الفصل الرابع

جينات عسر القراءة والبيئة: أهو تفاعل معقد؟

يعاني كلٌّ من بوبي وميشا وهاري من عسر القراءة، وجميعهم لديهم عجز صوتي. العجز الصوتي عند ميشا أقل حدة من العجز الصوتي عند بوبي وهاري، ويبدو أنها تستطيع التغلب على الصعوبات التي تواجهها. ومع ذلك، فإن الشيء المشترك بين ثلاثتهم، كما سنرى، هو تاريخهم العائلي المرتبط بعسر القراءة والصعوبات اللغوية. من المنطقي إذن أن نشك في أنه عسر القراءة يعكس استعدادًا وراثيًّا في كل من هذه الحالات، وإن اختلفت مظاهره في الحالات الثلاث. وقد يرجع ذلك إلى وجود اختلافات في شدة العجز الأساسي، أو نظرًا إلى وجود اختلافات في الموارد التعويضية أو نظرًا إلى أنهم تعرضوا لتجارب مختلفة من حيث البيئة المحيطة بهم وفي ذلك التعليم. سيتناول هذا الفصل الأسس البيولوجية لعسر القراءة، وسيطرح السؤال: ما الدليل على أن عسر القراءة اضطراب وراثي؟ بعد ذلك سننتقل إلى دراسة دور البيئة بوصفها وسيطًا محتملًا للتأثيرات الوراثية.

هل عسر القراءة وراثي؟

لقد كان معروفًا منذ سنوات عديدة، بالتأكيد منذ الكتابات المبكرة لصامويل تي أورتون، أن عسر القراءة متوارثٌ في العائلات. وكغيرها من اضطرابات النمو العصبية، يبدأ عسر القراءة مبكرًا في الطفولة، ويستمر (على الرغم من أن تأثيره قد يقل بمرور الوقت)، ومن المحتمل أن يكون وراثيًّا. لنراجع الحالات الثلاث الموجودة لدينا. يعمل والد بوبي مهندسًا، ولا يعتبر نفسه «قارئًا جيدًا»، لكنه تابع مسيرة مهنية ناجحة في الصناعة، وتعمل والدة بوبي مديرة مكتب. يبدو أن عائلة والده شهدت تاريخًا من صعوبات الكلام وعسر القراءة، في حين أن عائلة والدته ليس لها هذا التاريخ. أما ميشا، فهي الطفلة الثالثة في أسرتها. كانت أختاها الكبريان تبليان بلاءً حسنًا في الدراسة الأكاديمية، إلا أن كلتيهما لم تجيدا الرياضيات. كان شقيق والدتها يعاني من مشكلات في القراءة في أثناء المدرسة، لكن أسباب هذه الصعوبات لم تُشخَّص قط. أما هاري، فقد شهدت عائلتا والديه حالات من عسر القراءة، وعلى الرغم من أن والديه لم تواجههما مشكلات في القراءة والكتابة أو الحساب، كان أحد أعمامه مصابًا بعسر القراءة، وكذلك ابنا عمه كلاهما.

للعوامل الوراثية المتعلقة بعسر القراءة أهمية كبيرة، لكنها معقدة. كما ذكرنا، لاحظ الأطباء السريريون خلال النصف الأول من القرن العشرين أن المشكلات المتعلقة بالقراءة تنتقل داخل الأسر، قبل أن تبدأ الدراسة الرسمية للموضوع في خمسينيات القرن العشرين. لكن العائلات تتشارك الجينات والبيئات أيضًا، فكيف يمكننا أن نعرف ما إذا كان سبب (أو أسباب) عسر القراءة جينيًّا أم لا؟ كما سنرى، فإن دراسة التوائم هي التي تمنحنا أفضل فرصة لفك تشابك تأثيرات الجينات، وفصلها عن تأثيرات البيئات المشتركة.

تستفيد دراسة التوائم من المقارنة بين التوائم المتطابقة (الأحادية اللاقحة)، الذين يشتركون في ١٠٠ في المائة من الجينات الموروثة، والتوائم غير المتطابقة (الثنائية اللاقحة)، الذين يشتركون في ٥٠ في المائة في المتوسط. نظرًا إلى أن نوعي التوائم يشتركان في البيئة (حتى سن المراهقة على الأقل)، يُفترض عادة أنه إذا كانت التوائم أحادية اللاقحة أكثر تماثلًا من التوائم الثنائية اللاقحة، فلا بد أن هذا يعكس — بشكلٍ أساسي — التماثل الجيني الأكبر للتوائم الأحادية اللاقحة. يتضح أن احتمالية أن يصاب التوءمان بعسر القراءة (معدل التوافق) أعلى في حالة التوائم أحادية اللاقحة (نحو ٩٠ في المائة) مما هو عليه في حالة التوائم ثنائية اللاقحة (نحو ٤٠ في المائة).

