الفصل الثالث

ما الأسباب الإدراكية لعُسر القراءة؟

قبل أن نبدأ في التفكير في الأسباب التي تجعل بعض الأشخاص غير قادرين على القراءة بطلاقة، من المهم تأكيد وجود «مستويات» مختلفة من التفسير لحالة صعوبة تعلم محددة مثل عسر القراءة. من الضروري أولًا أن نفصل الأسباب البيولوجية الأساسية في تركيب الفرد، عن الأسباب البيئية التي تؤثر في أثناء النمو (وفي ذلك فترة ما قبل الولادة). على الرغم من أن الفرق بينهما ليس قاطعًا؛ إذ تؤثر الجينات في الفرد من خلال البيئة، كما أن التأثيرات البيئية تؤثر في التعبير الجيني (وهو ما يُشار إليه باسم عِلم التخلُّق أو ما فوق الجينات)، فمن المفيد الفصل بينهما. ثانيًا، من المهم أن نكون على وعي بأن السمة المحدِّدة لعسر القراءة — أي ضعف القراءة — هي سلوك، وهذا السلوك يعتمد على مجموعة من المهارات الإدراكية. ومن التحديات الأساسية التي تواجه مجال عسر القراءة فهم أسبابه الإدراكية أو «القريبة». علاوة على ذلك، فإنَّ وجود نظرية سببية تفسِّر عسر القراءة على المستوى الإدراكي من شأنها أن توفر الأساس المنطقي لتصميم التدخلات التي يمكن أن تخفف من تأثير عسر القراءة. وفي نهاية المطاف، ستسعى النظرية السببية الكاملة إلى فهم كيفية تأثير التكوين البيولوجي لأفراد مثل بوبي وميشا وهاري في نمو الدماغ، ومن ثَم أضر بالعمليات الإدراكية التي تكمن وراء القدرة على تعلم القراءة.

ورغم ذلك، فإن السعي لإيجاد دليل سببي ليس مهمة مباشرة. ذلك أنَّ السبب يختلف عن الارتباط. يُعد الارتباط — أي اقتران حدثين أو قياسين — الخطوة الأولى في فهم السبب. وللأسباب مستويات مختلفة من التأثير، فقد يكون لبعض الأسباب تأثير غير مباشر (بعيد) في النتيجة، وقد يكون للبعض الآخر تأثير مباشر (قريب) فيها. فثمة ارتباط ملحوظ — على سبيل المثال — بين الطبقة الاجتماعية للأطفال ومهارات القراءة لديهم. يتضح ذلك في الشكل رقم ٣-١ الذي يعرض بيانات من عينة تمثيلية مكوَّنة من ٦٧٢ من طلاب المرحلة الثانوية في المملكة المتحدة، الذين اختُبِروا خلال توحيد معايير «تقييم يورك للقراءة والفهم»؛ ويمكن ملاحظة أن هناك عددًا أقل من القراء الماهرين، وعددًا أكبر من القراء الضِّعاف، بين أولئك الذين يعانون من أعلى مستوى من الحرمان الاجتماعي. لكن، هل هذا الاقتران سببي؟
fig8
شكل ٣-١: شكل يعكس الاتجاهات في العلاقة بين الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأطفال ومهارات القراءة لديهم.

من الشكل يمكن ملاحظة أنه في حين أن ٣٢٫٩ في المائة من الأطفال في أدنى طبقة اجتماعية يعانون من ضعف القراءة، فإن نحو سبعة في المائة قراء ماهرون. ونجد أيضًا أنَّ ٥٫٥ في المائة من الأطفال الذين ينتمون إلى أعلى طبقة اجتماعية يعانون من ضعف القراءة. لا يمكن إذن أن تكون الطبقة الاجتماعية سببًا لضعف القراءة، وإذا كانت كذلك، فهذا يعني وجود العديد من المتغيرات المتداخلة. يرتبط الحرمان الاجتماعي بعددٍ من العوامل السلبية التي تؤثر في حصول الفرد على فرصٍ تعليمية. تتضمن هذه العوامل: العيش في منطقة غير مزوَّدة بمدارس جيدة، أو العيش في مساكن رديئة، وما يترتب عليه من زيادة المشكلات الصحية والتغيب عن المدرسة. يلعب انتقال هذه المساوئ بين الأجيال دورًا أيضًا، فضعف تعليم الآباء، وربما العوامل الوراثية التي أثرت في آفاقهم التعليمية والوظيفية وغيرها، كل ذلك له تأثير مباشر في القدرات التعليمية لأبنائهم. تتراكم هذه العوامل للتأثير في التحصيل الدراسي، لكن هذه الأنواع من البيانات لا توضح ما إذا كانت هذه العوامل ترتبط ارتباطًا سببيًّا بالقراءة أم لا.

يهدف هذا الفصل إلى التعرف إلى الأسباب الإدراكية الكامنة وراء عسر القراءة. فالأسباب تأتي قبل النتائج؛ ولهذا فإنَّ البحث عن الأسباب الواضحة لمشكلات القراءة قبل أن تتطور من الأمور المهمة. ولا شك أنَّ الوضع المثالي أن تأتي الأدلة من دراسات طولية، لكن ذلك ليس متاحًا على الدوام كما نلاحظ.

الفروق الفردية في تعلم القراءة

يمكننا الحصول على بعض المعلومات المبدئية عن أسباب عسر القراءة من خلال دراسة العوامل التي تنبئ عن وجود فروق فردية في مهارات القراءة لدى الأطفال الذين ينمون بطريقة طبيعية. نظرًا إلى عدم وجود حدٍّ فاصل بين عسر القراءة والقراءة «الطبيعية»، فإن دراسة العوامل التي تؤدي إلى وجود اختلافات في القراءة بين أفراد المجتمع عامة توفر دليلًا مهمًّا. وقد ناقشنا بالفعل مهارتين لهما أهمية كبيرة في فك الترميز، وهما الوعي الفونيمي والمعرفة بالأحرف. هاتان المهارتان معًا تساعدان في التنبؤ بسرعة تطور دقة القراءة لدى قراء اللغة الإنجليزية بين عمري الرابعة والسادسة. ترتبط قراءة الكلمات أيضًا بمهارات صوتية أخرى مثل الذاكرة اللفظية القصيرة الأمد والتسمية السريعة والقدرة على استرجاع أسماء الألوان أو الأشياء أو الأرقام المألوفة في مهمة تسمية سريعة. على وجه التحديد، أظهرت دراسة طولية استمرت لمدة ثلاث سنوات لأطفال نرويجيين أن التسمية التلقائية السريعة (RAN) للرموز يمكن أن تتنبأ بزيادة الطلاقة في القراءة حتى بعد المراحل المبكرة من تعلم القراءة.

إنَّ ما نعرفه عن عسر القراءة منطقي إذا ما قورن بالتطور النموذجي للقراءة. رأينا أن الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة بطيئون في تعلم الحروف، وأيضًا في تطوير الوعي الفونيمي؛ ويترتب على ذلك أن النتيجة بالنسبة إليهم هي ضعف مهارات فك الترميز. وهم يُظهرون أيضًا عجزًا في التسمية التلقائية السريعة، مما يؤثر بالسلب في المعدل الذي يمكنهم القراءة به. يُعد ضعف طلاقة فك الترميز، وما يرتبط به من انخفاض مستوى دقة القراءة؛ العقبة التي تقف في طريق الفهم القرائي. على الرغم من ذلك، عندما يتمتع الأفراد الذين يعانون من عسر القراءة بفهمٍ قوي للغة والمفردات، يمكنهم أحيانًا تعويض ضعف القدرة على الترميز بالاعتماد على هذه المهارات. يتضح أن ميشا كانت تفعل هذا، فكانت تستخدم سياق الجمل على سبيل المثال، وتوظِّف مهارات الاستنتاج المتقدمة لمساعدتها في فهم النص المكتوب وتسهيل عملية نطق الكلمات؛ وكما رأينا في الفصل الثاني، هي عملية تُعرف أحيانًا باسم «دعم القراءة باستخدام المهارات الذاتية».

