الفصل الحادي عشر

لماذا يواجه اليورو مشكلة تتعلَّق بالأمن؟

تعرَّضت النقود للتزييف على الأرجح منذ نشأتها، وهو ما يسري يقينًا على النقود المعدنية، بل وبدرجة أكبر على النقود الورقية، التي يسهل جدًّا نسخها. فتزييف ورق النقد لا يتطلَّب أكثر من قطعة مستطيلة من الورق وكمية صغيرة من الحبر بأربعة ألوان أساسية (الأحمر والأصفر والأزرق والأسود) وشيء من المهارة الفنية في التصوير والطبع، وبسرعة تُصبِح قصاصةُ ورق لا قيمة لها ورقةَ نقد ثمينة! إمكانية تقليد النقود الورقية تشكِّل تهديدًا فريدًا من نوعه؛ إذ لا توجد وسيلة حماية مطلقة ضد تزييفها. نوَّه البارون فون إيشتال عام ١٨٤٣م، عندما كان المدير المسئول عن إصدار النقود لدى بنك بايرشه هِبوتيكِن أوند فِكسِل،1 قائلًا: «تستطيع اليد البشرية تقليد كل ما تبتكره اليد البشرية.» دون تحفُّظ وعلى الرغم من كل الاحتياطات الأمنية الجديدة، ما زالت هذه الكلمات تبدو صحيحة.

منذ أدخل الرسَّام الفرنسي لويس جاك داجير صورته الفوتوغرافية الأولى عام ١٨٣٧م، حكم تطور الرسوم الجرافيكية — الذي اتسم في أغلب الأحيان بأنه كان سريعًا سرعة البرق — على البنوك المركزية وشركات طباعة نقدها بدخول سباق لا يهدأ مع المزيِّفين؛ إذ يكافحون بما لديهم من قدرة طباعية على أحدث ما يكون للبقاء في المقدمة بمسافة قصيرة. ونظرًا لامتلاك المزيِّفين إمكانيات نسخ تشهد تحسُّنًا مستمرًّا، حاولت البنوك المركزية تعقيد نسخ أوراقها تقنيًّا قدْرَ المستطاع باستخدام ورق مخصوص غير فاقع بصريًّا، وتصميمات تخطيطية معقَّدة، وصور مطبوعة متعدِّدة الألوان تتميَّز بالتدرُّج السلس في ألوانها وتركيبها، وخصائص أمنية أخرى كثيرة. والقصد بطبيعة الحال رفع كُلفة النسخ أو التزييف إلى درجة تجعل هذا الجهد بلا طائل في نظر المزيف، الذي يجب أن يأخذ في اعتباره بجانب تكلفة إنتاج ورقته المقلَّدة، تكلفة توزيعها، الذي يكون غالبًا الجزء الأخطر من هذا النشاط. وإذا استعان المزيِّف بوسيط لهذا الغرض، فسيضطر أحيانًا إلى منحه خصمًا كبيرًا على القيمة الاسمية للورقة الزائفة.

أنجع وسيلة حماية ضد التقليد هي طباعة الإنتاليو النافرة التي يمكن تمييزها بلمسة بالإصبع. فمنذ تطوير جوالتيرو جوري آلاته الجديدة لطباعة الإنتاليو والاعتماد التدريجي لتقنيته الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، لم يَعرِف أحد بواقعة واحدة قلَّد فيها مزيِّف خاصية الإنتاليو هذه. إنتاج ألواح طباعة إنتاليو أمر معقد ومكلِّف جدًّا بالنسبة إلى المزيِّفين. بالطبع لا يسعى المزيِّف إلى الحصول على نسخة مطابقة للورقة الحقيقية بنسبة ١٠٠ في المائة، بل يكفيه الانطباع بأنها أصلية. وما عليه إلا أن ينجح في خدعته مرة واحدة، فهو لا يبالي بما يحدث فيما بعد لأوراقه المقلَّدة.

التزييف الرقمي: جودة النَّسْخ الجديدة

غالبًا ما كان المزيِّف شخصًا واحدًا يعمل بمفرده؛ ومن ثم يصعب اكتشافه، لكن عمله المتقَن بالكاميرا وطابعة الأوفست كان يترك آثارًا. وكان يحتاج إلى ورشة وموادَّ. على سبيل المثال، لاحقت الشرطة الفرنسية عميد المزيِّفين تشسواف بويارسكي أربعة عشر عامًا دون جدوى، وعندما ألقَوا القبض عليه أخيرًا في باريس في يناير من عام ١٩٦٤م، كان هذا المزيِّف، الذي يعمل منفردًا والمعروف بمظهره الأنيق غير اللافت للأنظار، قد نشر بين الناس نقودًا زائفة تساوي مئات الملايين من الفرنكات الفرنسية القديمة والجديدة. ما أُلحق من ضررٍ يكافئ عدة ملايين من يوروهات اليوم، إذا أخذ المرء في اعتباره القوة الشرائية في خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينيات القرن ذاته. والحقيقة أن أوراق بويارسكي الزائفة كانت من الكمال لدرجة أن بنك فرنسا رأى ضرورة تعويض المواطنين المغشوشين عن الضرر، وهي خطوة غير معتادة بالمرة. لم يفعل البنك هذا بدافع الشفقة، بل بسبب أن الانتقاد العلني لقصور البنك في تأمين فرنكاته من التزييف صار صاخبًا جدًّا.

تغيَّر فن التزييف تغيرًا جذريًّا منذ ثمانينيات القرن العشرين،2 وصار بقاء البنوك المركزية في المقدمة يزداد صعوبة؛ لأن كثيرًا من أسلحتها لم يَعُدْ ماضيًا. بدأت القفزة النوعية في جودة نسخ أوراق النقد عندما حلَّت آلة النسخ الملوَّن محل الكاميرا كأداة تقليد. كان يمكن للمرء اتقاء خطر آلات النسخ الملوَّن بخاصية أومرون للحماية من النسخ والتزييف — التي سبق أن ذكرناها وأُدخلت في تسعينيات القرن العشرين — شريطة ألا يستخدم المزيِّف واحدة من الآلات القديمة ولا يعرف كيف يتلاعب ببرنامج معالجة الصور المثبَّت على آلة جديدة. في ظل ما تحقَّق من تقدم في تكنولوجيا النسخ الرقمي، نجح المزيِّفون أخيرًا حتى في تجاوز عقبة أومرون. لم يَعُدْ هناك جهاز أوتوماتيكي يقف حجر عثرة في طريق النسخ الرقمي. زِدْ على ذلك أن هذه الأنظمة الرقمية أتاحت المطابقة الدقيقة للخطوط والألوان وترشيح الظلال الرمادية والألوان المشوشة في صورة الورقة الزائفة. وحتى الحرف الطباعي المخصوص غير المتاح تجاريًّا المستخدَم في ترقيم أوراق النقد يمكن محاكاته على كمبيوتر شخصي بدرجة خادعة من الأصالة وبترقيم متسلسل. يتيح الكمبيوتر الشخصي، إذا أُضيفت إليه ماسحة ضوئية مسطَّحة وطابعة ليزرية أو نافثة للحبر، تقليد أيِّ كمية من أوراق النقد وفي أي وقت بسهولة و«بمستوًى مقبول» من الجودة. هذا الأسلوب في التزييف لا يترك أثرًا. فأيُّ شخص يمكنه شراء هذه المعدات بسعر معقول، مع ضبطها حسب متطلباته الفردية، من أي متجر محلي وتركيبها في بيته. فتحت تكنولوجيا النسخ الجديدة بالكمبيوتر هذه الطريقَ أمام مزيِّف من نوع جديد؛ وهو الهاوي؛ مما يفسر جزئيًّا النسبة العالية والمذهلة من الجناة الشباب في جرائم تقليد النقود. يبلغ عمر أصغر مزيِّف بالكمبيوتر ألقت الشرطة القبض عليه حتى هذا التاريخ سبع سنوات. والآن هناك تهديد آخر يشكِّله انتشار الطابعات الأوفست الرقمية التي تتميَّز بجودة طباعة غير مسبوقة وأداء طباعي عالٍ، لكنها غالية نسبيًّا ولا يُحصل عليها بسهولة. صحيح أنه لا يمكن تحقيق رغبة المزيِّفين في إخفاء هُويَّتهم عند شراء هذه الآلات، لكن عدم تلبية طلبهم بإخفاء هويتهم ليس ضمانًا ضد إساءة الاستعمال. وقد تبيَّن هذا مثلًا باكتشاف مطبعة لأوراق اليورو الزائفة في ليتوانيا. فنهارًا كانت هذا المطبعة تنتج مطبوعات ووثائق للحكومة الليتوانية، وليلًا كانت تنتج أوراق يورو زائفة على الآلات ذاتها. كما أن كون هذه المطبعة تخدم الحكومة عرقل أيضًا تحقيق الشرطة بدرجة كبيرة. تسبَّبت تكنولوجيا النسخ الرقمي والطباعة أخيرًا في ظهور عصابة التزييف لتحلَّ محلَّ المزيِّف الفردي؛ حيث تُزاوِل هذه العصابات نشاطَها على نطاق واسع وتعمل عبر الحدود. فكل البيانات التي تحتاجها عملية الطباعة يمكن تخزينها بأمان لحين احتياجها في مرحلة لاحقة، وليس هذا فحسب، بل يمكن إرسالها أيضًا عبر الإنترنت. في عام ٢٠٠٤م، عندما أُوقف نشاط مطبعة للنقود الزائفة في بلغاريا، لم يَدُمْ سرور الشرطة طويلًا بهذه الحملة الناجحة على آلات النسخ؛ إذ تبيَّن أن عملية الطبع المعقَّدة، من تصميم ورقة النقد إلى ألوان الأحبار، سُجلت على أسطوانة مدمجة، بل وخُزِّنت أيضًا على هذه الأسطوانة قائمةٌ بالمورِّدين في السوق العالمية الذين يمكن للمزيِّفين أن يحصلوا منهم على ما يحتاجونه من مستلزمات؛ كخيوط أمنية مقلَّدة وصور كاينجرام مقلَّدة وحبر مقلَّد متغيِّر الألوان. ثم اكتُشف أن عصابة التزييف العالية الحِرفية هذه زاولت تجارة رائجة ببيع نسخ من هذه الأسطوانة. لقد سوَّقوا معرفتهم التكنولوجية. يحذِّر فيلم من إنتاج مكتب سكِّ وطباعة العملة من أنه في الوقت الذي كان هناك ذات يوم عشرة آلاف مزيِّف لكل خمس أوراق نقد زائفة، يستطيع اليوم خمسة مزيِّفين صُنْع عشرات الآلاف من الأوراق الزائفة بسهولة.

