الفصل الأول

هل يوجد ما يُعرف بعُسر القراءة؟

تحظى القراءة والكتابة بقيمة كبيرة في كل المجتمعات تقريبًا. وحتى مع زيادة استخدام التكنولوجيا من أجل التواصل، ستبقى هذه الحقيقة قائمة: سيظل ضعف القراءة تحديًا، ولن يوجد ما يغني عن مهارات القراءة والكتابة في الحياة اليومية. تُعد مهارات القراءة والكتابة جوهرية للتعليم النظامي، الذي تكون فيه النصوص المطبوعة مصدرًا للكثير من الأشياء التي نتعلَّمها. وهي أيضًا جزء من «أدوات النجاة» التي نحتاج إليها لإدارة شئون حياتنا، عندما نوقِّع عقد إيجار — على سبيل المثال — أو نفتح حسابًا بنكيًّا، أو نستخدم ماكينة الصرَّاف الآلي، أو نقرأ ملاحظة أرسِلت من المدرسة إلى البيت. ولهذا، فإن صعوبات القراءة والكتابة لها آثار واسعة النطاق، تتجاوز الإنجاز الأكاديمي، لتشمل فرص العمل والسلامة الشخصية، وحتى الصحة النفسية إلى حدٍّ ما. وهذه الصعوبات لا تمثِّل مشكلة لمن يعانونها فقط، بل مشكلة للمجتمع أيضًا.

تُعرف صعوبات القراءة، غير الناتجة عن قِلة التعليم باسم «عُسر القراءة». يمكن تعريف عسر القراءة على أنه مشكلة في التعلُّم تؤثر — بشكل أساسي — في تطوُّر دقة القراءة والطلاقة ومهارات التهجي. غالبًا ما يكون عسر القراءة مصحوبًا بصعوبات أخرى، كالمشكلات المتعلقة بالانتباه والتنظيم والمهارات الحركية (الحركة)، لكن هذه المشكلات — في حد ذاتها — ليست مؤشرات تدل على عسر القراءة.

وَرَد أول وصفٍ للصعوبة التي نعرفها الآن باسم عسر القراءة في العالم الناطق بالإنجليزية عام ١٨٩٦ على يد وليام برينجل مورجان، وهو طبيب عام يكتب في دورية «بريتيش ميديكال جورنال». كتب مورجان عن مريض يبلغ من العمر ١٤ عامًا يُدعى بيرسي (كان الصبي يتهجى اسمه: «بريسي»)، وهو صبي «ذكي وماهر، وسريع في الألعاب، ولا يقل عمَّن في سنِّه في أي شيء. تمثَّلت الصعوبة الكبيرة التي واجهته — ولا تزال تواجهه — في عدم قدرته على تعلُّم القراءة.» بعد فحص بيرسي، الذي لم يكن يعاني من عيوب في العين أو في الرؤية، وتلقَّى تعليمًا جيدًا حتى ذلك الوقت، استنتج برينجل مورجان أن ما يعاني منه بيرسي هو حالة من «عمى الكلمات الخلقي»، ويتمثل — حرفيًّا — في عدم القدرة على تخزين الصور البصرية للكلمات في الذاكرة. افترض أن ذلك يرجع حتمًا إلى خلل في نمو منطقة في الدماغ، تُسمى التلفيف الزاوي الأيسر. ما كان مثيرًا للاهتمام هو أن الصبي كان قادرًا على قراءة الأرقام بطريقة طبيعية، وكان يستمتع بإجراء العمليات الحسابية؛ لذا اتضح أن مشكلاته ترتبط بمهارات القراءة والكتابة على وجه التحديد. عندما نفكِّر في الأمر الآن، من المثير أن نلاحظ مدى توافق هذا الوصف مع ما كان يمرُّ به بيرسي. ومثلما سنرى، أصبح من المعروف الآن — على نطاقٍ واسعٍ — أن عسر القراءة اضطراب تعلم محدد. على الرغم من ذلك، لا يزال الجدال مستمرًّا فيما يتعلق بحدود «الاضطراب» وصفاته المحددة، وحتى اسمه.

قبل أن نبدأ، سنلقي نظرة على ثلاث حالات تضع قصة عسر القراءة في سياق معاصر. سنعود إلى هذه الحالات كثيرًا لشرح العديد من سمات هذه الحالة النمائية وفهمنا لها.