هل يمكننا التنبؤ بمدى تعلم الأطفال القراءة من سنوات ما قبل المدرسة؟

على الرغم من أن الأبحاث التي تُجرى حول مؤشرات التنبؤ بمهارات القراءة في سن المدرسة تجعلنا نقطع شوطًا طويلًا في فهم العلامات التي تتنبأ باحتمالية الإصابة بعسر القراءة، يظل السؤال الأساسي: هل يمكننا التعرف إلى مؤشرات الإصابة بعسر القراءة من مرحلة مبكرة في النمو، قبل وقتٍ طويلٍ من بدء تعليم القراءة؟ قليلة — نسبيًّا — هي الدراسات التي تناولت هذا السؤال، لكن الأدلة أوضحت أن المهارات اللغوية الشفهية في مرحلة ما قبل المدرسة، ومنها حجم حصيلة المفردات لدى الطفل، وطريقة ترتيبه الكلمات معًا في الجمل، وجوانب أخرى مثل قدرته على استخدام قواعد النحو لتوضيح زمن الماضي، تُعد مؤشرات قوية تدل على تطور الوعي الفونيمي. ويعزز هذا الرأي القائل بأن اللغة المنطوقة تمهد الطريق أمام تطوير مهارات القراءة والكتابة.

أظهرت دراسة طولية حديثة أُجريت على أطفال إنجليز، معظمهم عرضة لخطر الإصابة بعسر القراءة، أن المهارات اللغوية التي تُقاس في عمر ثلاث سنوات ونصف تتنبأ بمدى دقة القراءة في عمر الخامسة والنصف. علاوة على ذلك، يكون تأثير هذه المهارات في تطوُّر فك الترميز من خلال الوعي الفونيمي والمعرفة بالأحرف في عمر الرابعة والنصف، كما هو مبيَّن في الشكل رقم ٣-٢. في هذه الدراسة، تتنبأ المهارات اللغوية بمدى قدرة الطفل على التسمية التلقائية السريعة في عمر الرابعة والنصف، لكنها لا تؤثر في القراءة بعد عام واحد، أي في سن الخامسة والنصف؛ ففي اللغة الإنجليزية، لا يظهر تأثير التسمية السريعة إلى أن تتطور القراءة لما بعد المرحلة المبكرة، ويصبح من الممكن قياس الطلاقة. ثمة استنتاج مهم آخر لهذه الدراسة، وهو أن المهارات اللغوية الشفهية المبكرة من شأنها التنبؤ بمدى الفهم القرائي للطفل بعد خمس سنوات، أي في سن الثامنة أو التاسعة، وهو استنتاج يركز على التأثير البارز بعيد المدى للمهارات اللغوية الشفهية في تطوُّر مهارات القراءة والكتابة.
fig9
شكل ٣-٢: نموذج للعلاقات التنبؤية يوضح كيف أن اللغة الشفهية هي أساس تطور القراءة، كما يوضح ارتباطها السببي بالفهم القرائي عن طريق الوعي الفونيمي والمهارات المتعلقة بمعرفة أصوات الأحرف.

فرضية العجز اللفظي

نظرًا إلى أن الأطفال المصابين بعسر القراءة يتمتعون بحاسة بصرٍ طبيعية لكنهم لا يتمكنون من تذكُّر الأشكال البصرية للكلمات (كما هو الحال مع ميشا)؛ من الطبيعي أن تتشكل فرضية مفادها أن عسر القراءة ناتج عن نوع من العجز في «الإدراك البصري». ولطالما افتُتن علماء النفس بالفعل بكثرة الأخطاء المتعلقة بعكس الحروف وترتيبها في القراءة والكتابة لدى الأطفال المصابين بعسر القراءة، مثل، الخلط بين الحرفين b وd أو قراءة كلمة was على أنها saw. على الرغم من ذلك، يتضح أن هذه المشكلات ليست بصرية المنشأ على وجه التحديد. فالأطفال المصابون بعسر القراءة عرضة للخلط بين الحروف المتشابهة صوتيًّا مثل k وg، بقدر ما يخلطون بين الأحرف التي تبدو متشابهة في الشكل. ربما كان العمل الأكثر أهمية هو عمل فرانك فيلوتينو في نيوجيرسي؛ فقد أجرى سلسلة من الدراسات التي قدمت أدلة قوية ضد فرضية العجز البصري. في واحدة من هذه الدراسات، طلب من قراء يعانون من ضعف القراءة تذكُّر تتابعات من الأحرف من الأبجدية الإنجليزية أو العبرية، وقارن أداءهم بأداء أطفال لا يعانون من صعوباتٍ في القراءة. في حين واجه القراء الضعاف صعوبات عند إعادة تكوين الأحرف الإنجليزية، كان مستوى أدائهم مماثلًا لمستوى أداء المجموعة الضابطة (الأطفال الذين لا يعانون من صعوبات في القراءة) عند إعادة تكوين تتابعات الأحرف العبرية (التي لا يعرفها الأطفال في أيِّ من المجموعتين). بدمج هذا الدليل مع البيانات التجريبية الأخرى المتاحة في ذلك الوقت، أعاد صياغة فرضية العجز البصري باعتبارها متسقة مع عجز الترميز اللفظي. باختصارٍ، يمكن لعجز الذاكرة اللفظية تفسير العديد من الظواهر المرتبطة بعسر القراءة. استُخلِصت نتيجة مشابهة من دراسة أجريت في المملكة المتحدة، وقد أظهرت أنه في حين أن الأطفال المصابين بعسر القراءة يمكنهم تذكُّر تتابعات من الأشكال المجردة مثل أقرانهم في المجموعة الضابطة (وهو ما يوضح أن ذاكرتهم البصرية «طبيعية»)، فإنهم يعانون من صعوبة كبيرة في تذكُّر تتابعات الأحرف. من المثير للاهتمام أن قدرة القراء الضعفاء على تذكُّر تتابعات الأحرف تحسَّنت على نحوٍ ملحوظ عندما أتيح لهم تتبُّع أشكال الأحرف بالقلم أولًا. في المقابل، لم يُضطر القراء العاديون إلى اللجوء إلى هذه الميزة؛ إذ لم يكونوا في حاجة إلى استخدام طريقة تعويضية أخرى نظرًا إلى أنهم كانوا يتمتعون بذاكرة لفظية سليمة.

تنقيح فرضية العجز اللفظي

مثَّلت نظرية العجز اللفظي نقطة تحول في الأبحاث المتعلقة بعسر القراءة، كما تناسبت مع البيانات المأخوذة من الدراسات السكانية التي أوضحت أن الأطفال الذين يعانون من صعوبات معينة في القراءة غالبًا ما يكون لديهم تاريخ من صعوبات القراءة واللغة. لكن الفرضية التي تفيد بأن عسر القراءة ينتج عن صعوبات في اللغة مما يعيق الترميز اللفظي، فرضية عامة للغاية. ذلك أنَّ اللغة نظام معقد، داخله أنظمة فرعية مختلفة، تتفاعل معًا في عملية فهم اللغة وتكوينها. فالنظام الدلالي يهتم بمعاني الكلمات، ويهتم النظام النحوي بكيفية ترتيب الكلمات معًا لتكوين عبارات، بينما يهتم النظام الصوتي بأثر الأصوات الكلامية في تغيير المعنى (على سبيل المثال، تختلف الكلمة bit عن الكلمة pit في وحدة صوتية واحدة، لكنهما تشيران إلى معنيين مختلفين). علاوة على ذلك، يهتم النظام التداولي (البراجماتي) بكيفية استخدام اللغة من أجل التواصل. وقد كان من الواضح — دائمًا — أن عسر القراءة لا يؤثر بالضرورة في جميع أنظمة اللغة؛ فرغم كل شيء، يتمتع العديد من مرضى عسر القراءة بمعرفة جيدة بمعاني الكلمات (المفردات)، وبعضهم يتمتعون بمهارات ممتازة في التواصل. وعلى العكس من ذلك، تقدم مشكلاتهم مع الوعي الصوتي دليلًا — بالفعل — على ضعف المهارات الصوتية لديهم، وربما يمتد هذا التأثير إلى المهارات النحوية بدرجة أقل، نظرًا إلى أن الإشارات الصوتية تشير غالبًا إلى اختلافات نحوية (على سبيل المثال يتم التمييز بين صيغة المضارع للفعل «love (يحب)» وصيغة الماضي «loved (أحبَّ)» بتغيير وحدة صوتية واحدة «-d»). فهل ينبغي إعادة صياغة فرضية العجز اللفظي والتعامل معها باعتبارها فرضية عجز صوتي؟
يمكن تتبُّع جذور فرضية العجز الصوتي لعسر القراءة إلى مجموعة باحثي هاسكينز، الذين لاحظوا أن القراء المبتدئين يجدون صعوبة في تمييز الوحدات الصوتية في الكلمات المنطوقة. لم يمضِ الكثير على هذه الملاحظة حتى اكتشفوا أوجه القصور الصوتية المختلفة في عسر القراءة، التي كان من بينها عجز ملحوظ في الذاكرة الصوتية. وفي إحدى التجارب التقليدية، قارنوا بين أداء القراء الجيدين والقراء المصابين بضعف القراءة في مهام تختبر القدرة على تذكر سلاسل من الأحرف التي توجد بها أصوات متشابهة يمكن الخلط بينها مثل GPVTB، وسلاسل من الأحرف التي لا يمكن الخلط بينها مثل HWTRS. تمكَّن القراء الماهرون من تذكُّر عدد أقل من الأحرف التي يمكن الخلط بينها صوتيًّا مقارنة بالعناصر التي لا يمكن الخلط بينها. وقد أوضحت هذه الملاحظة أنهم كانوا يحوِّلون الأحرف إلى الوحدات الصوتية المقابلة لها تلقائيًّا، ومن ثَم خلطوا بينها في الحالة الأولى. في المقابل، لم يكن القراء الذين يعانون من ضعف القراءة عرضة «لتأثير الخلط بين الأصوات». على الرغم من أن هذا الاستنتاج تعرَّض منذ ذلك الحين للنقد على أسس منهجية (نظرًا إلى أن المجموعتين كانتا غير متكافئتين من ناحية مهارات التذكُّر فيما يتعلق بسلاسل الأحرف التي لا يمكن الخلط بينها)، فإنه كان استنتاجًا مميزًا سلَّط الضوء على طبيعة مشكلة عسر القراءة. وقد أفضت المحاولات اللاحقة التي كررت التجربة مع استخدام طرق أفضل إلى نتائج مكررة؛ وصار ضعف قدرة الذاكرة اللفظية قصيرة المدى على تذكُّر الأرقام (التي يسهل تخزينها ذهنيًّا في صورة أصوات) سمة مميزة بالفعل لعسر القراءة.

