الفصل السادس

علم البيئة الميكروبي والتطور

جميع الأحياء كانت مجردَ كائنات حية دقيقة طَوال ٢٫٦ مليون سنة، قبل أن تتطوَّر الكائنات الحية متعددةُ الخلايا. ظل العديد من الأنظمة البيئية ميكروبيةً بالكامل، وما زالت الكائنات الحية الدقيقة تُسيطر على بيئاتٍ تبدو خاضعةً للنباتات والحيوانات. فالأرض كوكبٌ ميكروبي إلى أبعدِ حد. وإذا تطورَت الحياة في أي مكان في الكون، فمن المؤكَّد أن الميكروبات، وليس الكائناتِ الحيةَ الأكبر، ستكون أكثرَ السكان عددًا. ينبع السبب الذي يدعو إلى الثقة في هذا التأكيد من أخذِ تدفُّق الطاقة في غلافنا الحيوي في الاعتبار.

تُقدم لنا أنشطةُ الكائنات الحية الدقيقة الأساسَ الكيميائي الحيوي اللازم لحياة النباتات والحيوانات. قد لا يكون هذا واضحًا للوهلة الأولى؛ لأننا نعلم أن الطاقة الشمسية تدعم أغلبَ أشكال الحياة من خلال عملية البناء الضوئي، كما أن النباتات هي الكائنات المنتِجة الرئيسية على الأرض. تُهيمن النباتات على المناطق المنتجة من الأراضي، وتفوق الحيوانات بمعامل مقداره ١٠٠٠، لكن كُتلتها الحيوية تعادل على الأرجح بدائيات النواة. علاوةً على ذلك تُمثِّل بدائيات النواة نسبةً أكبرَ بكثير من الكتلة الحيوية؛ وذلك لأن معظم الكربون في النباتات محتجَز داخل البوليمرات المكوِّنة لجدران الخلايا التي يتألَّف منها الخشب.

وعلى الرغم من أن نمط حياة النباتات معتمِدٌ على التغذية الذاتية، فإنها ليست كائناتٍ مكتفيةً ذاتيًّا. فهي تعتمد على تفاعلاتِ الأكسدة والاختزال المعقَّدة التي تقوم بها الميكروباتُ والتي تُخصب التربة عن طريق تثبيت النيتروجين، وتحويل النيتريت إلى نترات، وتعزيز توافر الفسفور والعناصر النزرة، وإعادة تدوير المواد العُضوية (انظر الفصل الثاني). تتَّسم الكائناتُ الحية الدقيقة حقيقية النواة بالوفرة أيضًا، وتُعد ضروريةً لتغذية النباتات والحيوانات وبقائها. تمدُّ الفطرياتُ الجذرية النباتات بالمغذِّيات والماء وتُحسِّن من بِنْية التربة. أما الفطريات الرمية والأميبا والطلائعيات المهدبة فتتنافس من أجل الموارد وتُحرِّك دورتَي الكربون والنيتروجين، بالاشتراك مع بدائيات النواة الأكثر عددًا. تعتمد النباتات والحيوانات التي تتناول هذه المغذِّياتِ على الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة.

أهمية الكائنات الحية الدقيقة في تدفُّق الطاقة أكثرُ تجليًا في المحيطات؛ حيث لا توجد نباتات. البكتيريا الزرقاء والطحالب حقيقيَّة النواة وحيدةُ الخلية هي أنشطُ الكائنات ضوئيةِ التغذية في ماء البحر. والميكروبات ضوئيةُ التغذية والميكروبات غيرُ ضوئيةِ التغذية هي الكائنات المسيطرة على البيئة البحرية؛ إذ تُسخِّر الطاقةَ اللازمة لدعم التفاعلات البيئية المعقَّدة بين الحيوانات المائية. تُمثِّل البكتيريا والعتائق ٩٠ بالمائة من الكتلة الحيوية للمحيط، وتمتلئ الأسطحُ المائية بالطحالب حقيقية النواة. تمتصُّ الطحالب الزرقاء البحرية من ثاني أكسيد الكربون ما يُعادل المقدارَ الذي تمتصُّه جميعُ الغابات الاستوائية المطيرة، كما تحتجز الدياتومات العالقة المقدارَ نفسَه من الكربون. بهذين معًا، يُعادل نشاطُ الكائنات الحية الدقيقة ضوئيةِ التغذية في البحار الأنشطةَ المرتبطةَ بعملية البناء الضوئي التي تقوم بها النباتاتُ على اليابسة. تُعد الفيروسات، لا سيما البكتيريوفاج، أكثرَ الكيانات التي تحتوي على المادة الوراثية وفرةً في المحيطات. وتشير التقديرات التقريبية إلى أن انحلال الخلايا بواسطة الفيروسات البحرية يقضي على ٢٠ إلى ٤٠ بالمائة من إجمالي البكتيريا كلَّ يوم. هذا التحوُّل المذهل الذي تُحدِثه الفيروسات في الميكروبات العالقة يُخَصِّب الماء أسفل سطح البحر المضاء بنور الشمس.

تدعم الكائناتُ الحية الدقيقة كيميائيةُ التغذية ازدهارَ الأنظمة البيئية الموجودة حول المُنَفِّسات المائية الحرارية والمرتشحات الباردة فوق سطح البحار، والتجمُّعات القديمة من بدائيات النواة والفطريات التي تنمو في الرواسب السحيقة على أعماقٍ تبلغ مئات الأمتار. قد تَستعمِر البكتيريا القشرةَ الأرضية إلى أعماقٍ تبلغ بضعةَ كيلومترات، قبل أن تُمحى بفعل الحرارة الصادرة من طبقة الوشاح. مقدارُ الكتلة الحيوية لهذا الميكروبيوم المخفي، الذي يُسمى «المحيط الحيوي العميق»، غير معلوم، لكنه من الممكن تصورُ احتمال أنه يفوق جميعَ الكائنات الحية على السطح عددًا. هذه الفكرة المثيرة للجدل تُوضِّح القدر الكبير الذي لا يزال ينبغي علينا تعلُّمه حول علم البيئة الميكروبي. كما أنها تُوسع من نطاق الظروف التي تجعل الحياةَ صالحة على كوكبٍ ما، وتَزيد من احتمالية أن تكون الكائنات الحية الدقيقة قد تطوَّرَت في مكانٍ آخر في نظامنا الشمسي وفي مناطقَ أبعدَ من الكون.