لكن حدود عسر القراءة غير واضحة تمامًا كما رأينا. وإنما يُعتبر اضطرابًا طيفيًّا (أي يتفاوت في الدرجة من الخفيف إلى الشديد)، وهو يقع ببساطة عند الطرف الذي تكون مهارات القراءة عنده في أدنى مستويات لها. ومن أوجه القصور في دراسات التوافق الجيني أنها تتعامل مع عسر القراءة باعتباره اضطرابًا «موجودًا أو غير موجود»، إما أن يكون لديك وإما لا. على العكس من ذلك، ثمة تقنيات أخرى في علم الوراثة السلوكي تراعي التباين المستمر في القراءة (أو أي سمة) لتقييم قابلية انتقال هذه السمة بالوراثة. باستخدام النمذجة الإحصائية، يقدم هذا المنهج تقديرات لمقدار التباين في درجات القراءة بين الأفراد على مقياس القراءة الذي يرجع إلى الجينات المشتركة ومقدار التباين الذي يرجع إلى البيئة المشتركة. يعرض الشكل رقم ٤-١ السمات الأساسية لهذا المنهج. يفترض المنهج أنه إذا حصل أحد التوءمين (ثنائيي اللاقحة) على علامات ضعيفة في اختبار القراءة (يُطلق على الفرد المصاب بعسر القراءة اسم المستلفت)، فمن المرجح أن تصبح درجات توءمه أقرب إلى النطاق المتوسط، في حين أن هذا الانحراف، المعروف باسم «الانحدار نحو المتوسط» يكون أقل بكثير (مهمل) في حالة التوائم أحادية اللاقحة. بعبارة أخرى، يُعد مقدار «الانحراف» مؤشرًا على التأثير الجيني في هذه السمة.
إذا كانت دراسات التوائم على نطاق واسع بما يكفي، فيمكن استخدامها حينذاك لاستخلاص التقديرات الخاصة بمصادر التباين الثلاثة بين الأفراد: مقدار التباين في القراءة الذي يرجع إلى الجينات المشتركة، ومقدار التباين في القراءة الذي يرجع إلى البيئة المشتركة، ومقدار التباين الذي يرجع إلى ما يُعرف باسم البيئة غير المشتركة (ويتضمن الخطأ الذي يرتبط بقياس السمة). إنَّ عامل «قابلية الانتقال بالوراثة (Heritability)» هو تقدير مقدار التباين في سمة نتيجة للتباين الجيني، وكلما كانت قابلية انتقال السمة بالوراثة أكبر، أصبحت المساهمة الجينية في هذه السمة أكبر. تتراوح التقديرات المتعلقة بقابلية الانتقال بالوراثة من صفر (عدم وجود تأثير جيني) إلى ١٫٠ (يُعزى التباين كليًّا إلى الجينات)، ونجد أنَّ تقديرات قابلية انتقال سمة الطلاقة في القراءة بالوراثة مرتفعة، فهي تقترب من القيمة ٠٫٧؛ مما يعني أن ٧٠ في المائة من التباين في القراءة بين الأشخاص يُعزى إلى عوامل وراثية.
fig14
شكل ٤-١: درجات القراءة التي أحرزها المستلفتون الذين ظهرت عليهم أعراض عسر القراءة (في المخطط الموجود في الأسفل) وتوائمهم المتطابقة (في المخطط الموجود في الوسط) وتوائمهم غير المتطابقة (في المخطط الموجود في الأعلى). تقترب درجة القراءة لأحد التوءمين غير المتطابقين من الدرجة المتوسطة التي يحرزها عموم الناس أكثر من اقتراب درجة أحد التوءمين المتطابقين من المتوسط، وهو ما يُعرف باسم «الانحدار نحو المتوسط».

إنَّ معظم الأبحاث الرائدة التي تدرس الأسباب الجينية والبيئية لصعوبات القراءة وصعوبات التعلم الأخرى من جامعة كولورادو، حيث تمول معاهد الصحة الوطنية الأمريكية دراسة التوائم منذ عام ١٩٩٢، ومؤخرًا دراسة التوائم الطولية الدولية، وهي دراسة مقارنة للأطفال الذين يتعلمون القراءة في كولورادو وأستراليا والدول الاسكندنافية. وقد أكدت نتائج هذه الدراسات الأساس الوراثي للاختلافات الفردية في القراءة ابتداءً من سنوات التعليم المبكرة فصاعدًا. على الرغم من ذلك، أظهرت البيانات المقارنة أن البيئة لها تأثير أكبر قبل أن يبدأ تعليم القراءة الرسمي، فهي تعكس — دون أدنى شك — التباينات في بيئة تعلم القراءة والكتابة بالمنزل، وموقف الوالدين من القراءة. توجد أيضًا أدلة أولية على أن عمليات التعلم التي تنطوي عليها القراءة، ومن بينها ما ينطوي عليه تعلم الحروف، لها أساس وراثي مختلف إلى حدٍّ ما عن المهارات اللغوية التي تمثل أساس القراءة، ولا سيما الفهم القرائي.

بالتركيز على الطرف الذي تكون عنده مهارات القراءة في أدنى مستوًى لها (عسر القراءة)، قدمت هذه الدراسات دليلًا — لا جدال فيه — على أن انتماء الفرد إلى مجموعة من المصابين بعسر القراءة يرجع — بشكلٍ كبير — إلى الجينات المشتركة. كما أنها استُخدِمت لتقييم الدرجة التي تساهم بها الجينات في الارتباط بين سمتين. فثمة سمتان لهما أهمية خاصة، وهما القراءة وإحدى ركائزها الأساسية: الوعي الصوتي. الفكرة الأساسية هنا هي وجود ارتباط جيني قوي بين الوعي الصوتي والقراءة، أي فك الترميز، وهو ما يشير إلى وجود تأثيرات جينية مشتركة، ومن ثَم وجود أسباب مشتركة تؤثر في الآليات الأساسية لكل منهما.

قدمت الدراسات الوراثية السلوكية أيضًا إسهامًا مهمًّا في فهمنا لاستقرار مهارات القراءة بمرور الوقت. تتبعت دراسة النمو المبكر للتوائم في المملكة المتحدة (TEDS) الضخمة مجموعةً من التوائم من عمر الثانية إلى مرحلة الرشد، وقاست مجموعة واسعة من السمات تتضمن اللغة والقراءة والسلوك. هذه الدراسة ضرورية لأنها تستطيع الإجابة عن السؤال عما إذا كانت التأثيرات المتماثلة (سواءً وراثية أو بيئية) تؤثر في فترات مختلفة من العمر. قيست طلاقة القراءة لأول مرة في عمر السابعة، ثم في عمر الثانية عشرة والسادسة عشرة. وكانت النتائج واضحة: ثمة عوامل وراثية تؤثر في القراءة في السابعة والثانية عشرة والسادسة عشرة، مع ظهور المزيد من التأثيرات الوراثية الجديدة في مراحل زمنية لاحقة. في المقابل، كانت تأثيرات البيئة المشتركة ضئيلة، ولم تكن بارزة إلا في عمر السابعة.

