ثالثًا: ابن طفيل

(١) الذوق والنظر

وقصة حي بن يقظان التي بدأها ابن سينا ثم سار على أثرها ابن طفيل من الحكماء حتى السُّهروردي من الصوفية أقرب إلى وصف المعرفة الإشراقية ابتداءً من المعارف الطبيعية على درجات متفاوتة. فبينما يجعل ابن سينا والسُّهروردي الإشراق نتيجة لتصفية النفس وتجرد الحواس إلا أن ابن طفيل هو الذي فصل في المعارف الطبيعية وإدراكها طبقًا لارتقاء النفس وتطورها منذ الطفولة حتى الرجولة.

ونظرًا لاستقاء ابن طفيل حي بن يقظان من ابن سينا كما يوحي بذلك العنوان فقد جعلها أكثر تفصيلًا وجمع الصيغتين معًا مع استبعاد السُّهروردي مع أنها أقرب إلى الرؤية الصوفية. ربما بسبب إغراقها في الرمزية في حين أن ابن طفيل كان يريد خطابًا فلسفيًّا روائيًّا. فمن أين استمد ابن طفيل تصوفه؟ من الغزالي وابن سينا والحلاج والبسطامي والمصادر الشرقية أي من الأندلس ومدرسة ابن مسرة أم من تجربته الشخصية وحياته الروحية أو كرد فعل على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الأندلس؟ تجربة ابن طفيل هي خلاصة تاريخ الفلسفة في المشرق والمغرب. بدأ من ابن سينا ثم أضاف إليها الفلسفة في زمانه عند منتحلي الفلسفة وهم أصحاب النظر دون الذوق والذين ينقلون الآراء دون أن يعيشونها. لا يعني الانتحال هنا أي معنى قدحي بل مجرد التعامل مع الفلسفة نقلا لا معايشة. وهو اتهام قاس إذ كيف يستفيد ابن طفيل منهم أولًا البحث والنظر وهم منتحلو الفلسفة؟ ربما كان ذلك أشبه بعلاقة سقراط بالسوفسطائيين الذين يعيشون من الفلسفة بينما يعيش سقراط لها.

وقد انحرفت الفلسفة العقلية عند ابن طفيل، تلك التي أسسها الكندي والرازي. وقد بدأ الانحراف عند إخوان الصفا والذي تحول إلى فلسفة إشراقية حتى أتى ابن رشد وحاول ردها إلى الفلسفة العقلية الأولى. لم تعد القضية الصلة بين الدين والفلسفة بتعبير الكندي أو الحكمة والشرع بتعبير ابن سينا أو الحكمة والشريعة بتعبير إخوان الصفا وابن رشد بل القضية هي المعرفة التي تشرق في النفس بعد التأمل في الطبيعة، الاتفاق بين التصوف والفلسفة. أصبح الموضوع أقرب إلى نظرية المعرفة وقوى النفس الحسية والعقلية منه إلى الصلة بين الحكمة والشريعة بالرغم من وجود شخصيتين عند ابن طفيل. الأول يرمز إلى الحكمة والثاني إلى النبوة يلتقيان ويتفاهمان.

والقصة أقرب إلى وصف حالة شخصية وتجربة فريدة، كما هو الحال عند الصوفية في وصف الحالة الذاتية وتحليلها. لذلك يحيل ابن طفيل إلى أقوال الجنيد والبسطامي دون ذكرهما. وهي أحوال الاتحاد والحلول التي عبر عنها الحلاج في شطحات مثل «أنا الحق»، «سبحاني ما أعظم شأني»، «ليس في الثوب إلا الله». أما الغزالي فقد صمت عن أحواله ثم حذقته العلوم وأدبته المعارف وأنشد.

فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرًا ولا نسأل عن الخبر
فهل منعت الشريعة من الخوض فيها أم إن الغزالي هو الذي منع من الخوض فيها من صورتها الكلامية في «إلجام العوام» أو الباطنية في «المضنون به على غير أهله»؟ كما تظهر مصطلحات الصوفية مثل المشاهدة والذوق والحضور والولاية. وهي حالة من البهجة والسرور واللذة والحبور لا يمكن كتمانها أو إخفاؤها بل تعبر عن حالة من الطرب والنشاط والمرح والانبساط.١
ويخاطب ابن طفيل القارئ كي يشركه معه في تجربته كما فعل إخوان الصفا من قبل، وكما هي العادة في الفلسفة الإشراقية، مشاركة القارئ في الحكم والتجربة وإلا كان مقلدا، فبين المؤلف والقارئ مودة وتجربة مشتركة ومراجعة ويقين، والأخذ بيد القارئ حتى يدرك ما يدركه المؤلف مما يستلزم الوقت والفراغ والعمر والزمن.٢

الإشكال إذن هو التباين بين نوعين من المعرفة، المعرفة العقلية والمعرفة القلبية، بين النظر والذوق وليس بين الفلسفة والدين. الخلاف بين منهجين في المعرفة أو مستوين أو رتبتين لها. والموضوع واحد، والكشف واحد. ولا يمكن جعل التقابل بين النظر والذوق تقابلا بين الفلسفة والدين لأن الفلسفة قد تكون نظرًا كما هو الحال عند الحكماء مثل الكندي والرازي وابن رشد أو ذوقًا كما هو الحال عند الفارابي وابن سينا وأنصار الحكمة الإشراقية. والدين أيضًا قد يكون نظرًا وبرهانًا كما هو الحال في الإسلام، وهو طريق إبراهيم أو ذوقًا كما هو الحال في المسيحية وطريق السميح ومريم العذراء والصوفية.

والفرق بين المنهجين أن المشاهدة لا يمكن وضعها في كتاب. وإذا حدث ذلك استحالت وتحولت على علم نظري حسي من عالم المشاهدة الحسية. واختلفت العبارات إذ لا يمكن التعبير عن المطلق بالنسبي وإلا تم الوقوع في الشطحات، والألفاظ عاجزة عن التعبير عنها. أما النظر فيمكن وضعه في كتاب وعبارات ولكنه نادر. ومن حصل عليه يستعمل الرمز للتعبير عنه. ومنعت الشريعة من الخوض فيه. وحذرت منه. وهو شيء نادر لا سيما في الأندلس. ولا يظفر باليسير منه إلا واحد بعد آخر. ومن ظفر بشيء لا يكلم الناس إلا رمزًا. ولا تفي فلسفة أرسطو والفارابي وابن سينا بذلك ولا أحدًا من الأندلس قبل شيوع المنطق والفلسفة. قطعوا الأعمار في الرياضيات ولم يصلوا إلى شيء. ويعطي ابن طفيل صورة متشائمة للعلوم الإنسانية في عصره، حقيقة لا يمكن الوصول إليها وباطل لا يفيد.٣ فهل الفلسفة ومنهج النظر نادران في الأندلس؟ وماذا عن ابن باجه؟
وتجربة ابن طفيل أنه بدأ بالبحث والنظر ثم مشاهدة بالذوق عكس السُّهروردي صاحب «حكمة الإشراق» الذي حدث له ما حدث بالذوق ثم طلب البرهان عليه. وإذا كان التأليف مستحيلًا في علوم المشاهدة فكيف أمكن كتابة «حكمة الإشراق»؟٤ وإذا كان ابن طفيل قد نقد طريق النظر فكيف يصبح هو من أهل النظر أولًا قبل أن يصبح من أهل الكشف؟