تُمَثِّل التربةُ للكائنات الحية الدقيقة موئلًا أكثر تعقيدًا من الأنظمة البيئية البحرية؛ لأن لها بِنْيةً ثلاثيةَ الأبعاد وكيمياء تتباينُ حسَب المسافات التي تتراوح بين تراكيبَ مِجهريةٍ وجغرافية. تتحدد البنية المادية للتربة وَفقًا لنِسَب كلٍّ من حبَّات الرمل والشظايا الدقيقة من الطَّمْي، وجُسيمات الطين التي تُعد أصغرَ حتى من البكتيريا. عادةً ما تكون التربة الرملية جيدةَ التهوية، لكنها أقلُّ خصوبةً من أنواع التربة التي تحتوي على نِسَب أكبرَ من الطمي والطين. للطين بنيةٌ بِلَّورية تجذب الأيونات من الماء المتخلِّل عبر التربة، ويمكنه أن يتبادلَها مع جذور النباتات. ونظرًا إلى أن جُسيمات الطين صغيرةٌ جدًّا، فإنها تُوفر مساحةً سطحية هائلة لهذه التفاعلات الكيميائية؛ إذ يحتوي المتر المكعَّب من الطين على مساحةٍ سطحية مقدارها ستةُ مَلايين متر مكعَّب. تُخَصَّب التربة بتجزئةِ الأنسجة النباتية والحيوانية وتُحللها بواسطة اللافقاريات والكائنات الحية الدقيقة. بعضُ هذه المواد العضوية تكون غيرَ قابلة للذوبان بدرجةٍ كبيرة وتُكوِّن الدُّبَال الذي يقاوم المزيدَ من التحلل لمئات الآلاف من السنوات. يؤثر هذا الدُّبَال على بنية التربة والمحتوى الرطوبيِّ والاحتفاظ بالمغذِّيات.

يظهر مستوًى آخَرُ من التعقيد عندما نعتبر أن كلَّ نوع من بكتيريا التربة له تجرِبةٌ حياتية فريدة تُشكلها التقلبات في توافر الأيونات المذابة، والتغيرات في درجات الحرارة، والاتصال بالبكتيريا الأخرى، ومهاجمة الفيروسات. يمكن للبكتيريا التحكمُ في مصائرها. فالتعبير الجينيُّ الموجود داخل الخلايا الدقيقة يُعدَّل باستمرارٍ للحفاظ على إنتاج الطاقة وتعظيم فُرَص انقسام الخلايا. كما تنتقل الخلايا المتحرِّكة التي تحتوي على أسواطٍ مغزليَّة عبر أغشيةٍ من المياه المحيطة بجسيمات التربة، استجابةً لتدرُّجات الأكسجين المذاب والمغذيات العضوية، بالإضافة إلى الشوائب المحلية من نواتج الأيض التي تُفرزها الكائنات الأخرى. أما البكتيريا غيرُ المتحركة، فتبقى في المواقع التي استوطنَتها النُّسخ «الأصلية» ما لم تُنقَل إلى مكانٍ آخَر مع ترشيح الماء، أو تنتقل برفقة أحد الديدان الخيطية.

كل حفنة من التربة عبارةٌ عن خليطٍ متنوع من الميكروبات. الأوصاف الشاملة لتأثيرات الكائنات الحية الدقيقة على كيمياء التربة لم تبدأ بعدُ في تناول التعقيد البيئيِّ لهذا الموئل. تنطبق هذه الفجوةُ الموجودة بين التأثيرات الإجمالية للتجمعات الميكروبية على البيئة المحيطة، وتفاصيل التأثيرات الكيميائية على المستوى المجهري، على كلٍّ من المحيطات وجميع الموائل البيئيَّة الأخرى. فنحن لم نتعوَّد على التفكير في النطاق المكانيِّ الذي تَشغله الخلايا المنفردةُ من البيئة، لكن هذا أمرٌ من المهم النظرُ فيه في علم البيئة الميكروبية.

يحتوي جرامٌ واحد من تربةِ غابة خِصبة على ما يُقدَّر بمائة مليون من بدائيات النواة، وقد كشَفَت الدراساتُ الميتاجينومية عن آلافِ الأنواع المختلفة من البكتيريا في العيِّنات المأخوذة من مواقعَ منفردة. من المغري أن نُطلق على هذه الكائنات المتنوعة من الناحية الوراثية وصْفَ نوع، لكننا لا نعلم إلا القليلَ جدًّا عن هذه البكتيريا، لدرجة أننا نستخدم المصطلحَين «نمط التشابه الظاهري» و«وحدة تصنيفية عاملة». يشير المصطلحان إلى التتابُعات الجينية التي تُظهِر تبايناتٍ كافيةً حتى إن هذه البكتيريا تبدو كأنها نشَأَت من تجمُّعاتٍ من كائنات حية دقيقة قد تُمثل أنواعًا مختلفة. ينبع جزءٌ من عدم اليقين من صعوبات تحديد أنواع الكائنات الحية الدقيقة. يلجأ علماءُ الأحياء إلى الاختلافات في طرق التكاثر للتمييز بين الأنواع الحيوانية، لكن «القواعد» المستخدمة في علم الحيوان وعلم النبات غيرُ مُجدية في حالة بدائيات النواة التي لا تتكاثر جنسيًّا، وأيضًا في حالة معظم الميكروبات من حقيقيات النواة. ما يَزيد طبيعةَ الأنواع الميكروبية تعقيدًا هو أن الغالبية العُظمى من ميكروبات التربة التي يمكن التعرفُ عليها باستخدام التقنيات الجزيئية لا يمكن استزراعُها. وهذا يعني عدمَ معرفة أيِّ معلومات تقريبًا عن خواصها الحيوية. ومع ذلك، فإن التنوُّع في ميكروبات التربة لافتٌ للنظر، ويُظهِر تبايُناتٍ ضخمةً بين أنواع التربة الموجودة في المواقع المختلفة التي لها خواصُّ مختلفة.

