جموح

خطابات

في غرفة الطعام المُلحَقة بالفندق التجاري، فتحتْ لويزا الخطابَ الذي وصلها ذاك اليومَ من الخارج. تناولتْ وجبتَها المعتادة المكوَّنة من شرائح اللحم والبطاطس، واحتست كأسًا من الخمر. كان هناك القليلُ من المسافرين في الغرفة، وطبيبُ الأسنان الذي درجَ على تناوُل عشائه هناك كلَّ ليلة لأنه أرمل. كان الطبيب قد أبدى اهتمامه بها في البداية، لكنه أخبرها أنه لم يسبق له أن رأى امرأةً من قبلُ تحتسي الخمرَ أو المشروبات الكحولية.

قالت لويزا بوقارٍ: «أحتسيها حفاظًا على صحتي.»

كانت مفارش الطاولات البيضاء تُبدَّل كلَّ أسبوع، وحتى ذلك الحين كان يُوضَع عليها مُشمَّع لحمايتها. في الشتاء، كانت رائحةُ المُشمَّع الذي كانوا ينظِّفونه بفوطة المطبخ تفوح من غرفة الطعام، وتختلط برائحة أبخرة الفحم المنبعثة من الفرن، ومرق اللحم، والبطاطس المجفَّفة، والبصل — وهي ليست بالرائحة المنفِّرة لكلِّ مَنْ يدلف إلى غرفة الطعام جائعًا من فرط البرد بالخارج. على كلِّ طاولة، كان ثمة حاملٌ صغير يحوي زجاجةً من الصوص البُنِّي، وزجاجةً من صلصة الطماطم، وطبقًا من الفجل الحار.

كان الخطاب موجَّهًا إلى «أمينة مكتبة كارستيرز العامة، في مدينة كارستيرز، بمقاطعة أونتاريو»، ومكتوبًا بتاريخ ٤ يناير ١٩١٧؛ أيْ منذ ستة أسابيع:

لعلكِ ستندهشين مِن تلقِّي رسالةٍ من شخصٍ مجهول، لا يذكر اسمَك!

آمل أنكِ لا تزالين تشغلين منصبَ أمين المكتبة، مع أني أظن أنه قد مرَّ وقتٌ طويل، ومن الوارد أن تكوني قد انتقلتِ إلى مكانٍ آخَر.

المرض الذي ألمَّ بي وأُودِعتُ بسببه المستشفى ليس خطيرًا.

أرى حالاتٍ أسوأ بكثير من حولي، وأصرف انتباهي عن ذلك كله بتخيُّل أشياء والتساؤل مثلًا عمَّا إنْ كنتِ تعملين بالمكتبة نفسها حتى الآن. وللتأكُّد من أنكِ الشخص الذي أقصده، فأنتِ متوسطة الحجم تقريبًا، أو ربما لستِ كذلك بالضبط، ولكِ شعر بُنِّي فاتح. جئتِ منذ أشهر قلائل قبل أن يحين موعد التحاقي بالجيش، وحللتِ محلَّ الآنسة تامبلين التي كانت هنا منذ أن بدأتُ أتردَّد على المكتبة في التاسعة أو العاشرة من عمري. خلال الفترة التي أمضَتْها، كانت الكتب مبعثرةً في كل مكان، وكان طلبُ أدنى قدرٍ من العون منها مسألةً انتحارية؛ لأنها كانت صارمة وعنيفة. ما أبهى التغيير الذي كسا أرجاء المكان عندما حللتِ! كل شيء صار مُرتَّبًا في أقسامٍ خاصة بكلٍّ من الكتب الروائية والواقعية والتاريخية وكتب الرحلات، كما كنتِ ترتِّبين المجلات وتعرضينها في مكان ظاهر فور وصولها، دون أن تتركيها إلى أن تَبلى وتصبح عديمةَ القيمة. شعرتُ بالامتنان لكِ، لكنني لم أدرِ كيف أعبِّر لكِ عن مكنون نفسي. تساءلتُ أيضًا ماذا أتى بكِ إلى هنا! فأنتِ امرأة مُتعلِّمة ومثقَّفة.

اسمي جاك أجنيو، وبطاقتي في الدُّرْج. الكتابُ الأخير الذي استعرتُه كان شائقًا جدًّا، كان بعنوان «خَلْقُ البشر» لمؤلِّفه إتش جي ويلز. تلقَّيْتُ تعليمي حتى السنة الثانية من التعليم الثانوي، ثم انتقلتُ إلى مصنع آل دُودْ شأني شأن الكثيرين غيري. لم ألتحق بالجيش مباشَرةً إذ كنت في الثامنة عشرة من عمري؛ ولذلك لن تعتبريني رجلًا مقدامًا. أنا شخص له أفكاره الخاصة. قريبي الوحيد في مدينة كارستيرز، أو في العالم كله، هو أبي باتريك أجنيو، وهو يعمل لدى آل دُودْ، ليس في المصنع، بل بالبيت، حيث يتولَّى أعمالَ البستنة. أبي إنسان ميَّال للعزلة أكثر مني شخصيًّا، يطيب له الخروج إلى الريف لممارسة هواية الصيد كلما سنحت له الفرصة. أكتبُ له خطابًا بين الحين والآخَر، لكنني أشك أنه يطالع ما أرسله إليه.

بعد العشاء، صعدتْ لويزا إلى ردهة السيدات بالطابق الثاني، وجلست إلى المكتب لتكتب ردَّها:

يسعدني جدًّا أنك تقدِّر الجهودَ التي كنتُ أبذلها في المكتبة، مع أنها لم تتجاوز مهارات التنظيم العادية.

أنا على يقين أنك تودُّ أن تعرف أخبارَ الوطن، لكنني لستُ بالشخص المؤهَّل لذلك لأنني غريبة هنا. إنني أتبادل أطراف الحديث مع الناس في المكتبة وفي الفندق. المسافرون المقيمون بالفندق غالبًا ما يتكلَّمون عن النشاط التجاري (الذي عادةً ما يتَّسِم بالرواج إنْ أمكن الحصول على السلع)، وقلَّمَا يتحدثون عن المرض، لكنهم كثيرًا ما يتناولون الحربَ في حديثهم. ثمة شائعات كثيرة، وآراء وافرة، يقيني أنها ستجعلك تضحك إنْ لم تُثِرْ ثائرتك، لن أكلِّف نفسي عناءَ تدوينها لأنني متأكدة أن ثمة رقيبًا سيطالع رسالتي هذه وسيمزِّقها إربًا.

تتساءل كيف انتهى بيَ الحال إلى هنا؟ إنها ليست بالقصة المثيرة؛ لقد تُوفِّي والدايَّ. كان أبي يعمل بشركة إيتون في تورنتو، وتحديدًا في قسم الأثاث، وبعد وفاته، اشتغلت أمي هناك أيضًا في قسم المفروشات، وأنا أيضًا عملتُ هناك لفترةٍ في قسم الكتب؛ يمكنك أن تقول إن شركة إيتون كانت بمنزلة آل دُودْ بالنسبة إليكم. تخرَّجتُ في جارفيس كوليجيت. ولقد أُصِبْتُ بمرضٍ أُودِعتُ بسببه المستشفى لفترة طويلة، لكنني بخير الآن.

كان أمامي متَّسع كبير من الوقت للقراءة والاطِّلاع؛ كاتِبَاي المُفضِّلان هما توماس هاردي المتهم بالكآبة والذي أراه مخلصًا جدًّا للواقع، وويلا كاثر. تصادفَ أن كنتُ في هذه البلدة إذ علمتُ أن أمينة المكتبة تُوفِّيتْ، وحدَّثتُ نفسي أن هذه المهنة ربما تكون مناسبةً لي.

من الجيد أن رسالتكِ وصلتني اليومَ؛ إذ إنني على وشك الخروج من هنا، ولا أعرف إنْ كانوا سيرسلونها إليَّ حيثما حللتُ. يسعدني أنكِ لم تَجِدي خطابي سخيفًا أكثر من اللازم.

إذا قابلتِ أبي أو أي أحدٍ مصادفةً، فلا داعيَ لأن تُفصِحي عن حقيقة أننا نتبادل الرسائل؛ فالأمر لا يعني أحدًا في شيءٍ، ويقيني أن الكثيرين سيسخرون مني لأنني أراسِل أمينةَ المكتبة، مثلما سخروا مني من قبلُ لمجرد أنني كنت أتردَّد على المكتبة. لِمَ إذن أَدَعُهم يشمتون بي؟

أنا سعيدٌ لأنني سأخرج من هنا، فأنا أوفر حظًّا من بعض الذين رأيتُهم وقد فقدوا قدرتهم على المشي أو الإبصار، وسيتوارون عن العالم. سألتِ عن مكان إقامتي في كارستيرز، حسنٌ، لم يكن مكانًا يدعو للفخر على أية حال. إذا كنتِ تعرفين بلدة فينيجر هيل، وانعطفتِ نحو طريق فلاورز، فهو آخِر بيت جهة اليمين. كان مطليًّا باللون الأصفر في يوم من الأيام. يزرع أبي البطاطس، أو ربما كان ذلك في الماضي. اعتدتُ وضْعَ المحصول على عربتي والتوجه به إلى المدينة. كنتُ أحتفظ بخمسة سنتات لقاء كل حِمْل أبيعه.

على ذكر الكُتَّاب المُفضَّلين، في فترة من الفترات كنتُ أهيم عشقًا بزين جراي، لكنني أهملتُ قراءة الأعمال الروائية تدريجيًّا، وجنحتُ إلى مطالعة كتب التاريخ أو أدب الرحلات. أعلم أنني أحيانًا أطالع كتبًا تتجاوز قدرتي على الفهم، لكنني أنتهي منها بشكلٍ أو بآخَر. إتش جي ويلز الذي ذكرتُه أحد كُتَّابي المُفضَّلين، وكذا روبرت إنجرسول الذي يتناول قضايا دينية في مؤلَّفاته. لقد منحاني كثيرًا من الأفكار التي تستحق التدبُّر والتفكُّر. إذا كنتِ شديدة التديُّن، فآمل أنني لم أُسِئ إليكِ.

ذهبتُ إلى المكتبة ذات يوم، كان ذلك في ظهيرة أحد أيام السبت، وكنتِ قد فتحتِ الباب لتَوِّك، وكنتِ تضيئين الأنوار حيث كانت الظلمة تَعُمُّ أرجاء المكان بالداخل والأمطار على أشدها بالخارج. كنتِ في موقف صعب بالخارج إذ لم تكن لديكِ قبعة أو مَظلَّة تحتمين بها من المطر، فابتلَّ شعرك. نزعتِ عنه الدبابيس وتركتِه ينسدل. هل أكون متطفلًا لو سألتُكِ أَمَا زال شعركِ طويلًا أم أنكِ قصصْتِه؟ اتجهتِ صوب المِدفأة، ووقفتِ إلى جوارها، وهززتِ شعرك، فتناثرت منه قطرات الماء كالزيت في المِقلاة. لم أكن قد برحت مكاني حيث كنتُ أطالِعُ أخبارَ الحرب في مجلة «إلستراتيد لندن نيوز». تبادلنا ابتسامة عابرة. (لم أقصد أن أقول إن شعركِ دهني عندما كتبتُ ذلك.)

لم أقصصْ شعري، وإن كانت الفكرة تجول بخاطري كثيرًا. لا أعرف إن كان الكسل أم الخيلاء هو الذي يمنعني! إنني لستُ شديدة التديُّن.

لقد ذهبتُ إلى فينيجر هيل، وعثرتُ على بيتك. تبدو ثمار البطاطس طازجة وصحية. ثمة كلب بوليسي اعترض طريقي، أهو كلبك؟

الجو يميل إلى الدفء نوعًا ما. شهدنا فيضان النهر، وظني أنه حدث ربيعي تمر به البلاد كلَّ عام. تسرَّب الماء إلى الدور السفلي من الفندق، وأفسدَ على نحوٍ أو آخَر مخزوننا من الشراب؛ لذا حصلنا على جعة مجانية أو مشروب زنجبيل مجاني، لكن ذلك كان قاصرًا على نُزلاء الفندق والمقيمين فيه. يمكنك أن تتخيَّل كمَّ النكات التي كانت تتداولها الألسن آنذاك.

هل تريد مني إرسال أي شيء إليك؟

لستُ بحاجةٍ إلى شيء محدَّد، فأنا أحصل على التبغ وغيره من الأغراض التي تغلِّفها السيدات في كارستيرز تغليفًا جميلًا لأجلنا. أودُّ أن أطالع بعض الكتب للمؤلفَيْن اللذَيْن أتيتِ على ذِكْرهما، لكنني أشك أن الفرصة ستسنح لي هنا.

منذ بضعة أيام، تُوفِّي رجلٌ إثر سكتة قلبية، وصارت الواقعة حديث المدينة. هل سمعت عن الرجل الذي مات إثر سكتة قلبية؟ كانت هذه هي الأنباء المتداولة هنا ليلَ نهارَ، وبعدها أمسى الجميع يضحكون، على نحوٍ ينمُّ عن قسوة قلوبهم، لكن الأمر بدا غريبًا جدًّا. لم تكن ثمة معركة حامية الوطيس حتى نفترض أنه أُصيبَ بالذعر! (حقيقة الأمر أنه كان جالسًا يكتب رسالةً حين وافته المنية، فحريٌّ بي أن أتحرى الحيطة إذن!) كثيرون هم مَنْ لَقَوْا حتفهم رميًا بالرصاص أو قُتِلوا في تفجيرات، لكنه الوحيد الذي اكتسبَ شهرةً واسعة لأنه مات إثر سكتة قلبية. الجميع يقولون: يا له من دربٍ طويل قطعه ليموت هنا! ويا لها من تكلفة باهظة أنفقها الجيشُ عليه ليموت في النهاية هكذا!

كان الصيف جافًّا جدًّا حتى إن سيارات خزانات المياه كانت تجوب الشوارع يوميًّا في محاولةٍ لتهدئة الغبار. وكان الأطفال يتراقصون وراءها. كان ثمة شيء جديد أيضًا في البلدة؛ عربة ذات جرس صغير تجوب المكان محمَّلة بالآيس كريم، واستحوذت على انتباه الأطفال أيضًا. كان يدفعها الرجل الذي أُصيبَ في حادث المصنع — أنت تعرف عمَّن أتحدث، ولو أنني لا أستطيع أن أذكر اسمه … لقد فقد ذراعه حتى المِرفق. ولمَّا كانت غرفتي بالفندق في الطابق الثالث، شعرتُ وكأنها موقد، فاعتدتُ أن أجوب الشوارع إلى ما بعد منتصف الليل، وهكذا كان يفعل الكثيرون الذين كانوا أحيانًا يخرجون في ثياب النوم. كان المشهد أشبه بحلم بالنسبة إليَّ. لم يزل النهر يحتفظ بالقليل من المياه التي تكفي لركوب قارب تجديف، وكان القَسُّ الميثودي يخرج للتجديف أيام الآحاد في شهر أغسطس؛ كان يصلي صلاةَ الاستسقاء في قداسٍ عامٍّ، لكنْ حدَثَ تسريبٌ طفيف في القارب، فتسلَّل الماء وبلَّل قدميه، وفي نهاية المطاف غرق القارب وتركه واقفًا في الماء الذي لم يصل تقريبًا إلى خصره. أكانت هذه حادثة أم خدعة خبيثة؟ ذاع الخبر بأن الرب استجاب لدعائه، لكن الماء تدفَّق من الاتجاه الخطأ.