تتحدَّث البنوك المركزية، وخبراء التزييف بأجهزة الشرطة الوطنية، والمنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) في ليون — المكلَّفة بموجب معاهدة دولية بمكافحة النقود الزائفة — عن سمة جديدة لنسخ النقود؛ وأعني «التزييف الرقمي»، وهو ما تؤكده الإحصائيات. فوفقًا للبيانات المقدَّمة في مؤتمر الإنتربول السابع حول تزييف العملات في عام ١٩٨٧م في ليون، فإن نصف الأوراق الزائفة التي أُخرجت من التداول صُنعت باستخدام كاميرات، وعشرة في المائة فقط منها أُنتج بآلات نسخ ملونة، والبقية كان مصدرها ما يسمَّى تزييفات الهواة. وكما أُعلن بعد ذلك بعقد من الزمان، في مؤتمر الإنتربول التاسع في هلسنكي، فإن نسبة أوراق النقد المنسوخة بأجهزة إلكترونية — معظمها رقمي — ارتفعت إلى نحو ٩٠ في المائة — قدَّر الإنتربول أن ثلثها فقط اشتمل على ناسخات ضوئية — وأما اﻟ ١٠ في المائة الباقية فنُسبت إلى النسخ بالكاميرات ومقدار لا يكاد يُذكر من تزييف الهواة. ويمكن، حسب رسالة المؤتمر، ملاحظة هذه الزيادة في استخدام التزييف الرقمي حول العالم في أوروبا وأفريقيا وآسيا والأمريكتين.

تحت رعاية بنك التسويات الدولية في بازل، ظلت البنوك المركزية تتابع تطوُّر تكنولوجيا النَّسخ بعين يقظة. في عام ٢٠٠٠م، أنشأ محافظو البنوك المركزية في «مجموعة العشرة» للبلدان الرائدة صناعيًّا فريقًا عاملًا خاصًّا للبحث عن حلول تكنولوجية للتهديد المتنامي من التزييف الرقمي، ومن أجل تعزيز التعاون الهادف إلى حماية هذه الصناعة. فنظرًا للطبيعة الدولية لعصابات التزييف، يجب أيضًا السعي إلى تطوير أسلحة رادعة عبر الحدود. يشمل هذا الفريق العامل المسمَّى «فريق البنوك المركزية لمكافحة التزييف» البنوك المركزية وشركات طباعة النقد الحكومية. ونظرًا لأن عدد صانعي الأجهزة في العالم أكبر مما يستطيع فريق الردع أو المكافحة مراقبته مراقبة فعالة، فإنه يركِّز عمله بالدرجة الأولى على منتجي برمجيات معالجة الصور، وهم أقل عددًا. استجابة لطلبات هذا الفريق الخاص، طرحت شركة الإلكترونيات اليابانية كانون في السوق خاصية أمنية مبتكرة تسمَّى الخارطة الثنائية «بِتماب». تتعرَّف خاصية أومرون، العتيقة تكنولوجيًّا، على ورقة النقد، وتُفعِّل مانع نسخ، وأما البتماب فلا تتعرَّف عند نسخ ورقة نقد على الورقة فحسب، بل تسجِّل أيضًا على النسخة التاريخ والساعة وعدد النُّسخ الحالي، بالإضافة إلى رقم الجهاز المسلسَل المشفَّر. باستخدام البتماب، يُسلِّم المزيِّف عمليًّا بطاقة بياناته بصحبة الورقة المستنسخة، لكن هذا يفترض أن التجار يسجِّلون الأجهزة فعلًا عند بيعها. في مطلع عام ٢٠٠٤م، أفاد الفريق العامل التابع لبنك التسويات الدولية عن نجاح تطوير خاصية بتماب لتثبيتها في الكمبيوتر وأجهزة النسخ الرقمي الأخرى، وقال إن بعض كبار صانعي أجهزة الكمبيوتر وبرمجياته تبنَّوا النظام الجديد طواعيةً.3 وُضعت البتماب على أوراق الدولار واليورو، وهي الآن تعتبر وسيلة حماية فعالة نوعًا ما. لكن إلى متى ستصمد هذه التقنية في طريق مزيِّفي أوراق النقد المحترفين؟ قرب نهاية عام ٢٠٠٥م، أذاعت وسائل الإعلام الدولية، وبالأخص النسخة الإنجليزية من الجزيرة دوت نت العربية، أن خبراء الكمبيوتر في مؤسسة الحدود الإلكترونية الأمريكية نجحوا في فكِّ هذه الشفرة السرية فيما يخص أجهزة عدد من الصانعين. لم تكن الشرطة سعيدة بهذه الدعاية. لم تساعد معلومات فك الشفرة المزيِّفين بعدُ، لكن هذه هي الخطوة الأولى نحو إبطال أثر هذه الخاصية الأمنية يومًا ما. إن الحكمة التي أسلفنا ذكرها، «ما يستطيع صنعَه البشرُ يستطيع أيضًا تدميرَه البشرُ»، تصح في وقتنا الحالي — عصر تكنولوجيا المعلومات — عن أي وقت مضى. ونرى مؤشرًا صغيرًا على مدى جدِّية الإنتربول في التعامل مع هذا الوضع في تكرار عقده مؤتمراته بشأن تزييف أوراق النقد والوثائق الثبوتية؛ إذ كانت من قبلُ تُعقد كل عشر سنوات، ثم كل خمس سنوات، أما الآن فيُصدِر الإنتربول دعواته كل أربع سنوات. ففي الكفاح ضد التزييف الرقمي، يجب تكثيف تبادل المعلومات؛ لأن مصادر التهديد في تغيُّر مستمر.

تستجيب عصابات المزيِّفين المحترفين بسرعة فائقة للتقنيات المتغيرة، مستخدمةً أحدث التطورات في نسخها للنقود. فعلى سبيل المثال، تزييف أوراق الفرنك السويسري يكاد يتم حصريًّا باستخدام الكمبيوتر الشخصي؛ إذ تتسم أوراق النقد السويسرية بتصميم معقَّد لدرجة تجعل نسخه أسهل من تقليده بالحفر، على الرغم من محدودية إمكانية توزيع أوراق النقد السويسرية الزائفة في ذلك البلد الصغير. لكنَّ هناك سببًا آخرَ؛ وهو أن إصدار أوراق النقد الحالية، المتداولة منذ عقد من الزمن وكانت ذات يوم نموذجًا يُحتذَى به فيما يتصل بالتدابير الأمنية، تفتقر الآن إلى أحدث الخصائص الأمنية؛ ومن ثم فهي عتيقة جزئيًّا. على النقيض من ذلك، فإن الأغلبية الساحقة من أوراق الدولار واليورو الزائفة التي تظهر في أوروبا مطبوعة. لماذا؟ لأن كلا إصدارَيْ أوراق النقد حديث العهد نسبيًّا، وخصائصهما الأمنية الحديثة تصعِّب نسخهما بآلة نسخ.

رمز في ضائقة

غيَّرت العملة الأوروبية المشتركة خريطة السياسة النقدية العالمية تغييرًا جذريًّا. فللمرة الأولى في التاريخ الحديث توجد كتلتا عُملة هما الدولار واليورو، وللمرة الأولى تكون للبنوك المركزية والكيانات الخاصة حرية الاختيار في قراراتها الاستثمارية بين عملتين ذواتَيْ أهمية عالمية. العجزان المتلازمان المتواصلان في الموازنة والحساب الجاري في الولايات المتحدة جعلا الدولار محل نقاش. سيلُ هذه الأوراق في ارتفاع؛ حيث ضاعف مكتب سكِّ وطباعة العملة خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة عدد أوراق الدولار المطبوعة سنويًّا مرتين ونصفًا إلى نحو ٩ مليارات ورقة، فتضاعف المطبوع من الورقة فئة ٥٠ دولارًا ٤ مرات، والورقة فئة ١٠٠ دولار ٥ مرات. وعلى حدِّ وصف الخبير المالي فِلهلم هِنكل بمركز بولونيا التابع لجامعة هوبكنز للدولار قبل سنوات، فقد «الرمز» — أيِ الدولار — بعض بريقه في الحرب على سوء الإدارة التضخمي ونزوات السياسة النقدية. ومن ثم يتنبأ كثير من المراقبين الأوروبيين بدور مهم لليورو في السوق المالية المعولَمة، واتساقًا مع هذه التوقعات وفي محاولة لتوزيع مخاطرها، يُؤْثر مزيد ومزيد من مستثمري القطاع الخاص الاستثمارات المسجَّلة باليورو لا الدولار، ومن المحتمل أن تفعل البنوك المركزية الشيء نفسه؛ مما يجعل اليورو عملة احتياطي عالمية.4 يعرف المتفائلون باليورو بالطبع أن اتحاد بلدان منطقة اليورو التي تفتقر إلى قوة الترابط لا يمكنه أن يزعم لنفسه ما للولايات المتحدة الأمريكية من وزن سياسي، فضلًا عن أن يزعم ما لآخر قوة عظمى متبقية من قوة عسكرية. لكنهم يرون أن منطقة اليورو التي تضم ٣٠٩ ملايين مستهلك، باستبعاد بريطانيا والدنمارك والسويد، يمكنها يقينًا، اعتمادًا على محض حجم السوق، أن ترقى إلى مستوى الولايات المتحدة. وبضم اﻟ ٧٥ مليون نسمة — وهم سكان البلدان العشرة الجديدة أعضاء الاتحاد الأوروبي، التي تريد كلها اعتماد اليورو أيضًا — سرعان ما ستفوق هذه السوق قوة السوق الأمريكية.5 علاوة على ذلك، فإن كَمَّ المستثمرين المحتمَلين قد ارتفع مقارنةً به إبان العملات الوطنية الاثنتي عشرة التي حلَّ محلها اليورو. في السنوات الثلاث التي انقضت منذ مولد اليورو كعملة مطبوعة عام ٢٠٠٢م، تولى اليورو دور العملة الموازية في بلدان كثيرة في أوروبا الشرقية. كذلك فإن أهميته كمخزن للقيمة في ازدياد على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط وفي أفريقيا. ويقدِّر البنك المركزي الأوروبي أن ١٥ في المائة من أوراق اليورو المُصْدَرة، المقيَّمة بمبلغ ٥٠١ مليار يورو في نهاية عام ٢٠٠٤م، محتفَظ بها خارج منطقة اليورو.6 كذلك فإن حصة اليورو من احتياطيات العملات العالمية، التي بلغت ٢٥ في المائة في نهاية عام ٢٠٠٤م وفقًا لصندوق النقد الدولي، في ازدياد أيضًا.7 هذه الحصة أكبر مما حقَّقته العملات الوطنية الاثنتا عشرة مجتمعة، والتي كان المارك الألماني هو الوحيد من بينها الذي لعب دورًا معيَّنًا كعملة احتياطي دولية. فعندما اعتُمد اليورو في عام ١٩٩٩م كعملة محاسبية، قدَّر البنك الاتحادي الألماني أن ما بين ٣٠ و٤٠ في المائة من كل الماركات الألمانية المتداولة محتفَظ به في الخارج، لكن المقدار الإجمالي للماركات الألمانية المصدَرة آنذاك لم يكن إلا ٢٧٤ مليارًا (١٤٠ مليار يورو).

