أولًا: الكندي وابن سينا

الحكمة والشريعة لفظان مورُوثان وليسا وافدَين آثَرَهُما ابن رشد على لفظَي الفلسفة والدين عند باقي الحكماء. الفلسفة لفظ وافد والدين لفظ موروث لا يدل على حكم شرعي من الأحكام الشرعية الخمسة، الوجوب والحظر أو الندب والكراهة ثم الإباحة، وقد شاع هذان اللفظان تحت أثر نفس الإشكال في الفلسفة الغربية في العصرين الوسيط والحديث. وربما أيضًا تحت أثر المستشرقين وامتداداتهم في الدراسات الإسلامية.

والموضوع ليس كبيرًا في علوم الحكمة، أقرب إلى أن يكون موضوعًا هامشيًّا. لم يكتب فيه كتابًا خاصًّا إلا ابن طفيل على نحو رمزي قصته الشهيرة «حي بن يقظان»، وابن رشد فتواه الشهيرة «فصل المقال»، وربما الكندي في أحد أجزاء رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، وإخوان الصفا في مجموع الرسائل. أما ابن سينا فلم يمسه إلا عرضًا. والفارابي مارسه عملًا دون التعرض إليه نظرًا. وكذلك ابن باجه. كما مارسه نظرًا وعملًا الفكر الشيعي خاصة عند أبي يعقوب السجستاني. وقد تضخم تحت أثر الفلسفة المسيحية فهو أهم موضوع فيها نظرًا لتعارض الفلسفة والدين أو العقل والإيمان وكل النسق العقائدي اللاهوتي إنما جاء نتيجة لهذا التعارض المبدئي وهو ما يعادل نظرية المعرفة في الفلسفة العامة. أما نقد علم الكلام فهو الموضوع الأهم والأكبر والأكثر شيوعًا في مؤلفات الحكماء. لم ينتبه إليه الاستشراق وامتداداته حتى يظل الفكر الإسلامي دينيًّا عقائديًّا بعيدًا عن الفلسفة والعقل الخالص استئثارًا للغرب واحتكارًا له مند اليونان.

وهو تطوير لموضوع داخلي محض، النقل والعقل بمصطلحات المعتزلة كأحد موضوعات العدل أو السمع والعقل أو الوحي والعقل بمصطلحات الأشاعرة كما هو الحال عند الشهرستاني في «الممل والنحل». وقد استمرت مصطلحات المعتزلة عند الفقهاء خاصة ابن تيمية في «درأ تعارض النقل والعقل» أو «موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول». هو استئناف لعلم الكلام بعد ظهور عامل جديد هو الوافد اليوناني وبداية ظهور إشكالية ازدواجية مصادر المعرفة، الداخل والخارج، الموروث والوافد أي النقل والعقل.

وقد استمرت هذه الازدواجية حتى الآن في وريث اليونان الجديد الغرب الحديث منذ اتصالنا مع الغرب منذ فجر النهضة العربية الحديثة وظهور نفس التقابل القديم من جديد بين الوافد الغربي بعد عصر الترجمة الثاني منذ القرن الماضي، والموروث القديم الذي ما زال متواصلًا، حيًّا في القلوب، حاضرًا في الأذهان، مكونًا رئيسيًّا من مكونات الثقافة الوطنية.

(١) الكندي

عرض الكندي اتفاق الفلسفة والدين في أطول رسالة له وهي «رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى» من أجل تربية ابنه أحمد مما يدل على اهتمام الخلفاء بتربية الأبناء، وأن الفلسفة كانت وسيلة هذه التربية من أجل تنشئة الملك الفيلسوف أو الفيلسوف الملك. كتبت الرسالة لتحقيق هذه الغاية، إثبات الاتفاق بين الفلسفة والدين. هدف الفلسفة ديني في الأساس، وهو إثبات وجود الله بطريق الفلسفة والبرهان وليس عن طريق الكلام والجدل بألفاظ العلوم الدينية مثل الكافرين والمعاندين تجاوزًا لعلم الكلام، الذب عن العقائد الدينية وحمايتها من تشويش أهل البدعة. في الكلام الفلسفة خادمة للدين، وفي الفلسفة، الفلسفة والدين طريقان إلى غاية واحدة، وهي الحقيقة، منهجان مختلفان وغاية واحدة.١

وواضح وعورة الأسلوب وغرابة الألفاظ مثل «سدف سجوفة». فالفلسفة تنشأ في بدايتها من عملية تخلق أسلوب. وهو ما يخف عند الفارابي، ويختفي كلية عند ابن سينا. ثم يتحول إلى إبداع أسلوبي وفلسفي عند السجستاني ممثلًا للفكر الشيعي وابن رشد ممثلًا للفكر السني. ويستعمل مصطلحات لم تعش مثل «سرابيل»، «قنية»، «الفلج» بالرغم من اشتقاقها من اللغة العادية مما يكشف عن نشأة المصطلح الفلسفي قبل استقراره. ومع ذلك في الأسلوب بعض الجدة في أول الرسالة في الهجوم على الفلاسفة ورجال الدين المزيفين وكأننا مع ابن حزم وابن تيمية وابن الصلاح ولكن لصالح الفلسفة في البداية وليس لصالح الدين في النهاية، مما يدل على أزمة العصر.

