أقرب إلى الفتوى الفقهية مثل «فصل المقال» إجابة على سؤال ما يجوز تأويله ومالا يجوز.

ويقوم هذا القانون على أن المعاني في الشرع على خمسة أصناف. تنقسم أولًا قسمين. الأول قسم واحد والثاني أربعة أقسام. الأول أن يكون المعنى الذي صرح به الشرع هو بعينه الموجود بنفسه ولا يجوز تأويله وهو الظاهر. والثاني ألا يكون المعنى الذي صرح به الشرع هو المعنى الموجود بل أخذ بدلًا عنه على التمثيل. وهو المؤول. ويتكون من أربعة أصناف. الأول لا يعُلم الذي صرح بمثاله إلا بمقاييس بعيدة مركبة، تتعلم في زمان طويل وصنائع عدة، ولا تقبلها الفطر السليمة. ولا يعلم أنه مثل الممثول إلا بمثل. وتأويله قاصر على الراسخين في العلم، ولا يجوز التصريح لغيرهم به. والثاني يُعلم بعلم قريب منه الأمران، المثل والممثول. وهو المقصود بالتأويل، والتصريح به واجب. والثالث يعلم بعلم قريب أنه مثال ويعلم لماذا هو كذلك بعلم بعيد، ولم يأت به تمثيل لبعده عن أفهام الجمهور بل لتحريك النفوس. ولا يتأوله إلا الخواص من العلماء. وقد يكون لغير العلماء إما من المتشابه الذي يعلمه الراسخون في العلم أو أن ينقل التمثيل فيه لهم إلى ما هو قريب من معارفهم لإزالة الشبهة. وقد سلك أبو حامد في «فيصل التفرقة» هذا المسلك بتحديد وجوه خمسة للشيء: الوجود الذي يسمى الذاتي، والحسي، والخيالي، والعقلي، والشبهي، وإرجاع الشبهة إلى الأغلب في الظن. وهو تأويل مقبول في الشريعة على أحد هذه الوجوه. ولم يفصل أبو حامد في ذلك أي في التطبيق بالرغم من أنه صاحب التقسيم الخماسي. ولا يوجد في الكتاب منه مواضع كثيرة بالرغم من تعرض المتكلمين، أشعرية ومعتزلة، له، بين المثل والممثول. وقد ينتج عن هذا التأويل اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة إذا ما صرح بها للجمهور كما حدث للصوفية والعلماء. الخلاف بين ابن رشد والغزالي إذن ليس كبيرًا إذ يعتمد عليه ابن رشد في قانون التأويل ويستمد منه مادته حول الوجوه الأربعة للمثال بعلم قريب والسبب بعلم بعيد. فكلاهما من أنصار التأويل الشرعي.٩٨

وهذا التقسيم قريب من أحكام الأصوليين في الحقيقة والمجاز فالصنف الأول هو الحقيقة عند الأصوليين، والصنف الثاني هو المجاز بأقسامه، الأول فرض للجمهور، والثاني فرض للعلماء ولا يفصحون به للجمهور، والصنف الثاني هو المجاز بأقسامه. ويقوم على بنية محكمة بالرغم من عدم تعادل الصنفين الرئيسيين كما، الأول قسم واحد والثاني أربعة أقسام الصنفان الكبيران متقابلان، الحقيقة والمجاز. والقسمان الصغيران الأول والثالث من الصنف الثاني متقابلان. والقسمان الثالث والرابع أيضًا متقابلان. والقسم الرابع، المثال بعلم بعيد والسبب بعلم قريب قد لا يبدو معقولا. فمعرفة المثال بعلم قريب والسبب بعلم بعيد. ومن ثَمَّ كان القسم الثالث أولى. والقسم الثاني هو الموجود في الشرع بالفعل أي التمثيل على المعاني، وضرب الأمثال. وهو ما سماه الأصوليون قياس الغائب على الشاهد. ويستحيل الصنف الأول أن يكون المعنى الذي صرح به الشرع هو بعينه المعنى الموجود في نفسه. فهذه الموضوعية التامة لا وجود لها. الكتاب لا ينطق إنما ينطق به الرجال. وهو حمال أوجه، نص مقروء وليس نصًّا صامتًا. وتتعدد القراءات بتعدد القراء وطبقًا لأمزجتهم وأهوائهم وثقافاتهم ومالحهم وأوضاعهم الاجتماعية. وقد تقابل الأقسام الأربعة. الأول للحكماء، والثاني للفقهاء، والثالث للمتكلمين، والرابع للصوفية.

هل يكشف التأويل مالم يأذن به لله ورسوله؟ وإذا كان أداة شرعية فمن الطبيعي أن يؤدي إلى علوم التأويل. وإذا كانت بعض أقوال الصحابة تفيد ذلك فإن المقصود التوجه نحو العمل وليس نحو النظر بعيدًا عن المتاهات والتنظيمات. هل التأويل امر شرعي مثل الاحكام الشرعية أم هو أداة في يد المتكلم أو الحكيم أو الصوفي للغوص في معاني النصوص؟ ليس التأويل حكمًا شرعيًّا بل حاجة معرفية من أجل تطابق الوحي والعقل والطبيعة بعيدًا عن الازدواجية في الفكر والسلوك. التأويل عملية اجتماعية وواقع ثقافي، لها قوانينها الخاصة، لا يوقف بتحريم، ولا يذاع بتحليل. ولو حرم التأويل ونشأت دوافعه لظهر. ولو أوجب التأويل ولم تظهر دوافعه لما نشأ. لا يأتي ولا يذهب التأويل بتحريم أو تحليل مثل الفتوى الفقهية بل هو عملية معرفية لتطابق الوحي والعقل والواقع، وعملية اجتماعية كجزء من عملية التغير الاجتماعي من خلال التراث أو كسلاح سياسي في الصراع الدائر بين القوى السياسية في المجتمع. وربما هي عملية فردية أخلاقية لتبرير أفعال وتحريم أخرى.

والحقيقة أن التأويل ليس في الشريعة بل في بعض الصور الفنية أو الجور أو الظلم. لذلك من الافضل استعمال لفظ الوحي او الدين بدلًا من الشريعة لأن الشريعة لا تأويل فيها كما تفعل الشيعة في تأويل الشريعة. وهنا يبدو ابن رشد فقيهًا أكثر منه حكيمًا في استعمال لفظ الشريعة. وهو ليس كشف إلهيًّا أقرب إلى العلم اللدني بل منهج عقلي واستدلال منطقي وتحليل للتجارب الحية وإدراك لواقع خارج النص ورؤية لداخله من صنع الفقيه أو المؤول أو المفسر أو الحكيم بناء على منطق التأويل.