في سبعينيات القرن العشرين، كنت أجري بحثًا في عيادة عسر القراءة في مستشفى بارثولوميو في لندن. وهناك، لاحظت أن الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة لديهم مشكلتان يتضح أنهما متسقتان مع المشكلات التي وردت في أبحاث مجموعة باحثي هاسكينز: المشكلة الأولى تتعلق بمهارات «تحليل الكلمات وفهمها»، وقد استمرت هذه المشكلة على الرغم من تطور مهارات قراءة الكلمات، والمشكلة الثانية تتعلق بنطق الكلمات المعقدة التي تتضمن العديد من المقاطع. وقد لاحظ تيم مايلز، الذي أسس وحدة لعسر القراءة في بانجور شمال ويلز، مشكلات مماثلة. قادتني هذه الملاحظات إلى إجراء تجارب على قراءة الكلمات الزائفة وتكرارها في حالة الإصابة بعسر القراءة، ومقارنتها بالتجارب نفسها مع استخدام كلمات حقيقية معروفة هذه المرة.

كانت المهام المستخدمة بسيطة؛ تطلَّبت من المشاركين قراءة كلمات زائفة مثل tegwop أو تكرار عناصر طويلة مثل basquetty. حتى في هذه المهام التي تبدو بسيطة، ارتكب الأطفال المصابون بعسر القراءة أخطاءً أكثر مما كان متوقعًا منهم بِناءً على قدرتهم على قراءة الكلمات الحقيقية وتكرارها، والأهم من ذلك هو أن هذه الصعوبات لم تظهر عند مقارنة هؤلاء الأطفال بمن هم في نفس عمرهم فقط، بل تجلَّت أيضًا عند مقارنتهم بأطفال أصغر سنًّا، لكنهم في نفس مستوى القراءة. أشار هذا الاستنتاج إلى أن ثمة شيئًا يؤثر في قدرتهم على تقسيم الكلمات إلى وحدات صوتية؛ وهي مهارة مطلوبة لابتكار طريقة جديدة لنطق الكلمات الجديدة، ولتأسيس الصلات بين الوحدات الصوتية والوحدات المكتوبة، وهو أمر ضروري من أجل فهم الكلمات الزائفة. اتضح أن الأطفال المصابين بعسر القراءة كانوا قادرين على قراءة الكلمات من خلال التعرف على شكل الكلمة ككل دون الحاجة إلى تفكيكها إذا كانوا يحتفظون بشكل هذه الكلمات في الذاكرة، لكن كانت لديهم مشكلات مع الكلمات الجديدة. وبالمثل، كان في إمكانهم تكرار الكلمات المألوفة لديهم عندما تكون هذه الكلمات مخزَّنة في ذاكرتهم المعجمية، لكنهم كانوا يواجهون مشكلة عندما يتعيَّن عليهم تعلُّم كلمة جديدة. على الرغم من أن التفسير النظري لهذه النتائج نُقِّح بمرور الزمن، ظلَّت المشكلات الصوتية في هذا النطاق من السمات الأساسية لعسر القراءة في مختلف الفئات العمرية.

فرضية العجز الصوتي

ناقشنا حتى الآن العديد من النواحي التي يُظهر فيها الأطفال (والبالغون) المصابون بعُسر القراءة صعوبةً كبيرة: الوعي الصوتي، والذاكرة اللفظية القصيرة المدى، والبطء في التسمية (في مهام التسمية التلقائية السريعة)، وصعوبة تكرار الكلمات التي لا معنى لها، التي لم يسمعوا بها من قبل (مثل blonterstaping). وقد يواجهون صعوبة أيضًا في العثور على الكلمات الملائمة، كما يجدون صعوبة في تعلُّم أسماء الأشياء والرموز الجديدة. هذه المشكلات معًا تسبِّب صعوبة كبيرة في السياقات التعليمية. تخيل ما سيبدو عليه الحال إذا حاولتَ أن تتعلم لغة أجنبية وأنت تواجه صعوبة في تكرار الكلمات الجديدة وتعلم الأسماء الجديدة، وحتى إن كنت تعلم الكلمة أو اسم الشخص جيدًا، فثمة مشكلة تتعلق بتذكر ذلك (انظر الشكل رقم ٣-٣). من المثير للاهتمام أن بعض البالغين الذين يعانون من عسر القراءة لكنهم تعلموا القراءة إلى أن وصلوا إلى مستوى مناسب من الكفاءة يشكون من مشكلات الذاكرة أكثر من شكواهم من ضعف القراءة لديهم.
fig10
شكل ٣-٣: الصعوبات الشائعة المتعلقة بإيجاد الكلمات المناسبة في حالات عسر القراءة.
يُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أن العجز الصوتي هو السبب الجذري لعُسر القراءة. غير أن إحدى المشكلات التي يجب مواجهتها عند تقييم العلاقة «السببية» بين العجز الصوتي والقراءة لهذه العيوب هي أن الأداء في المهام الصوتية يتأثر بمهارة القراءة. ثمة مثالان يوضحان هذه النقطة. في عرضٍ رائعٍ لتأثير تعلُّم القراءة في الوعي الفونيمي، تبيَّن أن القراء يعتقدون أن الصوت [t] موجود في نطق الكلمة: pitch لكنه غير موجود في نطق كلمة rich، وهو ما يعكس التأثير القوي للغة المكتوبة. ثمة مثال آخر مختلف بعض الشيء يأتي من الأميين البالغين الذين درسهم كاسترو كالداس وزملاؤه باستخدام تصوير الدماغ. في هذه الدراسة، طُلب من النساء المتعلمات وأخواتهن اللاتي لم يحصلن على قدرٍ كافٍ من التعليم (أي إنهن أميات)، تكرار كلمات حقيقية وكلمات زائفة، بينما يجري قياس نشاط أدمغتهن. عندما كررت النساء المتعلمات كلمات حقيقية نشطت في أدمغتهن مناطق مختلفة عن تلك التي نشطت عند تكرارهن كلمات زائفة. في المقابل، لم يظهر لدى أخواتهن الأميات نشاط في الدماغ إلا في المناطق المسئولة عن المعالجة الدلالية للكلمات. تشير هذه النتائج إلى أن هناك تغييرات دماغية ترتبط بتعلم القراءة في الأنظمة التي تدعم المعالجة الصوتية (تُنشَّط هذه التغييرات عند تعرض الأشخاص لكلمات جديدة). ويترتب على ذلك أن أوجه القصور في عمليات المعالجة الصوتية يمكن أن تكون نتيجة مترتبة على ضعف القراءة، وليست سببًا فيه. وعلى الرغم من أن الدراسات التي تثبت أن الأطفال المعرضين لخطر الإصابة بعسر القراءة تظهر لديهم إعاقات صوتية قبل أن يبدءُوا تعلم القراءة والكتابة رسميًّا تنفي هذا الاحتمال، فإنها تظل مشكلة بالنسبة إلى بعض الباحثين.