بوبي

بوبي صبي في السابعة من عمره، يتمتع بمهارات تواصلٍ لفظي ممتازة، إلا أنه يتعثَّر في تعلُّم القراءة. كان أول طفل في أسرته، وعلى الرغم من أنه تأخَّر في تعلُّم الكلام، لم يشعر والداه بالقلق حيال ذلك؛ لأنه كان قادرًا على التواصل بشكلٍ جيد جدًّا. عندما بدأ بوبي يتكلم، كان من الصعب فهمه، وكثيرًا ما كانت أسرته تستمتع بالاستماع للكلمات الغريبة التي كان «يختلقها» للإشارة إلى الأشياء المختلفة. لم تتضح الصعوبات التي يواجهها بوبي إلا عندما التحق بالمدرسة. على الرغم من أنه عرف بعض الأحرف، وحتى بعض الكلمات في مرحلة الروضة، لم يتمكَّن من إتقان الطريقة الصوتية: ربط المقطع الصوتي بالحرف أو المقطع المكتوب في الكلمة. لم يبلُ بلاءً حسنًا على الإطلاق في اختبارات الطريقة الصوتية التي كان يجريها المعلم في نهاية السنة الأولى، وعلى الرغم من أن كتابته كانت منمقة، كان مقدار ما يكتبه محدودًا، كما أنه كان من الصعب فهم الكلمات التي كان يكتبها. وضِع في مجموعة متابعة خاصة في فصله في محاولة لتحسين مهارته في القراءة، وعلى الرغم من أن زملاءه في المجموعة نفسها أحرزوا تقدمًا، لم يحرز بوبي أيَّ تقدم. على العكس من ذلك، بدأ يتخلَّف عن أقرانه أكثر فأكثر، وبدأ سلوكه يتدهور.

ميشا

ميشا فتاة في العاشرة من عمرها، كانت تواجه صعوبة في القراءة، منذ أن بدأت المدرسة. شعر والداها بالقلق لأنها ستنتقل — بعد قليل — إلى المدرسة الثانوية، وقد لا تتمكن من مواكبة مهارات القراءة والكتابة المطلوبة. تلقَّت ميشا العديد من التدخلات (القراءة العلاجية) داخل المدرسة، وأحرزت تطورًا جيدًا في كلٍّ من القراءة والكتابة. غير أن قراءتها كانت لا تزال بطيئة وشاقة. ونظرًا إلى أنها كانت تبذل جهدًا في تحويل الكلمات المكتوبة في الصفحة إلى شكلها المنطوق (فك الرموز)، كانت تجد صعوبة في الانتباه لما تقرأ، ليس من الغريب إذن أنها لم تجد متعة كبيرة في القراءة. ميشا شخصية مبدعة جدًّا، وتعشق كتابة القصص وعمل قصص مصورة. وهي في الواقع واحدة من هوايتها المفضَّلة. لكن قدراتها الإملائية ضعيفة؛ لذا لا تحصل على التقدير الذي تستحقه نظيرًا لعملها الممتاز من جميع الجوانب. صار قلق ميشا يتزايد يومًا بعد يوم، وبدأت تقول إنها لا ترغب في الذهاب إلى المدرسة.

هاري

هاري شاب، يبلغ من العمر ٣٠ عامًا، عمل في مجال صناعة الأغذية، وتحديدًا في التسويق. ولديه أفكار عظيمة عن بناء العلامات التجارية والإعلان، كما أنه مندوب مبيعات ممتاز. أفاد هاري أنه واجه صعوبات أكاديمية خلال حياته. شُخِّص بعُسر القراءة وهو في التاسعة من عمره، وتلقَّى الكثير من المساعدة الإضافية في القراءة والتهجي من والديه ومعلم خصوصي. حين بلغ مبلغ الشباب، بات يتجنب المهام المتعلقة بالقراءة والكتابة، ولهذا السبب بالذات، اختار أن يكون مندوب مبيعات، لكنه كان يجد صعوبة في إكمال النماذج والفواتير والإقرارات الضريبية. تجنَّب هاري القراءة بأي ثمن، موضحًا أنه لم يقرأ سوى كتاب واحد فقط، وهو ««مثل عذراء» للكاتب ريتشارد برانسون». كما أنه اعتاد ألَّا يكتب إلا حين يُضطر إلى ذلك، وكانت كتابته — بشكلٍ أساسي — عبارة عن قوائم، على سبيل المثال، قوائم بالمهام التي يتعين عليه القيام بها وعدم نسيانها! لذا ربما يعتقد أن الذاكرة والمهارات التنظيمية هي أكثر ما يخذله أو يقف عقبة أمامه، وليس مهاراته في القراءة والكتابة.