يمتاز الذوق على النظر بميزتين: الأولى الوضوح، والثانية معرفتها بقوة على سبيل المجاز لأنه لا يوجد له مصطلح دقيق في الألفاظ الشائعة أو في الأسماء الاصطلاحية. أما منهج الذوق فلا يتم عن طريق النظر المستخرج بالمقاييس وتقديم المقدمات وإنتاج النتائج. منهج الذوق مثل الأعمى الذي عرف بالفطرة والحدس سبيله في المدينة وفجأة أبصر فوجد ما عرفه تمامًا مثلما شاهد ولكن زاد عليه أمران. الأول زيادة الوضوح، والثاني اللذة العظيمة. منهج الذوق إذن هو الابصار وهي مرتبة الولاية في حين أن منهج النظر هو العمى، وهي مرتبة البحث: والسؤال: إذا كانت الولاية من الله فما فضل الإنسان فيها؟ وإذا كان البحث اجتهاد إنساني فأين استحقاقه؟ والسؤال الأعم: ألا يوجد إلا هذان الطريقان؟ وماذا عن تحليل التجارب الشعورية الذي يجتمع فيه الذوق والنظر، التجربة والحكم؟

(٢) الخلق أم التولد الذاتي؟

وتبدأ القصة بعرض نظريتي الخلق والتولد الذاتي كاحتمالين متقابلين لنشأة حي بن يقظان.٥ الأولى يقول به الدين، والثاني تقول به الفلسفة والفلسفة الطبيعية بوجه أخص. وكلا النظريتين محتملتان دون تفضيل أحدهما على الأخرى أو القطع بصحة أحديهما وخطأ الأخرى مما يبقى التساؤل حيًّا مثيرًا للفكر والاختيار مفتوحًا وهو نفس موضوع خلق العالم وقدمه ولكن بصيغة أخرى. الخلق هو الخلق من عدم، والتولد الذاتي صياغة جديدة لقدم العالم؛ لأن المادة تنشأ من مادة، من درجة معينة من الحرارة ودرجة معينة من الرطوبة تنشأ الخلية. نظرية الخلق تفسر نشأة الإنسان بوجود آدم، والتولد الذاتي تصف وجود الإنسان من غير أب وأم. وتتفق النظريتان في تكوين الجنين لأن التولد الذاتي في الحقيقة تخلق ذاتي. وهو ما أشار إليه الوحي في وصف مراحل تكوين الطفل في رحم الأم، العلقة فالمضغة فاللحم فالعظم. وقد يكون للاسم «حي بن يقظان» دلالته بالنسبة للنظريتين، الحياة ابنة اليقظة. وهو تصور مثالي يجعل الحياة المادية نتيجة ليقظة الوعي وفجر الضمير وليس العكس، انبثاق الوعي من الحياة كما هو الحال في النظرية التطورية في الغرب الحديث.٦
والسؤال الآن: هل كان ابن طفيل على وعي بدلالة هاتين النظريتين اللتين تجسدان التقابل بين الدين والعلم أو الدين والفلسفة أو بتعبير شائع الإيمان والإلحاد؟ ومن كان يمثلهما في عصره؟ هل احتمال التولد الذاتي عند ابن طفيل من أثار ابن رشد وقوله دفاعًا عن الفلسفة بقدم العالم على نحو جدلي لإثبات احتماله، وابن طفيل أستاذ ابن رشد؟ ولماذا لا يذكره ابن رشد وينتسب إليه ويحتمي به؟ وكيف يخرج العقلاني المعادي للإشراق وهو ابن رشد من جبة الإشراقي المعادي للعقل الخالص وهو ابن طفيل؟ وهل كان ابن طفيل يقصد في نقده للمنتحلين للفلسفة الناقلين لها الشارحين لنصوصها دون أن تكون لهم تجربة شخصية أم إن الحسد بين الفلاسفة يأخذ التلميذ من الأستاذ ثم يقلبه رأسًا على عقب ولا يذكره؟٧

وكيف يعرض ابن طفيل لنظرية التولد الذاتي وهو الإشراقي؟ هل هي أقرب إلى الفيض من حيث يمحي الفرق بين الله والعالم، بين الروح والمادة، بين النفس والبدن، حيث إن الخلاف بينهما في الدرجة وليس في النوع؟

ومن الصعب معرفة إلى أي من النظريتين ينتسب ابن طفيل؟ يبدو أحيانًا أنه من أنصار التولد الذاتي لأنه يعرضها بطريقة معقولة ومسهبة. كما أنها تقوم على برهان، ومن ثَمَّ فهي يقين. في حين أن نظرية الخلق مجرد رواية عن الأنبياء. ويقين الخبر خارجي وليس داخليًّا، عن طريق السند وليس عن طريق المتن، بصحة التواتر. وهو التعارض بين النقل والعقل. يعرض نظرية التولد الذاتي ولا يحكم بخطئها أو صوابها هل هي وهم أم حقيقة؟٨

وفي نظرية الخلق تبدو صور القرآن من قصص الأنبياء في إلقاء حي في أليم كما ألقت أم موسى موسى في أليم خوفًا من الملك الغشوم الجبار العنيد. الطغيان السياسي طبيعي في البشر. والهروب منه تجنبا له طبيعي أيضًا. ويضيف الخيال الشعبي على القصص القرآني برفض الملك القاهر تزويج أخته لأنه غير كفؤ لها، وهو الفيلسوف. فالقهر السياسي مقرون بالقهر الاجتماعي وبالوضع الطبقي. فلما تزوجها يقظان سرًّا طبقًا لمذهبهم المشهور، ربما زواجًا عرفيا مثل هذه الأيام، بعيدًا عن مذهب الفقهاء وسطوتهم حملت ووضعت وخافت على رضيعها فوضعته في صندوق بعد الرضاع. وحملته مع خدمها إلى البحر وقلبها يخفق صبابه به وخوفًا عليه. كانت مؤمنة تعرف الله وفي الذهن آية وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا. وقد رد موسى إلى أمه في القص القرآني كي تقر عينا. وأحيانًا يظهر القرآن لفظا مثل لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. أدخله أليم إلى أجمة، ملتقى الشجر. فلم يجرفه التيار. والمد عادة لا يأتي إلا بعد عام وكأن معجزة حملته إلى هناك. والانتقال من أليم إلى الجنة تصوير يمحي فيه الفرق بين الواقع والخيال، وتظهر الصوفية ورموزهم. فهو محجوب من حرارة الشمس، ثم انحسر الماء في الجزر وظل على الشاطئ، وهنا يتداخل التفسير العلمي الجغرافي مع التفسير الرمزي الصوفي.