في دراسة النمو المبكر للتوائم، قيست اللغة الشفهية في نفس الأعمار التي قيست فيها القراءة. وعليه، كان من الممكن تقدير الارتباط بين اللغة والقراءة. كان الارتباط معتدلًا، وهو ما يشير إلى أن ٢٥ في المائة من العوامل الوراثية المؤثرة نفسها تؤثر في اللغة مثلما تؤثر في طلاقة القراءة (أقل مقارنة بالتأثير في الوعي الصوتي). ومن المثير للاهتمام أن الارتباط الوراثي بين اللغة والفهم القرائي كان أعلى بكثيرٍ (أكثر من ٠٫٨)؛ وهذا يشير إلى أن هاتين السمتين أقرب من حيث الجينات التي تؤثر فيهما.

بشكلٍ عامٍّ، تتوافق نتائج مشروع دراسة النمو المبكر للتوائم مع تلك التي توصلت إليها مجموعة كولورادو، كما أنها تشير، ربما على غير المتوقع، نظرًا إلى أن القراءة سلوك مكتسب، إلى أن تأثيرات البيئة في القراءة صغيرة نسبيًّا. ومع ذلك، علينا أن نتذكر أن النتائج تقتصر على العينات التي خضعت للدراسة ومجموعة البيئات التي تعرضوا لها، كما أنها تمثل بعض التأثيرات الجينية، وليس جميعها. يمكن توقع أن تكون التأثيرات البيئية أقوى، في ظل نظام تعليمي يتسم بتباين كبير بين المدارس في جودة التعليم، وفي المناهج الدراسية المقدمة. علاوة على ذلك، لم تتحدث النتائج عن الأسباب الوراثية والبيئية التي أدت إلى ضعف القراءة على مستوى الأفراد، بل ارتبطت بأنماط جماعية. ورغم هذا كله، حتى إذا قبلنا أن هناك عوامل وراثية قوية تؤثر في قدرات القراءة لدينا، فإن هذا لا يعني أن التدخلات التي تستهدف القراء المتعثرين لا يمكن أن تكون فعالة.

إيجاد «الجينات المسئولة عن عسر القراءة»

إنَّ تقدير مقدار ما يُعزى إلى التأثيرات الوراثية من تباين في القراءة بين الأفراد قادنا — بطريقة ما — نحو فهم قابلية الانتقال بالوراثة، لكنه لم يساعدنا على تحديد الجينات التي ترتبط بعسر القراءة. من المهم أن نفهم منذ البداية أنه لا يوجد جين واحد يرتبط بعسر القراءة، بل، الأرجح أن تكون التأثيرات الجينية المؤدية إلى عسر القراءة ناتجة عن عدة جينات لها تأثيرات صغيرة تعمل معًا. شهد العقدان السابقان اهتمامًا كبيرًا بعلم الوراثة الجزيئي لعسر القراءة. على الرغم من أن التقدم كان سريعًا، وجرى تحديد الجينات المرشحة، نتوقع أن يتضمن الأمر آلاف الجينات، لذا لا تزال هناك فجوات كبيرة في المعرفة. فكثيرًا ما يقال إننا «بعيدون جدًّا عن تفسير جوانب قابلية الانتقال بالوراثة التي لا تزال مجهولة.»

قبل المتابعة، دعونا نعود خطوة إلى الوراء، ونسترجع ما نعرفه بشأن كيفية تأثير الجينات في النمو والتطور. في كل خلية من خلايا جسم الإنسان، يوجد ثلاثة وعشرون زوجًا من الكروموسومات (اثنان وعشرون زوجًا من الكروموسومات الجسمية، وزوجًا من الكروموسومات الجنسية). تحتوي الكروموسومات على المادة الوراثية، أو الجينات، من الأبوين، ولكل شخص نسختان (أليلان) من الجين نفسه؛ واحد من الأم، والثاني من الأب. تتكوَّن الجينات من تتابعات من الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)، هذه التتابعات الموجودة في الجينات هي التي تحمل ما يمكن اعتباره «تعليمات» لتطور الكائن الحي (انظر الشكل رقم ٤-٢). ومن هنا، تنشأ الاختلافات الوراثية بين الأفراد.

تكوِّن جينات الفرد نمطَه الجيني، في حين تشكِّل الصفات الجسدية أو العقلية (ويشمل ذلك القراءة) النمط الظاهري. اهتم علماء الوراثة الجزيئية بكيفية ارتباط الفروق الفردية في القراءة (و«النمط الظاهري لعُسر القراءة» على وجه الخصوص) بالاختلافات في النمط الجيني بين الأشخاص المصابين بعُسر القراءة وبين أقاربهم غير المصابين. ونظرًا إلى أن الجينوم يتضمن ما بين ٢٠ ألف جين و٢٥ ألفًا موزعة على ثلاثة مليارات من أزواج قواعد الحمض النووي، فليست هذه بالمهمة الهيِّنة. علينا ألَّا ننسى أن الجينات تقوم بوظيفتها في سياق البيئة المحيطة، والبيئات المحيطة بالأفراد ليست واحدة، كما أن الجينات تتفاعل مع الجينات الأخرى أيضًا.

fig15
شكل ٤-٢: التركيب الجيني للفرد موجود داخل الكروموسومات. يوضح هذا الشكل احتواء الكروموسومات على تتابعات من الجينات. من الجينات المرشحة المرتبطة بخطر الإصابة بعسر القراءة الجين ROBO1 والجين KIAA0139، وكلاهما على الكروموسوم ٦.