والحقيقة أن سبب التأويل راجع إلى اختلاف فطر الناس طبقًا للخلق الفردي، واختلاف مستوى التعليم طبقًا للظروف الاجتماعية والاستعدادات الطبيعية، واختلاف العمق في النفوس، فلكل نفس أفق مستقل، ولاختلاف التجارب الإنسانية طبقًا لمراحل العمر وطبقًا لما يمر بالإنسان من أحداث وعلاقات اجتماعية، ولاختلاف في التذوق الفني والإحساس بالحياة، ولاختلاف في درجات الإبداع وشجاعة الإعلان يرجع التأويل إذن إلى اختلاف القدرات الفردية. والنص نفسه حمال أوجه لما فيه من تشابه يسمح بإبراز القدرات الفردية واختلاف المصالح عبر تغير العصور وأنواع المجتمعات.

إن مشروع ابن رشد كله هو الكشف عن التأويل الخاطئ في أقاويل الشريعة بداية بعلم الكلام. وهو الموضوع المنهجي المحوري في الضلال وفي الإصلاح، مشروع لمقاومة الخطأ، الخطأ في نظرية المعرفة الحضارية، التأويل، ويخاطب ابن رشد القارئ كما هي العادة عند إخوان الصفا لإشراكه في مشروع حضاري مشترك، فالقارئ جزء من المؤلف، والجمهور جزء من المتكلم.

والسؤال الآن: هل نقد ابن رشد علم الكلام دفاعًا عن الفلسفة أم إنه أقام علم كلام فلسفي جديد؟ لقد استبدل ابن رشد لفظا بلفظ مع بقاء الإشكال الكلامي. استبدل بالحادث الضروري، وبدليل الإبداع دليل الاختراع. وأبقى على بعض الألفاظ القديمة مثل الذات والصفات والأفعال والعناية. واستعمل أسلوب المتكلمين الذي يتخيل المعترض سلفًا ويرد عليه «فإن اعترض معترض وقال»، «فإن قيل». والشارع هو الله أو الرسول وليس الشريعة الوضعية كما يقول الشاطبي. ولم يخل ابن رشد من الثنائيات التقليدية المعروفة، العامة والخاصة، الظاهر والمؤول، الشريعة والحكمة، الدنيا والآخرة … إلخ. لم يستطع التخلص من الأشعرية أو يطور الاعتزال مما يطرح سؤال: هل كان ابن رشد أشعريًّا؟

(٦) من نقد الكلام إلى الدفاع عن الفلسفة

إذا أثبت ابن رشد في «مناهج الأدلة» خطأ الكلام باسم الفلسفة فإنه يثبت في «تهافت التهافت» صحة الفلسفة باسم الكلام، وأن الحكمة متفقة مع الشريعة وإذا كان «مناهج الأدلة» نقدًا للكلام من داخل الكلام فإن «تهافت التهافت» نقد للكلام من خارج الكلام باسم الفلسفة.

معركة أبي الوليد مع أبي حامد نقد للكلام ودفاع عن الفلسفة في «تهافت التهافت» بعد أن كانت معركة أبي حامد نقد الفلسفة دفاعًا عن الكلام في «تهافت الفلاسفة». «تهافت التهافت» نقد لعلم الكلام دفاعًا عن الفلسفة ضد هجوم الغزالي على الفلسفة باسم علم الكلام في «تهافت الفلاسفة». الغزالي لا يمثل شخصه بل يمثل علم الكلام. وهجومه على الفلسفة إنما ثم باسم على الكلام ودفاعه عن الشرعية الدينية والسياسية للدولة. وعندما يرد ابن رشد فإنه يرد على الكلام باسم الفلسفة وزعزعة شرعية السلطة الدينية والسياسية باسم الفلسفة. الكلام عقيدة السلطان والفلسفة أداة المعارضة.

ويعني ابن رشد بالمتكلمين علم الكلام وليس الأصوليين على الإطلاق المتأخرون منهم أفضل من المتقدمين؛ لأنهم أقرب إلى الفلسفة بعد أن تحوَّلت الفلسفة إلى بطن الكلام بعد نقد الغزالي لها.

و«تهافت التهافت» موجه أساسًا ضد المتكلمين الأشعرية باسم الفلسفة والاعتزال. وأهم من يحال إليهم أبو حامد باسم الكلام وابن سينا باسم الفلسفة الكلامية أو الكلام الفلسفي ثم أبو الهذيل العلاف والغزالي في رده على الفلاسفة في «تهافت الفلاسفة» كان متكلمًا لا فيلسوفًا. يردد حجج المتكلمين الأشاعرة مما يجعل ابن رشد ينقد موقف الأشعرية من الفلسفة ممثلين في الغزالي كما نقد موقفهم من الكلام في «مناهج الأدلة» باعتباره فيلسوفًا. ومن ثَمَّ لم يكن نقد الغزالي للفلسفة على مستوى البرهان.٩٩
والمعركة بين المتكلمين والفلاسفة هي نفس المعركة بين الفلاسفة وأرسطو ولكن على مستويين مختلفَين بين الخاص والعام، بين الموروث والوافد. المتكلمون يمثلون الموروث والفلاسفة الوافد. والفلاسفة يمثلون الموروث وأرسطو الوافد. فالفلاسفة هم حلقة الاتصال بين الموروث الكلامي والوافد الأرسطي. مهمتهم نقل الكلام إلى مستوى الفلسفي ونقل أرسطو إلى مستوى الكلام.١٠٠
لذلك يعتبر ابن رشد أبا نصر وابن سينا من المتكلمين من ملتنا لأن فكرهم الديني لم يتحول بعد من الكلام إلى الفلسفة، أخذ ابن سينا بعض آرائه من المتكلمين وترك القدماء مما أدى بأثار سلبية من الكلام على الفلسفة. وبالتالي تكون محاولة ابن رشد في «التهافت» قلب المائدة في وجه الخصوم، وتحرير الفلسفة من سيطرة الكلام، هذه السيطرة التي كان ابن سينا مسئولًا عنها والتي أراد الغزالي إحكامها، قسمة الوجود إلى ممكن وضروري، والممكن له فاعل. ولما كان العالم كله ممكنًا كان له فاعل هو واجب الوجود، وبالتالي التحية بالعالم كله في سبيل الاغتراب والوهم. الكلام أقول خطابية جدلية والفلسفة قول برهاني. وخطأ أبي نصر وأبي عليٍّ تبعيتهم للمتكلمين أي الفكر الفلسفي الأشعري المزيف.١٠١

ويستعمل ابن رشد منهج البحث عن الدوافع في هجوم المتكلمين على الفلاسفة من أجل تحديد كل علم كمقصد، بداية ونهاية، نشأة واكتمالًا. دافعهم حماية الاعتقاد ولكن حصيلة فكرهم يجعل تعرض عن الحق. أما الفلاسفة فإنهم يبحثون عن الحق وكانت حصيلته الدفاع عن الإيمان.