ولما بدأت مسامير التابوت في الانفكاك بفعل صدأ الحديد وتفاعله مع الماء، واشتد الجوع بالطفل بكى واستغاث وتحرك فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها خرج من مكناسه فحمله العقاب. الجوع انفعال أول، والصوت انفعال ثان، والحركة انفعال ثالث. والحيوان متصل بالإنسان وقريب منه كما عرض إخوان الصفا. وجدت فيه الظبية التي فقدت وليدها بعد أن خرج من جحره فحمله العقاب، وحشية الغاب وقانونه. وجدت فيه البديل والإشباع النفسي. حنت الظبية إليه والقمته حلمتها، وأرضعته ثديها، وأشربته لبنها. فالغذاء واحد في الإنسان والحيوان. تعهدته وربته ودفعت عنه الأذى. فلما عاوده الجوع عاودت الرضاع. ويظهر التصوير القرآني من بعد مثل سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ. ثم يعود الخط الروائي بعد القوسين عن تخلق الجنين والجوع والصوت وحنان الأم والتعويض.٩
وينشأ التولد الذاتي من اجتماع الحار والبارد والرطب واليابس أي العناصر الأربعة في قدر من الزمان. فالزمان عنصر مكون للظاهرة الطبيعية.١٠ وتتخمر العناصر بنسبة معينة من التكافؤ والتعادل. ويبدو الوحي في التصوير من بعيد، خلق آدم من الطين وهو أحد العناصر ثم نفخ الله فيه من الروح وهي النسبة المتعادلة. نشأة آدم طبقًا للتولد الذاتي ونشأة بني آدم طبقًا للخلق جمعا بين النظريتين. لذلك كان آدم أبو البشر، وأول الأنبياء حتى لا توجد المادة بلا روح، والبدن بلا نفس، والعالم بلا إله. وأفضل النسب ما كان معتدلا منها وهو الوسط. وتمخض الطين منه. وحدثت فيها نفاخات الغليان للزوجتها. ونشأت لزوجة ونفاخة انقسمت قسمين بينهما حجاب رفيق ممتلئة بجسم لطيف هوائي معتدل فتعلق به الروح وهو من أمر الله بحيث لا تنفصل عنه في الحس والعقل. وهذا الروح دائم الفيضان من الله، وهو مثل نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم. والروح فياض على باقي الموجودات بأمر الله. وهذا معنى حديث «إن الله خلق آدم على صورته». قوى فيه هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور فيها، وتبقى وحدها مرآة تعكس نفسها محرقة لسواها كما هو الحال بالنسبة للأنبياء. وبفضل هذا التعلق للروح بالطين سجدت للإنسان كل الموجودات وسخرها الله له. ويختلف التخمر بين الطرفين والوسط. الوسط أعدل مزاجًا. والفرق بين الأجسام الخفيفة الشفافة والثقيلة في عكس الضوء كالخلاف بين المرآة المقعرة والمحدبة في شدة الضوء، وكذلك الخلاف بين الحيوان المعتم والإنسان الشفاف في عكس الضوء. والأنبياء أعلى صور الإنسانية ثم انقسمت القرارة الأولى، الخلية بتعبير المعاصرين في الغرب، ثلاثًا بينها حجب لطيفة ومسالك. وامتلأت بالهواء من نوع ألطف. هذه القسمة الثلاثية هو الوعاء لقوى النفس الثلاث. والرئاسة فيها للروح الأول. هناك رئيس ومرءوس منذ الخلق الأول. وتختلف بينهما خفة وثقلًا. الخفيف إلى أعلى، والثقيل إلى أسفل. والعلاقة بينهما علاقة الخادم بالمخدوم، والناقص بالكامل، علاقة السيد بالعبد في العظم واللحم والدم، علاقة التسخير التي عبر عنها التصور الهرمي للعالم. وبعد التشريح والطب يأتي التاريخ والجغرافيا، القلب في المركز والأعضاء في الأطراف، والمركز سابق على الأطراف كما أن الرئيس سابق على المرءوس. ثم يحتاج القلب إلى الدماغ الذي يتكفل بالحس وإلى الكبد الذي يتكفل بالغذاء. ثم تنبثق الشرايين والعروق كما تنبثق الأدوية والوديان. وهي تشبيهات معروفة عند إخوان الصفا. ثم نشأت العواطف والانفعالات بعد أن ثبتت في النفس أمثلة للأشياء بعد مغيبها عن المشاهدة، نزوعًا إلى بعضها وكراهية للبعض الآخر. فالانفعالات مقاصد نحو الأشياء، والغائبة بعد حضورها.١١
ينتقل ابن طفيل إلى الطبيعيات الخالصة. ويترك الخط الدرامي للرواية ويصور الروح في المادة تصورًا ماديا، فهواء في غشاء رقيق مملوء بالهواء في لزوجة في طين.١٢ وأحيانًا يبدو التولد الذاتي للبدن فقط ويظل الروح من أمر الله. بالرغم من أن النظرية بها إعلاء من شأن الروح أكثر من نظرية الخلق إلا أنها مخترقة بتدخل فيضان من الله وأمر الله والفعل الخارجي. لذلك تظهر عبارات الإشراق مثل الفيض والنور. وواضح منذ البداية استعمال لفظ الله عنه دون انتظار إثبات وجوده بعد أن يترقى حي، ويصبح قادرًا على البرهان. فالقصة ليست بلسان حي من الداخل بل وصف ابن طفيل لتطور حي من الخارج. يستبق ابن طفيل الأحداث، ويسرع إلى النتائج قبل أن يرسي المقدمات. ويتحدث عن المطلوب إثباته وكأنه قد ثبت مثل استعمال بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والوحي لم يثبت بعد بل إن الوعي الإنساني لم يتخلق بعد.١٣

(٣) مراحل تطور الوعي

ويتطور الوعي في مراحل ست، من سن الثمانية حتى الخامسة والثلاثين، نشأة وتكوينًا، بداية واكتمالًا. وهي نفسها مراحل التربية الطبيعية التلقائية. فالطبيعة خير معلم.١٤ وبصرف النظر عن الاختلاف في النشأة إلا أن التربية واحدة وكأن الوعي اكتساب وليس طبيعة، مسارًا وليس بذرة، في النهاية وليس في البداية.١٥ وفي تتبع مراحل الارتقاء يبدو الوحي وكأنه متحقق في الطبيعة، لا فرق بين التأويل والتنزيل، بين المعنى النازل من النص والمعنى الصاعد من الطبيعة. الأولى مرحلة الطفولة، والثانية الصبا، والثالثة الفتوة الشباب الرجولة المتقدمة، والرابعة الشباب أو الرجولة المتأخرة، والخامسة الكهولة المبكرة، والسادسة الكهولة المتأخرة.

ولا توجد علامات واضحة بين المراحل. فالمرحلة الأولى تتأرجح بين الميلاد حتى الثانية وبين الثانية حتى السابعة. فالثانية والخامسة سن المرحلة. كما تتأرجح المرحلة الاخيرة من الخامسة والثلاثين حتى الخمسين، مرحلة الرجولة المتأخرة وبين الخمسين حتى الستين، مرحلة الشيخوخة المبكرة وهو عمر الأنبياء ولا تذكر مرحلة الشيخوخة المتأخرة من الستين حتى نهاية العمر. وقد عاش أنبياء بنو إسرائيل فوق المائة عامًا.

