الفصل الثاني

كيفية تعلُّم القراءة (وما يحُول دون تعلم القراءة)

كان الهدف من معظم الأبحاث التي أجريت عن عسر القراءة هو اكتشاف الأسباب المؤدية إلى صعوبة التعلم المحيرة هذه لدى أشخاص مثل بوبي وميشا وهاري. وقبل أن نتناول هذه المشكلة، علينا توضيح المراحل التي يتعيَّن على الطفل المرور بها خلال رحلته لتعلم القراءة والكتابة حتى نتمكن من التفكير في متطلبات هذه العملية. الحالات الثلاث، أي بوبي وميشا وهاري، جميعهم إنجليز وتعلموا القراءة بلغتهم الأصلية. ونظرًا إلى أن معظم الأبحاث التي أُجريت عن تطور اللغة كانت باللغة الإنجليزية، فإن التركيز الأساسي سيكون على الإنجليزية. سنستخدم أدلة من الدراسات العلمية لتطوير خلفية نظرية يمكن على أساسها النظر في الجوانب العامة لتعلم القراءة، ثم الجوانب الخاصة باللغات المختلفة.

تعلُّم القراءة: إطار نمائي

في معظم البلدان، وفيها البلدان ذات الأنظمة التعليمية الأقل تقدمًا، يبدأ تعلم الأطفال للقراءة — رسميًّا — عند التحاقهم بالمدرسة. غير أنَّ تطور مهارات القراءة والكتابة يبدأ قبل ذلك بكثيرٍ، لا سيما في الأسر التي تُقدِّر قيمة القراءة والكتابة. ومن الحقائق الواضحة، على الرغم من عدم الاعتراف بها في الكثير من الأحيان، أن المعرفة بالقراءة والكتابة تقوم على أساس اللغة المنطوقة، وتفترض جميع الأنظمة التعليمية أنه عندما يبدأ الطفل المدرسة، تكون لغته المنطوقة كافية لدعم تطوير القراءة. علاوةً على ذلك، تشكِّل المهارات التأسيسية في مرحلة ما قبل القراءة جزءًا من منهج الروضة. وبهذا، يبدأ العديد من الأطفال المدرسة ولديهم معرفة كبيرة بالكتب: فهم يعرفون أن الكلمات المطبوعة تمتد من اليسار إلى اليمين (على الأقل إذا كنت تقرأ باللغة الإنجليزية)، وأنك تقرأ من بداية الكتاب إلى نهايته؛ كما يكونون على دراية ببعض أسماء الحروف أو الأصوات على الأقل.

في المرحلة الأساسية، تنطوي القراءة على تحويل الرموز المطبوعة إلى منطوقها، وهي مهمة يُشار إليها باسم فك الترميز أو النطق، وتتطلب ربط المعلومات المرئية (الأنماط المكتوبة) بالمعلومات السمعية (الأصوات المنطوقة). إلى جانب معرفة الحروف، يتعيَّن على القارئ المبتدئ اكتشاف كيفية ارتباط الكلمات المطبوعة بالكلمات المنطوقة، والهدف الرئيسي من تعلم القراءة هو مساعدة المتعلم على «فك» هذا الترميز. فك الترميز في الإنجليزية (واللغات الأبجدية الأخرى) يتطلب معرفة العلاقات بين الوحدات الخطية أو المكتوبة (جرافيم) والوحدات الصوتية المقابلة لها (فونيم)، أي الطريقة التي ترتبط بها الأحرف أو مجموعات الأحرف بالوحدات الصوتية التي تتكوَّن منها الكلمات المنطوقة، ليست تلك بالمهمة السهلة. عندما يستخدم الأطفال اللغة بشكلٍ طبيعي، لا تكون لديهم سوى معرفة ضمنية بالكلمات التي يستخدمونها، دون أن ينتبهوا لأصوات هذه الكلمات، لكن هذا — تحديدًا — ما يتعين عليهم فعله كي يتعلموا فك الرموز. عليهم بالطبع أن يدركوا أنه يمكن تقسيم الكلمات إلى الأجزاء التي تتكون منها، مثل المقاطع (كلمة buttercup (عشبة الحوذان) تتكون من المقاطع: /but/-/ur/-/kup/)، وبالمثل يمكن تقسيم المقاطع إلى وحدات صوتية (المقطع «cup» يتكون من الوحدات الصوتية: /k/-/u/-/p/). الوحدات الصوتية هي أصغر الأصوات التي تفرِّق بين الكلمات، فعلى سبيل المثال، تختلف كلمة «pit» عن كلمة «bit» في وحدة صوتية واحدة: [b] في مقابل [p] (وكلا الصوتين من فئة تُعرف باسم «الصوامت الوقفية الانفجارية (stop consonants)»، ولا يختلفان إلا في سمة صوتية واحدة، وهي اهتزاز الأحبال الصوتية عند بداية النطق (في حالة الصوت b) من عدمه (في حالة الصوت p).) في نظام الكتابة في اللغة الإنجليزية، الوحدات الصوتية هي الوحدات المرمَّزة بالوحدات الخطية المقابلة لها، والتي تكوِّن الشفرة الإملائية.

اكتساب المبدأ الأبجدي

يشير مصطلح «الوعي الفونيمي» (الوعي بالوحدات الصوتية) إلى القدرة على التفكير في أصوات الكلمات وتغييرها. وتلك مهارة فوق لغوية أو ميتا لغوية (أي مهارة تتطلب تحكُّمًا واعيًا في اللغة) تتطور بعد القدرة على تقسيم الكلمات إلى مقاطع، وإلى أجزاء متطابقة الأصوات (مثل الصوت [oat] في «goat».) ولا يزال الجدل قائمًا بشأن ما إذا كان الوعي الفونيمي يؤدي — بدوره — إلى تعلم القراءة، أم أنه يأتي نتيجة لتعلم القراءة. فالملاحظة التي تفيد بأن البالغين الأميين لا يمكنهم القيام بمهام تتطلب الوعي الفونيمي توضح أنه يكون ناتجًا عن القراءة، إلا أن هذا الدليل ليس قاطعًا بأي حال من الأحوال. وفي حالة الأطفال، ركَّز الجدال على ما إذا كان الأطفال يتعلمون الأحرف قبل أن يصبح لديهم وعي بالوحدات الصوتية التي تمثِّلها هذه الأحرف، أم أن الوعي الفونيمي ومعرفة الأحرف لهما أصول منفصلة. من المرجح أن يكون التفسير الصحيح مزيجًا من الأمرين؛ أي أن تطوُّر المعرفة بالأحرف والوعي الصريح بالوحدات الصوتية يمكن أن يحدثا على نحوٍ منفصل، كما أن هناك دليلًا على وجود علاقات متبادلة بينهما؛ حيث تؤثر إحدى المهارتين في تطور الأخرى مع استمرار القراءة. وبشكلٍ عام، يُعَد تعلُّم الأحرف (كونه شيئًا ملموسًا) أسهل من اكتساب الوعي بالوحدات الصوتية (نظرًا إلى كونها مهارة مجردة).
لتوضيح بعض التحديات التي يواجهها الطفل خلال تعلم القراءة، أجرى بريان بيرن سلسلة بارعة من التجارب. جرى تعليم أطفال الروضة، الذين لم يتمكنوا من القراءة بعد، الأشكال المكتوبة لأزواج من الكلمات مثل hat-hats (قبعة وقبعات) وbook-books (كتاب وكتب). بمجرد أن تعلموا هذه الكلمات، كان في إمكانهم تعميم هذه المعرفة المكتسبة الجديدة لقراءة كلمة «dogs (كلاب)» بعدما عرفوا كلمة «dog (كلب)». في المقابل، كان الأطفال الذين يعرفون صوت الحرف s وحدهم هم من تمكنوا من قراءة كلمة «bus (حافلة)» بمعلومية كلمة «bug (حشرة)». وبالمثل، بعد تعلم إضافة المقطع «er» الذي يفيد المقارنة لتكوين كلمات مثل «small (صغير)» و«smaller (أصغر)»، أمكن للأطفال، الذين ليست لديهم معرفة بأصوات الأحرف، قراءة كلمة «meaner (أبخل)» بمعلومية كلمة «mean (بخيل)» لكنهم لم يستطيعوا قراءة كلمة «corner (زاوية)» بمعلومية كلمة «corn (ذرة)». هذه الأمثلة التوضيحية البسيطة أبرزت الطبيعة المجردة للتشفير الصوتي للكلمات، حين يبدأ الأطفال مهمة التعلم فإنهم يُظهرون تحيزًا دلاليًّا طبيعيًّا نحو المعنى، ويتعين عليهم تجاوز هذه المرحلة كي يمكنهم فك ترميز الكلمات المكتوبة.

