رابعًا: ابن رشد

(١) الدفاع عن الفلسفة

قبل أن يبين ابن رشد اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال» يبرئ الحكمة أولًا ويدافع عنها ضد هجوم الغزالي عليها باسم الأشعرية. جدليًّا يمثل «تهافت التهافت» نقد النقد أو الدفاع عن الفلسفة سلبًا بهدف تطهير الفلسفة وخلاصها من براثن الغزالي واتهامها بالكفر. في حين أن «فصل المقال» يمثل الجانب الإيجابي، بيان اتفاق الحكمة والشريعة. وبنيويًّا يمثل «فصل المقال» نظرية اتفاق الحكمة والشريعة ثم تطبيقها، ثم «تهافت التهافت» من أجل نقد الخلاف المزعوم بينهما في «تهافت الفلاسفة». ويمكن أن يدخل «تهافت التهافت» إما في نقد علم الكلام وتجاوزًا له إلى الفلسفة أو في الحكمة والشريعة دفاعًا للفلسفة عن نفسها ضد علم الكلام. وتنكر بعض مسائل «مناهج الأدلة» في نقد علم الكلام في «تهافت التهافت» «مناهج الأدلة». فالعملان واجهتان لموضوع واحد في جدل السلب والإيجاب. لم يفعل ابن رشد نفس الشيء بالنسبة إلى التصوف، وخطورته لا تقلُّ عن خطورة علم الكلام خاصة بعد أن ازدوجت الأشعرية والتصوف على يد الغزالي منذ القرن الخامس.

وبالإضافة إلى سخرية ابن رشد من هذا الرجل، ممثل الأشعرية وابن سينا الفيلسوف المزيف الذي يخلط بين الكلام والتصوف يقوم منهج ابن رشد الجدلي في دفاعه عن الفلسفة ضد هجوم الغزالي عليها على جوانب متداخلة ومتزامنة أقرب منها إلى القواعد المتمايزة مثل:
  • (١)

    إثبات أن نقد الغزالي يقوم على سوء فهم لأقوال الفلاسفة.

  • (٢)

    إن صح نقد الغزالي فإنه لا ينطبق إلا على ابن سينا وحده خلطًا بين العام والخاص.

  • (٣)

    الدفاع عن الفلسفة ليس لتبرئتها ضد الهجوم عليها، مقابلة لقطع بقطع، ولموقف مبدئي بموقف مبدئي آخر، فمجموع الخطأين لا يكون صوابًا بل لبيان الاحتمال في الفلسفة وأنها احتمال قائم مثل احتمال خصومها.

  • (٤)

    الفلسفة اجتهادات ورؤًى مختلفة تهدف كلها إلى التنزيه. فهي مدخل للتوحيد ربما أكثر تنزيهًا لله من علم الكلام الذي خاطر بالتشبيه.

  • (٥)

    كلها مسائل اجتهادية لا خطأ فيها ولا صواب بل تتوقَّف بمدًى إحساس الفيلسوف والمتكلم بمستوى التنزيه والتشبيه.

  • (٦)
    التمييز بين مفهومين مختلطين في ذهن الغزالي في نقده للفلاسفة ويقوم ابن رشد ببيان أوجه الفرق بينهما.١
يعرض ابن رشد في «التهافت» العشرين مسألة التي كفَّر فيها الغزالي الفلاسفة، سبع عشرة مسألة صغيرة وثلاث مسائل كبيرة بادئًا بنص من «تهافت الفلاسفة» ثم قارئًا له مبينًا سوء فهم الغزالي للفلسفة، وسوء تأويله لها ثم مصححًا له فهمه ورادًّا إليه نقده. ومن ثم فإنَّ نص «تهافت التهافت» يتضمن:
  • (١)

    النص غير المعلن الذي قرأه الغزالي من كتب ابن سينا خاصة يتهم الفلاسفة جميعًا من خلاله بالكفر في عشرين مسألة. وهو النص المسكوت عنه أو المقروء في «تهافت الفلاسفة».

  • (٢)

    النص المدون في «تهافت الفلاسفة» والذي يُكفِّر فيه الغزالي الفلاسفة نتيجة لفهمه وتأويله للنص غير المعلن لهم.

  • (٣)

    النص المدون لابن رشد في «تهافت التهافت» الذي ينقد فيه الغزالي في «تهافت الفلاسفة» ويبين سوء فهمه للفلسفة وسوء تأويله لأقوال الفلاسفة.

ومِن ثم يكون التناص الثلاثي في نص «تهافت التهافت» كالآتي:

ويمكن إدخال نص رابع. فالغزالي عرض فهمه للفلاسفة في «مقاصد الفلاسفة» ومن ثم يكون هناك نصان مُتداخلان؛ الأول نص «مقاصد الفلاسفة»، القارئ، والثاني نص الفلاسفة المقروء على النحو الآتي:

وردَّ ابن رشد أحيانًا أطول من نص الغزالي، وأحيانًا يساويه، وأحيانًا أقل منه. وفي الغالب أطول مرة ونصف.٢ وقبل تفصيل المسائل العشرين يعطي ابن رشد مقدمات أربعًا: الأولى أن الخوض في مسائل الفلاسفة يستلزم التطويل نظرًا لدقيقاتهم. والثانية أنه يمكن تجميع مسائلهم وخلافهم مع الفرق في ثلاثة أقسام. فبالرغم من التطويل والتشعيب يمكن الجمع والتقصير. والثالثة أن ينبه عن حسن اعتقاده في الفلاسفة ضد تشويه الغزالي لهم. والرابعة التحذير من ادعاء أن العلوم الإلهية غامضة. وهي حيلة يُستدرج بها العاجز عن الحجاج. ولا تهم المسائل التي كانت مرهونة بوقتها ولكن ما يهمُّ هو دلالتها الحضارية موضوعيًّا وجدليًّا.٣
وتُذكر المسائل العشرون من الغزالي وردُّ ابن رشد عليها بلا ترتيب كمي أو كيفي سواء من حيث الأهمية التي تبدو في طول كلِّ مسألة أو في بنية الموضوع سواء كانت بنية الكلام كما بدت في نسق العقائد؛ العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوَّات أو في بنية الحكمة الثلاثية؛ المنطق والطبيعيات والإلهيات. ويأتي موضوع قِدَم العالم في البداية وموضوع النفس في النهاية.٤ وتبدأ المسائل بالطابع الحجاجي مثل: إبطال قولهم وإبطال أنه جسم، إبطال ما ذكروه، بيان عجزهم، تعجيزهم، تعجيز من يرى، بيان تلبيسهم أو ألفاظ أقل حجاجًا مثل اتفقت الفلاسفة أو الاقتران غير الضروري بين الاعتقاد والواقع. والمسائل متداخلة فيما بينها. يترك ابن رشد المسألة ويتناول أخرى ثم يعود إليها من جديد.٥
ومن حيث الكم الذي يكشف عن الأهمية يكون الترتيب في مجموعات تسع.٦ حينئذٍ يتصدر موضوع قِدم العالم، وأن الله فاعل العالم وصانعه، وإثبات العلم والقُدرة والإرادة للمبدأ الأول. وهي كلها في الله. ثم يتداخل موضوع الله والعالم مع موضوعات أخرى مثل أبدية العالم والزمان والحركة والاستدلال بوجود الصانع للعالم وعلم الله الكلي، والاشتراك في الأجناس والأنواع في الفصول وموضوع السببية، والنفس، ووحدانية الله. ثم يتداخل موضوع النفس مع الله من جديد، جوهر النفس ووحدانية الله، وكون وجود الله بسيطًا وليس جسمًا. ثم يظهر موضوع الأجرام السماوية متداخلًا مع النفس في النهاية. فتنكر بعض الموضوعات مثل أن للعالم صانعًا، وعلم الله بالجزئيات والنفس. وتتداخل موضوعات أخرى فيما بينها مما يدلُّ على استحالة التمييز بين الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات. ففي موضوع عجز الفلاسفة عن إقامة الدليل على أن الله واحد يتم التطرق إلى موضوعات المنطق مثل موضوع الكليات والوحدة والكثرة والموجودات في الأذهان أم في الأعيان، وإلى موضوعات الإنسانيات مثل النفس والعقل مع الإشارة إلى المقولات وكتاب النفس. كما يعرض للعالم، قدمه وحدوثه، والمادة والصورة، والأفلاك والأجرام، والحركة والزمان، وكأن الإلهيات ليست موضوعًا مستقلًّا بل هي إدراك للطبيعيات أو الإنسانيات، حديث عن الطبيعة من أعلى.

أما من حيث النسق فتظهر بِنية الحكمة الثلاثية، الله والعالم والنفس دون المنطق والطبيعيات والإلهيات؛ لأنَّ المنطق يقين مقبول استعمله الفلاسفة في رأي الغزالي لإيهام الناس بأنَّ الطبيعيات والإلهيات من نفس النوع مع أن القسمتين الثلاثيتين واحدة. فالله موضوع الإلهيات، والعالم موضوع الطبيعيات، والنفس موضوع المنطق؛ ومن ثم يكون الترتيب النسقي كالآتي:

وكل المسائل متصلة في موضوع واحد باستثناء الموضوع الأول، قدم العالم، مسائله الأربع الأولى متَّصلة ثم المسألة الخامسة منفصلة (العاشرة) قفزًا على مسائل صفات الله.٧

(أ) قدم العالم

يُقدم ابن رشد أربعة أدلة على قِدَم العالم ليس لإثبات قِدم العالم بالضرورة عن طريق البرهان بل لبيان وجاهة احتماله كفرض عن طريق الجدل في مقابل احتمال الخلق؛ تأكيدًا للرأي والرأي الآخر وحق الاختلاف ومد الاجتهاد من أصول الفقه إلى الفلسفة.

وإذا عجز الفلاسفة عن نقض حدوث العالم يعجز الأشاعرة عن نقض استحالة تأخر المفعول عن فاعله. ومِن ثَمَّ يستوي الفريقان جدليًّا. ويدعو ابن رشد القارئ إلى التأمل في حجج كلا الفريقين. ومِن ثم يخطئ الغزالي عندما يدفع الفلاسفة إلى الإلحاد دفعًا، ولو كانت أقوالهم متشابهة فإنه يُؤَولها ضدهم لا معهم، سلبًا وليس إيجابًا. لم يستطع الغزالي فهم الاشتباه علميًّا وحضاريًّا، لغويًّا ودينيًّا.
  • الأول: استحالة صدور حادث عن قديم كما تقول الأشعرية لأن العالم كان ممكنًا نظرًا لاستحالة وجود مرجح. فإذا وجد فإنما يوجد لمرجح وإلا لبقي العالم ممكنًا. والمرجَّح يحتاج إلى مرجِّح حتى ينتهي الأمر إلى مُرجِّح لم يزل مُرجِّحًا؛ ومن ثم فالعالم قديم. فالترجيح يتضمن الموضوع والذات، المرجَّح والمرجِّح في آن واحد.
  • والثاني: العالم متأخر عن الله، والله متقدم عليه. وإذا كان التقدم بالذات مثل تقدم الواحد على الاثنين يلزم أن يكون كلاهما قديمًا أو حادثًا. وإذا كان التقدم بالزمان ولا يمكن أن يتسلسل الزمان إلى ما لا نهاية من الوراء فالزمان قديم. ولما كان الزمان عدد الحركة وكانت الحركة قديمة، إذن المتحرك قديم لأن الزمان يدوم بدوام الحركة.
  • والثالث: كان العالم قبل خلقه ممكنًا إذ يستحيل أن يكون ممتنعًا ثم صار ممكنًا، وإلا كان لا أول له وسبقه الإمكان. فالإمكان يسبق الوجوب والاستحالة مثل أسبقية القوة على الفعل.
  • والرابع: وهي المسألة الثانية في أبدية العالم والزمان والحركة، وهو جمع مفاهيم الأدلة الثلاثة السابقة في مفهوم الحركة، بعد أن قام الدليل الثالث على أسبقية الإمكان، والثاني على قدم الزمان، والأول على استحالة خروج الحادث من القديم. ومن ثم فهو دليل واحد مثل دليل الحدوث بالرغم من تعدد المفاهيم، الحدوث، الإمكان … إلخ.
وهو دليل بنيته أشعرية لأنه يقوم على امتناع تسلسل المرجحات إلى ما لا نهاية ولا بد من مرجح أول. إنما الخلاف في اللفظ. وهي نفس بنية الدليل الثاني القائم على استحالة التقدم إلى ما لا نهاية، واستحالة الإمكان الذي يسبقه إمكان. وهو دليل جدلي صعب الفهم من جنس أدلة الأشاعرة. وليس دليلًا برهانيًّا لأن مقدماته عامة، والقرينة مشتركة وليست برهانية. ويتضمن مسائل عدة، وجعْلها مسألة واحدة هو أحد المواضِع السوفسطائية، ويقوم على تشخيص الطبيعة، بها نفس وعقل، وتفاضل وتكامل، وابن رشد هو الناقد للتصوُّر المشخِّص لله مما يدل على أن إدراك كل شيء خارج النفس، الله أو العالم إنما هو إسقاط. كما يبين الدليل أنه لا يمكن فهم الطبيعيات دون الإلهيات أو الإلهيات دون الطبيعيات. فهي علم واحد. وكما بان ذلك من قبل في الأدلة على وجود الله.٨
وترتبط المسألة الثالثة، تلبيس الفلاسفة أن الله فاعل العالم وصانعه، والرابعة، عجزهم عن الاستدلال على وجود الصانع، والعاشرة عجزهم عن إقامة الدليل على أن للعالم صانعًا وعلة، وأن القول بالدهر لازم لهم بموضوع قِدَم العالم، ودفع الغزالي الفلاسفة دفعًا لإنكار أن للعالم صانعًا إما تلبيسًا أو عجزًا، تجريمًا للخصوم، وتشويهًا لأقوالهم ومواقفهم. مسألتان في قدم العالم إيجابًا، ومسألتان في العجز عن إثبات الصانع تأكيدًا على قدم العالم سلبًا. يتهم الغزالي الفلاسفة بأن أقوالهم هذه مجاز وليست حقيقة وكأنه شق على قلوبهم. والحقيقة أن الفلاسفة يرفضون التشخيص، وتصور الله باعتباره صانعًا. ويفضلون التنزيه، وتصور الله واجبًا للوجود؛ إذ يمكن رؤية الفعل بطريقتين بالإرادة كما يفعل المتكلمون الأشاعرة، وبالطبع كما يريد المعتزلة. والله مُنزه عند الفلاسفة أن يوصف بأحد الفاعلين، بالإرادة أو الطبع. كلاهما تشبيه. والله لا ينقصه شيء في حين أن المختار ينقصه. الإرادة انفعال وتغير والله ليس كذلك. وهو أكثر تنزيهًا من الفعل الطبيعي الضروري لأنه لا يكون عن علم الله. وكون الفاعل مريدًا مختارًا عالمًا لما يريد حتى يكون فاعلًا كلام غير معروف بنفسه إلا لو كان قياسًا للغائب على الشاهد. وهناك مذهبان لتفسير صلة الفعل بالفاعل. الأول الانفصال لصلة البنَّاء بالبناء، وهو مذهب المتكلمين، والثاني الاتصال كصلة المحرك بالمتحرك، وهو مذهب الفلاسفة. كلاهما يفسر الخلق. الأول يبرز العناية المشخصة، والثاني يجعلها متضمنة في الحكمة.٩ واتهام الفلاسفة بأن العالم بالنسبة إلى الله عندهم كنسبة الظل إلى المشخص كذب. فالله عند الفلاسفة غير العالم. إنما تساؤل الفلاسفة عن الخلق من عدم، إبداع الشيء من لا شيء.
ويستعمل ابن رشد التشبيه السياسي كالأشعرية ضربًا للمثل للصلة بين الله والعالم بالرئيس والمرءوس، أمير الجيوش والجند، لدرجة السؤال أيهما أصل وأيهما فرع، ونفس الأفلاك بالأفلاك. هناك صلة بين التصور الإلهي والتصور العسكري، الله وقائد الجيوش تصور واحد، لا فرق في ذلك بين الغزالي وابن رشد.١٠ وكان الفارابي هو الذي شرَّع لذلك في توحيده بين الله والإمام والملك والفيلسوف والأمير والوحي والنبي في تصوره للمدينة الفاضلة تطبيقًا للفيض والتصور الهرمي للعالم في الكون والمجتمع والنفس. والعجيب ألا يخرج ابن رشد عن جبة الفارابي كما حاول الخروج عن جبة ابن سينا إذا كان لابن رشد مشروع فلسفي لا يعلن عنه، يؤصله في التخلص من الأشعرية. ولا فرق في ذلك بين الغزالي وابن سينا وابن رشد. الكل في بنية الثقافة وتصورها الهرمي للعالم.١١ وقد تكون غاية الغزالي تسليم الفلاسفة إلى غضب العامة، فالعامة لا تقبل كافرًا؛ أو إلى السلطان، فالسلطان يزايد على إيمان العوام، ويعتبر نفسه حامي حمى الدين. فيقتص من الفلاسفة الذين يُمثلون إحدى بؤر المعارضة إن لم تكن في السياسة المباشرة بل على الأقل الاستقلال الفكري في البحث والنظر.