توجد أيضًا بعض التعديلات على نظرية العجز الصوتي التي ينبغي النظر فيها. أحد هذه التعديلات يقترح التمييز بين القرَّاء الذين يعانون من عسر القراءة ممن ترتبط مشكلاتهم بضعف الوعي الفونيمي، والقراء الذين يعانون من عسر القراءة، وتتمثَّل مشكلتهم الرئيسية في التسمية السريعة، والآخرين الذين يعانون من «عجزٍ مزدوجٍ». وثمة نظريات أخرى، كما سنرى، تشير إلى وجود أوجه قصور في الأنظمة الحسية تسبق العجز الصوتي.

المعالجة السمعية والكلامية في عسر القراءة: سلسلة متعاقبة من أنماط العجز؟

يحاول عددٌ من نظريات عسر القراءة تفسير الكيفية التي قد تتسبب بها المشكلات الحسية أو الإدراكية الأساسية في مشكلات صوتية. وتقترح أكثر هذه النظريات تأثيرًا أن عسر القراءة ينتج عن مشكلة في المعالجة الزمنية السريعة للمعلومات السمعية الواردة، والتي تكون — بدورها — ضرورية لإدراك أصوات الكلام. وفقًا لهذا الإطار، يوجد تسلسل من الصعوبات يمتد من المعالجة السمعية إلى إدراك الكلام المنطوق قد يعيق تطور التمثيلات السمعية في عسر القراءة، ومن ثَم فهو يفسر الصعوبات الصوتية، وما يحدث بعد ذلك من مشكلات في الربط بين الوحدات المكتوبة والوحدات الصوتية (انظر الشكل رقم ٣-٤).

اختبر عددٌ كبير من الدراسات جوانب هذه النظرية، وقد استخدمت دراسات عديدة مهمة المعالجة السمعية السريعة لكن عددًا قليلًا منها فقط هو ما قدَّم بيانات طولية. في مهمة المعالجة السمعية السريعة، يستمع الأطفال إلى نغمتين تختلفان في الدرجة (عالٍ مقابل منخفض). في الجزء الأول من التجربة، تعلموا ربط النغمة المرتفعة بالسهم الذي يشير إلى أعلى، والنغمة المنخفضة بالسهم الذي يشير إلى أسفل. فور أن تعلم الأطفال هذه الروابط، كانت المهمة التالية هي الاستماع إلى نغمتين، وإعادة تكرار التسلسل (مرتفع-منخفض، أو منخفض-مرتفع، أو مرتفع-مرتفع، أو منخفض-منخفض). ثمة سمة إضافية للتجربة، وهي أن النغمات في التتابعات كانت مفصولة بفواصل زمنية مختلفة، في بعض الأحيان تُعرض النغمات على فترات متقاربة، وأحيانًا تُعرض بينها فواصل زمنية أطول.

fig11
شكل ٣-٤: كيف يمكن للإدراك السمعي التأثير في تعلُّم القراءة: نموذج «التسلسل».

نجد أنَّ الأطفال المصابين بعسر القراءة يواجهون صعوبة في أداء مهمة المعالجة السمعية السريعة، ويرتكبون الكثير من الأخطاء. الأمر غير الواضح هو ما إذا كانت المشكلة التي كشفت عنها هذه المهمة تكمن في المعالجة «الزمنية» للمعلومات السمعية، أم في المعالجة «السريعة» لها. ثمة مشكلة أخرى أيضًا. من الشائع أن يُستخدم شكل من أشكال التسمية اللفظية عند إكمال هذه المهمة (قول «مرتفع» أو «منخفض» بصوت هامس)، لذا فإن حقيقة أن الأطفال المصابين بعسر القراءة لديهم صعوبات لفظية قد تعني أنهم يواجهون صعوبات عند القيام بهذه المهمة لأن استراتيجيات الترميز لديهم لا تتسم بالكفاءة.

ركَّزت الأبحاث الأحدث التي تتناول فرضية العجز السمعي على المعالجة الزمنية، مستخدمة مهام مثل إدراك وجود «فجوة» أو توقف في النغمة، كما ركزت على مجموعة من المهارات الإدراكية ذات الصلة بإدراك الكلام. وهي تتضمن قياسات لمقدار الحساسية تجاه درجة الصوت وشدته وتعديله (الاختلافات في درجة الصوت وعلوِّه)، إضافةً إلى بداية التحفيز ومدته. أشارت العديد من الدراسات إلى اختلافات في الأداء بين مجموعات من القراء المصابين بعسر القراءة والمجموعات الضابطة، وأوضحت دراسات أخرى وجود درجة متوسطة من الارتباط بين المعالجة السمعية ومهارة القراءة. لكن معظم الدراسات أُجريَت على أطفال أكبر أو بالغين، كما أن الدراسات الطولية نادرة. من الجلي إذن أنه إذا كانت مشكلة المعالجة السمعية الأساسية تمهد الطريق لسلسلة من الصعوبات التي تفضي إلى ضعف القراءة، فستظهر هذه الصعوبات مبكرًا خلال مراحل النمو، وتكون مؤشرات تنبِّئ بمستوى إدراك الكلام والوعي الفونيمي في المراحل اللاحقة. وقد اختبرت دراسة حديثة تابعة لمشروع ويلكوم للغة والقراءة هذه الفرضية من خلال فحص العلاقات التنبؤية بين قياس المعالجة السمعية التي تتطلب التمييز بين النغمات التي تختلف في التردد أو (الدرجة)، ومهارات القراءة لدى الأطفال المعرَّضين لخطر الإصابة بعسر القراءة والمجموعات الضابطة. في البداية قِسنا درجة التمييز بين الترددات في عمر الرابعة والنصف ودرسنا مدى تأثير ذلك في مهارات اللغة والقراءة بعد سنة، وفي مهارات القراءة في عمر الثامنة. لم نجد دليلًا على أن التمييز بين الترددات يتنبأ بمستوى القراءة أو اللغة. لكننا وجدنا ارتباطًا قويًّا بين أداء الأطفال في مهمة التمييز بين الترددات ومهاراتهم اللغوية ومهارات الانتباه، واتضح أن المهارات اللغوية هي التي تتنبَّأ بمهارات القراءة. علاوة على ذلك، كان الأطفال الذين يعانون من ضعف اللغة (وضعف الانتباه أيضًا) هم أكثر من يواجهون صعوبة في تمييز الترددات، لا الأطفال المعرضون لخطر الإصابة بعسر القراءة بِناءً على تاريخهم العائلي. وتوضح هذه النتائج أن المشكلات في هذه المهام تعكس ضعف الانتباه، ولا يوجد ارتباطٌ مباشرٌ بينها وبين عسر القراءة.

أرجع الباحثون ضعف المهارات الصوتية في عسر القراءة إلى مشكلات تتعلق بإدراك الكلام أيضًا. تضمنت المهمة التقليدية المستخدَمة لتقييم إدراك الكلام أن يُطلب من الأشخاص التمييز بين أزواج من الأصوات المتشابهة مثل الصوت [bi] في كلمة «bee (بي)» والصوت [pi] في كلمة «pea (بي)». تكون المثيرات الكلامية التي تُعرض على الأشخاص مصمَّمة بحيث تتغير تدريجيًّا وفقًا لسمة حاسمة مثل الفواصل الزمنية بين الترددات المختلفة للصوت. لكن الأمر اللافت للنظر هو أنه، على الرغم من أن المثيرات كانت تتغير باستمرار من حيث جانب معين من جوانب الصوت، إما أن يدرك الأشخاص نطق هذه المثيرات على أنها pea أو bee وليس خليطًا منهما. يُشار إلى ذلك باسم الإدراك التصنيفي (فنحن نسمع إما bee وإما pea، لكننا لا نسمع شيئًا شبيهًا بمزيج من الصوتين /p/ و/b/). كان الأشخاص المصابون بعسر القراءة أقل دقة في مثل هذه المهام. فقد وجدوا صعوبة كبيرة تتعلق بالحد الفاصل الذي يميز بين الصوتين، وهو ما يشير إلى أن لديهم صعوبة في تصنيف الأصوات التي يستمعون إليها في الوحدات الصوتية.