في المناقشة الحماسية حول مستقبل الدولار، لا يعبِّر الجميع — في أوروبا، وعلى الأخص في الولايات المتحدة — عن مثل هذا التفاؤل بمستقبل اليورو. والتفنيدات كثيرة؛ فالناتج المحلي الإجمالي لبلدان اليورو الاثني عشر لا يساوي إلا ٧٥ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. والاقتصاد الأمريكي آخذ في النمو بقوة، فيما ركدت منطقة اليورو لسنوات. علاوة على ذلك، ظلت منطقة اليورو تحقِّق فائضًا ضئيلًا في الحساب الجاري، أو على الأقل كان حسابها الجاري شبه متوازن؛ ومن ثم يصعب تجميع فوائض ضخمة من اليورو في الخارج. وتظل الولايات المتحدة أكبر بلد مستورِد في العالم، وما زال نحو نصف المعاملات التجارية الدولية مسعَّرًا بالدولار، وينطبق هذا بوجه خاص على النفط الخام. لدى إيران خُطط لإقامة بورصة مشتقات نفطية خاصة بها (بورصة النفط الإيرانية)، وتحويل معاملاتها في النفط الخام آنيًّا إلى اليورو، لكن هذه ما زالت مجرد خُطط. والحقيقة أنه يسهل تغافل التباين الشديد في النسب فيما يخص اليورو والدولار. فحصة الدولار من احتياطيات العملات العالمية كانت لا تزال ضخمة عند ٦٦ في المائة في نهاية عام ٢٠٠٤م، وربما يُعزى التراجع الطفيف بنسبة ٥ في المائة في هذه الحصة منذ عام ١٩٩٩م إلى تقلُّبات سعر الصرف. وفي المقابل فإن حصة اليورو في احتياطيات العملات العالمية حُسبت من منظور اسميٍّ؛ ومن ثم يمكن أن تكون نتيجة قوة سعر صرف اليورو يومَ وُضعت الإحصائية في نهاية عام ٢٠٠٤م.

وفق أحد تقديرات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فإن ٦٦ في المائة من أوراق النقد التي أصدرها بحلول نهاية عام ٢٠٠٢م، وقيمتها ٦٢٠ مليون دولار، محتفَظ بها في الخارج. ربما يكون تقدير الاحتياطي الفيدرالي عاليًا بعض الشيء؛ حيث يفترض إد فايج، خبير العملات بجامعة وسكونسن أن الأرصدة الخارجية أقل من ٥٠ في المائة. ومع ذلك يظل هذا مقدارًا من الدولارات لا يُرى له بديل استثماري في أي مكان. يقول ميجسلاف كارجمار، المستشار الاقتصادي لبنك دويتشه في نيويورك، إن السبب الحقيقي في العجزين المتلازمين يكمن في زخم الاقتصاد الأمريكي الذي لا يعرف حدودًا. كذلك يتنبأ كارجمار قائلًا إنه لو كانت أمريكا تعيش فعلًا عيشة تفوق مواردها، فهي تفعل ذلك بأمان منذ فترة طويلة جدًّا، وسوف تظل هكذا دون أن تتكبَّد أضرارًا. ويؤكد كارجمار وزميله روبرت سولومون بمؤسسة بروكنجز أنه لا يوجد بديل استثماري للدولار في الحقيقة.8
النقاش حول مستقبل الدولار واليورو ليس مجرد نقاش مدفوع بغرور وطني، بل هو تجارة واقعية لا تعرف العواطف؛ فالاحتفاظ بنسبة عالية من عملة معينة في الخارج يحسِّن سيولة السوق الرأسمالية بهذه العملة، ويزيد إيراد البلد المُصْدِر من خلال رسم سكِّ العملة. رسم سكِّ العملة مصطلح قديم بمعنًى حديث، ولا يعرفه إلا قليلون، لكنه يلعب دورًا مهمًّا في تمويل بلد ما. جاء هذا المصطلح من العصور الوسطى، ويعبِّر عن القيمة المضافة عن طريق سكِّ النقود؛ وأعني الفرق بين المعدن الثمين في قطعة النقد والقيمة الاسمية لهذه القطعة. كانت هذه القيمة المضافة إتاوة للحاكم، وهو السيد الإقطاعي، أما اليوم فتُستعمل من ضمن ما تُستعمل له لتعني الفرق بين تكلفة إنتاج وتوفير ورقة نقد وقوتها الشرائية. هذا الفرق مستحَق للحكومة. فعندما يحصل بنك تجاري على نقود (أوراق وقطع معدنية) من بنكه المركزي، لا بد أن يضع أوراقًا مالية كضمان، والفائدة المتراكمة على هذه الأوراق المالية تتدفَّق إلى البنك المركزي، والبنك المركزي بدوره يسلِّم ربحه إلى الحكومة، التي تُدرج هذه الأموال في موازنتها. يمكن أن يصل مجموع هذه الأموال إلى مبلغ كبير؛ ففي عام ٢٠٠٠م، عندما كانت أسعار الفائدة لا تزال عالية نسبيًّا، قال مجلس الاحتياطي الفيدرالي إنه تلقَّى ٣٢٫٧ مليار دولار كرسم سكِّ عملة.9 لنلعب لعبة أرقام افتراضية: إذا أخذنا فقط حصة أوراق الدولار المحتفَظ بها طواعيةً في الخارج، فإنه يتعيَّن على الأجانب أن يدفعوا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ٢١٫٦ مليار دولار كرسم سكِّ عملة في تلك السنة وحدها. وإذا قارنَّا هذا الدخل من الفوائد بنصف المليار دولار التي ينفقها المجلس كل سنة على طباعة أوراق النقد، فإنه يمكننا أن نقول إن هذه تجارة مدهشة.
أيُّ عملة عالمية تُستخدم كاحتياطي ومخزن للقيمة تكون أشد عرضةً لخطر التزييف من عملة محدودة التداول في الخارج. تستعر الحرب ضد المزيِّفين، وعادةً ما يَستخدم الأمريكيون والأوروبيون أساليب مختلفة نظرًا لاتباعهم فلسفات متباينة بشأن أوراق النقد.10 شأن أغلب البلدان، يعتمد الأوروبيون على أسلوب الوقاية أو المنع؛ فهُم يعملون على جعل عملية التقليد أو التزييف أشد صعوبةً وكُلفةً على المزيِّف قدْرَ المستطاع. ويعتمد الأمريكيون على الردْع، فيُفترض أن يعاقَب المزيِّف عقابًا شديدًا. ولذلك تداعيات مباشرة على أوراق النقد وخصائصها الأمنية. ففيما يخص أوراق النقد الأوروبية — حتى أوراق النقد الوطنية قبل اليورو — تزداد أبعاد الورقة بازدياد قيمتها الاسمية، وهو ما يُفترض أن يساعد أيضًا ضعاف البصر. والصورة المطبوعة تكون متعددة الألوان، وتكون هناك ألوان مختلفة لكل فئة. بالإضافة إلى ذلك، يكون الورق ملوَّنًا تلوينًا خفيفًا على نحوٍ يتناغم مع لون الخلفية لكل فئة. وأما أوراق الدولار الصادرة عن نظام الاحتياطي الفيدرالي فمتطابقة تمامًا في أبعادها، والورق كله ملوَّن بلون خفيف موحَّد، هو الأبيض المائل إلى الخضرة. الصور المطبوعة ملونة بدقة باللون الأسود على الوجه وبالأخضر على الظهر. على أيِّ حال، هذا ما كانت عليه الحال حتى وقت قريب. وللحفاظ على أصالة أوراق النقد ومكافحة التزييف، تمتلئ أوراق النقد الأوروبية بالخصائص المرئية وغير المرئية كحماية ضد التزييف، أما أوراق الدولار فلم تكن حتى بداية تسعينيات القرن العشرين تتضمَّن أيَّ خصائص أمنية على الإطلاق، فلا علامة مائية موضعية متعددة الألوان، ولا خيطًا أمنيًّا، ولا علامات كيميائية أو فيزيائية في حبر الطباعة. كانت متانة الورق المطبوع عليه الدولار وطباعة الإنتاليو النافرة كافيتين للتثبُّت من أصالة الأوراق. بل إن طباعة الإنتاليو من سطح محفور على كلا الجانبين كان منصوصًا عليها أصلًا في قانون الاحتياطي الفيدرالي لعام ١٩١٣م، لكنه عُدِّل بموجب اللائحة في عام ١٩٨١م.

يسهل أن نفهم لماذا يلزم سحب كل أوراق النقد في أوروبا من التداول بعد فترة معينة مجدولة والاستعاضة عنها بإصدار جديد، فخصائصها الأمنية تتقادم. أما في الولايات المتحدة فلم يُعلَن إلغاء أي إصدار قط منذ عام ١٨٦٣م! وتظل الورقة فئة ٥٠٠ دولار عملة قانونية، على الرغم من صدورها عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي آخر مرة عام ١٩٣٤م واختفائها تمامًا من التداول في يومنا هذا. ويمكن لمَن يشاء أن يدفع باستخدام واحدة من أوراق شهادة الفضة الدولارية المزخرفة التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر (يفترض هذا بالطبع أن هذا الشخص لا يزعجه أن القيمة المعنوية لورقة النقد أعلى بكثير من قيمتها الاسمية). تُولي الولايات المتحدة عن قصدٍ اهتمامًا كبيرًا للصلاحية غير المحدودة والمظهر شبه الثابت لأوراق نقدها كعوامل لبناء ثقة في الداخل والخارج. وقد أثبت النجاح أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي على حق. وعندما يحدث تغيير في تصميم أوراق النقد، يمكن أن يثير هذا انتقادات غريبة. فعندما أراد مجلس الاحتياطي الفيدرالي أخيرًا إدخال أوراق نقد جديدة في تسعينيات القرن العشرين مثلًا، طرح الإصدار الجديد في الخارج وفي مكان واحد هو موسكو؛ ولهذا يتسم مخزون أوراق الدولار المكدسة في روسيا ما بعد السوفييتية تحديدًا بالضخامة.