تطغى وَفْرة فيروسات التربة على عدد الكائنات الحية الدقيقة الخلوية، كما أن فيروسات البكتيريوفاج تُظهر تنوعًا وراثيًّا غيرَ محدود. ومن المقدَّر أن كل نوعٍ من البكتيريا، في التربة أو في أي موئلٍ آخر، يُعد فريسةً لعشَرة أنواع أو أكثرَ من البكتيريوفاج. وإذا كان هذا التقدير صحيحًا، فقد يدعم عشرةُ ملايينِ نوعٍ من البكتيريا مائةَ مليون نوع من العاثيات. يُمثل تطبيق مصطلح «نوع» على الفيروسات إشكاليةً أكبرَ من تطبيقه على البكتيريا، ونعتمد على تدابيرَ اعتباطية غير محسوبة تفرضها الحداثة الجينية عندما نُشير إلى أنواع مختلفة من البكتيريوفاج. تُظهِر دراساتُ تحديد التتابعات تبايُناتٍ وراثيةً هائلة بين الفيروسات التي تُصيب البكتيريا وتدلُّ السهولة التي تُحَدَّد بها الجيناتُ الفيروسية «الجديدة» على وجود مليارات الأنواع الأخرى في انتظار استكشافنا لها. تُمثل الفيروسات التي تُصيب العتائق أيضًا مستودَعاتٍ ضخمةً للمعلومات الوراثية.

تُعد البكتيريا البروتينيةُ أكثرَ أنواع بكتيريا التربة شيوعًا، تليها البكتيريا الحمضية والبكتيريا العصوانية. تتضمَّن بكتيريا التربة البروتينية البكتيريا الأرجوانية ضوئية التغذية، والزوائف والبكتيريا المخاطية. المستجذرة هي نوعٌ من البكتيريا يُكوِّن عُقدًا جذريةً في البقول وتُنتِج الأمونيا من النيتروجين الموجود في الغلاف الجوي، كما تُحول بكتيريا النترتة البروتينية الأمونيا إلى نيتريت والنيتريت إلى نترات. تُمِدُّ المستجذرة عائلَها بالأمونيا والأحماض الأمينية، وتتغذَّى على السكريات من النبات. بكتيريا النترتة من ميكروبات التربة «المستقلة» التي تحصل على احتياجاتها من الطاقة من خلال أكسدة الأمونيا والنيتريت واستخدام الإلكترونات الناتجة عن هذه التفاعلات لتكوين السكَّريات من خلال اختزال ثاني أكسيدِ الكربون. ومِن ثَم، تُعد بكتيريا النترتة من الكائنات كيميائية التغذية. وعتائق النترتة التي تؤكسد الأمونيا أكثرُ وفرةً في التربة من البكتيريا التي تُجري هذا التفاعل. يُمثل الجين (amoA) الذي يحمل شفرة الإنزيم مونوأكسجيناز الأمونيا توقيع التعبير الجيني لهذه العملية. يُعاد النيتروجين إلى الغلاف الجوي بواسطة الزوائف وأنواع البكتيريا الأخرى التي تُحوِّل النترات إلى نيتروجين. تحدث آليةُ تحرير النيتروجين هذه في ظلِّ ظروفٍ لا هوائية في أعماقٍ أكبرَ من التربة؛ حيث تَستخدم البكتيريا أيوناتِ النترات، وليس الأكسجين، بوصفها مُستقبِلاتٍ طرَفيةً للإلكترونات لأجل تفاعلات التنفُّس الخاص بها.

لا تُظهر فطرياتُ التربة أيًّا من التنوعات الأيضية لبدائيات النواة؛ فجميعها كائناتٌ كيميائية التغذية تستهلك الموادَّ العضوية التي تنتجها كائناتٌ أخرى. ومع ذلك فمصادر الغذاء هذه متنوعة جدًّا، حيث تُحلِّل الفطرياتُ المفترسة للبكتيريا والديدان الخيطية والنباتات، وغيرُها من الكائنات التي تعيش في التربة، أنسجةَ النباتاتِ العشبية والخشبية، وتحصل على دعمٍ تَغْذَوي من النباتات التي تُنشئ معها علاقةَ تكافلٍ فطري. يتراوح التنوعُ التركيبي لفطريات التربة بين كائناتٍ حية بسيطة وحيدةِ الخلية تَسبح خلاياها في التربة الرطبة، وفطريات خيطية تُحلل بقايا المواد العضوية، وفِطْر عيش الغراب الذي يُكوِّن مستعمراتٍ هائلةً تمتد على مساحةِ آلاف الهكتارات من أراضي الغابات.

تُكوِّن الفطريات أنواعًا مختلفة من العلاقات الفطرية الجذرية مع جذور النباتات (شكل رقم ٦-١). وتتضمَّن علاقات المشاركة الفطرية الجذرية الخارجية العلاقةَ بين الفطريات المكوِّنة للقبعات الفطرية وجذور الأشجار والشجيرات. تدعم هذه العلاقاتُ التكافلية أنواعَ الأشجار السائدة في الغابات المعتدلة المناخ والغابات الشمالية المتجمِّدة. تحيط الخيوط الفطرية بالجذور المتكافلة مُنتِجةً قشرةً كثيفةً، وتخترق الجدران بين الخلايا الجذرية المتجاورة مُكوِّنةً نقاطَ التقاءٍ لتبادل الماء والمغذيات المذابة. يمكن لمستعمرات الفطريات الجذرية الارتباطُ بالعديد من النباتات من النوع نفسِه، كما يمكنها تكوينُ شبكاتٍ بين الأنواع المختلفة. تُشكِّل هذه «الشبكات الفطرية الجذرية المشتركة» تَعاقُب النباتات في الأنظمة البيئية للغابات، وتؤثر على إنتاجية هذه المجتمعات المعقدة.
ينتج نوعٌ ثانٍ من نقاط الالتقاء عن الفطريات الجذرية الشجيرية التي تخترق جذور ٩٠ بالمائة من نباتات الأرض. الأجزاء الشجيرية Arbuscules هي خلايا ذاتُ تفرعات دقيقة تمتدُّ إلى الخلايا القشرية للجذور، وتضغط على غشاء النبات مُحدِثةً انبِعاجًا دون أن تثقبه، مكونةً اتصالًا حيَويًّا بين الطرفَين المتشاركَين. من خلال تشعُّبِها عبر التربة المحيطة، تُنتِج خيوطُ الفطريات الجذرية شبكةَ امتصاصٍ ثانويةً تستكشف حجمًا من التربة أكبرَ من الجذورِ نفسِها، وتَزيد المساحة السطحية لامتصاص المعادن زيادةً كبيرة. تمتصُّ الخيوط الفطرية الفسفور والمغذيات الأخرى من التربة، وتدعم إنتاجية النبات في مقابل الحصول على السكريات التي يُنتجها العائلُ خلال عملية البناء الضوئي. تتكون أنواعٌ أخرى من التكافل الفطري الجذري بين الفطريات ومجموعات معينة من النباتات الزهرية، بما في ذلك الأوركيد. تُمثِّل الفطرياتُ والبكتيريا الطفيلية الداخلية، التي تعيش داخل أنسجةِ النبات، نوعًا آخرَ من تبادل المنفعة يلعب دورًا محوريًّا في الإيكولوجيا الأرضية. تُفرز الفطريات والبكتيريا الطفيلية الداخلية محفِّزات النمو، وتُحصن النباتات من مسببات الأمراض.
fig22
شكل ٦-١: فطرياتٌ جذرية مرتبطة بجذور النباتات. على اليسار: تُكوِّن الفطريات الجذرية قشرةً خارج الجذر، وتنمو بين الخلايا الجذرية لتكوين تركيبٍ يُسمى شبكة هارتنج (Hartig net). على اليمين: تكوِّن الفطريات الجذرية الشجيرية زوائدَ متفرعة تُسمى أجزاءً شجيرية داخل الخلايا الجذرية.