أشارت العديد من الدراسات إلى وجود بعض أوجه القصور في إدراك الكلام لدى مجموعات الأطفال والبالغين المصابين بعسر القراءة. غير أن النتائج الأحدث تفيد أنَّ الأطفال الذين يعانون من صعوباتٍ في القراءة لا يعانون جميعًا من مشكلات في إدراك الكلام بالضرورة. وتوضح هذه النتائج، بدلًا من ذلك، أنَّ الأطفال الذين يواجهون صعوبات في التعامل مع اللغة الشفهية بالتزامن مع صعوبات القراءة هم مَن تزيد احتمالية أدائهم الضعيف في هذه المهام. علاوة على ذلك، العديد من الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة لديهم مشكلات في مواصلة التركيز، لذا فإن حقيقة أن مهام إدراك الكلام التي تُجرى في المختبر تستغرق مدة طويلة، وتتطلب تركيزًا كبيرًا، تعطي سببًا منطقيًّا آخر لضعف أداء الأطفال المصابين بعسر القراءة.

إحدى الطرق الرائعة لتقييم الفروق الفردية فيما يشار إليه باسم «الإدراك التصنيفي للكلام» تتمثَّل في المقارنة بين أداء أطفال مصابين بعسر القراءة، وأطفال يواجهون صعوبات في التعامل مع اللغة الشفهية (اضطراب المهارات اللغوية المرتبطة بالنمو)، وأطفال يجمعون بين الحالتين. إضافة إلى ذلك، من خلال إدراج وحدات كلامية واضحة يسهل إدراكها بين العناصر الأصعب، يمكن مراقبة التركيز على مدار المهمة. وباستخدام استراتيجيات كهذه، وجد مشروع ويلكوم للغة والقراءة أدلة تؤيد كلا الافتراضين. أولًا، الأطفال الذين يعانون من ضعف القراءة مصحوب بضعف المهارات اللغوية تكون لديهم مشكلات في إدراك الكلام، في حين أن الأطفال الذين تتعلق صعوباتهم بعسر القراءة فقط أقل عرضة لهذه المشكلات. ثانيًا، الأطفال الذين يجدون صعوبات في التحكم في انتباههم أكثر عرضة للإخفاق، كما أن أداءهم في التجارب المختلفة يتنوع بدرجة كبيرة.

تتمثل إحدى طرق التغلب على مشكلة ضعف التركيز في دراسة أسباب عسر القراءة باستخدام المقاييس الفسيولوجية لاستجابة الدماغ لأصوات الكلام. وقد قدمت الدراسات بعض الأدلة على ضعف القدرة على تمييز الاختلافات بين أصوات الكلام في حالات عسر القراءة، ويشمل ذلك الأطفال المعرَّضين لخطر الإصابة بعسر القراءة بسبب تاريخهم العائلي، إلا أن النتائج كانت مختلطة. ووفقًا لأوشا جوسوامي، ربما تكمن مشكلة إدراك الكلام في مستوى أعلى من مستوى أصوات الكلام الفردية. تقترح هذه الفرضية وجود صعوبة في استخلاص التراكيب الإيقاعية من الكلام، وأنها هي السبب في ظهور الصعوبات اللغوية والصوتية التي تنشأ بعد ذلك. على الرغم من ذلك، فإن البيانات الطولية غير متوفرة إلى الآن.

النظريات البصرية المتعلقة بعسر القراءة

نظرًا إلى أن القراءة تتطلب الاتصال بين اللغة والبصر، اقترح بعض واضعي النظريات وجود علاقة سببية محتمَلة بين إعاقات المعالجة البصرية وعسر القراءة. وبدلًا من العودة للأفكار القديمة حول عجز الذاكرة البصرية، تمثَّلت أوجه القصور الموضحة في عمليات مثل إدراك التباين والحركة، وفي التحكم بحركة العين. كان بيل لوفجروف، الطبيب النفسي البصري أول من اقترح هذه الفكرة عام ١٩٨٤. ولفهم هذه الفرضية، من الضروري عرض صورة مصغرة للنظام البصري.

يمكن رسم هذه الصورة المبسطة كما يلي: تُنقل المعلومات البصرية التي يتلقاها الفرد عبر الشبكية الواقعة في الجزء الخلفي من كل عين، إلى القشرة البصرية للدماغ. تعالَج هذه الإشارات الواردة من العينين من خلال «نظام للخلايا العصبية الكبيرة» (مخصص للمثيرات الموجزة السريعة الحركة الموجزة ذات التردد المكاني المنخفض) و«نظام للخلايا العصبية الدقيقة» (مخصص لمعالجة المثيرات الثابتة أو بطيئة الحركة ذات التردد المكاني المرتفع أو الألوان). وتبعًا لذلك، تُمرَّر المعلومات خلال منطقة تُسمى النواة الركبية الجانبية (LGN) إلى القشرة المخية إما عبر التيار العلوي «الظهري» (امتداد لنظام الخلايا العصبية الكبيرة) وإما التيار السفلي «البطني» للقشرة البصرية، هو أيضًا امتداد للخلايا العصبية الصغيرة. يكون التدفق الظهري، لا سيما المنطقة التي تُسمى V5/MT، مسئولًا — بشكلٍ أساسي — عن إدراك الحركة، والتحكم في حركات العين (على الرغم من أنها تتلقى مدخلات من التدفق الآخر).
fig12
شكل ٣-٥: مسارات الخلايا العصبية الكبيرة (معالجة المعلومات المكانية) والخلايا العصبية الصغيرة (معالجة تفاصيل الأشياء) من الشبكية إلى القشرة البصرية للدماغ.
الكثير من الأبحاث حول عسر القراءة ركزت على المهام التي يُعتقد أنها تعتمد على واحد فقط من نظامي المعالجة البصرية (نظام الخلايا العصبية الكبيرة ونظام الخلايا العصبية الصغيرة). تتمثل التجارب التي تتناولها هذه الأبحاث — بصفة أساسية — في مهام يُعرض فيها على المشاركين صورٌ على الشاشة، ويتعيَّن عليهم — مثلًا — تحديد ما إذا كانت النقاط على الشاشة تتحرك نحو اليسار أم نحو اليمين. يتلاعب القائمون بالتجربة فيما يُعرض على الشاشة (في هذا المثال، تتحرك العديد من النقاط بشكلٍ عشوائي في الاتجاهات المختلفة على الشاشة، ويعمل القائم بالتجربة على تنويع نسبة النقاط التي تتحرك في الاتجاه نفسه). ويتضح أنَّ القدرة على تحديد اتجاه الحركة على هذه الشاشة يعكس دور الخلايا العصبية الكبيرة. ولهذا يرى لوفجروف أنَّ عسر القراءة يرتبط بمشكلات في نظام الخلايا العصبية الكبيرة للمعالجة البصرية، تتضح من خلال مهام كهذه. عُزِّزت هذه النظرية من خلال النتائج التي أوضحت انخفاض نشاط الدماغ في منطقة V5/MT في أثناء المعالجة البصرية للحركة في حالة عسر القراءة، بالإضافة إلى النتائج التي تفيد بأن الخلايا في طبقات الخلايا العصبية الكبيرة، التي تتكون منها النواة الركبية الجانبية، تكون أصغر لدى الأشخاص المصابين بعسر القراءة.

على الرغم من ذلك، لاقت النظرية، التي تفيد بوجود أوجه قصور في الخلايا العصبية الكبيرة في حالة عسر القراءة، تحدياتٍ للعديد من الأسباب. والأهم من ذلك هو أن النظرية لا تفسر كيف يمكن لمشكلة في رؤية المثيرات المتحركة التي تُعرض في ظروف الإضاءة المنخفضة أن تسبب مشكلات في القراءة (لا سيما أن القراءة تحدث عادة في أماكن جيدة الإضاءة، وفي ظل وجود نص ثابت). يتبين من هذا أنَّ العلاقة بين حساسية نظام الخلايا العصبية الكبيرة للمعالجة البصرية أو التيار الظهري والقراءة؛ ضعيفة نسبيًّا، وقد أشير إلى أنه من غير المرجح أن تعكس هذه التأثيرات سببًا لمشكلات القراءة التي يتضمنها عسر القراءة.