ثمة اختلاف أيضًا بين الأمريكيين والأوروبيين في إدارتهم للحرب ضد المزيِّفين والتزييف؛ ففي أمريكا، هناك مركزية في إنفاذ القانون، وقد عُهد بهذه المهمة، تقريبًا منذ نشأة الدولار، إلى جهاز الاستخبارات السرية. ويؤكد على المقام الرفيع الذي يَحظَى به هذا الجهاز أن ثاني مهامه الحصرية (قد يقول بعضٌ ممن بداخل الجهاز إنها الأولى) هي حماية شخص الرئيس الأمريكي. لكن الاستخبارات السرية تركز على الداخل الأمريكي في حربها ضد المزيِّفين، ونتيجة لذلك ظل معدل ظهور أوراق دولار زائفة في الولايات المتحدة منخفضًا نسبيًّا منذ عقود. تقوم هذه الاستراتيجية على الفكر القائل بأن الدولارات الزائفة التي تُطرح للتداول داخل الولايات المتحدة يمكنها إلحاق ضرر اقتصادي بأمريكا. ومن بين ما يساوي ١٧٣ مليون دولار من أوراق الدولار الزائفة التي أعلن عنها مجلس الاحتياطي الفيدرالي عام ٢٠٠١م، ما يساوي ٦٠ مليون دولار فقط اقتُفي أثرها إلى الداخل الأمريكي؛ أي إن الجزء الأكبر من الضرر وقع في الخارج. بل ووفقًا للخبراء، فإن كمية أوراق الدولار الزائفة غير المكتشفة في الخارج أكبر من هذا؛ لأن كثيرًا من الدولارات الزائفة ليس معروفًا أنه مزيف أو ببساطة لا يحيط البنك المركزي المعنيُّ الإنتربولَ بها علمًا. ظلت مكافحة الدولارات الزائفة في الخارج لسنوات طويلة لا تثير اهتمامًا حقيقيًّا لدى جهاز الاستخبارات السرية. وحتى في يومنا هذا، يعزو جهاز الاستخبارات السرية حماسه في مطاردة المزيِّفين دوليًّا إلى الحرب الأمريكية ضد الإرهاب أكثر منها إلى الإيمان بضرورة حماية مواطني العالم من أوراق الدولار الزائفة. وكل المعلومات التي يجمعها الجهاز في الخارج بخصوص أوراق النقد الزائفة تمرَّر أوتوماتيكيًّا إلى وكالة الاستخبارات المركزية.

ورقة سوبر غامضة

لم تَعُد سياسة «الإهمال الحميد» الأمريكية بالضرورة على الدولار بأيِّ نفع؛ حيث ظلَّ هذا الدولار القوي العملة الأكثر عرضةً للتزوير في العالم وبفارق كبير على مرِّ السنين. إن انتشار الدولار حول العالم وقصور خصائصه الأمنية هما السبب وراء ذلك. ظلت الزيادة في معدل تزييف الدولار لسنوات لا تزعج أحدًا في واشنطن. كانت واقعة ظهور ورقة زائفة فئة ١٠٠ دولار عام ١٩٨٩م في بنك فلبيني في مانيلا هي الأولى التي تتصدَّر عناوين الأخبار؛ إذ كان كل شيء في تلك الورقة المنسوخة بجودة تصل إلى حد الكمال صحيحًا. كمالها بدأ بالورق المخصوص الذي ينتج منه الدولار، والذي يحتاج المرء لصنعه آلة فوردرِنير لا يستخدمها أي بلد آخر. وفوق ذلك كانت ورقة الدولار مطابقة تمامًا للورق الذي يُطبع بطريقة طباعة الإنتاليو النافرة. إذا شئنا الدقة، لم تكن هذه ورقة زائفة بالمعنى التقليدي، بل ورقة موازية غير قانونية طُبعت على طابعة إنتاليو أصلية من شركة دي لا رو جوري كالمستعملة من قِبَل مكتب سكِّ وطباعة العملة. لم تُكتشف الورقة الزائفة إلا بالمصادفة. لم يكن باستطاعة مزيِّف فردي أن يتحمَّل مثل تلك المتطلبات الفنية والمالية، ولا بد أن حكومةً ما تقف وراء ذلك. سرعان ما اكتُشف المزيد من هذه الورقة فئة ١٠٠ دولار، التي سُمِّيت احترامًا «الورقة السوبر» أو «السوبر دولار»، في أصقاع أخرى من العالم. تمثِّل الورقة فئة ١٠٠ دولار ٦٠ في المائة — حسب القيمة — من الأوراق الصادرة عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي السالف ذكرها، والتي تساوي ٦٢٠ مليار دولار. بدا التهديد المحتمَل هائلًا، وكانت الإثارة عظيمة. انطلق عملاء جهاز الاستخبارات السرية خارج حدودهم الأمريكية في ربوع العالم كالجراد المنتشر. سرعان ما سَرَتْ بين الناس تكهنات بأن الورقة السوبر ربما طُبعت ضمن دورة طباعية تشمل ملايين الأوراق الزائفة. أعرب أعضاء بالكونجرس وخبراء بمجلس الاحتياطي الفيدرالي ومكتب سكِّ وطباعة العملة عن شكوكهم أثناء جلسة استماع عقدها الكونجرس في احتمال أن تكون هذه حربًا اقتصادية ضد الولايات المتحدة بهدف زعزعة استقرار الدولار. ولم تكن هذه الشكوك تهويلًا؛ ففي التاريخ أمثلة كافية على مثل هذه الأشياء.11

أثارت الورقة السوبر ضجَّة بين محققي الشرطة حول العالم، وقضَّت مضاجع هذا القطاع الرفيع الأمن ليالي طويلة. فطابعات أوراق النقد تتسم بخصائصها الطباعية المميزة، وعلاوة على ذلك، يمكن تحديد مَنشأ الحبر المُؤَمَّن على أي ورقة نقدية بدقة بمساعدة التحليل الكيميائي لمعرفة تفاصيله وصولًا إلى دفعة إنتاج معيَّنة. اضطرت شركة توريد الآلات دي لا رو جوري وشركة تصنيع الأحبار المُؤَمَّنة سيكبا إلى الخضوع لاستجواب حادٍّ من قِبَل جهاز الاستخبارات السرية. حامت الشبهات الأولية حول كوريا الشمالية بصفتها عميلًا لدى شركة دي لا رو جوري وسيكبا. وبدا أن خيطًا يقود إلى برلين، فبعد سقوط جدار برلين عام ١٩٨٩م، وُجدت مطبعة خاصة تابعة لجهاز أمن الدولة المعروف باسم «شتازي» بألمانيا الشرقية البائدة شرق برلين. ففي منطقة محمية بالأسلاك الشائكة والأضواء الكاشفة يحيط بها سور مزدوج في حي هوهنشونهاوزن بالمدينة، اكتُشفت مطبعة رفيعة الأمن تضم معدات حديثة مقامة على مساحة ٢٫٥ هكتار. بل وكانت تضم آلة صغيرة لصنع الورق المُؤَمَّن يمكنها إنتاج عدة مئات من الصفحات في الساعة بنظام القالب الأسطواني أو عملية فوردرِنير، حسب الحاجة. أكد نحو مائة اختصاصي على درجة عالية من التأهيل كانوا ينتمون إلى مطبعة التزييف هذه أنها تقتصر على تزييف الأوراق الثبوتية الشخصية والوثائق الأخرى، ولم تزيِّف أوراق نقد قط. قام ممثلو الشرطة الألمانية الغربية وفنيون من شركة جيزيكه أوند ديفريَنت بتفتيش المطبعة تفتيشًا دقيقًا، وقد تبيَّن لهم حرص موظفي جهاز أمن الدولة على طمس أي دليل يقود إلى رُتبهم العسكرية قبل وصول الألمان الغربيين. بل إن الموادَّ والآلات التي تُثبت الجُرم نُقلت بطريقة ممنهجة من المطبعة، ربما إلى روسيا. مثلًا، كانت تلك المطبعة المثالية التجهيز تفتقر إلى طابعة إنتاليو، وهي لا غنى عنها لتزييف جوازات السفر. كما أنه لا حاجة إلى ورق فوردرِنير لطبع جواز سفر، بل بالأحرى، هناك حاجة إليها لطبع ورقة دولار. الحقيقة أن دفعات كبيرة من الورقة السوبر ظهرت مرارًا في برلين، غالبًا في أمتعة دبلوماسيين أو رجال أعمال كوريين شماليين زائرين، حتى قبل سقوط الستار الحديدي بفترة طويلة. فهل درَّب رجال شتازي الكوريين الشماليين على فن حفر الألواح الطباعية وطبع أوراق النقد، ربما بناءً على طلب جهاز الأمن الوطني الروسي؟ الخبراء على يقين اليوم أن رجال شتازي دَرَّبوا على الأقل فنيين من البلدان الصديقة على تزييف أوراق النقد، لكن الشرطة السرية الألمانية والأجهزة الأمنية الأوروبية الحليفة لم تتمكَّن من إثبات أثر يؤدي إلى بيونجيانج. بل وقام وفد من جهاز الاستخبارات السرية الأمريكي بمعاينة المطبعة الخاصة قبل تفكيكها وإغلاقها. كان الأمريكيون يتبادلون المعلومات والآراء باستمرار مع زملائهم من ألمانيا الغربية، بل وسافروا إلى جيزيكه أوند ديفريَنت في ميونخ. بدا جهاز الاستخبارات السرية مقتنعًا بمحور برلين الشرقية-بيونجيانج، لكنه رفض فيما بعدُ تقديم أيِّ معلومات حول سير تحقيقه. من خلال قنوات رسمية عُلم أن تركيزًا عاليًا فوق العادة من المعادن الثقيلة اكتُشف في الورق الذي طُبعت عليه الأوراق السوبر، وأن هذه المعلومة قد تشير إلى مصنع ورق في الإمبراطورية السوفييتية السابقة كمورِّد. لكنْ أي مصنع؟

بعد ذلك وُجِّه الاتهام إلى الإيرانيين والسوريين بطبع الورقة السوبر وتداولها من خلال حزب الله في وادي البقاع اللبناني. لكن دمشق تستطبع أوراق نقدها في الخارج في باكستان، ولا يمكن أن تكون ضلعت في هذا إلا كموزِّع في أحسن الظروف. ولم يكن الاتهام الموجَّه لطهران بالأكثر إقناعًا. خبير معروف دوليًّا على معرفة وثيقة بالمطبعة المُؤَمَّنة الإيرانية على قناعة بأن مثل هذه العملية التزييفية الطموحة، بكل لوجستياتها، ما كانت لتخفى عليه أثناء زياراته المتكرِّرة إلى طهران. بطبيعة الحال، نفت كلتا الحكومتين الاتهامات. في صيف عام ٢٠٠٤م، أذاعت شبكة بي بي سي البريطانية في برنامجها التليفزيوني «بانوراما» تأكيدًا بأن الورقة السوبر صُنعت في كوريا الشمالية، وأنها وزِّعت بمساندة عملاء روسيين سريين تابعين لجهاز الأمن الوطني الروسي السابق. تناول الفيلم التليفزيوني على وجه الخصوص دفعة كبيرة من الأوراق السوبر جُلبت إلى أوروبا الغربية بمعرفة جناح راديكالي تابع للجيش الجمهوري الأيرلندي، وذُكر اسم شون جارلَند، رئيس حزب العمال الأيرلندي، كشخص محتمل ضلوعه في الأمر. بالإضافة إلى العملاء البريطانيين والأمريكيين، قدَّم البرنامج هاربًا رفيع المكانة من كوريا الشمالية تقديمَ النجوم كشاهد، بافتراض أنه عمل في تزييف النقود في كوريا الشمالية. لكن القضية التي تحدَّث عنها برنامج «بانوراما» كانت قد تكشَّفت منذ عدة سنوات وسوِّيت منذ ذلك الحين أمام القضاء البريطاني. ولم يذكر البرنامج أن هذه لم تكن شحنة الجيش الجمهوري الأيرلندي الوحيدة من الأوراق السوبر التي كُشفت. كان الألمان والهولنديون قد راقبوا أو اعترضوا سبيل شحنات كهذه عدة مرات، وداوموا على إبلاغ السلطات البريطانية والأمريكية، التي منعت زملاءها من القارة من إجراء المزيد من التحقيقات. ووفقًا لتقارير إعلامية، فإن الحكومة الأمريكية لم تتهم رسميًّا كوريا الشمالية بطبع الورقة السوبر، ولم توجِّه اتهامات رسمية ضد جارلَند حتى أواخر خريف عام ٢٠٠٥م.