هذه الحالات الثلاث تعرض لنا تصوُّرًا عمَّا يعنيه أن يكون الشخص مصابًا بعسر القراءة. تتغير طبيعة «عسر القراءة» بتغير السن، كما يتضح أن «الأعراض» التي تظهر على الشخص تتغير أيضًا. ومع ذلك، فإن جوهر المشكلة يتمثَّل في صعوبة «فك الرموز» (تحويل الكلمات المكتوبة إلى أصوات منطوقة) من أجل القراءة و«الترميز» (تحويل الأصوات المنطوقة إلى كلمات مكتوبة) من أجل التهجئة. لا تتحقق الطلاقة في هاتين العمليتين أبدًا. علاوة على ذلك، يستمر وجود هذه الحالة على الرغم من تقديم «مساعدة إضافية». تشير هذه الحالات الثلاث — أيضًا — إلى مشكلات تحدث بالتزامن مع عسر القراءة. في حالة بوبي، ارتبط عسر القراءة بصعوبات في السلوك، وفي حالة ميشا، ارتبط بالقلق، وفي حالة هاري، ارتبط بمشكلات التذكُّر والتنظيم. مثل هذه الصعوبات الإضافية شائعة، لكننا لا نفهم تمامًا ما إذا كانت نتيجة لعسر القراءة أو لها منشأ آخر.

النموذج الطبي لعُسر القراءة

خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، تولى دراسة عمى الكلمات الخَلقي اختصاصيو العيون، مثل جيمس هينشلوود، أحد المعاصرين لويليام برينجل مورجان، وهو الذي وصف الحالات التي تتفق مع ما عُرِف، فيما بعد، باسم «النموذج الطبي» لعسر القراءة. نظر هؤلاء الأطباء السريريون إلى عمى الكلمات الخلقي باعتباره حالة منفصلة، لها مجموعة من العلامات والأعراض المحددة. على الرغم من ذلك، بدأ هذا التصور عن صعوبات القراءة يتغير في ثلاثينيات القرن العشرين، بعد نشر طبيب الأعصاب والبصريات الأمريكي صامويل تي أورتون للمؤلَّف البارز «اضطرابات الكلام واللغة والقراءة والكتابة».

كان لدى أورتون ملحوظة مهمة جدًّا: لاحظ أن ضعف القراءة متوارث في الأسر، وأن أفراد الأسرة الآخرين عادة ما يعانون من مشكلات في الكلام واللغة، يشمل ذلك التلعثم. وأخذ يربط هذه الملاحظات بالتخصيص الجانبي لوظائف الدماغ (ميل أحد جانبَي الدماغ إلى أداء وظائف إدراكية محددة)، ومن ثَم ربطها بتكرار عكس الأحرف، وعكس ترتيب الأحرف في الكلمات المرتبط بعسر القراءة. وفي ضوء معرفتهم أن المعلومات البصرية تصل إلى النصف المهيمن في الاتجاه الصحيح، في حين يتلقَّى النصف غير المهيمن صورة طبق الأصل منها في الاتجاه المعاكس، كان من الضروري حجب الصورة المربكة من أجل المضي قُدمًا في القراءة بشكلٍ طبيعي. اعتقدَ أورتون أن الطفل الذي لم تتطور لديه هيمنة دماغية (هيمنة أحد نصفَي الدماغ عند القيام بوظائف محددة) لن يكون قادرًا على حجب الصورة المطابقة للأصل، وسيكون هناك خلطٌ مستمر بين الرموز، لا سيما الرموز التي يمكن عكسها مثل الحرف b والحرف d في الإنجليزية. كما استخدم مصطلح «القراءة المقلوبة (strephosymbolia)»، الذي يعني — حرفيًّا — عكس اتجاه الرموز، لوصف هذه الحالة. على الرغم من أن نظريته لم تكن صحيحة، شأنها شأن الفكرة ذات الصلة، التي تفيد بأن عسر القراءة مرتبط باستخدام اليد اليسرى بدلًا من اليمنى (العُسر)، فقد ثبتت صحة ملاحظاته المتعلقة بانتقال السمات بين أفراد الأسرة، وستساعدنا هذه الملاحظات، كما سيتضح، على فهم تسلسل العوامل المؤدية إلى عسر القراءة (انظر الشكل رقم ١-١).
fig1
شكل ١-١: تمثيل تخطيطي لفرضية أورتون التي تفيد بأن الافتقار إلى هيمنة الدماغ تؤدي إلى الخلط بين الصور البصرية، التي تُرسَل إلى الجانبين الأيمن والأيسر من الدماغ.