وهي مراحل غير متساوية. تتحدد ببداياتها وليس بنهاياتها: الثانية، السابعة، الواحد والعشرون، الثمانية والعشرون، الخامسة والثلاثون. الأولى سنتان، والثانية خمس سنوات، والثالثة أربعة عشر عامًا، والرابعة سبع سنوات، والخامسة سبع سنوات، والسادسة خمسة عشر عامًا. وواضح أن العدد سبعة هو وحدة الفترة الزمنية في الغالب طولًا وقصرًا. جمعًا وفرقًا. الأولى والثانية سبع سنوات جمعًا. والثالثة أربعة عشر عامًا تضعيفًا، والرابعة سبعة أعوام قصرًا، والخامسة أيضًا سبعة أعوام قصرًا. والسادسة خمسة عشر عامًا أي تضعيفًا بالإضافة إلى عام زائد.
  • المرحلة الأولى: وهي مرحلة الطفولة سنتان، التغذي فيها بلبن الظبية. ومتى عاد اللبن إليها أرضعته. فالطبيعة قادرة على تلبية الاحتياجات. ثم يكون الإطعام عن طريق الثمار الساقطة.١٦ وتبدأ التربية البدنية بتعلم المشي والتدرج فيه. وتظهر الأسنان. وعندما تكسر الظبية القشر الجاف بأسنانها يتعلم حي بداية الصناعة من الطبيعة. ثم يبدأ الكلام بتقليد الأصوات، تابعا الظبية حيثما سارت. التعلم في البداية عن طريق التقليد والتبعية. تحرسه الشمس نهارًا، وتدفئه الظبية من البرد بريشها ليلا. فيتعلم كيفية التفاعل مع الطبيعة، الاستفادة بها والحماية منها. الطبيعة إيجاب وسلب، صديق وعدو، مع الإنسان وضده. وتتراءى الصور القرآنية عن بعد عندما يجن الليل على إبراهيم. وتألفه الوحوش لأنه معها. ثم يبدأ الميل إلى بعضها والنفور من البعض الآخر بعد غيابها، فتنشأ انفعالات المحبة والكراهية. ويظهر التوهم. ويلاحظ أجسام الحيوان وكيفية استعمال أبدانها للدفاع. فيتعلم الإنسان من الحيوان أن يصنع آلات تشبه مخالب الحيوان للدفاع. ويقارن جسده بجسد الحيوان فيجد مخارج الحيوان مغطاة حماية طبيعية للحيوان، والإنسان دون غطاء فيكتشف العورة. ويفكر في سلامة البدن من العاهات قبل سلامة الروح.١٧ إذ يكتشف الإنسان بدنه قبل روحه. البدن ظاهر، والروح خفية. ويبدأ التفكير دون بحث عن العلل لأن التفكير بالعلة يمثل مرحلة أعلى في ظهور الوعي.
  • والمرحلة الثانية: مرحلة الصبا من الثانية حتى السابعة. فبعد أن يكتشف العورة في المرحلة الأولى، الحيوان مغطى والإنسان معرى يقصف بأوراق الشجر العريض عليه من الأمام والخلف ثم يلف حزامًا من الخوص لتعليق الأوراق. وهي صور قرآنية عن هبوط آدم إلى الأرض. ثم تتساقط الأوراق بعد أن تجف حتى لو كثرت. فالكم لا يغنى عن الكيف. ثم يكتشف قوة الجلد من نسر ميت مستر العورة، ويضعه لباسا عليه على الظهر والسرة والعضدين أكسبه مهابة ودفئًا ومستفيدًا بالطبيعة وما تقدمه من نماذج ومواد. فالطبيعة خير معلم. ثم يأخذ من أغصان الشجر يصنع عصيًّا للدفاع عن نفسه فيكتشف الأسلحة والنبالة أي إطلاق السلاح والإصابة به عن بعد. ويكتشف آلات الصيد التي يقوى بها على الحيوان فيأسره. لم تدن منه إلا الظبية، وتتعرف عليه مهما تغير. ومن ثَمَّ تنشأ العواطف مثل الأمومة نشأة طبيعية. ولا تخطئ في الحيوان أو في الإنسان.١٨ ويكتشف الموت بعد سكون الظبية وعفونه رائحتها، والتعلم من الغراب طريقة الدفن عندما نبش في التراب ليواري الغراب الميت كما تعلم قابيل بعد قتله هابيل. الصورة القرآنية في الذهن تتحول إلى واقع حي. وهو نوع من التأويل الطبيعي بالعودة من الصورة إلى الواقع، ويدرك الفرق بين النوم والموت، يقظة بعد النوم وموت أبدي. ويبحث عن العضو الوسط سبب الموت وهو القلب المحجوب بالداخل بالرغم من حسنه وجمال شكله. ولعل داخله شيء آخر غير الدم. فما زال التصور كميًّا ماديًّا للنفس. ويتعلم التشريح. وينتقل من الجسد إلى الروح، وعلاقة النفس بالبدن، ويشعر بحرارة الحيوان والبخار والحواس والأعصاب. انتقل من الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه واشتاق إليه. ونفس العلاقة في جسم الحيوان بين الخادم والمخدوم، علاقة النفس بالبدن.١٩ ويكتشف النار وانتقالها والطهي للحيوانات البحرية والغذاء والحرارة. وتتراءى الصورة القرآنية عن بعد عندما رأى موسى نارًا نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فالنار منفعة كالدفء والطهي والهدى. النار والنور من مصدر واحد. ويتعلم حي من القياس على ذاته.٢٠ كما يتعلم عن طريق التجربة بدافع حب الاستطلاع والجرأة والقوة عندما قيس من النار فأحرقت يده. فأخذ قبسًا لم تستول النار على جميعه. أخذه بطرفه السليم والنار في الطرف الآخر كما هو الحال في الشعلة. فتأتى له. فحمله إلى كهفه وأستأنسها. ويسبق ابن طفيل الحوادث ويتحدث عن الله وهو لم يثبت بعد.
  • والمرحلة الثالثة: مرحلة العقل من السابعة إلى الواحد والعشرين. يكتشف اللباس من جلود الحيوانات بعد اطالتها وضمها بعضها إلى بعض بالإبرة والخيط، ويكتشف الحياكة. ثم يكتشف البناء تقليدًا للكهوف، بدلًا من الداخل تحت الأرض يكون إلى الخارج فوق الأرض. وهي صورة قرآنية عن نحت البيوت في الصخر وإقامة الخيام من الظعان. ويكتشف الحيوانات المنزلية الأليفة ثم الركاب للمساعدة في الصيد، والصورة القرآنية عن بعد وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً. ثم يبدأ الفكر والتأمل في عالم الكون والفساد واستباقًا للحوادث من حيث المفاهيم ونشأة الألفاظ. ويتأمل في الوحدة والكثرة، والقسمة والتركيب، والمادة والصورة، والثقل والخفة والطفو، والجهات الأربع: العلو والسفل، اليمين واليسار، والعناصر الأربعة: اثنان في اثنان: الماء والهواء، والنار والتراب. ويكتشف النفس ويميز بين النفس الحيوانية وما بها من إرادة، والنفس النباتية دون الإنسانية. كما يتعرف وظائف النفس في التغذي والنمو والتوليد. يدرك الصورة بالعقل، والمادة بالحس. فالصورة أول ما لاح من العالم الروحاني. وللروحاني هنا معنى مجازي أي مجرد غير مرئي قبل أن يتحول إلى معنى ديني مغترب مثل الروح الحيواني. ثم طلب حقيقة هذا الشيء وهو النفس.٢١ تبدأ المعرفة من المحسوس إلى المعقول. وتظهر مقولات الظن واليقين وتبدأ الذاتيات الفارغة. ويتحول الفكر الطبيعي إلى فكر ذاتي وجودي. وتهتز ثقة العقل بالطبيعة فيكتشف البعد النفسي. ويبدأ الاغتراب وتظهر لغة الشوق الذي يعني في البداية حب الاستطلاع. ويشتد التطهر والاغتراب في البحث عن الأعلى باستمرار. ثم يصاغ دليل القدم والحدوث بلغة الافتقار كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر متداخلًا مع دليل العلة والمعلول، وأنه لا فاعل إلا الله كما يقول الصوفية. ويستشهد بالقرآن استباقًا للحوادث. فالوحي لم يثبت بعد. والسماء لم تكتشف بعد. كما أن هناك استباقًا في استعمال مصطلحات فلسفية دقيقة والحديث عن الله ولم يثبت بعد بالإضافة إلى بعض التكرار في النفس الحيوانية والنباتية وقواهما، وفي القلب وموت الظبية والتشريح. وهناك استباق ثالث عندما يبدأ حي بدراسة علوم الحكمة ثقة بالنفس وبالعقل وبداية بالعالم تأويلا وليس تنزيلًا. فلا خوف من الإلحاد الذي قد يكون هو الطريق إلى الإيمان ليس فقط على مستوى التجارب والأزمات النفسية مثل رابعة والخيام بل على مستوى التأمل في الطبيعة مثل تشخص الإله في إرادة. ويتم الاغتراب فيه، ويصبح وسيلة للخوف والقهر أو أداة للثورة والغضب.٢٢
  • والمرحلة الرابعة: مرحلة الرجولة من الواحد والعشرين إلى الثامن والعشرين وبالرغم من طول الفترة إلا أن التوتر يزداد، والايقاع يتسارع، وتتحدد الفترات الداخلية بالشهور والأسابيع والأيام بدلًا من سنوات العمر وذلك لقرب الكشف.٢٣ فالتراكم الكمي قد يؤدي إلى تغيرات كيفية متسارعة. يتم التحول من الأرض إلى السماء، قلب النظرة من أسفل إلى أعلى بعد قلبها من الخارج إلى الداخل. والسماء منطقة متوسطة بين التناهي (الأرض) واللاتناهي (الله). كما يتم التقابل بين العوالم، العالم الأصغر والعالم الأكبر، الحيوان والطبيعة كما هو الحال عند إخوان الصفا. وتستمر مقولات المعرفة وأنماط الاعتقاد في الظهور مثل الحيرة والشك واليقين وأفعال الشعور التأملي، التفكير والرأي والنقل والحكم والاستدلال والبرهان. ثم تنكشف الطبيعة بأفعال البيان. وحي بن يقظان نموذج لكل إنسان. ويظهر دليل الحدوث مرة ثانية بعد إدراك عالم الكون والفساد الذي يميل إلى عالم الثبات والدوام. ثم يتشخص هذا العالم الجديد في فاعل مختار مريد. ويتحول العالم كله إلى تصور هرمي بين الأعلى والأدنى أو دائري بين المركز والأطراف. ويصاغ دليل الحدوث بطريقة شخصية، طريقة إبراهيم الخليل، استحالة أن تتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية. ويُرفض قدم العالم، ويحاجج أنصاره بلغة الافتقار والتدمير. ثم يوصف هذا الفاعل الحق المختار المنزه الذي ليس بجسم والذي يعتني بالعالم انتقالًا من الذات إلى الصفات كما هو الحال في علم الكلام. ويستعمل ابن طفيل مصطلحات الإيمان قبل الأوان مثل «سبحانه». ويستشهد بالآيات القرآنية أربع مرات والوحي لم يثبت بعد. فيثبت له صفات الكمال مثل التمام والحسن والبهاء والقدرة والعلم والهوهو، وينفي عنه صفات النقص. وتتخلق الصفات بألفاظ كلامية مثل القدرة والعلم، وصوفية مثل الحسن والبهاء بل وشطحات مثل الهوهو.٢٤ فالتفكير الديني بناء على التجارب الشخصية التي مر بها حيان. وربما كان التفكير في الذات والصفات اقتضاء ومطلبًا وإحساسًا بالهوية والغيرية تعبيرًا عن الداخل وليس وصفًا لموضوع في الخارج.٢٥
  • والمرحلة الخامسة: مرحلة الإيمان أو الدين من الثامن والعشرين إلى الخامس والثلاثين. يبدأ التركيز على الفكر وليس على الطبيعة، على النتيجة وليس على المقدمة، على الفاعل وليس على المفعول، بداية لفقدان التوازن بين العالمين، واستمرارًا في الاغتراب الديني، والتحول من العقل إلى الإشراق. ويصبح كل شيء في العالم أية ودليل عليه بحيث يضيع العالم كعالم مستقل وليصبح مجرد حامل لدلالات إلهية بحيث يمحي الفرق بين الطبيعيات والإلهيات. ينتهي العلم، ويبدأ الدين، انتقالًا من الصنعة إلى الصانع، وعودًا إلى التشخيص في علم الكلام، من واجب الوجود إلى الفاعل المريد. وكلما زاد الاغتراب ظهر الأدب والتشبه بنور الشمس. فالأدب والدين من جنس إنشائي واحد. تظهر صورة الشمس والمرآة والانعكاس مما يكشف عن نرجسية وذاتية فارغة وإنشائيات عندما تخلق الذات موضوعًا من ذاتها. وتتضخم الذات بفعل الخيال، ويصبح لها سبعون ألف وجه وسبعون ألف فم، وسبعون ألف لسان للتسبيح بما للعدد سبعة من دلالة رمزية. ثم يظهر عالم التجربة الشخصية كاشفا عن الأزمة النفسية، الاغتراب عن العالم. فيشتد الشوق، وينزعج القلب، يزداد الانفعال، ويضيع العقل. ويذكر الجنيد للالتحاق به بعد أن تحولت الفلسفة إلى تصوف. وتظهر لغة الفناء الصوفي لدرجة الإغراق في التصوف. وتستعمل عبارات الغزالي وما يذكره من مرويات «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وتظهر مصطلحات الصوفية من مقامات وأحوال خاصة مقام الصدق وألفاظ مثل الاستغراق، والحصن، والفناء التام، وحقيقة الوصول، والغيبة، والمشاهدة، والتلويح، والإشارة. وتستعمل لغة البهاء والكمال واللذة والحسن والفرح والغبطة والسرور ومصطلحات العهد والربط. ويعجز اللسان عن التعبير والعقل عن الوصف كما هو الحال في نقد اللغة عند الصوفية ويظل التردد بين الأرض والسماء، بين وصف أحوال الصوفية واستقراء الوقائع. وتتكرر العودة إلى النظر إلى الكواكب والأفلاك والعناصر الأربعة، واستعمال لفظ الأسطقسات ثم البحث عن الكمال والتمام والتشبه بالكامل، ومحاكاة الله مرة قياسًا، ومرة استقراء، ومرة قياسًا استقرائيًّا أو استقراء معنويًّا كما هو الحال في علم الأصول.٢٦ وتستمر هذه النزعة الصوفية في بداية المرحلة السادسة، الرغبة في المعاودة إلى مقام الوصل. وهي أسهل وأقصر نظرًا لاكتساب الخبرات، وتحول الاكتساب الأول إلى عادة، والعادة إلى اعتياد. ويبدى الرغبة في أن يريحه الله من بدنه كلية حتى يظل معه، تطهر وتطهيرًا. وتتأسس نظرية المعرفة، انطلاقًا من الحواس إلى الخيال أو وسيلة أخرى لم يسمها ابن طفيل حتى الآن. فلا سبيل إلى إدراك ما ليس بجسم إلا بما ليس بجسم، استحالة إدراك الله إلا بالروح أو النفس بحيث يشرق على النفس. فالإشراق طريق المعرفة. فيه يتحد الذات بالموضوع. فكلاهما كيف. وكلاهما يشتركان في الصفات مثل البقاء. ويتحول الأسلوب الفلسفي العقلاني مثل الجوهر والعرض، والصورة والمادة، والعلة والمعلول، والقديم والحادث إلى أسلوب إنشائي خطابي، أتم وأبهي وأحسن. وتتشخص صفات الكمال. وتظهر ألفاظ العظمة والسلطان بحيث تتداخل أوصاف الله وأوصاف السلطان. وحتى الآن لا تفنى الذات الإنسانية في الذات الإلهية ولكنها تفنى بعد ذلك، ولا تبقى إلا ذات الله الحافظة لكل الذوات.٢٧
    وبعد التوجه من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة يعود الفكر إلى العالم الأوسط وهو الإنسان بين الطبيعة والله. فالطبيعة تحيل إلى الله، والله يحيل إلى الإنسان، من العلة المادية إلى العلة الفاعلة (أو الصورية) إلى العلة الغائية. فالأغراض ثلاثة: الأول عمل يتشبه به الحيوان غير الناطق، وهو البدن المظلم. والثاني عمل يتشبه بالأجسام السماوية وهو روح الحيواني. والثالث عمل يتشبه بواجب الوجود وهي الذات. ولا يظهر حتى الآن لفظ الإنسان لأن بطل الرواية ذات وليس موضوعًا بل مجرد فكر تأملي، وبحث نظري. الأول يصرف عن المشاهدة لأنها تصرف إلى الأمور المحسوسة. والثاني مشاهدة مختلطة. والثالث مشاهدة صرفة واستغراق محض. وأحيانًا تتداخل القسمة الثنائية مع القسمة الثلاثية. فالغرض الأول، ما يشبه به الروح الحيواني، هو البدن، ما يحده من الداخل من غذاء، البقول والفواكه والحيوانات البرية والبحرية، وما يقيه من الخارج من حر وبرد ومطر وشمس، وحيوان مؤذ وهو الملبس والمسكن. والثاني التشبه بالأجرام السماوية. وهي أوصاف بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد أو أوصاف لها من ذاتها شفافة نيرة طاهرة منزهة أو أوصاف لها بالإضافة إلى واجب الوجود. والثالث التشبه بواجب الوجود، إما إزالة العاهات أو الالتزام بواجب الطهارة وإزالة الدنس والرجس أو ملازمة الفكرة ذاتها، فكرة واجب الوجود. وتتكرر صفات السلب والإيجاب من علم الكلام، صفات السلب مثل الجسمانية ولواحقها من صفات التشبيه، والإيجاب مثل العلم والقدرة والحكمة وكل متطلبات التنزيه، صفات السلوب وصفات الثبوت. وقد يتداخل النوعان. ثم يغرق هذا التصنيف كله في التصوف والتجارب الذاتية. وتظهر بعض الألفاظ القرآنية مثل «ران» رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، والإشارة إلى الكتاب العزيز صراحة، وأسمائه ومصطلحاته، وصوره وتعبيراته، الجبال والعهن والفراش والتكوين والشمس. ثم تظهر آيتان فقط كقرآن حر بدلًا من الأسلوب مثل «أعرض واتبع هواه». وكل ذلك استباقًا للحوادث دون انتظار اكتمال المراحل حتى يثبت وجود الله ذوقًا وكشفًا وإرسال الأنبياء والرسل بالوحي والتبليغ. وكذلك يستبق النتائج بالحديث عن العالم الإلهي. مما يبين أن ابن طفيل كان يعرف المقدمة قبل النتيجة. فكانت تفر منه النتيجة وتظهر قبل مقدماته. فيذكر الله جل وتعالى وعز، ويشكره على النعم. وينكسر الخط الروائي ويتدخل ابن طفيل كراوٍ أول بالحديث عن النفس بضمير المتكلم. ويخاطب القارئ من أجل دعوته إلى سلوك نفس طريقه خروجًا على الخط الروائي. ويسترسل في حديث النفس لجذب الانتباه.٢٨
  • والمرحلة السادسة: من الخامس والثلاثين حتى الخمسين تظهر الشخصية الثانية في القصة، شخصية أبسال وهم اسم غير عربي على عكس اسم حي خاصة وأنه صاحب الشريعة والوحي، وكأن العربي صاحب النظر والأعجمي صاحب الوحي. وفي الأصل اليوناني شخصيتان ذكران، سلامان وأبسال. وتوحي بقصة يوسف وامرأة العزيز مما يدفع إلى السؤال عن العلاقة بين التراث اليهودي والتراث اليوناني على نحو تاريخي أو على نحو بنيوي.٢٩ فالطبيعة البشرية واحدة، وأهواء البشر تتكرر في كل عصر. ينتسب أبسال إلى ملة وليس فقط إلى دين. والملة دين لتعتنقه أمة. ثم تتحول الملة إلى دولة بعد أن يحمل ملك الناس على الالتزام بها. فالسلطة السياسية هي التي تحول الدين إلى نظام، وملة صحيحة وليست مزيفة، ومأخوذة من الأنبياء السابقين نظرًا لاستمرار الوحي. وقد افترق أبسال وسلامان على الطريقة اليونانية إذ لا يمكن الجمع بينهما. فالصراع بينهما هو الصراع بين الظاهر والباطن، الفقه والتصوف، الاجتماع والعزلة، التنزيل والتأويل، النفس والبدن. أراد كل منهما الاستغراق في مقاماته، موسى والخضر، يوسف وزليخة. كلاهما في الطبيعة البشرية ولكن أبسال أفضل. وهي نظرة ثنائية تطهرية صوفية لا يمكن الجمع بينهما باسم المصلحة العامة والجمع بين الدنيا والآخرة. تفقه كلاهما في ألفاظ الشريعة بعض الوقت. صفات الله، وملائكته، وأمور المعاد، والثواب والعقاب. كان أبسال أشد غوصًا في الباطن، وأكثر عثورًا على المعاني الروحانية، وأطمع في التأويل، وأوقف على التأمل. كلاهما جد في أعمال الشريعة ومحاسبة النفس ومجاهدة الهوى. ولما كانت في الشريعة أقوال متشابهة. بعضها يدعو إلى العزلة، وأخرى إلى المعاشرة، طلب أبسال العزلة لطباعه التأملية، وتعلق سلامان بالمعاشرة لطبيعته العلمية. وكان هذا الاختلاف سببًا في الافتراق. غادر أبسال وبقي سلامان. فالروح هي التي تغادر، والبدن هو الذي يبقى. الروح الشفافة قادرة على الطير، والبدن بثقله مرتبط بالأرض. غادر إلى جزيرة مجهولة بها حي. فالطيور على أشكالها تقع، والأرواح جند مجندة، ما تعارف منها ائتلف. وتتجاذب الأرواح إلى نفس المكان.٣٠
حط في جزيرة أخرى قريبة وصلتها الشرائع السماوية، ليس بالضرورة الإسلام على وجه خاص بالرغم من اتفاقه مع النظر. وقد وحَّد إبراهيم بين الطريقين. هي جزيرة بها وحي على أحد القولين. ولا يهمُّ الاحتمالان. فالنتيجة واحدة مثل نشأة حي بالخلق أو بالتولد الذاتي. الاختلاف في البداية لا يمنع من الاتفاق في النهاية. حط أبسال في جزيرة حي، وحي يعيش على الطبيعة عابدًا الله مثل أبسال. كان يعيش في مغارة لا يخرج. لذلك لم يعثر عليه أبسال. ولما خرج مرة تقابل مع أبسال الذي ظنه من عباد الله المنقطعين للعبادة ولم يتعرض له. فالوحي هو الذي يدرك الطبيعة ويراها. وتعجب حي من أبسال؛ لأنه لم ير إنسانًا قط في هذا اللباس. هرب أبسال حتى لا يشغله عن حاله لما أعطاه الله من قوة وبسطة في العلم والجسم طبقًا لتشبيه القرآن لداود وموسى، ولكن حي اقتفي أثره لأنه يريد معرفة حقائق الأشياء، فالطبيعة هي التي تبحث عن كمالها. قبض حي على أبسال واستأنسه بأصوات الحيوانات. ولما كان أبسال يعلم اللغات لمحبة التأويل لم يفهمه حي توجيها من صور آدم وتعليمه للأسماء وعرضها على الموجودات. أعطى أبسال بعض زاده إلى حي الذي استطاب الطعام ناقضًا عهده في صنع الغذاء زهدًا. وعلم أبسال حيًّا الكلام والعلم والدين احتسابًا لوجه الله. شرع أبسال في القراءة والتضرع والبكاء والتواجد دون أن يشعر بدنو حي منه. واستحسن حي صوت أبسال كما استحسن عمر سماع قراءة القرآن من حفصة وكما استحسن أوائل الصحابة موسيقاه. اكتشف حي لباس أبسال وأنه ليس جلدًا. ولما سمع أبسال من حي تلك الحقائق والذوات المفارقة للعالم الحسي ووصف ذات الله تعالى بأوصافه الحسنى ولذة الواصلين وآلام المحجوبين لم يشك أبسال في شريعة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأمور المعاد، وهو ما شاهده حي. فما عرفه أبسال نقلًا عرفه حي مشاهدة. فتطابق المعقول والمنقول، وقرب عليه التأويل. ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا وتبين له، ولا منغلق إلا وانفتح له، ولا غامض إلا وضح. فعظمه حي ووقره واعتبره من أولياء الله، والتزم بخدمته والاقتداء به والأخذ بإشاراته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي في ملته.٣١