يشارك كلُّ حيوان في علاقات تكافل مع كائناتٍ حية دقيقة. تستضيف الحشراتُ البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة حقيقيةَ النواة في أمعائها، وتحمل الميكروبات غير الضارة على هيكلها الخارجي، كما تُشكل فريسةً لمسببات الأمراض الفطرية والبكتيرية والفيروسية. يشار إلى كلِّ هذه التفاعلات بعلاقات التكافل، بالمعنى الأشمل للمصطلح. لكن في الاستخدام العامي، يقتصر مصطلحُ التكافل على علاقات التآزُر أو تبادل المنفعة.

تتضمَّن علاقات التكافل المتبادل الميكروبيوم المذهل في أمعاء النمل الأبيض والشراكة بين الحشرات قاطعة الأوراق وفطر عيش الغراب المزروع. يعتمد النمل الأبيض على طلائعيَّات ترايشونيمفا Trichonympha وغيرها من الطلائعيات اللاهوائية ذاتِ الصلة، التي تندرج أسفلَ إحدى المجموعات الرئيسية لحقيقيات النواة وهي الطلائعيات الكهفية، من أجل هضم السليلوز الذي يستهلكه النملُ في صورة خشبٍ أو عُشب. يحدث تحلُّل السليلوز بواسطة طلائعيات ترايشونيمفا عن طريق الآلاف من البكتيريا المتعايشة داخليًّا المتركزة داخل الطرَف المنتفخ من كل خلية كُمَّثريَّةِ الشكل. الجزء الأمامي من خلية ترايشونيمفا مغطًّى بجُمَّة ملتفَّة من بكتيريا ملتوية متعايشة خارجيًّا تؤدي دور أهداب بديلة. تشترك هذه البكتيريا، جنبًا إلى جنب مع البكتيريا الملتوية التي تعيش على سطحها، في تحليل السليلوز لتكوين الأسيتات. تُمتَص الأسيتات عن طريق أمعاء الحشرة وتُعد مصدرَ الطاقة الرئيسي للنمل الأبيض. يحتوي الميكروبيوم الموجودُ في أمعاء النمل الأبيض على العديد من أنواع الكائنات الحية الدقيقة الأخرى بما في ذلك البكتيريا المثبِتة للنيتروجين وبكتيريا حمض اللاكتيك والعتائق والبكتيريا المنتجة للميثان.
تطوَّرَت استراتيجيةُ تغذية مختلفة بين مجموعةٍ من النمل الأبيض الذي يعمل على إنماءِ فِطر عيش الغراب، ويستخدم الفطريات بدلًا من طلائعيات الأمعاء لهضم السليلوز في أفريقيا وغيرِها من مناطق العالم القديم. يعمل النمل الأبيض على إنماء فطر تيرميتوماسيز Termitomyces على فضلاته الغنيَّة بالسليلوز في أكوام الطين الشاهقة، ثم يتغذَّى على السِّماد العضوي الناتج. من أمريكا الجنوبية وحتى أجزاءٍ من جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل حشراتُ النمل القاطع للأوراق على إنماء أنواعٍ مختلفة من فطر عيش الغراب في أعشاشها الموجودة تحت الأرض. تتغذَّى حشرات النمل على براعمَ خاصة تتشكَّل على هيئة انتفاخات على سطح المستعمرة الفطرية. وهي تدعم صورةً أخرى من صور تبادُل المنفعة مع البكتيريا الشعاوية التي تنمو فوق سطح هيكلها الخارجي، وتفرز المضادات الحيوية التي تُثبِّط الفطريات الطفيلية التي من شأنها أن تُدمر حدائقَ الفطريات لولا هذه المضادات الحيوية.

يُعد تكافل النمل الأبيض والنمل مع هذه الكائنات الحية الدقيقة من الأمثلة المذهِلة على علاقاتِ تبادل المنفعة، إلا أن العلاقات المعقَّدة بالدرجة نفسِها ضروريةٌ لجميع الحشرات. كما هو الحال في النمل الأبيض، تُئوي الصراصيرُ الآكلة للخشب الطلائعياتِ اللاهوائيةَ التي تحتوي على البكتيريا التي تساعد في عملية هضم السليلوز. تنمو مجموعةٌ من الفطريات تُسمى الفطريات الشعرية في أمعاء الحشرات والقشريات وعديدات الأرجُل (ألفية الأرجل ومئوية الأرجل). لا يُعرَف سوى القليلِ بشأن طبيعة هذه العلاقات التكافلية، لكن انتشار هذه الفطريات يُشير إلى أنها من الأعضاء المؤثِّرين في ميكروبيوم الأمعاء الخاص بالكائنات العائلة لها. بإبراز حالاتٍ قليلة تقليدية من علاقات تبادُل المنفعة، من السهل إغفالُ حقيقة أن جميع الكائنات عديدةِ الخلايا تدخل في علاقات تكافل مع الكائنات الحية الدقيقة. فلا يوجد كائنٌ يمكنه أن يعيش منفردًا.