كانت المناهج الأولى التي تسعى لفهم الأساس الوراثي لعسر القراءة تتمثل في دراسات الارتباط الجيني. فمن خلال مقارنة الحمض النووي المقدَّم من أفراد مصابين بعسر القراءة، بالحمض النووي المأخوذ من الأفراد غير المصابين بعسر القراءة، والذين تربطهم صلة بيولوجية وثيقة بالأفراد المصابين، يمكن تحديد المناطق الموجودة على الكروموسومات؛ حيث يزداد التشابه بين الأفراد المصابين، ومن ثَم تحديد الاختلافات الوراثية المحتملة التي تؤدي إلى اختلافات في مهارات القراءة (القارئ الجيد مقابل القارئ الضعيف). وقد أدَّى هذا المنهج إلى تحديد مقاطع من الكروموسومات الخاصة بعسر القراءة على الكروموسومات ١ و٢ و٣ و٦ و١٥ و١٨. تتيح متابعة هذه الدراسات، باستخدام تقنيات أخرى، تحديدَ الأشكال المختلفة للجينات المحددة و«الجينات المرشحة» في هذه المناطق، والتي يتضح أنها تلعب دورًا في ظهور عسر القراءة. غير أن الارتباط بين الجين المرشح والجوانب المتعلقة بخواص عسر القراءة ضعيف نسبيًّا في معظم الحالات. علاوة على ذلك، لم يمكن تكرار النتائج دائمًا، ويبدو من المحتمل أن بعض الارتباطات قد تقتصر على مجموعات فرعية من الأفراد.

نتيجةً لدراسات الارتباط الجيني، تحوَّل الانتباه إلى دراسات واسعة النطاق تُسمى دراسات الارتباط على مستوى الجينوم (GWAS). تبحث هذه الدراسات عن علاقات الارتباط بين ملايين تنويعات تسلسلات الحمض النووي لدى الأفراد وبين المقاييس السلوكية، ولأنها دراسات استكشافية، يلزم وجود عينات كبيرة لتجنُّب العثور على ارتباطات ناجمة عن الصدفة. وفي محاولة لفهم الأسباب الجينية لعسر القراءة، حققت العديد من دراسات الارتباط، على مستوى الجينوم، في كيفية ارتباط التباينات في القراءة والسلوكيات المتعلقة بالقراءة (الأنماط الظاهرية) باختلافات جينومات الأفراد (الأنماط الجينية). يستخدم التحليل الجيني تقنية تُسمى التنميط الجيني عالي الكثافة المستند إلى المصفوفة لفحص تعدد أشكال النيوكليوتيدة المفردة (SNPs، وتُنطق سنيبس) الذي يضم تباينات جينية شائعة في جينات الأفراد. يمكن للمتابعة مع عينات محددة (حتى ولو حالات فردية) اختبار الفرضيات المتعلقة بارتباط بعض الجينات المحددة بتطور المرض. في الوقت الحاضر، على الرغم من أن اكتشاف بعض أوجه الارتباط بين بعض الجينات المرشحة وعسر القراءة، كانت النتائج المتكررة قليلة، ولا يزال الشك محيطًا بالنتائج. باختصارٍ، نحن نعلم أن عسر القراءة حالة قابلة للانتقال بالوراثة، لكن لا يزال أمامنا طريقٌ طويل لنقطعه قبل فهم أساسه الوراثي. ستستفيد الدراسات المستقبلية من التقنيات المحسَّنة للتحليل الجيني، لكن نمط الوراثة لا يكون مباشرًا كما يتضح من الحالات الثلاث لدينا، ويوجد الكثير من التباينات بين الأفراد المصابين بعسر القراءة.

ما دور البيئة في نشأة عسر القراءة؟

إذا كان عسر القراءة يرتبط بقوة بالتأثيرات الوراثية، فما أهمية البيئة؟ إنَّ الاعتقاد بأن جيناتنا تحدد مصائرنا من أكبر المغالطات في الفهم الشائع لعلم الوراثة. فالجينات تؤدي دورها في سياق بيئة محددة، وللبيئة تأثيرٌ عميق في تطورنا. يمكن للاعبي كمال الأجسام تغيير شكلهم من خلال التمارين؛ ويمكن لسوء التغذية أن يؤثر في الصحة والإدراك، وكما أوضحت الدراسات التي تناولت أُميين، يمكن تشكيل الدماغ من خلال تعلُّم القراءة والكتابة. ثمة دليلٌ واضح يأتي من اضطراب بيلة الفينيل كيتون (PKU) الوراثي. إذا لم يُعالج مرض بيلة الفينيل كيتون، فسيؤدي إلى تراكم مادة تُسمى الفينيل ألانين في مجرى الدم؛ مما يؤثر بدوره في استقلاب البروتينات، ومن ثَم يتسبب في تلف الدماغ. من حسن الحظ أنه يوجد اختبار لفحص دم الأطفال للكشف عن مرض بيلة الفينيل كيتون (اختبار وخز الكعب) يسمح باكتشاف المرض مبكرًا. في وقت من الأوقات، كان الأطفال المصابون بالمرض يواجهون صعوبات في التعلم عندما يكبرون، أما الآن فيمكن للأطفال النمو بصورة طبيعية إذا ما حصلوا على نظام غذائي منخفض البروتين.