بدت دراسة حديثة مفيدة على نحوٍ خاصٍّ في حل التناقضات بين الأدلة، فيما يتعلق بضعف المعالجة البصرية الأساسية. تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء. أولًا، بقياس مستويات نشاط الدماغ، حصلت الدراسة على نتائج مماثلة للنتيجة الكلاسيكية التي أفادت بانخفاض النشاط في منطقة V5/MT (المنطقة البصرية الصدغية الوسطى) في أثناء المعالجة البصرية للحركة في حالة عسر القراءة. ثانيًا، لم تسفر قياسات نشاط الدماغ في هذه المنطقة عن أي اختلافات بين القراء العاديين والأطفال الأصغر المصابين بعسر القراءة الذين يطابقونهم في مستوى القراءة ومعدل الذكاء. عدم وجود اختلافات بين المجموعتين يشير إلى أن قلة التنشيط في منطقة V5/MT يرتبط بخبرة القراءة بدلًا من تقديم تفسير سببي لعسر القراءة. إذا كان هذا صحيحًا، فإن أي تحسُّن في القراءة ينتج عن التدخل يكون حتمًا مصحوبًا بتنشيطٍ متزايد للدماغ. ثالثًا، وجدت الدراسة أن هناك زيادة في نشاط الدماغ في منطقة V5/MT بعد فترة من التدخل، وهو ما أدى إلى تحسُّن في مهارات القراءة. على الرغم من أن إحدى نقاط ضعف هذه الدراسة تمثَّلت في عدم توفر بيانات المجموعات المرجعية، كانت النتائج مثيرة للاهتمام، وألقت بظلال الشك على الفرضية القائلة بأن عسر القراءة يكون نتيجة لضعف المعالجة البصرية الأساسية.

الانتباه البصري

ثمة نسخة أخرى من النظرية «البصرية» لعُسر القراءة تشير إلى أن الأفراد الذين يعانون من عسر القراءة يجدون صعوبة في توجيه تركيزهم البصري، كما تقدِّم تفسيرًا محتملًا لسبب إظهار بعض الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة عجزًا إملائيًّا وليس صوتيًّا (فنحن نتذكر أن ميشا كانت تعاني من صعوبات صوتية خفيفة فقط. لكن مهاراتها الإملائية كانت ضعيفة وفقًا لتهجئتها).

وفقًا لنظرية الانتباه البصري الخاصة بعسر القراءة، يمكن لمدى الانتباه البصري الضعيف أن يؤثر في استخراج المعلومات التي تتضمنها الأحرف المكتوبة من اليسار إلى اليمين. ولأن هذا الأمر بالغ الأهمية من أجل تقسيم سلاسل الحروف قبل تطبيق قواعد فك الرموز المكتوبة، فسيؤثر في النهاية في تطوُّر النظام الإملائي. في اختبار لنظرية الانتباه البصري، طُلب من الأطفال ملاحظة عرض مجموعة من الأحرف التي تُعرض بالتزامن لفترة قصيرة. بعد ذلك، طُلب منهم الإخبار عن أحد أمرين: إما توضيح جميع الأحرف على الشاشة، وإما إذا رأوا سهمًا مثلًا، فعليهم ذكر الحرف الذي يقع في الموضع الذي يشير إليه السهم. في حالة «الإخبار الجزئي» الثانية، يمكن للطفل العادي تذكر الحرف الموجود في منتصف سلسلة الأحرف بشكلٍ أدق من الأحرف الموجودة على اليمين أو على اليسار (يكون أداؤهم أفضل عند الأطراف). ويتضح أنَّ الأطفال المصابين بعسر القراءة أقل دقة من الأطفال غير المصابين بعسر القراءة على نحوٍ ملحوظٍ عندما يكون الحرف الذي يتعين عليهم توضيحه على الأطراف؛ وهو ما يشير إلى أن مدى تركيزهم البصري أقل من القارئ العادي.

fig13
شكل ٣-٦: شكل يعرض دقة تذكُّر المثيرات المعروضة على اليسار واليمين من بؤرة التركيز للأحرف والأرقام (في التمثيل البياني الموجود على اليمين) والرموز التي ليست من الأحرف أو الأرقام (في التمثيل البياني الموجود على اليسار). تكمن صعوبات عسر القراءة في معالجة الأحرف والأرقام فقط.
لكن، نظرًا إلى أننا نعرف أن الأطفال المصابين بعسر القراءة أبطأ من القراء العاديين في تسمية الأحرف، فقد يكون سبب المشكلة هو بطء الترميز الأولي للأحرف، وليس أي قصور في الانتباه البصري. وفي عرض توضيحي منمق لهذا الأمر، طوَّع الباحثون مهمة الانتباه البصري لإلغاء مهمة تسمية الأحرف، واستخدام مهمة أخرى عوضًا عنها، تتمثل هذه المهمة البديلة في تقديم العنصر الصحيح وعنصر بديل عند كل موضع تسلسلي؛ بحيث يتعين على الطفل الاختيار بينهما. وبعد ذلك قارنوا بين أداء المصابين بعسر القراءة وغير المصابين بعسر القراءة فيما يتعلق بسلاسل الأحرف وسلاسل الأرقام؛ ومن المهم أيضًا أنهم قارنوا بين أداء المجموعتين فيما يتعلق بسلاسل الرموز التي لا يمكن تسميتها. تشير النتائج في الشكل ٣-٦ إلى أن الأطفال المصابين بعسر القراءة يتسمون بانخفاض الانتباه البصري لسلاسل الأحرف ولسلاسل الأرقام، لكن مدى انتباههم للرموز التي لا يمكن تسميتها كان طبيعيًّا. يبدو من هذه التجربة أن مشكلة عسر القراءة ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بالترميز اللفظي للأحرف والأرقام، وليست نتيجة لمدى الانتباه البصري المحدود. يمكن القول باختصارٍ إنَّ هذه البيانات تدحض نظرية الانتباه البصري باعتبارها فرضية سببية لعسر القراءة.

الإجهاد البصري

من الافتراضات التي اقتُرحت أيضًا، أنه على الرغم من أن الإرهاق البصري (أو الإجهاد) ليس سببًا محددًا لعسر القراءة، فإنه يمكنه التأثير في القراءة، لا سيما طلاقة القراءة، فإنَّ الإجهاد البصري، الذي يشار إليه في بعض الأحيان باسم متلازمة «إرلن» أو «ميرس»، يرتبط باختبار التشوهات الإدراكية كحركة الأحرف في جميع أنحاء الصفحة. وهذا من شأنه أن يجعل القراءة منفِّرة. يؤيد أنصار نظرية الإجهاد البصري استخدام عدسات ملونة أو مرشحات توضع فوق الكلمات المطبوعة لتقليل الوهج. وقد قيل إن اتِّباع هذا الإجراء يؤدي إلى زيادة سرعة القراءة، وتحسين الفهم القرائي.

انقسمت الآراء في مجال طب العيون فيما يتعلق بكلٍّ من تشخيص الإجهاد البصري وفعالية علاجه. وبشكلٍ أعم، فإنَّ العلاقة بين الأعراض البصرية وضعف القراءة مشكوك في صحتها. وثمة دراسة حديثة اعتمدت على بيانات من مجموعة كبيرة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من سبع سنوات إلى تسع، وشاركوا في «دراسة آفون طويلة الأمد للآباء والأطفال»، لم تجد إلا أدلة قليلة على وجود ارتباط بين صعوبات القراءة الشديدة وأنواع الصعوبات البصرية التي تُلاحظ بشكلٍ شائعٍ عند الأطفال الذين يُحالون إلى عيادات العيون بسبب مشكلات في الرؤية (مثل كسل العين وقصر النظر).

صعوبات أعم تتعلق بعسر القراءة

إلى جانب النظريات البصرية والسمعية لعسر القراءة، يقترح عددٌ من النظريات أن سبب عسر القراءة ربما يكمن في أنظمة تعيق التعلم بطرقٍ عامة نوعًا ما. ومن أوجه القصور المقترحة عدم القدرة على تبني نقطة مرجعية ثابتة في المهام الإدراكية («التثبيت») ومشكلات في التعلم الضمني أو في تطوير التحكم التلقائي (غير الواعي) في المهارات الحركية. على سبيل المثال، تقترح فرضية عجز المخيخ أن الأطفال المصابين بعسر القراءة يمكنهم تعلم مهارات جديدة، لكن لا يمكنهم القيام بهذه المهارات بشكل تلقائي أو لا واعٍ. تضمنت إحدى المهام التي استخدموها لتأكيد هذه النظرية أن يطلبوا من الأطفال تعلُّم تحريك السبابة والإبهام بنمط محدد، بمجرد أن يتعلموه يتعيَّن عليهم تنفيذه بسلاسة عدة مرات. وجد الأطفال المصابون بعسر القراءة صعوبة أكبر في تعلم المهمة، وكانوا أبطأ بكثيرٍ من القراء العاديين في الاختبارات التجريبية.