كثيرًا ما أمرُّ ببَيْتِ دُودْ خلال جولاتي. أبوك يحافظ على جمال الحشائش والأسيجة. يروقني البيت، ففيه عبق الأصالة وسيماء البهجة، لكن ربما لم يكن المكان باردًا هناك؛ لأني سمعتُ صوت الأم والرضيعة في وقتٍ متأخر من الليل وكأنهما في الحديقة.

مع أنني قلت إنني لستُ بحاجةٍ إلى شيء محدد، فثمة شيء أريده؛ صورة لكِ. آمل أَلَا يخطر ببالكِ أنني أتجاوز حدودي بطلبي هذا! لعلكِ مخطوبة لأحدهم، أو ربما لديكِ حبيب هنا تراسلينه كما تراسلينني! فأنتِ فتاة غير تقليدية، ولن يدهشني إذا سبق وخطب وُدَّك أحدُ المسئولين. لكن الآن بعد أن تجرَّأْتُ وسألتُ، لا يسعني أن أتراجع عن طلبي، وسأترك الأمر لكِ فلتظني بي ما تشائين.

كانت لويزا في الخامسة والعشرين من عمرها، ووقعتْ مرةً واحدة في غرام طبيبٍ تعرَّفت إليه في المستشفى، وبادَلَها الطبيبُ حبًّا بحب؛ مما أدَّى في نهاية المطاف إلى أن خسر وظيفته. كان يحدوها شكٌّ شديد حول إنْ كان أُجبِر على الرحيل عن المستشفى، أم أنه رحل من تلقاء نفسه بعد أن أصابه السأم من تعقيد علاقته بها، فقد كان متزوجًا ولديه أبناء. كان للخطابات دورٌ فعَّال آنذاك أيضًا. بعد أن رحل، لم تنقطع بينهما الخطابات، وراسلَتْه مرة أو مرتين بعد أن سُمِح لها بالخروج من المستشفى، وبعدها طلبتْ منه ألَّا يراسِلها ولبَّى طلبها، لكن انقطاع رسائله دفعها إلى مغادرة تورونتو وقبول وظيفةٍ في مجال السفريات؛ ومن ثَمَّ بات الشعور بالإحباط وخيبة الأمل لا يعتريها سوى مرة واحدة في الأسبوع كلما رجعت ليلةَ الجمعة أو السبت. كان خطابها الأخير حازمًا ومتحفظًا، ولازَمَها شعور بأنها بطلة من أبطال القصص التراجيدية حيثما حلَّت في المدينة وهي تجرجر حقائبها صعودًا وهبوطًا على سلالم الفنادق الصغيرة، وتحدَّثت عن الأزياء الباريسية وقالت إن عينات قبعاتها كانت ساحرة، واحتست كأسها بمعزلٍ عن الآخرين. لو كان لديها مَن تخبره، لَسخرتْ من هذه الفكرة تحديدًا؛ لو كان لديها مَنْ تخبره، لَقالت إن الحب هراء، لَقالت إن الحب خدعة، وإنها لمؤمنة بذلك. ولكنِ استشرافًا للأحداث، ما زالت تشعر بهدأةٍ تكتنفها، وقشعريرةٍ تسري في أوصالها، ونكوصٍ للحس، وإعياءٍ شديد.

التُقِطَت صورةٌ لها … كانت تعرف كيف تريد أن تظهر في صورتها. كَمْ كانت تود أن ترتدي ثوبًا فضفاضًا، أبيض اللون، بسيطًا في تصميمه. لم يكن لديها ثوب بهذا الوصف، بل إنها لم ترَ مثيلًا له إلا في الصور. وكَمْ كانت تحب أن تترك شعرها منسدلًا، أوْ لو كان له ألَّا ينسدل، لَكان يطيب لها أن ترفعه من غير إحكام بالمرة وتعقصه بحبَّات من اللؤلؤ.

بدلًا من ذلك، ارتدتْ بلوزتها الحريرية الزرقاء، وعقصت شعرها كالمعتاد. رأت أن الصورة جعلتها تبدو شاحبة بعض الشيء وغائرة العينين، وكان تعبير وجهها أكثر حزمًا وتوجُّسًا مما كانت تريد. أرسلَتْها إليه على أية حال.

إنني لستُ مخطوبة، وليس لدي حبيب. وقعتُ في الحب مرةً واحدة، وكان عليَّ إنهاء العلاقة. كنتُ مستاءةً آنذاك لكنني كنتُ أعرف أنني يجب أن أتحمَّل الألم، والآن أعتقد أن قراري كان صائبًا.

بالطبع حاولَتْ جاهدةً أن تتذكَّره. لم تكن تتذكَّر أنها نفضت الماء عن شعرها كما قال، أو ابتسمت لشابٍّ بينما تناثَرَتْ قطراتُ الماء من شعرها على المِدفأة. يجوز أنه رأى هذا المشهد في أحلامه، ولعل هذا ما حدث.

طفقتْ تتَبَّع أخبارَ الحرب بطريقةٍ أكثر تفصيلًا ممَّا سبق، لم تحاول أن تتجاهلها بعد ذلك. جابت الشارع وهي تشعر أن رأسها يعجُّ بالمعلومات المثيرة والمزعجة التي تجول بخاطر الجميع؛ معركة سان كونتا، وآراس، ومونت ديدييه، وأميان، ومن بعدها ثمة معركة كانت تدور رحاها عند نهر السوم حيث وقعت بالتأكيد أحداث معركة أخرى من قبلُ. فَرَدَتْ على مكتبها خرائطَ الحرب التي كان محتوى الواحدة منها معروضًا على صفحتين متقابلتين كما في المجلات. رأت تقدُّم الألمان إلى إقليم المارن الفرنسي مميَّزًا بخطوط ملوَّنة، وأول دفعة من الجنود الأمريكيين في شاتو-تيري. تطلَّعَتْ إلى صور بُنِّية اللون لأحد الفنانين، مرسوم عليها فرسٌ يصهل خلال غارة جوية، وبعضُ الجنود في شرق أفريقيا يحتسون جوز الهند، وصفٌّ من الجنود الألمان الأسرى ورءوسهم أو أطرافهم ملفوفة بضمادات، وتعبيرات وجوههم تشي بالكآبة والتجهُّم. الآن شعرتْ بما يشعر به الآخرون جميعًا؛ مخاوف وهواجس مستمرة، وفي الوقت نفسه شعرتْ بتلك الإثارة الشديدة. يمكن للمرء أن يرفع بصره لأعلى ويحس بالعالم وهو يتحطم من وراء الجدران.

يسعدني أن أعرف أنه ليس لديكِ حبيب، ولو أنني أعرف أن هذا يُعَدُّ أنانيةً من جانبي. لا أعتقد أننا سنلتقي مرةً أخرى! لا أقول ذلك لأن حلمًا راودني عمَّا سيحدث في المستقبل، أو لأنني شخص متشائم يستشرف دائمًا السوء. جُلُّ ما في الأمر أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المنطق في رأيي، ولو أنني لا أُطِيل التفكير فيه، وأبذل قصارى جهدي كلَّ يوم كي أبقى على قيد الحياة. لا أحاول أن أصيبك بالقلق، ولا أحاول أن أستدرَّ عطفَك أيضًا، كل ما هنالك أنني أشرح كيف أن فكرة أنني لن أرى كارستيرز مرةً أخرى تجعلني أعتقد أن بإمكاني أن أقول ما أشاء. أعتقد أن حالتي هذه أشبه بالإصابة بالحمى؛ ولذلك سأقول إنني أحبك. أفكِّر فيكِ واقفةً على كرسي بالمكتبة تضعين كتابًا في مكانه، وأتخيَّلُ نفسي وأنا أتقدَّم نحوك، وأضع يديَّ على خصرك لأساعدك في النزول، فتلتفتين نحوي وأنا أطوقك بذراعي كما لو أننا اتفقنا على كل شيء.

ظُهْر أيام الثلاثاء، يلتقي نساء وفتيات الصليب الأحمر في غرفة الاجتماعات التي تفصلها الردهة عن المكتبة. وعندما كانت المكتبة تخلو لبضع لحظات، كانت لويزا تقطع الردهة وتدلف إلى الغرفة التي تعجُّ بالنساء. كانت قد قرَّرَتْ أن تحيك وشاحًا؛ تعلَّمتْ في المستشفى كيف تحيك غرزة عادية، لكنها لم تتعلَّم قط — أو لعلها نسيتْ — كيف تحيك السطرَ الأول أو الأخير من الغرز.

كانت السيدات الأكبر سنًّا منشغلات تمامًا بتعبئة الصناديق أو بقصِّ ضماداتٍ وطَيِّها من أقمشةٍ من القطن الثقيل المبسوط على الطاولات؛ لكنَّ كثيرًا من الفتيات على مقربة من الباب كُنَّ يأكلن الكعك المُحلَّى ويحتسين الشاي، وكانت إحداهن تمسك بشِلَّة من الصوف على ذراعيها كي تلفها أخرى.

أخبرتهن لويزا بما كانت بحاجةٍ إلى معرفته.

سألتها إحدى الفتيات والكعك لا يزال في فمها: «ماذا تريدين أن تحيكي إذن؟»

قالت لويزا إنها تعتزم حياكة وشاحٍ لجندي.

قالت أخرى بأسلوبٍ أكثر تهذيبًا وهي تقفز من أمام الطاولة: «ستحتاجين إذن إلى الصوف الذي يستخدمونه في الجيش.» عادت وبحوزتها شِلَّات من الصوف البُنِّي اللون، وبحثَتْ عن زوج إضافي من إبر الحياكة في حقيبتها، وأعطَتْه إلى لويزا.

قالت لها: «سأساعدكِ كي تبدئي فحسب. يجب أن يكون العَرْض متماشيًا مع معايير الجيش أيضًا.»

تكالبت الفتيات الأخريات وطفقن يغظن تلك الفتاة التي كانت تُدعَى كوري؛ قلن لها إنها لا تحيك الصوف على نحو سليم.

قالت كوري: «أأنا لا أحيكه على نحو سليم؟ ماذا لو وضعتُ هذه الإبرة في أعينكن؟» ثم سألتْ لويزا باهتمام: «أهو لِصديق لكِ؟ صديق بالخارج؟»

أجابتها لويزا: «نعم.» بالطبع سيحسبنها عانسًا، وسيسخرْنَ منها أو يرثِينَ لحالها، وفقًا لأي نوع من التكلُّف يظهر في تصرفاتهن، إما لكونها طيبة القلب وإما لكونها ماجنة.

قالت الفتاة التي انتهت من تناول كعكتها: «احرصي إذن أن تكون الحياكة جيدة ومُحكَمة. أَحْكِمي الغرز كي يشعر بالدفء!»

•••

كانت ثمة فتاة تُدعَى جريس هورن بين هذا الجمع من الفتيات؛ كانت فتاة خجولة، لكن مظهرها ينمُّ عن قوة إرادة. وكانت في التاسعة عشرة من عمرها؛ عريضة المُحَيَّا، رفيعة الشفتين مضمومتهما عادةً، ذات شعرٍ بُني ينسدل على جبينها، وجسدٍ يافع على نحو جذَّاب. كان جاك أجنيو قد خطبها قبل أن يرحل، لكنهما اتفقا على ألَّا يخبرا أحدًا بخطبتهما.

وباء الإنفلونزا

أقامت لويزا علاقات صداقة مع بعض المسافرين الذين درجوا على الإقامة في الفندق، وكان من بينهم شابٌّ يُدعَى جيم فراري، يبيع الآلات الكاتِبة وتجهيزات المكاتب والكتب وكل أنواع الأدوات المكتبية. كان أشقر الشعر، مقوَّس المنكبين، مفتول القوام، في أواسط الأربعينيات من عمره؛ يحسب المرءُ من مظهره أنه يبيع أغراضًا أثقل وزنًا، وأكثر أهميةً بالنسبة إلى الرجال، كالمعدات الزراعية. لم يكفَّ جيم فراري عن السفر طوال فترة وباء الإنفلونزا، مع أنه لم يكن لأحد أن يعرف إن كانت المحلات مفتوحة آنذاك أم لا. بين الحين والآخر، كانت الفنادق تغلق أبوابها أيضًا، شأنها شأن المدارس ودور السينما، وحتى الكنائس، وهو الأمر الذي عدَّه جيم فضيحة.

قال للويزا: «يجب أن يخجلوا من أنفسهم، هؤلاء الجبناء! بِمَ ينفعهم مكوثهم في بيوتهم وانتظارهم الوباء حتى يصيبهم في عقر دارهم؟ إنكِ لم تغلقي المكتبة قطُّ، أليس كذلك؟»

أجابت لويزا أنها أغلقتها فقط عندما أُصيبَتْ بوعكة صحية؛ تعب خفيف لازَمَها أسبوعًا على أقصى تقدير، لكن بالطبع تعيَّن عليها الذهاب إلى المستشفى، لم يكونوا ليسمحوا لها بالإقامة في الفندق.

قال لها: «جبناء! إذا كان الموت مقدَّرًا لكِ، فلا مناصَ منه، أليس كذلك؟»

ناقشَا اكتظاظَ المستشفى، ووفاة الأطباء والممرضين، والمشهد البَشِع الذي لا يهدأ للجنائز. كان جيم فراري يعيش في شارعٍ به جمعيةٌ لدفن الموتى في تورونتو؛ قال إن الجمعية لا تزال تُخرِج الأحصنةَ السوداء والعربةَ السوداء، وكلَّ شيء يُستعان به في دفن الشخصيات المرموقة التي يستدعي دفنُها إحداثَ جَلَبة.

قال: «كانوا لا يكفون عن الضجيج ليلَ نهارَ.» وأردف وهو يرفع كأسه: «إليكِ نخبَ الصحة إذن. تبدين بخيرِ حال.»

كان يرى أن لويزا بَدَتْ في الواقع أفضل مما كانت عليه عادةً؛ لعلها بدأت تستعمل أحمر شفاه. كانت بشرتها بلون الزيتون الشاحب، وبدا له أن وجنتيها خاليتان من الحياة. كانت أكثرَ أناقةً أيضًا، وبذلت جهدًا أكبر كي تبدو ودودة. كانت متقلِّبة المزاج، تتصرف كيفما تشاء. صارت تحتسي الخمر الآن أيضًا، ولو أنها لم تكن تُقدِم على ذلك دون أن تضيف إليه الماء. كانت تحتسي كأسًا واحدة فحسب. تساءلَ هل هذا الاختلاف يرجع إلى وجود عشيق في حياتها؟ لكن العشيق ربما يضفي مزيدًا من البهجة على مظهرها دون أن يزيد اهتمامها بكلِّ مَن حولها، وهو الأمر الذي كان على يقينٍ من أنه قد حدث. الأرجح أن الوقت كان يمر بسرعة البرق، واحتمالات العثور على زوجٍ كانت تتبدد بشدة على خلفية الحرب، وذلك كفيل بإثارة أي امرأة. كانت أذكى وأطيب رُفقة، وأبهى جمالًا من ذي قبل أيضًا، لو قارَنَّاها بمعظم الزوجات. ماذا حلَّ بامرأة مثلها؟ أحيانًا يكون الحظ العاثر هو السبب فحسب، أو غياب الحكم السديد على الأمور في الوقت الذي كان وجوده فيه مهمًّا. هل الذكاءُ والثقةُ بالنفس بعضَ الشيء في الأيام الخوالي، كانا يُشعِران الرجال بعدم الارتياح؟

قال: «يستحيل تعطيل الحياة بالرغم من كل شيء. أحسنتِ صنعًا إذ أبقيتِ المكتبةَ مفتوحةً.»