كلما أطال خبراء مكافحة التزييف الأوروبيون الغوص في عملية تزييف الدولار السوبر هذه، كشفوا عن مزيد من الألغاز. يبدأ هذا بجودة طبع الورقة السوبر؛ فالخبراء يعتبرونها ببساطة فائقة الجودة. بل كانت الأوراق السوبر، من نواحٍ معينة، أفضل من الأوراق الأصلية فئة ١٠٠ دولار التي كان يُنتجها مكتب سكِّ وطباعة العملة الأمريكي. فتَحْتَ المجهر مثلًا، تُظهِر الورقة السوبر تنفيذًا دقيقًا للخطوط على الوجه لا يمكن حتى العثور عليه في الورقة الحقيقية، وختم وزارة الخزانة المعقد على الوجه منسوخ بدقة مطلقة، لكنْ تحته تمامًا يجد المرء في رقم الورقة علامة لا ينبغي أن تكون موجودة. ثم نجد أن هذه الورقة السوبر المنسوخة بشكل مدهش تنقصها، من دون كل ما عداها، الخاصية المغناطيسية وخاصية الأشعة تحت الحمراء الأمنيتان اللتان تمنعان أجهزة فحص أوراق النقد من اكتشافها ورفضها. كل أجهزة الفحص بكل البنوك الأمريكية أو مجلس الاحتياطي الفيدرالي تتعرَّف على الورقة السوبر فورًا كورقة زائفة وتلفظها خارجًا. فهل يمكن أن يكون المزيِّفون قصدوا أن يُتعرف على الورقة السوبر فورًا في الولايات المتحدة؟ علاوة على ذلك، لماذا يختارون الورقة فئة ١٠٠ دولار إذا كانوا يريدون حقًّا شن حرب اقتصادية ضد الولايات المتحدة؟ صحيح أنه في كل عام يستطبع مجلس الاحتياطي الفيدرالي ما بين ٦٠٠ و٨٥٠ مليون ورقة فئة ١٠٠ دولار، لكن أغلبيتها تُخصَّص للبلدان الأجنبية. على سبيل المثال، يفترض مجلس الاحتياطي الفيدرالي نفسُه أن كل الأوراق فئة ١٠٠ دولار المُصدَرة حديثًا في كاليفورنيا سرعان ما تغادر البلد. الأوراق فئة ٢٠ دولارًا و٥٠ دولارًا أكثر شعبيةً بكثير في الولايات المتحدة؛ لأن المبالغ التي في حدود ١٠٠ دولار تُدفع ببطاقات الائتمان. واستكمالًا لقائمة الأسئلة المفتوحة: يشك خبراء آلات الطباعة كثيرًا في إمكانية أن يكون الكوريون الشماليون طبعوا بأيِّ حال الورقة السوبر بآلاتهم العتيقة التي أنتجتْها دي لا رو جوري؛ فبتلك الآلات — كما يقول الخبراء — لا يمكنهم طبع الأوراق فئة ١٠٠ دولار الصادرة ابتداءً من عام ١٩٩٦م. بل إن كوريا الشمالية تواجه صعوبات في طبع نقودها كما يتبيَّن من تدنِّي جودتها. لكن أوراقًا فئة ١٠٠ دولار من إصدار ما بعد عام ١٩٩٦م تحديدًا تواصل ظهورها بجودة الورقة السوبر.

تعمل ما تسمَّى دُور المقاصة كوسطاء في التجارة الدولية في أوراق النقد، ويمكن العثور في زيورخ على واحدة من كبرى هذه الدُّور في العالم؛ حيث تورَّد إليها كل يوم أوراق نقد تعادل قيمتها ٥ مليارات دولار. تُفحص هنا كميات هائلة من أوراق النقد، مرصوصة غالبًا فوق منصات نقالة، للتأكد من أصالتها باستخدام أجهزة فحص بالغة الدقة، ثم تُشحن إلى الخارج من جديد. تتيح نقاط المقاصة هذه نظرة ثاقبة وعميقة على العالم السري لتدفقات أوراق النقد الدولية. وهكذا يلاحظ المرء أن الأوراق السوبر تَظهَر دائمًا بكميات صغيرة محدَّدة جيدًا كما لو كان حجمها خاضعًا للمراقبة. الاستثناء الوحيد هو فترة شهر الصيام رمضان وموسم الحج إلى مكة؛ فعندئذٍ يقفز عدد الأوراق السوبر بشكل ملحوظ. عصابات المزيِّفين العادية لا تتصرَّف على هذا النحو؛ فهم يريدون التخلص من سلعتهم التي تمثل تهديدًا لهم بأسرع ما يمكن. زِدْ على ذلك أن الخبراء يعتقدون أنهم توصَّلوا إلى أن أوراق السوبر تَظهَر بانتظام في المناطق التي تواجه فيها السياسة الخارجية الأمريكية مشكلات؛ وأعني الشرق الأدنى والأوسط وبعض البلدان الأفريقية، ولا سيما شرق أفريقيا. وينشط في تلك الأماكن ساسة معارضون وقبائل متمردة وجيوش خاصة تتبع العديد من قادة الحرب الذين ينفِّذون أوامر وكالة الاستخبارات المركزية. أَفَمِن الجائز أنهم يتقاضَوْن مقابل خدماتهم أوراق دولار زائفة؟ لن تكون هذه الحالة الأولى من نوعها في التاريخ. هل من الممكن أن تكون هذه الجماعات استخدمت المال لشراء أسلحة في ألمانيا الشرقية، ثم بعد سقوط جدار برلين، في كوريا الشمالية؟ وهل تشقُّ هذه النقود الزائفة عندئذٍ طريقها عائدة من كوريا الشمالية إلى الغرب، والأفضل إلى أوروبا الغربية؟ جهاز الاستخبارات السرية يُؤْثر الصمت، والاستفسارات الرسمية لا يُرَدُّ عليها عادةً. تحمل اتفاقية جنيف لسنة ١٩٢٩م التي أسلفنا ذكرها توقيع الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، وهي تُلزِم القوى الموقِّعة عليها بالعمل النشط معًا والتعاون دوليًّا في مكافحة النقود الزائفة. لكنْ ليس واضحًا مقدار ما يعرفه جهاز الاستخبارات السرية الأمريكي ذاته ولا مقدار ما هو مسموح له بمعرفته. ربما كان ينبغي على جهاز الاستخبارات السرية، في بحثه عن العقول المدبِّرة لقضية التزييف الغامضة هذه، أن يُلقي نظرةً شَمال واشنطن العاصمة مباشرةً. فهناك — كما يقال — يوجد لدى وكالة الاستخبارات المركزية مطبعة بها بالضبط نفس آلات دي لا رو جوري الحديثة، وتُستخدم في طباعة أوراق النقد. وهذه المطبعة — كما يُقال — بالغة السرية، ولا تزيِّف بالطبع إلا جوازات السفر وبطاقات الهوية.

أيًّا ما كان يقف وراء الورقة السوبر، استغل مكتب سكِّ وطباعة العملة أخيرًا هذه الإثارة العامة لإصدار أوراق دولار جديدة. وفي غضون أربع سنوات فحسب — وهي عجلة غير عادية — أَنتَج إصدارَيْ دولار جديدين؛ وهما ١٩٩٢ و١٩٩٦. كان ذلك أول تغيير في مظهر الدولار منذ عام ١٩٢٨م! لكن الإصدار الثاني هو وحده الذي يمكن اعتباره تجديدًا حقيقيًّا وتحسينًا في الأمن الفني. قرَّر المكتب أن يفعل هذا بعد إصدار أوراق النقد الجديدة الأولى في عام ١٩٩٢م؛ لأن عدد أوراق الدولار الزائفة التي يتم اكتشافها كان قد قفز من جديد. وبالإضافة إلى الخيوط الأمنية والحروف المجهرية — وكلاهما استُخدما لأول مرة عام ١٩٩٢م — أصبحت أوراق الدولار تتسم بتفاصيل أكثر فيما يتعلَّق بصورتها وشكلها؛ وذلك باستخدام حروف مجهرية أدق وحبر متغير بصريًّا في الأرقام الدالة على الفئة على الوجه. كما حصلت أيضًا ولأول مرة على علامة مائية موضعية بألوان متعددة الدرجات. هذه هي الخاصية الأمنية التي لا يمكن تصوُّر ورقة نقد أوروبية من دونها، ومع ذلك ظل الأمريكيون يرفضونها زمنًا طويلًا. مع الورق المصنوع على آلة فوردرِنير، بأليافه الطويلة، يصعب الحصول على جودة كافية عند وضع علامة مائية في موضع دقيق وبألوان متدرِّجة من الفاقع إلى الداكن. لم تكن كرين آند كومباني قد أتقنت تقنية العلامة المائية؛ ومِن ثَمَّ عارضت اعتماد هذه الخاصية الأمنية في ورق إنتاج الدولار. في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، استأجرت كرين أخيرًا خبيرًا من إيطاليا — بلد منشأ العلامة المائية — هو لويجي كازوني، لتدريب موظفي كرين آند كومباني الشباب على مهمة صعبة، وهي حفر الشمع لعمل نمط العلامة المائية. كان كازوني قد عمل لعقود لدى كارتييه مِلياني دي فابريانو، وفيما بعد كقائم بنقش العملة لدى بنك إيطاليا. لم يكن قد غادر إيطاليا طيلة حياته؛ مما جعل زيارته التعريفية إلى دالتون مناسَبة خاصة حتى بالنسبة إلى الشخص الذي رافقه في الرحلة. أبلغ كازوني أهل بيته بسلامة وصوله إلى نيويورك مستخدمًا اثنتين وخمسين بطاقة بريدية، كما لو أنه استكشف بنفسه ولتوِّه منابع الأمازون. كان هذا العجوز عنيدًا، وسرعان ما تشاجر مع كل تلامذته. بعد عدد من سنوات العمل المفعمة بالتوترات، افترق الطرفان. على أيِّ حال، كانت الشركة لم تَعُد بحاجة إلى مهنة كازوني. فبحلول ذلك الوقت، كان يمكن حفر أنماط العلامة المائية بمساعدة الكمبيوتر، وما كان ذات يوم يتطلَّب شهرًا من الحِرفية الفنية صار اليوم يتبلور تمامًا أوتوماتيكيًّا في غضون أسبوع. بالمناسبة، كان الإيطالي الثري الذي لم يُرزق الولد قد تفاوض للحصول على أجرٍ ثمين، وصارع الأمريكيين على كل بنس منه، وبهذا المبلغ المالي المحترم أقام ضريحًا له ولزوجته في مقبرة بلدته الأصلية بيوراكو بالقرب من محبوبه البحر الأدرياتيكي.