رغم ذلك، لا يُذكَر أورتون لنظريته، بل للممارسة التي نشأت في عيادته في بوسطن في ثلاثينيات القرن العشرين. فهناك قدمت المعلِّمتان الموهوبتان آنا جيلينجهام وبيسي ستيلمان طُرقًا رائدة لعلاج صعوبات القراءة. انطلقتا من افتراض أن سبب صعوبات القراءة يتمثَّل في صعوبة حفظ تسلسل الأحرف في الكلمات، وعليه كانت مهمتهما هي تكوين تمثيلات لتسلسل الأحرف في الكلمات داخل الذاكرة، دون الاعتماد على العمليات البصرية (المغلوطة). استخدم المنهج الذي طورتاه ثلاثة أنظمة حسية، وهي البصرية والسمعية والحركية، لتعزيز المفاهيم الجديدة في أثناء التعلم، والتحايل على العجز الأساسي، وهي استراتيجية توصف بأنها «تعليم متعدد الحواس». لكن الطريقة تنطوي على ما هو أكثر من ذلك بكثير. فالأطفال يتعلمون قواعد الكتابة مباشرة من خلال ربط الأحرف وترتيبها بالأصوات المقابلة، ومن ثَم تكوين معرفة بالعلاقات بين الأحرف والأصوات المقابلة لها، وأنماط التهجئة والقواعد. ولا يزال منهج أورتون وجيلينجهام وستيلمان — الناجح — معروفًا في جميع أنحاء العالم، وأثَّر في أجيال من المعلمين المتخصصين في عُسر القراءة. ولا تزال التطبيقات العملية لهذا المنهج (مثل البرنامج الشامل من الألفا إلى الأوميجا، وطريقة هيكي في المملكة المتحدة) أساس أساليب التدخل المستخدَمة في الوقت الحاضر لمساعدة الأطفال الذين يعانون من عُسر القراءة.

استمر أتباع أورتون في تدريب المعلمين على طرق تدريس الأطفال الذين يعانون من صعوبات في القراءة، وقد استُخدِم مصطلح «عُسر القراءة» في ستينيات القرن العشرين بالمملكة المتحدة لوصف هؤلاء الأطفال. ابتُكر مصطلح «عُسر القراءة (Dyslexia)» على يد طبيب العيون الألماني رودولف برلين، وهو مكون من المقطع dys ويعني «سيئ أو غير طبيعي أو عسير» والمقطع lexis ويعني «الكلام» (ويبدو أن السبب في هذه التسمية — آنذاك — هو الخلط بين الفعل اليوناني legein «يتكلم» والفعل legere «يقرأ»). على الرغم من وجود اتفاق على أن التعامل مع «عُسر القراءة» يتطلَّب إجراءً تعليميًّا، انتشر نموذج طبي يتضمن إحالة الأشخاص الذين يعانون من عُسر القراءة إلى التشخيص والعلاج في المملكة المتحدة، وغيرها من الأماكن. وبهذا، سعى الآباء للحصول على «تشخيص» قبل بدء التعليم.

كان الدكتور ماكدونالد كريتشلي واحدًا من أبرز اختصاصيي التشخيص المؤثرين، وهو طبيب أعصاب في المستشفى الوطني في لندن، كان يفحص الأطفال في عيادته، ثم «يحيلهم» إلى تلقي العلاج. في عام ١٩٦٣، على مقربة من هذه العيادة، افتُتح «مركز عمى الكلمات» الذي ضمَّ فريقًا مكونًا من أطباء ومعالجين نفسيين ومعلمين واختصاصيين في التخاطب؛ لتقييم الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة وتدريسهم. وكان من بين العاملين في المركز شخصيتان رائدتان، وهما البروفيسور تيم مايلز والدكتور سانديا نايدو اللذان ألَّف كلٌّ منهما كتابًا مؤثرًا، قاد أبحاث عسر القراءة إلى اتجاه أكثر علمية. بات مركز عمى الكلمات معروفًا بخبرته، وأصبح الآباء يقطعون أميالًا عديدة كي يخضع أطفالهم للفحص وتلقي الدروس المتخصصة مرة في الأسبوع عادة.