كان ذلك بداية شتاء عام ١٩١٩ حيث تفشَّى وباء الإنفلونزا مجددًا، بعد أن أصبح من المفترض أن تكون قد انتهت مرحلة الخطر. بَدَوَا وكأنهما وحيدان في الفندق بأسره. كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة تقريبًا، لكن صاحب الفندق كان قد خَلَد إلى النوم. كانت زوجته في المستشفى بعد أن أصيبت بالإنفلونزا. كان جيم فراري قد جلب زجاجةَ الخمر من المَشْرَب الذي أُغلِق خشيةَ العدوى، وجلسَا إلى الطاولة بجوار النافذة في غرفة الطعام. تجمَّعَ الضباب الشتوي بالخارج، والتصق بالنافذة حتى شقَّتْ على الناظِر رؤيةُ أعمدةِ الإنارة أو السيارات القليلة التي تتهادى بحذرٍ على الجسر.

قالت لويزا: «أوه، لم يكن إبقاء المكتبة مفتوحةً مسألةَ مبدأ، بل كان لسبب شخصي أكثر مما يُخيَّل إليك.»

بعدها تعالت ضحكاتها، ووعدته بقصة عجيبة. قالت: «لا بد أن الخمر أطلق للساني العِنان.»

قال جيم فراري: «لستُ ثرثارًا من هُوَاة القيل والقال.»

رمقته بنظرة ساخرة حادة، وقالت إن مَنْ يزعم ذلك يتضح على الأغلب أنه على العكس تمامًا، بالضبط كأنْ يَعِد المرءُ بأنه لن يخبر أحدًا أبدًا.

قالت: «لكَ أن تفشي ما سأقول أيَّان وأنَّى شئتَ، بشرط ألَّا تُفصِح عن الأسماء الحقيقية، وألَّا تقصها على أحدٍ في الجوار. آمل أن تكون ثقتي في محلها وألَّا تفعل ذلك! ولو أنني لا أشعر بأنني أعبأ البتة الآن، ربما سيتبدل شعوري هذا فورَ أن تتبدد آثار الشراب. ثمة درس مستفاد في هذه القصة، درس للنساء اللائي يجعلن من أنفسهن أضحوكة. ستتساءل وما الجديد في ذلك، من الممكن أن نتعلم هذا الدرسَ كلَّ يوم!»

بدأت تقصُّ عليه قصة جندي شرع في مراسلتها من خارج البلاد، وأنه يَذْكرها منذ أن كان يتردَّد على المكتبة، لكنها لم تتذكره؛ ومع ذلك، فقد ردَّتْ على رسالته الأولى بمنتهى الود، وبدأت المراسلات تتوالى بينهما. أخبرها عن المكان الذي كان يقيم فيه بالبلدة، فعرجت على البيت كي تصف له ما حلَّ بالمكان. وأخبرها عن الكتب التي قرأها، وأفصحت هي عن معلوماتٍ شبيهةٍ تخصُّها. خلاصةُ القول أن كلًّا منهما أفصح عن بعض ما يعتمل بداخله، وأحسَّ بدفء مشاعره تجاه الآخر. كان هو الذي أعلن عن مشاعره أولًا. لم تكن لتتسرَّع كأي امرأة ساذجة. في البداية، ظنَّت أنها تتعامل بلطف معه فحسب، وحتى وقتٍ تالٍ لذلك، لم تكن تريد أن تنبذه وتحرجه. طلب منها صورةً، فالتقطت لنفسها واحدة، ولم تَرُق لها، لكنها أرسلتها إليه على أية حال. سألها إنْ كان لها عشيق، فأجابت صدقًا أن ليس لها عشيق. لم يرسل أي صورة له، ولم تطلب هي منه واحدة، ولو أن الفضول كان ينال منها بالطبع للتعرُّف على شكله. لم يكن من السهل أن يلتقط لنفسه صورةً في حربٍ تدور رحاها؛ علاوةً على ذلك، هي لم تَودَّ أن تظهر بمظهر المرأة التي تتراجع عن لطفها وكياستها لو اتَّضَح لها أن مظهره لا يرقى لتوقُّعاتها.

قال لها في رسائله إنه لا يتوقَّع أن يعود إلى أرض الوطن. قال إنه لا يخشى الموت بقدر خشيته أن ينتهي به الحال كما انتهى ببعض الرجال الذين رآهم وقت إقامته بالمستشفى متأثِّرين بجراحهم. لم يسهب في تفسيره، لكنها افترضت أنه كان يعني الحالات التي لم يعرفوا عنها شيئًا إلا الآن — ذوي الأعضاء المبتورة، والمصابين بالعمى، والمصابين بالحروق الذين أمست هيئتهم أقرب إلى الوحوش. لم يكن يعترض على قَدَره، وهي لم تقصد أن تلمِّح إلى ذلك؛ جُلُّ ما في الأمر أنه كان يتوقَّع الموت، واختاره من بين خياراتٍ أخرى، وفكَّرَ فيها وراسَلَها شأنه شأن الرجال الذين يراسلون حبيباتهم في موقفٍ كهذا.

عندما وضعت الحرب أوزارها، مرَّتْ فترةٌ قبل أن تصلها أنباؤه. كانت تستشرف رسالته كلَّ يوم، لكن هيهات! لم تصلها أي رسائل. كانت تخشى من أنه ربما كان من الجنود الأسوأ حظًّا في الحرب كلها؛ هؤلاء الذين قُتِلوا في الأسبوع الأخير، أو حتى في اليوم الأخير، أو حتى في الساعة الأخيرة. أخذت تنقِّب في الصحيفة المحلية كلَّ أسبوع، حيث ظلَّت قوائم الإصابات الجديدة تُطبَع إلى ما بعد ليلة عيد الميلاد، لكن اسمه لم يكن ضمن تلك القوائم. والآن، بدأت الصحيفة تسرد أيضًا قائمةً بأسماء العائدين إلى أرض الوطن، وعادةً ما كانت تطبع صورةً إلى جوار الاسم، وتعليقًا مُفرحًا، وعندما زادت أعداد الجنود العائدين إلى أرض الوطن بكثرة وبسرعة، لم يكن ثمة مجال لتلك الإضافات. وبعدها رأت اسمه، شأنه شأن غيره من الأسماء في القائمة. لم يكن قد قُتِل، ولم يُصَبْ بأذًى؛ إنه في طريق العودة إلى كارستيرز، بل لعله حتى قد بلغها بالفعل.

حينئذٍ، قرَّرَتْ أن تترك أبواب المكتبة مفتوحة على مصراعيها على الرغم من تفشِّي وباء الإنفلونزا. كلَّ يوم كانت على يقين من أنه سيحضر، كلَّ يوم كانت متأهِّبة للقائه. كانت أيام الآحاد عَذابًا بالنسبة إليها. عندما دخلت مجلس المدينة، كانت تحس دائمًا بأنه ربما سبقها إليه، ولعله كان متكئًا على الجدار بانتظار وصولها. أحيانًا كان هذا الشعور يكتنفها بطريقة غريبة جدًّا لدرجة أنها رأت ظلًّا حسبته رجلًا؛ الآن استوعبتْ كيف يظن الناس أنهم رأوا أشباحًا. كلما فُتِح الباب، كانت تتوقَّع أن تُطالِع وجهه. أحيانًا كانت تبرم اتفاقًا بينها وبين نفسها ألَّا تنظر إلى الباب إلى أن تعدَّ حتى العشرة. قليلٌ من الناس توافدوا على المكتبة بسبب وباء الإنفلونزا؛ فأوكلتْ لنفسها مهامَّ جديدة كإعادة ترتيب الأشياء خشيةَ أن يُجنَّ جنونها. ولم تكن تغلق المكتبة إلا بعد موعدها بخمس أو عشر دقائق. وبعدها تخيَّلت أنه ربما على الجانب الآخر من الشارع على درجات سلم مكتب البريد، يراقبها ويمنعه الخجل من أن يُقدِم على أي خطوة. كانت تخشى أن يكون مريضًا، فكانت تتحسَّس أخبارَ الحالات الأخيرة، لكنَّ أحدًا لم يذكر اسمه.

في ذاك الوقت تحديدًا، انقطعتْ عن القراءة تمامًا؛ بدتْ لها أغلفة الكتب وكأنها أكفان، إما بالية وإما مزيَّنة، ولعلَّ ما بينها ثرًى.

كان يجب أن يُلتمَس لها العُذْر، أليس كذلك؟ كان يجب أن يُلتمَس لها العُذر لظنِّها بعدَ كل هذه المراسلات أن الشيء الوحيد الذي يستحيل أن يحدث هو ألَّا يتودَّد إليها، وألَّا يتواصل معها مطلقًا، وألَّا يطأ عتبتها بعد كل هذه الوعود. كانت الجنازات تمر من أمام نافذتها دون أن تُلقِي لها بالًا ما دام أنه ليس في تابوت من التوابيت. حتى عندما كانت مريضة في المستشفى، كانت الفكرة المسيطرة عليها هي أنها لا بد أن ترجع، لا بد أن تغادر الفراش، لا بد ألَّا يظل الباب موصدًا في وجهه. تحاملتْ على نفسها ووقفت وهي تترنح، وعادت للعمل. ذات نهار قائظ، وبينما كانت ترتِّب الصحف الجديدة على الأرفف، برز اسمه أمام عينيها كحلم من أحلامها التي راودَتْها وهي محمومة.

قرأت إشعارًا عاجلًا عن زواجه من الآنسة جريس هورن! لم تكن فتاةً تعرفها، لم تكن من مرتادي المكتبات.

كانت العروس ترتدي فستانًا من الحرير الرقيق البُني المائل إلى الصُّفرة، يزدان بشريط يمزج بين اللونين البُني والأصفر الباهت، وتضع على رأسها قبعة من القش لونها بُني فاتح وتزدان بخطوط طولية مخملية بُنية اللون.

لم تكن توجد صورة، لم يكن يوجد سوى شريط يمزج بين اللونين البُني والأصفر الباهت. هذه هي نهاية قصتها الرومانسية، هذه هي النهاية التي لا مفرَّ منها.

لكنْ وهي جالسة إلى مكتبها في المكتبة، منذ بضعة أسابيع، في ليلة سبت بعد أن رحل الجميع، وأغلقت هي باب المكتبة، ولما همَّتْ بإطفاء الأنوار، اكتشفتْ قصاصة من الورق، خُطَّت عليها كلماتٌ قليلة: «كنتُ خاطِبًا قبل أن أسافر.» بلا اسم؛ لا اسمها ولا اسمه. وكانت صورتها موجودة مطمورة جزئيًّا تحت النشَّافة.

كان بالمكتبة تلك الليلة، وكانت تلك الفترةُ حافلةً بروَّاد المكتبة، وكثيرًا ما كانت تترك مكتبها بحثًا عن كتابٍ ما، أو لترتيب الأوراق، أو لوضع بعض الكتب على الأرفف. كان في الغرفة نفسها معها وراقَبَها، وسنحت له الفرصة كي يكتب لها هذا، لكنه لم يَدَعْها تتعرَّف عليه.

«كنتُ خاطِبًا قبل أن أسافر.»

سألت لويزا: «هل تعتقدُ أن الأمر برمته كان مَزْحة؟ هل تظنُّ أن رجلًا يمكن أن يكون شريرًا إلى هذه الدرجة؟»

«بحسب خبرتي، مثل هذه الخِدَع تمارسها النساء أكثر من الرجال. لا لا، لا تفكري بهذه الطريقة أبدًا، الأرجح أنه كان مخلصًا، ولعله انجرف بعض الشيء. هكذا يبدو لكِ ظاهر الأمور فحسب. كان خاطِبًا قبل أن يسافر، ولم يتوقَّع أن يرجع سالمًا، لكنه عاد سالمًا، ولمَّا عاد كانت خطيبته بانتظاره؛ ماذا كان بوسعه أن يفعل غير ذلك؟»

سألت لويزا: «ماذا كان بوسعه أن يفعل حقًّا؟»

«لقد حمَّلَ نفسه أكثر مما تطيق.»

قالت لويزا: «آه، هذا ما حدث، هذا ما حدث! وماذا عساه أوقعني في هذه الحالة سوى غروري الذي يجب أن يُكبَح جماحه!» بَدَتْ عيناها تبرقان، وبَدَا تعبيرُ وجهها لئيمًا، وهي تقول: «أَلَا تظن أنه أمعن النظر في صورتي، وحدَّث نفسه أن الأصل ربما يكون حتى أسوأ من تلك الصورة البائسة، فتراجَعَ وانسحَبَ؟»

أجابها جيم فراري: «لا أظن، ولا تحقِّري من شأنك!»

قالت: «لا أريدك أن تحسبني غبية. أنا لستُ غبيةً وعديمةَ الخبرة كما تصوِّرني هذه القصة.»

«حقًّا لا أحسبك غبية أبدًا.»

«ولكن، ربما تراني عديمةَ الخبرة؟»

حدَّث نفسه أن هذا هو النمط المعتاد، فبمجرد أن تفرغ امرأة من قصِّ قصةٍ عن نفسها، تنتقل إلى قصة أخرى. يشوِّش الخمر على عقولهن فيغيب عنهن تمامًا التعقُّلُ في الأمور.

سبق أن وضعَتْ ثقتَها فيه إذ أسَرَّتْ إليه بأنها كانت مريضةً بمستشفى، وأخبرته أنها وقعت في حب طبيب في ذلك المستشفى الذي كان مقامًا في بُقعة جميلة أعلى جبل هاميلتون، وجرت عادتهما على اللقاء هناك إلى جوار أروقة المَمْشَى المحاطة بأسيجة. طبقاتٌ من الصخور الجيرية شكَّلت درجًا، وفي البقاع المحتجبة كانت ثمة نباتات من غير المعتاد أن يراها المرءُ في أونتاريو؛ كنباتِ الأزالية، ونبات الوَرْدِيَّة، ونَبات الماغنوليا. كان الطبيب مُلِمًّا ببعض المعلومات عن النباتات، وأخبرها أن هذا هو الكساء النباتي الكاروليني؛ نباتات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الموجودة هنا، وأكثر كثافةً من حيث الإزهار. وثمة بعض البقاع التي تمثِّل غاباتٍ صغيرةً أيضًا وتحفل بأشجار بديعة المنظر، ومسارات تحتمي بالأشجار؛ أشجار الزنبق.

قال جيم فراري متعجبًا: «زنبق؟! زنبق على الأشجار!»

«لا، لا. هذا وصفٌ لشكل أوراقها!»

سخرت منه بتحدٍّ، ثم عضَّتْ شفتها. رأى من المناسب أن يستمر في الحوار فقال: «زنبق على الأشجار!» بينما أكَّدت هي بالنفي، وقالت إن الأوراق هي التي تتخذ شكلَ الزنبق، وأخبرته أنها لم تَقُل ذلك قطُّ، وأنَّ عليه أن يكفَّ عن ذلك! وطغت عليهما حالةٌ من التقييم الحَذِر جدًّا — كان يعرفها تمام المعرفة ويتمنَّى فقط أن تدركها هي — حالة حافلة بمفاجآتٍ سارَّةٍ، وإيماءاتٍ شبهِ ساخرة، وآمالٍ جريئة، ونوعٍ قَدَري من الحنان.

قال جيم فراري: «كل هذا لنا وحدنا. لم يحدث ذلك من قبلُ، أليس كذلك؟ وربما لن يحدث مجددًا.»