يُعد اكتساب «الوعي الفونيمي» خطوة حاسمة في عملية تطور مهارات فك الترميز. يمكن للقارئ المثالي، الذي يمتلك كلًّا من المعرفة بالأحرف والوعي بالوحدات الصوتية، «نطق» الأحرف بسهولة ودمج الأصوات معًا لقراءة الكلمات أو حتى سلاسل من الأحرف التي ليس لها معنى لكن يمكن نطقها (كلمات زائفة أو بلا معنى)، وفي المقابل، يمكنه أيضًا تفكيك الكلمات (تقسيمها) إلى أصوات من أجل تهجئتها. بمجرد أن توضع هذه اللبنات الأساسية في مكانها الصحيح، يكتسب الطفل «كفاءة أبجدية»، وتبدأ رحلة تعلم القراءة بنجاح. وفي عرضٍ متقن لتأثير المهارات الأبجدية الفرعية في هذه الخطوات الأولية في القراءة، استخدمنا بيانات من دراسة تدخلية تعلم فيها الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم من أربع إلى خمس سنوات الأحرف، وتدربوا على الوعي الفونيمي للتحقق من زيادة قدرة الأطفال على فك ترميز الكلمات المكتوبة (مشروع نافيلد اللغوي الخاص بالقراءة). وقد أظهرت نتائج هذه الدراسة وجود ارتباط بين التقدم الذي حققه الأطفال في اكتساب المعرفة بالأحرف والوعي الفونيمي معًا، والمكاسب التي يحرزها الأطفال في فك ترميز الكلمات المكتوبة، مقترحة وجود علاقة سببية بين هذه اللبنات الأساسية والقراءة.

كان بوبي، الحالة التي تناولناها آنفًا، يتعثر في هذه المرحلة الأولية لتعلم القراءة. على الرغم من أنه كان يعلم بعض الأحرف وحتى بعض الكلمات، كان تطور الوعي الفونيمي لديه بطيئًا (ربما بسبب مشكلات الكلام السابقة)، ووجد صعوبة في استيعاب المبدأ الأبجدي، كما أنه لم يتمكن من إتقان أساسيات فك ترميز الكلمات المكتوبة، التي يُطلق عليها «الطريقة الصوتية (phonics)» حتى عند هذه المرحلة المبكرة بدأ يتجنب القراءة، ووجد والداه، اللذان حرصا على مساعدته، صعوبة في جعله يتدرب على القراءة.

أن تصبح قارئًا فصيحًا

في نموذج ليني إهري الكلاسيكي الذي يتخذ شكل «المراحل»، وصفت الانتقال إلى مرحلة الطلاقة في القراءة بأنه الانتقال من مرحلة القراءة «الأبجدية» إلى مرحلة القراءة «الإملائية». لا يعود الطفل في حاجة إلى نطق أحرف منفردة من الكلمات من أجل نطق الكلمات وفهمها، بل يبدأ في تكوين صور ذهنية للكلمات يمكنه استدعاؤها من الذاكرة في الحال في أثناء القراءة والتهجي. لشرح كيف يبدأ الطفل في تكوين قاموس ذهني (أو حصيلة مفردات ذهنية)، اقترح ديفيد شير وآخرون الفكرة التي تفيد بأن نطق الكلمات المكتوبة «شرط لا غِنى عنه لاكتساب مهارة القراءة»، أي مهارة لا يمكن الاستغناء عنها. وفقًا لهذا الرأي، فإنَّ عملية تعلُّم القراءة تتضمن زيادة حصيلة المفردات الذهنية التي تُضاف إليها الكلمات، عنصرًا تلو الآخر، بعد أن يُفك ترميزها (تُنطق). وتدريجيًّا تصبح عملية نطق الكلمات المكتوبة أكثر كفاءة وتلقائية في المقابل (من خلال تضمين المعرفة الإملائية التي هي أكثر تجريدًا) ومن ثَم يصبح الطفل أبرع في نطق الكلمات الجديدة. علاوة على ذلك، إذا كانت نتائج محاولة النطق غامضة أو جزئية (على سبيل المثال، قراءة كلمة «island (آيلاند)» على أنها [iz-land] (إيز-لاند))، يستعين الطفل بمعرفته بالجملة في المجمل وبالكلمات الموجودة في حصيلته اللغوية بالفعل كي يصل إلى النطق الصحيح وبذلك يتعلم الكلمة.
شجعت فرضية التعليم الذاتي على إجراء قدرٍ كبيرٍ من الأبحاث باستخدام إعداد تجريبي قياسي. يتمثل هذا الإعداد — بشكلٍ أساسي — في تعرض الأطفال لكلمات جديدة لم يسبق لهم رؤيتها من قبل، مثل كلمة «yate» (سواء في سياق قصة أو بمفردها). بعد فترة تأخُّر، يُطلب من الأطفال اختيار الكلمات التي رأوها مسبقًا من بين مجموعة من البدائل المحتملة المشابهة. ومن خلال الحرص على جعل البدائل قريبة الشبه من الكلمات المستهدفة، إما بصريًّا، من حيث الشكل كما في كلمة (yafe)، وإما صوتيًّا كما في (yait)، من الممكن تحديد ما إذا كان الطفل قد تذكر التهجئة الدقيقة للكلمة المستهدفة، أي صيغتها الإملائية، أم لا. الاختبار الحاسم الآخر هو أن يُطلب من الطفل تهجي الكلمة الجديدة. استخدم الباحثون هذا الإجراء لاختبار تأثيرات السياق وتكرار التعرض ومدة التأخُّر الزمني على الأداء، وللمقارنة بين القراء الماهرين والقراء الضعفاء. من المعروف الآن أنه من الممكن تعلم الصيغة الإملائية الدقيقة للكلمة بعد فك ترميز الكلمة المكتوبة مرة واحدة فقط، لكن التعلم يزداد في العموم بزيادة عدد مرات التعرُّض، ويعتمد على المهارات الصوتية للقارئ.
ومن العوامل الأخرى المهمة في تعزيز طلاقة القراءة هو حجم المفردات لدى الطفل. في اللغة الإنجليزية، تتخذ حصيلة المفردات أهمية خاصة في تعلم الكلمات غير المنتظمة، التي لا تتبع قواعد الاتساق بين الوحدات المكتوبة والوحدات الصوتية المقابلة لها، كما في كلمات مثل aunt أو glove أوbroad. وقد كنت أنا وكيت نيشن أول من أوضح أنه يمكن الاستعانة بحصيلة المفردات لدى الأطفال للتنبؤ بالفوارق في قدراتهم على قراءة مثل هذه الكلمات الشاذة. وأظهرنا — بالتبعية — أن الأطفال الذين كانت مهاراتهم اللغوية الشفهية ضعيفة، لا سيما المعرفة الدلالية المحدودة بالكلمات، واجهوا صعوبة خاصة في قراءة الكلمات الشاذة. كانت مشكلاتهم ملحوظة إذا ما قورنت بالسهولة التي قرءوا بها الكلمات المنتظمة أو حتى توليفات الأحرف عديمة المعنى.
ربما يشير النظر إلى دور حصيلة المفردات في قراءة الكلمات الشاذة إلى أن الكلمات تُخزَّن في الذاكرة المعجمية واحدة بواحدة، على صورة وحدات كاملة من المعنى. غير أن الأمر لا يبدو كذلك. إنما يتضح أن الأطفال يتمكنون من استخدام العلاقات بين الكلمات بِناءً على معناها لفك شفرة الأشكال غير المعروفة. أصغر وحدة للمعنى هي الوحدة الصرفية (مورفيم)، ويمكن دمج الوحدات الصرفية لتغيير معنى الكلمة وفئتها النحوية، فكلمة «happiness (سعادة)» مثلًا هي مزيج من الوحدة الصرفية «happy (سعيد)» واللاحقة ness، وهي ما يحوِّل الصفة happy إلى اسم. وبالمثل أيضًا، نجد أنَّ إضافة البادئة un للكلمة تؤدي إلى تغيير معناها من «happy (سعيد)» إلى «unhappy (غير سعيد)». ويُعتقد أن فهم التركيب الصرفي للغة، «الوعي بالصرف»، يعزز الطلاقة في القراءة، ويدعم الفهم القرائي. وهو يحظى بأهمية خاصة في اللغة الإنجليزية؛ حيث قد يؤدي التركيب الصرفي إلى تناقضات في التهجئة. (على سبيل المثال، العلاقة بين الاسم «autumn (خريف)» والصفة «autumnal (خريفي)»، حيث يكون الحرف n غير منطوق في الاسم ومنطوقًا في الصفة).