(أ) حدود الكلام

الكلام له حدوده. ولا يمكن تجاوزه كي يصبح فلسفة الكلام والفلسفة تحطان فكريان يمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر كما فعل الكندي الذي انتقل من الكلام إلى الفلسفة وكما فعل الغزالي عندما انتقل من الفلسفة إلى الكلام ولكن لا يمكن تطوير الكلام كي يصبح فلسفة نظر الحدود العقل الكلامي، تبرير الدين، المنهج الجدلي، القول الخطابي، سوء استخدام العقل على عكس الفلسفة كنمط عقلي خالص تبحث عن الحقيقة وتعتمد على البرهان والتحليل العلمي للطبيعة. هناك إذن علمان متمايزان، الكلام والفلسفة. وهو نفس التقابل الآن بين الجماعات الإسلامية المعاصرة من ناحية والإسلام المستنير أو اليسار الإسلامي من ناحية أخرى.

ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين أي فرقة وطائفة أكثر مما يتحدث عن علم الكلام أو فن الكلام أو صناعة الكلام؛ لأن الكلام ليس علمًا ولا فنًا ولا صناعة. ويتحدث عن المتكلمين أكثر مما يتحدث عن الفرق؛ لأنه نمط تفكير بصرف النظر عن الاختلافات الجزئية فيه. ويسميهم «المتكلمين من أهل ملتنا» بلهجة الحزن والأسى أي الذين يخربون بيوتهم بأيديهم، «العيب فينا وليس في غيرنا».١٠٢
وتلزم كثير من أقاويل المتكلمين شناعات. ومنها خرافات وأباطيل والأقاويل التي يشحن بها أبو حامد كتابه «التهافت» كلها في غاية الوهن والضعف. وإلزاماتها أجنبية وغريبة عن الموضوعات. وما كان يجب أن يضيعها إذا كان غرضه اقناع الخواص. ويمكن اكتشاف ذلك بالرجوع إلى الفطر الفائقة التي لم تقم على رأي أو هوى، كما أن التنازع في الشعر يكون حله بالرجوع إلى الفطرة وعلم العروض، وقد أثر خصوم المتكلمين فيهم فصاغوا علم الكلام كرد على الخصوم. وبالتالي ساده الجدل، وغاب عنه البرهان.١٠٣
وأخطاء المتكلمين سبب أخطاء الفلاسفة. فالكلام مسئول عن أخطاء الغزالي وأخطاء الفلاسفة الذين اتبعوا المتكلمين مثل الفارابي وابن سينا. هناك أثر سيء للمتكلمين على الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا في مقابل أثر حسن للفلاسفة على المتكلمين مثل الكندي والمعتزلة وأبي المعالي وباقي متأخري الأشعرية. هناك تفاعل بين الداخل والخارج، بين وزراء الداخلية (المتكلمون) ووزراء الخارجية (الفلاسفة).١٠٤ ومع ذلك يسيء المتكلمون فهم الفلسفة وما يعنون به من أسماء ولا يحفظون الجميل بل ويكفرونهم بسببها.١٠٥

ولما عجز المتكلمون عن الرد على اعتراض الفلاسفة على حدوث العالم لجئوا إلى التمثيل بالإرادة. كل فعل إنما يصدر عن حي عالم. ومن الصعب اثبات وجود الله من حدوث الأشياء على ما تشاهد من حدوث الأجسام قياسًا للغائي على الشاهد. ومقدمات الدليل لا تؤدي إلى المطلوب اثباته. فإذا كان غرض المتكلمين نبيلا فإن الطريق إليه عسير وفاسد ومموه. دليل الحدوث عند المتكلمين ضعيف في منطق الاستدلال عند الفلاسفة. فالنتيجة، مالا يخلو من الحوادث فهو حادث هو كذلك بالجنس وليس بالموضوع. كما أن المقدمة الثانية لا يمكن أن تسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية مصادرة على المطلوب، وإيمان مقنع وحكم مسبق وفكر ديني يمهد إلى إثبات العلة الأولى.

ويرى الغزالي أنه يصعب على الفلاسفة إثبات صانع غير الجرم السماوي في حين أن السماء عند المتكلمين لها قدر محدود. يحتاج الفلاسفة إلى إثبات أصل لا يعتقدونه في حين يقوم رأي المتكلمين على هذا الاصل. وهذه قراءة خاطئة للفلسفة في رأي ابن رشد لأن التخصيص مختلف في كلتا الحالتين. آراء المتكلمين في الجرم السماوي ظنون مثل ظنون الفلاسفة وجهل بالمصنوعات، وبالتالي جهل بالصانع والفلاسفة أقل وهما لأنهم لا يعتمدون على مثل هذا الاستدلال البعدي الطبيعي على وجود الله بل على الدليل القبلي «الأنطولوجي».١٠٦

وعلاقة الذات بالصفات هو الموضوع الرئيسي الذي يأخذه ابن رشد كمثال على ضرورة تجاوز الكلام إلى الفلسفة سواء في بدايته، القدم والحدوث أو في نهاية الأسباب والمسببات. نفي التراث والصفات يبدو التصور الكلامي الأشعري المشخص، الصفات زائدة على الذات. ويبدو تصور الفلاسفة لواجب الوجود تطويرًا لتصور المعتزلة، الصفات عين الذات. الكلام بداية الفلسفة، والفلسفة نهاية الكلام. يجوز المتكلمون من الأشعرية على المبدأ الأول الكثرة إذ يجعلونه ذاتًا وصفاتًا ويرد الفلاسفة ضرورة تعدد العلم والمعلوم إلى اتحادهما من جهة البرهان دفاعا عن حق القديم ورد ضرورة تعدد الصانع والمصنوع لأن الله لا يعرف إلا من ذاته. وهو قول فاسد من جهة مقابلة، الفاسد بالفاسد، وتصحيح الخطأ بالخطأ. ليس عند الأشعرية برهان على تأخر المفعول عن فاعله، وليس عند الفلاسفة برهان على اتحاد العلم بالمعلوم. وفي الشاهد يتمايز العلم عن المعلوم وليس عند الفلاسفة برهان على اتحادهما. يظل التعدد ظنا والتوحد ظنا، ظن المتكلمين في مقابل ظن الفلاسفة.