(ب) الصفات

وفي موضوع الصفات يتصور الغزالي أنه يحرج الفلاسفة ويتهمهم بالعجز عن إقامة الدليل على أن الله واحد. ويدفع الفلاسفة إلى الشرك دفعًا كما دفعهم سابقًا إلى الإلحاد وإنكار وجود الصانع. وفي إبطال مذهب الفلاسفة في نفي الصفات يدفعهم الغزالي إلى أن يكونوا مثل المعتزلة، ويحيلهم إلى متكلمين حتى يسهل التصويب عليهم، ونقدهم باسم الإيمان. يتهمهم بالتعطيل والعامة تقول بالتشبيه والتجسيم. وأحيانًا يتهم الغزالي الفلاسفة بما ليس في موضع اتهام مثل اتهامهم بأنه لا يجوز ألَّا يشارك غيره في جنس ويفارقه بفصل، وأنه لا يتطرق إليه انقسام في حق العقل بالجنس والفصل. فما وجه التهمة؟ أليس هذا هو التوحيد، عدم المشاركة في جنس أو فصل، ولا ينقسم، وليس له حد، وهو ما عبر عنه الكندي من قبل في «الفلسفة الأولى»؟ هذا هو التوحيد بلغة المنطق المجردة التي لا يدركها الأشعرية الذين تعودوا على التشبيه والتجسيم والتشخيص. ولماذا يكون وصف الله بالبسيط تهمة أي وجود محض، لا ماهية ولا حقيقة يضاف الوجود إليها بل الوجود كالواجب له كالماهية لغيره؟ لماذا رفض البسيط كصفة من صفات الذات، وجودًا متحدًا بالماهية، ورفض التركيب في بيئة دينية قديمة كانت بعض عقائدها تقول بالتركيب مثل التثليث؟ أليس واجب الوجود بذاته أقرب إلى التنزيه العقلي؟ وهل عجز الفلاسفة كما يدعي الغزالي عن إثبات أن الأول ليس بجسم وكل إلهياتهم تقوم على التنزيه؟١٢

(ﺟ) العلم

ويحاول الغزالي اتهام الفلاسفة بأن الأول لا يعلم غيره وأنه يعلم الأجناس بنوع كلي. وهي المسألة الكبرى الثانية، إنكار علم الله بالجزئيات بعد المسألة الكبرى الأولى، قدم العالم. كما يتهمهم الغزالي بالعجز عن إقامة الدليل على أن الأول يعرف ذاته. ويرد ابن رشد على هذه التهمة بأن المعرفة إما عن إرادة أو طبيعة أو اتفاق. ويستبعد الاتفاق. والطبيعة تؤدي إلى الضرورة، والإرادة إلى القياس على الإنسان. موقف الفلاسفة «مجبر أخاك لا بطل»، حرصًا على التنزيه. أما اتهام الفلاسفة بإنكار علم الله بالجزئيات فغير صحيح لأن الجزئيات منقسمة بالزمان، والله هو كل الزمان.١٣

(د) السماء

والعجيب اتهام الغزالي للفلاسفة بالتنزيه والعجز عن إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله بحركته الدورية. وهو تشبيه يقدمه الفلاسفة منذ الكندي على أن كل شيء في العالم بإرادة الله. والتشبيهات كثيرة مثل التسبيح وليس الطاعة وحدها وكأن الغزالي يريد برهانًا عقليًّا على صورة فنية، يخلط بين الفكرة وصورتها، بين العقيدة ومثالها. والتشبيه صورة، والصورة ذهنية لا توجد في الخارج. الحركة في العقل، ولا يوجد خارج النفس إلا المتحرك فقط. ويقوم هذا التشبيه على تصور حيوي للعالم، أن له نفسًا وعقلًا وإرادة، طاعةً ومعصيةً، صورة إنسانية لفهم الكون قياسًا للغائب على الشاهد، وللبعيد على القريب، وللإلهي على الإنساني. فالعالم متصل بالبشر، ويعيش فيه الناس، ولا يُمكن تصوُّره إلا من خلال إدراك البشر له. والعالم الإنساني عالم حي يقوم على القصد والإرادة والنفس والعقل.

وينكر الغزالي على الفلاسفة قولهم إن نفوس السماء مطلعة على جميع الجزئيات الحادثات في هذا العالم. فما وجه الاتهام وقد أودع العلم في الكلام، والوحي والنبوة والملك واللوح المحفوظ والرؤيا الصادقة، والاتصال بالعقل الفعال. وهي اجتهادات فلسفية وكلامية من أجل الكشف عن إمكانية الاتصال بين العالمين، الخالق والمخلوق.١٤ وقد عبر الفلاسفة عن العقائد الكلامية بمصطلحاتهم على ما هو معروف في ظاهرة التشكل الكاذب. فالملائكة المقربون هي العقول المفارقة. والملائكة السماوية هي نفوس الأفلاك.١٥
أما مسألة السببية فإن الاقتران عند الغزالي بين السبب والمسبب ليس ضروريًّا إعلانًا عن الذات مما يتطلب اتهام الفلاسفة بأن الاقتران لديهم ضروري ومِن ثَمَّ يزايد عليهم في الإيمان، مضحيًا بالعلم، وفي الإرادة مضحيًا بالحكمة. والمسألة كلامية في الأصل بين الأشعرية والمعتزلة. والفلسفة تتصور العالم يخضع لقانون ونظام. وهو تصور العقيدة أيضًا، ولكن الخلاف هل هذه الإرادة مشخصة أم إنها تشبيه لقانون السببية.١٦

(ﻫ) النفس

وفي موضوع النفس يتهم الغزالي الفلاسفة بعجزهم عن إقامة الدليل على أن النفس الإنساني جوهر روحاني. لقد حاول ابن سينا ذلك بأدلته المعروفة على تمايز النفس عن البدن. والروح في النهاية من أمر الله يجتهد الفلاسفة في إثباته كما يجتهد المتكلمون. ويرد على براهين الفلاسفة العشرة واحد تلو الآخر. ويمكن للفلاسفة أن يفعلوا نفس الشيء بالنسبة لبراهين المتكلمين. والاجتهاد لا يناقض الاجتهاد بل يعطي نموذجًا آخر لعمل العقل. والفرق هي القدرة على إحكام الدليل عقليًّا وطبيعيًّا بعيدًا عن الإنشائيات والتشبيهات. بل إن الفلاسفة مغالون في مثاليتهم ضد النزعة المادية.١٧ وما وجه النقد في اعتبار الفلاسفة النفوس خالدة في الجنة أو في النار؟ وهي مشكلة كلامية عن خلود الجنة والنار أو فنائهما واختلاف المتكلمين في ذلك. مَن آثرَ بقاءها اجتهاد له ما يُبرره في النقل والعقل، ومَن آثر فناءها حتى يَنفرد الله وحده كما كان قبل خلق العالم، وتنتهي ملحمة الخلق والبعث فله ما أراد.١٨ وهو اجتهاد آخر قد يكون له ما يدعمه في المنقول والمعقول. إنما القضية هي الخلاف في الرأي، هل هو حق أم لا؟ هل يقبل الغزالي رأيًا مخالفًا للأشعرية مثل رأي الفلاسفة أم لا؟ وهل الغزالي مُمثل العقيدة الأشعرية وكل اجتهادات فِرَق الأمة أم إنها الفرقة الناجية وغيرها ضالة؟ أما الاتهام الأخير بإنكار حشر الأجساد فإن أدلة الكندي على ذلك كافية على البعث وقياس الأولى المستمد من النصوص قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. يقول ابن سينا بالمعاد الروحاني حتى يتعادل الميزان مع الذين يقولون بالمعاد الجسماني، ويتصورون أن الآخرة هي استمرار لنعيم الدنيا وملاذِّها باسم الإيمان والاستحقاق.١٩

(٢) اتفاق الحكمة والشريعة

ويعلن ابن رشد في النهاية بعد تطهير الفلسفة وتبرئتها من هجوم علم الكلام واتهامه لها عن اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال». بعد أن لغط اللاغطون، وتكلم المتكلمون يأتي فصل الخطاب أو القول الفصل. وهو تعبير قرآني به حسم الفقهاء، وإنهاء النقاش، وإعلان الحقيقة النهائية في الموضوع. وهو ما قد يعارض الروح الفلسفي في التساؤل المستمر وعدم غلق الباب في أي موضوع. ويمتاز «فصل المقال» بأنه نص واضح وسهل في قضية واحدة ما زالت حية في الفكر المعاصر. وأصبح في الجامعات العربية أهم نص لابن رشد. وما زال دالًّا عند كل المجتمعات في مراحل التحول من التراث إلى التجديد أو في مرحلة التفاعل الحضاري التي تكون فيها حرية الفكر في أزمة والتي يغلب فيها التقليد على الاجتهاد وكما هو الحال عند المصلحين في كل عصر.٢٠

ويستعمل ابن رشد المصطلحات الإسلامية، الحكمة وليس الفلسفة، الموروث وليس الوافد. ويفضل استعمال لفظ الشريعة بدلًا من الدين تأكيدًا على الموقف الفقهي الشرعي بالرغم من أن «الدين» أيضًا لفظ قرآني. يستعمل ابن رشد لفظ الشريعة بدلًا من العقيدة لأنه فقيه. والشريعة لديه شاملة للعقيدة والشريعة معًا. فالعمل يشمل النظر ولكن النظر لا يشمل العمل. يسمى الدين شريعة تأكيدًا على شرعية الحكمة. وتسمية الفلسفة حكمة للتأكيد على ذاتيتها في فتوى شرعية إجابة على سؤال شرعي ومعرفة الحكم الشرعي في النظر من الأحكام الشرعية الخمسة كما وضعها الأصوليون: الفرض والمحظور، والمندوب والمكروه، والمباح. فهو فحص فقهي وليس مجرد تأمل فلسفي أو تحزب كلامي أو إشراق صوفي. وهو بهذا يخاطب الأمة بشرعها وليس الخاصة بعلمها؛ أي تحويل المنطق والفلسفة من فعل فلسفي إلى حكم شرعي واستعمال مصطلحات علم أصول الفقه ومنهج القاضي لفض النزاع بين المُتخاصِمين القائلين بالخظر والقائلين بالإباحة.

ويُعيد ابن رشد بناء الأحكام الشرعية الخمسة إلى ثلاثة: المأمور والمحظور والواجب أي طرفَين ووسط، ثم يجعل كلًّا من الطرفين على الوجوب أو الندب. فإن كان المأمور وجوبًا فهو الفرض. وإن كان ندبًا فهو المندوب. وإن كان المحظور وجوبًا فهو المحرَّم وإن كان ندبًا فهو المكروه. ولا يقسم المباح بين الوجوب والندب لأنه فعل طبيعي، شرعيته في وجوده، لا احتمالات فيه على عكس الصوفية الذين يجعلونه أيضًا بين الوجوب والندب وربما إلى حد المحظور، وجوبًا وندبًا.٢١ ويستعمل ابن رشد لفظ المأمور وليس الفرض أو الواجب وليس الحرام ولا يستعمل لفظ المكروه.٢٢ كما يستعمل أسلوب الفقهاء في مدح الله وتعظيمه بعبارات الإجلال مثل «الله تبارك وتعالى»، «الكتاب العزيز»، «قال تعالى». فالرؤية الدينية حاملة للتصور الفلسفي.

والفعل الفلسفي موضوع السؤال هو النظر أو الاعتبار أو القياس، النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع؛ أي من جهة ما هي مصنوعات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وكلما كانت المعرفة بالصنعة أتم كانت المعرفة بالصانع أكمل. ولما كان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث عليه يبرز موضوع جهة الحكم الوجوب أو الندب، مع استبعاد حكم السلب من البداية باحتمالية المحظور وجوبًا أو ندبًا أي الحرام والمكروه. ولا يبقى إلا حكم الإيجاب باحتمالية، الفرض والندب أو الحلال والمباح. وقد دعا الشرع إلى اعتبار الموجودات نصًّا على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معًا، والنظر في جميع الموجودات. وقد قام إبراهيم بذلك. وهنا تبدو الفلسفة مثل علم أصول الدين، النظر في المصنوعات من أجل الوصول إلى الله وتحويل العلم إلى دين، والنظر إلى إيمان، من الشرع إلى الطبيعة، ومن الطبيعة إلى الله. فالشرع موجه نحو الطبيعة، والطبيعة مؤشر نحو الله. والحقيقة أن الله أو العلم هو الصورية والوحدانية ومعرفة القانون وليس الإله المشخص المدمر للطبيعة والعلم. والخطأ الانتقال من الطبيعة إلى الشخص وليس إلى قانون الطبيعة. ومعرفة الطبيعة للسيطرة عليها وليس للبعد عنها وتشخيصها. وهو تفكير أقرب إلى التفكير الساذج، الانتقال من المصنوع إلى الصانع لتعليم الأطفال. وكلما كانت المعرفة الطبيعية أتم كانت المعرفة بعللها أكمل.

والسؤال الآن: هل هناك حكم شرعي لفعل النظر وباقي أفعال الذهن أم إن الأحكام الشرعية تنطبق فقط على أعمال الجوارح من أجل المساءلة القانونية؟ هل تتعلق أحكام الشرع بالأفعال الداخلية أم بالأفعال الخارجية وحدها؟

وبنية النص غير محكمة. تتخلل الموضوع الرئيسي موضوعات أخرى، ثم عود على بدء. وتتكرر الموضوعات بالرغم من الموقف المحدد، والرؤية الواضحة ودقة الهدف المصوب إليه.٢٣ يحتوي النص على جزأين. الأول عن التأويل والظاهر والباطن دفاعًا عن الفلسفة. والثاني تفصيل الأقاويل الثلاثة الشهيرة، الخطابي والجدلي والبرهاني. وتلحق به ضميمة عن مسألة العلم القديم خارج الموضوع، مجرَّد إضافة، ثم التطرق إليه سلفًا، مجرد استدراك على الموضوع الأساسي بأسلوب بارد مجرَّد خالٍ من الرؤية البنيوية كعادته مثل «قانون التأويل» في آخر «مناهج الأدلة».٢٤ هي إجابة على شك عارض في علمه القديم وتعلقه بالأشياء الحادثة أي أنها أيضًا فتوى ملحقة بالفتوى الأولى. وتتكرَّر عدة موضوعات، وتعرض بطريقة متقطعة تتخلَّلها موضوعات أخرى. فضرورة التأويل والإجماع عليه تتلوه المسائل الثلاث التي كفَّر فيها الغزالي الفلاسفة، ثم تعود من جديد في النهاية وقبل الخاتمة. يبدأ موضوع أنواع البرهان، الخطابة والجدل والبرهان ثم يتلوه موضوع ضرورة التأويل، وهل من الضروري الإجماع عليه ثم المسائل الثلاث التي كفَّر فيها الغزالي الفلاسفة ثم يعود من جديد قبل النهاية.٢٥

والموضوع هو الحكمة والشريعة والتأويل كرابطة بينهما. وهو نفس موضوع رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. والدافع شهرته وشيوعه بين الناس. والمكان الطبيعي له هو كتب البرهان. فالموضوع حله في المنهج، والكلام حله في المنطق وطرق الاستدلال وهو نفس الموضوع الذي كتب فيه ابن تيمية بعد ذلك «منهاج السنة في الرد على الشيعة والقدرية»، رافضًا منهج التأويل عند كلا الفرقتين وداعيًا إلى منهج التفويض إذ لا يعلم التأويل إلا الله، بالإضافة إلى «درأ تعارض النقل والعقل» و«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول».

(أ) النظر واجب بالشرع

الفعل الفلسفي إما واجب أو مندوب ولكنه ليس محظورًا. والنظر في الطبيعة مندوب أي للقادرين عليه. فقد حث الشرع على النظر في الطبيعة، ووجه العقل نحوها. ودعا الشرع إلى اعتبار الموجودات بالعقل، ومعرفتها بالنص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معًا أو النظر كما فعل إبراهيم. أوجب الشرع النظر بالعقل كما هو الحال عند المعتزلة، النظر أول الواجبات.٢٦ ومن ثَمَّ فالنظر في الموجودات واجب شرعًا بالقياس العقلي. وقد حث الشرع على أتم أنواع النظر بأتم أنواع القياس، وهو البرهان.

والاعتبار المذكور في النص هو النظر. والنظر هو استنباط المجهول من المعلوم أي القياس أو بالقياس. أما الفلاسفة فقد جعلوا التخييل القياس الشعري الذي استعمله الأنبياء ومن هنا ينشأ التقابل بين القياس البرهاني للحكيم والقياس التخييلي للنبي فيظن الناس التعارض. وفي الحقيقة كلاهما قياس. المقدمات في القياس البرهاني، والأمثال في القياس التخييلي. لذلك لا بد من معرفة أنواع البراهين وشروطها، والفرق بين القياس والبرهان والقياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي أي أنواع النظر والأقوال. ولا بدَّ من معرفة أنواع القياس المطلق، وهو القياس الصوري وأشكاله؛ أي بنية القياس نفسه، وتركيب مقدماته بصرف النظر عن موادها. ولا بد من معرفة الفرق بين القياس واللاقياس؛ أي أنواع المقدِّمات متى تكون مقدماته منتجة ومتى لا تكون منتجة أو القياس التام والقياس الناقص.

هذه هي آليات النظر في القياس الذي أوجبه الشرع. ومن التناقض أن يوجب الشرع النظر بالقياس فيكون الوجوب من الموروث وشكل القياس من الوافد! ويُرفع هذا التناقض إذا كانت أشكال القياس مستمدة من القياس الشرعي الذي كان معروفًا قبل الترجمة.٢٧ فكما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه وجوب معرفة المقاييس الفقهية وأنواعها وما منها بقياس وما ليس بقياس كذلك يستنبط العارف من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه وهو أولى.٢٨ فالفقه نموذج الفلسفة، والفقيه مثل الحكم. والقياس الفقهي هو أساس القياس المنطقي، ووجوبه في الأصول باعتباره مصدرًا من مصادر التشريع هو أساس وجوبه في الحكمة كمصدرٍ مِن مصادر المعرفة. والحقيقة أن ابن رشد يقوم بتأويل مزدوج. يُؤول الاعتبار على أنه نظر ثم يُؤول النظر على أنه قياس، والتأويل هنا رد الكل إلى الجزء. فالاعتبار أعم من النظر، والنظر أعم من القياس. ويُطبق المنهج الأصولي في تناول الفلسفة.٢٩
والسؤال هو: هل الاعتبار هو القياس العقلي أو الشرعي؟ لماذا تحديد العام بالخاص؟ وهل القياس العقلي هو القياس المنطقي؟ وهل القياس العقلي الشرعي هو القياس الفقهي؟ وهل هما قياس واحد أم قياسان مختلفان أو متشابهان، متمايزان أم متضادان؟ هل الاعتبار هو القياس أو مجرد التدبر فقط للعظة واكتشاف أبعاد النفس، الخوض في الداخل قبل الخارج وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ؟ هل صحيح أن النظر هو القياس أم أن القياس هو الشكل القولي للتعبير عن النظر؟ هنا يوحد ابن رشد بين الفكر والقول.٣٠ أن يكون النظر هو القياس هذا تحديد العصر الذي يجعل البرهان أيقن أنواع القياس. وفي عصر آخر قد يأخذ النظر صيغة أخرى مثل أن يكون الاعتبار رؤية الواقع، ومعرفة أسباب نهضة الشعوب وسقوطها، وأحوال الناس، وتحليل المجتمعات أي المعارف الإنسانية وليس فقط المعارف الإلهية الطبيعية المنطقية. والعلوم الإنسانية بلغة العصر هي العلوم الفقهية القديمة التي تتعلق بسلوك الأفراد والجماعات. ويعني الفقه الفهم والنظر، فهم السلوك والنظر في قواعد وأداة ذلك العقل العملي. إن جعل النظر هو القياس هو موقف الفقهاء؛ فالنظر في الشرع هو القياس الفقهي وليست التأملات النظرية في الله والطبيعة والإنسان. هو نظر مضبوط في موضوعات عملية محددة لحل مسائل عملية والانتهاء إلى أحكام شرعية لتوجيه السلوك.