في نهاية عام ٢٠٠٣م، بدأ مكتب سكِّ وطباعة العملة في مهمة إصدار جديد للدولار، وهي الثالثة في غضون عشر سنوات. طُرحت الورقة الجديدة فئة ٢٠ دولارًا للتداول أولًا، وتلتْها بعد ذلك بسنة ورقة جديدة فئة ٥٠ دولارًا. كما أظهر المكتب أيضًا ألوانه عندئذٍ. فلأول مرة في تاريخ الدولار الأمريكي، لجأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى طباعة خلفية ملونة، وإن كانت بتلوين مخفَّف؛ إذ لم يكن الكونجرس — الذي له الكلمة العليا — ومجلس الاحتياطي الفيدرالي — المكلف بتصميم الأوراق — جاهزَيْن لإضافة مزيد من الألوان. كانا يخشيان إشعار المواطنين بمزيد من عدم الأمان بفعل التغييرات المفاجئة في مظهر الدولار. ومع ذلك فإن الورقتين الجديدتين فئة ٢٠ و٥٠ دولارًا يجري بالفعل تزييفهما بمثابرة مثلها مثل كل الأوراق فئة ١٠٠ دولار التي طُرحت للتداول منذ عام ١٩٩٢م؛ حيث توجد نسخ من إصدار اﻟ ١٠٠ دولار الجديدة كلها بلا استثناء وبجودة الورقة السوبر. لقد راهن خبراء على المدة التي ستستغرقها ورقة اﻟ ١٠٠ دولار من الإصدار الجديد المقرَّر طرحه في عام ٢٠٠٦م قبل أن تظهر أيضًا كورقة سوبر.

مَواطن ضعف اليورو

عندما ابتكرت البنوك الأوروبية المركزية الاثنا عشر عملتها المشتركة، كانت قد درست بالطبع مشكلات الدولار. فحجم سوق اليورو وحده كان سيُتيح لمزيِّفي النقود إمكانيةً للتوزيع والربح تفوق كثيرًا أيَّ مدًى وصلتْ إليه أيٌّ من العملات الوطنية الاثنتي عشرة التي انضوتْ في اليورو. كان من المتوقَّع كذلك أن عصابات التزييف الدولية، عند اختيارها بين الدولار واليورو، ستركِّز مُذ ذاك فصاعدًا على العملة الأسهل في استنساخها. كان يفترض أن يكون اليورو، بخصائصه الأمنية المتعددة والمعقدة، أكثر أمنًا من الدولار؛ ومن ثم زُوِّد اليورو بأحدث الخصائص الأمنية؛ إذ حُشر في الأوراق ما لا يقل عن ست وعشرين خاصية أمنية. أُعلن اليورو «العملة الأكثر أمنًا في العالم». أوراق الفرنك السويسري هي وحدها المثقلة أكثر من اليورو بالخصائص الأمنية؛ إذ تشتمل على اثنتين وثلاثين خاصية أمنية، وإنْ كان بعضها عفَّى عليه الزمن الآن.

بعد مرور أربع سنوات على إدخال اليورو كعملة قانونية، أعلن البنك المركزي الأوروبي رسميًّا أنه راضٍ عن عمله. أوراق اليورو الزائفة التي سُحبت من التداول وحُلِّلت في النصف الأول من عام ٢٠٠٥م، لا تظهر في عددها وقيمتها إلا زيادة طفيفة مقارنةً بالنصف الأول من عام ٢٠٠٤م. يرى البنك المركزي الأوروبي أن مشكلة التزييف استقرَّت في أعقاب معدل الزيادة المعترف به في فترة بداية ظهور اليورو. قياسًا على اﻟ ٩٫٧ مليارات ورقة يورو المُصدَرة بنهاية عام ٢٠٠٥م، فإن اﻟ ٦٠٠ ألف ورقة الزائفة التي اعتُرضت سنويًّا تدل على نتيجة مقبولة في محاولات البنك اتقاء التزييف. يبدو اليورو، بنسبته البالغة ٦٣ ورقة زائفة لكل مليون ورقة سليمة متداولة، في حالة جيدة مقارنةً بالعملات الأخرى. فبالنسبة إلى اﻟ ٢٢ مليار دولار المُصدَرة والمتداولة، تفترض التقديرات وجود ٢٠٠ ورقة زائفة لكل مليون ورقة دولار. الأرقام الدقيقة سرية للغاية بالطبع. فيما يتعلَّق باليورو، فرص الفوز باليانصيب هي في الحقيقة أكبر من احتمال وصول ورقة زائفة إلى يد المرء. وبشعار البنك المركزي الأوروبي الإعلاني في حملته ضد أوراق اليورو الزائفة — «الْمس، انظر، أمِل» — يمكن للمستهلك أن يكشف عن أي ورقة يورو زائفة، هكذا تقول الرسالة المُطَمْئِنة.

لا يمكن التثبُّت من إحصائيات التزييف الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي بالرجوع إلى البيانات الوطنية؛ حيث ترك البنك المركزي الأوروبي لكل بلد في منطقة اليورو حرية تحديد إلى أيِّ مدًى يمكنه أن يكشف النقاب عن أرقامه الوطنية بشأن التزييف، مفسِّرًا هذا بقوله إن الاثني عشر بنكًا طَبَّقت من قبلُ سياسات مختلفة بشأن إحصائيات التزييف. ففي أيام الفرنك، كانت فرنسا صاحبة أكبر مشكلة تزييف نقود في أوروبا، وهي حقيقة طالما أُخفيت عن الجمهور. وحتى في يومنا هذا، يحلو لبنك فرنسا ممارسة حقه في إنكار المعلومات. إيطاليا وإسبانيا هما أيضًا تُؤْثران الصمت حيال هذه المسألة. البنك الاتحادي الألماني أكثر انفتاحًا. عدد أوراق اليورو الزائفة — ٨١ ألف عام ٢٠٠٤م — هو الآن أعلى مرتين مما كان عليه في زمن آخر إصدار مارك ألماني. لكن ألمانيا اعتادت أن تكون في المرتبة الرابعة على قائمة البلدان المستهدَفة بأحجام النقود الزائفة. تشير إحصائيات الشرطة إلى أن أعداد أوراق اليورو الزائفة التي اعتُرضت في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا تزيد مرتين أو ثلاثًا عنها في ألمانيا. أما البلدان الصغيرة كفنلندا وأيرلندا والنمسا فقلما شهدت أيَّ تزييفات خلال زمن عملاتها الوطنية، ولم تكن هناك مشكلة كبيرة تتعلَّق بالتزييف في بلجيكا وهولندا. أما اليوم فكل هذه البلدان تصارع تزييفات اليورو المتزايدة بسرعة. ففي عموم أوروبا، وأيضًا خارج منطقة اليورو، حلَّت أوراق اليورو الزائفة الآن محل الدولارات الزائفة. ومحال صرف العملة التي كانت ذات يوم من سمات أوروبا، والتي كانت تمارِس خط رقابة أماميًّا فعالًا ضد النقود الزائفة في معاملات صرف العملة الأجنبية، لم تعد موجودة. تكظم البنوك المركزية غيظها وتُطْبِق فمها احترامًا للبنك المركزي الأوروبي.

لا عجب في هذا؛ إذ كان الإنتربول قد أقرَّ في مؤتمره الدولي عام ٢٠٠٢م في أمستردام قائمة طويلة بالمطالب اللازمة من أجل توفير حماية أفضل لأوراق النقد. نصَّت هذه القائمة صراحةً على طباعة الإنتاليو من لوح فولاذي لكلا جانبَي أوراق النقد، والإنتاليو من لوح فولاذي للأرقام الدالة على الفئة، والطباعة الفوقية للكاينجرام بالإنتاليو من لوح فولاذي وإضافة خيط أمني أعرض. أصدر الإنتربول قراره وعينُهُ على اليورو. لكن مطالب الإنتربول تم تجاهلها. لم يَحدُث هذا توفيرًا للمال، بل بسبب «المصالح الوطنية المهيمنة»، كما جاء في «تقرير التزييف لسنة ٢٠٠٤م» الصادر عن الشرطة الاتحادية السويسرية حول تزييف اليورو المتزايد حتى في سويسرا. كشف تقرير الحالة، المتاح على الإنترنت، بوضوح عن الاضطرار إلى تخفيض معايير الأمن مرارًا بسبب الاعتبارات السياسية المرتبطة بمحاولة استيعاب مختلف شركات طباعة النقد.12 من الواضح أن هذا إشارة إلى شركات طباعة نقد حكومية معيَّنة شاركت في طبع اليورو. وكما قال المدير المسئول عن طباعة النقد ببنك مركزي خارج منطقة اليورو بأسلوب دبلوماسي، فإن «اليورو دفع ثمن» أمنه؛ لأن العملة وُحِّدت من حيث نشأتها لا من حيث إنتاجها. الأمر الخطير بخاصة هو مَوَاطِن الضعف على المستوى الأول من الخصائص الأمنية، وهي التي طُوِّرت خِصِّيصَى لكي يتأكد المستهلكون من أصالة الورقة. حتى قبل إدخال اليورو، كان خبراء أمن أوراق النقد المخضرمون يقولون — بشكل غير رسمي — إن المستوى الأمني الأول للورقة النقدية المخطَّط إنتاجها ليس كافيًا؛ فشعار «الْمِس، انظر، أمِل» لا يفيد شيئًا إذا زُيِّفت كل الخصائص الأمنية على المستوى الأول. في صيف عام ٢٠٠٥م مثلًا، وبحسب معلومات من المحققين الجنائيين، ظهرت ورقة جديدة زائفة فئة ٢٠٠ يورو، واجتازت بسهولة كل أجهزة الفحص بالبنوك. ففي هذه الورقة — التي سمِّيت «٢٠٠ بي ٣» ويشتبه أنها جاءت من مدينة فيلبَّة البلغارية التي تُقام فيها سوق تجارية دولية — حتى الكاينجرام يتألَّق بألوان مختلفة عند إمالته. وكما يقال فإن هذا النوع من الأوراق فئة ٢٠٠ يورو الزائفة يتمتع بمستوى جودة يقترب إلى حد كبير من جودة الورقة السوبر. إن ما نسبته ٤٠ في المائة من أوراق اليورو الزائفة في ألمانيا، ضمن فئات معيَّنة، يمضي دون التعرف عليه ولا تعترضه إلا أجهزة الفحص المتطورة لدى البنك الاتحادي أو فروعه، وهي نسبة لم تُعرف قط من قبل. بل وهذه النسبة أعلى في بلدان أخرى. لكن عندما تشقُّ ورقة نقدية زائفة طريقها حتى تصل إلى البنك المركزي، لا تكون لدى الشرطة وسيلة لاقتفاء أثرها. من الواضح أن التجار والمستهلكين على السواء يجدون عناءً في التعرف على أوراق اليورو الزائفة، أو ربما لا يريدون التعرف عليها كي يتجنَّبوا تكبُّد الخسارة؛ فمن يسلِّم — كما يقتضي القانون — ورقة نقد زائفة إلى الشرطة يعاقَب فعليًّا على أمانته بعدم تلقِّيه تعويضًا من أحد عن خسارته. وهنا نجد تناقضًا لا يمكن استيعابه في موقف محاربة التزييف. وقد بدأ مزيد ومزيد من محالِّ البقالة ومحطات الوقود التي تعرَّضت للغش في هولندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا تعلن أنها لم تَعُدْ تقبل أوراق نقد تبدأ من ١٠٠ يورو.