لا يُعد عسر القراءة، بأي حالٍ من الأحوال، حالة خطيرة مثل بيلة الفينيل كيتون، كما أنه لا يوجد أي دليل على أنه يمكن تحسينه عن طريق النظام الغذائي أو الدواء، لكن البيئة التي يختبرها الأطفال المعرضون لخطر عسر القراءة قد يكون لها تأثير كبير في تطور معرفة القراءة والكتابة والتحصيل التعليمي. ومن المحتمل ألَّا يقتصر تأثير الآلية المتبعة لاحقًا للتخفيف من آثار عسر القراءة في التحصيل فقط، بل في تقدير الذات من الناحية الأكاديمية والرفاه. ولهذا سننتقل الآن إلى دراسة بعض العوامل التي يمكنها التخفيف من تأثير عسر القراءة.

«البيئة يا غبي!»

كان مَن صاغ عبارة «البيئة يا غبي» [تنويعة من شعار حملة بيل كلينتون الشهير «الاقتصاد يا غبي!»] محرر إحدى الدوريات الكبرى، وزعم أن الحلقة المفقودة في فهمنا للأساس الوراثي للعديد من المشكلات النفسية هي البيئة. فما دور البيئة في تطور عسر القراءة؟ من المعروف جيدًا أن البيئة تؤثر في نمو الطفل تأثيرًا قويًّا، ولا سيما في مهارة كتعلم القراءة. فنحن نلاحظ أنَّ الأطفال الذين نشَئُوا في عائلات تتسم بثراء مهارات القراءة والكتابة لديهم، يتطورون في تعلم القراءة بسرعة أكبر، ويمكن أن يكون للتعليم المدرسي آثار كبيرة في التحصيل العلمي. بشكلٍ أعم، تحدد البيئة الثقافية التي نولد فيها القيمة التي يعطيها المجتمع لمهارات القراءة والكتابة. فكيف يمكننا فهم كل هذه التأثيرات؟

أشار أولريش برونفنبرنر في بحثه الكلاسيكي عن تأثير الجوانب البيئية في التطور إلى أن الطفل يقع في مركز مجموعة متداخلة من التأثيرات البيئية، على نحوٍ شبيه بالدمية الروسية. استخدم المصطلحات التالية: النظام المصغر microsystem والنظام المتوسط mesosystem والنظام الخارجي exosystem والنظام المكبَّر macrosystem، للإشارة إلى هذه التأثيرات التي اقترح أنها مرتَّبة ترتيبًا هرميًّا. كما أشار إلى أن هناك تفاعلات متبادلة بينها. كان يرى أن الشخص في مرحلة التطور، هو أيضًا له دور فعال في تطوره.
fig16
شكل ٤-٣: رسم توضيحي يصوِّر التأثيرات في تعلم القراءة والكتابة وفقًا لإطار برونفنبرنر.
بتطبيق إطار العمل هذا على عسر القراءة، يمكننا اعتبار البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة هي «النظام المصغر»، الذي يؤدي فيه تفاعل الطفل مع والديه وإخوته إما إلى تعزيز تطور المهارات اللغوية، وإفساح الطريق أمام القراءة، وإما إلى تقييدها. بعد ذلك يمكننا التفكير في المدرسة، ومنهج القراءة الذي تتضمنه باعتبارها النظام المتوسط، وتعكس العلاقة بين المنزل والمدرسة التأثيرات المتبادلة بين النظام المصغر والنظام المتوسط. أما النظام الخارجي، فيشير إلى تأثير المجتمع أو الحي الذي يولد فيه الطفل. عادة ما يعكس النظام الخارجي الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وقد يساهم في التدرج الاجتماعي المعروف في التحصيل القرائي. وبخصوص التفاعلات، تقل الموارد في الأحياء ذات الدخل المنخفض، وهو ما يؤثر، بطريقة غير مباشرة، في جودة المدارس، وفي المعرفة والخبرات الثقافية التي تساعد الطفل على القراءة. وأخيرًا، يعكس النظام المكبر معتقدات المجتمع وقِيَمه الأوسع، ويفرض السياسات التعليمية. وتُعد لغة التعلم أيضًا جزءًا من النظام المكبر. يستخدم الشكل رقم ٤-٣ هذا الإطار لعرض بعض العوامل البيئية التي تؤثر في القارئ وهو في طور التطور.

معظم الأبحاث المرتبطة بتأثير البيئة في عسر القراءة تركز على الأنظمة المصغرة والمتوسطة. على الرغم من ذلك، يتعيَّن علينا أن ننتبه إلى السياق الثقافي الأوسع المتمثل في النظام المكبر. وقد تناولنا بالفعل تأثير الاختلافات بين أنظمة الكتابة في مدى سهولة تعلم الأطفال القراءة.

من المحتمل أن تزداد الصعوبات التي يواجهها الطفل عند تعلم القراءة إذا نشأ في بيئة متعددة اللغات، أو إذا كانت لغة بيئة التعلم التي يدرس فيها مختلفة عن لغته الأم. وبالمثل، ستكون هناك تحديات إضافية عندما يكون هناك ازدواج لغوي، وهي الحالة التي يوجد فيها شكلان مختلفان من اللغة نفسها داخل مجتمع واحد، لكن شكلًا واحدًا فقط هو المستخدَم في المدرسة. في مجتمع يعطي قيمة للقراءة والكتابة، ستكون فرص العمل المتاحة أمام الآباء الذين تكون مستويات القراءة والكتابة لديهم متدنية، ومن ثَم تكون موارد الأسرة أقل. وبالتبعية، فإن اختيار الحي سيكون حتمًا مقيدًا بدخل الأسرة، وهو غالبًا ما سيحدد جودة المدارس التي يرتادها الأطفال. من المؤسف أن دائرة الحرمان قد تؤدي إلى الحيلولة دون أنواع التدخلات التي تدعم الاحتياجات الإضافية للطفل المصاب بعُسر القراءة بشكلٍ أفضل.

البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة

البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة (HLE) هو مصطلح يُستخدم لوصف جوانب خلفية الطفل المعرفية وأنشطته واهتماماته التي تعزز تطور المعرفة بالقراءة والكتابة في المنزل بالمفهوم الأوسع. تشمل مقاييس البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة الخواص الديموجرافية للأسرة، ويتضمن ذلك المستوى التعليمي والوظيفي للوالدين، والأنشطة الأدبية في المنزل، ومنها عادات القراءة لدى الوالدين، وتعليم الحروف والقراءة والكتابة، والمزيد من التأثيرات غير المباشرة، مثل وجود الكتب في المنزل. لكلٍّ من هذه المقاييس دور مهم في تقدير مهارات القراءة لدى الطفل. يتضح، رغم ذلك، أن العناصر المباشرة والتفاعلية، كمقدار الوقت الذي يقضيه الأهل في القراءة مع الطفل، لها التأثير الأقوى.

في دراسة كندية كلاسيكية، تتبَّع الباحثون الأطفال من مرحلة الروضة (من خمس سنوات إلى ست) حتى الصف الثالث (من ثماني سنوات إلى تسع) لفحص تأثير البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في تطوير القراءة المبكرة. قاست الدراسة جانبين من البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة خلال فترة الروضة: الأنشطة غير الرسمية المتمثلة في التعرض لقصص الأطفال، وذلك من خلال قياس معرفة الوالدين بعناوين كتب الأطفال ومؤلفيها، والأنشطة الرسمية التي تتضمن تعليم مهارات القراءة مباشرة.

تنبَّأت هاتان الممارستان (الرسمية وغير الرسمية) بالمهارات المختلفة لدى الأطفال (انظر الشكل رقم ٤-٤). ارتبط التعرض لقصص الأطفال، من خلال التحدث مع الطفل عن الكتب، بالاختلافات في فهم الأطفال للغة. في المقابل، ارتبطت التعليمات المباشرة بشأن الكتابة والأحرف بفك ترميز اللغة المكتوبة الناشئ أو المبكر والتهجئة المبتكرة. تجدر الإشارة إلى أنه لم يتنبأ أيٌّ من الجانبين المتعلقين بالبيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة بمستوى الوعي الصوتي للطفل بشكلٍ مباشر، لكن التعلم المبكر للقراءة والكتابة واللغة، ارتبط بهذه المرحلة التمهيدية المهمة للقراءة.
fig17
شكل ٤-٤: نموذج سينيكال وليفيفير الذي يوضح تأثيرات بيئة تعلم القراءة والكتابة المنزلية.
واتساقًا مع نتائج العديد من الدراسات السابقة، ظلت الفروق الفردية في المعرفة المبكرة بالقراءة والكتابة والوعي الصوتي في رياض الأطفال من المؤشرات التي تتنبأ بمستوى القراءة في الصف الأول، وبالمثل تنبأت الفروق الفردية في القراءة في هذه المرحلة بمستوى القراءة في الصف الثالث. ورغم ذلك، كانت هناك مؤشرات إضافية تتنبأ بمستوى أداء الأطفال في القراءة، وهي فهم اللغة في الصف الأول، وعدد المرات التي يُلاحظ فيها الأطفال وهم يقرءُون لأنفسهم. سلطت هذه النتائج الضوء على اثنين من العوامل البيئية المختلفة المؤثرة في مهارات القراءة في المدرسة الابتدائية: البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة التي يوفرها الآباء، واختيار الطفل نفسه للأنشطة الأدبية، والتي تسمى أحيانًا التعرض للنصوص المكتوبة. يشير التعرض للنصوص المكتوبة إلى عدد مرات القراءة خارج المنهج، وعادة ما يُشار إليه «بالقراءة من أجل المتعة» (انظر الشكل رقم ٤-٥)، وعادة ما يقوم الأطفال المصابون بعسر القراءة بذلك بصورة أقل.
fig18
شكل ٤-٥: لوحة «في المكتبة» لإدوارد فويار: أهي بيئة تعلم منزلية ممتازة؟

كان الأطفال الذين جرت متابعتهم في هذه الدراسة ينتمون إلى عائلات من الطبقة المتوسطة، ومن المنطقي أن نتوقع أن أغلب هذه العائلات تتمتع بدرجة عالية من التعليم. ومن المنطقي أيضًا أن نتوقع أن البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في عائلة يكون فيها أحد الوالدين مصابًا بعسر القراءة تختلف عن تلك التي يكون أفرادها من القراء النهمين. إذا كانت القراءة تتطلب مجهودًا شاقًّا، فإن احتمالية أن تستمتع بكتابٍ أو تقرأ جريدة أو تذهب إلى المكتبة أقل بكثيرٍ مقارنة بممارسة الأنشطة التي لا تتطلب القراءة، مثل أنواع الرياضة التي تتطلب مجهودًا بدنيًّا شاقًّا أو متابعة الأخبار على التلفزيون.

محدودة هي الدراسات التي تُجرى حول البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في حالات عسر القراءة، غير أنه، بعد تحييد الباحثين لتأثير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، أفادت الدراسات بأن البيئة المنزلية للأسر المصابة بعسر القراءة لا تختلف كثيرًا عن البيئة المنزلية للأسر العادية، وذلك على الرغم من أن الأنماط عكست اهتمامًا أقل بالقراءة من جانب الأسر المصابة بعُسر القراءة. فثمة دراسات تشير إلى أن الوالدين في الأسر التي «تتضمن مصابين بعسر القراءة» يقضون من الوقت في تعليم أطفالهم، لا سيما الأحرف، أطول مما يقضيه الوالدان في الأسر التي تمثِّل المجموعات الضابطة، وهو ما قد يبدو مخالفًا للتوقعات المستندة إلى افتراض أن هؤلاء الآباء لن يختاروا الأنشطة المرتبطة بالقراءة. توجد بعض الأدلة أيضًا على أن قراءة قصص الأطفال تُعد نشاطًا وقائيًّا للأطفال «المعرضين للإصابة بعسر القراءة». وفي مشروع ويلكوم للغة والقراءة أوضحنا أن قراءة قصص الأطفال يمكن أن تعزز الوعي الصوتي والقراءة. كما أوضحنا أيضًا أن البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة تمثِّل حلقة الوسط التي تربط بين تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية واستعداد الطفل للتعلم في المدرسة. ومن النتائج الأكثر أهمية أن مهارات القراءة والكتابة واللغة التي يمتلكها أحد الوالدين، ويحملها معه إلى بيئته المنزلية (مما يعني أنَّ جينات أحد الوالدين تؤثر في البيئة) لها تأثير قوي في قراءة الطفل ولغته.