هل القراءة عملية مقسَّمة؟

يجدر بنا في هذه المرحلة التوقف للتفكير في الاختلافات الفردية في القراءة. وفقًا للنموذج «التعويضي التفاعلي للقراءة»، تتفاعل عمليات القراءة «التصاعدية» (فك الترميز الفونولوجي) مع عمليات القراءة «التنازلية» (كما في طريقة اختبار الفرضيات بِناءً على السياق) لتفسير التباين في طلاقة القراءة. وبهذا، فإن عمليات القراءة «التنازلية» توجِّه تحليلات المستوى الأدنى، كما أن تحليلات المستوى الأدنى تحدد — بدورها — فهم النص ككل. علاوةً على ذلك، يكون التعويض ممكنًا؛ إذ يمكن للعمليات التنازلية «المساعدة» على فهم الكلمات غير المألوفة أو تخمين معناها عندما يكون فك ترميز الكلمات غير فعَّال، أو لم يتطور بشكلٍ صحيح (بمعنى أن القارئ يجد صعوبة في التعرف على الحروف أو الأصوات الفردية أو في مزجها معًا لقراءة الكلمات وفهمها)، كما يمكن للعمليات التصاعدية ملء «الثغرات» المتبقية عند استخدام استراتيجيات دلالية لتوجيه القراءة. بعبارة أخرى، عندما يقابل الأطفال كلمات لا يمكنهم قراءتها، غالبًا ما يستخدمون الكلمات الأخرى التي تحيط بها كي تساعدهم على قراءة هذه الكلمات أو فهمها.

تأتي معظم الأدلة المؤيدة للنموذج التفاعلي-التعويضي من التجارب التي تستخدم المهام التحضيرية. والمقصود بكلمة تحضيري، كما يوحي الاسم، تجهيز شيء ما لأداء مهمة محددة، وهي في هذه الحالة استجابة القراءة. في إحدى المهام التحضيرية، يُعرض على القارئ كلمة مستهدَفة مثل «ممرضة» في حالة من حالتين: إما في سياق محايد (مثال: «صديقتي» ممرضة) أو في سياق دلالي (مثال التعرض لكلمة «طبيب» ثم كلمة ممرضة). يقاس الزمن المستغرق لقراءة الكلمة المستهدفة «ممرضة» في الحالتين. وكما هو متوقع، تمكَّن القارئ من قراءة كلمة «ممرضة» بسرعة أكبر في الحالة التي جاءت فيها بعد كلمة «طبيب»، مقارنة بالسياق الذي جاءت فيه كلمة ممرضة بعد كلمة غير مرتبطة بها. يُعرف هذا باسم تأثير «التحضير» أو «التسهيل الدلالي». يكون تأثير التسهيل أكبر بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون من عسر القراءة مقارنة بالقرَّاء الجيدين. قد يبدو هذا مفاجئًا في البداية. لكن نظرًا إلى أن الضعاف في القراءة يفكُّون ترميز الكلمات المكتوبة ببطء، فإن هذا البطء يتيح لهم مزيدًا من الوقت يجعل السياق مؤثرًا في عملية القراءة. لكن الأمر يعتمد أيضًا على حصيلة المفردات لديهم. فالنص لا يكون له تأثير إيجابي إلا إذا كان القارئ لديه حصيلة مفردات جيدة؛ فلكي تمهد كلمة «طبيب» لكلمة «ممرضة»، لا بد أن يعرف القارئ معنى كلتا الكلمتين.

يبدو أن حالة ميشا لدينا واجهت صعوبة في الانتقال إلى مرحلة القراءة بطلاقة. ومع ذلك، كان في إمكانها القراءة بدقة، وإن كانت قراءتها بطيئة. كانت حصيلتها اللغوية جيدة، وكذلك فهمها للغة، لذا من المغري أن نقترح أنها تستخدم استراتيجيات القراءة التنازلية، التي تعتمد على مثل هذه المهارات اللغوية لتعويض صعوبات فك ترميز الكلمات التي تواجهها. وربما يفسر أيضًا السبب وراء عدم براعتها في التهجئة. فالاعتماد الزائد على العمليات اللغوية الأكثر تعقيدًا ينعكس بالسلب على تطور تمثيلات الذاكرة الدقيقة المفصَّلة من أجل التهجئة الدقيقة. ومع ذلك، فإن الفكرة التي تفيد بأن العمليات التنازلية من شأنها التأثير في القراءة على مستوى الكلمات ضرورية. إنَّ هذه العمليات تعتمد على مجموعة من العمليات اللغوية والمفاهيمية، التي تتجاوز العمليات الصوتية (القائمة على النطق) التي تكون في صميم تطور القراءة المبكر، وتتضمن المفردات. عادة ما تكون هذه العمليات ضرورية لتحقيق الفهم القرائي، لكنها نادرًا ما تؤخذ في الاعتبار فيما يتعلق بتطور مهارات قراءة الكلمات.

بِناءً على هذا، يتضمن إطار العمل التفاعلي التعويضي، التفاعل بين العمليات الصوتية المستخدَمة لقراءة الكلمات، والسمات الدلالية للكلمات التي تشملها عملية قراءة الكلمات. في سياق مماثل، أيَّد مارك سايدنبرج وزملاؤه فكرة أن العمل في عملية تعلُّم القراءة مقسَّم إلى مسارين، وهما علم الأصوات وعلم الدلالات (انظر الشكل رقم ٢-١). تُعد القراءة إحدى العمليات التي تتطلب التعامل مع «بيانات ضخمة» بصورة جوهرية؛ فمهمة التعلم تتضمن استخلاص العلاقات الإحصائية بين تهجئة الكلمات (علم قواعد الكتابة) والأصوات التي تقابلها (علم الأصوات) واستخدام هذه العلاقات لتطوير خوارزمية للقراءة تُنقَّح باستمرار مع التعرض للمزيد من الكلمات. طبَّق سايدنبرج وزملاؤه هذه الفكرة في برنامج كمبيوتر يُدعى نموذج «المثلث» حفَّز عملية تطور القراءة. يُشار إليه بنموذج «المثلث» لأنه لا يكوِّن روابط بين الوحدات الصوتية والوحدات المكتوبة فحسب، بل يربط بين ذلك أيضًا ومعاني الكلمات (الوحدات الصرفية) عبر مسار دلالي (على الرغم من أن هذا الجزء من النموذج لم يُنفَّذ بالكامل).
fig3
شكل ٢-١: نموذج «المثلث» الخاص بالقراءة لسايدنبرج وماكليلاند (١٩٨٩).