(ب) القياس الفقهي والقياس العقلي

وللقياس مصدران تاريخيَّان؛ القياس الفقهي في الصدر الأول للإسلام، والقياس العقلي عند الحكماء القدماء.

وهناك مَن يُنكر القياس مثل الحشوية والظاهرية قديمًا، والجماعات السَّلفية حديثًا؛ لأنَّ القياس بدعة ليس لها مثيل في الصدر الأول، دفاعًا عن الأصالة. النص لا قياس فيه. وقد ظهر القياس الفقهي والقياس العقلي بعد القرن الأول من الداخل، والثاني من الخارج، الفقهي من الموروث من عمل الفقهاء، والثاني المنطقي من الوافد، من عمل الحكماء. وتجمع الأمة باستثناء الحشوية على إثبات القياس. ويُمكن الردُّ على الحُجج النصية لنُفاة القياس بحُجج نصية مضادة. فالنصوص مُتباينة. ومُحاربة الخصم بسلاحه من قواعد الجدل. وتُشبه معركة ابن رشد دفاعًا عن القياس الفقهي والعقلي معركة ابن حزم وابن تيمية ضد القياس الصوري باعتباره طريقًا للعلم ودفاعًا عن القياس الشرعي مصدرًا للأحكام، فهل كان في ذهن ابن رشد موقف داود الظاهري وابن حزم والحنابلة؟ قد يُقال إن السَّلفية بهذا المعنى حركة تطهيرية، تُلغي التاريخ، وتعود إلى الأصول الأولى. وقد تكون البروتستانتية أحد أشكالها، إلا أنَّ الفرق واضح، البروتستانتية تُخلِّص الأصول من انحرافاتها التاريخية عودًا إلى البراءة الأصلية، في حين أنَّ السلفية تَقبل الأصول جامدة مُنعزلة خارج الواقع والزمن.

إنكار القياس إنكار للتطور والتفاعل الحضاري، والتمسك بالنصوص خارج الواقع الأول أو المتجدِّد. يُنكر نفاة القياس تطوُّر التاريخ. فلا صلة للمُتقدمين، بالمتأخِّرين، في حين يُؤكد مُثبتو القياس تواصُل المتأخِّرين مع المتقدمين، تراثًا وتجديدًا، أصالة ومُعاصرة. السلفية موقف ضد الحضارة والتطور تمسكًا بالنصوص، وعزلًا لها عن واقعها الذي نشأت فيه، وقراءاتها المتعدِّدة عبر التاريخ.٣١ يُؤكِّدون الانقطاع بين الماضي والحاضر وتوقف الزمن في لحظة أولى ماضية يتمُّ الرجوع إليها، وأن التطور هو بالضرورة انحراف مثل انحراف الشيطان عن الملاك. في حين يؤكد مُثبتو القياس اتصال الماضي بالحاضر، والتقدم الطبيعي للزمان، وإبداع كل جيل، وإضافته على الجيل السابق. الصلة بين الماضي والحاضر كالبذرة تَنضج حتى تُصبح ثمرة. وإن لم يبدأ القدماء بالبحث في القياس الشرعي الموروث والقياس العقلي الوافد فيُمكن البداية في كل عصر نظرًا لحاجة كل عصر إلى النظر والاعتبار. كل عصر له إبداعه طالَما دعت الحاجة إليه. مُستحيل أن يُبدع شخص واحد المعرفة في التاريخ، من البداية إلى النهاية؛ لأنَّ المعرفة تراكُم معرفي تاريخي طويل، عمل جماعي وإضافة من كل جيل. وإذا كانت المعرفة تلبية لحاجات العصر فمن المستحيل لجيل واحد تلبية حاجات كل العصور. وهذا هو الدافع على وجود الاجتهاد في كل عصر كمصدر من مصادر التشريع. فإذا كان من العسير على واحد معرفة جميع أنواع القياس الفقهي فالأَولى معرفة القياس العقلي؛ فالقياس الفقهي أحد أنواع القياس العقلي المُرتبط بالعمل والسلوك. القياس الفقهي حالة خاصة من حالات القياس العقلي العام؛ فابن رشد ليس من أنصار الإبداع الفردي الخارق والمتجاوز لكل العصور، الحقيقة الواحدة المُطلَقة التي تمَّ إعلانها ولم يَعُد للبشر أي دور بعد ذلك إلا تلقِّيها. ومن ثَمَّ يكون السؤال: وماذا عن سيبويه في علم النحو، والخليل بن أحمد في علم العروض، والشافعي في علم أصول الفقه؟ ويمكن الإجابة بأنهم صاغوا اجتهادات سابقة وطوَّروها ووجدوا لها نظامًا. فهو إبداع التنظير واكتشاف النسق.٣٢
ويعني ذلك بطريقة مباشرة نهاية أسطورة عبقرية حضارة واحدة كاليونانية مثلًا بالنسبة لعلوم الحكمة، أو فرد واحد كأرسطو مثلًا بالنسبة لعلم المنطق. فلكلِّ حضارة دورها. ولكل الأفراد أدوارهم في تراكم المعرفة البشرية. كما تعني نهاية أسطورة العبقرية الحضارية الفردية، الحضارة الإسلامية مثلًا التي كرمها الله بآخر الرسالات دون ما حاجة إلى المراحل والاجتهادات السابقة، ومن ثَمَّ نهاية العزلة عن السابقين. لا قدماء دون ماضٍ. وبلغة العصر لا أصالة دون مُعاصَرة، ولا معاصرة دون أصالة، ولا تراث بلا تجديد، ولا تجديد بلا تراث. ولا يهمُّ الاتفاق في الملة بين الشعوب. فالإبداعات المنهجية وآليات البحث العلمي لا خلاف عليها. الخلاف في التطبيق، وحسن استعمالها، والنتائج النهائية لها.٣٣ المنطق مثلًا لا صاحب له؛ لأنه آلة تعصم الذهن من الخطأ، وكذلك الرياضيات لا صاحب لها لأنها علوم عددية خالصة. لا خلاف في علوم الوسائل، بل الخلاف في علوم الغايات. ولا يوجد أخذ ونقل مباشرة دون مراجعة وتحقق من صدق المنقول. فالوافد مقيس، والموروث مقياس. الآخر فرع والأنا أصل كما قال البيروني من قبل «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة.»٣٤ ومن ثَمَّ تكون النتيجة أن البحث في كتب القدماء واجب بالشرع سواء كانوا مثقَّفين في الملة أم مُختلفين. البحث المنهجي في آليات البحث يتجاوز الملة.٣٥

والتراكم المعرفي ليس حادثًا فقط في العلوم الفلسفية والمنطقية، بل أيضًا في كل العلوم الرياضية والطبيعية، علم التعاليم، وعلم الهندسة وعلم الفلك. ما يحدث في العلوم النظرية يحدث أيضًا في العلوم العملية وفي مقدمتها علوم الحكمة التي تجمع بين الاثنَين. يستعين المتأخر بالمتقدم؛ إذ لا يستطيع إنسان واحد بمفرده أن يُقدر مقادير الأجرام السماوية وأشكالها ويُحدد أبعادها ولو كان أذكى الناس، إلا أن يكون مؤيدًا بوحي أو شيء يشبه الوحي. الوحي فقط هو العلم الشامل. ولو قال أحد إنَّ الشمس أعظم من الأرض بنحو مائة وخمسين مرة لعُدَّ جنونًا مع أنه أصبح الآن من مكتسبات العلم بفضل التراكم المعرفي. ويقال نفس الشيء بالنِّسبة للفقه وأصول الفقه؛ إذ لا يستطيع فرد واحد أن يعرف جميع الحُجج ومناهج النظر التي استنبطها النُّظَّار والفقهاء في مسائل الخلاف والمناظرة في كل أرجاء العالم الإسلامي ما عدا المغرب، ربما لضيق مساحته وليس لعبقريته الخاصة أو لخصوصية مغربية كما يقول بعض المعاصرين. ليس استيعاب القدماء موضوعيًّا فحسب، بل منهجيًّا أساسًا فيما إذا كان ما وصلوا إليه يتَّفق مع شرائط البرهان. ليس كل ما يقوله القدماء يُقبَل، ولكن البرهاني فقط. وهو ما يَبقى عبر التراكم المعرفي الطويل. كذلك الاتفاق مع الحق والمراجعة على العقل والواقع، وهما مقياسا الصدق في الوحي، وليس مجرد التقليد. ما خالف الحق رُفض ونُبه عليه وعُذر فيه دون تجريح أو سكوت أو تكفير. لذلك يُشكر القدماء، ويُعترف بفضلهم. النظر في كتبهم إذن واجب بالشرع إذا كان مغزاهم ومقاصدهم هي مقاصد الشرع. يعرف ابن رشد قيمة التاريخ والتراكم التاريخي وتواصُل الحضارات.

وللنظر شرطان؛ الأول ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العِلمية والخلقية. وهي شروط عملية. فالفضيلة العلمية هي البحث عن الحقيقة، والفضيلة العملية هي مُمارستها. والعدالة الشرعية الأمانة والبعد عن الأهواء. فمَن جمَع هذَين الشرطين لا يجوز صدُّه عن كتب القدماء. فهو الطريق الذي دعا منه الشرع الناس إلى معرفة الله، طريق النظر المؤدِّي إلى معرفته حق المعرفة. التعارُض إذن ليس مسألة نظرية صرفة، بل هي مسائل خارجية، صد الناس عن النظر كما هو الحال عند الكندي في رجال الدِّين الذين يُدافعون عن مناصبهم المزوَّرة، وسوء تأويل الحكماء الجهال. ولا تعني الغواية بالفلسفة ممَّن ينقصه الشرطان تحريم الفلسفة؛ إذ إن أسباب الأضرار من الفلسفة قد ترجع إلى نقص الفطرة أو سوء ترتيب النظر فيها أو قد ترجع إليها كلها. لا يَعني ذلك منعها؛ فالضرر فيها ناشئ بالعرَض لا بالذات. الفلسفة نافعة بذاتها. وقد تكون مُضرَّة بعرضها. ولا تُترك الذات من أجل العرَض أو الأصل من أجل الفرع أو الدائم من أجل المؤقَّت. ولا يُمنع العطشان الماء لأنَّ آخَر شربَ الماء فشرق ومات. لقد كان الفقه سببَ قلَّة ورع بعض الفقهاء. وما يحدث في الصناعة العملية يحدث في الصناعة العلمية.٣٦

(ﺟ) الطرق الثلاث: الخطابة والجدل والبرهان

إذا كانت الشريعة حقًّا كما يَعتقد ابن رشد فإنها قد نبَّهت على السعادة ودعت إلى طريقها، وهي المعرفة بالله ومخلوقاته. ويعرف ذلك كل مسلم بما تقتضيه جبلَّته من التصديق؛ أي بفطرته وبما تعوَّد عليه. ولما كانت الطباع مختلفة مُتفاضلة في التصديق بالخطابة أو الجدل أو البرهان دعت الشريعة من هذه الطرق الثلاث حسب طبيعة كل إنسان، وعم التصديق الجميع إلا الجاحد باللسان أو المعاند أو مَن لم يعرف طرق الدعوة جهلًا بها. لذلك كانت الشريعة حقًّا، والطريق إليها حقًّا، ثم التصديق بها. فالبرهان لا يخالف ما ورد به الشرع. والحق يُوافق الحق ويشهد له، حق الموضوع وحق المنهج.٣٧ يُحلِّل ابن رشد أنماط الاعتقاد وليس الشيء في ذاته، أي تحليل أفعال الشعور وليس مضمونه أو الموضوع الخارجي. وكل مُعتقِد بقول يَعتقده مثل اعتقاد صاحب البرهان بقوله. ما يقترحه ابن رشد من طرق البرهان مناهج ذاتية يعمها جميعًا صدق الاعتقاد.

ويجمع ابن رشد الأقاويل الشعرية والخطابية في مقابل الجدلية. ولا يذكر الشعرية على الإطلاق. ويبدو أنها حالة خاصة من الأقاويل الخطابية. وفي حالة القسمة الثنائية، يكون البرهان حدًّا، والتمثيل في الجدل والخطابة والشعر حدًّا آخر. فهل هذه الأقاويل الثلاثة إبداع من ابن رشد أم استعارة من المنطق، عرضها الفارابي من قبل؟ وإذا كانت استعارة من النطق فلماذا أغفل السوفسطائي والشِّعري؟ وإذا كان السوفسطائي لا يجوز استعماله لأن غرضه التمويه فلماذا أغفل الشِّعري وهو أساس التخييل في الوحي؟ هل أدخله ابن رشد ضمن الخطابي؛ لأن الخطابي أعم منه؟ ربما أدخل ابن رشد الشعري في التصور وليس في التصديق، تصور الشيء بمِثاله وليس بنفسه؟

ولا يُوجد وصف دقيق لهذه الطرق الثلاث، الخطابة والجدل والبرهان، ولا تحليل لأقيستها، مقدماتها ونتائجها، إلا أن يكون ذلك في علم المنطق خاصة وأن ابن رشد يتبع قسمة ابن سينا للحكمة إلى منطقية وطبيعية وإلهية. أحيانًا يعتبرها ابن رشد أقوالًا، وأحيانًا أدلة، وأحيانًا أصناف الناس. فالقول خطاب، والدليل منطق، وأصناف الناس تربية وتعليم. وأحيانًا تُعوز ابن رشد الأدلة لهذه الأصناف الثلاثة للقول أو الدليل أو الناس، ويستعمل حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي.» وهو لا يؤدي إلى ما يقصد إليه.

وأحيانًا يستعمل ابن رشد الترتيب النازل، البرهان والجدل والخطابة. وأحيانًا يستعمل الترتيب الصاعد، الخطابة والجدل والبرهان. وفي كلتا الحالتَين يأتي الجدل في مُنتصَف الطريق بين البرهان والخطابة. وأحيانًا تكون القسمة ثنائية، البرهان من ناحية، والخطابة والجدل من ناحية أخرى. إن غاب البرهان، وهي الحالة المثالية، حضر الجدل والخطابة، وهي الحالة الواقعية. البرهان حد أقصى، والخطابة والجدل حد آخر. الفرق بين البرهان من ناحية والخطابة والجدل من ناحية أخرى فرق في النوع. في حين أن الفَرق بين الخطابة والجدل فرق في الدرجة.

وماذا عن الصوفي الذي يؤمن بقلبه، بلا أدلة من الأدلة الثلاثة، بل بالصمت في القول والذوق في المكاشفة؟ وماذا عن النَّصراني الذي لا يبرهن على صحة عقائده؛ لأنها سر يعجز العقل عن إدراكه؟

ويَنقسِم الناس ثلاثة أصناف؛ الخطابيون والجدليون والبرهانيون، على نحو تصاعدي. وتبدو أيضًا قسمة كمية من حيث القلة والكثرة ومنهجية من حيث طريقة الفهم، وشرعية من حيث جواز التأويل أو عدم جوازه. الخطابيون هم الأغلب. فلا يوجد سليم عقل من لا يعرى عن هذا النوع من التصديق. والجدليون أقل. وهم الذين يُسيئون استعمال البرهان، ويتخلَّفون عن عواطف الجماهير. هم أهل الوسط الذي لا يُقنع العامة ولا يفيد الخاصة. منهم أهل الجدل بالطبع. ومنهم أهل الجدل بالطبع والعادة. والبرهانيون أقل الأقل هم الحكماء بالطبع والصناعة. البرهان ليس مجرد عادة، بل تعلُّم صناعة الحكمة. هم أهل التأويل اليقيني الذي لا يَجب التصريح به للجدليِّين أو الخطابيِّين. وإذا صُرِّح بها لهم أفضَت إلى الكفر إذا كان في أصول الشريعة كما عَرض لقوم من أهل زماننا.٣٨ فإذا كان المقصود من التأويل إبطال الظاهر وإثبات المُؤول يبطل الظاهر ولا يَثبت المؤول.

وهي قسمة ثقافية تعليمية في المُجتمع وليست قسمة جوهرية. الجمهور هو الطبقة الاجتماعية ذات الثقافة المحدَّدة للغاية. كلما زادت درجة التعليم والثقافة في المجتمع قلت طبقة الجمهور. في بعض المجتمعات النامية تكون أكثرية، وفي بعض المجتمعات المتقدمة تكون أقلية. هي قسمة غير ثابتة أو أبدية، بل قسمة مُتحرِّكة ترتبط بنسب التعليم والثقافة في المجتمع. إذا زادت النسبة قل الخطابيون والجدليون وزاد البرهانيون. وإذا قلَّت النسبة زاد الخطابيون والجدليون وقل البرهانيون. وهل للجمهور معنًى قدحي أم معنى وصفي؟ هل له معنى قيمي أم معنى تقريري؟ الجمهور له معنيان؛ العامة والدهماء من ناحية، والتجمع العملي، وحركة المجتمع، وأصحاب المصلحة، والغالبية والأكثرية من ناحية أخرى.