إضافة إلى تقييم الأطفال، قاست الدراسة مهارات اللغة والقراءة والكتابة لكلٍّ من الوالدين. في نموذج يتضمن العلاقات بين مهارات الأم والبيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة ومهارات اللغة والقراءة لدى الأطفال، وجدنا أولًا: أن لغة الأم يمكن أن تتنبَّأ بما ستكون عليه لغة الطفل، وثانيًا: أن المهارات الصوتية للأم تُعد مؤشرًا للتنبؤ بقدرات الأطفال على قراءة الكلمات والتهجئة. وقد أوضحنا أيضًا أن مهارات الأم تعطينا معلوماتٍ عن الجوانب غير الرسمية التي تتضمنها بيئة تعلم القراءة والكتابة المنزلية، لا الجوانب الرسمية، أي إنها تخبرنا عن مقدار تعرض الطفل لقصص الأطفال، لكنها لا تخبرنا عن مقدار النزعة لتعليم القراءة والكتابة بطريقة أكثر منهجية. الأهم من ذلك أنه بعد مراعاة الاختلافات في كيفية استخدام الأمهات للغة، لم يعُد التعرض لقصص الأطفال مؤشرًا بارزًا للتنبؤ بمهارات الطفل في اللغة والقراءة، بينما ظل تعليم القراءة والكتابة مباشرة مؤشرًا للتنبؤ بمهارات الأطفال في القراءة والتهجئة. يبدو إذن أن العلاقة بين الأنشطة المبكرة غير المنهجية المتعلقة بتعلم القراءة والكتابة في المنزل، ومهارات اللغة والقراءة لدى الطفل، تُعزى إلى مهارات الأم، التي لا يزال من الممكن أن تكون ناتجة عن عوامل وراثية انتقلت من الأم إلى الطفل عبر الجينات، وليس تأثيرات بيئية.

إنَّ الأبحاث بشأن البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في الأسر التي تعاني من عسر القراءة لم تزل في مراحلها الأولى، ويلزم إجراء العديد من الأبحاث لتكرار النتائج التي توصلت إليها الدراسات السابقة. يتعين على الأبحاث المستقبلية أيضًا أن تتخطى تقييم «كم» الأنشطة المنزلية المرتبطة بتعلم القراءة والكتابة، وتتضمن أدوات لقياس «جودة» أنشطة تعلم القراءة والكتابة في المنزل. ثمة حاجة إلى أبحاث تقيِّم ما إذا كان تغيير ممارسات الآباء المصابين بعسر القراءة سيمكِّن أطفالهم من تفادي صعوبات القراءة، أم لا.

تأثيرات المدرسة

المدارس مؤسسات معقدة؛ لذا من الصعب قياس تأثيرها في مهارات القراءة الفردية للأطفال. تهدف الأبحاث المتعلقة بكفاءة المدرسة إلى تناول تأثير المدارس في مجموعة من النتائج التعليمية، لكن هناك العديد من المشكلات التي يجب حلها. منها على سبيل المثال، كيف يمكننا قياس «جودة» المدرسة، أو تنظيم الفصول أو اتجاهات المعلم؟ وكيف يمكننا مراعاة تأثيرات السياق السياسي الاجتماعي أو تأثيرات المدارس المجاورة في إنجازات المدرسة؟ على الرغم من هذه المشكلات، يمكن للمدارس أن تشكِّل فارقًا في نتائج الطلاب، حتى مع وضع سمات الطالب عند دخوله المدرسة أول مرة في الاعتبار. غير أنَّ هذه التأثيرات ترتبط بالتحصيل الكلي، ونحن لا نعرف بعد مدى نجاح المصابين بعسر القراءة في تحقيق النجاح في البيئات المدرسية المختلفة. تشير الأدلة المتناقلة إلى أن توفير موارد متخصصة، ويشمل ذلك مدارس متخصصة في عسر القراءة، من شأنه أن يغيِّر نتائج الأطفال الذين يعانون من درجة متقدمة من عسر القراءة، لكننا لا نمتلك بيانات جيدة تؤكد هذا الزعم، وقد تتعلق بعض هذه التأثيرات برفاهة الطفل وتقديره لذاته لا الإنجازات التعليمية.

علينا أن نحاول معرفة المزيد عن الأدوار التي يمكن أن تلعبها المدارس في تحسين حالة الأطفال المصابين بعُسر القراءة. ثمة خطوات صغيرة تتخذها المنظمات الوطنية التي تحث على التنوع في التدريس والتعليم. في إحدى المدارس «المجهزة لتلائم المصابين بعسر القراءة» يكون الجميع، بدءًا من مدير المدرسة ووصولًا إلى الحارس، على دراية بالمشكلات المحيطة بعسر القراءة. وتضمن هذه المدارس جودة التعليم المقدَّم إلى الشخص المصاب بعسر القراءة، كما تكون هناك علاقة وثيقة بين المعلمين وأولياء الأمور لدعم احتياجات الطالب المصاب بعسر القراءة. لا شك — بالطبع — في أهمية أن تسعى المدرسة لتحقيق هذه المعايير، لكن من الصعب تقديم دليل ملموس على مدى تأثر كل طفل يعاني من عسر القراءة بهذه الجهود.