في المراحل الأولية للقراءة، يكون التركيز على تكوين علاقات تربط بين الأصوات والكلمات المكتوبة (على غرار فك الترميز الصوتي لدى الأطفال) وفي وقتٍ لاحقٍ يتحوَّل التركيز إلى العلاقات المباشرة بين الكلمات المكتوبة ومعناها. في النموذج المزدوج المسار، ثمة مسارات منفصلة، أحدها هو المسار الصوتي الذي يحوِّل الوحدات المكتوبة إلى وحدات صوتية، ومسار معجمي مباشر بدرجة أكبر يحوِّل حصيلة من المفردات المكتوبة إلى نطقها. وعلى الرغم من أنه في الإصدارات الحديثة من النموذج يوجد علاقة متبادَلة بين النظامين، لا توجد محاولات إلا بالقدر القليل لاستكشاف تأثير هذه العلاقة في تطوُّر القراءة.

تعلم التهجئة

ظلَّت التهجئة مهمَلة لبعض الوقت في الأبحاث المتعلقة بالقراءة. فثمة اعتقاد شائع بأن التهجئة هي العملية العكسية للقراءة ببساطة. لكن هذا ليس صحيحًا. نتيجة لذلك، لا يُصحَب تعلم القراءة على الدوام بإتقان في التهجئة. ومن أسباب ذلك أن العلاقات التي تربط بين الأحرف والأصوات التي تقابلها، والتي تُستخدم للقراءة (علاقات التقابل بين الوحدات المكتوبة والوحدات الصوتية) لا تتطابق دائمًا مع قواعد تحويل الأصوات إلى حروف، وهي القواعد المستخدَمة من أجل الكتابة (علاقات التقابل بين الوحدات الصوتية والوحدات المكتوبة). في الواقع، في اللغة الإنجليزية، تكون علاقات التقابل بين الأحرف والأصوات التي تقابلها المستخدمة في القراءة أكثر انتظامًا من علاقات التقابل المستخدمة في التهجئة، على سبيل المثال، قارن الحرف «k (كيه)» الذي يُقرأ دائمًا تقريبًا /k/ (كيه) (إلا عندما يكون غير منطوق كما في «know (يعرف)») بالصوت [k] الذي يمثِّله الحرف k أو الحرف c (مثل cat) أو الحرفان ck في نهاية الكلمة (مثل كلمة brick). لا بد من تناول التهجئة في حد ذاتها، لا في تطور القراءة النموذجي فحسب، بل في عُسر القراءة أيضًا.
تُعد ريبيكا تريمان هي أبرز المنظِّرات في مجال التهجئة. درست تريمان التهجئة لدى أطفال الروضة والأطفال في المدرسة والبالغين. ومن الرؤى المهمة التي قدمتها بشأن أسس التهجئة ما يلي: المعرفة بالأحرف لا تُكتسَب عشوائيًّا (على سبيل المثال، عادةً ما يتعلم الأطفال الأحرف التي تتضمنها أسماؤهم قبل الأحرف الأخرى)، وغالبًا ما يستخدم الأطفال أسماء الحروف لتعلم أصوات الحروف (على سبيل المثال، يتعلمون الصوت /b/ (به) بسهولة لأنه أول صوت في اسم الحرف b [بي]، وذلك مقارنة بالصوت /h/ (هه) الذي لا يتضمنه اسم الحرف h [إيتش])، ويتعلم الأطفال الكثير عن قواعد الإملاء والتهجئة من خلال رؤيتهم لكلمات مطبوعة حولهم قبل أن يبدءُوا في القراءة (ومثال على ذلك عدم كتابة mm في بداية الكلمات). ما يتضح أمامنا إذن أن مفاهيم التهجئة تتطور مبكرًا، وتمهد لعملية تعلُّم الكتابة.
وكما هو الحال في القراءة، يستلزم تعلُّم التهجئة أن يكون الطفل على دراية بالتركيب الصوتي للكلمات المنطوقة. ويتضح من محاولات الأطفال المبكرة للتهجئة أنهم ينتبهون للتركيب الصوتي للكلمات (كيفية نطقها) أكثر من شكل كتابتها. بعض الأخطاء التقليدية التي يرتكبها الأطفال الذين لم يتعلموا القراءة والكتابة بعد تتضمن كتابة كلمة train بالشكل: CHAN (تشان) [لأن حرف t المتبوع بحرف r يُنطَق أقرب إلى الصوت «تش»] وكتابة كلمة dragon بالشكل: JAGN (جاجون) [لأن حرف d المتبوع بحرف r يُنطَق أقرب إلى الصوت «ﺟ»]. وعلى الرغم من كون التهجئة غير صحيحة، فإنها بالفعل تُظهر بعض التشابه مع طريقة نطق الكلمة. الحق أنَّ العديد من أخطاء التهجئة المبكرة التي يقع فيها الأطفال تكون مماثلة للأخطاء التي لوحظت في أثناء تطور الكلام: على سبيل المثال يغفل الأطفال — عادة — بعض الأحرف الساكنة الموجودة في بداية الكلمات (كلمة clap (يصفق) تصبح CAP، وكلمة step (خطوة) تصبح TEP)، وفي نهاية الكلمات أيضًا (كما في lamp (مصباح) التي تصبح LAP)، وكلمة tent (خيمة) التي تصبح TET، كما يشيع إغفال بعض المقاطع غير المشددة (balloon (بالون) تصبح BLOON وكلمة caterpillar (يرقة) تُصبح CATPILLA، وكلمة elephant (فيل) تصبح LFANT)، مثلما يشيع أيضًا أن يدمج الأطفال بعض الكلمات في الكتابة. من الواضح إذن أنَّ الأطفال يحتفظون في المعتاد بالأصوات البارزة في الكلمات (على سبيل المثال، كلمة back تصبح BK).
يمكن للتحليلات التفصيلية لطبيعة أخطاء التهجئة لدى الأطفال أن تفتح لنا نافذة على تطور مهاراتهم الصوتية (المهارات المتعلقة بالكلام والأصوات). فالأطفال الذين يعانون من عسر القراءة يجدون صعوبة في تهجئة الكلمات صوتيًّا، وهو ما توضحه عينات مكتوبة مأخوذة من طفلين يعانيان من عسر القراءة، يبلغان من العمر ٩ سنوات و١٤ سنة (انظر الشكل رقم ٢-٢). العينة الأولى المأخوذة من الطفل تي بي عبارة عن عينة من كتابة حرة، والعينة المأخوذة من الطفل بي بي عبارة عن عينة مكتوبة في خمس دقائق استجابة لتعليمات أُعطيت للطالب بكتابة رسالة إلى مهندس معماري، يصف فيها منزل أحلامه. أظهر الطفلان مستويين مختلفين من البراعة؛ جاءت تهجئة تي بي للكلمات لا تعكس النطق الدقيق لهذه الكلمات، ومن ثَم كان من الصعب تفسيرها، في حين أن بي بي كان على درجة أكبر من الوعي الصوتي حتى إن أخطاءه عكست النطق الصحيح للكلمات (لذا كان يمكن قراءتها مرة أخرى بسهولة) (من أمثلة ذلك كتابة كلمة clean على أنها kleen، وصحيح أن التهجئة خاطئة، لكنها عكست النطق الصحيح للكلمة).
fig4
شكل ٢-٢: مثالان على كتابات لأشخاص مصابين بعسر القراءة مأخوذة من طفل في عمر التاسعة، وآخر في عمر الرابعة عشرة: تهجئة بي بي مقبولة صوتيًّا، أما تهجئة تي بي فليست كذلك.