تحتوي الأنهار والبحيرات وموائلُ المياه العذبة الأخرى على أعدادٍ أقلَّ بكثير من أعداد الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة؛ إذ يوجد مليون خلية في كل ملِّيلتر من ماء النهر، وهو مقدارٌ عادي، مقارنةً بمائة مليون خلية في الحجم نفسِه من التربة. يُستمَد الإنتاج الأساسي من الطاقة من النباتات والبكتيريا الزرقاء ضوئية التغذية والطحالب حقيقية النواة. تتضمَّن العوالق النباتية المساترات والدياتومات والطحالبَ ثنائيةَ الأسواط واليوجلينات، وآلافَ الأنواع من الطحالب الخضراء التي تتراوحُ بين السوطيات وحيدةِ الخلية والطحالب المستعمِرة الخلابة؛ مثل طحالب فولفوكس Volvox والدسميدات الرائعة التي تكون على شكل إبرٍ ونجوم وندفات ثلج. يدعم تثبيتُ الكربون، بواسطة هذه الكائنات الحية، الكائناتِ الحيةَ الدقيقة غير ذاتية التغذية واللافقاريات والفقاريات في موائل الماء العذب عبر شبَكات غذائيةٍ معقَّدة.

يخضع المزجُ بين الكائنات الحية العالقة وإنتاجيتها لتوفُّر الأكسجين ودرجات الحرارة. عندما تسخن البحيراتُ في المناطق المعتدلة، تقلُّ كثافة الماء وينفصل الجزء العُلوي من عمود الماء عن الجزء السفلي من الماء الأبرد والأكثر كثافةً بفاصلٍ يُسمى طبقة الانحدار الحراري. إذا كان الماء غيرَ مضطرب، تهبط مستوياتُ الأكسجين أسفلَ طبقة الانحدار الحراري، وهو ما يدعم تضاعُفَ البكتيريا والعتائق اللاهوائية. في وقتٍ متأخر من العام، تختلط الطبقتان عندما يبرد سطحُ الماء وينتشر الأكسجين في المنطقة الفقيرة بالأكسجين، كما يضطرب ترتيبُ طبقة الميكروبات الهوائية الموجودة بالأعلى والميكروبات اللاهوائية الموجودة بالأسفل لبضعة أشهر. تتضمَّن دورةُ النيتروجين في الأنهار والبحيرات العديد من العمليات الميكروبية الوارد وصفُها في سياق الحديث عن التربة بما في ذلك تثبيتُ النيتروجين عن طريق البكتيريا الزرقاء، وما يلي ذلك من تكوينٍ للنيتريت والنترات بواسطة بكتيريا النترتة. تشترك البكتيريا النازعة للنيتروجين في التفاعلات العكسية؛ إذ تختزل النترات المذابة إلى نيتروجين. بالإضافة إلى هذا النمط التقليديِّ من انتزاع النيتروجين، يُطلق غاز النيتروجين عن طريق البكتيريا اللاهوائية التي تؤكسد الأمونيا. تكون هذه البكتيريا اللاهوائية «المؤكسِدة للأمونيا» نشطةً في بيئات التربة والماء العذب والبحار.

تتجلَّى الأهمية البيولوجية للنيتروجين في اشتراكه في تركيب البروتينات والأحماض النووية. كما أن العديد من العناصر الأخرى تُعَد من المكوِّنات الضرورية للجزيئات الحيوية، وتُمتَصُّ وتُحوَّل وتُطْلَق بواسطة الكائنات الحية الدقيقة. يعتمد الحفاظ على الغلاف الحيويِّ على الدورات الحيوية للكبريت والحديد والكالسيوم والفسفور والسيليكا. يتركَّز عنصر الكبريت، الذي يُعد أحدَ مكونات البروتينات، في صورةِ معادن في الصخور. تؤدي تجويةُ هذه الموادِّ على السطح إلى تدفُّق الكبريتات (SO4−2) إلى المحيطات كما يعمل النشاط البركانيُّ والينابيع الحارة على إطلاق الكبريت الإضافي إلى الغلاف الحيوي في صورة كبريتيد الهيدروجين (H2S) وثاني أكسيد الكبريت (SO2). فاقت انبعاثاتُ ثاني أكسيد الكبريت الناتجةُ عن إحراق الوَقود الحفري انبعاثاتِ الكبريت البركانيةَ. تُكوِّن البكتيريا المختزِلة للكبريتات كبريتيدَ الهيدروجين في البيئات الأرضية والبحرية. تؤكسد هذه الميكروباتُ اللاهوائية المركباتِ العضويةَ أو الهيدروجين، وتستخدم الكبريتاتُ بدلًا من الأكسجين لتكون مستقبِلاتِ الإلكترونات الخاصة بها. ويُعدُّ نشاطها مسئولًا عن رائحة البيض الفاسد في المستنقَعات والمسطحات الطينيَّة. تختزل بعض البكتيريا والعتائق الأخرى عنصر الكبريت (S0) بدلًا من الكبريتات؛ لتكوين كبريتيد الهيدروجين. تزدهر بعضُ هذه الميكروبات في البيئات المتطرفة المرتبطة بالمنفِّسات المائية الحرارية. لتحفيز حدوث التفاعلات المقابلة لهذه التفاعلات، تُمِدُّ البكتيريا كيميائيةُ التغذية والبكتيريا ضوئيةُ التغذية الخضراء والأرجوانية عمليةَ تثبيت الكربون بالطاقة؛ من خلال أكسدةِ الكبريت وكبريتيد الهيدروجين.
تمرُّ دورة الحديد بحلقةٍ مشابهة من الأكسدة والاختزال، تُحفزها البكتيريا والعتائق. تستخدم الميكروباتُ المختزِلة للحديد عنصرَ الحديديك (Fe+3) باعتباره مستقبلًا للإلكترونات في ظلِّ ظروفٍ لا هوائية. يحدث هذا التفاعل في التربة المشبعة بالماء والبيئات الأخرى منخفضةِ الأكسجين. في المناطق الانتقالية، حيث ينساب الماء إلى بيئةٍ غنية بالأكسجين، يمد الحديدوز المذاب البكتيريا المؤكسِدة للحديد بمصدر الطاقة. تكون الأفضلية لحدوث الأكسدة البكتيرية للحديدوز في الموائل الحمضية بما في ذلك الصرف الناتج عن مناجم الفحم. يكون أكسيد الحديديك الناتج غيرَ قابل للذوبان، ويكوِّن طبقة من الوحل البني المائل للبرتقالي.