تأثيرات التدريس والتعلم

على المستوى المصغر، ثمة مجموعة كبيرة من الأدلة التي توضح أن برامج التدخل المنظمة لتحسين مهارات القراءة يمكنها تحسين مهارات القراءة لدى الطفل. سنناقش الاستراتيجيات الفعالة لعسر القراءة في الفصل السادس، أما في الوقت الحالي، فنحن نشير فقط إلى أن هذه التدخلات من العوامل المهمة التي تؤثر في البيئة التعليمية للطفل. ونؤكد أيضًا أهمية التفكير في تأثيرات التدريس والتعليم في عسر القراءة على نطاقٍ أوسع. تستهدف برامج التدخل مهارات محددة، ويكون التركيز على تطوير مهارات القراءة والتهجئة بالنسبة إلى معظم الأطفال المصابين بعسر القراءة. ومع ذلك، من المهم أيضًا التأكد من تعديل البيئة، بحيث تلائم كلًّا من تبعات عسر القراءة، والصعوبات المستمرة التي تؤثر في الأداء في المدرسة، وفي بيئة العمل لاحقًا. فالعديد من الأطفال المصابين بعُسر القراءة يعانون أيضًا من مشكلاتٍ في تعلم الحساب؛ ميشا وأختاها — مثلًا — كن يجدن صعوبات في الرياضيات؛ كما أن طبيعتها الخجولة تؤدي إلى تأخرها بدرجة أكبر في مجال الحساب؛ إذ القلق بشأن الرياضيات تحديدًا ظاهرة معروفة. يواجه بوبي أيضًا صعوبات في تعلم جداول الضرب، لكن يبدو أنه يستوعب المفاهيم المرتبطة بالأعداد جيدًا. من المهم تقديم الدعم للتأكد من أن الصعوبات التي يواجهها عند التعامل مع العمليات الحسابية الأساسية لا تعيقه عن المضي قُدُمًا في التعلم، لا سيما وأنه يُظهر بالفعل اهتمامًا بمجالات العلوم والهندسة التي ستتطلب منه أن يكون بارعًا في الرياضيات. مرَّت سنوات طويلة منذ أن كان هاري طالبًا متفرغًا. وعلى الرغم من أنه تلقى الكثير من الدعم من والديه ومعلمه الخاص، كانت المدارس التي التحق بها أقل تفهُّمًا، ولم تقدم له دعمًا للتغلب على الصعوبات التي يواجهها. يمكننا القول إن إصابته بعسر القراءة زعزعت ثقته في نفسه ومهاراته الأكاديمية، وهو ما جعله يرفض مواصلة الدراسة رغم أنه كان يستطيع ذلك. أصبح بوبي بالفعل محبطًا من التعليم، وقد أسفر إحباطه عن مشكلات سلوكية واضحة. ما من سببٍ على الإطلاق يجعل لعسر القراءة هذا التأثير الأوسع في السلوك والتكيف العاطفي؛ فمع ظهور التكنولوجيا، يجب أن تكون المدارس قادرة على توفير سياقات مناسبة للتعلم لجميع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.

الجينات تختار بيئاتها

تُعَد دراسة الجوانب الوراثية لعسر القراءة أكثر تقدمًا من دراسة البيئات التي تؤثر في عسر القراءة. على الرغم من ذلك، فإن هذين التفسيرين المحتملين للاختلافات الفردية في القراءة ليسا منفصلين بالكامل. فلمراعاة ما يُعرف باسم الارتباط بين الجينات والبيئة أهمية خاصة لفهم عسر القراءة. يشير الارتباط بين الجينات والبيئة (rGE) إلى ظهور تأثير الجينات من خلال التفاعل مع البيئة. في حالة عسر القراءة، لا يقتصر الأمر على مشاركة كلٍّ من الوالدين في المتوسط بنحو ٥٠ في المائة من جيناتهم مع أطفالهم، لكنهم أيضًا يضطلعون بمهمة تربية الطفل في بيئة مرتبطة بنمطهم الوراثي (التي قد تكون بيئة سيئة لتعلم القراءة والكتابة). وهذا مثال على العلاقة السلبية بين الجينات والبيئة. أما النوع الثاني من الارتباط بين البيئة والجينات فهو الارتباط المحفِّز، بمعنى أن السمات الموروثة تستحث الفرد على تفاعلات معينة مع الآخرين. ومن الأمثلة على ذلك أنَّ الطفل المعرض لاحتمالية الإصابة بعسر القراءة نتيجة عوامل وراثية قد يرغب في حضور جلسات قراءة أقل مما يرغب فيها الطفل الذي لا يمتلك هذا الاستعداد الوراثي للإصابة. وأخيرًا، يشير الارتباط النشط أو الإيجابي إلى حالات يختار فيها الطفل المصاب بعسر القراءة لنفسه بيئات حيث التعرض لخبرات القراءة طفيف (وربما يفضِّلون الأنشطة الحركية النشطة). وعليه، فإن ما يُعرف «بالعامل البيئي»، مثل مقدار ما يقرؤه الطفل قد يكون راجعًا إلى عامل وراثي (ويوجد دليل حديث يؤكد ذلك بالفعل). وحتى الآن لم تتمكَّن أي دراسة من فصل التأثيرات الجينية عن الارتباطات بين الجينات والعوامل البيئية في حالة عسر القراءة، وهناك ندرة في الأبحاث التي تدرس التأثيرات القوية المحتملة لجينات الطفل في انخراطه بالتفاعلات المرتبطة بمعرفة القراءة والكتابة واستمتاعه بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