دُرست العلاقة بين الوعي الفونيمي والمعرفة بالأحرف لأطفال في عمر الرابعة ودقة التهجئة الصوتية لأطفال في عمر الخامسة؛ دراسة طولية بهدف فهم الفروق الفردية في مهارات التهجئة لدى الأطفال. كما هو متوقع، كان لعنصري المعرفة الأبجدية هذين أثرهما في دقة التهجئة الصوتية المبكرة للأطفال. وتبعًا لذلك، كان لدقة التهجئة الصوتية للأطفال ومهاراتهم القرائية في هذه المرحلة المبكرة أثرٌ في براعتهم في التهجئة بعد ثلاث سنوات في المدرسة. فقد أظهرت النتائج أن القدرة على الاستماع للأصوات المنفردة في الكلمات، وربطها بدقة بالأحرف أو مجموعات الأحرف التي تقابلها توفر الأساس لتطوير القدرة على تخزين التهجئة الصحيحة للكلمات ذهنيًّا واسترجاعها، لكن هذا وحده لا يكفي؛ فالمعلومات المكتسَبة من تجربة القراءة لازمة أيضًا للتأكد من أن هذه هي الطريقة التقليدية لتهجئة الكلمات. لم تستوعب ميشا هذه المعلومات، وذلك من الأسباب التي جعلتها تظل متعثرة في التهجي خلال سنوات المرحلة الابتدائية.

بمجرد أن تترسخ اللبنات الأساسية للتهجئة، يتعين على الطفل بناء معرفة تفصيلية بالعلاقات التي تربط بين الأصوات والرموز التي يختص بها نظام الكتابة. في اللغة الإنجليزية، تكون العلاقات بين تسلسلات الأحرف المكتوبة والوحدات السجعية التي تقابلها في الكلمات المنطوقة (مثل الوحدة /oat/ التي تمثَّل بسلسلة الأحرف -OAT، والوحدة /eat/ التي تُمثَّل دائمًا بسلسلة الأحرف -EAT) أكثر انتظامًا من العلاقات بين الأصوات المنطوقة والوحدات المكتوبة؛ إذ يمكن أن تكون هناك خيارات متعددة (مثل تهجئة الصوت /E/ (إي) التي قد تتمثل في أي من الخيارات الآتية: EE، EA، EI، IE، EY، Y … إلخ). وكما هو الحال في البالغين، ينتبه الأطفال للعلاقات المتسقة بين الأحرف المكتوبة والأصوات التي تقابلها في اللغة المنطوقة؛ فيمكنهم — بدرجةٍ ما — استخلاص العلاقات بين الأحرف والأصوات المقابلة بشكلٍ لا واعٍ، دون الحاجة إلى تعليم نظامي، إلا أن التعليم النظامي يلعب دورًا مهمًّا، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتعلم كيفية تهجئة أصوات مثل /E/ أو /I/.
إضافة إلى علم الأصوات، يتعين على الأطفال أيضًا الاستعانة بمصادر أخرى للمعرفة اللغوية لاستخدامها في التهجئة، ولا سيما القواعد والصرف. وتجدر الإشارة إلى أن علم الصرف يشير إلى طرق تكوين الكلمات، وكيفية ارتباط الكلمات بمعناها. قد يكون للوحدات الصرفية وظيفة نحوية كدلالة الوحدة -ed على الماضي البسيط، ودلالة الوحدة -ing على الاستمرار، وقد تشير إلى علاقات المعنى كما في sign–signature. أوضح تريمان وزملاؤه كيف أن معرفة الأطفال بعلم الصرف يمكن أن يكون لها تأثير أكبر في التهجئة من معرفتهم بعلم الأصوات، وذلك من خلال تجربة مثيرة للاهتمام طُلب فيها من الأطفال الأمريكيين نطق كلمات تتضمن «نقرات». النقرة هي ملامسة اللسان سريعًا لسقف الحلق خلف الأسنان العليا مباشرة، فتبدو أشبه بصوت /d/ المجهور في كلمات مثل city وeater (في اللهجة الأمريكية) منها إلى الصوت الصامت /t/ الذي يكون أكثر شيوعًا في إنجلترا. من المرجح أن يختار الأطفال الأمريكيون تمثيل الصوت النقري بالحرف d أكثر من الحرف t. لكن في كلمات مثل eater؛ حيث تكون النقرة عند الفاصل الصرفي بين جذر الكلمة (eat) واللاحقة (-er)، من الأرجح أن يمثِّل الأطفال الصوت النقري بالحرف t. في المقابل، يلتزم الأطفال بتمثيل الصوت النقري بالحرف d في كلمة city، فهي كلمة تتكوَّن من وحدة صرفية واحدة.
يفهم الأطفال الصغار سريعًا كيف أنَّ المعرفة النحوية تحدد اختيارات التهجئة. فهم سرعان ما يتعلمون أن الأفعال في الزمن الماضي تنتهي عادة بالحرفين ed، وليس t على الرغم من أنها قد تُنطق /t/ في معظم السياقات (مثل الفعل slipped)، وقد يستخدمون معرفتهم بالتراكيب الصرفية للكلمات لاحقًا لتعينهم على تهجئة بعض الكلمات غير المنتظمة (مثال: استخدام كلمة «magic (سحر)» لتهجئة «magician (ساحر)»). فضلًا عن ذلك، توجد معايير للكتابة تعتمد على قواعد لغوية لا بد من تعلمها (مثل مواضع استخدام الفاصلة العليا). جرى تجميع قدرٍ هائلٍ من البيانات حول تطور التهجئة في «إطار عمل تكامل الأنماط المتعددة». وفقًا لهذا الإطار، من الأرجح أن يستخدم الأطفال تهجئة محددة عندما تشير مصادر متعددة من الأدلة إلى أن هذا هو الاستخدام الصحيح. ويجدون أنه من الأصعب القيام بالتهجئة الصحيحة عند وجود معلومات متضاربة. فعلى غرار نموذج القراءة المثلث، تؤكد هذه النظرية أهمية تعلُّم الأنماط الإحصائية المنتظمة بين الكلمات المطبوعة وأصواتها ومعانيها.

وأخيرًا، تُعد الممارسة ضرورية من أجل التهجئة والقراءة على حدٍّ سواء. وتوجد بعض الأدلة بالفعل على أن الإحساس الحركي المرتبط بالكتابة، مثل الإمساك بالقلم وحركة اليد والأصابع (أي ما نحس به عندما نكتب) قد يكون عاملًا مهمًّا يساعد في التعلم من خلال تعزيز أنماط الحركة التي تنطوي عليها عملية التهجئة. فالكتابة في جوهرها مهارة حركية، وهي لا تتعلق بالتهجئة فحسب، بل بالتأليف أيضًا. والحق أننا لا نمتلك سوى معلومات ضئيلة جدًّا عن كيفية تطور الكتابة، والدور الذي تلعبه في عملية التهجئة، وكيف يمكن لضعف التهجئة أن يؤثر بالسلب في الكتابة، وكلها مسائل مهمة يتعين على الأبحاث استكشافها في المستقبل.

القراءة من أجل المعنى

لقد ركزنا حتى هذه النقطة على تعلُّم تمييز الكلمات المكتوبة وفهمها: أي إننا اعتبرنا القراءة عملية فك ترميز الكلمات المكتوبة، والتهجئة عملية ترميز الأصوات. لكن الهدف النهائي هو تعلُّم القراءة والكتابة، وهذا يتطلب ما هو أكثر من قراءة الكلمات الفردية وكتابتها. ولهذا سنحيد عن الموضوع الأساسي — قليلًا — لنتناول الفهم القرائي باستخدام إطار عمل كلاسيكي يُعرف باسم «الرؤية المبسَّطة للقراءة».

وفقًا للرؤية المبسطة للقراءة، فإن الفهم القرائي يساوي حاصل ضرب فك الترميز في الفهم اللغوي أو فهم اللغة: الفهم القرائي= فك الترميز × الفهم اللغوي. ونظرًا إلى أن الفهم القرائي هو «نتاج» هذين العنصرين، فهو لا يتحقق دون البراعة في كل عنصر منهما. لذا عندما يكون الأطفال لا يزالون في مرحلة فك الترميز، سيكون فهمهم للنص مقيدًا بحدود معرفتهم بفك الرموز المكتوبة، بصرف النظر عن مهاراتهم اللغوية، وفي المقابل، سيكون الفهم القرائي محدودًا إذا كان الطفل ضعيفًا في فهم اللغة المنطوقة، حتى إن كانت قدرته على فك الرموز جيدة للغاية.