تسعى البنوك المركزية عادةً إلى التهوين من شأن المشكلات القائمة مع النقود الزائفة. فالإحصائيات تُتيح إمكانيات كثيرة للتستر، بل ويلعب استقلال أجهزة الشرطة الوطنية دورًا مهمًّا في هذا؛ إذ توجد مكاتب معظم وحدات شرطة مكافحة التزييف في منطقة اليورو في مقر بنكها الوطني، وهذا التقارب لا يشجِّع مطلقًا على الإعلان عن النقود الزائفة. علاوة على ذلك، فإن إحصائيات البنك المركزي حول النقود الزائفة لا تغطي إلا النقود التي تُعترض «خلال عملية التداول»، أما النقود التي تصادرها الشرطة «خارج التداول» فلا تشملها هذه الإحصائيات، مع تبرير ذلك بأن هذه النقود الزائفة لم تتسبَّب بعدُ في ضرر اقتصادي. زِدْ على ذلك أن بعض المصرفيين المركزيين يعتقدون أن التحقيقات السرية التي تقوم بها الشرطة وتشمل طلبًا مصطنعًا على النقد الزائف تزيد في الواقع المعروض من النقود الزائفة. لكن النقود الزائفة التي تعجز الشرطة عن اعتراضها اليوم بمداهمات وعمل سري تصل إلى التداول غدًا؛ مما يتسبب في ضرر حقيقي. وكلما كان اكتشاف أوراق اليورو الزائفة أصعب على المستهلكين، ازدادت الأهمية التي تكتسبها تحقيقات الشرطة.

النزاع بين البنوك المركزية والمحققين الجنائيين على إحصائيات التزييف له جذوره. فإذا كان للمرء أن يأخذ في الحسبان أوراق اليورو الزائفة التي اعتُرضت قبل أن يتسنَّى تداولُها — وهو موقف تسانده الأرقام المأخوذة من وزارة الداخلية الاتحادية الألمانية في برلين13 — فسيكون على البنك المركزي الأوروبي مراجعة بياناته حول النقود الزائفة بالزيادة بمقدار الثلث. فوفقًا لهذه البيانات، كان هناك في عام ٢٠٠٤م ما يقرب من ٩٠٠ ألف ورقة يورو زائفة اكتُشفت في منطقة اليورو، وليس ٦٠٠ ألف حسبما أفادت إحصائيات البنك المركزي الأوروبي. والبيانات غير المنشورة المستمدة من الشرطة للشهور التسعة الأولى من سنة ٢٠٠٥م تُظهر زيادة أخرى نسبتها ١٠ في المائة في عدد الأوراق الزائفة، بل وزيادة نسبتها ٢٢ في المائة في القيمة إذا أخذ المرء في اعتباره فئتها، مقارنةً بالأشهر التسعة الأولى من السنة السابقة لها.14 علاوة على ذلك، عندما يتذكَّر المرء أن أكثر من ١٥ في المائة من اﻟ ٩٫٧ مليارات ورقة يورو المُصدَرة محتفَظ بها خارج منطقة اليورو، فإن فجوة التزييف بين اليورو والدولار تذوب كالثلج تحت أشعة الشمس. لكن الدولار موجود منذ نحو ١٥٠ سنة واليورو عمره أربع سنوات فقط، وحتى المزيِّفون يحتاجون وقتًا للإحماء. واضح أن أمن اليورو يعاني تحت وطأة عيبه الخِلْقي السياسي.

يرى جهاز الشرطة الأوروبية (يوروبول) أيضًا الموقف فيما يخص أوراق اليورو الزائفة أكثر تهديدًا بكثير مما يراه البنك المركزي الأوروبي، حتى وإنْ لم يقُلْ أحد هذا علانيةً قط. تأسَّس اليوروبول، الذي يتخذ من لاهاي مقرًّا له، عام ١٩٩٩م بمشاركة كل بلدان الاتحاد الأوروبي، استجابةً للزيادة في الجريمة العابرة للحدود. حظيت المعركة ضد النقود الزائفة بأولوية سياسية هنا، لكن اليوروبول في البداية لم يُمنح ميزانية مستقلة، ولم يُجعل بمنزلة دار مقاصة للتقارير والمعلومات حول جرائم التزييف. ولا يملك اليوروبول إلا إمكانية وصول انتقائية إلى «نظام رصد التزييف»، وهو بنك البيانات التحليلية الخاص بالبنك المركزي الأوروبي وبنوكه المركزية الاثني عشر. ولا يجوز لليوروبول إدخال بيانات في هذا النظام. وعلى عكس جهاز الاستخبارات السرية الأمريكي، نجد صلاحيات اليوروبول الاستقصائية مقيَّدة؛ إذ إن تفويض جهاز الشرطة الأوروبية مقصور بشكل صارم على أقاليم بلدان الاتحاد الأوروبي. يظل الإنتربول محور التنسيق لمحاربي الجريمة حول العالم، وكذلك لمكافحة التزييف خارج الاتحاد الأوروبي. وحتى داخل الاتحاد الأوروبي، غير مسموح لليوروبول بإجراء تحقيقاته الخاصة، ويظل هذا حقًّا سياديًّا يعود إلى البلدان الأعضاء كلٍّ على حِدَة. ولا يوجد مدَّعٍ عام أوروبي؛ حيث أُوقف استحداث هذا المنصب المهم عندما رُفض الدستور الأوروبي من قِبَل شعبَيْ فرنسا وهولندا. ومن ثم تقتصر مهمة عملاء اليوروبول على التنسيق، ودائمًا ما يكون عملاء اليوروبول الذين ينفذون مهام مشتركة مع قوى الشرطة الوطنية غير مسلحين. فلا يوجد ما يسمى الشرطي الأوروبي إلا على شاشة التليفزيون. على الرغم من ذلك، أبرم جهاز الشرطة الأوروبية الآن ما يسميه «اتفاقيات عملياتية» مع بلغاريا ورومانيا والولايات المتحدة، تنص على تبادل الأفراد والبيانات. لكنَّ الأمريكيين يجدون صعوبات في هذا التبادل للبيانات، على نحو ما بيَّنَّا بالفعل في سياق آخر.

هذه القيود العملياتية على اليوروبول تُثقل كاهله بشدة، باعتبار أن عصابات التزييف قلما تحترم حدود الاتحاد الأوروبي الخارجية. فأفضل أوراق زائفة فئة ٥٠ يورو مثلًا أنتجتْها عصابة «الكامورا» في نابولي والمافيا حول مارسيليا، وهي توزَّع بشكل تفضيلي في منطقة اليورو على أيدي عصابات ليتوانية (اسمها الحركي «السائر البلطيقي»)، على الأقل فيما يخص أوراق نابولي الزائفة. وتلعب بلدان أوروبا الشرقية دورًا رئيسيًّا ليس فقط في توزيع النقود الزائفة بل أيضًا في إنتاجها. فمنذ انهيار الشيوعية، يقف آلاف من فناني الرسوم الجرافيكية والمصورين البارعين والعديد من اختصاصيي الطباعة عاطلين في الطرقات، وكثير منهم لا يعرفون كيف يُفترض أن يُطعِموا عائلاتهم، وجاهزون لقبول أيِّ وظيفة. يذكِّرنا الموقف نوعًا ما بانهيار شارع فليت ستريت في لندن، الذي تسبَّب في بطالة جيش من حِرَفيِّي الطباعة؛ حيث سجَّلت الشرطة البريطانية طفرة مدهشة في أوراق الجنيه الزائفة في ذلك الوقت. وفي يومنا هذا، بلغاريا وليتوانيا وبولندا هي عواصم تزييف اليورو. الرومانتيكية الاجتماعية لا صلة لها هنا بالطبع. ثمة إرث شيوعي آخر ينبغي ذكره هنا. فحتى إبَّان الشيوعية، كان البلغاريون يُنظَر إليهم باعتبارهم اختصاصيي التزييف بين الشعوب الاشتراكية الشقيقة. فكان المزيِّفون البلغاريون، بناءً على طلب جهاز الأمن الوطني الروسي، ينسخون كل شيء، من الوثائق الثبوتية الشخصية والشهادات الجامعية إلى أوراق النقد. كانت جودة صنعتهم مذهلة. واليوم يخضع مشهد التزييف البلغاري من جديد لسيطرة عملاء جهاز الأمن الوطني السابقين هؤلاء؛ حيث ينتجون أوراق يورو زائفة، وكذلك أوراق دولار، ذات مستوى جودة مقلق، ويحمون هذا المضمار بِيَدٍ حديدية، فلا أحد يمارس العمل كمزيِّف في بلغاريا دون إذن منهم. يبدو أن «الشبكات القديمة» المتبقية من أزمنة الشيوعية هي أهم سمات أوساط التزييف الأوروبية الشرقية؛ حيث تلعب دورًا في كل البلدان التي تنفِّذ إصلاحات، لكن يُنظر إليها باعتبارها تتمتع بنفوذ خاص في بلغاريا وبولندا ورومانيا والمجر. هؤلاء الرفاق القدامى من عالم السياسة والجيش والشرطة دائمًا ما يحملون مفاجآت في الحرب ضد مزيِّفي اليورو. في إحدى الحالات، لزم إلغاء تحقيق سري بشأن أوراق زائفة في بلغاريا في اللحظة الأخيرة؛ لأن زوجة ضابط عسكري رفيع، وكانت تعمل في تحويلة هاتف قيادة الشرطة الوطنية، سرَّبت معلومات. كذلك في بلغاريا، اختفى أثر آلة خاصة لطبع النقد فجأةً على نحو غريب؛ لأن مَن استوردها ابنُ سياسيٍّ يتمتع بنفوذ. وفي بولندا، سُرقت شحنة تضم أطنانًا من ورق طبع نقد مغشوش من مستودع جمركي خاضع للحراسة. كان يفترض أن يكون هذا الورق المُؤَمَّن المغشوش بمنزلة فخٍّ، لكنَّ الواضح أن اللصوص كانوا على دراية تامة بالأمر؛ لأنهم حرصوا على ألا يتركوا وراءهم إلا جهاز التتبع الإلكتروني والميكروفون اللذين كانا قد أُخفيا في الورق. وبالمناسبة، ظهر هذا الورق من جديد فيما بعد، على هيئة أوراق روبل روسي زائفة؛ حيث دفع بلد كبير مجاور لروسيا فاتورة طاقته في موسكو بهذه الأوراق.