سمحت له بأن يمسك يديها، ويساعدها على النهوض من كرسيها، وأطفأ مصابيح غرفة الطعام بينما كانا يخرجان منها. صعدَا الدَّرَج الذي كثيرًا ما صعده كلٌّ منهما منفردًا، وتجاوزا صورةَ الكلب الواقف عند قبر سيده، وصورةَ هايلاند ماري وهي تنشد في الحقل، وصورةَ الملك العجوز بعينيه الجاحظتين، وبهيئته التي تنمُّ عن الانغماس في الملذات والشَّبع حتى التخمة.

أخذ جيم فراري ينشد أو يهمهم وهما يرتقيان الدَّرَج: «الليلة يخيِّم الضباب، وقلبي في حالة رُهاب.» وضع يده بثقة على ظهر لويزا، وقال وهو يوجهها عند منعطف الدَّرَج: «كل شيء بخير، كل شيء بخير!» وعندما صعدا الجزء الضيق من الدَّرَج وصولًا إلى الطابق الثالث، قال: «لم يسبق لي أن صعدت بهذا القرب من السماء في هذا المكان!»

لكن، في فترة متأخرة من الليل، أصدر جيم فراري أنينًا ختاميًّا واستيقظ ليوبِّخ لويزا، وكان النعاس لا يزال يغالبه: «لويزا، لويزا، لماذا لم تخبريني أن الوضع كان هكذا؟»

قالت لويزا بصوتٍ خافت متردِّد: «أخبرتُك بكل شيء.»

قال: «وصلني انطباعٌ غير صحيح إذن. لم أعتزم قطُّ أن يُحدِث ذلك فارقًا بالنسبة إليك.»

قالت إنه لم يُحدِث أي فارق. الآن، ودون أن يمارس عليها أي ضغوط، شعرت وكأنها تدور في دوامةٍ على نحوٍ لا يُقاوَم، وكأن الفِراش تحوَّل إلى نحلة دوَّارة يلهو بها طفلٌ صغير وكادت تطيح بها. حاولتْ أن تفسِّر أن آثار الدم على الملاءة ربما تُعزَى إلى حيضها، لكن كلماتها خرجت من فمها بعدم اكتراث، فكان من العسير الربط بينها.

حوادث

عندما عاد آرثر إلى البيت قبل الظهر بفترة وجيزة، قادمًا من المصنع، صاح قائلًا: «ابتعدي عن طريقي حتى أغتسل! وقع حادثٌ في المصنع.» لم يردَّ أحدٌ، كانت السيدة فير، مدبِّرة المنزل، في المطبخ تتكلَّم عبر الهاتف بصوت عالٍ جدًّا لدرجة أنها لم تستطِعْ أن تسمعه، وبالطبع كانت ابنته بالمدرسة. اغتسَلَ وألقى بكل شيء يرتديه في سلة كبيرة، ومسح الحمَّام جيدًا كما لو كان قاتِلًا. خرج في هيئة بهية حتى شعره كان لامعًا ومُصفَّفًا، وقاد سيارته إلى بيت الرجل. كان عليه أن يستفسر عن مكان البيت، كان يعتقد أنه يقع في بلدة فينيجر هيل، لكنهم نفوا ذلك وقالوا إن الأب هو الذي يعيش هناك، أما الشاب وزوجته فيسكنان على الجانب الآخر من البلدة وراء الموقع الذي أُقِيم فيه جهازُ تبخير التفاح قبل الحرب.

عثرَ على الكوخَيْن المَبنيَّيْن بالطوب، وكانا متجاورَيْن، واختار الكوخ الأيسر حسبما قيل له. لم يكن من الصعب التعرُّف على البيت على أية حال. سبقته الأنباء. كان باب البيت مفتوحًا، ولم يكن الأطفال قد بلغوا سنَّ دخول المدرسة، كانوا يمرحون في فِناء البيت. ثمة فتاة صغيرة كانت تجلس على عربةٍ للصغار، ولم تكن تتحرك، بل تعترض طريقه. دار من حولها، وبينما هو يفعل، خاطبَتْه فتاة أكبر سنًّا بطريقة رسمية — وتحذيرية.

«مات أبوها، أبوها هي!»

خرجت امرأة من الغرفة الأمامية، تحمل ستائر على ذراعَيْها، أعطتها لامرأة أخرى تقف في الردهة. كانت التي استلمت الستائر امرأة عجوز، ملامح وجهها مستكينة، وقد فقدت أسنانها العليا؛ من المرجَّح أنها كانت تأخذ طعامها معها إلى البيت لتتناوله بأريحية. أما المرأة التي أعطتها الستائر فكانت بدينة، ولكنها شابة نَضِرة البشرة.

قالت المرأة العجوز لآرثر: «أخبرها بألا ترتقي هذا السلم؛ ستكسر رقبتها وهي تخلع الستائر. هي تحسب أننا بحاجة إلى أن نغسل كلَّ شيء. هل أنت الحانوتي؟ أوه، أرجو المعذرة! أنت السيد دُودْ؟ جريس، تعالي هنا! جريس، إنه السيد دُودْ.»

قال آرثر: «لا تزعجيها.»

«تعتقد أنها ستزيل جميع الستائر وتغسلها وتعلِّقها مرةً أخرى بحلول الغد؛ لأنه سيتعين عليه الدخول إلى الغرفة الأمامية. إنها ابنتي، ولا يمكنني أن أقول لها شيئًا.»

جاءَ رجلٌ مريح الطَّلعة، يرتدي حُلَّة ذات طابع ديني، قادمًا من خلف البيت وقال بصوتٍ حزين: «سوف تهدأ الآن.» كان القَس الخاص بهم، لكنه لم يكن ينتمي لأيٍّ من الكنائس التي يعرفها آرثر، هل هو من الكنيسة المعمدانية؟ أم الخمسينية؟ أم من كنيسة الإخوة بليموث؟ كان يحتسي الشاي.

جاءت امرأة أخرى، وأزالت الستائر بسلاسة وخفة، وقالت: «ملأنا المِغسَلة وشغَّلْناها. في يومٍ كهذا اليوم، ستجفُّ بسرعة البرق. أَبْعِدي الأطفال عن هنا فحسب.»

كان على القَس أن يفسح الطريق، ويرفع كوب الشاي عاليًا كي يتفاداها هي وحزمة الستائر التي بين يدَيْها، قال: «ألن تقدِّم أيٌّ منكن كوبًا من الشاي للسيد دُودْ؟»

قال آرثر: «لا، لا عليك.» ثم قال للمرأة العجوز: «تكاليف الجنازة، إذا أمكنك أن تخبريها!»

قالت طفلة بنبرة منتصرة على الباب: «بالَتْ ليليان في ملابسها! سيدة أجنيو، بالت ليليان في ملابسها!»

قال القَس: «نعم نعم، سيكونون ممتنين جدًّا.»

قال آرثر: «المدفن وشاهِد القبر، كل شيء. تأكَّدْ أنهن يفهمن ذلك، أيًّا كان ما يردن أن يُكتَب على شاهِد القبر.»

كانت المرأة العجوز قد غادرت فناء البيت، وعادت وبين ذراعيها طفلٌ يصرخ. قالت: «المسكينة! لقد أخبروها أنها لا يُفترَض أن تدخل البيت، أين بوسعها الذهاب إذن؟ ماذا بوسعها أن تفعل سوى أن تبول في ملابسها؟!»

خرجت الشابة من الغرفة الأمامية وهي تجرجر سجادة.

قالت: «أريد أن تُوضَع هذه السجادة على الحبل وتُنفَض.»

قال القَس: «جريس، ها هو السيد دُودْ جاء ليقدِّم لك واجبَ العزاء.»

أردف آرثر: «ولأسأل إنْ كان ثمة شيء يمكن أن أفعله!»

صعدت المرأة العجوز الدَّرَجَ حاملةً الطفلة بين ذراعيها، وتبعها طفلان آخران.

وقعت عينا جريس عليهم.

«أوه، لا تفعلوا! عودوا إلى الخارج!»

«أمي هنا بالداخل.»

«نعم، وأمكِ في خير حال ومنشغلة، ولا تريد إزعاجًا، إنها تساعدني هنا بالخارج. أَلَا تعرفين أن والد ليليان تُوفِّي؟»

قال آرثر مُعرِبًا عن رغبته في الانصراف: «هل من خدمةٍ أُسدِيها لكِ؟»

حدَّقَتْ جريس فيه فاغرةً فاهها. صوت المِغسَلة كان يملأ أرجاء المكان.

قالت: «نعم، انتظر هنا!»

قال القَس: «إنها شاردة الذهن، ولا تقصد أن تتصرف بوقاحة.»

عادت جريس وهي تحمل مجموعةً من الكتب.

قالت: «هذه الكتب كان قد استعارها من المكتبة، لا أريد أن أدفع غرامةً عليها. كان يتردَّد على المكتبة ليلةَ كلِّ سبت؛ ومن ثَمَّ أعتقد أن موعد استحقاقها يحين غدًا. لا أريد التورُّط في مشكلةٍ مع المكتبة.»

قال آرثر: «سأهتمُّ بالأمر، يسعدني ذلك.»

«كلُّ ما في الأمر أنني لا أريد التورُّط مع المكتبة.»

قال القس معاتبًا لها برفق: «كان السيد دُودْ يتكلم عن تحمُّل أعباء الجنازة بالكامل، بما في ذلك شاهِد القبر، أيًّا كان ما تريدينه على الشاهِد.»

قالت جريس: «أوه، لا أريد شيئًا مبالغًا فيه.»

صباح الجمعة الماضية، وقع حادث أليم وبَشِع في مصنع نشر الخشب الخاص بآل دُودْ. شاء القَدَر أن يَعْلَق كُمُّ السيد جاك أجنيو بمسمارِ تثبيتٍ لولبيٍّ في شفقة توصيل، وهو يحاول أن يمدَّ يده تحت العمود الرئيسي، فانسحب ذراعه وكتفه تحت العمود؛ ونتيجةً لذلك، احتكت رأسه بالمنشار الدائري الذي يبلغ قطره نحو قدم، وفي لمح البصر انفصل رأسُ الشاب المسكين عن جسده بزاويةٍ من تحت أذنه اليسرى مرورًا بعنقه. ويُعتقَد أنه لقي حتفه على الفور، لم يمهله القدر أن يتكلم أو أن يصرخ، لكنَّ تدفُّقَ شلال الدم هو الذي لفتَ انتباهَ زملائه للكارثة.

هذه هي الرواية التي أُعِيدت طباعتها في الصحف بعد مرور أسبوع على الحادث، كي يطَّلع عليها مَنْ فاتَتْه مطالعة الخبر، أو ليحصل عليها مَن أراد أن يحتفظ بنسخة إضافية ليرسلها إلى أصدقائه أو أقاربه خارج البلدة (ولا سيَّما الذين اعتادوا العيش في كارستيرز ورحلوا عنها). صُحِّح هجاء كلمة «شفقة» إلى «شَقَفة»، ونُشِر اعتذار عن الخطأ. كان هناك أيضًا وصف لجنازة مهيبة جدًّا حضرها حتى أناس من بلدات مجاورة، وأخرى بعيدة جدًّا مثل مدينة والي؛ منهم مَنْ جاء بالسيارة، ومنهم مَنْ وفدَ بالقطار، ومنهم مَنْ جاء على متن عربةٍ تجرُّها الأحصنة. لم يعرفوا جاك أجنيو عندما كان على قيد الحياة، لكنهم أرادوا — حسبما جاء في الصحف — أن يكونوا مشاركين في تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير لما هالهم من بشاعة الحادث الذي أودى بحياته. أغلقت المحال جميعها في كارستيرز أبوابَها لساعتين ظُهْرَ ذاك اليوم، ولم يغلق الفندقُ أبوابَه، لا لشيءٍ سوى أن المُشيِّعين كانوا بحاجةٍ إلى مكان يتناولون فيه الطعام والشراب.

تركَ الفقيد من ورائه زوجته جريس وابنته ليليان ابنة السنوات الأربع. شارَكَ الفقيد بجسارة في الحرب العالمية الأولى، وأُصيبَ مرةً واحدة فقط، ولم تكن إصابته حينها بالإصابة الخطيرة، وعلَّق كثيرون على هذه المفارقة.

لم يكن إغفالُ الصحيفة مسألة نجاةِ الأب من الموت في الحرب مُتعمَّدًا، فمحرِّر الصحيفة لم يكن من أبناء مدينة كارستيرز، ونسي الناسُ إخبارَه بقصة الأب الناجي حتى فات الأوان.

لم يتذمَّر الأب نفسه من إغفال الصحيفة تلك القصة. في اليوم الذي أُقِيمت فيه الجنازة، حيث كان الطقس جميلًا، خرج من البلدة مثلما اعتاد أن يفعل عندما يستقر رأيه على تمضية يومه بعيدًا عن آل دُودْ. كان يرتدي قبعة من اللباد، ومِعطفًا طويلًا يمكن الاستفادة منه كبساطٍ إنْ أخذته سِنَةٌ من النوم. كان الحذاء الواقي الذي يرتديه مشدودًا بأناقة على قدميه بأشرطة مطاطية. خرجَ قاصدًا البحث عن أسماك الشبوط، لم يكن الموسم قد آنَ بعدُ، لكنه كان بارعًا دومًا في استباق الموسم. كان يصطاد خلال فصل الربيع وأوائل الصيف، ويطهو ما يصيده ويأكله. كان لديه مِقلاة وإناء يخفيهما على ضفة النهر، أما الإناء فكان لغلي الذُّرَة التي ينتزعها من الحقول في فترةٍ لاحقة من العام، حينما يتناول أيضًا ثمار أشجار التفاح البرية وأشجار العنب. كان في كامل قواه العقلية، بَيْدَ أنه كان يمقت الحوار، ولم يستطع أن يتفادى الحوار بالمرة خلال الأسابيع التالية لوفاة ابنه، لكنه كان ماهرًا في اختصاره.

«كان عليه أن يتحرَّى الحيطة أثناء عمله.»

ولمَّا كان يمشي في البلدة ذاك اليوم، التقى شخصًا آخَر لم يحضر الجنازة؛ التقى امرأةً. لم تحاول أن تبدأ معه أي حوار. الواقع أنها بَدَتْ حادةً في عزلتها مثله تمامًا إذ كانت تشقُّ طريقها بخطواتٍ واسعة وسريعة.

•••

امتدَّ مصنع البيانو الذي بدأ في تصنيع الأُرغن المزماري على طول الجانب الغربي من البلدة كجدار مدينةٍ من العصور الوسطى. كانت هناك بنايتان شاهقتان كالمتاريس الداخلية والخارجية، يصل بينهما جسر توجد به المكاتب الرئيسية. إذا توغَّلْتَ في المدينة وشوارع بيوت العمال، فستعثر على أفرانِ تجفيف الأخشاب ومصنعِ نشر الأخشاب ومخازنها. كان نفير المصنع بمنزلة تنبيه لاستيقاظ الكثيرين؛ حيث كان ينطلق في السادسة صباحًا، وكان ينطلق مرةً أخرى إيذانًا ببدء العمل في السابعة، وكذا في الثانية عشرة ظهرًا إيذانًا بساعة الغداء، وفي الواحدة ظهرًا لاستئناف العمل، وأخيرًا في الخامسة والنصف إيذانًا بانتهاء العمل وعودة العمال إلى بيوتهم.