واضح أن علم الكلام يقوم على التشبيه، قياسًا للغائب على الشاهد مما يدل على أن البداية الحس والمشاهدة والتجارب النفسية التي وراء الاستدلالات المنطقية والحجج العقلية، وقياس الله على الإنسان نظرًا لاشتراك الأسماء. إنما تفرد الأسماء لله بالشرع وليس بالعقل. تتماثل الصفات وتتقابل، تتساوى وتتخالف، تتوحد وتتعدد ثم تعطي لله بطريق الأفضل والأشرف طبقًا لمقاييس الإنسان.١٠٧
ويرجع الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة إلى أن المتكلمين ينكرون الصفات والشروط بينما يثبتها الفلاسفة. ويقصد ابن رشد بالمتكلمين هنا المعتزلة الذين ينكرون الضرورة التي بين الشرط والمشروط بين الشيء وحده، بين الشيء وعلته، بين الشيء ودليله. لا فرق في ذلك بين الإلهيات والطبيعيات. الحرارة والرطوبة عند الفلاسفة من شروط الحياة في الحي الفاسد لكونها أعم من الحياة. والمتكلمون ينفون ذلك مثل أبي المعالي الجويني وكما يفعل السوفسطائيون. وإذا كانت الموجودات اما متقابلات وأما متناسبات فلو جاز أن تفترق المتناسبات لجان أن تجتمع المتقابلات. وهذا مستحيل لحكمة الله في الموجودات وسنته في المصنوعات. وهي حكمة يدركها العقل وإلا وقع في الوهم كما حدث لابن حزم. من أصول المتكلمين أن اقتران الشرط بالمشروط من باب الجائز، وكل جائز يحتاج في وقوعه وخروجه إلى الفعل إلى مخرج وإلى مقارنة الشرط بالمشروط. ويعترف المتكلمون بوجود شروط ضرورية في حق المشروط مثل أن الحياة شرط العلم. ويعترفون بأن للأشياء حقائق ضرورية في وجود الموجود. لذلك يحكمون بالشاهد على الغائب في لواحقه. وهو الدليل عندهم مثل الاستدلال بالاتفاق في الوجود على كون الفاعل فاعلا، وكون الموجود مقصودًا به غاية. أما قول المتكلمين إنهم يعترفون أن فعول الله غير متناهية في حين أنها عند الفلاسفة علم واحد فهما معاندة من حيث اعتقاد القائل وليس بحسب الأمر في نفسه لا حل لها إلا جعل علم الله مخالفًا لعلم الإنسان. هنا يدافع ابن رشد عن الفلسفة ضد نقد الغزالي يرد النقد إليه وبيان وقوعه في التشبيه واسفاط صفات الإنسان على الله. وإن شاء ألا يفعل فإنه يصبح فيلسوفًا. فالصفات التي عدها المتكلمون سبعًا لله كلها تقريب في تقريب، قياسًا للغائب على الشاهد.١٠٨
يقبل ابن رشد بعض أقوال أهل العلم بالكلام القريبة من الفلسفة وهي أقوالهم المنطقية. وهو نفس موقف الغزالي من الفلاسفة في قبوله منطقهم ورفض طبيعاتهم وإلهياتهم، ورفض استعمال المنطق الصحيح لإيهام الناس أن الطبيعيات والإلهيات في مثل يقين المنطق. كما يقبل ابن رشد إثبات المتكلمين النبوة بالقياس لإبطال نفي البراهمة. فالله متكلم ومريد ومالك للعباد وجائز عليه أن يرسل رسولًا في الشاهد لعباده المملوكين. فوجب أن يكون ذلك ممكنًا في الغائب. والبرهان قياس الغائب على الشاهد وهي طريقة متقدمة. كما يقبل جعل المتكلمين في تناولهم للصفات الحياة شرط العلم. فالشرط ينتقل فيه الحكم من الشاهد إلى الغائب. ويتفق ابن رشد مع الأشاعرة في أن التصديق بوجود الله لا يكون إلا بالعقل. ثم ينشأ الخلاف بعد ذلك في تحديد طرق العقل ووسائل البرهان. ويتفق الأشاعرة والحكماء على تسمية النوع الأول من الوجود ومحدث وهو الوجود الزماني المكاني في مقابل وجود الله، ووجود العالم كوسيط بين الله والخلق. وما يعتقده الحكماء وما يعتقده المتكلمون من أهل الملة في كيفية وجود العالم متقارب في المعنى.١٠٩

ومع ذلك فالفلاسفة أقرب إلى التفكير العلمي من المتكلمين والمتكلمون أقرب إلى التفكير الديني من الفلاسفة. فالخلاف بين الفريقين هو الخلاف بين الدين والعلم، بين الظن واليقين. فكل ما كان معروفا معرفة يقينية لا يوجد برهان يناقضه. وكل ما وجد برهان يناقضه فهو ظن. والكلام يناقض البرهان فهو ظن. والفلسفة لا يناقضها البرهان فهي يقين. الخلاف بينهما في درجة الإحساس بالتنزيه مثل الوسائط كدليل على الحكمة يثبتها الفلاسفة وينكرها المتكلمون خشية الشرك. عند المتكلمين يمكن أن تحل صورة الإنسان في التراب من غير وسائط، ولكن الفلاسفة يقولون بالوسائط كدليل على حكمة الخالق وقدرته.

وأحيانًا يتحدث المتكلمون بأشياء يسيئون فهمها لأنها ليست من كلامهم بل من أقوال الفلاسفة مثل اعتقادهم بأن ما هو بالعرض هو بالذات وصعوبة إيجادهم الدليل عليه مما أدى إلى أن أدلتهم في إثبات حدوث العالم لم تبلغ مرتبة اليقين، ولم تلحق بالبرهان متوهمين أن الفلاسفة يسلمون بانقضاء الحركة لأن لها أول. فالمتكلمون يعجزون عن الجواب لدخولهم فيما لا يحسنون. ولو أخطأ الفلاسفة فهو مثل أخطاء المتكلمين، خطأ بخطأ، فساد في مقابل فساد إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وهي حجة جدلية يتساوى فيها الخطأ. ومع ذلك تفوق الفلاسفة على الكلام في البرهان قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فهل كان ابن رشد متعصبًا ضد الكلام لصالح الفلسفة.١١٠