ويبدو التعارض بين الفلسفة والدين لأسباب داخلية وخارجية الداخلية مثل ادعاء الفلسفة وسوء تأويل الدين من العلماء المزيفين الغرباء عن الحق، وضيق الفطن عن أساليب الحق فأهم شيء في الحق هي طرق التعبير عنه، وقلة المعرفة بأساليب الاجتهاد وطرقه، فالفلسفة استدلال، والحسد متمكن في القلوب. الفلسفة تطهير للقلب، وصفاء للنفس، والأنفس البهيمية المانعة عن إدراك الحق وتمثل الفضائل وممارستها، فالفلسفة مزاج وتصفية للنفس.

أما الأسباب الخارجية فترجع لأوضاع الفلاسفة ورجال الدين في النظم السياسية والاجتماعية وأحوال العصر والبحث عن المتأهب والرغبة في الترؤس والتجارة بالدين من عدماء الدين. ومن تجر بشيء باعه، ومن باع شيئًا لم يكن له، ومن تجر بالدين لم يكن له دين. يدافعون عن المناصب والمكاسب الاجتماعية التي لا يستحقونها، فيصبحون عبيدًا لها. الفلسفة إذن ليست منعزلة عن العصر كما تبدو بل هي تعبير عنه ورد فعل عليه. الفلسفة هم الفلاسفة كما أن العلم هم العلماء. يعيش الفلاسفة في مجتمع، يعارضون ويتملقون، ينقدون أو يداهنون، يثورون أو يقبلون. الفلسفة ليست انعكافًا على الموروث القديم بعيدًا عن أحوال العصر ومتطلبات الواقع بل هو خطاب إلى المعاصرين.

ويستعمل الكندي ثلاث حجج عقلية لإثبات اتفاق الفلسفة والدين، متداخلة فيما بينها قبل أن يتحول الفكر الفلسفي إلى أقسام عقلية واضحة وهي:
  • (١)
    علم الربوبية من الفلسفة. ومن ثَمَّ يكون موضوع الفلسفة والدين موضوعًا واحدًا وهو الربوبية. استعمل الكندي لفظ الربوبية وليس الألوهية أو الرب أو الله من أجل التأكيد على عناية الله بالعالم في مقابل التصور اليوناني، ومتجاوزًا التشخيص، الرب أو الله إلى الألوهية والربوبية، انتقالًا من علم الكلام إلى الفلسفة. ليس من الدين معاندة حقائق الأشياء. ومن ثَمَّ لا يمكن معارضة الدين للفلسفة. غرضهما واحد وهو التعرف على حقائق الأشياء أو البحث عن الحقيقة. فمن سمى البحث عن الحقيقة كفرًا تعرى عن الدين لأن العلم بالحقائق هو علم الربوبية. إذا كانت الفلسفة علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، وكان غرض الفيلسوف إصابة الحق والعلم به فإنها تصبح مرادفة للدين، وطريقا إلى الحقيقة. الغاية واحدة وإن اختلف المنهج، الفيلسوف بالنظر، والدين بالنبوة. وكلاهما عمل. في الفيلسوف يتوحد النظر والعمل لا فرق لديه بين الفكر والممارسة. والنبوة أيضًا دعوة إلى العمل والفضيلة. لا فرق بين الحقيقة النظرية والحقيقة العملية. كل ذلك في نطاق هذا العالم، وليس على الإطلاق، طبقًا للطاقة الإنسانية فينتهي الفعل بتحقيق غايته.٢
  • (٢)

    موافقة ما جاءت به الرسل لحقائق الفلسفة وبتعبير الكلام لا فرق بين السمعيات والعقليات أو بين النقل والعقل. العلم بحقائق الأشياء هو علم بالربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة، وعلم كل نافع، والسبيل إليه والاحتراز عن كل ضار. هذا ما أتت به الرسل. الطريق إلى الله طريق بعدي كوني كما هو الحال في علم أصول الدين. ليس بالنظر في الخلق من أجل معرفة الخالق ولكن بالنظر في مصالح الناس، في الأخلاق والاجتماع والسياسة كما هو الحال في أصول الفقه.