واتساقًا مع هذا الإطار، أوضحت الدراسات أن الفهم القرائي في المراحل المبكرة من تعلم القراءة يعتمد — بشكلٍ كبيرٍ — على مهارات فك الترميز؛ لا يمكنك فهم نص مكتوب لا يمكنك فك رموزه. لكن مع زيادة مهارات فك الترميز يزداد الفهم القرائي كذلك؛ ومن ثَم يعتمد — بدرجة أكبر — على الفهم اللغوي. حقيقة الأمر أننا لا نستطيع التمييز فعليًّا بين مهارات الفهم القرائي والفهم السماعي لدى البالغين (يزيد الترابط بين هذه المهارات على ٠٫٩). ولأسباب تتعلق بالمساحة المخصصة لعرض المعلومات، ولأن عسر القراءة مشكلة تتعلق أساسًا بالتعرف على الكلمات، لا يمكننا أن نستغرق وقتًا طويلًا في مناقشة مجموعة المهارات المطلوبة لتحقيق مستوى كافٍ من فهم النص. وللمهتمين بالأمر، تقدم مراجعة بعنوان «إنهاء حروب القراءة: من مبتدئ إلى خبير» عرضًا شاملًا يدمج بين ما نعرفه عن تعلم القراءة والقراءة لأغراض التعلم.

من منظور مختلف قليلًا، تقدم «فرضية الجودة المعجمية» طريقة للتفكير في الآلية التي تتجمع بها السمات المختلفة للكلمات معًا في نظام القراءة لدى القارئ الفصيح بهدف تسهيل فهم المعنى. ومن أهم المفاهيم في هذه النظرية، مفهوم «الكفاءة المعجمية»، أي القدرة على تمييز الكلمات بسرعة، لأن هذه الكلمات لها تمثيلات محددة جيدًا، من حيث التهجئة والمعنى والنطق. داخل هذا النموذج، تكون مفردات القرَّاء المهرة مزوَّدة بتمثيلات أكثر وأعلى جودة من تلك الخاصة بالقرَّاء الأقل مهارة. يمكن أن تتأثر الجودة بالسلب لأسباب مختلفة؛ منها الافتقار إلى المعرفة أو المهارات الصوتية أو الإملائية أو الدلالية. وبصرف النظر عن الأسباب، يؤدي انخفاض الجودة المعجمية إلى بطء قراءة الكلمات وارتكاب أخطاء في أثناء القراءة، الأمر الذي يترك وقتًا وموارد أقل للمضي قُدُمًا في المهمة الضرورية المتمثلة في فهم النص. بالنسبة إلى القراء الضعفاء الذين لديهم قدرٌ أقل من التمثيلات العالية الجودة، يتأثر الفهم القرائي سلبًا بالطبع (حتى عندما يحاول هؤلاء القراء تعويض ذلك الضعف). توضح فرضية الجودة المعجمية أنه بينما يعتمد الفهم القرائي على فك الترميز وفهم اللغة، فإنَّ ما ينتج عن تطوير هاتين المهارتين معًا، تمثيلات معجمية عالية الجودة للكلمات، مما يعزز بدوره مزيدًا من الطلاقة في قراءة الكلمات والفهم القرائي الأفضل. على المدى الطويل، لا يجني القراء ذوو التمثيلات المعجمية سيئة التحديد من متعة القراءة إلا قليلًا، وهو ما يعني، بالنسبة إلى الكثيرين، أنهم لن يتحمسوا للقراءة. والنتيجة هي انخفاض مستوى تعرضهم للنصوص المكتوبة، وضعف الإلمام بالقراءة والكتابة في نهاية المطاف. في المقابل، قد يحد ذلك من الزيادات في حجم حصيلة المفردات التي تصاحب عملية تعلُّم القراءة والكتابة، ويُعرف ذلك باسم «تأثير ماثيو».

تعلُّم القراءة بلغات مختلفة

حتى الآن، قدمت الموضوع من منظور يركز على تعلم القراءة باللغة الإنجليزية. فماذا عن القراءة بلغة أخرى غير الإنجليزية؟ ما الجوانب المتشابهة وما الجوانب المختلفة لعملية القراءة؟ أيًّا كانت اللغة، تتضمن عملية القراءة الربط بين الرموز المرئية للكلمات وأنماطها الصوتية. ما يميز لغة عن أخرى هو طبيعة الرموز والوحدات الصوتية. ويختلف مستوى الدقة والتحديد في الروابط المطلوب تكوينها في اللغات المختلفة (تكون الروابط محددة بين الأحرف والأصوات التي تقابلها في اللغات ذات الأنظمة الأبجدية كالألمانية أو الإيطالية، في حين تكون الروابط أقل تحديدًا بين الأحرف والمقاطع التي تقابلها في الأنظمة الرمزية كاللغة الصينية التي يمكن أن يمثِّل فيها حرفٌ واحد مقاطعَ أو كلمات متعددة). تختلف اللغات أيضًا في مستوى تعقيد بنيتها الصرفية، ومدى ارتباط ذلك بالكتابة.

من بين اللغات الأبجدية، تُعَد اللغة الإنجليزية اللغة الأقل انتظامًا، لا سيما في قواعد التهجئة، في حين تُعد الفنلندية الأكثر انتظامًا؛ فالنظام الذي يربط بين الأحرف والأصوات الخاصة بها واضح تمامًا (وذلك على الرغم من أن كلماتها طويلة بشكلٍ عام، وتتضمن العديد من الوحدات الصرفية). يُستخدَم مصطلح «العمق الإملائي orthographic depth (أي درجة الاتساق بين تهجئة الكلمات ونطقها)» لوصف مستوى الانتظام المُلاحَظ بين اللغات، وتُصنَّف اللغة الإنجليزية بأنها غامضة (أو عميقة)، تليها اللغة الدنماركية والفرنسية التي تتضمن أيضًا العديد من العلاقات غير المنتظمة، في حين تُصنَّف اللغتان الإسبانية والإيطالية ضمن الأنظمة الإملائية الأكثر انتظامًا ووضوحًا (أو الضحلة).

على مدى السنوات، جرى الكثير من النقاشات عما إذا كان الأطفال الذين يتعلمون قراءة اللغة الإنجليزية يواجهون مهمة صعبة بدرجة أكبر، وثمة تكهنات متكررة بأن عسر القراءة منتشر في اللغة الإنجليزية بدرجة أكبر مما هو عليه اللغات الأخرى. لا يوجد دليل يثبت صحة ذلك. لكن يتضح أن الأمر يستغرق وقتًا أطول لكي يصبح الشخص قارئًا فصيحًا في اللغة الإنجليزية مقارنة بلغة أكثر وضوحًا؛ وقد أظهرت دراسة لغوية، واسعة النطاق تشمل لغات مختلفة، أجراها فيليب سيمور وزملاؤه في التسعينيات، أنه في اللغات الأكثر وضوحًا، يكون الأطفال في الصف الدراسي الأول دقيقين بالفعل في أكثر من ٩٠ في المائة من الوقت عند فك ترميز الكلمات المكتوبة؛ في حين تبلغ النسبة في اللغة الإنجليزية ٤٠ في المائة.