(ب) رحابة الفلسفة

ثم ينتقل ابن رشد من حدود الكلام إلى رحابة الفلسفة، من الدفاع عن الفلسفة ضد الكلام إلى الهجوم على الكلام باسم الفلسفة. حقيقة موقف المتكلمين أنهم جعلوا الإله إنسانًا أزليًّا، وشبهوا العالم بالمصنوعات التي تكون عن إرادة الإنسان وعلمه وقدرته. فلما أدركوا أنه يلزم أن يكون جسمًا جعلوه أزليًّا. ولما كان كل جسم محدث لزمهم أن يضعوا إنسانًا في غير مادة، فعالًا لجميع الموجودات. فأصبح قولهم مثاليًّا شعريًّا، والأقوال المثالية مقنعة للغاية إلا أنها مختلة في العمق نظرًا للتناقض بين طبيعة الموجود الكائن الفاسد وطبيعة الموجود الازلي. لذلك لا يوجد نوع واحد مختلف بالأزلية وعدم الأزلية كما يختلف الجسد الواحد في فصوله لأن بُعد الأزلي المحدث أبعد من بعد الأنواع بعضها عن بعض. هنا يخطئ قياس الغائب على الشاهد نظرًا للتضاد بينهما إذا فهم معنى الصفات الوجود في الشاهد وفي الغائب وظهر أنها باشتراك الاسم. فلا الحياة الزائدة في الإنسان لا تنطق إلا بالقوة المحركة ف المكان عن الإرادة والإدراك الحاصل من الحواس والحواس ممتنعة في الله، وأبعد عن الحركة في المكان. فتصور الله عند المتكلمين أنه إنسان كبير، والإنسان إله صغير. وهو قول تشبيهي إنساني، إسقاط من الإنسان على الله، وهو ما يعنيه ابن رشد بقول مثالي.١١١
ينتقل ابن رشد من الدفاع عن الفلسفة ضد هجوم الكلام إلى الهجوم على الكلام دفاعًا عن الفلسفة. فالفلاسفة أكثر تنزيهًا لله من المتكلمين نظرًا لنفي الفلاسفة الحواس، وجعل العلم والإدراك شيئًا واحدًا على عكس المتكلمين الذين يثبتون الحواس غير العلم. يضع المتكلمون لله حواسًا من غير حاسة. وينفون عنه الحركة بإطلاق وهو تناقض لأنه إثبات الحياة الموجودة في الحيوان لله، وهي شرط العلم للإنسان وفي نفس الوقت يجعلوها نفس الإدراك كما تقول الفلاسفة، والإدراك والعلم هما نفس الحياة. كما أن معنى الإرادة في الحيوان هي الشهوة الباعثة على الحركة. وهي في الحيوان عارضة لما ينقصها في ذاتها ومحال أن يكون لله شهوة لشيء ينقصه في ذاته حتى يكون سببًا للحركة والفعل في نفسه أو في غيره. وكيف تكون إرادة أزلية لفعل محدث من غير أن تزيد الشهوة وقت الفعل وبعده وبالتالي يلحقها التغير؟ ولما كانت الشهوة من حيث هي سبب للحركة، والحركة لا توجد إلا في جسم كانت الشهوة في جسم متنفس. في حين أن معنى الإرادة عند الفلاسفة هو صدور فعل عن علم. ولما كان العلم علمًا بالضدين فإنه يمكن أن يصدر أحدهما عن طريق الأفضل. لذلك يُسمى العالم فضلًا، ويقال إن الله مختص بثلاث صفات، عالم، فاضل، قادر، وأن مشيئته في الموجودات جارية بحسب علمه لا تنقص كما تنقص في البشر. والحقيقة أن ابن رشد أيضًا يقع في القول المثالي الشعري عن طريق السلب، نفي المماثلة بين الله والإنسان، ومع ذلك يجعل العلم عن طريق الأفضل، ويوحد بينه وبين القدرة، وهو أيضًا تصور إنساني. أما طرق المتكلمين التي وضعها أبو حامد لإثبات صفة العلم فطرق بينة واضحة، لأنها مشهورة وسهلة التصديق بها ولكنها ليست برهانية. هي طرق شعبية مقنعة للجمهور تعتمد على تشبيه الأمور الطبيعية بالأمور الصناعية.١١٢ ويرد مفاهيم الكلام إلى مصدرها الأصولي مثل الشرط مثل تأخير وقوع الطلاق في اللفظ إلى وقت حصول الشرط الذي تتعلق به وهو الوقت الذي قصد فيه وجوده.١١٣
ما يدل عليه العلم أن الفاعل عالم به، والعقل إدراك الموجودات بأسبابها. ورفع الأسباب رفع للعقل. والمنطق يقوم على وضع الأسباب. ولا تكون المعرفة بالمسببات كاملة إلا بمعرفة الأسباب. رفع الأسباب إبطال للعلم واستحالة أن يوجد معلوم أصلًا، ولا توجد إلا ظنون. ويغيب البرهان والحد، وترتفع المحمولات الذاتية التي تأتلف البراهين ومن ينتهي إلى غياب علم ضروري يكون قوله غير ضروري. وليس البديل عن الغاء السببية حكم العادة، وهو حكم ظني يقوم على التوهم وليس حكما ضروريًّا. ومع ذلك لا ينكر الفلاسفة حكمة العادة من باب التسمية. قد تعنى العادة أنها عادة الفاعل أو عادة الموجودات أو عادتنا عند الحكم على الموجودات. ومحال أن يكون لله عادة لأن العادة يكتسبها الفاعل بموجب التكرار. ولا تكون للموجودات لأن العادة لا تكون إلا لنرى نفس وإلا كانت طبيعة. ويستحيل أن يكون للموجودات طبيعة تقتضي أن يكون طبيعيًّا أو احتماليًّا. وعادة الحكم على الموجودات ليست إلا فعل العقل بطبيعته. ولا تقصد الفلاسفة هذه المعاني. ومن ثَمَّ فإن لفظ العادة محوه لا يعني إلا أنه فعل وضعي يستعمل في اللغة اليومية في تعبيرات جرت العادة بأن يكون الفعل الاحتمالي على الأكثر. وبهذا المعنى تكون الموجودات كلها وضعية، وتغيب الحكمة قبل نسبتها إلى فاعل حكيم. وإذا سلم المتكلمون بأن الامور المتقابلة في الموجودات ممكنة على السواء وأنها كذلك عند الفاعل وانما يتخصص أحدهما بإرادة فاعل ليس لإرادته ضابط ضروري أو احتمالي فإنه يلزم عن ذلك شناعات كثيرة. ولا يستطيع المتكلمون نفي أن المواد شرط للموجودات ذوات المواد. لذلك يختلفون عن الفلاسفة في تصورهم النفس نشأة ومعادًا، بداية ونهاية. فلا يمكن القول بالإعادة لمن اعتقد من المتكلمين أن النفس عرض، وأن الأجسام التي تعاد هي التي تُعدم.١١٤
وأهم خلاف بين الفرقتين المعتزلة والأشاعرة، هو الصلة بين الذات والصفات، الصفات عين الذات عند المعتزلة دفاعًا عن الوحدة ضد الكثرة، وزائدة عليها عند الأشعرية، دفاعًا عن الفاعلية في العالم. ويتعاطف ابن رشد مع المعتزلة ضد الأشعرية والفلاسفة. لما كان العالم ممكنًا فإن فاعله واجب الوجود هو موقف المعتزلة قبل الأشاعرة. وهو موقف صحيح. ولكن برهان الأشعرية لا يؤدي إليه، بل يُؤدِّي إلى علة زائدة عليه. وبرهان المعتزلة أفضل حتى من طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود بذاته. هو أكثر إقناعًا في وجوب الإيجاد ويلزم الأشعرية؛ لأنَّ الممكن الموجود وعندهم هو الممكن الحقيقي، وهو ما يتصف به كل ما هو دون المبدأ الأول. ويسلم بهذا للأشعرية. كل ممكن له فاعل. وينتهي التسلسل إلى ما ليس ممكنًا في نفسه، وهو الموجود الذي انقطع عنه الإمكان، البسيط غير المركب. تتجاوز الأشعرية ذلك إلى اعتباره قديمًا علة فاعلة. وينقد أبو حامد الفلاسفة لقولهم بواجب الوجود دون التأكيد على أنه علة فاعلة، وكأن أبو حامد يريد إرجاع الفلسفة إلى علم الكلام، والتنزيه إلى التشبيه، والتجريد إلى التشخيص. الفلاسفة يرفضون العلة الفاعلة والعلة القابلة كصفات وليست جوهر الذات كما هو الحال عند النصارى. كما يتفق الأشعرية مع الصوفية، أنَّ الذات لا ماهية لها. وإن كانت لها ماهية فهي لا تفهم. ومع ذلك تتميَّز الذات عن سائر الموجودات.١١٥