ويُوحِّد ابن رشد بين الخطابيين والجمهور كما يُوحِّد بين البرهانيين والعلماء أو الحكماء. أما الجدليون فهم المتكلِّمون، أصحاب الحرفة والصنعة، هم الطبقة المتوسطة الذين يتشبهون بالطبقة العليا، البرهانيون. يستعيرون ثقافتها ويسيئون فهمها. وفي نفس الوقت يستعملون طرق العامة، الخطابة. ومع ذلك كيف يكون الجدليون بالطبع والفطرة؟ هل هناك طبقة جدلية أم إنها عادة مكتسبة؟ لو كانت بالفطرة والطبع لامَّحت المسئولية وأصبحت مسئولية الخالق. ولو كانت بالعادة والمران فهي مسئولية التربية والمجتمع. ولماذا يكون الجدليون وحدهم بالطبع أو بالطبع والعادة دون الخطابيين؟ وهل الخطابيون بالطبع أم بالطبع والعادة؟

وما لا يقدر على البرهان إما من قبل الفطرة الناقصة أو العادة؛ أي التربية، أو التعليم؛ أي المجتمع. والأشياء الخفية التي لا تُعلم إلا بالبرهان تلطف الله فيها لعباده الذين لا يَقدرون عليه بضرب الأمثال ودعاهم إلى التصديق بالأدلة المشتركة للجميع، الخطابية والجدلية. لذلك انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن. الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة للمعاني، والباطن هو المعاني نفسها التي لا تتجلَّى إلا لأهل البرهان. التأويل إذن محاولة العودة من الظاهر إلى الباطن، ومن الجدل والخطابة إلى البرهان. ولا يقوم بذلك الجمهور بل الخاصة. الخاصة هم الذات والموضوع، المُؤَوِّلون والمُؤَوَّلون لهم.

وأسباب العجز عن البرهان كلها أسباب لا إرادية لا دخل للإنسان فيها مثل الفطرة والعادة والتعليم. الفطرة خُلُق، والعادة والتعليم اكتساب من التربية والمجتمع. فكيف يكون الإنسان مسئولًا عن حَجب البرهان عنه. هناك حتمية طبيعية واجتماعية تمنع الناس من البرهان. وما العمل إذا ما تعارض الطبع والاكتساب، إذا كانت الفطرة فائقة والعادة والتعليم لا يساعدان على البرهان؟ لمن تكون الغلبة؟ وماذا لو كانت الفطرة ناقصة، والعادة والتعليم يُساعدان على البرهان، لمن تكون الغلبة؟ وهل إثبات صحة العقائد بالبرهان إيمان مُقنع في كل دين أم ادعاء وغرور لشريعته؟

وهي قسمة منهجية قبل تناول أي موضوع مثل المسائل الخلافية الكبرى والصُّغرى التي كفر فيها الغزالي الفلاسفة. فالموضوعات أقاويل. والأقاويل إما خطابية أو جدَلية أو برهانية. والجاحد لهذه الأصول الثلاثة، الإيمان بالله، وبالنبوة، وبالمعاد، إما كافر مُعاند باللسان دون القلب أو غافل عن الدليل الخطابي أو الجدلي أو البرهاني. والمُتأول للظاهر إن كان في الأصول فكافر مثل إنكار المعاد من أجل إفساد الناس في الدنيا وتحايلهم على بعضهم البعض.

وإذا كان مقصود الشرع تعلُّم الحق والعمل بالحق، وكان العلم بالحق هو معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه وبخاصة الشريعة ومعرفة أمور المعاد فإنَّ التعليم صنفان؛ تصوُّر وتصديق كما بيَّن ذلك أهل العلم بالكلام. والتصور طريقان إما الشيء نفسه أو بمثاله. وطرق التصديق ثلاثة: البرهان والجدل والخطابة. ولما كان الناس مختلفي الطباع، لا يَقبلون البراهين لصعوبتها وعُسرها، وحاجتها إلى طول الزمن لتعلمها؛ خاطب الشرع الناس بالطرق الثلاث للتصديق وطريقَي التصور؛ لأنَّ الناس أيضًا على ثلاث مراتب: الخطابية وهم الأعم، والجدلية وهم الأخص، والبرهانية وهم أخص الأخص. ولما كان مقصود الشرع مخاطبة الأغلب جاءت مُعظم أقواله خطابية، وأقلها جدلية، وأقل القليل برهانية. وجاء في التصور بالمثال أكثر منها بالشيء نفسه حتى يفهم كل الناس.٣٩
أما العمل بالحق فهو امتثال الأفعال التي تُفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء والمعرفة بالعلم التي هي العلم العملي.٤٠ ويَنقسم قسمان؛ أفعال ظاهرة بدنية وهو موضوع الفقه، وأفعال نفسانية مثل الشكر والصبر والأخلاق التي دعا إليها الشرع مثل الزهد وعلوم الآخرة. وهو ما اختاره الغزالي. ولما كان الناس قد أعرضوا عنه، وفضلوا الفقه عليه فإنه سمى كتابه «إحياء علوم الدين». وقد ساد موضوع النظر والعمل في علوم الحكمة؛ بحيث أصبح القسمة الرئيسية للحكمة.٤١

ويُفسر ابنُ رشد الغزاليَّ واختياره التصوف تفسيرًا اجتماعيًّا تاريخيًّا. لما انتبه الناس إلى علم الجوارح نبَّهَهم الغزالي إلى علم الأخلاق وهو الصراع المشهور بين الفقهاء والصوفية، بين علوم التنزيل وعلوم التأويل. ولا يذكر ابن رشد الأسباب الأخرى مثل الإيغال في الفكر في القرن الخامس والوقوع في تكافؤ الأدلة، وإحساس الغزالي بمخاطر التعدُّدية، والرغبة في تقوية الدولة أمام المخاطر الداخلية والخارجية.

ويقارن ابن رشد بين الطبيب والشارع، ضاربًا المثل للجمهور بطريق الخطابة، ومتخليًا عن طريق البرهان. الشرع مثل الطبيب الماهر الذي قصد إزالة الأمراض وجلب الصحة بوضع أقاويل مُشترَكة التصديق في وجوب استعمال الأشياء التي تحفظ الصحة وتُزيل الأمراض وتُجنِّب الأضداد. ولأنهم ليسوا أطباء لا يعلمون الطب بالأقاويل البرهانية تصدَّى المُؤوِّل للناس مخبرًا إياهم بأن طرق الطبيب ليست بحق، وشرع في إبطالها أو أولها بحيث لم يعد يفهمونها، ويعملون بها. فبطلت إزالة الأمراض، وجلب الصحة. وبطل لديهم ما كانوا يستعملونه فعمهم الهلاك. وسواء صرَّح لهم بالتأويلات الصحيحة أو الفاسدة فإنهم لا يفهمونها. فلا توجد صحة يجب حفظها، ولا مرض يجب زواله، ويعم الفساد والكفر من المؤول وتابعي المؤولين. ويرى ابن رشد أن هذا التمثيل يقيني وليس شعريًّا؛ لأنه يقوم على تَناسُب صحيح. فنسبة الطبيب إلى الأبدان كنسبة الشارع إلى صحة الأنفس. الطبيب يحفظ صحة الأبدان إذا وُجدت ويستردُّها إذا عُدمت. والشارع يبتغي نفس الشيء في صحة النفوس، وهي الصحة المسمَّاة تقوى. وقد حث الكتاب على طلبها بالأفعال الشرعية. يطلب الشارع بالعلم الشرعي أو بالعمل الشرعي هذه الصحة، وتترتب على هذه الصحة السعادة الأُخروية والشقاء الأخروي.٤٢
وواضح من مقارنة الطبيب بالشارع الطابع العمَلي للشرع وتغيير حياة الناس كما يُوضِّح حضور الطبيب عند الفقيه. الفلسفة علم الروح، والطبيب علم البدن.٤٣ والطب هو العلم المُشترك بين حكماء المسلمين مثل الموسيقى والفلك. والصحة النفسية هي التقوى التي أشار إليها الوحي. ومع ذلك لا يسلم هذا التشبيه من بعض التساؤلات. لماذا وضع الطبيب أقاويل مشتركة وليست صريحة؟ وما الداعي إلى الإلغاز في الأمور العملية؟ في رأي جمهور الفقهاء لا يوجد إلغاز في الشرع؛ فقد ترك الرسول الشريعة على الواضحة، وإلا وقعنا في تصور الشيعة والحاجة إلى وظيفة أخرى هي الإمامة لتوضيح الغامض وكشف المستور. والمؤول هو الباحث عن الحقيقة، موضوعًا ومنهجًا، نتيجة ومقدمة، وليس فقط موضوعًا دون منهج، ونتيجة بلا مقدمة. وكيف لا يهتم الناس إلا بالعقل العملي دون العقل النظري؟ ويقوم المجاز على صحة النسبة وتشابهها.

(د) ضرورة التأويل

يُؤدي البرهان إلى معرفة ما سكت عنه الشرع أو صرَّح به. ما سكت عنه الشرع لا تعارض فيه؛ لأنه غير معروف، ولأنه بمنزلة ما يُعرف بالاستنباط الفقهي والقياس الشرعي. وما صرَّح به الشرع إما متَّفق مع البرهان أو مختلف معه. فإن كان متفقًا معه فهو المطلوب، وإن كان مخالفًا وجب التأويل. والتأويل هو إخراج اللفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية دون الإخلال بلسان العرب في التجوز بقسمة الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنته بشرط. التأويل إذن مشروط بقواعد البلاغة في اللغة العربية. وهو أحد شرطَي التأويل بالإضافة إلى العلم بأسباب النزول في علم الأصول. فمن الضروري أن تشهد ألفاظ الشرع بهذا التأويل أو تكاد.٤٤ وإذا كان الفقيه يقوم بذلك في الأحكام الشرعية فالأولى أن يقوم به الحكيم. إنما قياس الفقيه ظني في حين أن قياس العارف يقيني. وهذا ليس عيبًا في القياس الفقهي؛ لأنه مُرتبط بالعمل والمصلحة وهما مُتغيِّران. التغير هنا ناتج عن منطق العمل في حين أن المنطق الصوري يتعلَّق بالنظر الثابت والمقدمات الصورية الخالصة الخالية من أي مضمون.٤٥

والتأويل لا يشكُّ فيه مسلم أو مؤمن بل يَزيد إيمانًا؛ لأنه يُبيِّن اتفاق المعقول والمنقول. والحقيقة أن ابن رشد هنا يُبسِّط الأمور؛ فالتأويل في رأي بعض الفقهاء مثل ابن تيمية خطر على الإيمان، بل إنه يَقضي عليه كما حدث عند الفلاسفة. وبالقضاء على التأويل، تأويل الشيعة والمعتزلة يظهر اتِّفاقَ صحيح المنقول لصريح المعقول. تُؤَول الأشاعرة الاستواء والنزول وتأخُذُهما الحنابلة على الظاهر. ولا يذكر ابن رشد المعتزلة وهم أهل التأويل. كما يذكر سوء التأويل عند الأشاعرة وخُطورة استبعاده عند الحنابلة مع أنه حسن التأويل عند المعتزلة.

ويَرجع سبب التأويل إلى اختلاف فِطَر الناس وتبايُن قرائحهم في التصديق. وهو نفس السبب الذي ميَّز الشرع لأجله الأقاويل الخطابية والجدلية والبرهانية. كما يرجع إلى وُرود ظواهر الشرع المتعارضة، والتنبيه على الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها.٤٦ والحقيقة يُمكن إضافة أسباب أخرى مثل اختلاف المصالح من عصرٍ إلى عصر، فالنَّص صورة واتجاه وليس مادة أو مضمونًا، وحرية الفكر تشحذ الجهد، وتدفع إلى الإبداع الذاتي؛ فالنَّص مقروء، والمقروء يُحيل إلى القارئ، والقارئ له أهدافُه ومصالحه بل وأهواؤه. والجانب الفني في التصوير من أجل الإقناع إدراك ذاتي للبُعد الجمالي يختلف فيه الناس. كما تتفاوَت مُستويات الثقافة ودرجة الالتزام الجماعي عند القارئين. ويَتباين الناس فيما بينهم من حيث مستويات الشعور ودرجات العمق ودرجة الالتزام بحقيقة فردية وعامة والولاء لقضية.٤٧ يبدو ابن رشد هنا صوفيًّا حكيمًا متكلمًا ضد الحشوية وأهل الظاهر والحنابلة. مع أن الأصولي لا يُؤول الأحكام مجازًا. الأحكام خارجة عن المجاز. الصلاة والصوم والزكاة والحج حقيقة وليست مجازًا، وإلا لاستحال الفعل، على عكس الشيعة الذين يَعتبرونها مجازًا في الصلاة مع الإمام، والزكاة مجازًا لأهل العترة، لذلك يُنبه ابن رشد على أن كل ألفاظ الشرع ليست مُؤوَّلة.
هل يوجد إجماع على تأويل؟ وهل يُؤدي البرهان إلى تأويل ما أُجمع على ظاهره وظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ يكون الإجماع إما على الظاهر أو على المُؤول أو على موضوع خلافي بين الظاهر والمؤول، ولكن القضية ليست في الموضوع بقدر ما هو في المنهج، حُجية الإجماع. الإجماع ظني وليس يقينيًّا نظرًا للخلاف على حُجيته. لذلك لا يُقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل عند أئمة النظر مثل الجويني والغزالي. كما أنه لا يُوجد إجماع يقيني في النظريات، بل في العمليات وحدها. يستعمل ابن رشد مقولةً أصولية للحُكم على التأويل وهو الإجماع. ولا يُوجد إجماع يقيني لا في النظريات ولا في العمليات؛ لأنَّ النظريات أمور اجتهادية صرفة. والاجتهاد بطبيعته مُتعدِّد، والمصالح مُتغيِّرة بتغير كل عصر، والإجماع السابق غير مُلزِم للإجماع اللاحق. ولا ترجع ظنية الإجماع إليه وحده، بل إلى وضعه داخل مصادر الشرع الأربعة التي تقوم على الدور. فالقرآن نص، فهمه مُرتبط بقواعد اللغة وبأسباب النزول وبتفسير الحديث وبالإجماع والاجتهاد. والحديث مشروط بالإجماع في نقله، وبعدم معارضة القرآن له. والإجماع مشروط بتواتُره وباعتماده على أصلٍ نصِّي. والاجتهاد مشروط باعتماده على أصل من القرآن أو الحديث أو الإجماع. كيف يُمكن إذن الخروج من هذا الدور من أجل حرية أوسع في التأويل، ومنهجية أكثر يقينًا إلى العالم الخارجي، فاللغة منزل الوجود، ويأخذ بعين الاعتبار المصالح العامة صراحة وليس فقط ضمنًا؟٤٨ ويستند ابن رشد إلى الغزالي في الإجماع على عدم جواز تكفير المُتأوِّلين في «فيصل التفرقة». يتخذه عدوًّا باعتباره متكلمًا أشعريًّا ومُعاديًا للفلسفة، ويتَّخذه مرجعًا باعتباره أصوليًّا.
ولا يصحُّ الإجماع إلا بشُروطٍ ثلاثة تتعلَّق بالإجماع كمنهج، وثلاثة أخرى تتعلَّق بالإجماع كموضوع، والكل يَصعب تحقيقه. الثلاثة الأولى أن يكون العصر محصورًا حتى لا يُترك عالم دون أن يُستشار، وهو ما يستحيل عمليًّا، وأن يكون العلماء في ذلك العصر معلومين أشخاصًا وعددًا، وهو ما يصعب تحقيقه، ونقل مذهب كل واحد منهم نقلًا مُتواترًا وهو ما يصعب أيضًا حتى نسبة الحديث إلى الرسول. والثلاثة الثانية الاتِّفاق على أنه ليس في الشرع ظاهر وباطن، وهو ما لم يحدث، وأنَّ العلم بكل مسألة لا يُكتم عن أحد وهو ما يصعب عمليًّا، وأن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة مع أنها أتت لمخاطبة الناس بطرق مُتعدِّدة على الأقل بثلاث طرق، الخطابة والجدل والبرهان؛ إذ يُقرر الواقع والتاريخ أن الصدر الأول كما هو منقول عنه كان يرى للشرع ظاهرًا وباطنًا، ولا يجب أن يعلم الباطن من ليس أهلًا للعلم به، ولا يقدر على فهمه، مثل تضارُب الروايات المنقولة عن بعض الصحابة عند أهل السلف على ما هو معروف بالضرورة مثل نقل رواية عن ضرورة حديث الناس بما يَفهمون، وأخرى عن حَجب الحقيقة عنها باستثناء الأمور العمَلية، والإجماع فيها بنَشرها، ولا يُمكن تصور إجماع منقول في المسائل النظرية. ولا يخلو عصر من علماء يَرون أن في الشرع أشياء لا يَنبغي لجميع الناس العلم بحقيقتها.٤٩
لا يجب التصريح بالتأويل للجمهور، ولا يثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية كما فعل أبو حامد. بل يُصرِّح لهم بالظاهر الذي لا يمكن تأويله. فيفهم منه أنه مُتشابه ولا يعلم تأويله إلا الله. والوقف في الآية قبل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الذين يُؤمنون به، والله وحده هو العالم بالتأويل. هذا هو الجواب للجُمهور إن سأل عن الأمور الغامضة مثل السؤال عن الروح. والمُصرَّح بهذه التأويلات إلى غير أهلها كافر لدعوته الناس إلى الكفر وضد دعوى الشارع خاصة لو كانت تأويلات فاسدة في أصول الشريعة. وقد ظنَّ قوم زمن ابن رشد أنهم تفلسفوا، وأنهم أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مُخالفة للشرع، لا تقبل تأويلًا، وأن الواجب هو التصريح بها للجمهور. فصارُوا بالتصريح بهذه التأويلات الفاسدة سببًا لهلاك الجمهور في الدنيا والآخرة.٥٠

ولابن رشد موقف مُزدوج. للعلماء يكون الوقف بعد وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الذين يَعلمون التأويل مع الله. وللجمهور يكون الوقف قبل الآية حتى يؤمن الراسخون في العِلم بما أنزل الله. والله وحده هو العالم بالتأويل. فإن كان ابن رشد صادقًا مع الجمهور فإنه لا يكون كذلك مع العلماء. وإن كان صادقًا مع العلماء فإنه لا يكون كذلك مع الجمهور.

والحقيقة أنه لا تُوجد قراءة موضوعية ومكان الوقف قبل الآية أو بعدها يتفق عليها الشرع. فلا يوجد مقروء. إنما توجد القراءة. والنص ما هو إلا قابلية للانقراء بالرغم من وجود قواعد اللغة العربية وأسباب النزول. والرُّوح مثَل غير مُطابق. فقد تكون الآيات المطلوب تأويلها تتعلَّق بأُمور عملية مثل الغنى والفقر والأرزاق والأسعار، والسُّلطة والقهر. موقف ابن رشد من التأويل هو موقف الصوفية.

والشَّرع ثلاثة أقسام:

(أ) ظاهر الشرع الذي لا يجوز تأويله. وتأويله كفرٌ في المبادئ العامة، وبدعة فيما دونها.