تعلم حي اللغات بهذه السرعة في جلسة واحدة بدأ بعدها يتفاهم مع أبسال. ويبدو أن التعلم كان الأسماء والمفردات دون القواعد وحروف العطف والربط كما علم الله آدم الأسماء وكما هو الحال في الكتابة المصرية القديمة والصينية عندما كانت ترمز لكل شيء برسمه. ويلاحظ أن أبسال الذي عرف الوحي والنبوة والشرع هو المستفيد الأول والأخير وليس حيًّا، وكأن الوحي هو الذي في حاجة إلى يقين وتأويل وليس النظر الطبيعي. أبسال هو الذي ازداد يقينًا. والوحي هو الذي في حاجة إلى تأويل عقلي وطبيعي. الدين بلا فلسفة أو علم ظني. والفلسفة والعلم يقين لا يحتاج إلى دين. الفلسفة هي التي تعقل الدين وتعطيه يقينه. وهي في حاجة إلى برهان، وهي التي تقدم هذا البرهان. وفي نفس الوقت فهم حي ما قاله أبسال بلا صعوبة ووجده متفقًا مع ما يعرفه وعلمه حي، أن أبسال محق في قوله، وأن رسوله صادق وليس أن حي على حق. أبسال في حاجة إلى يقين وليس حيًّا لأنه على يقين من قبل. وصف أبسال لحي شأن جزيرته وما فيها وكيف كانت سيرتهم قبل الملة وبعدها بحجة الواقع والتاريخ. ووصف له ما في الشريعة من وصف العالم الإلهي والجنة والنار والبعث والنشور، والحساب والميزان والصراط. فهمها حي، ولم يرها خلاف ما شاهده في مقامه. أبسال عميق في وصفه، صادق في قوله، والرسول من عند ربه. فصدق برسالته. ولماذا تتنازل الفلسفة للدين وتنتسب إليها؟ تحول الفيلسوف إلى الإيمان ولم يترك المؤمن إيمانه إلى الفلسفة. يتنازل صاحب اليقين الأول إلى صاحب اليقين الثاني، ولا يتنازل صاحب اليقين الثاني إلى صاحب اليقين الأول. وقد يكون هذا هو الفرق بين النظر والعمل، بين الخاصة والعامة.