كانت اللوائح مُعلَّقة بجوار ساعة تسجيل الحضور والانصراف تحت الزجاج، وكانت اللائحتان الأوليان تنصَّان على ما يلي:
«يُخصَم لمَن يتأخَّر دقيقةً واحدة ما يوازي ١٥ دقيقة من أجره. كُنْ مُنضبطًا.»
«لا تستخِفَّ بعاملَيِ الأمان والسلامة. انتبهْ لنفسك وللعامِل الذي يعمل إلى جوارك.»

سبق أن وقعتْ حوادث في المصنع، والواقع أن ثمة رجلًا لقي مصرعه عندما وقع فوقه حِملٌ من الأخشاب؛ وقعَ ذلك الحادث قبل انضمام آرثر للعمل في المصنع. وذات مرة أثناء الحرب، فقدَ رجل ذراعه أو جزءًا من ذراعه، ويومَ أن وقع ذلك الحادث، كان آرثر في تورونتو؛ لذا، فهو لم يشهد حادثًا واحدًا، لم يشهد حادثًا خطيرًا على أية حال، لكن كثيرًا ما أصبحت تراوِده الآن فكرةُ أن شيئًا ما قد يحدث.

لعله لم يكن لديه شعور جازم بأن المتاعب لن تعترض طريقه مثلما كان يشعر قبل وفاة زوجته. تُوفِّيت زوجته عام ١٩١٩ في الموجة الأخيرة لوباء الإنفلونزا، بعد أن تجاوَزَ كلُّ الناس خوفَهم من الوباء؛ حتى هي لم تكن خائفة. كان ذلك منذ خمس سنوات تقريبًا، وما زال الحادث بمنزلة الستار الذي أُسدِل على جزءٍ من حياته كان يخلو من الهموم. لكن لبعض الناس، بَدَا آرثر دومًا إنسانًا مسئولًا وجادًّا جدًّا؛ لم يلحظ أحدٌ فارقًا كبيرًا في شخصيته.

في الأحلام التي راودته عن الحوادث، خيَّم الصمت، وكان كل شيء معطلًا، كل آلة في المكان توقَّفت عن إصدار الضجيج المعتاد منها، وتلاشت أصوات الجميع، وعندما تطلَّع آرثر من نافذة المكتب، أدرك أن يوم الدينونة قد حان. لم يستطع أن يذكر قطُّ أنه رأى أيَّ أمارة على ذلك، كلُّ ما رآه هو الخواء وغبارٌ منتشر في ساحة المصنع يُنْبِئه بأن الساعة قد حان موعدها «الآن».

•••

ظلت الكتب داخل سيارته لأسبوع أو ما شابَهَ. قالت ابنته بي: «ماذا تفعل هذه الكتبُ هنا؟» وحينئذٍ استعادَ الذكريات.

قرأتْ بي عناوينَ الكتب وأسماءَ مؤلِّفيها: «السير جون فرانكلين وقصة حب المَعبر الشمالي الغربي» بقلم جي بي سميث، و«ماذا أصاب العالَم؟» بقلم جي كي تشيسترتون، و«الاستيلاء على كيبيك» بقلم أرشيبولد هيندري، و«البُلشُفية: النظرية والتطبيق» بقلم اللورد برتراند راسل.

قالت بي: «البُلجُفية»، وصحَّحَ لها آرثر الكلمة. سألته عن مغزاها، فقال: «إنه مذهب شائع في روسيا لا أستوعِبُه — عن نفسي — استيعابًا وافيًا، لكنه مُخْزٍ بحسب ما سمعته عنه.»

كانت بي في الثالثة عشرة من عمرها آنذاك، وكانت قد سمعت عن الباليه الروسي والدراويش، وعلى مدار العامين التاليين، كانت تعتقد أن البُلشُفية ضربًا من الرقص الشيطاني أو ربما الإباحي! على الأقل كانت هذه هي القصة التي قصَّتْها على الآخرين عندما شَبَّتْ عن الطوق.

لم تذكر أن الكتب كانت مرتبطةً بالرجل الذي تعرَّضَ للحادث، كان ذلك سيجعل القصة أقل إمتاعًا. ولعلها نسيتْ فعلًا.

•••

كانت أمينةُ المكتبة مرتبكة، فالكتب ما زالت تحتفظ ببطاقات التعريف بداخلها؛ مما يعني أن أحدًا لم يتصفَّحها، كلُّ ما هنالك أنها أُزِيحت عن الأرفف، وأُخِذت من المكتبة.

«الكتابُ الذي ألَّفَه اللورد راسل مفقودٌ منذ فترة طويلة.»

لم يكن آرثر معتادًا على هذا النوع من التأنيب، لكنه قال برفق: «إنني أعيدهم بالنيابة عن شخصٍ آخَر؛ ذلك الشاب الذي قضى نحبه في حادث المصنع.»

فتحت أمينة المكتبة كتاب فرانكلين، كانت تتطلَّع في صورة القارب المُحاصَر بالثلج.

قال آرثر: «زوجته طلبتْ مني إعادتها.»

التقطتْ كلَّ كتاب على حدة، وهزَّتْه وكأنها تتوقَّع أن ثمة شيئًا سيسقط منه، ومرَّرَتْ أصابعها بين الصفحات. كان الجزء السفلي من وجهها يتحرَّك بطريقة غير مُستحسَنة، وكأنها كانت تمضغ وجنتَيْها من الداخل.

قال آرثر: «تخميني أنه أخذها معه إلى البيت لمَّا أحسَّ برغبة في ذلك.»

بعدها بدقيقة قالت: «عُذْرًا، ماذا قلتَ؟ أستميحك عُذْرًا!»

كان يعتقد أن الحادث هو الذي أربكها. فكرة أن الرجل الذي مات تلك الميتة كان آخِر مَنْ فتح هذه الكتب، وقلَّبَ هذه الصفحات، فكرة أنه ربما خلَّفَ جزءًا من حياته في هذه الكتب؛ قصاصةً من الورق أو شريطًا لتنظيف الغليون وضعه لتمييز الصفحات، أو حتى بعض شذرات التبغ. كان هذا ما أربكها.

قال: «على أية حال، أتيتُ إلى المكتبة لإعادة هذه الكتب.»

انصرفَ عن مكتبها لكنه لم يغادر المكتبة في الحال، فهو لم يدخل المكتبة منذ سنين. ها هي صورة أبيه مُعلَّقة بين النافذتين الأماميتين حيث كانت دومًا.

إيه في دُودْ، مؤسِّس مصنع دُودْ للأُرغن، وراعي هذه المكتبة المؤمِن بالتقدُّم والثقافة والتعليم، صديقٌ مخلص لمدينة كارستيرز والعُمَّال.

كان مكتب أمينة المكتبة في الممر الواصِل بين الغرفتين الأمامية والخلفية، وكانت الكتب موضوعةً على الأرفف المُقسَّمة إلى صفوفٍ في الغرفة الخلفية. كانت ثمة مصابيح مظللة باللون الأخضر لها حبال تشغيل طويلة تتدلَّى في الممرات التي بين الأرفف. تذكَّرَ آرثر أن ثمة مسألة أُثِيرت منذ عدة سنواتٍ باجتماع مجلس الإدارة بشأن شراء لمبات بجهد ٦٠ واط بدلًا من ٤٠ واط. أمينة المكتبة هذه هي التي تقدَّمت بهذا الطلب، وأُجِيب طلبها.

في الغرفة الأمامية، كانت الصحف والمجلات على أرفف خشبية، وبعضُ الطاولات الدائرية الثقيلة تحيط بها مقاعد بحيث يستطيع الناس الجلوس إلى الطاولات والقراءة، علاوةً على صفوف من الكتب الداكنة الكبيرة وراء الزجاج، ربما كانت قواميسَ وأطالسَ وموسوعاتٍ. نافذتان عاليتان جميلتان تطلان على الشارع الرئيسي، وصورةُ والِد آرثر مُعلَّقة بينهما. ثمة صور أخرى مبعثرة في أنحاء الغرفة ومُعلَّقة على ارتفاع أعلى من اللازم، ومُعتِمة جدًّا، وتعجُّ بعدد هائل من الشخصيات لدرجةٍ تجعل من الصعب على الناظِر إليها استبيانهم بسهولة. (لاحقًا، عندما أمضى آرثر ساعات عديدة في المكتبة، وناقشَ محتوى هذه الصور مع أمينة المكتبة، عَلِمَ أن واحدة منها كانت تمثِّل معركة فلودن حيث كان ملك اسكتلندا ينطلق نزولًا من تلٍّ عالٍ نحو حجاب كثيف من الدخان، وأخرى لجنازة للفتى ملك روما، وثالثة للشجار الذي نشبَ بين أوبيرون وتيتانيا من مسرحية «حُلم ليلة صيف».)

جلس إلى إحدى طاولات القراءة حيث يمكنه أن يتطلَّع بناظريه عبر النافذة، وأمسكَ بنسخة قديمة من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» كانت موضوعة على تلك الطاولة. انصرفَ عن أمينة المكتبة، كان يرى أن هذا هو التصرُّف السليم ما دام أنها بَدَتْ منفعلةً بعض الشيء. وفدَ زوَّارٌ آخرون على المكتبة، وسمعها تتكلم معهم، بدا صوتها طبيعيًّا بالقدر الكافي الآن. ظلت فكرة مغادرة المكتبة تراوده، لكنه لم يفعل.

أعجبته النافذة العالية المكشوفة التي انعكس عليها ضوء الليل الربيعي، وراقت له روعة هاتين الغرفتين وطريقة ترتيبهما. أبهرته فكرة تردُّد الكِبار على المكتبة، ومطالعتهم للكتب بانتظام، أسبوعًا تلو الآخر، كتابًا بعد كتاب، حياةً كاملة. هو نفسه كان يطالع الكتب بين الفينة والأخرى كلما رشَّح له أحدُهم كتابًا، وعادةً كان يستمتع بالكتب التي يُطالِعها، وبعدها ينتقل إلى قراءة المجلات كي يتابع مستجدات الأمور، ولم يكن يفكر قطُّ في قراءة الكتب حتى يعترض طريقَه كتابٌ جديد بالمصادفة.

كانت ثمة فترات عابِرة خَلَتْ فيها المكتبة من روَّادها، ولم يَبْقَ إلا هو وأمينة المكتبة.

خلال واحدة من تلك الفترات، دَنتْ منه ووقفتْ إلى جواره حيث انشغلت بإعادة بعض الصحف إلى مكانها على الرَّف، وعندما انتهتْ تحدَّثَتْ إليه بإلحاحٍ مكبوت.

«أظنُ أن الرواية التي نُشِرت في الصحيفة عن الحادث كانت دقيقةً نوعًا ما، أليس كذلك؟»

قال آرثر إنها ربما كانت دقيقةً أكثر من اللازم.

«لماذا؟ لماذا تقول ذلك؟»

فشرح لها نَهَمَ العامة الذي لا ينتهي للتفاصيل المُرعبة. هل على الصحيفة أن تُشبِع نَهَمَ قُرَّائها؟

قالت أمينة المكتبة: «أعتقد أن هذا أمر طبيعي، أعتقد أنه من الطبيعي أن يرغب الناس في معرفة الأسوأ. الناس يريدون تصوُّرها، وهذه رغبتي شخصيًّا. لا أعرف شيئًا عن الآلات، ومن الصعب بالنسبة إليَّ أن أتخيَّل ما حدث حتى بمساعدة الصحيفة. هل انحرفت الآلة عن مهمتها المعتادة؟»

أجابها آرثر: «لا، لم تُمسِك الآلة بتلابيبه وتسحبه نحوها كما لو كان ذبيحة؛ جُلُّ ما في الأمر أنه ارتكبَ خطأً ما، أو تصرَّف بغير حرص على أية حال، فهلكَ على الفور.»

لم تنبسْ ببنت شفة، لكنها لم تبرح مكانها.

قال آرثر: «على المرء أن يحتفظ برباطة جأشه أثناء العمل، وأَلَّا يسرح بذهنه ولو لثانية واحدة. الآلة خادمك الأمين، وهي خادم ممتاز، لكن لا عقلَ له.»

تساءل هل قرأ ما لفظ به توًّا في مكانٍ ما أم توصَّلَ إليه بنفسه.

قالت أمينة المكتبة: «وأعتقد أنه لم تكن ثمة وسائل لحماية العُمَّال، أليس كذلك؟ لكن لا بد أنك على دراية بكل ذلك.»

حينئذٍ تركته، فقد دخلَ أحدهم المكتبة.

بعد الحادث، شهدت البلدة موجة من الطقس الدافئ، وبدا طولُ الليالي وحرارةُ النهار المنعشة مفاجئَيْن ومدهشَيْن، وكأنَّ هذه الفترة ليست نهاية الشتاء في هذه البقعة من البلد كلَّ عام تقريبًا. انحسرت مياه الفيضان بطريقة عجيبة إلى المستنقعات، وبرزت الأوراق الغضة من الفروع المخضبة بالحمرة، وفاحت روائح الأفنية المحاذية لمخازن الحبوب في البلدة، واختلطت برائحة أزهار الزنبق.

بدلًا من أن تنتاب آرثر رغبةٌ في الخروج في مثل هذه الليالي، وجدَ أفكارَه تجنح إلى المكتبة، وكثيرًا ما كان ينتهي به المآل هناك، فيجلس في البقعة التي وقع اختياره عليها في أول زيارة له. كان يجلس نصف ساعة أو ساعة كاملة، يطالع مجلة «إلستراتيد لندن نيوز» أو «ناشيونال جيوجرافيك» أو «صنداي نايت» أو «كوليارز»، كل هذه المجلات كانت تصل حتى باب بيته، وكان من الممكن أن يُطالِعها دون أن يبرح منزله، في مختلاه، ناظرًا إلى حديقته المُسيَّجة التي كان يعتني بها العجوز أجنيو، وأحواض الزرع الحافلة الآن بأزهار الزنبق من كل لون زاهٍ وتوليفة مبهجة. بَدَا أنه يفضِّل منظرَ الشارع الرئيسي الذي تقطعه سيارات الفورد الجديدة الرشيقة بين الفينة والأخرى، أو بعض السيارات الأقدم ذات الأسقف القماشية المُغبَّرة التي تُصدِر أصواتًا حادة. كان يفضِّل مكتبَ البريد ببرج ساعته التي تشير إلى توقيتات أربع مناطق مختلفة — كلُّها خاطئة، كما كان يحلو للناس أن يقولوا. وكذلك كان مولعًا بمراقبة المشاة والمتسكعين على الأرصفة، والذين يحاولون تشغيل نافورة مياه الشرب، مع أنه تقرَّر إيقافها عن العمل حتى غُرَّة يوليو.

لم يكن يشعر بالحاجة إلى الاختلاط بالناس، فهو لم يكن هناك من أجل تبادُل أطراف الحديث مع الآخرين، ولو أنه كان يُلقِي السلامَ على مَنْ كان يعرف اسمه، وكان يعرف أغلبهم بالفعل. وربما يتبادل بضع كلمات مع أمينة المكتبة، ولو أنها لا تتجاوز «صباح الخير» كلما جاء، و«مساء الخير» كلما رحَلَ. لم يكن يطلب شيئًا من أحد، وأحسَّ بأن حضوره لطيفًا ومطمئنًا، والأهم من ذلك كله، طبيعيًّا؛ فبجلوسه هنا للمطالعة والتأمُّل، هنا بدلًا من البيت، أحسَّ وكأنه يقدِّم شيئًا للعالم، وأن الناس يستطيعون التعويل على ما يقدِّمه.