(ب) ظاهر الشرع الذي يجب على أهل البرهان تأويله، وحمله على ظاهره كفر، وتأويلُه من غير أهل البرهان كفر أو بدعة مثل آية الاستواء وحديث النزول. وهؤلاء الناس لا يقع لهم التصديق إلا بالتخييل والمكان والجسمية. وهي المتشابهات التي لا يَعلمها إلا الله والراسخون في العلم، وهم أهل البرهان. وقد يَختلفون في تأويله بحسب رُتبة كلٍّ منهم في معرفة البرهان.٥١
(ﺟ) شرع مُتردِّد بين الصنفين الأوَّلَين. يقع فيه شك فيُلحقه قوم من أهل النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله، بينما يُلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حَملُه على الظاهر للعلماء. والمُخطئ في هذا من العلماء معذور.٥٢

وقد حدَّدت الشريعة طرقًا أربعة يُعرف بها متى يجوز التأويل ومتى لا يجوز:

(أ) أن تكون المقدمات في التصور والتصديق يقينية مع أنها خطابية أو جدلية. وهي الحالة التي تكون فيها المُقدِّمات مشهورة أو مظنونة ولكن قياساتها يقينية، ونتائجها للأشياء ذاتها وليس لمثالاتها وهذا لا تأويل فيه. والجاحد والمُتأوِّل له كافر.

(ب) أن تكون المقدِّمات يَقينية مع كونها مشهورة أو مظنونة. وفي هذه الحالة تكون النتائج مثالات للأمور التي قصد إنتاجها لا لنَفسها، وتُؤَوَّل النتائج.

(ﺟ) أن تكون المُقدمات مشهورة أو مظنونة وليست يقينية. وتكون النتائج هي الأمور التي قصد إنتاجها بنفسها. ولا تُؤول النتائج في حين قد يعرض التأويل للمقدمات، وهي عكس الحالة السابقة.

(د) أن تكون المقدمات مشهورة أو مظنونة وليسَت يقينية وتكون النتائج مقالات لما قصد إنتاجه. وتُؤول للخواص، ويُعطى الظاهر للجمهور. فالمقدمات متسقة مع النتائج.

وكل ما يتطرَّق إليه التأويل لا يدرك إلا بالبرهان عند الخواص. ومهمة الجمهور حَملُه على ظاهره في التصور والتصديق. فليس في طباعهم أكثر من ذلك. وتتفاضل طرق التأويل عند الخاصة نظرًا لتفاضل طرقه في التصور والتصديق إذا كان دليل التأويل أتمَّ إقناعًا من دليل الظاهر. وأمثال هذه التأويلات جمهورية. أما تأويلات الأشعرية والمُعتزلة فقد وصلت إلى مرتبة التأويلات الجدلية، وإن كانت في المعتزلة أوثق أقوالًا. أما الجمهور فليس له إلا التأويل الخطابي أو البقاء على الظاهر.٥٣

وتقوم هذه الطرق الأربعة على التمييز بين مادة المنطق وصورته، اليقين في التصور والتصديق، والخطابة والجدل في القول. فهل هذا منطق قديم يقوم على التصور والتصديق وأنواع المقدِّمات أم إنه منطق جديد تمَّ التعبير عنه بمُصطلحات المنطق القديم أم إنه منطق قديم في شكله، جديد في استعماله؟ ويلاحظ من هذه القسمة الرباعية أن التأويل لا يجوز إلا في المقالات وليس في الأشياء ذاتها. وهل سيَتبع المُؤول هذا التمييز بين الأقسام الأربعة أم إن التأويل ضرورة نفسية واجتماعية لإعادة الاتساق بين الوحي والواقع النفسي والاجتماعي أو في المعارك الثقافية والحضارية؟ هل يُمكن السيطرة على التأويل أم إنه حركة إبداعية لا يمكن التحكم فيها؟ وكيف يُمكن التمييز بين النتائج والمقدمات؟ وهل يُمكن التطرق إلى تأويل أحدها دون الآخر؟ وهل تجوز مقدمات يقينية مع كونها مشهورة أو مظنونة؟

وما الفائدة من معرفة الخاصة المستقلَّة عن الجماهير، حقيقة يعرفها الخاصة ومحجوبة عن الجماهير؟ وهل ينتج من معرفة الخواص سلوك للخواص، ومعرفة الجماهير سلوك للجماهير؟ التأمل العقلي بدلًا من الصلاة عند الخاصة، وزيارة القبور والتبرُّك بالأولياء عند العامة؛ ومن ثَمَّ تزدوج الشريعة وتُصبح شريعتين؟ وإذا كان البرهان وسيلة التأويل فما لزوم التأويل والبرهان في غِنًى عن النص، والنص المؤول لا يذاع إلى الجمهور، والنص المؤول عليه خلاف لطبيعة الحُجة النصية في حين أن البرهان العقلي لا خلاف عليه؟ وماذا عن التأويل السياسي والاجتماعي كسلاحٍ للصراع الطبقي، فلكلِّ طبقة خاصتها ومُفكِّروها؟

والتأويل هو سبب نشأة الفِرَق. كفَّر بعضُها بعضًا، ومدح بعضها بعضًا، وبخاصة الفاسدة منها. أوَّلت المُعتزلة آيات كثيرة. وصرَّحت بتأويلها للجمهور. وكذلك فعلت الأشعرية وإن كانوا أقل تأويلًا فأوقعوا الناس في التباغض والحروب ومزَّقوا الشرع وفرَّقوا الناس. وتأويلاتهم لا تتَّفق مع الجمهور ولا مع الخواص. تنقصها شرائط البرهان، أصولها سوفسطائية، وتجحد كثيرًا من الضروريات مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمُسببات والصور الجوهرية والوسائط. بل إن فرقة منهم كفرت من لم يعرف الله بالطرق التي وضعوها في كتبهم، وهم الكافرون في الحقيقة. وقد اختلَفُوا فيما بينهم في أول الواجبات، النظر عند قوم، والإيمان عند آخرين؛ لأنهم لا يعرفون الطرق المشتركة التي دعا الشرع الناس إليها. ظنُّوا أنه طريق واحد فأخطئوا مقصد الشارع فضلُّوا وأضلُّوا.٥٤ وكما يَستعمِل الأشعرية سلاح التكفير للخصوم كذلك يستعمل ابن رشد سلاح التكفير ضدَّهم، أشعرية بأشعرية مضادة، فرقة ناجية بفرقة ناجية مضادة. ولا يذكر ابن رشد مقياس التأويل الصحيح وطريقة تمييزه عن التأويل الفاسد.

(ﻫ) الدفاع عن الفلسفة ضد تهمة التكفير

إذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل؛ لأنه لا يوجد إجماع في المسائل العمَلية فلماذا كفر الغزالي الفلاسفة في المسائل النظرية الثلاث؟ لم يُكفِّر الغزالي الفلاسفة قطعًا، بل ظنًّا؛ لأنه في «فيصل التَّفرقة» التكفير في المسائل النظرية مجرَّد ظنٍّ؛ لأنه لا يُوجد إجماع في المسائل النظرية ولوجود روايات من السلف عن تأويلات مُخالفة لا يُصرَّح بها لمن ليس أهلًا للتأويل، وهم الراسخون في العلم. ويتوقَّف ابن رشد طويلًا على مكان الوقف قبل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أو بعدها. فلو كان الوقف بعدها يَعلم الراسخون في العلم التأويل مثل الله. ويُدافع ابن رشد عن هذه القراءة بأنه إن لم يَعلم أهل التأويل العلم لم تكن لهم ميزة تصديق توجب لهم ما لا تُوجب لغيرهم. ولا يكون الإيمان إلا ببُرهان. ولا يكون البرهان إلا مع العلم بالتأويل. وغيرهم أهل الإيمان بلا بُرهانٍ أي بلا علم. لا يكون البرهان إلا مع العلم بحقائق الأشياء أي بالتأويل.

وهي قراءة ضعيفة، باطنية وليسَت فقهية. تدَّعيها كل فرقة أهل السلف وأهل الظاهر والباطنية والحكماء والمُتكلِّمون والفقهاء وهم على خلاف فيما بينهم، وبالتالي يَضيع الراسخون في العلم في أتون الخلاف. وينشأ النزاع والحرب والقتال والاستبعاد والتكفير المتبادَل. وخطورة ذلك في تكوين جماعة تدَّعي أنها الراسخة في العلم، تَعلم التأويل، وتحتكر العلم وتتسلَّط على رقاب الناس. وتكون مثل الله في العلم بالتأويل ومُساوية له في العلم والسلطة. وما دام لا يقوم إجماع على تأويلٍ نظَري أو عمَلي، والراسخون في العلم هم أهل التأويل يتم استبعاد فريق من علماء الأمة وإخراجه من الإجماع. ولم يَرِد ادِّعاء من الصحابة أنهم من الراسخين في العلم. بل ورَد العكس أنهم يَجتهدون الرأي مثل غيرهم. وكل طائفة تجعل نفسها هي الراسخة في العلم تقع في الدور لا محالة. فمَعرفة الراسخين في العلم في حاجة إلى تأويل، والتأويل عند الراسخين في العلم، ومن ثَمَّ تستحيل معرفتهم.

والموقف كله ضد حرية الفكر، وترك الأمر للمُستقبل للبحث والاجتهاد. والبحث عن الحقيقة أفضل من امتلاكها. المَوقف كله ضد تطوُّر التاريخ، وإبداعات الفكر في كل عصر، ومع غلق باب الاجتهاد. وماذا لو اختلف الراسخون في العلم في عصور مُتتالية ومن سمات الإجماع أن لكل عصر إجماعه؟ لا يُوجد رسوخٌ نظري في العلم، ثابت دائم لا يتغيَّر. والرسوخ في العلم في المسائل العملية هو معرفة المصالح العامة وتحقيقها، والمصالح مُتغيِّرة بتغيُّر العصور. وهو مُتغيِّر بتغيرها. الموقف كله ضد رُوح الاجتهاد وهو أحد مَصادر التشريع. الرسوخ في العلم معرفة الحقيقة، والاجتهاد بحث عنها. وما الفائدة من حقيقة لا يصل إليها الناس ويَقتصِر دورها على التصديق؟ وما فائدة حقيقة للخاصة، محجوبة عن العامة، والجماهير هي مجموع الأمة؟ وما مقياس التصديق والمراجعة عند الراسخين في العلم؟ هل هو الكشف والإلهام، وهو مقياسٌ ذاتي، أم قواعد اللغة وأسباب النزول وهو ما يُشارك فيه الجميع؟ ولا يطرح ابن رشد احتمال القراءة الأخرى التي تجعل الوقف قبل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الذين يؤمنون بالحقيقة نظريًّا بالرغم أيضًا من ضعف هذه القراءة. فما الفائدة من الرسوخ في العلم، والعلم برهاني، يتم التصديق به بلا سؤال وحتى لا يعود هناك فرق بين العلماء والجمهور؟

ويُكرِّر ابن رشد في «فصل المقال» دفاعه عن الفلاسفة كما فعل في «مناهج الأدلة» في المسائل الكبرى الثلاث التي كفَّر فيها الغزالي الفلاسفة: إنكار علم الله بالجزئيات، والقول بقدم العالم، وإنكار حشر الأجساد، بداية بالعلم قبل العالم.

بالنِّسبة لإنكار علم الله بالجزئيات لا يُوجد إجماع بين العلماء على تأويل لهذا الموضوع كما يرى الغزالي في ادِّعائه بإجماع العلماء على رأى، هو رأيه، في كيفية علم الله بالجزئيات بطريقة استقرائية حِسية بَعديَّة ضد رأي الفلاسفة في اتهامهم بالإنكار. والحقيقة أن الفلاسفة تُفسِّر كيفية العلم بالجزئيات بطريقة عقلية استنباطية قَبلية تنزيهًا للعلم الإلهي؛ ومن ثَمَّ يغلط الغزالي فيما يُنسَب إلى الفلاسفة ويروي عنهم؛ إذ لا يقول الفلاسفة بأن الله لا يعلم الجزئيات بل إنه يعلم بعلم غير مُجانس لعِلمنا. علمنا مُحدَث بحدوثه، مُتغيِّر بتغيُّره، وعلم الله ليس كذلك. فهو علة للمعلوم الذي هو الوجود. يتقابل العِلمان ولا يَتشابهان. الكليات عندنا معلومة عن طبيعة الوجود، وعند الله ليس كذلك. لا علم معقول باشتراك الاسم بين الله والإنسان مثل الجلل المقول على العظيم والصغير، والصريح المقول على الضوء والظلمة. وقد توهَّم المُتكلِّمون أن هناك حدًّا يشمل العلمَين. وعلم الله مُنزَّه عن أن يُوصف بكلي أو جزئي. ويستحيل أن يقول الفلاسفة إنَّ الله لا يعلم الجزئيات وهم يرَون أن الرؤيا الصادقة تتضمَّن الإنذار بالجزئيات الحادثة في المستقبل، وأن ذلك العلم المُقدَّر الذي يقع في النوم والوحي وغير ذلك من الإلهامات مثل العلم الأزلي المدبر للكل؛ ومن ثَمَّ لا معنى لتكفير الفلاسفة كما فعل الغزالي.٥٥
ويَرتبط اتهام الفلاسفة بإنكار علم الله بالجزئيات بنفي حدوث العلم في الله وإثبات قدمه. فقد أنكر العلماء تعلُّق العلمَين لإزالة الشك بعدم علم الله بالجزئيات. فالله لا يَعلم الجزئيات عندهم بعلم مُحدَث، حادث بحدوثها؛ إذ إنه علَّة لا معلولها كالحال في العلم المُحدَث. لا يعلم الله الجزئيات عن طريق العد والإحصاء، بل استنباطًا من الكليات.٥٦ وهو حكمُ قيمة يقوم على قياس الغائب على الشاهد. فالاستنباط أشرف من الاستقراء، والنازل أكمل من الصاعد، والصوري أعظَم مِن المادي، والأعلى أنبل مِن الأدنى.
وهي مسألة كلامية انتقَلت إلى الفلسفة. وهي نفس مسألة القدم والحدوث على مستوى العلم، بعد أن كانت على مُستوى العالم. وقد صاغها المتكلِّمون بطريقة: هل كانت الأشياء في علم الله قبل أن تكون؟ هل كانت قديمة ثم أصبحَت في علمه بعد أن وجدت على نحو مُغاير لما كانت عليه في عِلمه قبل أن تُوجد؛ وبالتالي يقع التغيُّر والحدوث في علمه. وهي مشكلة الوجود والصيرورة في الفلسفة. كيف يكون علم الله ثابتًا والعالم مُتغيِّرًا. وهي مُشكلة قدم العالم على مستوى العلم الإلهي وأحد أسباب جعل العالم قديمًا في العلم الإلهي. لو كانت الأشياء نفسها قبل علمها وبعد عِلمها لكان علم الله حادثًا. ولو كانت مختلفة لكان العدم والوجود شيئًا واحدًا. وإذا كان العلم الحقيقي هو العلم بالوجود على ما هو عليه اختلفَ العِلم في حالة تغيُّر الوجود. فأما أن يَختلف العلم القديم ويتغيَّر أو تكون الحادثات غير معلومة. وكلاهما مُستحيل. فعِلمه ثابت وموجود وليس مُتغيِّرًا أو جاهلًا. يحدث تغير في الأشياء نظرًا لخروجها من العدم إلى الوجود، وجعلها ثابتة مُكابرة. وما دام التغيُّر قد وقع في الوجود فإنه واقع في علم الله. ولا يصحُّ حل المُتكلِّمين في أنه يعلم الأشياء قبل كونها على ما ستُصبح عليه؛ لأن كونها زماني مكاني مختصَّة بالوجود والحادث والعلم قديم. ويَستحيل أن يكون العلم بالشيء قبل أن يُوجد وبعد أن يوجد هو نفس العلم. فالعلم يتغيَّر بتغير الموجود. وهل الغزالي في تهافتِه غير مُقنع، جعل العلم والمعلوم من المضاف. قد يتغير أحد المضافَين ولا يتغير المضاف الآخر في نفسه فتتغير المعلومات ولا يتغير علم الله. كما تتحرَّك الأشياء حول الإنسان والإنسان ثابت. وخطأ ذلك حدوث تغير في الإضافة ذاتها دون تغير موضوع الإضافة أي الحامل. وإذا كان العلم هو الإضافة فإنه يتغيَّر عند تغير المعلوم. ومع هذا يحدث تغيُّر آخر، قياسًا على الإبصار في الإبصار ذاته، وفي جهة الشيء، وفي الحالات المُختلفة بالنسبة للمُبصِر.٥٧
ويحلُّ ابن رشد هذا الإشكال برفض قياس الغائب على الشاهد، فالعِلم القديم مع الموجود خلاف الحال في العلم المُحدَث مع الموجود. وجود الموجود في العلم المُحدَث علَّة له. والعلم القديم علَّة للموجود. فإذا كان الموجود بعد أن لم يُوجد حدث في العلم القديم علم زائد كما يَحدُث في العلم المحدث لزم أن يكون العلم القديم معلولًا للموجود لا علة. فمِن الواجب إذن ألا يحدث تغير في العلم المحدث. وهنا يُحوِّل ابن رشد الحجة القديمة من القديم والمحدث في العلم إلى العلَّة والمعلول. ويرجع أيضًا إلى أن العلم الإنساني استقرائي والعلم الإلهي استنباطي. العلم الإنساني حادث بعد حدوث الموجود، والعلم الإلهي سابق على وجود الموجود بل وعلَّة له. وكما أنه لا يَحدُث في الفاعل تغيُّر عند وجود مفعوله كذلك لا يَحدُث في العلم القديم تغير عند تغيُّر معلومة. إذن لا يعلم الله الموجود بعلم مُحدَث حين حدوثه على ما هو عليه، بل بعِلم قديم. ومن ثَمَّ فإن تعلُّق العلم القديم بالمعلوم على صفة غير تعلُّق العلم المُحدَث بالمعلوم. الله عالم بها بعلم على غير صفة العلم المحدث. فهناك للموجودات علم آخر لا كيف له هو العلم القديم.٥٨

ويُمكن الرد على حُجة ابن رشد بأنه يَحدُث في الفاعل تغيُّر عند وجود مَفعوله؛ فالأب يتغيَّر بتغيُّر الابن، والأستاذ بالتلميذ، والشريعة بالنسخ. وقد جوَّز الشيعة على الله البداء. صحيح أن ابن رشد بهذه الحُجة الجديدة أحرص على التنزيه، وأقرب إلى البُرهان، ولكنه يَستعمل أحيانًا لغة الصدور، الخلق عن طريق العلم وليس عن طريق الإرادة.