عيب الدين ما به من خيالات، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. ومن ثَمَّ تفضله الحكمة باعتبارها منطقًا للبرهان. سأل حي عن السبب في ضرب الأمثال دون مكاشفة وخطورة ذلك التجسيم، وكذلك ضرب الأمثال للثواب والعقاب، وضرورة التصوير. بالرغم من اقتناع حي بأن ما أتى به أبسال نبوة ورسالة من عند الله وصدق الرسول إلا أنه تعجب من ضرب الرسول الأمثال للناس في وصف أمر العالم الإلهي، وأحجم عن المكاشفة حتى دفع الناس إلى التجسيم في ذات الله. وهو منزه عنه، بريء منه، وكذلك في أمور المعاد. السبب في ذلك الجمهور الذي لا يقدر على الفهم إلا بضرب الأمثال والتشبيهات، ولا يقوى على أساليب البرهان. الدين للعامة، والفلسفة للخاصة.٣٢
وسأل حي عن الفرائض التي أتى بها أبسال وما وضعه من عبادات، الصلاة والصيام والزكاة والحجج وما شابهها من الأعمال الظاهرة. فالتزم بها حي، وامتثل لأوامرها ما دام صح عنده صدق قائلها. فحي يبدو هنا أشعري، الالتزام بالأوامر والنواهي لأن الشرع أمر بها وليس لحسنها أو قبحها في ذاتهما. إلا أنه بقي في نفسه شيء. سأل حي عن السبب في الاقتصار على هذه العبادات، وإباحة الملكية، والتوسع في مناهج الدنيا. كما أن أحكام الشرع في الأموال والزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود العقوبات تطويل. ولو ترك الناس لحالهم لفهموا هذه الأمور على حقيقتها، وابتعدوا عن الباطل من تلقاء أنفسهم، واقبلوا على الحق بفطرتهم. ولم تعد هناك حاجة إلى السؤال عن زكاة أو قطع الأيدي لسرقة. فالناس ذو فطر فائقة، وأذهان ثاقبة، ونفوس حازمة. فلماذا نفترض فيهم البلادة والنقص وسوء الرأي وضعف الحزم، وأنهم كالأنعام بل أضل سبيلًا؟ وهي حجة البراهمة في الاستغناء عن النبوة وإنكارها.٣٣ ربما أتت العبادات في الإسلام تاريخيًّا كرد فعل على روحانيات المسيحية، وإيجاد وسط متناسب بين الشريعة والمحبة، بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب، بين القانون والمحبة، كما أن العبادات في الإسلام وسائل لا غايات، تهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة. وهي أقصر الطرق إلى فهم العامة التي لا تستطيع فهم الحسن والقبح العقليين والفضائل في ذاتها.