تُدوَّر العناصر الأخرى، بما في ذلك السيليكا والكالسيوم، عن طريق الكائنات الحية الدقيقة دون تغيير حالة الأكسدة أو الاختزال الخاصة بها. تُشكل السيليكا الغطاء الخارجي أو الهيكل الخارجي للدياتومات والشعاعيات وميكروبات عالقة أخرى. تسقط بقايا هذه الكائنات في الماء باعتبارها أحدَ مكوِّنات «الثلج البحري»، وتذوب أو تتراكم فوق سطح البحر في صورةِ رواسبَ من السيليكا. تُعد الرواسبُ الجيولوجية، التي يُطلق عليها الرواسب الدياتومية، دليلًا على وَفْرة الدياتومات في البحيرات القديمة والأنظمة البيئية البحرية.

وتجمع الحراشف الكلسية على سطح خلية طحالب البذيرات الجذرية coccolithophorid (تنتمي إلى مجموعة الهكروبيات الرئيسية)، مثالٌ آخَر على التحول الميكروبي الذي يجعل العنصرَ المذاب يتبلورُ ليصبح تركيبًا خَلويًّا صُلبًا (شكل رقم ٦-٢). تمتصُّ الطحالب أيونات الكالسيوم والبيكربونات من ماء البحر، وتكوِّن حراشف من الكالسَيت (CaCO3) تنتقل إلى سطح الخلية. لهذا تأثيراتٌ مهمة على كيمياء الغلاف الجوي؛ وذلك لأن البيكربونات التي تستخدمها الطحالبُ تنشأ من ثاني أكسيد الكربون الذي يذوب في ماء البحر. ومِن ثَم، يُعد تكوينُ حراشف البذيرات الجذرية مُصرِّفًا لثاني أكسيد الكربون. عندما تموت هذه الطحالب، فإنها تستقرُّ خلال عمود الماء، وتتراكمُ على قاع البحر. هذا يساعد على الحفاظ على قلَوية الأسِّ الهيدروجيني لماء البحر، ويُقلل تركيزَ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. يتجلى مدى ضخامةِ هذه العملية على مدى ملايين السنوات في تَكوُّنِ جروف دوفر البيضاء ببريطانيا، من حراشف الطحالب التي ازدهرَت وماتت في العصر الطباشيري. تؤثِّر البُذيرات الجذرية أيضًا على كيمياء الغلاف الجوي؛ من خلال إطلاق كبريتيد ثنائيِّ الميثيل الذي يُعدُّ بذرةَ تَكَوُّنِ السحب.
fig23
شكل ٦-٢: صورةٌ مأخوذة بواسطة مجهرٍ إلكتروني لبذريةٍ جذرية تحتوي على حراشفَ كلسية، تُسمى صُفَيحات كلسية.
للكائنات الحية الدقيقةِ تأثيرٌ كبير على كيمياء الغلاف الجوي، وتتمتع ببعض القدرة على تخفيف حدةِ الآثار المترتبة على تلوُّث الغلاف الجوي بفعل أنشطة البلدان الصناعية. يُعد التحلُّل بواسطة البكتيريا والعتائق والفطريات أكبرَ مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ويفوق بكثيرٍ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن احتراقِ الوقود الحفري. يؤدِّي امتصاصُ ثاني أكسيد الكربون، عن طريق الكائنات الحية الدقيقة ضوئية التغذية وكيميائية التغذية والنباتات الأرضية، إلى إحداث توازُنٍ مع انبعاثاتِ ثاني أكسيد الكربون الطبيعية. ظل تركيزُ ثاني أكسيد الكربون مستقرًّا نسبيًّا ملايين السنوات، لكن إحراق الفحم والنفط والغاز يُزعزع هذا الاستقرار، مؤديًا إلى زيادةٍ إجمالية في ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي واحترارِ الغلاف الحيوي الناتج عن ذلك. يذوب من ٣٠ إلى ٤٠ بالمائة من الغاز المنبعِث نتيجةَ الأنشطة البشرية في المحيطات والبحيرات والأنهار، ولكن توجد قيودٌ على عملية الامتصاص الطبيعية هذه. تزداد حمضيةُ مياه البحار كلما امتصَّت المزيدَ من غاز ثاني أكسيد الكربون، ولهذا عواقبُ وخيمةٌ على كل جوانب الحياة البحرية. يؤثر التحمُّض واحترارُ المحيطات على تكوين الحراشف عن طريق الطحالب البذرية الجذرية، ويُسهِم في ترحيل الطحالب ثنائية الأسواط (الحُيَيونات الصفراء أو zooXanthellae) التي يعمل نشاطُ البناء الضوئي الخاص بها على دعم المرجان. البحث في مجال علم البيئة الميكروبي من العوامل الأساسية التي تُعيننا على فَهْم أسباب تغير المناخ وعواقبه.
تزدهر الكائنات الحية الدقيقة، لا سيما البكتيريا والعتائق، في بيئات غيرِ مواتية لكائناتٍ أخرى. تُسمى هذه الكائنات البدائية النواة بالإضافة إلى مجموعةٍ متنوعة من الخمائر والفطريات، والفطريات الخيطية «كائنات مُحبة للظروف القاسية». تتضمَّن الظروف الفيزيائية في الأماكن التي تُعيق أشكال الحياة الأخرى درجات حرارة مرتفعة ومنخفضة (الكائنات المحبة للحرارة والكائنات المحبة للبرودة)، وتطرف في الحمضية والقاعدية (الكائنات المحبة للحموضة والكائنات المحبة للقلوية)، وندرة في المياه (الكائنات المحبة للجفاف) ومستويات مُميتة من الإشعاع المؤيَّن (الميكروبات المقاوِمة للإشعاع). ينمو نوعٌ من العتائق، يُسمى بيرولوبس فوماري Pyrolobus fumarii في درجة حرارة ١١٣ درجة مئوية (٢٣٥ درجة فهرنهايت) في مداخنِ المنفسات المائية الحرارية على امتداد حيد وسط المحيط الأطلنطي. و«يتجمَّد» عند درجات حرارة أقلَّ من ٩٠ درجة، ويتوقف الانقسام الخلوي. ينمو نوعٌ آخر غير مُسمًّى من العتائق عند درجة حرارة ١٢١ درجة مئوية، وهي درجة الحرارة المستخدَمة في موصدات المختبرات لتعقيم المعدَّات والأدوات الزجاجية. تركيب الإنزيمات في بدائيات النواة هذه معدَّلٌ للحفاظ على الوظيفة التحفيزية عند درجات الحرارة الأعلى، كما أنها طوَّرَت آلياتٍ تُسهل إعادةَ طيٍّ سريعةً للبروتينات التالفة.
على الطرف الآخَر من المقياس الحراري، يعيش نوعٌ من العتائق يُسمى الميثانوجينيوم المتجمد Methanogenium frigidum في قاع إحدى بُحيرات القارة القطبية الجنوبية؛ حيث يُمكنه النموُّ عند درجة حرارة تتراوح بين درجة مئوية ودرجتَين مئويَّتَين في ماءٍ مشبع بالميثان. يحتفظ البروتين بوظيفته في هذا الكائن بدائيِّ النواة من خلال تعديلاتٍ تُحافظ على مرونة التركيب الجزيئي عند درجة حرارة منخفضة. تنقسم خلايا الميثانوجينيوم مرةً كل شهر، مقارنةً بزمن تضاعف مقداره ٢٠ دقيقة لبعض البكتيريا الموجودة في أمعائنا. تزخر البيئاتُ البحرية الباردة بالكائنات الحية الدقيقة الموجودة داخل العروق اللامعة التي تتخلَّل الجليد البحري، وفي الرواسب الباردة في السهول السحيقة.