ويَرجع هذا الإشكال إلى الربط بين علمَين، العلم الإلهي والعلم الإنساني، وتصور التعارُض بينهما في مسألة القدم والحدوث في حين أن العلم الإلهي حق شرعي والعلم الإنساني واقعي.٥٩ العيب إدخال الله كطرف في مشكلة العلم كما هو الحال في مشكلة الحرية، ثم رغبة الإنسان في إعطاء الله أفضل مما يُعطي نفسه. فعلم الله قديم في حين أنَّ علم الإنسان حادث. ويكون السؤال: مَن أَولى بالدفاع، علم الله القديم أم علم الله الحادث؟ والحقيقة أن الله ليس طرفًا في العلم أو الحرية، ولكنها مشكلة في العلم الإنساني بين الثوابت والمُتغيِّرات. فيه المبادئ العامة والوقائع الجزئية. هي ليسَت مُشكلة إيمانية بل مشكلة معرفية صرفة، الصلة بين المبادئ الصورية والمعارف الحسية، بين الاستنباط والاستقراء.٦٠ وفي الأخلاق بين المعيار والسلوك. وفي الوجود بين الوجود العام والموجودات الخاصَّة. وهي في الفِكر الديني مُشكلة وهمية تكشف عن الرغبة في التنزيه العقلي والتطهُّر النفسي، ولا وجود لها في الواقع. وإنَّ ضرب المثل بحالة العلم الإنساني تجعل الحديث عن العلم الإلهي مجرَّد قياس الغائب على الشاهد. وكيف يُنكر ابن رشد هذا القياس أحيانًا وهو أساس الفِكر الديني. قد يُنكره جدلًا ليكشف أن الفكر الديني بناء إنساني خالص، ويُحرره من استعباد المُتكلمين واحتكارهم له. والحقيقة أن البداية بالعلم الإنساني ثم تَنفي صفاته عن العلم الإلهي قياسًا للغائب على الشاهد. بقيَ إرجاع العلم الإنساني إلى أصله الأول ونشأته في الشعور.
أما قِدَم العالم وحدوثه فهو موضوع مُكرَّر في «التهافت». والخلاف فيه بين المُتكلِّمين الأشعرية والحكماء المتقدمين، وليس بين المتكلمين غير الأشعرية والحكماء المتأخِّرين. الخلاف بين الكلام والفلسفة، بين الموروث والوافد. ويرجع إلى اختلاف التسمية؛ فالمشكلة لفظية خاصة عند بعض القدماء في تحديد لفظ الوجود. هناك ثلاثة أصناف من الموجودات؛ طرفان ووسط، حادث وقديم، قديم من جهة وحادث من جهة. اتَّفَقوا في الطرفين، واختلفُوا في الوسط، أيهما علة وأيهما معلول. الحادث علة إدراك القديم وهو دليل الحدوث، من الخارج إلى الذهن أو القديم علة الحادث، من الذهن إلى الخارج.٦١ الحادث وُجد من شيء وعن شيء، عن فاعل ومادة، والزمان مُتقدِّم عليه مثل الأجسام الحسية. والقديم موجود وليس من شيء ولا عن شيء. ولا تَقدَّمه زمان. وهو الله باتفاق الفرقتَين، فاعل الكل وحافظه. يتَّصف بالخلق والعناية. والصنف الثالث الحادث من وجه القديم من وجه، موجود لم يكن عن شيء ولا تَقدَّمه زمان، ولكنه موجود من شيءٍ أي عن فاعل هو العالم. وقد اتفق المتكلمون والحكماء على أن العالم له ثلاث صفات. الأولى أن الزمان غير متقدم عليه؛ لأنه مكان للحركات والأجسام. والثاني أن الزمان المستقبل غير متناهٍ، وكذلك الوجود المستقبل. والثالث أن الخلاف في الماضي زمانًا ووجودًا؛ فهو مُتناهٍ عند أفلاطون وشيعته، وغير مُتناهٍ عند أرسطو وشيعته. فحين غلَبة الشَّبه مع القديم سُمي قديمًا، وحين غلَبه الشبه مع الحديث سُمي حديثًا وهو في الحقيقة لا قديمًا ولا مُحدَثًا على الحقيقة؛ لأنَّ المحدث الحقيقي فاسد بالضرورة، والقديم الحقيقي ليس له عِلة.٦٢

والمشكلة في الوافد وليسَت في الموروث، في الخلاف بين أفلاطون وأرسطو. وانتقلَت مع النقل إلى الموروث. أخذ المُتكلِّمون رأي أفلاطون؛ لأنه أقرب إلى الفِكر الديني، وأخذ الحكماء رأي أرسطو؛ لأنه أقرب إلى الفكر العلمي. والموضوع كله قياس الغائب على الشاهد، تشبيه وتقريب يدلُّ على صعوبة الوسط، تحويل العالم إلى إله أو تحويل الإلهي إلى عالم. والواسطة بين القديم والمُحدَث ضرورية لتجاوز الثنائية الأولى بين الحادث والقديم. ولماذا لا يكون الإنسان هو الرابطة بين القديم والحادث، قديم بالنسبة للنفس، حادث بالنسبة إلى البدن، باقٍ وفانٍ، إله وطبيعة؟ الخلاف إذن ليس مجرَّد خلاف لفظي في التسمية، بل هو خلاف مبدئي أصلي بِنيوي، حلَّه أفلاطون حلًّا لفظيًّا في التسمية فقط، مُحدَث أزلي جمعًا بين اللفظين المتقابلين، مُحدَث لأنَّ له أولًا ومُتناهيًا في الماضي، وأزلي لأنه غير مُتناهٍ في المستقبل.

أما حكم الشرع فإنه ليس ضدَّ قِدَم العالم ولا مع حدوثه. وهذه الآراء في قدم العالم وحدوثه ليسَت على ظاهر الشرع. بل إنَّ ظاهر الشرع في الإنباء عن إيجاد العالم يُخبر بأن صورته محدثة بالحقيقة ولكن الوجود والزمان مُستمران من الطرفَين، غير مُنقطعَين مثل العرش والماء وزمانًا قبل هذا الزمان أي المُقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. ويَقتضي ظاهر الشرع بوجودٍ ثانٍ بعد هذا الوجود. كما يَقتضي القول بأن السموات خلقت من شيء. ظاهر الشرع مع قدم العالم وليس مع حدوثه بل إن ظاهر الشرع ضد الخلق من عدم. وقد أول المتكلمون ظاهر الشرع بحيث يُوحي بذلك؛ ومن ثَمَّ لا إجماع عليه. وليس تأويل المتكلمين بالخلق أَولى بتأويل الحكماء بالقِدَم. كلاهما مُتأوِّل، وليس أحد الرأيَين أولى من الآخر. بل إنه يمكن تأييد قدم العالم بالنص في حين أن الخلق من عدم لا يُوجد نصٌّ عليه. القول بقدم العالم ليس تهمة. والحكماء أبرياء. بل إنَّ القول بالخلق هو التهمة. والمتكلمون مُتَّهمون؛ ومن ثَمَّ يُصبح المُتهم بريئًا، والبريء متهمًا.

والمصيب مأجور، والمخطئ معذور. للمصيب أجران، وللمُخطئ أجر واحد. والتصديق بالدليل شيء اضطراريٌّ وليس اختياريًّا. وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالصدق بالخطأ من أجل شبهةٍ يكون العالم معذورًا. عظمة الإنسان في الحكم والتأويل. وهذا الخطأ مصفوح عنه في الشرع. هو خطأ العالم المُؤول إذا نظر في الأشياء العويصة التي كلَّفه الشرع النظر فيها. أما خطأ الجاهل سواء كان فقيهًا أم حكيمًا فلا عذر فيه، إثم محض سواء كان في الأمور النظرية أو الأمور العملية. فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ لم يكن معذورًا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم تتوافر فيه شروط الحكم لم يكن معذورًا بل آثم كافر. وإذا كان الحاكم في الفقه يُشترط أن تجتمع فيه أسباب الاجتهاد؛ معرفة الأصول وطرق الاستنباط فيها بالقياس، فكذلك يُشترط في الحاكم على الموجودات معرفة الأوائل العقلية وطرق الاستنباط فيها. الخطأ في الشرع ضربان؛ الأول معذور فيه مَن كان من أهل النظر، وغير معذور فيه لو لم يكن من أهل الاختصاص، والثاني لا يُعذر فيه أحد من الناس. إن كان في مبادئ الشريعة فهو كفر، وإن وقَعَ خارجها فهو بدعة. وهو مثل الخطأ فيما تُفضي إليه الدلائل إلى اعتقادات الناس؛ مثل الإقرار بالله، وبالنبوات، وبالمعاد.٦٣

وصياغة ابن رشد لحكم الشرع أنه ليس ضد قدم العالم ولا مع حدوثه توحي بأن الشرع مع قِدم العالم وليس مع حدوثه؛ أي إنه يأخُذ صفَّ القِدَم ضد الحدوث، وليس مجرد رفض الحلين وإلغاء القضية. فلو كان حكم الشرع كذلك لكانت الصياغة أن الشرع ليس مع قِدَم العالم ولا مع حدوثه. ومع ذلك فإن منهج ابن رشد هو التشكيك في أنَّ الشرع ضد قِدم العالم أو أنه مع حدوث العالم حتى يمكن تخليص الشرع من جذبه نحو الرأيَين المُتعارضَين الذين يُؤولان ظاهر الشرع نحوهما. والحكم بالكفر واردٌ عند ابن رشد إذا ما أدَّى النظر في المبادئ العامة إلى إنكار وجود الله والنبوَّة والمعاد، وكذلك الحكم بالبدعة إذا أدَّى النظر فيما دون ذلك. هناك كفر في العقائد وبدعة في الشرائع، كفر في النظر وبدعة في العمل، وهو موقف الفقيه في إصدار الأحكام الشرعية وليس موقف الحكيم.

وموضوع حشر الأجساد مثال للموضوعات المُتشابهة في الشرع بين الظاهر والمؤول. الموضوع حشر الأجساد وليس المعاد. فالمعاد لا خلاف عليه. إنما الخلاف في الكيفية؛ معاد جسماني كما يقول به المُتكلمون أم معاد رُوحاني كما يقول به الحكماء؟ والجمع بينهما وارد. ليس الخلاف في الأصل بل في تأويل الكيفية. المعاد أصل لم يقع به التصديق بالأقاويل الثلاثة؛ الخطابية والجدلية والبرهانية. وتأويل الأصل كفر. وقد اختلفَت فيه الأمة إلى ثلاث فرق؛ الأولى الأشعرية وبعض أهل البرهان، ويَرونه ظاهرًا. والثانية كثير من المتصوِّفة ومن بينهم الغزالي وبعض أهل البرهان يَرونه مؤولًا، ويختلفون فيه كثيرًا. والثالثة الحكماء وأحيانًا الغزالي أيضًا يَجمعون بين التأويلَين. المخطئ منهم معذور، والمصيب منهم مشكور أو مأمور. ومن كان من غير أهل العلم فالواجب في حقِّه الحمل على الظاهر، والتأويل في حقه كفر؛ لأنه يُؤدي إلى الكفر. ومن أفشى له من التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر. لذلك لا تَثبت التأويلات إلا في كتب البراهين حتى لا يصل إليها إلا أهل البرهان. وإذا ثبتت في غير كتب البرهان واستُعملت فيها الأقاويل الشعرية والخطابية أو الجدلية كما فعل الغزالي فخطأ في الشرع والحكمة، وإن كان قصدُ الغزالي خيرًا، كثرة أهل العلم، ولكن النتيجة كثرة الفساد وقلَّة العلم. فانتقد الناس الحكمة، وانتقد آخرون الشريعة، وحاول فريق ثالث الجمع بينهما. وقد يكون هذا الجمع أحد مقاصد الغزالي في كتبه. فالغزالي كما نبَّه على ذلك لم يلزم مذهبًا مُعينًا؛ أشعري مع الأشاعرة، صوفي مع الصوفية، فيلسوف مع الفلاسفة.٦٤ لذلك يجب التنبيه بمنع كتبه مَن ليس أهلًا لها، وإن كان الضرر على الناس مِن كتب البراهين أخف؛ لأنه لا يَنظر في كتب البرهان في الغالب إلا أهل الفطر الفائقة. ويكون الضرر من عدم الفضيلة العِلمية والقراءة على غير ترتيب، وأخذها من غير معلم. وفي هذه الحالة تكون صادرة عن الشرع؛ لأنها ظلم لأفضل الناس وأفضل الموجودات، وهو العدل، معرفتها على كنهها.٦٥

فهل صحيح أنَّ الغزالي مُتنقِّل لم يلتزم بمذهب مُعيَّن، صوفي مع الصوفية، متكلم مع المتكلمين، حكيم مع الحكماء، فقيه مع الفقهاء، أم إن هذه طبيعة التأليف في العلوم؟ هناك مذهب واحد في مؤلَّفات الغزالي، الأشعرية والتصوف والشافعية، الأشعرية كأيديولوجية للسلطة للحاكم، والتصوف كأيدلوجية للطاعة للمحكوم، والشافعية الأيديولوجية الوسطية دفاعًا عن الوضع القائم. بالإضافة إلى تكفير المُعارَضة العَلنية في الخارج، مُسلَّحة كالخوارج، أو سِلمية كالمعتزلة، أو سرية في الداخل كالباطنية. خطأ الغزالي في أنه صرَّح بالعلم إلى غير أهله كمن يَتعاطى البرهان وهو ليس أهلًا له. ويتحدَّث ابن رشد عن المتصوِّفة وليس الصوفية؛ لبيان أدعياء التصوُّف، وكذلك عن المتفلسفة وليس الفلاسفة؛ لبيان أدعياء الفلسفة. وبالرغم من نقد الغزالي يبدو ابن رشد باطنيًّا من أنصار التأويل. فالتأويل له أهله. يَعلمون الحق، ولا يُفشون السرَّ للناس؛ ومن ثَمَّ لا يختلف ابن رشد كثيرًا عن الغزالي في ضرورة التأويل. ويُسمِّيه أبا حامد مُؤشرًا نفسيًّا على هذه القُربى. لا فرق بين وضع التأويل في كتب البراهين أو في «المضنون به على غير أهله». ويحكم بمنع الكتب على مَن ليس أهلًا لها، وكأن مهمَّة الفقيه ليس تنويرًا للجمهور وإشراكًا له في الشئون العامة. وأحيانًا يبدو الفقيه ابن رشد ويحكم بالكفر على مَن أوَّل أصل المعاد وليس كيفيته، وهي مسألة نظرية اجتهادية. والتكفير سلاح ذو حدَّين، مرةً من ابن رشد لخصومه، ومرة من خصومه له. وكيف يُشهر العقلاني سلاح التكفير، وهو سلاح سلَفي ضد مُعارضي الدولة باسم الخروج على العقيدة؟

والبديل عن طُرُق الأشعرية وغيرهم من أهل النظر هي الطرق المشتركة التي سلكها الشرع لتعليم الجمهور بها والتي لا يُمكن تعليمهم بغيرها. وهي الطرق الثلاثة التي بيَّنها الكتاب الموجهة إلى جميع الناس لا فرق بين عامة وخاصة، ولا يوجد أفضل منها. من أولها تأويلًا غير ظاهر بنفسه أو أظهر للجميع شيئًا غير موجود فقد أبطلَ حِكمتها وفعلها والمقصود منها في نيل السعادة الإنسانية. سلَكها الصدر الأول والتابعون فنالوا الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلاتها، ومَن وقَفَ منهم على تأويل لم يُصرِّح به. ثم أتى من بعدهم خلف لم يَستعملُوا التأويل فقلَّت تقواهم، وكثر اختلافهم، وارتفعت محبَّتهم، وتفرَّقوا فِرَقًا. والآن لا بدَّ من العودة إلى الكتاب لمعرفة الاستدلالات منه من تكليف الاعتقاد والاجتهاد في النظر إلى الظاهر دون تأويل، إلا إذا كان التأويل ظاهرًا بنفسه، أي مشتركًا للجميع، إلا من كان من أهل البرهان. وهي خاصة تتفرَّد بها هذه الأقاويل الشرعية، تُرضي الجمهور وترضي الخاصة. وتمتاز هذه الأقاويل الشرعية بثلاث خصائص تدلُّ على إعجازها ولم يستطع المتكلمون، معتزلةً وأشاعرة الوصول إليها، وهي:

(أ) لا يوجد ما هو أتمُّ منها إقناعًا وتصديقًا للجميع منها.

(ب) تقبل النصرة بطبعها إلى حدٍّ لا يقف على التأويل فيها إلا أهل البرهان.

(ﺟ) تتضمَّن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق.٦٦

والعجيب أن ابن رشد العقلاني يُظهر نوعًا من التصلب والتشدد في تصوُّره لطُرُق الشرع لتعليم الجمهور عندما يُثبت طُرقَه ويَستبعد أي طرق أخرى سواها، وهو ما تفعله السلطات الدينية والسياسية التي تقوم على الرأي الواحد. كما يبدو من السلفيِّين القدماء والمعاصرين في تصوره أن الكتاب به كل شيء، وأن الإسلام هو الحل، وأنه لا يُصلح هذه الأمة إلا ما صَلُح به أولها، وأن التاريخ انهيار وسقوط لا يتمُّ رفعه ونهضته إلا بالعودة إلى الصدر الأول والتابعين تقليدًا للقدماء، فالسلف خير من الخلف. الحضارة والتاريخ فرقة وتشتُّت وضياع وتكفير وحروب وإراقة دماء.