واللازم للأشعرية ليس نقل القديم عن العجز إلى القدرة؛ لأنه ليس عاجزًا من لم يقدر على فعل الممتنع وإنما اللازم لهم انتقال الشيء من طبيعة الامتناع إلى طبيعة الوجود؛ مثل انقلاب الضروري ممكنًا، والممكن ممتنعًا أي إعطاء الأولوية للإرادة على الحكمة، وللعلة الفاعلة على واجب الوجود. ولو ارتفعت الضرورة من الأشياء المصنوعة وكيفياتها وموادها كما تتوهم الأشعرية في المخلوقات مع الخالق لارتفعت الحكمة الموجودة في الصانع وفي المخلوقات وخطورة ذلك على العدل. فالعلة الفاعلة تقضي على فاعلية الإنسان واكتسابه وأثره على الموجودات. يفهم الأشعرية المجاز بطريقة تنكر خلق الإنسان لأفعاله. جحدوا الأسباب المحسوسة، وأنكروا الأسباب والمسبِّبات، وهو نظر خارج عن الإنسان بما هو إنسان. وكذلك فهمت الأشعرية التخصيص على أنه تمييز الشيء إما من مثله أو من ضده من غير أن يَقتضي ذلك حكمة. خطأ الأشاعرة هو في تصوُّر الله تصورًا مشخصًا بمفاهيم القدرة والعجز وليس بمفاهيم الفلسفة، الممكن والمستحيل والواجب.

وتقول الأشعرية إنَّ كل تركيب مُحدث. ثم أضافوا مقدمة ثانية. ولا يُفضي هذا الدليل إلى إثبات وجود الله، بل إلى إثبات أول ليس بحادث، وإثبات موجود قديم يتمُّ بدليل الأشعرية. ولكن الحدوث الذي صرح به الشرع هو نوع من الحدوث المشاع في هذا العالم والذي يوجد في تصور الموجودات والتي يسميها الأشعرية صفات نفسانية وتسميها الفلاسفة صورًا. والخلاف بين الأشعرية والفلاسفة هو قول الأشعرية بالاختراع من لا شيء. والقديم لا يحتاج إلى علة حدوث. وعند الفلاسفة وصف الوجود والقديم لا يحتاج إلى علة حدوث. وصف الوجود بالقديم وبالعلة إلى ماضٍ ومستقبل هَوسٌ وتخليط؛ لأنه يجعل الحدوث في الله. وقد عسر عليهم القول بأن العالم قديم أي إنه متقدِّم بأشياء قديمة، وفضَّلوا حدوث العالم على قدمه. وما حكاه أبو حامد عن الأشعرية من أنهم يُجوِّزون حدوث جوهر قائم بذاته ولا يُجوِّزون عدمه مذهب في غاية الضعف. ويمكن إطلاق اسم الحدوث على العالم كما أطلقه الشرع لا كما أطلقه الأشعرية. ويُقارن ابن رشد دليل الأشعرية على حدوث العالم ودليل الفلاسفة على قدمه. ويطالب حكم القارئ أي الدليلين أقوى برهانًا؟

وقد اعتقدت المعتزلة والأشعرية في المبدأ الأول أنه ذات جسمانية ولا في جسم، حي، عالم، مريد، قادر، متكلم، سميع، بصير، واعتقدت الأشاعرة دون المعتزلة أن هذه الذات هي الفاعلة لجميع الموجودات بلا واسطة في حين تقول المعتزلة بتوسط الأسباب. وفي نفس الوقت يستحيل أن يكون العالم أكبر وأصغر وهو تعجيز لله؛ لأن العجز عن المقدور لا عن المستحيل.١١٦
ثم يُخصص ابن رشد وينتقل من المتكلمين إلى الأشعرية. الأشعرية رواة لا يعتمد عليهم في نقل آراء الفلاسفة. إذا روت عنهم نقلت آراء في غاية الشناعة والبُعد عن النظر الأول للإنسان في الموجودات؛ لأنها لم تستطع فهمها. والغزالي مُمثل الأشعرية يقصد نصرة مذهب مخصوص بالرغم من ادعائه غير ذلك. وبإحساس تاريخي يدرك ابن رشد تطور المذهب الأشعري من المتقدمين إلى المتأخِّرين؛ فقد أثبت مُتقدمو الأشعرية الخلاء بينهما، نفاه متأخروهم ففارقوا أصول المذهب.١١٧

ويذكر المعتزلة مع الأشعرية باعتبارها أهم فرقتَين في الملة. ولكن تذكر المعتزلة أولًا من حيث الأهمية، ومن حيث قربهم من الفلاسفة؛ ومن حيث الترتيب الزماني أيضًا. فالمعتزلة تسبق الأشعرية والأشعرية ردَّة اعتزالية.

يذكر ابن رشد المعتزلة في عدة موضوعات مستقلة دون قرنها بالأشعرية. وفي مقدمتها ما تميزت به المعتزلة في اعتبارهم المعدوم شيئًا وهو ذات؛ وذلك لأن العدم مقابل الوجود، والوجود شيء وهو ما يتَّفق مع الفلاسفة. وجعلوا الذات متغيرة من الوجود قبل كون العالم. وأقاويلهم على أنه شيء يخرج من لا شيء غير صحيحة لأن دليلهم أنه لو خرج شيء عن شيء لمر الأمر إلى ما لا نهاية ضعيف.

وفي موضوع الفعل ترى المعتزلة أن الأشياء لا تصدر عن الفاعل للشيء صدورًا أوليًّا كما ترى الفلاسفة بل أقرب إلى تشخيص الأشعرية والحاجة إلى فاعل ضروري لمفعول ممكن.