يومًا بعد يوم يتحوَّل وسطُ التزييف إلى وسط عالمي؛ حيث يجري الآن الإبلاغ عن الوقائع الأولى التي تنطوي على أوراق يورو زائفة في الخارج بعد الكشف عن مطبعتين تزيِّفان أوراق اليورو في كولومبيا. والحقيقة أن الكولومبيين كان يُنظَر إليهم باعتبارهم اختصاصيين في أوراق الدولار الزائفة. وفي كوريا الجنوبية وأستراليا، فُكِّكت عصابات توزيع أوراق يورو زائفة، وإن كان هذا لم يُعلَن عنه على نطاق واسع. بل وتوجد بوادر أولى على تزييف اليورو بدوافع سياسية؛ ففي أوائل عام ٢٠٠٥م، فُكِّكت عصابة دولية تضم خمسة وثلاثين مزيِّفًا، وأُبلغت وسائل الإعلام بالضربة الناجحة التي وجَّهتْها الشرطة الهولندية بالتعاون مع اليوروبول، لكن أحدًا لم يخبر الصحفيين بالعثور على كثير من «الأدبيات الإسلامية»، بالإضافة إلى أسلحة، بحوزة هذه العصابة. كانت هذه هي الحالة الأولى من هذا النوع التي ترتبط بأوراق يورو زائفة، وربما تكون مقدِّمة لأشياء أخرى ستأتي. حاليًّا، تشعر الشرطة بالقلق خصوصًا من المزيِّفين الهنود والماليزيين، الذين يُنتِجون أوراق نقد زائفة من الطراز الأول. ولو اكتشفوا اليورو — كما قال مصدر خارج الاتحاد الأوروبي — فسيكون من الصعب فرز منتجاتهم.

بالنظر إلى هذه التطورات، لا يبدو البنك المركزي الأوروبي مقنعًا جدًّا عندما يقول إن كل شيء تحت السيطرة. ويذكِّرنا هذا، أكثر ما يذكرنا، بالموقف تجاه تهديد المخدرات في سنواته الأولى. في هذه الأثناء، احتلَّتْ جرائم المخدرات المركز الأول في إحصائيات بلاغات اليوروبول، تليها في المركز الثاني جرائم تزييف أوراق النقد. على الأقل، استفاد اليوروبول شيئًا من هذا، فأنشأ في لاهاي بنكًا خاصًّا به للبيانات التحليلية، المعروف باسم «سونيا»، ستُخزن فيه كل بيانات تزييف اليورو المستمدة من الاتحاد الأوروبي والبلدان التي لديها اتفاقيات عملياتية معه؛ حيث يسعي اليوروبول إلى الاستقلال عن بيانات البنك المركزي الأوروبي.

حدود اليورو الجديدة

في ضوء المشكلات الأمنية المذكورة، لن يطول على الأرجح بقاء إصدار اليورو الحالي «إي يو-إيه»، ومن المتوقع أن يُستبدَل به — على مراحل — إصدار جديد «إي يو-بي» قبل نهاية هذا العقد. يقال إنه لا يفترض الإثقال على المواطنين من جديد ﺑ «صدمة كبيرة» أخرى؛ وأعني تحويلًا مفاجئًا لكل الفئات. ويمكن أن يُضيف المرء: ولا يُفترض الإثقال بهذا على المطابع الحكومية أيضًا. في الوقت نفسِه تقريبًا، يُفترض أن يدخل اليورو البلدان الصغيرة المرشحة للانضمام إلى المنطقة، أما المرشحون الثلاثة الكبار (المجر وبولندا والجمهورية التشيكية) فلن ينضموا الآن على الأرجح. هؤلاء الثلاثة هم وحدَهم الذين يَملِكون مطابع نقد. تجري الاستعدادات للإصدار «إي يو-بي» منذ فترة، بانخراط من الفرق العاملة المعنيَّة. سيكون تصميم إصدار الأوراق الجديدة قضية سياسية حساسة. وإكرامًا لليورو، يأمل المرء في أن يلتزم مخطِّطو الإصدار الثاني من أوراق النقد بالتقليد الأوروبي في صورة وشكل الورقة النقدية. الفرص هنا ضئيلة في أحسن الأحوال؛ حيث تضاءلت قيمة الصورة كثيرًا كخاصية أمنية مع ارتقاء مستوى تكنولوجيا النسخ، وحتى البنك الوطني السويسري سيتخلَّى عن الصور في الإصدار الجديد من أوراق الفرنك، المخطَّط خروجه إلى النور عام ٢٠١٠م. لكن وجود استمرارية في التصميم أمر له قيمته المتزايدة، حتى فيما يخص اليورو. المسألة مسألة هيبة، ومسألة ثقة. ومواطنو منطقة اليورو يَعُون تمامًا أن طرح عملة مشتركة تسبَّب في تآكل هائل في القوة الشرائية الحقيقية، حتى على الرغم من نَفْيِ البنوك المركزية هذا بشدة. ومن أجْل تجنُّب المزيد من تقويض الثقة، ينبغي ألا يتغير مظهر أوراق اليورو الجديدة أكثر مما ينبغي. لسوء الحظ لم يُسْدِ آباء اليورو أنفسهم والمستهلكون صنيعًا عظيمًا بوضع تصميم تخطيطي للإصدار الحالي. عند سؤال الناس عن الصورة المطبوعة على ورقة يورو معينة، يَعجز معظمهم عن تذكُّرها على الإطلاق. فإذا كان المفترض أن تساعد أوراق النقد على ترسيخ حسٍّ مشترك بالهوية، فإن نتيجة تصميم اليورو هذه مخيِّبة تمامًا للآمال المعقودة على العملة المشتركة. لكن فيما يبدو أن المسئولين يتمسكون بأمور عقيمة تتعلق بالتصميم.

لا شك في ضرورة تحسين فعالية المستوى الأول من الخصائص الأمنية، وهي التي يلاحظها المستهلكون، في جيل اليورو التالي. فلم يَعُدِ الكاينجرام والحبر المتغير بصريًّا، بهيئتهما الفنية الحالية، يوفران حماية كافية. ثم هناك طباعة الإنتاليو على الجانبين، التي ينتقدها البعض بسبب تكلفتها الزائدة ومشكلاتها الفنية عند الطبع، فيما يُثني عليها آخرون لأنها تتيح التحقق من أصالة الورقة بشكل شبه تلقائي. من نافلة القول أنه من بين أنصار طباعة الإنتاليو على الوجهين شركات طباعة النقد الخاصة الرفيعة الأمن، المهتمة بمعدلات تشغيل طابعاتها الباهظة التكلفة. ومن ثم، هناك بحث محموم عن خصائص أمنية جديدة يجري على قدم وساق حول العالم. وقد انصبَّ التأكيد في مثل هذه الأبحاث على موادَّ يمكنها تغيير مظهرها بسرعة. فكل شيء يتحرك ويغير مظهره بسبب تغيُّر زاوية الرؤية أو بسبب تغيُّر الظروف الخارجية يزيد التزييف صعوبة. لا يسعنا هنا إلا تناول بعضٍ من الأفكار والاقتراحات الكثيرة. فكرة وضع رقيقة مجهرية في ورقة النقد مثلًا حازت كثيرًا من الاهتمام، ربما أكثر مما ينبغي؛ حيث قدَّمها صانعوها بمهارة. لكن ستكون هناك حاجة لأعداد بالمليارات من هذه الرقائق المجهرية، وستكون مكلِّفة جدًّا على المدى الطويل. علاوة على ذلك، سيكون على كل مواطن أن يتنقل حاملًا جهازًا يستطيع قراءتها، وإلا ستكون الرقيقة المجهرية عديمة القيمة بالنسبة إليه. الأحبار المتلونة حراريًّا والخيوط الأمنية الحساسة للحرارة هي أيضًا محل نقاش. هذه الخصائص تُغير مظهرها بسرعة عند لمسها باليد. بالطبع ستبدو أوراق النقد عندئذٍ مختلفة في الصيف عنها في الشتاء، وفي الغرف الدافئة عنها في الهواء الطلق. لكنَّ تطابُق الأوراق في مظهرها تطابقًا مطلقًا شرط لازم لمحاربة المزيِّفين. كما أن أثر التلوُّن الحراري يَبلَى أيضًا بمرور الوقت، حتى يتلاشى تمامًا في النهاية. ربما لن يمثل هذا مشكلة كبيرة في حالة أوراق النقد من الفئات الدنيا؛ لأنها عادةً ما تُعدَم بعد بضعة أشهر من التداول، لكن سيمثل مشكلةً مع الأوراق الأعلى فئةً. الورقتان فئة ٢٠٠ يورو وفئة ٥٠٠ يورو تحديدًا تحتاجان إلى حماية إضافية من التزييف؛ لأنهما تعيشان عمرًا أطول بكثير. ثمة إمكانية أخرى هي استخدام البِكْتِريورودوبسين، وهي مادة للاستعمال البصري طوَّرها باحثون من معهد ماكس بلانك في ميونخ وجامعة فيلبس في ماربورج. فهذا البروتين يغير لونه فورًا مع تأثير الإضاءة، ويتسم أيضًا بقدرة استثنائية على تخزين البيانات (واحد ميجابت لكل ستة سنتيمترات مربعة). غير أن البكتريورودوبسين، الذي يُستخلص من الملح الصخري، ما زال إنتاجه يتكلَّف حاليًّا نحو ٦٠٠ دولار للجرام. وأيُّ مادة وسْمٍ جديدة، بالإضافة إلى كفاءة تكلفتها، يجب أيضًا أن تجتاز الاختبارات المعملية الصارمة للغاية، وعندها فقط تكون جاهزة لاختبار طباعي تجريبي. ليست جميع الخصائص تحتفظ بسماتها التي كانت مبشِّرة جدًّا في البداية في الاختبار التجريبي، عندما تلامس عامل الربط الموجود في الحبر، على سبيل المثال. مختبرات البنوك المركزية وشركات طباعة النقد هما الوحيدتان اللتان يمكنهما تقديم إجابة حاسمة بشأن خاصية أمنية جديدة. بطبيعة الحال، يحاول كل واحد توجيه مسار التطوير في الاتجاه الذي يناسبه أكثر ما يكون ويعوق المنتج المنافس، حتى باللجوء إلى القضاء. ولا ننسَ أن أموالًا طائلة تكون معرضة للخطر. وكما جاء في مطبوعة للبنك الاتحادي، «يجوز أن تكون ورقة النقد جميلة، لكن «يجب» أن تكون مؤمَّنة.»15 والحقيقة أن التجربة الأولى مع اليورو لم تستوفِ أيًّا من الأمرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