وعلى الرغم من هذه التطورات، بدأ عُسر القراءة يكتسب سمعة بوصفه اضطرابًا يصيب الطبقات المتوسطة، وبدأ رفض المتخصصين في مجال التعليم للاعتراف به يزداد تدريجيًّا. كان هذا وضعًا مؤسفًا. فصحيح أن الآباء الأكثر تعليمًا هم الذين وجدوا طريقهم إلى المراكز التي كان من شأنها «تشخيص عسر القراءة»، لكن هذا كان يرجع إلى كونهم أكثر وعيًا بالحالة، لا لأن أطفالهم أكثر احتياجًا إلى التشخيص. ومن سوء الحظ أنَّ احتياجات الأطفال، الذين يعانون من صعوبات شديدة في القراءة والتهجي، كانت تُهمل في أغلب الأحيان. ما كان يلزم هو دراسة منهجية مُحكَمة، يمكنها تمييز هؤلاء الأطفال، وتقييم استجاباتهم للتدريس. وثمة دراسة للصحة والتعليم والسلوك لجميع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين تسع و١٠ سنوات في جزيرة وايت خلال الستينيات قدمت مثل هذا الدليل.

عسر قراءة أم اضطراب تعلُّم محدد؟

اتسمت الدراسة التي أجريت على مجموعة جزيرة وايت بالريادة. شمل المسح الإحصائي جميع الأطفال الذين تتراوح أعدادهم بين تسع سنوات وإحدى عشرة سنة، والبالغ عددهم ٢٣٣٤، باستخدام مجموعة متنوعة من الطُّرق. كان الهدف يتمثَّل في تحديد مدى انتشار اضطرابات الطفولة، التي تؤثر في الصحة والرفاه، وفي ذلك الحالات النفسية واضطرابات التعلم. وكجزء من هذه الدراسة الضخمة، قيَّم مايكل روتر وبيل يول وزملاؤهما التحصيل التعليمي للأطفال، وأسَّسوا العلاقة بينه وبين معدل الذكاء. أتاح هذا الإجراء التمييزَ بين الأطفال الذين لديهم مستويات منخفضة من التحصيل القرائي ترتبط بانخفاض مستوياتهم الإدراكية، وبين الأطفال الذين يعانون من صعوبات أكثر تحديدًا (الذين كانون يُعتبرون — آنذاك — مصابين بعسر القراءة).

من الضروري وصف بعض سمات الطُّرق التي استخدموها. خضع جميع الأطفال للتقييم وفقًا لمقياس وكسلر لذكاء الأطفال (WISC)، الذي قدَّم مقاييس لنسبة الذكاء اللفظي (اللغوي) وغير اللفظي (المرتبط بالأداء)، ومعدل الذكاء الإجمالي. علاوة على ذلك، أكمل الأطفال تقييمًا في القراءة، قرءوا فيه — بصوتٍ مرتفع — فقرات قصيرة، وأجابوا عن الأسئلة التي طُرحت عليهم بشأنها. قدَّم الاختبار قياسات لدقة القراءة، ومعدل القراءة ودرجة فهمها. كانت هناك علاقة قوية — إلى حدٍّ ما — بين معدل الذكاء والتحصيل القرائي في العينة (بلغت درجة الارتباط نحو ٠٫٦)، أي أنَّ الأطفال ذوي القدرات الإدراكية الأعلى كانوا أفضل في القراءة (من حيث الدقة والفهم). بعد ذلك، طبَّق الباحثون منهجًا إحصائيًّا باستخدام البيانات المستخلَصة من العينة المأخوذة من المجموعة للتنبؤ بمعدلات التحصيل القرائي المتوقعة لكل طفل بِناءً على معدل الذكاء. وفور استخلاص هذه المعدلات «المتوقعة» كان من الممكن مقارنتها بالمعدلات الفعلية التي حصل عليها الأطفال، وبناءً عليه تحديد الأطفال الذين كانت معدلات القراءة التي حصلوا عليها أقل من المتوقع بشكلٍ ملحوظ. كان الأطفال الذين حُدِّدوا يعانون من صعوبات محددة في القراءة (أطلِق عليها آنذاك «التأخر القرائي المحدد»). وكان السؤال الحاسم هو ما يلي: هل بدت حالة هؤلاء الأطفال شبيهة بالأطفال الذين وصفهم النموذج الطبي بأنهم يعانون من عسر القراءة؟