تضمنت المهمة الثانية أن يطلبوا من الأطفال التوازن على عارضة، مع تثبيت قدم واحدة على العارضة كل مرة، وإغماض العينين. فور أن تمكَّن الأطفال من ذلك، طُلب من الأطفال الاستمرار في حفظ توازنهم في أثناء العد التنازلي بمقدار ثلاثة. كان الأطفال المصابون بعُسر القراءة عرضة للتأرجح أو حتى السقوط من العارضة بدرجة أكبر من الأطفال غير المصابين بعسر القراءة في هذه المهمة، وهو ما يشير إلى أن التوازن بالنسبة إليهم يتطلب تحكُّمًا واعيًا. ومع ذلك، أوضحت مراجعة كاشفة لاحقًا أنه عندما لوحِظت مشكلات التوازن في عسر القراءة، بدا أنها مرتبطة باضطرابات تحدث بالتزامن، مثل اضطراب فرط الحركة وتشتُّت الانتباه، وليست بسبب عسر القراءة في حد ذاته. وعلى الرغم من أن بعض الأطفال المصابين بعسر القراءة لديهم صعوبات في التعلم والتنسيق الحركي بصورة أعم، فإن هذه المشكلات لا يمكنها تفسير الصعوبة التي تواجه هؤلاء الأطفال عند تعلم القراءة (والتهجئة) أو عجزهم عن تطوير مهارات القراءة بطلاقة.

موجز القول أنه من الصعب أن تقدر النظريات، التي تشير إلى وجود مشكلات عامة تتعلق بعسر القراءة، على تفسير الصعوبات المحددة التي تُلاحظ في عسر القراءة. فلو أنَّ التعلم قد أُعيق بطُرق عامة نوعًا ما، لنشأت مشكلات أوسع نطاقًا من تلك التي تظهر في عسر القراءة.

هل يمكننا الاتفاق بشأن أسباب عسر القراءة؟

لقد رأينا أن هناك عددًا من النظريات الإدراكية المختلفة المتعلقة بأسباب عسر القراءة. علاوة على ذلك، فإنَّ اقتراح العديد من أوجه القصور المختلفة التي ترتبط سببيًّا بعسر القراءة، دفع البعض إلى الإشارة إلى أن علينا عدم استخدام مصطلح «عسر القراءة» لأنه لن يفيد كثيرًا. غير أن التخلي عن مفهوم عسر القراءة يعني أننا سنضيِّع أيضًا المعارف والرؤى القيِّمة التي اكتسبناها بشأن الموضوع خلال خمسين عامًا من البحث العلمي. وقد أوضحت مراجعة نقدية أن الإجماع بين الباحثين بشأن مفهوم عسر القراءة أكبر مما يشير المتشككون إلى وجوده. ما نحتاج إليه هو إطار عمل مفاهيمي يمكن أن يجمع بين الأدلة المتقاربة من مجموعة متنوعة من المنهجيات لتوضيح تطور عسر القراءة. ولا بد أن تنطوي الأدلة على دراسات تتناول عسر القراءة باعتبارها اضطرابًا طيفيًّا (مناهج تربط المهارات الإدراكية بمهارات القراءة)، وأخرى تستخدم طُرقًا للمقارنة بين المصابين بعسر القراءة وغير المصابين به؛ للبحث في عسر القراءة كأنه فئة «تشخيصية» (أي اعتباره فئة منفصلة لها تعريف محدد). علاوة على ذلك، لا بد أن يتضمن الإطار أدلة من الدراسات التدريبية التي يمكنها اختبار النظريات السببية.

لتمهيد الطريق، لا بد من النظر إلى مجموعتين أخريين من الدراسات. أولًا، علينا النظر فيما إذا كان الأفراد يختلفون أحدهم عن الآخر، وما إذا كانت لديهم أوجه قصور معرفية مختلفة ترتبط بعسر القراءة. فعلى الرغم من كل شيء، سيكون من المفاجئ ألا يكون للحالات الثلاث التي تناولناها، أي بوبي وميشا وهاري، نقاط قوة ونقاط ضعف مختلفة. ثانيًا، يتعين علينا استدعاء مفهوم «الأسبقية السببية»، والبحث عن أدلة على بوادر عسر القراءة في مرحلة مبكرة من النمو، قبل أن تبدأ المعرفة بالقراءة والكتابة في تشكيل النظام المعرفي.

اتَّبع فرانك راموس وزملاؤه المنهج الأول، واتخذوا الخطوة المهمة، التي لم تتمثَّل في المفاضلة بين النظريات، بل دراسة أعداد الأفراد ضمن عينة من المصابين بعُسر القراءة يعانون من أوجه القصور المختلفة التي طُرحت. تضمنت أولَيات هذه الدراسات التي أجريت على الأطفال تقييمات للمهارات الصوتية والمعالجة السمعية والإدراك البصري للحركة والإجهاد البصري والمهارات الحركية. باستخدام القراء العاديين باعتبارهم مجموعة مرجعية ضابطة، عُرِّف العجز أو القصور بأنه الانخفاض عن متوسط المجموعة الضابطة بمقدار انحراف معياري واحد. من بين ٢٣ طفلًا مصابًا بعسر القراءة، أظهر ١٢ طفلًا عجزًا صوتيًّا، وأظهر ستة أطفال عجزًا سمعيًّا، وأظهر طفلان قصورًا في إدراك الحركة البصرية، وأظهر ٨ أطفال إجهادًا بصريًّا، وأظهر ٥ أطفال قصورًا حركيًّا. وبهذا، أكدت الدراسات، كما هو متوقع، أن أقلية من الأطفال المصابين بعسر القراءة يعانون من مشكلات حسية أو حركية. كان العجز الصوتي هو أكثر الأنواع التي يمكن ملاحظتها شيوعًا (على الرغم من عدم تأثر جميع الأفراد)، كما أن المهام الصوتية كانت المهام الوحيدة التي تتجلى فيها الاختلافات بين القراء الجيدين والقراء الضعاف.

ثمة دراسة مماثلة تُطبِّق المنهج نفسه لكن باستخدام عينة أكبر مكونة من ١٦٤ طفلًا فرنسيًّا مصابًا بعسر القراءة (بدرجة أكبر من الأطفال في الدراسة السابقة)، اختبرت الأداء في المهام التي تقيس المهارات الصوتية والإجهاد البصري ومدى الانتباه البصري. مرة أخرى، كانت أوجه العجز الصوتي هي الأكثر انتشارًا؛ إذ أظهر ما يزيد على ٩٠ في المائة من الأطفال في العينة أوجه العجز الصوتي. في المقابل، كانت النسبة المئوية للأطفال الذين يعانون من الإجهاد البصري ٥٫٥ في المائة، ولم تكن هذه النسبة أكبر مما أظهره الأطفال في العينة الضابطة. أما النتائج المتعلقة بمدى الانتباه البصري، فكانت مثيرة للاهتمام. فقد اتضح أنَّ مدى الانتباه منخفض لدى نحو ٢٨ في المائة من الأطفال المصابين بعسر القراءة، لكنهم — جميعًا — كانوا يعانون من أوجه العجز الصوتي أيضًا، مما يدحض الادعاء بأن أوجه العجز في الانتباه البصري مسئولة عن صعوبات القراءة لدى الأطفال الذين لا يعانون من عجزٍ صوتي.

إنَّ نتائج هذه السلسلة من دراسات الحالة (وغيرها) تقدِّم بعض الأدلة الدامغة التي تؤيد فرضية العجز الصوتي. ورغم ذلك، فليس من الضروري أن يعاني كل شخص مصاب بعسر القراءة من العجز الصوتي — في وقت خضوعهم للتقييم على الأقل — وقد يكون بعضهم مصابين بدرجة طفيفة من العجز، وقد يرجع ضعف المهارات الصوتية لدى البعض إلى أن تعلم القراءة لم يُحسِّن التمثيلات الصوتية لديهم. وهذا هو السبب في الأهمية التي تتخذها الدراسات التي تنطوي على تقييم المهارات المعرفية قبل الفشل في تطوير مهارة القراءة.