وتظهر ضرورة التأويل في الشريعة لحل قضية الصراع بين الظاهر والباطن، والعامة والخاصة في نماذج من القصص القرآني. فقد ضلت سفينة في البحر مسلكها، ودفعتها الرياح. فأرسل الله ريحًا حملت السفينة مع ركابها في أقرب مدة إلى الجزيرة. فعظموه وأكبروا أمره. وأعلمه أبسال أن هذه الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس. وإن عجز عن تعليمهم، وهم الخاصة، فإنه أعجز عن تعليم الجمهور وهم العامة. إلى هذا الحد يأس حي من الجمهور ومن أعمال الشريعة فتبرأ من دعوته وأعتذر عنها. فلماذا ترك حي الناس؟ ما لا يؤخذ كله لا يترك كله.

ولما كان سلامان أقرب إلى ملازمة الجماعة، ويحرم العزلة بدأ حي في تعليمه وبث أسرار الحكمة، ويترقى من الظاهر في وصف ما فهموا خلافه. فانقبضت صدورهم، واشمأزت نفوسهم وإن أظهروا الرضا إكرامًا له ومراعاة لحق أبسال. الدهماء عاجزة عن العلم، وتخاف أن يظهر جهلها فتظهر الرضا. ظل حي يستلطفهم، ويبين لهم الحق، فلا يزيدهم ذلك إلا نفورًا، هم محبون للخير راغبون في الحق ولكن فطرهم ناقصة. لا يطلبون الحق عن طريقه ولا من أربابه فيئس من أخلاقهم وانقطع رجاؤه. فالفلسفة هنا هي التي تقوم بدور التعليم والبرهان والإقناع والدخول في التحدي، وليس الدين الذي يرضى به العامة.