وما هو طريق الشرع أو طريق الكتاب بعد أن اختلف فيه النُّظار، كل فريق ينصُّ على أن فهمه لطريق الشرع هو طريق الشرع ذاته، وكأنَّ هناك طرقًا موضوعية في الكتاب والشرع خارج فهم النُّظار لها، وكأن الكتاب يَنطق ولا تنطق به الرجال. فانقسمت الأمة إلى فِرَق كلها ضالة، ولا تُوجد إلا فرقة ناجية واحدة هي التي كفَّرت ابن رشد وهي التي يُكفِّرها ابن رشد. كل منها يثبت نفسه ويستبعد الآخر، وكلهم إلى رسول الله مُنتسِب. وهل طرق الكتاب هي التي يُقررها ابن رشد أم إنها قراءة ابن رشد للكتاب في رؤية خاصة، وفي وضع اجتماعي خاص ولهدف مُحدَّد؟ ويبدو أن ابن رشد يفتح آفاقًا جديدة للإعجاز ويقول بالإعجاز المنطقي المنهجي للكتاب.

وكيف يكون تأويل ظاهر الشرع لا يتَّفق مع ظاهر الشرع؟ أليس هذا نَفي وإثبات لنفس القضية؟ التأويل بطبيعته ترك المعنى الظاهر إلى معنًى آخر لدلالة أو لقرينة. ولا يُمكن توحيده عند كل القُراء أو تقنينه ببعض الأوامر والنواهي نظرًا لاختلاف فِطَر الناس وطبائعهم وثقافاتهم واهتماماتهم، بل ومصالحهم ومواقفهم الاجتماعية. ومَن الذي يُحدِّد متى يكون الشرع ظاهرًا ومتى يكون مُؤوَّلًا؟ وما مقياس أهل البرهان ومعيار التأويل الذي يتَّفق مع ظاهر الشرع؟ يبدو أن ابن رشد — الذي أراد أن يُحرر الحكمة والشريعة من سوء التأويل — انتهى إلى أن كبَّلهما وقيَّدهما معًا بمجموعة من الأوامر والنواهي من وضعه حتى يجمع الأمة في طريق واحد هو طريق الكتاب، وهو بالضبط ما تفعله السلطة الدينية والسياسية التي كان هو أحد ضحاياها.

وبعد هذا الإسهاب فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال يَنتهي ابن رشد إلى المطلوب إثباته، وهو اتِّفاق الحكمة والشريعة كما انتهى من قبل الكندي وابن سينا وإخوان الصفا وابن طفيل. وقد أصبح الموضوع همًّا عند كل الفلاسفة وحزنًا في النفس مما تعرَّضت له الشريعة من أهواء فاسدة واعتقادات مُحرفة، وما تعرضت له الحكمة ممَّن ينتسب إليها. والصديق أشد من أذية العدو. وعدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل.٦٧ والسبب سوء المتأوِّلين، وليست الحكمة والشريعة في ذاتيهما. الحكمة صاحبة الشرعة والأخت الرضيعة، وهما المُصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والعزيزة. والتأويل هو أداة اتِّفاق الحكمة والشريعة.

اتِّفاق الحكمة والشريعة إذن موضوع حياة بأكملها يُمكن التفرغ له. وهو رسالة عدة أجيال مُستمرة في التاريخ دفاعًا عن الشريعة وما يُصيبها على أيدي أصحابها، ودفاعًا عن الحكمة وما يَنالها على أيدي المشتغلين بها والأذى الناتج عن سوء الفهم أكثر من الأذى الناتج عن العداوة المُصطنعة. والأذية الكبرى من الفِرَق وليس من الحكماء، إلا مَن ادَّعى منهم النظر ورغب عن معرفة الحق عن طريق وسط، أعلى من التقليد وأقل من شغب المُتكلِّمين. أما الخواص فلهم وجوب النظر التام في أصل الشريعة. الدعوة إذن للخواص للعلم والعمل والبحث عن الأصول والتأويل ليس للجمهور، فما دور الخواص بالنسبة للجمهور، قلة مُترَفة أم طليعة قائدة؟

(و) الشريعة والحكمة أم الحدس والبرهان؟

كان موضوع اتِّفاق الحكمة والشريعة يُعبر عن وضع الحضارة القديمة بالنسبة للدين الجديد الناشئ والحضارات الفلسفية القديمة خاصَّة اليونانية. ولما بدأ النظر سواء من الداخل بتنظير الآيات أو من الخارج بتمثُّل الفلسفة اليونانية نشأ التقابل بين الموروث والوافد في هذه الصيغة القديمة. وانتهى الفلاسفة بالإجماع إلى اتِّفاقهما معًا. فلا تعارض بين الموروث والوافد، بين الدين والفلسفة، بين الشريعة والحكمة، نقلًا للإشكال الكلامي، النقل والعقل أو السمع والعقل.٦٨ هذه الثنائيات القديمة تُعبِّر عن الوضع الحضاري القديم. ويُمكن معالجتها وإعادة التفكير فيها بطريقة جديدة. ومِن ثَمَّ يكون السؤال: هل نحن أمام شيئين؛ الحكمة والشريعة، أم أمام شيء واحد له جانبان؟ هل يتَّحد الشيئان ويتماثَلان أم يَلتقيان في مصدر ثالث مشترك؟
الشريعة أو الدين هو النص القرآني. والنص القرآني ليس مُطلقًا مُجرَّدًا، مُنعزلًا عن العقل والواقع. فقد نشأ في «أسباب النزول» أي في مكانٍ مُعيَّن وموقف اجتماعي خاص إجابة على سؤال. فالأولوية للواقع على الفكر.٦٩ وقد تدرَّجت الشريعة طبقًا للأهلية والقُدرة من الأثقل إلى الأخف، ومن الأخف إلى الأثقل على ما هو معروف في «الناسخ والمنسوخ»، وحضور الزمان داخل النص مثل حضور المكان. النص والواقع وجهان لعملة واحدة. والواقع لفظ قرآني سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ.
والنص أيضًا مقروء والقراءة فهمٌ منذ البلاغ الأول حتى البلاغ الآن. ويَقتضي الفهم العقل. كما أنَّ النص ذاته يحثُّ على النظر، ويدعو إلى إعمال العقل.٧٠ النظر أول الواجبات عند المعتزلة، وشرط التكليف في الأصول. العقل أساس الوحي وركيزته الثانية بعد الواقع ركيزته الأولى؛ ومن ثَمَّ يكون للوحي دعامتان، دعامة من أسفل في الواقع، ودعامة من أعلى في العقل.٧١
والحكمة أيضًا نشأت في واقع مُعيَّن هو الواقع اليوناني. يَضعها ابن رشد وباقي الحكماء في إطارها التاريخي مع وعي بالتمايُز الحضاري بين زماننا وزمانهم، واقعنا وواقعهم، وارتباطها باللغة اليونانية والأساطير اليونانية كارتباط علومنا باللغة العربية وبالدين الإسلامي. وهي حكمة أيضًا تقوم على النظر. فالله والعقل عند اليونان شيء واحد. والفلسفة الأولى طريق إلى المُحرِّك الأول، والعلة الأولى، والقوة العاقلة أشرف ما في النفس، والطبيعة عاقلة، واللهُ عقل وعاقل ومعقول. ومن ثَمَّ سهل اتِّفاق الحكمة والشريعة. الحكمة شريعة اليونان، والشريعة حكمة المسلمين كما قال السيرافي من قبل اللغة منطق اليونان، والمنطق لغة العرب.٧٢ والآن ما زال السؤال قائمًا حول ثنائية المعرفة على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي في الموروث والوافد. ففي الموروث ما زال السؤال القديم مطروحًا، الصِّلة بين الدين والفلسفة، الوحي والعقل، المعرفة الإلهية والمعرفة الإنسانية، القانون الإلهي والقانون الوضعي، حكم الله وحكم البشر. ونظرًا لأزمة العصر، وانهزام الأمة بدأ الشِّقاق بين فريقَين، كل فريق يتحزَّب لمصدر ويتعصَّب له فنشأ القتال بين الإخوة الأعداء، السلفيِّين والعلمانيين. الأول يُكفِّر الثاني، والثاني يُخوِّن الأول، وكلاهما يريد السلطة، ويَتصارعان حولها نظرًا لضيق النظام السياسي؛ فسادِه في الداخل، وتبعيته في الخارج. السؤال ما زال مطروحًا أمام الحكماء قبل السياسيِّين، ما الصلة بين الوحي والعقل، بين المعرفة الإلهية والمعرفة الإنسانية؟
الوحي يُقدم الحدس، والعقل يقوم بالبرهان. الوحي يُعطي الافتراض والعقل يتحقَّق من صدقه. الوحي يعطي الدفعة الأولى، ويضع القطار على قضيبَيه، والعقل يستمر في الدفعات التالية ويسير القطار حتى محطة الوصول. الوحي معطى والحكمة نظرية في التحقق. الوحي قبلي والحكمة بعدية. الوحي بلا نظر كالحدس بلا برهان، كيف يتمُّ فهمه وكيف يُمكن التحقُّق من صدقِه؟ والنظر بلا وحي تعدُّدية قد تنتهي إلى نِسبية وشكٍّ وتكافؤ الأدلة نظرًا لغياب المعيار إلا بداهة العقل واتِّساقه وتجربة الواقع وتطابقها.٧٣ والعقل والواقع مُكوِّنان للوحي وركيزتان له.
الوحي ضروري باعتباره مُعطًى حدسيًّا. يقوم بعدة وظائف معرفية وأنطولوجية.
  • (١)

    ضمان أوَّلي ليقين مبدئي حتى لا تتعدَّد الافتراضات وتَبطل إلى ما لا نهاية، فيكون ذلك مضيَعة للوقت والجهد، ومَدعاة للتفاؤل بقرب الكشف، وحتى لا تُصاب الروح باليأس والشك والعدمية.

  • (٢)

    تقصير الوقت في البحث النظري حتى يتمَّ التوجه إلى العمل، وبدون الوحي قد يَستغرق البحث النظري العمر كله فيَنقضي قبل الاستفادة منه في الحياة العملية.

  • (٣)

    إعطاء النظرة الكلية الشاملة للحياة دون الوقوع في جزئياتها، وإعطاء المبادئ العامة وترْك التفصيلات للاجتهاد الإنساني الذي يتغيَّر بتغيُّر العصور والأجيال.

  • (٤)

    اتِّفاق الناس جميعًا على حدٍّ أدنى من المبادئ لا خلاف عليها بدلًا من قسمة البشر بين المذاهب والنُّظُم، رأسمالية واشتراكية، فردية وجماعية في أحسن الأحوال، وبيض وسود، وصُفْر وسُمْر، ونامية ومُتخلفة، وأحرار وعبيد في أسوء الأحوال.

  • (٥)

    الارتباط بنوع من الثوابت عبر التاريخ حتى لا تتزعزَع المعايير، وتنقلب القيم رأسًا على عقب، فالحرية والعدالة الاجتماعية قيمتان مُطلقتان عبر العصور بالرغم من اختلاف فهمهما من عصر إلى عصر، ومِن حضارة إلى حضارة. ومن ثَمَّ يكون لحياة الأفراد والشعوب أساس أنطولوجي، ويكون هذا العالم قائمًا على أساس حق روح العدمية. الوجود وجود وليس الموجود عدمًا. والإنسان له أصل وله غاية، له بداية وله نهاية، ولم يأتِ من لا شيء ويَنتهي إلى لا شيء، أتى اتفاقًا وانتهى عبثًا.

  • (٦)
    الولاء النابع من الداخل والمُرتبِط بأعمق أعماق الإنسان، ليس فقط عن طريق الاقتناع المذهبي العقلي المَصلحي، بل بالارتباط الوجداني بحياة الإنسان ومصيره وسعادته المُستمرة في الحياة وبعد الموت، وربط المذاهب السياسية والاقتصادية بالميتافيزيقا العامة وفلسفات الكون كما هو الحال في آسيا، والإسلام دين آسيوي النشأة، مُرتبط بثقافات آسيا ودياناتها.٧٤
  • (٧)

    إعطاء الوحي دورة جديدة في التاريخ بعد أن اكتمل باكتمال النبوة، وإعلان استقلال الوعي الإنساني في المعرفة والسلوك، في النظر والعمل، وإعطاء الإنسانية دفعة جديدة نحو التقدُّم من خلال «لاهوت التحرير» وإعادة توظيف الدين كحركة تقدمية في التاريخ والتاريخ الآن على مُفترَق الطرق.

وما هو دور الحكمة بتعبير القدماء والفلسفة بتعبير المُعاصِرين؟ هو إعطاء البرهان على صحة الحدس. الفلسفة منهج التصديق ووسيلة للتحقُّق. الفلسفة كالمنطق آلة وليست علمًا، منهج وليست موضوعًا. ويكون ذلك عن طريق:
  • (١)

    حدس الماهيات، والإدراك المباشر للمعاني اعتمادًا على البداهة العقلية، وصفاء الضمير، والتجرُّد من الأهواء والانفعالات، ونُبل العواطف، وتوقُّد الوجدان، وتوتُّر المشاعر، والإحساس بالغاية، وشدة الولاء، وحب الناس، وتقدم التاريخ.

  • (٢)

    الرؤية المباشرة للواقع والتنظير له وإدراك المعاني الأولية وهي تتحقَّق في الواقع والتاريخ. فلا فرق بين المعنى والواقع، بين الفكرة والتاريخ. الواقع مصدَر للفكر وميدان لتحقُّقه.

  • (٣)

    تحليل التجارب البشرية الفردية والاجتماعية لمعرفة كنه الحقائق الإنسانية، ما يَستطيعه الإنسان وما لا يستطيعه. المعرفة ذاتية شخصية. أنا أشعر فأنا إذن موجود. وأنا أشعر بالعالم وبالآخرين فالواقع ميدان للفعل، والتاريخ ميدان للتحقق.

  • (٤)

    تحليل اللغة والقضايا الشفاهية والمدوَّنة لمعرفة تداخل عالم الألفاظ وعالم المعاني لتصوير عالم الأشياء. فاللغة منزل الوجود، وصورة للعالم، وبُعدٌ جمالي بتعبيرات المعاصرين خاصة في حضارة ما زال مركزها القول الشفاهي في الرواية أو المدون في الكتاب.

  • (٥)

    النقد الاجتماعي من أجل الكشف عن البِنية الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية وآليات تحريك المُجتمع. الفلسفة فلسفة اجتماعية بالضرورة، وصفٌ لتركيب المجتمع، نشأة وتطورًا، ثباتًا وحراكًا.

  • (٦)

    التعبير عن رُوح العصر، القضية العامة الرئيسية فيه، المشروع القومي الذي يُجنِّد طاقات الأمة ويُحقِّق مصالح الناس. الفلسفة مشروع تاريخي لشعبٍ ما تتحوَّل إلى حضارة ضمن تسلسل الحضارات في التاريخ.

  • (٧)

    التفكير في الثنائيات الجديدة التي امتلأ بها الفكر العربي المعاصر والتي تدلُّ على مرحلة جديدة من مراحل تطور الحضارة في التاريخ مثل: الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، التراث والتجديد، الأنا والآخر، القدماء والمُحدَثون، السلف والخلف، السلفية والعلمانية، الإسلام والغرب، الدين والعلم، الهوية والاختلاف، التأصيل والتغريب، الشرعية والاغتراب، الشرق والغرب، الجنوب والشمال، الأغنياء والفقراء، المركز والمحيط والتي تدلُّ على علاقة الذات مع نفسها عبر التاريخ، وفي نفس الوقت علاقة الأنا بالآخر في حوار الثقافات وصراع الحضارات.

١  تهافت التهافت ص٧١، هذا هو المنهج السائد في الفلسفة المعاصرة في الغرب خاصة عند هوسرل وبرجسون في نقدهما للاتجاه الطبيعي في الفلسفة، انظر رسالتنا «تفسير الظاهريات» (بالفرنسية).
٢  ردُّ ابن رشد أطول في اثنتي عشرة مسألة (١ + ٢ + ٣ + ٤ + ٦ + ٧ + ٨ + ٩ + ١٠ + ١١ + ١٢ + ١٥)، ويساوي نص الغزالي في مسألتين (١٤ + ١٨)، وأقلُّ من نص الغزالي في ست مسائل (٥ + ١٣ + ١٦ + ١٨ + ١٩ + ٢٠).
٣  هذه المقدمات الأربع هي:
(أ) ليعلم أن الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويل.
(ب) ليعلم أن الخلاف بينهم وبين غيرهم من الفرق على ثلاثة أقسام.
(ﺟ) ليعلم أن المقصود تنبيه مَن حسن اعتقاده في الفلاسفة.
(د) من عظائم حيل هؤلاء في الاستدراج إذا أورَدَ عليهم إشكال في معرض الحجاج قولهم إن هذه العلوم الإلهية غامضة.
٤  المسائل العشرون كما هي واردة في تهافت التهافت على النحو الآتي (عدد الصفحات):
(١) في إبطال قولهم بقِدم العالم (٣٣).
(٢) في إبطال قولهم في أبدية العالم والزمان والحركة (٦).
(٣) في بيان تلبيسهم بقولهم إن الله فاعل والعالم وصانعه (٢٨).
(٤) في بيان عجزهم عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم (٦).
(٥) في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن الله واحد (٤).
(٦) اتفقت الفلاسفة على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة للمبدأ الأول (١٣).
(٧) في إبطال قولهم إن الأول يجوز أن يشارك غيره في جنس ويفارقه بفصل (٥).
(٨) في إبطال قولهم إن وجود الأول بسيط (٣).
(٩) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم (٣).
(١٠) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن للعالم صانعًا (٢).
(١١) في تعجيزهم من يرى منهم أن الأول يعلم غيره ويعلم الأنواع والأجناس بقول كلي (٦).
(١٢) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول يعرف ذاته أيضًا (٢).
(١٣) في إبطال قولهم إن الله — تعالى عن قولهم — لا يعلم الجزئيات (٢).
(١٤) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله بحركته الدورية (٢).
(١٥) في إبطال ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء (٢).
(١٦) في إبطال قولهم إن نفوس السموات مطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في العالم (٤).
(١٧) الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا وما يعتقد سببًا ليس ضروريًّا عندنا (٥).
(١٨) في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي على أن نفس الإنسان جوهر روحاني قائم بنفسه (٥).
(١٩) في إبطال قولهم إن النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم بعد وجودها وأنها سرمدية (١).
(٢٠) في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان (٢).
٥  إبطال قولهم (٧)، إبطال ما ذكروه (١)، إبطال إنكارهم (١) = (٩)، في تعجيزهم (٥)، بيان عجزهم (٢)، في تعجيزهم من يرى (١) = (٨)، بيان تلبيسهم (١)، اتفقت الفلاسفة (١)، الاقتران (١).
٦  هذه المجموعات التسع وفروعها مرتَّبة ترتيبًا كميًّا طبقًا لعدد الصفحات كالآتي:
(١) في إبطال قولهم بقِدم العالم (٣٣).
(٢) في بيان تلبيسهم بقولهم إنَّ الله فاعل العالم وصانعه (٢٨).
(٣) اتَّفقت الفلاسفة على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة للمبدأ الأول (١٣).
(٤-أ) في إبطال قولهم في أبدية العالم والزمان والحركة (٦).
(٤-ب) في بيان عَجزهم عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم (٦).
(٤-ﺟ) في تعجيز من يرى منهم أنَّ الأول يعلم غيره ويعلم الأنواع والأجناس بنوعٍ كلي (٦).
(٥-أ) في إبطال قولهم إنَّ الأول لا يجوز أن يشارك غيره في جنس ويفارقه بفصل (٥).
(٥-ب) الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا وما يعتقد مسبَّبًا ليس ضروريًّا عندنا (٥).
(٥-ﺟ) في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي على أن نفس الإنسان جوهر روحاني قائم بنفسه (٥).
(٦-أ) في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن الله واحد (٤).
(٦-ب) في إبطال قولهم إن نفوس السموات مطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالم (٤).
(٧-أ) في إبطال قولهم إن وجود الأول بسيط (٣).
(٧-ب) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم (٢).
(٨-أ) في تعجيزهم على إقامة الدليل على أن للعالم صانعًا (٢).
(٨-ب) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول يعرف ذاته أيضًا (٢).
(٨-ﺟ) في إبطال قولهم إن الله — تعالى عن قولهم — لا يعلم الجزئيات (٢).
(٨-د) في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله بحركته الدورية (٢).
(٨-ﻫ) في إبطال ما ذكروه من الغرض المحرِّك للسماء (٢).
(٨-و) في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان (٢).
(٩) في إبطال قولهم إن النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم بعد وجودها وأنها سرمدية (١).
٧  (١) قدم العالم (١ + ٢ + ٣ + ٤ + ١٠).
  • (أ)

    في إبطال قولهم بقدم العالم.