خطر الإصابة بعسر القراءة نظرًا إلى تاريخ عائلي

جزء من أقوى الأدلة على ارتباط عسر القراءة بالنمو يأتي من الدراسات الطولية لأطفال لديهم قريب من الدرجة الأولى مصاب بعسر القراءة (غالبًا ما يكون أحد الوالدين أو الإخوة). أجريت هذه الدراسات على أطفال من مختلف الخلفيات اللغوية، ويشمل ذلك الإنجليزية والهولندية والفنلندية والتشيكية والسلوفاكية والصينية. تتبعت هذه الدراسات الأطفال المعرضين لخطر الإصابة بعسر القراءة نظرًا إلى تاريخ عائلي من مرحلة الروضة وصولًا إلى السنوات الدراسية المبكرة، وقد بدأت دراستان عندما كان الأطفال رُضَّعًا. وفقًا لمراجعة منهجية لدراسات منشورة، يتضح أنَّ احتمالية الإصابة بعسر القراءة نظرًا إلى تاريخ عائلي تساوي، في المتوسط، ٤٥ في المائة، مقارنة بنسبة إصابة الأطفال الذين ينتمون إلى أسرٍ ليست مصابة بعجزٍ في القراءة، والتي تساوي ١٢ في المائة. بعبارة أخرى، يبدو أن طفلًا من بين كل طفلين يولدان لأم تعاني من عسر القراءة أو أب، يواجه صعوبات في القراءة. علاوة على ذلك، فإن الأطفال المعرضين لخطر الإصابة بعُسر القراءة لتاريخهم العائلي، بصرف النظر عما إذا كانوا سيُشخَّصون بعسر القراءة لاحقًا أم لا، أضعف من المجموعات الضابطة في القراءة والتهجئة، مما يؤكد أن عسر القراءة هو اضطراب طيفي ليس له حدود واضحة.

بالانتقال إلى أوجه القصور المعرفي لمرحلة ما قبل المدرسة، التي لوحظت عند الأطفال الذين عانوا عسر القراءة فيما بعد، وجدت المراجعة عند النظر في مختلف الدراسات، أن العجز الصوتي كان واضحًا منذ السنوات الأولى، وقد لوحظت هذه الإعاقات في مهام تكرار الكلمات عديمة المعنى والذاكرة اللفظية والوعي الصوتي والتسمية السريعة. لوحظ أيضًا ضعف المعرفة بالأحرف، وهي ملاحظة تتفق مع التوقعات نظرًا إلى أن هذه المهارات تكوِّن «الدعائم الثلاث للقراءة». على الرغم من ذلك، فعلى العكس من النظرية التي تفيد بأن الأطفال المصابين بعسر القراءة لديهم عجزٌ صوتي محدد جدًّا، أظهر الأطفال، الذين صُنفوا — فيما بعد — على أنهم يعانون من عسر القراءة؛ مجموعة من الصعوبات اللغوية التي تتجاوز علم الأصوات، ومنها النحو والمفردات. ويتضح أيضًا أن احتمالية تشخيص طفل ما بالإصابة بعسر القراءة تكون أكبر إذا كان يعاني من صعوبات في اللغة المنطوقة عند دخول المدرسة. تمثَّل العامل الحاسم الآخر الذي ميَّز بين الأطفال الذين ينتمون إلى أسر لها تاريخ من عسر القراءة، وشُخِّصوا بالفعل بعسر القراءة، والذين لم يُشخصوا بعسر القراءة، في أدائهم في مهام التسمية السريعة؛ فمن الأرجح أن يُشخَّص الطفل بالإصابة بعسر القراءة إذا أظهر عجزًا في مهام التسمية التلقائية السريعة، وهو ما يتماشى مع فرضية العجز المزدوج في عسر القراءة.

إنَّ نتائج الدراسات التي تتناول احتمالية الإصابة بعسر القراءة نتيجة تاريخٍ عائلي، لا سيما الصِّلة بين الانتماء إلى أسرة لها تاريخ من عسر القراءة وضعف اللغة، دفعت فريقنا إلى بدء مشروع ويلكوم للغة والقراءة عام ٢٠٠٧. في هذه الدراسة، تتبَّعنا تقدم مجموعتين من الأطفال المعرضين للإصابة بعسر القراءة بدرجة كبيرة: الأطفال المعرضون لاحتمال الإصابة بعسر القراءة نظرًا إلى إصابة أحد الوالدين، والأطفال الذين يعانون من الضعف اللغوي في مرحلة ما قبل المدرسة. في البداية لاحظنا الأطفال في عمر الثالثة والنصف وتتبعناهم حتى وصلوا إلى الثامنة، مع تقييمهم كل عام. ولعل السؤال الرئيسي فيما يتعلق بهذه المناقشة هو ما إذا كنا قد عثرنا على دليلٍ يؤيد وجود عجز صوتي في مرحلة ما قبل تعليم القراءة لدى الأطفال الذين صُنِّفوا — فيما بعد — على أنهم مصابون بعسر القراءة أم لا. وقد عثرنا على دليل بالفعل: كان الأطفال الذين شُخصوا بعسر القراءة في الثامنة يعانون منذ عمر الثالثة والنصف من مشكلاتٍ تتعلق بالجوانب الصوتية للغة (تكرار الكلمات التي ليس لها معنًى)، ومنذ عمر الرابعة والنصف من العمر أظهروا قصورًا في الوعي الفونيمي والتسمية التلقائية السريعة، مقارنة بالمجموعة الضابطة التي تتطور مهاراتها بصورة طبيعية. كان هذا القصور أشد وطأة لدى الأطفال الذين انطبقت عليهم معايير اعتلال اللغة النمائي في عمر الثامنة. وعلى الرغم من وجود صعوبات في فهم الأصوات والتعامل معها في البداية بالنسبة إلى الأطفال الذين يعانون من اعتلال اللغة النمائي، ولا يعانون من عسر القراءة، فإن هذه الصعوبات تتحسن بمرور الوقت، مما يساعدهم في التغلب على مشكلات فك الترميز (لكن الفهم القرائي يتأثر).

وبناءً على هذا، نستنتج أنه من المناسب اعتبار العجز الصوتي مقدِّمة لعسر القراءة، والأهم من ذلك أنه يسبق تعليم القراءة. على الرغم من ذلك، لا ينبغي النظر إليه باعتباره عاملًا حتميًّا، بل عامل خطر سببي يزيد احتمالية الإصابة بعسر القراءة. وثمة مؤشر قوي بالفعل على أن عسر القراءة ليس سوى حصيلة اتحاد العجز الصوتي مع صعوبات أخرى. في الحالات الأكثر اعتدالًا — عندما يعاني الفرد من صعوبة واحدة — من المرجح أن تظهر على الطفل بعض علامات عسر القراءة، وليس كلها (ربما ضعف التهجي أو الافتقار إلى الطلاقة في أثناء القراءة، كما رأينا في حالة ميشا). يشار إلى مثل هذا المزيج من السمات، الذي نراه غالبًا عند المراهقين، الذين تلقَّوا تشخيصًا متأخرًا في أثناء مراحل التعليم العالي، باسم «عسر القراءة المعوَّض»، وربما يكون المصطلح الأنسب هو «النمط الظاهري الأعم» لعسر القراءة. استخدام هذه المصطلحات يمثِّل حقيقة أن الاحتمالية الوراثية للإصابة بعسر القراءة (الملاحظ في أفراد الأسر المصابة بعسر القراءة) يتجلى في البداية على صورة عجز صوتي. يؤثر العجز الصوتي في عملية تعلم القراءة والتهجي بدرجات متفاوتة، وفقًا لوجود عوامل الخطر وعوامل الحماية الأخرى. ومثلما حاجج بروس بنينجتون بشكلٍ مقنعٍ، بالفعل، ثمة عوامل متعددة تسبب اضطرابًا مثل عسر القراءة. تتمثَّل إحدى طرق التفكير في النظريات التي تتناول أسباب عُسر القراءة في إبراز عوامل الخطر المرتبطة بنتائج عسر القراءة. ضمن إطار بنينجتون، قد يؤدي كلُّ عامل خطر إلى تفاقم تأثير ضعف المهارات الصوتية الأساسية التي تتضمنها مهارة القراءة، ويزيد من احتمال تشخيص عسر القراءة، ولكن لا تزال هناك حاجة إلى البيانات لدعم هذه الحجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