للإجابة عن هذا السؤال، قارن الفريق البحثي بين الأطفال الذين يعانون من صعوبات في القراءة على وجه التحديد، وأطفال على الدرجة نفسها من ضعف القراءة من العينة، لكن ضعف القراءة كان متفقًا في حالتهم مع التوقعات نظرًا إلى قدراتهم الإدراكية المنخفضة (سنطلق عليهم ضعاف القراءة ذوي القدرات المنخفضة). معنى هذا، بعبارة أخرى، أنهم قارنوا الأشخاص الذين كان ضعف القراءة لديهم «مخالفًا للتوقعات» بالأشخاص الذين كان ضعف القراءة لديهم «متفقًا مع التوقعات» لدراسة مفهوم عسر القراءة.

كانت نتائج هذه المقارنة مفيدة. كانت هناك اختلافات طفيفة بعض الشيء بين الأطفال الذين يعانون من صعوبات في القراءة على وجه التحديد، والأطفال الذين يعانون من ضعف القراءة ولديهم قدرات إدراكية منخفضة، لكن الأمر ليس أن إحدى المجموعتين تبدو «مصابة بعسر القراءة»، والأخرى «بطيئة» فحسب. ولم يكن ثمة دليل بالفعل يؤيد وجود «الدلائل العصبية الخفيفة» التي اتُّفِق على ارتباطها بعسر القراءة بموجب اجتماع المؤتمر العالمي لطب الأعصاب عام ١٩٦٨. ومع ذلك، كانت الاختلافات بين المجموعتين غنية بالمعلومات المفيدة. من بين الأطفال الذين يعانون من صعوبات في القراءة على وجه التحديد، كان الأولاد أكثر إصابة من الفتيات (بنسبة نحو ٣ : ١)، كما تقاسم أفراد هذه المجموعة تاريخًا من التأخر والصعوبات المتعلقة بالكلام واللغة. في المقابل، تساوت أعداد الأولاد والبنات الذين يعانون من ضعف القراءة ولديهم قدرات إدراكية منخفضة تقريبًا، كما أنهم عانوا من مجموعة واسعة من الصعوبات وصور التأخر النمائية، لا في الكلام واللغة فحسب، بل في التنسيق الحركي أيضًا.

يمكن القول إن الأهم من ذلك هو أن التقدم الذي أحرزه الأطفال في كل مجموعة، على مدى العامين التاليين، اختلف عن المجموعة الأخرى: كشفت دراسة متابعة أن الأطفال الذين يعانون من مشكلاتٍ في القراءة — على وجه التحديد — أحرزوا تقدمًا أقل في مهارات القراءة الأساسية مقارنة بالأطفال الذين يعانون من ضعف القراءة، ولديهم قدرات إدراكية منخفضة، رغم أنهم يتمتعون بمستويات ذكاء أعلى. ونتيجة لهذا، ساهمت دراسة جزيرة وايت بتقديم بعض من أقدم الأدلة على أن الأطفال الذين يعانون من صعوباتٍ في القراءة على وجه التحديد يُظهرون استجابة ضعيفة لتعليمات القراءة. في الفترات الأحدث، اقتُرح نهج «الاستجابة للتدخل» بوصفها طريقة أفضل من مهارات القراءة المَقيسة في تحديد صعوبات عسر القراءة المحتملة. وكما سنرى، لم يعد المنهج المعني بتحديد مشكلات القراءة، بِناءً على التناقض بين معدل الذكاء والتحصيل القرائي، يحظى بالتأييد.