كما يستشهد بأبي الهذيل العلاف مرتين في استحالة أن يكون العالم أزليًّا من الطرفين، وموافقته للفلاسفة في أن كل محدث فاسد في عرض الدليل الثالث على قدم العالم. واعتماد ابن رشد على المتكلمين في نقاش الفلاسفة يدل على المصدر الداخلي للفلسفة وليس فقط المنبه الخارجي.١١٨
وفي نفس السياق، يحيل ابن رشد إلى الكرامية اعتمادًا على الموروث في تمثل الوافد فيما اشتهرت به من جوار التغير على القديم أي جواز الإرادة الحادثة على القديم، وجواز الكون والفساد على المادة الأولى عند القدماء، والتوحيد بين الفعل والفاعل والمفعول، واعتبار الفعل شيئًا قائما بذات الفاعل. ينقدهم ابن رشد فقط لقولهم إن الفعل يقوم بذات الفاعل لإن الإضافة بين الفاعل والمفعول. إذا نسبت إلى الفاعل فعلًا، وإذا نسبت إلى المفعول كانت انفعالًا. والحقيقة أن الخلاف ليس كبيرًا بين ابن رشد والكرامية. كلاهما يوحد بين الفاعل والمفعول، ابن رشد لصالح القديم، والكرامية لصالح الحدوث. ابن رشد ثنائي التصور، فعل وفاعل، في حين أن الكرامية ثلاثية ولا يكفرهم وهو الفقيه كما تكفرهم الأشعرية.١١٩
١  الخامس (عدد الصفحات) (٥٥)، الرابع (٢٤)، الأول (٢٣)، الثالث (٨)، الوحدانية (٥).
٢  وقد قام الأزهر بحذفها في مناهجه للتدريس في كليات أصول الدين.
٣  مناهج، ص١٣٤.
٤  السابق ص١٣٢–١٥٤.
٥  السابق ص١٣٩-١٤٠ وهو نفس موضوع حجج برجسون ضد زينون الأيلي، حجة السلحفاة وأشيل.
٦  السابق ص١٣٩-١٤٠.
٧  السابق ص١٤٠-١٤١.
٨  السابق ص١٤١–١٤٤.
٩  السابق ص١٣٥-١٣٦.
١٠  السابق ص٣٦-١٣٧، ١٥٨، ٢٠٦.
١١  ضميمة ص٣٧ فصل ص١٩، ٢١.
١٢  هذا ما لاحظه فيورباخ في «جوهر المسيحية».
١٣  السابق، ص١٤٤–١٤٦.
١٤  وهو نصٌّ مدرسي لأحداث حركة تنويرية في البلاد بدلًا من النصوص العقيمة المجردة الحالية التي لا يشعر بها الطالب ولا يفهم مغزاها.
١٥  السابق ص١٤٧-٤٨، ١٠٣.
١٦  السابق ص١٥٢-١٥٣.
١٧  السابق ص١٥٠-١٥١.
١٨  السابق ص١٥١–١٥٤.
١٩  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني: التوحيد ص٧٦–٩٦.
٢٠  انظر دراستنا «ماذا تعني أشهد أن ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١ ج٧ اليمين واليسار في الفكر الديني ص١٤٧–١٦١.
٢١  مناهج ص١٥٥–١٥٧، ١٥٩.
٢٢  السابق ص١٥٨-١٥٩.
٢٣  السابق ص١٧٦.
٢٤  السابق ص١٦٥–١٦٧، ١٨٦-١٨٧.
٢٥  من العقيدة إلى الثورة، ج٢، التوحيد، رابعًا: إلهيات أم إنسانيات ص٦٠٠–٦٥٩.
٢٦  الفصل الثالث «في الصفات» ص١٦٠–١٦٧، الفصل الرابع «في معرفة التنزيه» ص١٦٨–١٩١.
٢٧  السابق ص١٦٨–١٧٠.
٢٨  «من الصفات التي في الخالق صفات استدللنا على وجودها بالصفات التي في أشرف المخلوقات ها هنا، وهو الإنسان مثل إثبات العلم له والحياة والقدرة والإرادة وغير ذلك. وهذا هو معنى قوله عليه السلام «أن الله خلق آدم على صورته».» (السابق، ص١٥٨).
٢٩  السابق ص١٦٦، ١٧١.
٣٠  «وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق والمخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق إلا أنها في الخالق أتم وجودًا» (السابق ص١٧٠) انظر أيضًا «من العقيدة إلى الثورة» ج٢، التوحيد ص٣٣٩–٤٠٨.
٣١  مناهج ص١٧٣–١٧٦.
٣٢  السابق ص١٧٠–١٧٣.
٣٣  السابق ص١٧٤.
٣٤  من العقيدة إلى الثورة ج١ المقدمات النظرية، الفصل الثاني، بناء العلم، رابعًا، من الأصول إلى البناء ص١٧٨–١٩٤.
٣٥  في العلم الغربي الحديث النور جسيمات ضوئية، ذرات لها ثقل كالأجسام وينعكس على ذرات الهواء.
٣٦  مناهج ص١٧٤-١٧٥.
٣٧  وهي الطرق الثلاث المعروفة في اللاهوت في العصر الوسيط الغربي عند توما الأكويني باسم Via Positiva, Via Negativa, Via Analogia.
٣٨  السابق ص١٧٦-١٧٧.
٣٩  السابق ص١٧٨-١٧٩.
٤٠  السابق ص١٧٦-١٧٧.
٤١  السابق ص١٧٩-١٨٠.
٤٢  السابق ص١٨٠–١٨٢.
٤٣  السابق ص١٨٢–١٨٤.
٤٤  وقد اتبع برجسون هذه الطريقة في نقد سوء فهم علم لنفس وسوء فهم الفلسفة من أجل بيان اتفاق الحياة الباطنية مع الحياة التأملية، وكذلك فعل جيتون في نقد النقد التاريخي للكتب المقدسة وبيان اتفاقه مع عقائد الإيمان.
٤٥  مناهج ص١٨٥.
٤٦  مشروع «التراث والتجديد» هي غزالية مضادة بعد ألف عام من ضربة الغزالي الأولى، والتي لم تستطع بارقة ابن رشد من إيقافها.
٤٧  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٠ ص١٣٣–١٥١ وأيضًا «اختلاف في التفسير، اختلاف في المصالح» في الدين والثورة في مصر ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني ص١١٧–١٢٠، وأيضًا «مناهج التفسير ومصالح الأمة» ص٧٧–١١٥.
٤٨  السابق ص١٧٢–١٧٤، ١٨٥–١٨٧.
٤٩  السابق ص١٨٧–١٨٩.