تُعد بِرَك القَطِران المنصهِر الطبيعية من الموائل الغريبة التي تدعم البكتيريا والعتائق. في بُحيرة الزفت أو بحيرة القَطِران في ترينيداد، يُجبَر النفط الموجودُ في الرواسب العميقة على الصعود إلى السطح مُكونًا قطرانًا لزجًا يُصدِر فقاعات من الميثان. تُعادِل كثافةُ بدائيات النواة في بحيرة الأسفلت السائل هذه مَثيلتَها في تربة الغابات، وهو أمرٌ غير ملائم؛ نظرًا إلى وجودِ ماءٍ شحيح في حالة الأسفلت. من المرجَّح أن البكتيريا والعتائق تقطن الجيوبَ المملوءة بالمحلول الملحيِّ في القطران، شأنها شأن الميكروبات التي تعيش في الثلج البحري.

عُزِلَت العتائق من الينابيع الحرارية الأرضية التي لها مستوياتُ حموضةٍ تُعادل بطاريات السيارات ومن بُحيرات الصودا المشبعة بالأملاح التي تُعادل قلويتُها الأمونيا المستخدَمةَ في المنازل. حسَّنَت الخلايا المقاوِمةُ للأحماض آلياتٍ لطردِ البروتونات من السيتوبلازم الخاصِّ بها. تعمل كيمياءُ الغشاء للكائنات المحبة للقلوية بطريقةٍ عكسية؛ إذ تعمل على جلب البروتونات من الموئل الذي يفتقر إلى البروتونات. تعيق البحيراتُ المالحة والصخور العارية الكائنات الحية الدقيقة بطريقةٍ مماثلة من خلال التسبُّب في تجفيف السيتوبلازم. تتضمَّن آليات التكيُّف بين محبات الملوحة ومحبات الجفاف؛ زيادةَ سُمك الجدار الخلوي لمقاومة فقدان الماء، وتراكم الأملاح والسكَّريات لإفساد الجفاف الأسموزي والتغيرات في شكل الخلية لزيادة المساحة السطحية؛ لتبادل الأيونات وامتصاصِ الماء. تتحمَّل البكتيريا المقاوِمة للإشعاع مستوياتٍ من أشعَّة جاما تفوق الجرعاتِ المميتةَ للبشر بألف مرة. ويعود الفضلُ في نجاتها إلى تخليق العديد من النُّسخ من الكروموسوم نفسِه في خليةٍ مفردة، واستخدام التتابعات التي لم تتلف قوالبَ لإصلاح الجينات التالفة.

شجَّع اكتشافُ الكائنات الحية الدقيقة في البيئات القاسية على التكهُّن بشأن تطور الحياة في مكانٍ آخَر من نظامنا الشمسي. لا يوجد دليلٌ على وجود حياةٍ خارج الأرض، لكن الأماكن التي قد تعيش فيها الكائناتُ الدقيقة الشبيهة بالكائنات المحبة للظروف القاسية قد تتضمَّن أقمارَ زحل؛ وهي: تيتان، الذي يغمر سطحَه وابلٌ من أمطار الميثان، وإنسيلادوس، حيث تثور البراكينُ الباردة وتُطلق الثلجَ وبُخارَ الماء. ويُعد المحيط المتجمِّد الموجود تحت سطح القمر يوروبا، أحدِ أقمار المشتري، موئلًا محتملًا آخَر. يعتبر بعضُ الباحثين أن احتمالية وجود حياةٍ خارج كوكب الأرض، سواءٌ في نظامنا الشمسي أو خارجَ نظامنا الشمسي على كواكبِ منطقة جولدي لوكس Goldilocks المرتبطة بنجوم أخرى، هي نقطةُ البداية التي تنطلق منها الأبحاثُ حول الأصول غيرِ الأرضية لبعض أشكال الحياة على الأرض. سيَزيد اكتشافُ حياة خارج كوكب الأرض من احتمال انتمائنا لخارج الأرض، لكنه لن يُجدِيَ كثيرًا في الإجابة عن أعظم سؤالٍ لم يُجَب عنه بعدُ في علم الأحياء: كيف تبدأ الحياة في أيِّ مكان؟