كان هناك تعبير يعشقه، وهو «خادم العامَّة». أبوه الذي كان يتطلَّع فيه هنا بوجنتيه ذواتي اللون الوردي الباهت، وعينيه الزرقاوين الجامدتين، وفمه العجوز النَّكِد؛ لم يفكِّر في نفسه من هذا المنطلق قطُّ؛ كان يرى نفسه شخصية عامة وولي نِعَم. كان يعيش بنزواته وقراراته دون أن يمسه أذًى. ربما جالَ في أنحاء المصنع كلما شهدتِ الأعمالُ فترةَ كساد، ليقول لهذا العامِل أو ذاك: «عُدْ إلى منزلك! عُدْ إلى منزلك ولا تبرحه فربما أَعدتُك إلى عملك مرةً أخرى.» فينصرف العامِل. ربما يعمل العُمَّال الذين يسرحهم من العمل في حدائقهم، أو يخرجون لاصطياد الأرانب، فتتراكم عليهم فواتير مشترياتهم، ويُسلِّمون بأن الحال لم يكن ليكون خلاف ذلك. كانوا يتندرون بصيحته: «عُدْ إلى منزلك!» لقد كان بطلهم أكثر مما كان يمكن أن يصبح عليه آرثر مهما حاوَلَ، لكنهم ليسوا على استعداد لتحمُّل المعاملة نفسها اليومَ. خلال الحرب، اعتادوا على الأجور العالية، واعتادوا أن يوجد طلبٌ عليهم دومًا، ولم تخطر ببالهم قطُّ حالةُ إغراقِ السوق بالعمالة التي حدثت عندما عاد الجنود إلى أرض الوطن، ولم يخطر ببالهم كيف أن مشروعًا كهذا ظلَّ يحقِّق أرباحًا بالحظ وبشيء من الذكاء من عامٍ إلى آخَر، وحتى من موسم إلى آخَر. لم تكن التغيُّرات تروق لهم — فقد استاءوا من التحوُّل الآن إلى تصنيع الأُرغن الآلي الذي ظنَّ آرثر أنه الأمل في المستقبل — لكن آرثر كان يفعل ما يتحتم عليه القيام به، ولو أن أسلوبه في مباشَرة العمل كان على النقيض من أسلوب والِده تمامًا. كان يدرس كلَّ الأمور ويتدبَّرها مرارًا وتكرارًا، ويختفي عن المشهد إلا إذا دعت الضرورة إلى خلاف ذلك، ويحافظ على كرامته، ويحاول دومًا أن يكون مُنصِفًا.

كانوا يتوقَّعون أن يتم توفير كل شيء من أجلهم، وهكذا كانت توقُّعات البلدة بأسرها؛ ستطلُّ عليهم فرصُ العمل كما تطلُّ عليهم الشمس كل صباح. وتصاعدت الضرائب المفروضة على المصنع في الوقت نفسه الذي فُرِضت فيه ضرائب على المياه، التي جرى العُرْف على إمدادها بالمجان. وأمست صيانةُ طرق الولوج إلى المصنع مسئوليةَ المصنع نفسه لا البلدة، وكانت الكنيسة الميثودية تطالب بأموال طائلة من أجل بناء مدرسة الأحد الجديدة، وكان فريق الهوكي التابع للبلدة بحاجةٍ إلى زيٍّ جديد، وكان العمل جاريًا على تركيب حلوق حَجرية لبوابات متنزه النصب التذكاري لضحايا الحرب، وفي كل عام كان أذكى الصبية في السنة النهائية من المرحلة الثانوية يُوفَد إلى الجامعة على حساب آل دُودْ.

سَلْ وسيُلبَّى طلبُك!

لم تكن التوقُّعات أقلَّ تفاؤلًا بالبيت أيضًا، فقد كانت بي مشتاقة للالتحاق بمدرسة خاصة، والسيدة فير تضع عينيها على خلَّاط جديد للمطبخ، ومِغسَلة جديدة أيضًا. وكان من المُخطَّط له في العام الحالي طلاءُ كلِّ الزخارف التي يزدان بها البيت من الخارج، وكلِّ تلك الديكورات الزخرفية التي استنفدت كمياتٍ مهولة من الطلاء. وفي خضم ذلك كله، ما كان من آرثر إلى أن طلب لنفسه سيارةً جديدة طراز كرايسلر.

كانت ذلك ضروريًّا، فلا بد أن تكون لديه سيارة جديدة يقودها، لا بد أن يقود سيارة جديدة، ولا بد أن تلتحق بي بالمدرسة، ولا بد أن تحصل السيدة فير على أحدث الأجهزة، ولا بد من طلاء الزخارف التي يزدان بها البيت بطلاءٍ جديدٍ أبيض بياض ثلوج الكريسماس. إن لم يحدث ذلك، فإنهم سيخسرون احترامَ الناس لهم، وثقتهم بأنفسهم، كما أنهم سيشرعون في التساؤل إن كانت ظروفهم تتدهور وحالهم يسوء. كان بالإمكان تأمين كل هذه الاحتياجات؛ بشيء من الحظ يمكن تأمينها كلها.

شعرَ آرثر لسنواتٍ طويلة عقب وفاة والِده بأنه إنسانٌ مُدَّعٍ، ولم يخالجه هذا الشعور طوال الوقت، بل بين الحين والآخر. الآن تبدَّدَ هذا الشعور … كان بإمكانه الجلوس هنا والإحساس بأن هذا الشعور قد تبدَّدَ.

•••

كان في مكتبه حين وقع الحادث، يتشاور مع مندوب مبيعاتٍ يروج لقشرة الخشب. تناهى إلى مسامعه تغيُّر في الضوضاء الصادرة من المصنع، لكن التغيُّر كان زيادةً في حدَّة الضوضاء وليس سكونًا. لم يكن مثل هذا التغيُّر استنفارًا له — كل ما في الأمر أنه أزعجه بعض الشيء. ونظرًا لأن الحادث وقع في مصنع نشر الخشب، لم يعلم به أحدٌ على الفور في الورش أو في أفران تجفيف الخشب أو في المخازن، واستمرَّ العمل في بعض الأماكن دون انقطاع لعدة دقائق. حقيقةُ الأمر هي أن آرثر الذي كان منكبًّا على عينات قشرة الخشب الموضوعة على مكتبه، ربما كان من بين آخِر مَنْ أدركوا أن ثمة انقطاعًا في العمل. طرح على مندوب المبيعات سؤالًا، فلم يُجِبْه الأخير. نظر آرثر لأعلى ليجد الرجل وقد فغر فاهه، وارتسمت علامات الهلع على وجهه، وتبدَّدَتْ رباطة جأشه تمامًا.

وبعدها سمع مَنْ ينادي اسمه — سواء «السيد دُودْ» كالمعتاد، أو «آرثر! آرثر!» على لسان الرجال الأكبر سنًّا الذين عرفوه طفلًا — وسمع أيضًا كلماتٍ متناثرة مثل: «منشار»، و«رأس»، و«يا إلهي، يا إلهي!»

ربما تمنَّى آرثر لو سادَ شيءٌ من الصمت، وانحسرت الأصوات والأشياء بتلك الطريقة المرعبة والمريحة في آنٍ واحد، ليُفسَح له المجال. لكن ما حدث كان خلاف ذلك؛ ثمة صراخ وتحقيقات وأناس يُهرَعون في كل مكان، وهو في خضم ذلك كله مدفوعٌ نحو مصنع نشر الخشب. ثمة رجل أُغشِي عليه وسقط بطريقةٍ كان من شأنها أن تودي بحياته لولا أنهم فصلوا الكهرباء عن المنشار قبل لحظة واحدة. كان جسده ملقًى على الأرض، لكن هذا الجسد كان كاملًا بحيث إن آرثر لم يستمر طويلًا في الخلط بينه وبين جثة الضحية. أوه، لا، لا! لقد واصَلوا دفعه للأمام. تحوَّلت نشارةُ الخشب إلى اللون القرمزي؛ كانت مخضَّبة بالدماء. تناثرت الدماء على كومة الخشب هنا، وكذلك شفرات المناشير. كانت هناك كومةٌ من ملابس العمل أغرقتها الدماء مُلقاةٌ في نشارة الخشب، وأدرك آرثر أن هذه هي الجثة التي لم تكن سوى جذع الرجل وأطرافه فحسب. شلالٌ من الدماء تدفَّق لدرجة أنه أمسى من الصعب تمييز شكل الجثة لأول وهلة، حيث غيَّرَ الدم من هيئتها فأصبحت أشبه بحلوى البودينج.

أول ما خطر على باله أن يغطي الجثة، فخلع سترته، وبادر بتغطيتها. كان عليه أن يدنو منها حتى إن حذاءه أصدر صوتًا وهو يغوص في الدماء. ولعل سببَ عدم إقدام سواه على هذا الفعل أن العُمَّال ببساطةٍ لا يرتدون سترات.

كان أحدهم يصرخ: «هل ذهبَ أحدٌ لاستدعاء الطبيب؟» قال رجل على مقربة من آرثر متعجبًا: «نذهب لاستدعاء الطبيب! الطبيب لن يستطيع أن يخيط رأسه في جذعه، أليس كذلك؟»

لكن آرثر أصدر أوامره باستدعاء الطبيب، حيث كان يرى أن ذلك أمر ضروري، فلا يجوز أن تقع حالة وفاة ولا يُستدعَى طبيبٌ. استنفرت أوامره بقيةَ الرجال، فسعوا لإحضار الطبيب والحانوتي والتابوت والأزهار والواعِظ. بدءوا في تنفيذ ما كلَّفهم به، فأزالوا نشارة الخشب، ونظَّفوا المنشار، وذهب مَنْ كانوا على مقربة من الحادث ليغتسلوا بحسب أوامره. وحُمِل الرجل الذي أُغشِي عليه إلى المطعم. سأل آرثر عن حال هذا الرجل وطلب من عامِلة المكتب أن تصنع له قدحًا من الشاي.

كان الأمر يدعو إلى احتساء رشفاتٍ من الكونياك أو الويسكي، لكن كانت لديه قاعدة تحظر احتساء هذه الكحوليات بين جنبات المصنع.

ما زال ثمة شيء مفقود وهو الرأس. أين كان الرأس؟ قالوا إنه هناك، هناك. سمع آرثر صوت تقيُّؤ على مقربة منه. حسنٌ، إما أن يرفع الرأسَ بنفسه وإما أن يطلب إلى أحدهم أن يرفعه، لكنَّ صوتَ تقيُّؤ بعض مَن حوله من شدة الخوف حسَمَ الأمر وشجَّعه، ومنحه شيئًا من قوة الإرادة كي يتقدَّم هو بنفسه. رفع الرأس عن الأرض، وحمله برفق وبحرص وكأنه يحمل إبريقًا ثمينًا يحتاج إلى عناية شديدة في حمله. أزاح الوجه عن ناظِر الآخرين، وكأنه يُطَمْئِنه، وضمَّه إلى صدره. تسرَّبَ الدم عبر قميصه، والتصق بجلده. كان الدم دافئًا؛ شعر وكأنه رجل مصاب. كان يعلم أنهم يراقبونه، وكان يشعر بنفسه وكأنه ممثل أو كاهن. ماذا سيفعل بالرأس الآن بعد أن ضمَّه إلى صدره؟ خطرتْ له إجابةُ هذا السؤال أيضًا؛ يضع هذا الرأس على الأرض ويُعِيده إلى مكانه الطبيعي، ولكن بالطبع بلا إحكامٍ، فلا يمكنه أن يلحم الرأس بالجسد ويعيده كما كان تمامًا؛ فقط سيضعه في مكانه تقريبًا، ويرفع السترة ويجره إلى موضع جديد.

لم يكن بوسعه الآن الاستفسار عن اسم الرجل، سيتعيَّن عليه أن يحصل على اسمه بطريقةٍ أخرى؛ فبعد الخدمات التي قدَّمَها للمكان، سيكون الجهل باسمه بمنزلةِ إساءةٍ.

لكنه اكتشف أنه يعرف اسمه بالفعل، خطرَ له الاسم على حين غِرَّة؛ فبينما كان يضع طرفَ سترته على أذن القتيل التي ما برحت تشير لأعلى، ومن ثمَّ بدت وكأنها مفعمة بالحياة دون أن يصيبها عطب، خطرَ له الاسم. إنه ابن الرجل الذي كان يتردَّد على بيتهم ليعتني بالحديقة، ذاك الرجل الذي لم يكن يُعْتَمَد عليه دومًا. رجل آخَر يختاره القَدَر مرةً أخرى إثرَ عودته من الحرب. هل هو متزوج؟ هكذا حسبه. سيتعيَّن عليه أن يزور زوجته في أسرع وقتٍ ممكن، أما الآن، فإنه بحاجة إلى ملابس نظيفة.

•••

عادةً كانت أمينةُ المكتبة ترتدي بلوزة حمراء داكنة، وكانت شفتاها مخضبتين بلونٍ يتماشى مع لون البلوزة، وكان شعرها مقصوصًا قَصَّة قصيرة. لم تَعُدْ يافعةً بعدُ، لكنها احتفظتْ لنفسها بهيئة مُلفِتة للأنظار. تَذكَّر أنه منذ عدة سنوات عندما عيَّنوها، حدَّث نفسه بأنها بارعة الأناقة. لم يكن شعرها قصيرًا آنذاك، بل كان ملفوفًا أعلى رأسها تأسِّيًا بالموضة التي كانت شائعةً آنذاك. ولم يفقد شعرها لونه؛ ذلك اللون الدافئ البديع الذي يشبه لون أوراق شجر البلوط في الخريف. حاوَلَ أن يتذكَّر كَمْ كان راتبها، بالتأكيد لم تكن تجني الكثير، لكنها بَدَتْ رائعةَ الجمال حتى مع دَخْلها المحدود. وأين كانت تعيش؟ هل في ذلك النُّزُل الذي كان يقيم فيه أساتذة المدارس؟ لا، ليس هناك، كانت تعيش في الفندق التجاري.

والآن، ثمة شيء آخَر خطَرَ له؛ لا توجد قصة محددة يستطيع أن يتذكرها. لم يكن بوسع أحد الزعم بثقةٍ أنها سيئة السُّمعة، لكن سُمعتها لم تكن خالية من الشبهات أيضًا، فقد زُعِم أنها تحتسي الشراب برفقة المسافرين. ربما لديها رفيقٌ بينهم، رفيقٌ أو رفيقان.

كانت ناضجة بما يكفي لتفعل ما يحلو لها. لم يكن وَضْعُها مماثِلًا لتلك المُعَلِّمة التي عُيِّنت، من بين أسباب أخرى، لأجل أن تكون مثالًا يُحتذَى به. لا غبارَ عليها ما دامتْ تنجز عملها كما ينبغي، ولا أحد يستطيع أن يُنكِر ذلك. حياتها أمامها لتعيشها، شأنها شأن غيرها من البشر. ألَّا تفضِّل أن تعمل امرأةٌ فاتنة هنا بدلًا من العجوز النَّكِدة ماري تامبلين؟ قد يَفِد الغرباء على البلدة، ويحكمون عليها بما تراه أعينُهم؛ ولذا فإننا بحاجةٍ إلى امرأة فاتنة حَسَنة الخُلُق.

كفاكَ! مَنْ قال إنه ليس لدينا امرأة بهذه المواصفات؟ كان يُجرِي حوارًا افتراضيًّا ويدفع الحجة بالحجة نيابةً عنها، وكأنَّ شخصًا أتى وأراد أن يُقصِيها من مكانها، ولم يكن ثمة ما يوحي له بأن الحال كان على هذا النحو.