أدرك حي عجز العامة عن فهمه باستثناء القليل. لا يتمسكون من الملة إلا بالدنيا. ألهتهم التجارة والبيع عن معرفة الحقيقة والذكر. عرف أنه يستحيل مخاطبتهم بطريق المكاشفة، وأن التكليف بها لا يطاق. يكفيهم حظهم من الشريعة في الانتفاع بالدنيا ليستقيم المعاش، جمع المال أو نيل اللذة أو حصول شهوة أو تشفي غيظ أو إحراز جاهٍ أو عمل من أعمال الشرع يتزين به، ويدافع به عن نفسه. وكلها ظلمات. فهم أحوال الناس، وأن أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق، وأن الحكمة فيما نطقت به الرسل وردت به الشريعة دون زيادة، فكل ميسر لما خلق له. فاعتذر سلامان وأصحابه عما تكلم به معهم، وتبرأ منه، وانتسب إلى رأي العامة، وأوصاهم بملازمة الشرع والأعمال الظاهرة وقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والإعراض عن البدع والأهواء، والاقتداء بالسلف الصالح، وترك محدثات الأمور، ومجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة والإقبال على الدنيا. هذه الطائفة لا نجاة لها إلا بهذا الطريق. وإن ارتقت إلى مرتبة الاستبصار اختلت ولم تسعد، وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها. وإن استمرت فيه وواظبت عليه حتى يوافيها اليقين فازت. أما السابقون أي الخاصة فهم المقربون.٣٤

الدعوة إلى الهداية وتبليغ الرسالة جزء من الدين خاصة عند الشيعة. وأبسال واقعي يعلم طبائع البشر ونقص فطرهم والإعراض عن أمر الله. وحي متألق ينتظر على الساحل لعله يعبر البحر. وتتدخل الإرادة الإلهية لإحضار السفينة وإبحارها إلى جزيرة سلامان واجتماعهم بالخاصة بالرغم من معارضة العامة. والتوجه البعيد من عودة موسى وقصة نوح. وتكشف القصة عن طول صبر الداعية وحلمه وعذر الناس. فقد تشتت الناس، وتضاربت أهواؤهم، وعجزوا عن المكاشفة. السبب فرقتهم وطبقاتهم كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. كل اتخذ إلهه هواه، ومعبوده شهوته، تهالك الجميع على حطام الدنيا. وألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنفع فيهم موعظة، ولا تؤثر فيهم كلمة حسنة. ولا يزيدهم الجدل إلا إصرارًا. لا سبيل لهم إلى الحكمة. تغمرهم الجهالة، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم. أقصى حظهم الشريعة ثم الثواب والعقاب. وهو إعلان عن يأس ابن طفيل من وصول الناس إلى الحقائق، والاكتفاء بالشرائع. طريق حي صعب وطريق أبسال أسهل. الخاصة قلة، والعامة كثيرون. وينتهي ابن طفيل إلى ما بدأه الكندي من قبل. هناك طريقان: الفلسفة للخاصة، والشريعة للعامة. وهما طريقا ابن سينا والغزالي وابن رشد.

وهنا يبدو القرآن وقد أصبح بديلًا نثريًّا وأحيانًا الآيات النصية الحرة في نهاية القصة. فالخاصة الذين يفهمون من أراد حرث الآخرة، وسعى اليها وهو مؤمن. وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، ظلمات بعضها فوق بعض في بحر لجي، وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتمًا مقضيًّا، وكل مُيسر لما خُلِق له، سُنَّة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. فالسابقون السابقون، أولئك هم المقربون، وعبد الله بتلك الجزيرة حتى أتاه اليقين.

هناك إذن ثلاثة طرق: طريق حي، طريق التأمل النظري حتى الإشراق الروحي، وطريق أبسال، طريق الشريعة، وطريق سلامان طريق الجمهور. حي خواص الخواص، وأبسال الخاصة، وسلامان العامة. انضم أبسال إلى حي وعبد الله بطريقة الخواص. فالشريعة هي التي انضمت إلى الحقيقة. وأبسال شخصية باهتة بجوار حي، مجرد باحث عن اليقين، هارب من ملك طاغ وجده عند حي. وتابعه وقت التبليغ. لم يناصره أو يؤيده عندما يئس حي من العامة. وظل أبسال تابعًا إلى النهاية. فالخاص الشرعي يتبع الخاص الفلسفي.

وفي النهاية انفصل حي عن سلامان، وغادر سلامان الجزيرة. وظل حي في طريقة، ولحق به أبسال حتى قرب منه أو كاد. وعبد الله حتى أتاه اليقين.

١  السابق ص٥٢-٥٣.
٢  السابق ٥٩-٦٠.
٣ 
برح لي أن علوم الورى
اثنان ما أنَّ فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها
وباطل تحصيله ما يفيد
السابق ص٥٦.
٤  «استقام لنا الحق أولًا بطرق البحث والنظر ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة»، السابق ص٥٩.
٥  السابق ص٦٢، ٦٦.
٦  الإحالة إلى الغرب هنا في صلب التحليل وليس في الهامش مثل إحالة القدماء إلى اليونان وإحالة ابن خلدون إلى الفرنجة في الشمال.
٧  ابن طفيل كما هو معروف هو الذي قدم ابن رشد إلى السلطان يوسف.
٨  انظر دراستنا «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة ١٩٩٦ ص١٣١–٢١٣.
٩  حي بن يقظان ص٦٢–٦٤، ٦٦.
١٠  وهذا ما تعرف به النظرية النسبية في الغرب الحديث.
١١  حي بن يقظان ص٦٣-٦٤.
١٢  ويبدو ذلك أيضًا في أدب الرحلات الحديث عند الطهطاوي في «تلخيص الإبريز» وعلي مبارك في رواية «علم الدين» وكأن الرواية مناسبة لعرض المعلومات العلمية.
١٣  حي بن يقظان ص٦٤–٦٦.
١٤  وذلك مثل وصف روسو في هيلويز الجديدة.
١٥  وذلك مثل «ظاهريات الروح» عند هيجل.
١٦  وهي المرحلة التي سماها فلاسفة التاريخ في الغرب مرحلة لقط الثمار وبداية الجهد البشري مع عطاء الطبيعة.
١٧  حي بن يقظان ص٦٦-٦٧.
١٨  وهذا يشبه ما انتهى إليه روسو في «إميل أو التربية» في الفكر الغربي.
١٩  حي بن يقظان ص٦٧–٧٥.
٢٠  «وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك»، السابق ص٦٨.
٢١  وهذا مثل القديس أوغسطين في تحويل الأشياء إلى معانٍ خاصة في «الاعترافات».
٢٢  حي بن يقظان ص٨٦–٩٠.
٢٣  السابق ص٩٠–٩٢.
٢٤  وهو أسلوب القديس أنسيلم في الإيمان باحثًا عن العقل في العصر الوسيط الأوروبي.
٢٥  انظر دراستنا: الاغتراب الديني عند فيورباخ، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧ ص٤٠٠–٤٤٥.
٢٦  حي بن يقظان ص٩٢–٩٩.
٢٧  السابق ص٩٩–١٠٦.
٢٨  السابق ص١٠٦–١١٢.
٢٩  عشقت امرأة سلامان أبسال. وحاولت خمس مرات معه. الأولى مغازلة أبسال، والثانية النوم ليلة الزفاف بدلًا من أختها في مخدعه. والثالثة مغازلته في حب جديد بعد عودته من الحرب، والرابعة مؤامرة الجيش ضده. والخامسة مؤامرة الطباخ بدس السم لإماتته.
٣٠  حي بن يقظان، ص١١٣–١٢٢.
٣١  السابق ص١١٨.
٣٢  السابق ص١١٨-١١٩.
٣٣  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الرابع، النبوة والمعاد ص٢٧–٦٣.
٣٤  السابق ص١٢١-١٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