في الآونة الأخيرة، درس مشروع تعزيز تطوير المعرفة بالقراءة والكتابة في اللغات الأوروبية (ELDEL) تطوُّر القراءة لدى أطفال يتعلمون القراءة بخمس لغات أوروبية: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والتشيكية والسلوفاكية. يوضح الشكل رقم ٢-٣ مسار تطوُّر مهارات القراءة باللغة الإنجليزية على مدى السنوات الدراسية الأولى، مقارنة بالإسبانية والتشيكية الأكثر انتظامًا. وإذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أن الأطفال الإنجليز في المملكة المتحدة يتعلمون القراءة رسميًّا في المدرسة قبل الأطفال الإسبان والتشيكيين، فإن الاختلافات مذهلة.
fig5
شكل ٢-٣: تطور مهارة القراءة لدى الأطفال الذين يتعلمون الإنجليزية والإسبانية والتشيكية (ملحوظة: يبدأ التعليم النظامي عامًا مبكرًا في إنجلترا وويلز).

يوضح التمثيل البياني أن الأداء في مهام القراءة التي يُطابق فيها الطلاب الصور بالكلمات والمحددة بمدة زمنية، يتبع مسارًا يتصاعد ببطء في حالة الأطفال الإنجليز الذين تتراوح أعمارهم من أربع سنوات (عند الشهر صفر) إلى ست سنوات ونصف (عند الشهر ٣٠)، وفي حالة الأطفال الإسبان والتشيكيين، يختلف النمط. يتبع أداء الأطفال المسار نفسه الذي تبعه أداء الأطفال الإنجليز في السنة الأولى، لكن بعد أن يبدأ تعليم القراءة في الشهر الثامن تقريبًا، نلحظ صعودًا حادًّا للمسار يدل على «طفرة نمو»، ثم يُتبع هذا ببعض البطء مع استمرار تطوُّر الطلاقة في قراءة الكلمات. من الملاحظ أيضًا أنه من الشهر السادس عشر تقريبًا يتماثل مقدار زيادة الطلاقة في القراءة باللغات الثلاث مع استمرار وجود الأطفال الإنجليز في أدنى مستوى خلال الدراسة.

ثمة أسباب أخرى غير الاتساق الإملائي تجعل تعلُّم لغة ما أصعب أو أسهل. أحد هذه الأسباب هو عدد الرموز في نظام الكتابة: تحتوي اللغات الأوروبية على أقل من ٣٥ رمزًا، في حين تحتوي لغات أخرى على ما يصل إلى ٢٥٠٠. بالنسبة إلى قراء اللغات التي تحتوي على أنظمة مكثفة من الرموز مثل الصينية، التي تحتوي على ما يزيد على ٢٠٠٠ رمز، من المتوقع أن يستمر تعلم القراءة خلال سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية. قد يضيف التعقيد البصري المكاني مزيدًا من أعباء التعلُّم، كما لوحظ في بعض اللغات الهندية الجنوبية. علاوة على ذلك، تتضمن بعض أنظمة الكتابة علامات التشكيل التي تكون لها أهمية في النطق أو في تمييز المشتركات اللفظية. في الأنظمة التي تكون وحدة الكتابة فيها هي المقاطع كما في الهيراجانا اليابانية، يكون الربط بين الرموز والمقاطع التي تقابلها، لكن التحدي بالنسبة إلى القارئ المبتدئ يكون صعبًا لأن اللغة تحتوي أيضًا على نظام إملائي أكثر تجريدًا. يتعين على القارئ إتقان هذا النظام: الكانجي، الذي يعتمد أساسًا على أحرف صينية، وهو أكثر تعقيدًا لأن كل رمز يكون له قراءات صينية ويابانية بِناءً على السياق. يوضح الشكل رقم ٢-٤ العلاقة بين عدد الرموز (مدى المعرفة بنظام الكتابة orthographic breadth) ومدى التعقيد البصري الذي تتسم به الرموز في بعض أنظمة الكتابة حول العالم، ويتضح أنه مع زيادة عدد الرموز في نظام الكتابة، تزداد متطلبات التعلم. ليس من الغريب إذن أننا قد نجد أن الأفراد الذين يعانون من صعوبات في القراءة، خاصة في أنظمة الكتابة التي تحتوي على عدد كبير من الرموز، يواجهون أيضًا صعوبات تتعلق بالمعالجة البصرية للكلمات المكتوبة والتعرف عليها.
fig6
شكل ٢-٤: شكل يشير إلى بُعدين من أبعاد أنظمة الكتابة في العالم: عدد الرموز (السعة الهجائية) والتعقيد البصري الذي تتسم به الرموز.
تختلف اللغات أيضًا — بشكلٍ مهم — في طرق تمثيل الصوت والمعنى. ربما تمثل اللغة الصينية، التي يُشار إليها عادة بأنها لغة رمزية (أي لغة تمثل فيها الرموز كلمات) التباين الأكثر وضوحًا مع اللغة الإنجليزية. ففي معظم الحالات، تمثِّل الرموز الصينية وحدات لغوية ذات معنًى (الوحدات الصرفية)، لكنها قد تمثل أيضًا أفكارًا مجردة. وتتضمن أيضًا عناصر تُسمى الجذور الصوتية (phonetic radicals) التي تعطي تلميحات عن الأصوات التي تمثلها الرموز (لكن ليس بطريقة منهجية كما في اللغات الأبجدية أو في اللغات التي تمثِّل فيها الأحرف مقاطع). فليس من المستغرب إذن أن المهارات التي يتضمنها تعلُّم اللغة الصينية تختلف عن المهارات التي يتضمنها تعلُّم اللغة الإنجليزية. ترتبط الاختلافات الأكثر وضوحًا بالتراكيب الصوتية والدلالية التي يجب تعلُّمها. يتطلب تعلُّم القراءة بالصينية وعيًا صوتيًّا بدرجة صوت المقاطع (أو «النغمات»). كما يتطلب أيضًا وعيًا بالتركيب الصرفي الخاص باللغة (كيفية تكوين الكلمات من عناصر منفردة مركَّبة معًا، تساهم بمعناها ومعلوماتها المعجمية لتكوين معنى الكلمة المركبة ككل)، يكون هذا الشرط أقل أهمية بالنسبة إلى اللغة الإنجليزية.

هل تختلف المتطلبات وتتشابه الشروط الأساسية؟

على الرغم من الاختلافات المتعددة بين اللغات وأنظمة الكتابة، ثمة تشابهات بين المؤشرات التي تدل على اختلافات الأفراد في القراءة في اللغات المختلفة. أظهرت دراسة تابعة لمشروع تعزيز تطوير المعرفة بالقراءة والكتابة في اللغات الأوروبية أنه في حالة الأطفال الذين يقرءُون اللغات الأبجدية، توجد ثلاثة مؤشرات مؤثرة في تطوُّر القراءة في المراحل المدرسية المبكرة. هذه المؤشرات هي المعرفة بالأحرف والوعي الفونيمي والتسمية السريعة (هو اختبار يُطلب فيه ذِكر أسماء الألوان والأشياء بأقصى سرعة ممكنة استجابة لمجموعة عشوائية من العناصر). وقد أظهر الباحثون أن ثمة مجموعة مشابهة من المهارات تؤثر في القراءة باللغة الصينية وأنظمة كتابة مثل النظام المقطعي الألفبائي الهندي في اللغة الكنادية، وإن كانت توجد مهارات أخرى مهمة أيضًا. وفي اللغة الصينية، نجد أنَّ ما يهم هو الوعي بالنغمات المعجمية، وهي مقاطع صوتية أكبر من الوحدات الصوتية (الفونيم)، وكذلك التعرُّف على الرموز (بدلًا من المعرفة بالأحرف). في اللغة الكنادية، الوعي بالمقاطع والوحدات الصوتية ضروري، وكذلك معرفة الأكشارا، وهي الرموز الأساسية لنظام الكتابة. ومن المثير للاهتمام أن التسمية السريعة من المؤشرات الدالة على الفروق بين الأفراد في جميع هذه اللغات، وقد تشكلت فرضيات مختلفة حول سبب ذلك. والأرجح أنَّ السبب يرجع إلى أن التسمية السريعة تقيس القدرة على استدعاء الروابط بين الرموز البصرية والتسميات اللفظية، ومن ثَم فهي تمثِّل عملية القراءة نفسها.