ماذا عن سؤالها الذي طرحته الليلة الأولى بخصوص الآلات؟ ماذا كانت تعني بذلك؟ أكانت طريقة خبيثة لتأنيب الضمير؟

حدَّثَها عن الصور والإضاءة وأخبرها حتى كيف أن والِده أرسل العُمَّال إلى هنا، ودفع لهم مقابل صنع أرفف المكتبة، لكنه لم يتكلَّم قطُّ عن الرجل الذي أخذ الكتب دون أن يخبرها بذلك. الأرجح أنه أخذ كتابًا في كل مرة، ربما أخفاه تحت معطفه. لا بد أنه أعادها إلى المكتبة بالطريقة نفسها، وإلا تراكمت عنده في البيت، ولم تكن زوجته لتوافق على ذلك. كانت سرقته للكتب مؤقتة، سلوكًا غير مؤذٍ، ولكنه غريب! هل كانت ثمة أي علاقة بين ظنِّ المرء أنه قادر على فعل الأمور على نحوٍ مختلف بعضَ الشيء، وبين افتراض أنه يستطيع أن يفلت بفِعلته بحركة طائشة ربما تفضي إلى أن يَعْلَق كُمُّه وتسوق المنشار إلى عنقه؟

ربما كانت ثمة علاقة … إنها مسألة سلوك.

«ذاكَ الرجل — كما تعرفين — الذي تعرَّضَ لحادثٍ.» هكذا تحدَّثَ إلى أمينة المكتبة مضيفًا: «لماذا في رأيك كان يتسلَّل بهذه الطريقة لأخذ الكتب التي كان يريدها؟»

قالت أمينة المكتبة: «هذا حالُ الناس جميعًا؛ منهم مَنْ يمزِّق الصفحات لشيءٍ لم يَرُقْ له أو لأمرٍ يقوم به. إنهم يُقدِمون على أمورٍ غريبة فحسب! لا أعرف.»

«هل سبقَ أن مزَّق بعضَ الصفحات؟ هل حدث أن عنَّفْتِه من قبلُ؟ هل جعلتِه يرهب مواجهتَكِ مطلقًا؟»

أراد أن يمازحها بعض الشيء مُلمِّحًا إلى أنها لم تكن لتبثَّ الذعرَ في قلب أحد، لكنها لم تترجم أسئلته بهذه الطريقة.

سألته: «وكيف يتسنَّى لي ذلك وأنا لم أتكلَّم معه قطُّ؟ لم أَرَه من قبلُ. لم أَرَه لأعرف مَنْ هو من الأساس!»

ابتعدتْ عنه واضعةً حدًّا لهذا الحوار؛ لم يكن المزاح يروق لها إذن. هل هي ممَّن أُصِيبوا بجراح كثيرة الْتأمت فلا يراها الناظِر إليها إلا عن كثب؟ هل ثمة مأساة قديمة أو سرٌّ ما يَقضُّ مضجعها؟ لعلها فقدت حبيبًا لها في الحرب.

•••

في ليلة لاحقة، ليلة سبت في فصل الصيف، طرحت الموضوع بنفسها، الموضوع الذي لم يكن ليطرحه هو مرةً أخرى.

«هل تذكر الحوار الذي دار بيننا ذات مرة عن الرجل الذي تعرَّضَ للحادث؟»

قال آرثر إنه يذكره.

«أريد أن أسألك أمرًا قد تراه غريبًا.»

أومأ برأسه.

«وسؤالي هذا أريدك أن تحتفظ به سرًّا.»

قال: «نعم، بلا شك.»

«كيف كان شكله؟»

شكله؟ ارتبك آرثر؛ ارتبك من تلك الهالة من السرية التي أحاطتْ بها سؤالَها — من الطبيعي بالتأكيد أن تهتم بشكل الرجل الذي كان يتردَّد على المكتبة ويخرج منها مُحمَّلًا بالكتب دون عِلمها — ولأنه لم يستطع مساعدتها، هزَّ رأسه نافيًا، لم يستطع أن يستدعي في ذهنه أيَّ صورةٍ لجاك أجنيو.

قال: «كان طويلًا، أعتقد أنه كان طويل القامة، بخلاف ذلك لا أستطيع أن أساعدك. إنني لستُ الشخصَ المناسب للإجابة عن هذا السؤال، يسهل عليَّ أن أميِّز أي شخص، لكنني لا أستطيع أن أعطي وصفًا جسمانيًّا له، حتى لو كان شخصًا تقع عليه عيناي يوميًّا.»

قالت: «لكنني ظننت أنك مَن رفعَ رأسَه عن الأرض — هكذا سمعتُ.»

قال آرثر بخشونة: «لم أكن أرى أن من اللائق تركه هكذا على الأرض!» خابَ ظنُّه فيها، وشعر بالحرج لأجلها، لكنه حاوَلَ أن يتكلم دون أن تَشِي كلماته بأي انفعال، فخلا صوتُه من أي تأنيب.

«ليس بإمكاني حتى أن أخبرك بلون شعره؛ فقد كان شعره مطموسًا على نحوٍ شبه كامل آنذاك.»

لم تنبس ببنت شفة للحظةٍ أو اثنتين، ولم ينظر إليها، وبعدها قالت: «لا بد أنني أبدو كواحدة من هؤلاء اللائي يهيمن بمثل هذه الأمور.»

أصدر آرثر صوتًا يعبِّر عن اعتراضه على ما قالت، لكن بَدَا له حقًّا أنها من هؤلاء.

قالت: «لم يكن ينبغي أن أسألك … لم يكن ينبغي أن آتي على ذِكْر هذا الأمر. لا يمكنني أبدًا أن أفسِّر لك علة سؤالي، كل ما أطلبه منك ألَّا تحسبني من هؤلاء أبدًا إنْ كان في مقدورك ذلك.»

سمع آرثر كلمة «أبدًا» لم يكن بوسعها أن تشرح له قطُّ، يجب ألَّا يظن بها هذا أبدًا. في خضم خيبة أمله، استشفَّ اقتراحًا ما، وهو أن تستمر حواراتهما، وربما على نحوٍ أقل عشوائيةً. استشعر في نبرة صوتها تواضُعًا، لكنه كان تواضُعًا مستنِدًا إلى ثقةٍ من نوعٍ ما، لا شكَّ أنه كان جنسيًّا.

أم أن هذا ما حسبه لأن هذه الليلة الموعودة؟ كانت تلك ليلةَ السبت التي عادةً ما كان يتوجَّه فيها إلى مدينة والي كلَّ شهر. كان سيتوجَّه إلى هذه المنطقة تلك الليلة، وعرج على المكتبة في طريقه فحسب، لم يكن ينوي المكوثَ طويلًا كما حدث. كانت تلك الليلةَ التي كان يزور فيها امرأةً تُدعَى جين ماكفارلن. كانت جين ماكفارلن تعيش منفصلة عن زوجها، لكنها لم تكن تفكر في الطلاق منه. لم يكن لديها أطفال، وكانت تكسب قوت يومها من حياكة الملابس. التقاها آرثر أول مرة عندما زارت بيته لحياكة ملابس لزوجته. لم تكن علاقتهما قد بدأت آنذاك، ولم يخطر ببال أحدهما أن ثمة علاقةً ستنشأ بينهما. كانت جين ماكفارلن أشبه بأمينة المكتبة من جوانب بعينها؛ كانت حَسَنة المنظر، وجريئة، وأنيقة، وبارعة في عملها مع أنها لم تكن شابَّةً. ما عدا ذلك، لم يكن ثمة تشابُه بينها وبين أمينة المكتبة، فهو لا يخطر بباله أبدًا أن جين ماكفارلن قد تمثِّل لغزًا لأي رجل، ثم تُشعِره بأنه لا سبيل لحل هذا اللغز. جين من النساء اللائي يُشعِرن الرجال بالسلام، والحوارُ المستتر الذي كان يدور بينه وبينها — الحوار المثير والمقتضب واللطيف — كان أشبه بالحوار الذي كان يدور بينه وبين زوجته.

ذهبتْ أمينة المكتبة باتجاه مفتاح المصباح الموجود بجانب الباب، وأطفأت المصباح الرئيسي، وأوصدت الباب، واختفت بين أرفف الكتب حيث أطفأت المصابيح هنالك أيضًا على مهلٍ؛ كانت ساعة المدينة تُعلِن تمام التاسعة. لا بد أنها اعتقدت أن ساعة المدينة كانت دقيقة؛ ساعته كانت تشير إلى التاسعة إلا ثلاث دقائق.

حان الوقت لأن ينهض من جلسته، حان وقت الرحيل، وقت الذهاب إلى منطقة والي. عندما انتهت من إطفاء المصابيح كلها، عادت وجلست إلى جواره.

قال لها: «لم أكن لأظن فيكِ ظنَّ السوء قطُّ، أو أفكِّر فيكِ بطريقةٍ لا تسرُّك.»

لم يكن إطفاء المصابيح ليجعل المكان معتمًا إلى هذا الحد. صادَفَ هذا الوقت منتصفَ الصيف، لكن بَدَا أن ثمة سحبًا مطيرة تجمَّعت. عندما التفت آرثر للمرة الأخيرة إلى الشارع، وقعت عيناه على فيضٍ من ضوء النهار: الناس يتسوَّقون، والصبية يرشُّ بعضهم بعضًا عند نافورة ماء الشرب، والفتيات يَسِرْنَ في ملابسهن الصيفية الخفيفة الرخيصة المزخرفة بالورود، ما أتاح للشباب مراقبتهن من أي مكان يتجمَّعون فيه؛ سواءٌ من على دَرَج مكتب البريد، أم من أمام محل الأعلاف. والآن، وهو يتطلَّع مرةً أخرى، رأى الشارع في حالة جَلَبة بسبب الريح الشديدة التي حملت في طيَّاتها القليلَ من زخَّات المطر. كانت الفتيات يَصِحْنَ ويَضْحكنَ ويَضَعْنَ حقائبهن على رءوسهن وهن يُهرَعْنَ إلى ملاذٍ آمِن، في حين انشغل العاملون بالمحلات بفتْحِ مظلات محلاتهم، وسَحْبِ سلال الفاكهة إلى الداخل، وكذا أرفف الأحذية الصيفية، وأدوات البستنة التي كانت معروضةً على الأرصفة. سُمِع دوي صفق أبواب مبنى مجلس المدينة بعد أن هُرِعت المزارعات إلى الداخل ممسكات بأكياسهن وأطفالهن ليحتشدْنَ في حمَّام السيدات. شخصٌ ما حاوَلَ أن يفتح باب المكتبة. تطلَّعَتْ أمينة المكتبة إلى الباب لكنها لم تتحرَّك. وسرعان ما هطلت الأمطار بغزارة في الشوارع، وضربت الريحُ سقفَ مبنى مجلس المدينة، وعصفت بقمم الأشجار. استمرَّ هزيز الرياح والخطر المتعلِّق بها دقائقَ معدودة أثناء مرور العاصفة القوية بالمدينة، وبعدها لم يَبْقَ سوى صوت الأمطار التي كانت آنذاك تسقط رأسيًّا، بقوة شديدة جدًّا، وكأن المدينة تتعرَّض لشلال من المياه.

حَدَّثَ آرثر نفسه أنه لو حدث الشيء نفسه في منطقة والي، لتوقَّعَتْ جين عدم حضوره. كانت هذه آخِر خاطرة علقت بذهنه لفترة طويلة.

قال وقد أصابته الدهشة: «لم تكن السيدة فير لتغسل ملابسي، كانت تخشى أن تمسها.»

قالت أمينة المكتبة بنبرة مرتعشة وخجولة، لكنها واثقة: «أعتقد أن ما قمتَ به كان عملًا مميزًا.»

أحدثت الأمطار جَلَبة مستمرة أعفَتْه من الرد عليها، حينئذٍ وجدَ أنه من السهل أن يلتفت وينظر إليها؛ كان جانب وجهها مضيئًا إضاءة خافتة بفعل ماء المطر الذي يسيل على النوافذ، وكانت تعبيرات وجهها هادئة وتوحي باللامبالاة، أو هكذا بَدَتْ له. أدرك أنه لم يكن يعرف عنها شيئًا تقريبًا؛ لم يكن يعرف أي نوع من البشر هي حقًّا، وأي أسرار تخفيها! لم يستطع حتى أن يقدِّر قيمته بالنسبة إليها، كل ما عرفه هو أن له شيئًا من القيمة لديها، ولم تكن قيمته تقليدية.

عَجَزَ عن وصف الشعور الذي أحَسَّه ناحيتَها كعجزه عن وصف رائحةٍ ما. كان هذا الشعور أشبه بسريان الكهرباء في الجسد، وبحبات القمح المحترقة. لا، إنه أشبه بالبرتقال اللاذع! لقد عجزتُ عن وصفه.

لم يكن يتخيَّل قطُّ أن يجد نفسه في موقفٍ كهذا، يسيطر عليه هوسٌ واضح. لكن بَدَا أنه كان مهيَّأً لهذا الموقف، فمن دون أن يعيد النظر في الأمر، ومن دون حتى أن يفكر، حدَّثَ نفسه قائلًا: «آمل أن …»

تكلَّم بصوتٍ خافت جدًّا لدرجة أنها لم تسمعه.

ثم رفع صوته وقال: «آمل أن نتزوَّج!» نظرت إليه وضحكت، لكنها أحكمت زمام نفسها، وقالت: «معذرة! آسفة، أضحَكَني ما كان يدور بخلدي.»

سألها: «وماذا كان يدور بخلدك؟»

«حدثتُ نفسي أن هذه هي آخِر مرة سأراك فيها.»

قال آرثر: «إنكِ مُخطِئة.»

شُهداء تولبادل

أُخرِج قطار الرُّكَّاب المُنطلِق من كارستيرز إلى لندن من الخدمة إبَّان الحرب العالمية الثانية، بل نُزِعت أيضًا سِكَكه الحديدية من مكانها، زعم الناس أنها نُزِعت للإسهام بها في المجهود الحربي. وعندما عقدت لويزا العَزْمَ على السفر إلى لندن لزيارة اختصاصي القلب الذي كان في منتصف الخمسينيات من عمره، اضطرت إلى ركوب الحافلة؛ إذ لم يكن من المفترض أن تقود سيارتها بعد الآن.

قال اختصاصي القلب إنَّ قلبها واهن بعض الشيء، ونبضها غير مستقر، وحسبتْ أن ذلك يجعل قلبها أشبه بممثِّل كوميدي، ونبضها أقرب إلى جروٍ مربوط إلى حبل! لم تقطع سبعة وخمسين ميلًا لتلقى مثل هذه المعاملة العابثة، لكنها تجاهلتها لأنها كانت منشغلة بالفعل بأمرٍ آخَر كانت تُطالِعه في غرفة الانتظار لدى الطبيب. لعل الذي كانت تطالِعُه هو الذي جعل نبْضَها غير مستقرٍّ.

في صفحة داخلية بالصحيفة المحلية، قرأتِ العنوان التالي: «تكريم الشهداء المحليين»، وببساطةٍ كي تستنفد مزيدًا من الوقت، تابعت القراءة. قرأتْ أن ثمة احتفالًا ما سيقام بعد الظهر بمتنزه فيكتوريا لتكريم شهداء تولبادل. قالت الصحيفة إن قليلين هم الذين سمعوا عن شهداء تولبادل، وبالطبع لويزا لم تسمع عنهم من قبلُ. كانوا رجالًا مَثَلوا أمام القضاء من قبلُ، وأُدِينوا بتهمة الحنث باليمين؛ ولقد أدَّت هذه الجريمة الغريبة، التي ارتُكِبت منذ مئات السنين في مدينة دورسيت بإنجلترا، إلى ترحيلهم إلى كندا، وانتهى الأمر ببعضهم إلى لندن حيث عاشوا الأيام المتبقية لهم، ودُفِنوا دون أن يلتفت إليهم أحدٌ ودون أي نوع من التأبين. يُنظَر إليهم الآن باعتبارهم ضمن أوائل مَنْ أسَّسوا حركة النقابات العُمَّالية، ولقد نَظَّمَ مجلس النقابات العُمَّالية، بجانب ممثلين من اتحاد العُمَّال الكندي وقساوسة بعض الكنائس المحلية، احتفاليةً تُقام اليومَ احتفالًا بالذكرى المائة والعشرين لاعتقالهم.