  • (٣)

    الفلسفة تجب أولًا تجب. فإن لم تجب وجب إثبات ذلك. والإثبات هو البرهان، والبرهان منطق، والمنطق أحد أقسام الحكمة. وهي حجة جدلية ضد الخصوم تقوم على برهان الخلف، إثبات خطأ الموقف المعارض، وهو عدم وجوب الفلسفة، ومن ثَمَّ يثبت وجوبها. هي حجة سلبية لا تقوم على إثبات الوجوب بل على نفي عدم الوجوب. تثبت وجوب الفلسفة وهي أحد طرفي الثنائية المتقابلة دون أن تحدد معنى الدين، ويبدو أنه يعني ضمنًا الدين الفلسفي الذي لا يتعارض مع وجوب الفلسفة. كما تثبت حق الفلسفة في تناول الدين ولكنها لا تتضمن بالضرورة النتيجة النهائية لذلك، وهو الاتفاق دون التعارض. فالنتيجة متضمنة في المقدمة. لذلك كان الجدل أقل قيمة من البرهان. الجدل يمكن الاعتراض عليه بجدل نقيض أما البرهان فواحد عند جميع العقلاء.

لذلك تظهر في الفلسفة بعض مصطلحات الكلام الديني مثل «الله جل ثناؤه»، «الرسل الصادقة»، «صلوات الله عليها» أو علم الكلام الفلسفي مثل «الألوهية»، «الربوبية»، «الوحدانية».

(٢) ابن سينا

وبالرغم من وجود إخوان الصفا والفارابي والسجستاني والعامري بين الكندي وابن سينا إلا أن ابن سينا أقرب الفلاسفة إلى الكندي في بيان الاتفاق بين الدين والفلسفة. لقد مارسها الفارابي عملًا دون عرضها نظرًا. وخصصها إخوان الصفا بالفلسفة اليونانية وليست الفلسفة في حد ذاتها. وأفرد السجستاني للنبوة المصطلحات الخاصة والمعارف الإلهية والسياسات الشرعية ومخاطبة الجمهور في حين أن الحكمة بها ألفاظها العامة وبراهينها النظرية وسياسة المدن. وهو ينظر للواقع الفلسفي تنظيرًا مباشرًا، ويستعمل لفظ الحكمة ويخصص الفلاسفة بالحكماء المنطقيين بالمعنى العام وليس بالمعنى الخاص، في مقابل الجهلاء والسفهاء. ومع ذلك الحكمة علم وعمل مثل النبوة. ويفترق الناس إلى خاصة وعامة في الحكمة والنبوة.٣

ويستعمل ابن سينا لفظي الحكمة والشرع قبل استعمال ابن رشد لفظي الحكمة والشريعة، تحولا من اللفظ الوافد الفلسفة، واللفظ الموروث العام، الدين، إلى اللفظ الموروث الاصطلاحي، الحكمة، واللفظ الشرعي، الشرع، والغريب استعمال ابن سينا لهذا اللفظ وهو ليس فقيهًا كابن رشد.

وقد تناول ابن سينا الموضوع في «أقسام العلوم العقلية» من أجل وضع الوحي ضمن منظومة العلوم كما فعل الكندي من قبل؛ إذ تدل أقسام الحكمة عند ابن سينا على أنه ليس فيها ما يخالف الشرع. فإن ادعاء الحكمة ثم الزيغ عن منهاج الشرع. ضلال وعجز وتقصير. الحكمة نفسها بريئة عن هذا الادعاء وذلك الزيغ، ما زال إشكال الكندي موجودًا في عصر ابن سينا وممتدًا حتى ابن رشد بل وربما في كل عصر حتى الآن، وهو ادعاء الحكمة والزيغ عن الشريعة. ليس الخلاف بينهما في نفسيهما بل عند مدعي كل منهما. يستعمل ابن سينا لفظي «منهاج» و«زيغ»، وهما نفس اللفظان اللذان يستعملهما ابن رشد فيما بعد في «مناهج الأدلة»، بالإضافة إلى لفظي حكمة وشرع بعد أن حول ابن رشد لفظ الشرع إلى شريعة.٤
وفي «الجوهر النفيس» يستعمل ابن سينا لفظ العقل والنقل الأثيرين عند المتكلمين والفقهاء مثل ابن تيمية. فالعقل الصريح يطابق النقل الصحيح، الحق واحد من جميع الجهات سواء تم الوصول إليه عن طريق النقل أو عن طريق العقل. وهو ما عبر عنه الكندي من قبل في الاتحاد في الغاية والاختلاف في المنهج. كل معرفة تدل على حكمة الصانع الحكيم تكون أفضل من الجهل.٥
١  رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى ص٨١–٨٣.
٢  السابق ص٨٢-٨٣.
٣  المجلد الثاني: التحول، الباب الثالث: التراكم، الفصل الثاني: تنظير الموروث. ثالثًا: آليات الإبداع.
٤  أقسام الحكمة، في تسع رسائل ص١١٨.
٥  الجوهر النفيس ص٢٧٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