صعوبة وضع تعريف لعسر القراءة

كان لنتائج دراسة جزيرة وايت تأثيرٌ كبير في توضيح حقيقة أن المشكلة التي تمثِّلها صعوبات قراءة محددة مشكلة حقيقية. في بريطانيا، ظهر مصطلح «صعوبات التعلم المحددة» في الوقت الذي كان فيه مصطلح «صعوبات التعلم» مستخدمًا في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن ماذا حدث لمفهوم عسر القراءة؟ يُسفر البحث عن مصطلح «عسر القراءة» على جوجل عن ١١ مليون نتيجة، في حين يُسفر مصطلح «صعوبات التعلم المحددة» على نصف النتائج. الحق أنَّ تعريف عسر القراءة يظل موضع نقاش، على الرغم من أننا لم نزل نستخدم المصطلح بشكلٍ عام. حتى يومنا هذا، ثمة توترٌ بين النموذج الطبي «لعسر القراءة» وفهم «صعوبات التعلم المحددة» في الأوساط التعليمية.

يتمثَّل جوهر مشكلة مفهوم عسر القراءة في أنه ليس اضطرابًا له مجموعة محددة وواضحة من السمات التشخيصية، على عكس الحصبة أو جدري الماء. وإنما تكون مهارات القراءة موزعة توزيعًا احتماليًّا طبيعيًّا بين المجموعة (مصطلح إحصائي يعني أن القراءة، كالوزن أو الطول، تتفاوت باستمرارٍ بين الأشخاص، وتقع الغالبية العظمى من الأشخاص في النطاق المتوسط)، ولا توجد حدود بين «عسر القراءة» و«القراءة الطبيعية». على الرغم من ذلك، إذا كان الأطفال يجدون صعوبة في فك ترميز النص المكتوب فسيشكِّل ذلك عقبة أمام القراءة بفهمٍ، وهو ما يشكِّل بدوره عائقًا أمام الإنجاز التعليمي.

fig2
شكل ١-٢: رسم كاريكاتوري يتناول مثالًا عن عسر القراءة لكلمة «مرحبًا».

لنا أن نتساءل إذن: لماذا استمر مفهوم عسر القراءة؟ أحد الأسباب يتمثل في وجود الكثير من الأطفال الذين يجدون صعوبة بالغة في تعلُّم القراءة والكتابة، ويتطلبون دعمًا تعليميًّا. ويوجد العديد من التقارير التي تفيد بأنه من غير هذا الدعم يتعرض هؤلاء الأطفال لانخفاضٍ مستمر في مستوى الإنجاز والثقة بالنفس، وربما يؤدي ذلك أيضًا إلى المشكلات المتعلقة بالتكيف العاطفي والسلوكي، التي لاحظناها في الحالات الثلاث التي تناولناها سابقًا. وبهذا يصبح الهدف من «تصنيف» هؤلاء الأطفال هو توصيل احتياجاتهم التعليمية والتدخل اللازم، أي الإشارة إلى ضرورة التدخل لدعم مهارات القراءة والكتابة. علاوةً على ذلك، فنظرًا إلى أن اضطرابات التعلم تلازم الشخص طوال فترة حياته، فإن تصنيف الشخص باعتباره ممن يعانون من عسر القراءة من شأنه أن يشير إلى ضرورة القيام بترتيباتٍ مناسبة، لا في المدرسة فحسب بل في مكان العمل أيضًا. فمن المهم بالفعل التأكد من أنَّ المتطلبات المتعلقة بمهارات القراءة والكتابة لن تحول بين شخص مثل هاري وبين الوظيفة التي تناسبه.

في هذا الصدد، يكون عُسر القراءة أشبه بضغط الدم المرتفع؛ لا يوجد حدٌّ فاصل بين ضغط الدم المرتفع وضغط الدم «الطبيعي»، لكن إذا ظل ضغط الدم المرتفع دون علاج، فسيزداد خطر حدوث مضاعفات. ومن ثَم، فإن هناك ما يبرر وجود تشخيص «ارتفاع ضغط الدم»، مما يؤدي — بدوره — إلى توصيات بالأدوية (وربما تدخلات أخرى). لا ينطبق المنهج نفسه عند التفكير في عسر القراءة؛ إذ لا توجد معايير نهائية متفق عليها، كما أن هناك عددًا قليلًا من العلاجات القائمة على الأدلة. لكن هذا الكتاب سيوضح أن هناك اتفاقًا ملحوظًا بين الباحثين بشأن عوامل الخطورة المرتبطة بضعف القراءة، بالإضافة إلى عددٍ متزايدٍ من التدخلات القائمة على الأدلة: عسر القراءة موجود بالفعل، ويمكننا فعل الكثير لتخفيف آثاره (انظر الشكل رقم ١-٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