تأتي أكثرُ الأفكار جاذبية حول مَنشأ الخلايا من دراسة كيمياء المنفسات المائية الحرارية والكائنات الحية الدقيقة بها. يندفع الماءُ المسخَّن من المنفسات الموجودةِ في قاع البحر حيث تتصدَّع القشرةُ الأرضية بانفصال الألواح التكتونية على طولِ حيد المحيط الأطلنطي والهادي. تتكون المداخن فوق بعض المنفسات الحرارية، حيث تترسَّب المعادن المذابة في الماء الساخن عندما تختلطُ بماء البحر البارد. تُطلِق المنفسات، التي تُسمَّى فوهات الدخان الأسود، مركباتِ الكبريتيد الذائبة، وتُطلق فوهاتُ الدخان الأبيض ماءً أبردَ قليلًا غنيًّا بالكالسيوم والباريوم والسيليكون. في غياب ضوء الشمس، تدعم كيمياءُ الفوهة بدائيات النواة كيميائية التغذية التي تُخلِّق السكريات عن طريقِ أكسدة كبريتيد الهيدروجين وأنواع الوقود الجوفي الأخرى بما في ذلك الهيدروجين والميثان والأمونيا والحديدوز والمنجنيز. (هذا يُماثل الحصولَ على ثاني أكسيد الكربون خلال عملية البناء الضوئيِّ عن طريق الإلكترونات التي يتم الحصول عليها من الماء، وتُنشَّط عن طريق امتصاص الضوء.) وفقًا لأحد النماذج، سببُ انتشار الماء القلوي من مكانٍ لآخر، عبر المداخن المسامية لفُوهات الدخان الأبيض، حدوث تدرُّجٍ للأسِّ الهيدروجيني في المحيطات القديمة التي كانت تُعتبر أساسًا لمنشأ الخلايا. تتمثَّل الفكرة في أن المنفسات كوَّنَت نسخةً طبيعية من تدرُّج البروتونات على جانبَي الغشاء الخلوي، وأن الأغشية الخلوية تجمَّعَت في هذه البيئة المواتية.

تعتبر طبيعة الخلايا الأولى من الموضوعات التي تدور حولَها تكهُّناتٌ مثيرة في ظلِّ غياب بيانات موضوعية تتجاوز أشكال الحياة الواضحة في يومنا هذا. لا يُعرَف تحديدًا الزمنُ الذي يعود إليه أصلُ البكتيريا والعتائق، لكن الأحافير توضِّح أن البدائيات الخيطية التي تُشبه البكتيريا الزرقاء الموجودةَ في يومنا هذا ظهَرَت منذ ٣٫٥ مليار سنة على الأقل. من المحتمل أن هذه الميكروبات أجْرَت عمليةَ بناءٍ ضوئي، لكن قياسات النظائر المشعَّة تُبين أن الزيادة الحادة في أكسجين الغلاف الجوي، التي تُعرَف باسم «حدث الأكسدة الكبير» Great Oxygenation Event لم تحدث حتى ٢٫٣ مليار عام مضَت. يمكن تفسيرُ هذا الفارق المفترض المقدَّر بمليار سنة بين البناء الضوئي الأكسجيني وأكسدةِ الغلاف الجوي، من خلال تحوُّل التفاعلات الكيميائية البحرية على الكوكب من حالة الاختزال الشديدة إلى حالة أكسدةٍ أكبر. يُمتَصُّ الأكسجين الذي تُطلقه عمليةُ البناء الضوئي من خلال التفاعل مع العناصر في صورتها المختزلة لمئات الملايين من السنوات بعد تطوُّر البكتيريا الزرقاء. يُعثَر على رواسبَ الحديديك التي يُطلق عليها تكوينات الحديد الحزامية في الصخور الرسوبية التي تنتمي للعصر نفسِه الذي وقع فيه حدَثُ الأكسدة الكبير. قد يعكس هذا نقطةَ التحول من التفاعلات الكيميائية المختزِلة إلى التفاعلات الكيميائية المؤكسِدة الذي تُتيح للأكسجين التراكُمَ في الغلاف الجوي.

ارتبطَت نشأةُ حقيقيَّات النواة بحدثِ الأكسدة الكبير، لكن يصعب تحديد تاريخ ظهور الخلايا التي تحتوي على نواة، ويوجد العديد من الأفكار المتنافسة حول الآلية التي أنتجت هذه الخلايا. أثبتت العديد من الأدلة الدامغة الأصلَ البكتيري للميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء في الخلايا الحقيقية النواة. فكِلتا العُضَيتَين تحتوي على الكروموسومات المفردة المميِّزة للبكتيريا، وتحتوي على أغشيةٍ تُشبه الأغشية الخلوية للبكتيريا، وتؤدي بعضَ التفاعلات الكيميائية الحيوية المماثلة، كما أن الريبوسومات التي تُجري عمليةَ تخليق البروتينات داخل الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء تُشبه ريبوسومات الكائنات بدائية النواة. دعمَت هذه الملاحظاتُ نموذجَ المعايشة الداخلية لتطور حقيقيات النواة، وهو أحدُ المحرِّكات الأساسية لعلم الأحياء الحديث.

نشأة النواة التي تُميِّز حقيقيات النواة أكثرُ إثارةً للجدل. يدعم تجميعُ الأدلة فكرةَ أن النواة تطوَّرَت في مجموعةٍ محددة من العتائق وأن الاندماج اللاحق مع البكتيريا أنتجَ الميتوكوندريون السليف. عزَّز من هذا النموذج، الذي يُطلق عليه فرضية إيوسَيِت eocyte (تفترض أن أصل حقيقيات النواة يعود إلى نوعٍ من العتائق اسمُه eocytes)، القواسمَ المشتركةَ العديدة بين جينومات العتائق وحقيقيَّات النواة. وهو يدعم مبدأَ ترتيب جميع الكائنات الحية ضِمن نطاقَين أساسيَّين؛ هما: البكتيريا والعتائق، والتعامل مع حقيقيات النواة باعتبارها مجموعةً تقع ضمن العتائق. يتعارض ذلك مع تقسيم أشكال الحياة إلى ثلاثة نطاقات — البكتيريا، والعتائق وحقيقيات النواة — الذي ساد بين علماء الأحياء الدقيقة أكثرَ من ثلاثين عامًا. يُشير اقتراحٌ آخر إلى أن النواة تطورَت بعد امتصاص العتائق للبكتيريا. في هذا النموذج، يعمل الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، الناتجان عن عمليةِ التخمُّر في البكتيريا، على دعم الأيض المولِّد للميثان () للعتائق العائلة. تُقدم الاستخداماتُ الجديدة للبيانات الجينومية لاختبار النماذج المختلفة الخاصة بأصل حقيقيات النواة؛ تفسيرًا مدهشًا لمدى حيويةِ هذه المغامرة العلمية الجديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