  • (ب)

    في إبطال قولهم في أبدية العالم والزمان والحركة.

  • (جـ)

    في بيان تلبيسهم بقولهم إن الله فاعل العالم وصانعه.

  • (د)

    في بيان عجزهم عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم.

  • (هـ)

    في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن للعالم صانعًا.

(٢) صفات الله (٥ + ٦ + ٧ + ٨ + ٩).
  • (أ)

    في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن الله واحد.

  • (ب)

    اتفقت الفلاسفة على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة للمبدأ الأول.

  • (جـ)

    في إبطال قولهم إنَّ الأول لا يجوز أن يُشارك غيره في جنس ويفارقه بفصل.

  • (د)

    في إبطال قولهم إنَّ وجود الأول بسيط.

  • (هـ)

    في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم.

(٣) علم الله (١١ + ١٢ + ١٣).
  • (أ)

    في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره ويعلم الأنواع والأجناس بنوع كلي.

  • (ب)

    في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول يعرف ذاته أيضًا.

  • (جـ)

    في إبطال قولهم إن الله تعالى عن قولهم لا يعلم الجزئيات.

(٤) السماء (١٤ + ١٥ + ١٦ + ١٧).
  • (أ)

    في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله بحركته الدورية.

  • (ب)

    في إبطال ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء.

  • (جـ)

    في إبطال قولهم إن نفوس السموات مطلعة على الجزئيات الحادثة في هذا العالم.

  • (د)

    في الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببًا وما يُعتقد سببًا ليس ضروريًّا عندنا.

(٥) النفس (١٨ + ١٩ + ٢٠).
  • (أ)

    في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي على أن نفس الإنسان جوهر روحاني قائم بنفسه.

  • (ب)

    في إبطال قولهم إن النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم من وجودها وأنها سرمدية.

  • (جـ)

    في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان.

٨  تهافت التهافت ص٢–٢٠، ٢٠–٣٠، ٣٠–٣٥، ٣٥–٤١.
٩  السابق، الثالثة ص٤١–٦٩، الرابعة ص٦٩–٧٤، الخامسة ص٧٤–٧٨، العاشرة ص١٠٢–١٠٤.
١٠  «إن النظام الذي في العالم يظهر منه أن المدبر له واحد كما أن النظام الذي في الجيش يظهر منه أن المدبر له واحد، هو قائد الجيش، وهذا كلام صحيح»، تهافت التهافت ص٧٠.
١١  «ومُحال عندهم أن يُخلق الأفضل من أجل الأنقص لكن عن الأفضل. ولا بد يلزم وجود الأنقص كالرئيس مع المرءوس الذي كماله في غير الرئاسة، وإنما الرئاسة ظل كماله، وكذلك العناية بما ها هنا هي شبيهة بعناية الرئيس بالمرءوسين الذين لا نجاة لهم ولا وجود إلا بالرئيس، وبخاصة الرئيس الذي ليس يحتاج في وجوده الأتم الأفضل إلى الرئاسة، فضلًا عن وجود المرءوسين.» تهافت التهافت ص١١٦.
١٢  السابق، ص٧٤–٧٨، ٧٨–٩١، ٩١–٩٧، ٩٧–٩٩، ٩٩–١٠٢.
١٣  السابق ص١٠٤–١١٠، ١١٠–١١٢، ١١٢–١١٤.
١٤  «الحركة ليس لها وجود إلا في العقل إذ كان ليس يوجد خارج النفس إلا المتحرك فقط»، السابق ص١١٥.
١٥  «وأما تأويل العقول المفارقة التي تحرك فلكًا فلكًا على جهة الطاعة لها ملائكة مقربون فتأويل جاء على أصولهم، وكذلك تسمية نفوس الأفلاك ملائكة سماوية إذا قصد مطابقة ما أدَّى إليه البرهان وما أتى به الشرع»، السابق ص١١٨.
١٦  السابق ص١١٥، ١١٦–١١٨، ١١٨–١٢٢، ١٢٢–١٢٧.
١٧  وبراهين ابن سينا هي أحد مصادر براهين ديكارت على تمايز النفس عن البدن في الفلسفة الحديثة في الغرب.
١٨  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الرابع، ص٤٨٠–٥٢٧.
١٩  تهافت التهافت ص١٢٧–١٣٢، ١٣٢-١٣٣، ١٣٣–١٣٥.
٢٠  وهو نص مترجم إلى معظم اللغات الأجنبية وله شهرته في الجامعات الغربية.
٢١  انظر رسالتنا «مناهج التفسير» (بالفرنسية) ص٣٥٦–٣٧٣.
٢٢  فصل المقال ص٩-١٠.
٢٣  مثلًا عبارة «هذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب «التفرقة».» موضوع مُقحَم لا صلة لها بالسابق ولا باللاحق، ولا مضمون ولا مادة لها. فالسابق الأقاويل الثلاثة؛ البرهان والجدل والخطابة، المؤدية إلى الأصول الثلاثة؛ الله والنبوة والمعاد.
٢٤  الجزء الأول ص٩–٢٦، الثاني ص٢٩–٣٦، الضميمة ص٣٦–٣٩. كان انطباعي عن «الضميمة» نفس الانطباع منذ الصغر، أنها غير مفهومة، ملحقة خارجيًّا بفصل المقال، وربما لأن لفظ ضميمة غير مألوف وربما لأنها خالية من الموقف هجومًا أو دفاعًا على نحو صريح ومباشر، وربما ليست لابن رشد الحفيد.
٢٥  تفصل بين الجزء الأول والجزء الثاني فقرة: «هذا ما رأينا أن نُثبتَه في هذا الجنس من النظر؛ أعني التكلُّم بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة، ولولا شُهرة ذلك عند الناس وشُهرة هذه المسائل التي ذكرناها لما استَجزنا أن نَكتب في ذلك حرفًا، ولا أن نَعتذر في ذلك لأهل التأويل بعُذر؛ لأنَّ شأن هذه المسائل أن تذكر في كتب البرهان، والله الهادي، المُوفِّق للصواب»، فصل المقال، ص٢٧-٢٨.
٢٦  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول، المقدمات النظرية ص٣٣٥–٣٦٦.
٢٧  وأشهر مثال على ذلك قول عمر لليث بن سعد عندما ولاه قضاء مصر: قس الأشباه بالأشباه، والنظائر بالنظائر.
٢٨  فصل المقال ص١٠-١١.
٢٩  وهذا ما فعلته أيضًا في مشروع «التراث والتجديد» بتطبيق الاجتهاد والمصالح العامة في إعادة بناء العلوم الإنسانية القديمة طبقًا لتحديات العصر.
٣٠  وهذا هو موقف الوضعية المنطقية في الفكر الغربي المعاصر.
٣١  «إن كان لم يتقدَّم أحد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه فإنه يجب علينا أن نبدأ بالفحص عنه، وأن يَستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم حتى تَكتمل المعرفة، فإنه عسير أو غير مُمكن أن يقف واحد من الناس من تلقائه وابتدائه على جميع ما يُحتاج إليه من ذلك. كما أنه عسير أن يَستنبط واحد جميع ما يُحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك، وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك. فبيَّن أنه يجب علينا أن نَستعين على ما نحن بسبيله بما قاله مَن تقدَّمنا في ذلك. وسواء كان ذلك الغير مُشاركًا لنا أو غير مشارك في الملَّة فإنَّ الآلة التي تصحُّ بها التزكية ليس يُعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمُشارك لنا في الملَّة أو غير مُشارك إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المُشارك مَن نظر في هذه الأشياء قبل ملَّة الإسلام. وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فُحص عند القدماء أتمَّ فحص فقد يَنبغي أن نَضرب بأيدينا إلى كتبهم فنَنظُر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابًا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبَّهنا عليه»، (فصل المقال ص١١–١٢).
٣٢  ويُقال نفس الشيء عن أرسطو والمنطق، وجاليليو والعلم الجديد، وبيكون والآلة الجديدة، وفيكو والعلم الجديد (فلسفة التاريخ) … إلخ في الفلسفة الغربية.
٣٣  «وإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر، وحصلت عندنا الآلات التي بها نَقدر على الاعتبار في الموجودات ودلالة الصنعة فيها، فإنَّ من لا يعرف الصنعة لا يَعرف المصنوع، ومَن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع. فقد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجودات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية» فصل المقال ص١٢.
٣٤  «وإذا كان هذا هكذا فقد يجب علينا إن لقينا لمن تقدَّمنا من الأمم السالفة نظرًا في الموجودات واعتبارًا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن نَنظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم. فما كان منها مُوافقًا للحق قبلناه منهم وسُررنا به، وشكرناهم عليه. وما كان منها غير مُوافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم»(السابق ص١٣).
٣٥  «النظر في كتب القدماء واجب بالشرع؛ إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو القصد الذي حثَّنا الشرع عليه» (السابق ص١٣).
٣٦  فصل المقال ص١٤. ويُروى أن الرسول وصف شربة عسل كدواء. فلما لم تنجح قال: «صدق الله وكذب بطن أخيك.» مما يجعل الوحي والتجربة مُتعارضين. إلا إذا كانت حالة خاصة وليست حالة عامة.
٣٧  السابق ص١٥.
٣٨  السابق ص٣١.
٣٩  السابق ص٢٨-٢٩.
٤٠  وقد سار كانط في نفس التقسيم في الفلسفة الغربية.
٤١  المجلد الثالث، الإبداع ج١، الحكمة النظرية ج٢، الحكمة العملية.
٤٢  السابق ص٣١–٣٣.
٤٣  وذلك مثل الرازي في الطب الروحاني والطب الجسماني، ومثل اجتماع كلية الآداب وكلية العلوم في العصر الوسيط الغربي، وما أثاره كانط في «الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط»، دراسات فلسفية، ص٣١٩–٣٦٢.
٤٤  «ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدَّى إليه البرهان وخالفه الشرع أن ذلك الظاهر يَقبل التأويل على قانون التأويل العربي» فصل المقال، ص١٦.
٤٥  فصل المقال، ص١٥–١٧.
٤٦  «إنَّ ما من منطوق في الشرع مُخالف بظاهره لما أدَّى إليه البرهان، إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وُجد في ألفاظ الشرع ما يشدُّ بظاهره لذلك التأويل أو يُقارب أو يشهد» فصل المقال، ص١٧.
٤٧  وذلك مثل سقراط وأوغسطين وكيركجارد وهيجل ونيتشه.
٤٨  اللغة منزل الوجود عبارة شهيرة لهيدجر.
٤٩  روى البخاري عن عليٍّ قوله: «حدِّثوا الناس بما يَعرفون. أتُريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟» كما رُويَ ذلك عن جماعة من أهل السلف؛ فصل المقال ص٢٧–٢٨.
٥٠  السابق ص٣٠-٣١.
٥١  السابق ص٢٣–٢٥.
٥٢  كان بحث زكي نجيب محمود في مهرجان ابن رشد بالجزائر هو هذا الموضوع.
٥٣  السابق ص٢٩-٣٠.
٥٤  «وكذلك فعلت الأشعرية وإن كانوا أقلَّ تأويلًا، فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغُض وحروب، ومزَّقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق، وزائدًا إلى هذا كله أن طرقهم التي سلَكُوها في إثبات تأويلاتهم ليسوا فيها مع الجمهور ولا مع الخواص؛ لكونها إذا تُؤمِّلَت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان، بل كثير من الأصول التي بنَتْ عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية. فإنها تجحد كثيرًا من الضروريات مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمُسبِّبات والصور الجوهرية والوسائط. ولقد بلَغ تعدِّي نُظارهم في هذا المعنى على المسلمين أنَّ فرقةً من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود الباري بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم وهم الكافرون والضالون بالحقيقة. ومن هنا اختلفوا. فقال قوم أول الواجبات النظر، وقال قوم الإيمان، أعني من قِبَل أنهم لم يَعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع التي دعا الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنُّوا أن ذلك طريق واحد فأخطئوا مقصد الشارع وضلُّوا وأضلُّوا» فصل المقال، ص٣٣-٣٤.
٥٥  السابق ص١٩-٢٠، ٣٩.
٥٦  وذلك مثل ليبنتز في الفكر الغربي.
٥٧  السابق ص٣٦-٣٧.
٥٨  السابق ص٣٨-٣٩.
٥٩  الحق الشرعي De Jure، الحق الواقعي De Facto.
٦٠  هي نفس المشكلة القديمة بين أفلاطون وأرسطو، والحديثة بين ديكارت وبيكون، ليبنتز ولوك، كانط وهيوم.
٦١  سُميَ الأول في الفكر الغربي من توما الأكويني حتى كانط الدليل الكوني، والثاني الدليل الأنطولوجي.
٦٢  فصل المقال ص٢٠-٢١.
٦٣  السابق ص٢٢-٢٣.
٦٤  يَستشهد ابن رشد ببيت الشعر الآتي:
يومًا يمانٍ إذا لاقيتُ ذا يَمَن
وإن لقيتُ مَعديًا فعَدناني
٦٥  فصل المقال، ص٢٥–٢٧.
٦٦  «وهذا ليس يوجد لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة، أعني تأويلاتهم لا تقبل النصرة ولا تتضمَّن التنبيه على الحق، ولا هي حق، ولهذا كثرت البدع» (السابق ص٣٥).
٦٧  وبودِّنا لو تفرغنا لهذا المقصد وقدرنا عليه، وأن أنسأ الله في العمر فسنُثبِت فيه قدر ما يتيسَّر لنا منه، فعسى أن يكون ذلك مبدأً لمن يأتي بعده؛ فإن النفس ممَّا تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرَّفة في غاية الحزن، وبخاصة ما عرَض لها مِن ذلك مِن قِبَل من يَنسب نفسه إلى الحكمة، فإنَّ الأذية من الصديق هي أشد أذية من العدو، أعني أنَّ الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة. فالأذية ممَّن يُنسب إليها أشد الأذية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة. وهما المُصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة، السابق ص٣٦. وتشبه هذه الفقرة فقرة ابن سينا في آخر تلخيص الشِّعر.
٦٨  وبلُغة العصر الوسيط بين الإيمان والعقل أو بين الدين والفلسفة، والانتهاء إلى أنَّ الإيمان يبحث عن العقل لأنَّ العقل قاصر عن إدراك السر عند أوغسطين وأنسيلم وتوما الأكويني باستثناء أنصار المسلمين أبيلار والرشديين اللاتين الذين قالوا بأنَّ العقل يبحث عن الإيمان.
٦٩  انظر دراستنا: الوحي والواقع، دراسة في أسباب النزول، هموم الفكر والوطن، ج١ التراث والعصر والحداثة، ص١٧٦–٥٦.
٧٠  وهذا ما سُمي في الفكر العربي المعاصر عقلانية الإسلام أو واقعية الإسلام، وعلى نحو دفاعي في علم الكلام الجديد. كما يُروى الحديث القدسي: «أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أَقبِل فأقبَل، أَدبِر فأدبَرَ، وعزَّتي وجلالي ما خلقتُ إليَّ أعز منك.»
٧١  انظر رسالتنا «مناهج التفسير» (بالفرنسية) البِنية القبلية للوحي، الوحي والعقل والواقع، ص٣٠٩–٣٢٤. وأيضًا: الوحي والعقل والطبيعة، قراءة في القانون في الطب لابن سينا، مجلة الفلسفة والعصر، المجلس الأعلى للثقافة، العدد الأول، القاهرة ١٩٩٩م، ص١٠٧–١٣٠.
٧٢  المجلد الأول، النقل، ج١ التدوين، وأيضًا المجلد الثالث، الإبداع ج٢ الحكمة النظرية، الفصل الأول، المنطق.
٧٣  وقد وصلت الحضارة الغربية الآن إلى هذه الحالة من التعدُّدية والنسبية والشك وتكافؤ الأدلة إلى درجة العدمية، وإعلان موت الإله ثم موت الإنسان نظرًا لغياب المعيار ولا حتى العقل بعد هدم العقل، ولا الواقع بعد التنكُّر له.
٧٤  انظر دراستنا: Islam in the modern World, Islam without borders, the Chinese Case, Vol. II, Tradition, Revolution and Culture, Aglo-Egyptian, Bookshop, Cairo, 1995 pp. 331–341.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