٥٠  «من العقيدة إلى الثورة» ج١ المقدمات النظرية، الفصل الثالث، نظرية الوجود (٣) الكيف (أ) الكيفيات المسموعة ص٥١٤–٥٢٦ وأيضًا «الفنون البصرية والفنون السمعية أيهما أقرب إلى الذوق العربي؟» حصار الزمن ج١ (تحت الطبع).
٥١  السابق ص١٨٦-١٨٧، ١٦٦.
٥٢  السابق ص١٨٩–١٩١.
٥٣  انظر المجلد الثاني التحول، الجزء الثالث، التراكم، الفصل الثالث، الإبداع الخالص.
٥٤  «من العقيدة إلى الثورة»، ج٢ التوحيد، ثانيًا: أوصاف الذات وصفاتها ص٧٦–٩٧.
٥٥  السابق ص١٦١-١٦٢.
٥٦  السابق ص١٦١-١٦٢.
٥٧  السابق ص١٦٣.
٥٨  السابق ص١٦٢–١٦٤.
٥٩  السابق ص١٦٥.
٦٠  فصل ص٢٠، مناهج ص١٩٥–١٩٨، تهافت ص٧٤.
٦١  السابق ص١٩٣–١٩٥.
٦٢  السابق ص٢٠٥–٢٩٧.
٦٣  السابق ص١٤٨.
٦٤  السابق ص١٩٩٨-١٩٩، ٢٠١، ٢٠٣.
٦٥  السابق ص١٩٨–٢٠٣.
٦٦  السابق ص٢٠٣–٢٠٥.
٦٧  وقد استطاع اسبينوزا أن يعبر عن هذا الموقف الرشدي في الفكر الغربي في القرن السابع عشر حيث كانت الرشدية ما زالت مترسبة في الوعي الأوروبي.
٦٨  انظر دراستنا «الاغتراب الديني عند فيورباخ»، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧ ص٤٠٠–٤٤٥.
٦٩  السابق ص٢٠٨–٢١١.
٧٠  السابق ص٢٠٨–٢٢٠.
٧١  السابق ص٢١١-٢١٢.
٧٢  السابق ص٢١٤-٢١٥.
٧٣  وهذا هو المعنى المقصود من عديد من الآيات وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.
٧٤  السابق ص٢١٩–٢٢٢.
٧٥  السابق ص٢١٦–٢١٩.
٧٦  السابق ص١٩٣–١٤٧.
٧٧  السابق ص٢٢٣–٢٢٦، ٢٣٢-٢٣٣.
٧٨  السابق ص٢٢٩–٢٢٧.
٧٩  السابق ص٢٢٨.
٨٠  يستشهد ابن رشد بجالينوس تأكيدًا على وحدة التراث البشري.
٨١  السابق ص٢٢٨–٣٣١.
٨٢  عند اسبينوزا في الفلسفة الحديثة الغربية، الله هو الطبيعة الطابعة، والطبيعة هي الطبيعة المطبوعة، وصفات الله هي قوانين الطبيعة.
٨٣  وهي أقرب إلى التطور المنكسر عند برجسون. ولكنها قانون طبيعي. فالله يفعل من خلال الطبيعة ويرفعها إلى الإمام وليس ضدها كما هو الحال عند الشيخ في تصوره دور الوحي في استقلال الوعي الإنساني.
٨٤  وهي الخوة الأولى التي تم عبورها من العصر الوسيط إلى ديكارت، والثانية التي تم عبورها من ديكارت إلى اسبينوزا.
٨٥  السابق ص٢٣١-٢٣٢.
٨٦  لذلك رأى اسبينوزا عدم تدخل الدولة في المسائل النظرية.
٨٧  «من العقيدة إلى الثورة» نموذج لدراسة علم العقائد ودراسة مصلحية ردًّا لعلم أصول الفقه في علم أصول الدين وتحقيقًا لوحدة علم الأصول.
٨٨  المجلد الثالث، الإبداع، الباب الثاني: بنية الحكمة، الفصل الثاني: الطبيعيات والإلهيات.
٨٩  لذلك عرَّف اسبينوزا المعجزة بأنها حادثة طبيعية تسير وفقًا لقانون طبيعي تجهله مما يُبيِّن أن الفلسفة الغربية في بداياتها في القرن السابع عشر كانت ابنة للفلسفة الإسلامية في عصرها الذهبي في يسارها العقلاني العلمي الذي قُضي عليه باسم الأشعرية والتصوف اللذين اجتمعا في السلطان.
٩٠  وهذا أيضًا هو تفسير كورنو لوقوع الحوادث في التاريخ في كتابه الشهير «محاولة في تداخل الأفكار في التاريخ».
٩١  السابق ص٢٣٧–٢٣٩.
٩٢  السابق، ص٢٤٢–٢٤٤.
٩٣  انظر مقدمتنا لكتاب لسنج: تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٧.
٩٤  وذلك مثل الدليل الغائي عند كانط، ورسالة الإنسان عند فشته.
٩٥  السابق ص٢٤٠–٢٤٢، ٢٤٤–٢٤٧.
٩٦  السابق ص٢٤٤–٢٤٧.
٩٧  وبتعبير المعاصرين في الغرب، المادة لا تفنى ولا تتبدد.
٩٨  السابق ص٢٤٨–٢٥٠.
٩٩  تهافت التهافت ص٢٣.
١٠٠  السابق ص١٧ ونقد فيورباخ للاهوت يُشبه نقد ابن رشد للمتكلمين تهافت ج٢، ٥٤-٥٥، ٧٤.
١٠١  تردد الألفاظ في تهافت الفلاسفة: الأشعرية (٤٩)، الفلاسفة (٢٢)، المعتزلة (٩)، ابن سينا، أبو حامد (٥)، الكرامية (٤)، أبو الهذيل العلاف (٢)، صناعة الكلام، الدهرية، القدماء، أبو المعالي (١).
١٠٢  السابق ص١٧.
١٠٣  السابق ص٥٩، ٦٥، ٦، ٣٨.
١٠٤  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٠ ص١٧٧–١٩٢.
١٠٥  تهافت التهافت ص١٣٥.
١٠٦  السابق ج٢، ١٢–٢٢، ٣١، ٥٠–٥٢، ٥٩، ٧٦، ١٠٢.
١٠٧  السابق ص١٧.
١٠٨  السابق ص٦٠، ٨٢، ١٢٣، ١١٢٦-١٢٧.
١٠٩  فصل ص٢٨، ٢٠، ٧ مناهج ص٢٨، ١٦١، ٢٠٨، ١٣٥ تهافت ج١، ١٢٧ ج٢ ص٨.
١١٠  التهافت ص١٢٧ ج٢، ٨.
١١١  تهافت ص١٠٥.
١١٢  السابق ص١١٠.
١١٣  السابق ج١ ص٥٧، ٢٨-٢٩ ج٢ ص٥.
١١٤  السابق ص١١٠، ١٢٣–١٢٦، ١٣٤.
١١٥  السابق ص٥٩، ٧٢، ٨٠-٨١، ٩١، ٢٩، ٦، ٤٣، ١٠٢-١٠٣.
١١٦  السابق ج١ ص٥٧، ٥٩، ٧٩، ٨٣، ٩٨، ١٠٠، ١١٣ ج٢ ص٤٦، ٣٨-٣٩، ٦-٧.
١١٧  السابق ص٥٣، ٣٤، ٥، ٢٧-٢٨.
١١٨  السابق ص٥٩.
١١٩  السابق ج١ ص٣٢، ٥٨ ج٢ ص٣، ٣٨-٣٩، ٦٤، ٧٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