باختصار، يبدو أنَّ ثمة «أساسًا ثلاثيًّا» مكوَّنًا من المعرفة بالرموز والوعي الفونيمي والقدرة على التسمية السريعة، يحدد تطوُّر القراءة بشكلٍ عام في جميع اللغات. على الرغم من ذلك، توجد مؤشرات إضافية تختص بها كل لغة. بالنسبة إلى اللغة الصينية مثلًا، أحد هذه المؤشرات الضرورية هو الوعي بالتركيب الصرفي للكلمات. إضافة إلى ذلك، للذاكرة البصرية والمهارات البصرية المكانية تأثير أكبر في القراءة في حالة اللغات التي تستخدم نظام كتابة معقد بصريًّا مثل اللغة الصينية أو الكنادية، مقارنة بتأثيرها في لغات أخرى كالإنجليزية. وثمة أدلة ناشئة على أنَّ العلاقة تبادلية؛ أي أن تعلُّم القراءة بلغة لها نمط تهجئة معقد يؤدي إلى تحسين القدرات البصرية المكانية، والعكس صحيح، مثلما أنَّ الوعي بالوحدات الصوتية يتحسَّن خلال تعلُّم الأطفال الإنجليز للقراءة.

عُسر القراءة بوصفه اضطرابًا في اللغة المكتوبة

يختلف الأطفال في المعدل الذي يتعلمون به القراءة والتهجئة، ونجد أنَّ المعدل الأبطأ لدى الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة، وذلك بافتراض تلقيهم جميعًا طرق تدريس معيارية. ويتضح منذ البداية بالفعل أنهم يجدون صعوبة في تعلم الحروف (بالاسم أو الصوت) بدرجة أكبر من أقرانهم. ومثلما رأينا، تُعَد معرفة الأحرف عنصرًا حاسمًا من عناصر تحقيق الكفاءة الأبجدية، وتوفر أيضًا طريقة للتهجئة. ومن ثَم، فإنه بالنسبة إلى الطفل المصاب بعسر القراءة، والذي يفتقر إلى المعرفة بالحروف، يتأثر تعلم القراءة والتهجئة بالسلب منذ البداية. إضافة إلى ذلك، ثمة الكثير من الأدلة على أن الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة يواجهون مشكلات تتعلق بالجوانب الصوتية للغة منذ سن مبكرة، لا سيما اكتساب الوعي بالوحدات الصوتية. ينطبق هذا الأمر على بوبي (وربما هاري أيضًا لأنه على كونه بالغًا، لا يزال يحصل على نتائج ضعيفة في امتحانات الوعي بالوحدات الصوتية، كما يمكن سماع أخطاء كلامية في أثناء تحدُّثه). وعادةً ما ينتج عن ذلك مشكلة كبيرة في فك الترميز؛ الحق أنَّ ضعف مهارات فك الترميز هي السمة المميزة لعسر القراءة، وتتجلى في صعوبة قراءة الكلمات عديمة المعنى (الكلمات الزائفة). في حالة عدم اتِّباع أي أسلوب علاجي، تستمر هذه الصعوبة في فك الترميز، وتصبح القراءة للكثيرين من الأشياء التي يجب تجنُّبها. ومع ذلك، يمكن لبعض الأفراد الأكثر حظًّا تنمية حصيلة من المفردات التي يمكنهم التعرف عليها بمجرد النظر دون الحاجة إلى نطق حرف بحرف. ونحن نجد بالفعل أنَّ النمط الأكثر شيوعًا لعجز القراءة لدى المصابين بعسر القراءة هو عدم القدرة على قراءة الكلمات «الجديدة» أو غير المألوفة، على الرغم من أنهم يتمتعون بمهارات متطورة نسبيًّا لقراءة الكلمات، وهو ما يُعرَف أحيانًا باسم «عسر القراءة الصوتي».

fig7
شكل ٢-٥: عينات كتابية مأخوذة من الحالة جي إم في عمر الثانية عشرة والسادسة عشرة توضح العديد من الأخطاء المتعلقة بالربط بين الرموز والأصوات.
على الرغم من ذلك، لا يُلحَظ عسر القراءة الصوتي لدى كل القراء المصابين بعسر القراءة بالضرورة. فبعض مَن يتمكنون من معادلة هذا التأثير إلى حدٍّ كبير (ميشا تُعد مثالًا جيدًا على ذلك) يجدون صعوبة أقل في قراءة الكلمات التي لا معنى لها مقارنة بقراءة الكلمات التي يُطلق عليها «استثناءات» أو كلمات شاذة؛ فقد يخلطون بين المشتركات اللفظية مثل leek (كراث) وleak (تسريب)، لأنهم يعتمدون — بشكلٍ كبير — على إعادة الترميز الصوتي (تحويل الأحرف المكتوبة إلى أصوات) ولا يمكنهم تذكُّر التهجئة الصحيحة للكلمات. في بعض الأحيان، يُستخدَم مصطلح «عُسر القراءة السطحي» (مستعار من الدراسات التي تناولت عُسر القراءة الذي يتبع إصابة في الدماغ) لوصف هؤلاء الأفراد. على الرغم من أن الوعي الصوتي لديهم متطور على نحوٍ أفضل من الوعي الصوتي للأطفال الذين يعانون من عُسر القراءة الصوتي، فإنهم غير مُعفَين من هذه الصعوبات دائمًا، وقد تكون لديهم مشكلات تتعلق بتطور طلاقة القراءة، مما ينتج عنه تأثيرات سلبية غير مباشرة في الفهم القرائي.
تمثِّل التهجئة تحديًا كبيرًا للأطفال المصابين بعسر القراءة. يبدو ذلك حتميًّا، نظرًا إلى مشكلاتهم المتعلقة بالوعي الفونيمي وفك الترميز. تكون محاولات التهجئة المبكرة التي يقوم بها الأطفال الذين يعانون من عُسر القراءة بعيدة عن قواعد نطق الأحرف والكلمات وليست مثل محاولات أقرانهم، لذا يصعب غالبًا فهمها، وتوصف بأنها عجيبة. في الحالات الشديدة، تستمر صعوبات تهجئة التسلسلات الصوتية، كما في تهجئة AVENTER لكلمة «adventure (أدفنشر)». ويمكن ملاحظة استمرار المشكلات الصوتية متجسدة في تهجئة طفل يعاني من عُسر قراءة شديدٍ، وقد دُرِس منذ كان في عمر الثامنة. مثلما توضح العينات المأخوذة من كتاباته في الشكل رقم ٢-٥، لا تزال أخطاؤه تعكس الصعوبات العميقة في تمثيل أصوات الكلمات وأشكالها التقليدية حتى في عُمر الثانية عشرة ثم السادسة عشرة. على الرغم من أنَّ معظم المصابين بعُسر القراءة لا يتأثرون بدرجة كبيرة، مثلما حدث مع جي إم، فإن ضعف التهجئة لديهم يظهر على مدى نموهم، وثمة ارتباط كبير جدًّا بين التهجئة (الضعيفة) في سنوات المراهقة والتهجئة (الضعيفة) في منتصف العمر. ويتضح أن هذا بدوره له تأثير في تطور الكتابة والتأليف، وإن كانت الآليات الدقيقة غير معروفة.

قليل من البالغين الذين يعانون من عُسر القراءة يقرءُون من أجل المتعة. غير أن هذا لا يعني أن عسر القراءة يرتبط بوجود مشكلات في القراءة من أجل المعنى. فصحيح أن الافتقار إلى مهارات فك الترميز قد يكون عائقًا أمام الفهم القرائي، لكن العديد من الأطفال والبالغين المصابين بعُسر القراءة يستطيعون القراءة بفهمٍ كافٍ عندما يحتاجون إلى ذلك، وإن كان يستغرق وقتًا طويلًا، كما أنهم يميلون إلى تجنب الكتابة متى أمكن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