حدَّثَتْ لويزا نفسها بأنَّ وَصْفَهم ﺑ «الشهداء» فيه مبالغةٌ نوعًا ما؛ فحكم الإعدام لم يُنفَّذ فيهم على أية حال.

كان من المقرَّر أن يُقام الاحتفال في تمام الثالثة، وأن يخطب في الناس أحد القساوسة المحليين، والسيد جون (جاك) أجنيو، المتحدِّث الرسمي باسم إحدى النقابات من تورونتو.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية والربع عندما غادرت لويزا عيادة الطبيب، ولم تبرح الحافلةُ المتجهة إلى كارستيرز مكانَها إلا في تمام السادسة. فكَّرتْ في احتساء قدح من الشاي وتناوُل الطعام بالطابق الأخير في محل سيمبسونز، وبعدها تتسوَّق بحثًا عن هدية زواج، أو إذا أُتِيحت لها فسحة من الوقت، فستذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم خلال فترة ما بعد الظهيرة. كان متنزه فيكتوريا يقع بين عيادة الطبيب ومحل سيمبسونز، وقررت أن تمر عبره. كان الجو حارًّا، وظِلُّ الأشجار جميلًا. لم تستطع تفادي رؤية مكان مقاعد الاحتفالية، ومنصة المتحدثين الصغيرة المغطَّاة بقماش أصفر، وعلى أحد جانبَيْها عَلَمُ كندا، وعلى الجانب الآخر عَلَمٌ افترضت أنه يمثِّل نقابة العُمَّال. اجتمع نفرٌ من الناس، ووجدت نفسها تغيِّر مسارها كي تستطيع إلقاء نظرة عليهم؛ بعضهم من كبار السن الذين ارتدوا ملابس أنيقة بالرغم من بَسَاطَتها، وكانت النساء اللائي يرتدين أوشحةً حول رءوسهن في هذا اليوم القائظ أوروبياتٍ. وبخلاف هؤلاء، كان يوجد عُمَّالُ مصانع؛ رجالٌ يرتدون قمصانًا قصيرة الأكمام، ونساءٌ يلبسن بلوزات وسراويل فضفاضة جديدة، وقد سُمِح لهم بالخروج قبل انتهاء مواعيد العمل الرسمية. لا بد أن قليلات من النسوة حضرْنَ من بيوتهن لأنهن كنَّ يرتدين ثيابًا صيفية وصنادل، ويحاولن مراقبةَ أطفالهن الصغار. ظنَّتْ لويزا أنهم لن يعبئوا أبدًا بأسلوبها في اختيار ملابسها الأنيقة كعادتها، ملابسها المصنوعة من قماش الشانتو بلون الصوف الطبيعي وقلنسوتها الحريرية القرمزية، لكنها لاحظتْ آنذاك امرأة تفوقها أناقةً ترتدي ثوبًا من الحرير الأخضر، وشعرها البُني الداكن معقوصٌ بقوة للخلف ومربوطٌ بوشاح لونه يجمع بين الأخضر والذهبي. تقدَّمَتْ نحو لويزا على الفور وهي تبتسم، وقادتها إلى مقعد خالٍ، وأعطتها ورقةً منسوخة من أصل. لم تستطع لويزا قراءة الطباعة الأرجوانية اللون. حاولَتْ أن تُلقِي نظرةً على بعض الرجال الذين كانوا يتبادلون أطراف الحديث إلى جوار المنصة، لتعرف هل كان المتحدثون من بينهم؟

مصادفةُ الاسم لم تكن حتى مُلفِتة. لم يكن الاسم الأول ولا اسم العائلة غير تقليدي إلى هذه الدرجة.

لا تعرف لِمَ جلستْ، أو لِمَ جاءتْ هنا من الأساس! بدأ شعور بالتأفُّف المألوف والمقزِّز بعضَ الشيء يراودها. راوَدَها هذا الشعور بلا داعٍ، لكن فور أنِ اجتاحها هذا الشعورُ، لم ينفعها أنْ حدَّثَتْ نفسها بأنه لم يكن ثمة داعٍ لهذا الإحساس، الشيء الوحيد الذي يجب أن تفعله هو النهوض والفرار من هذا المكان قبل أن يجلس المزيد من الناس ويحاصروها.

اعترضتِ المرأة ذات الرداء الأخضر طريقَها، وسألتها إنْ كانت على ما يرام.

قالت لويزا بنبرة فيها حشرجة: «يجب أن ألحق بالحافلة.» تنحنحت وتابعت قائلةً بقدر أكبر من السيطرة على مشاعرها: «حافلة متجهة إلى خارج المدينة.» ورحلت عن المكان، ولو أنها لم تكن تمشي في الاتجاه الصحيح الذي يُفضِي بها إلى محل سيمبسونز. الواقع أنها فكرت في إلغاء فكرة الذهاب إلى سيمبسونز، أو إلى محل بيركس لشراء هدية الزواج، أو حتى الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلمٍ. ستتجه إلى محطة الحافلات فحسب، وتجلس هناك حتى يحين موعد حافلتها وتعود إلى البيت.

•••

كان يفصلها عن محطة الحافلات نصف بناية حين تذكَّرت أن الحافلة لم تقلَّها إلى هناك صباحَ ذاك اليوم. كان العمل جاريًا من أجل هدم المحطة وإعادة بنائها، وثمة محطة مؤقتة تفصلها عنها عدة بنايات. لم تنتبه بالقدر الكافي للشارع الذي كانت فيه الحافلة؛ هل كانت في شارع يورك شرقي المحطة الأصلية أم في شارع كينج؟ على أية حال، كان عليها أن تنعطف لأن هذين الشارعَيْن كانا مغلقين، وكاد رأيها يستقر على أنها ضلت الطريق عندما أدركت أن الحظ حالَفَها بالقدر الكافي إذ عثرتْ على المحطة المؤقتة في طريق عودتها. كانت المحطة المؤقتة بيتًا عتيقًا؛ واحدًا من تلك البيوت الشاهقة الرمادية المائلة إلى الصفرة المَبنيَّة من الطوب، التي ترجع تاريخيًّا إلى الفترة التي كانت المنطقة فيها سَكنية. لعل استغلالَه كمحطةٍ مؤقتة سيكون الاستغلال الأخير له قبل هدمه، ولا بد أن البيوت التي حوله هُدِّمَت لتخصيص تلك البقعة الشاسعة التي تُغطَّى أرضيتها بالحصب لانتظار الحافلات. ما زال هناك عدد من الأشجار على أطراف تلك البقعة، وتحتها صفوف قليلة من المقاعد التي لم تلاحظها عندما نزلت من الحافلة قبل الظهر. ثمة رجلان يجلسان في أطلال شرفة من شُرَف البيت على مقعدَيْ سيارة قديمة، كانا يرتديان قميصين بُنيَّيْن يزدانان بشعار الشركة، لكن هيئتهما كانت تنمُّ عن اللامبالاة حيال عملهما؛ حيث لم ينهضا حين سألتهما هل الحافلة المتجهة إلى كارستيرز ستتحرَّك في تمام السادسة بحسب موعدها، وأين يمكنها شراء مشروب غازي؟

في تمام السادسة على حدِّ علمهم.

ثمة مقهًى في نهاية الشارع.

الجو أكثر برودةً بالداخل، لكنْ لم يتبقَّ من المشروبات سوى الكولا والبرتقال.

أخرجتْ لنفسها زجاجةً من الكولا من المُبرِّد الموجود في غرفةِ انتظارٍ صغيرة متسخة تفوح منها رائحة المراحيض؛ لا بد أن نَقْل محطة الحافلات إلى هذا البيت المتهالك جعل الجميع يسترخون ويتكاسلون. كانت هناك مروحة في الغرفة التي استخدموها كمكتب، ورأت أثناء مرورها بعض الأوراق وهي تتطاير من فوق المكتب، قالت عامِلة المكتب: «اللعنة!» وأسرعت الخُطى لِلَّحاق بالأوراق.

كانت الكراسي المُغبَّرة الموضوعة في ظل أشجار المدينة خشبيةً قائمة دُهِنت أصلًا بألوان مختلفة، فبَدَتْ وكأنها استُعِيرت من عدة مطابخ، وأمام الكراسي كانت توجد قِطَع بالية من السجاد العتيق ومماسح الأرجل المطاطية كي تَقِي الأرجل من الحصى المنثور على الأرض. ووراء الصف الأول من الكراسي، حسبتْ أنها رأتْ كبشًا مستلقيًا على الأرض، لكنِ اتَّضَح أنه كلب أبيض رث الهيئة، أسرع الخُطى نحوها وتطلَّع إليها للحظةٍ بنظرة رصينة شبه رسمية، وشمَّ حذاءها سريعًا، ثم ابتعد عنها. لم تلاحظ إنْ كانت هناك أي شفاطات لتناول المشروبات، ولم تشعر برغبة في العودة للبحث مجددًا. احتست الكولا من زجاجتها وهي تميل رأسها إلى الوراء وتغلق عينيها.

عندما فتحت عينيها، وجدت رجلًا جالسًا يفصله عنها كرسيٌّ واحد ويتحدَّث إليها.

قال: «وصلتِ هنا بأسرع ما يمكن. قالت نانسي إنك ستستقلِّين حافلةً. فور أن انتهيتُ من إلقاء كلمتي، انطلقتُ مسرعًا، لكنَّ محطة الحافلات متهدمة.»

قالت: «لفترة مؤقتة فقط.»

قال: «تعرَّفتُ عليكِ على الفور على الرغم من مرور عدة سنين. عندما رأيتُكِ، كنتُ أتحدَّث إلى أحدهم، وبعدها التَفَتُّ مرةً أخرى، فإذا بكِ اختفيتِ.»

قالت لويزا: «لا أعرفُك.»

قال: «حسنٌ، لا أحسبُكِ تعرفينني، بالطبع لن تعرفيني.» كان يرتدي سروالًا رماديًّا وقميصًا ذا أكمام قصيرة بلون أصفر باهت، ووشاحًا أبيض مائلًا إلى الصفرة معقودًا عقدة غليظة؛ بَدَا أكثر أناقةً من رجل محسوب على النقابة. كان أشيب الشعر أجعده وكثيفه، وكان شعره من النوع المَرِن الذي يتموَّج صعودًا وهبوطًا من جبهته، كانت بشرته تميل إلى الحمرة، والتجاعيد تملأ وجهه من فرط المجهود الذي بذله أثناء الكلمة التي ألقاها. كان يرتدي نظارةً ذات زجاج ملوَّن، أزاحها عن عينيه الآن، وكأنه يريد أن تراه على نحوٍ أفضل. عيناه زرقاوان زُرْقة خفيفة، ومحمرتان بعض الشيء وقَلِقَتان. وعلى الرغم من أنه كان حَسَن المظهر وما زال يحتفظ بقوامه الممشوق، فيما خلا بروز بسيط أعلى الحزام، فإنها لم تجد مظهرَه الجيد — بملابسه الرياضية المنمقة وشعره الأجعد وتعبيراته النافذة — شديدَ الجاذبية. كانت تفضِّل ملامح آرثر؛ ذلك التحفُّظ والجلال المتَّشِح بالسواد الذي يراه البعض تعاليًا وتراه هي شيئًا مثيرًا للإعجاب وبريئًا.

قال: «كنت أنوي دائمًا كسر حاجز الصمت بيننا، كنت أود أن أتحدَّث إليكِ. كان ينبغي أن أدخل وأودِّعك على الأقل، لقد حانت لحظة الرحيل فجأةً.»

لم تكن لدى لويزا أدنى فكرة عمَّا يمكن أن تقوله ردًّا على ذلك. تنهَّدَ وقال: «لا بد أنكِ مستاءة مني. أَمَا زلتِ كذلك؟»

قالت: «بلى.» ثم عادت بطريقة ساخرة إلى المجاملات المعتادة قائلة: «كيف حال جريس؟ وكيف حال ابنتك؟ ليليان؟» أجابها بقوله: «جريس ليست على ما يرام؛ فهي تعاني من التهاب المفاصل، ووزنها يتعارض مع حالتها. أما ليليان فهي في خير حال؛ تزوَّجَتْ، لكنها ما زالت تُدَرِّس الرياضيات للمرحلة الثانوية؛ ليس بالعمل العادي بالنسبة إلى امرأة.»

كيف يمكن للويزا أن تصحِّح معلوماته؟ هل بإمكانها القول إن زوجته جريس تزوَّجت مجددًا خلال الحرب، تزوَّجت من مُزارِع مطلق؟ قبل ذلك، كانت معتادة على التردُّد على بيتنا وتنظيفه مرة واحدة أسبوعيًّا. كانت السيدة فير قد بلغت من الكِبَر عتيًّا، وليليان لم تكمل دراستها الثانوية قطُّ، فكيف لها أن تعمل بالتدريس في مدرسة ثانوية؟ تزوَّجت ليليان صغيرة، وأنجبت عددًا من الأطفال، وهي تعمل حاليًّا في صيدلية، وهي تضارعك طولًا وشعرها مجعَّد وأشقر. كثيرًا ما كنت أتطلَّع إليها، وأُحدِّث نفسي لا بد أنها تشبهك. في مراحل عمرها الأولى، اعتدت أن أُعِيرَها ملابسَ ربيبتي التي أمستْ صغيرةً عليها.

بدلًا من ذلك كله، قالت له: «إذن ذات الرداء الأخضر لم تكن ليليان، أليس كذلك؟»

«نانسي؟ أوه، لا! نانسي هي ملاكي الحارس. فهي تراقب وجهتي ومواعيدي، وتهتم بإعداد خُطبي التي ألقيها، وتهتم بمأكلي ومشربي، ومواعيد تناول الدواء؛ يميل ضغطي إلى الارتفاع، لكنه ليس بالأمر الخطير. لكن أسلوب حياتي ليس صحيًّا؛ فأنا لا أكفُّ عن الحركة، فالليلة يجب أن أستقلَّ الطائرةَ المتجهة إلى أوتاوا، وغدًّا لديَّ اجتماعٌ مهم، ودُعِيت إلى وليمة كبيرة مساءَ غدٍ.» أحَسَّتْ لويزا أن الأمر يستدعي أن تقول: «هل علمتْ أنني تزوَّجْتُ؟ لقد تزوَّجْتُ آرثر دُودْ.»

ظنت أنه أبدى شيئًا من الدهشة، لكنه قال: «نعم، سمعتُ بهذا الخبر.»

قالت لويزا بِجَلَدٍ: «لقد عملنا بِكَدٍّ أيضًا. مات آرثر منذ ست سنوات، حافظنا على المصنع طوال الثلاثينيات، حتى خلال الفترات التي لم يَبْقَ لدينا فيها سوى ٣ عُمَّال فحسب. لم يكن لدينا مالٌ لتنفيذ الإصلاحات، وأذكر أننا خلعنا مظلات المكتب كي يصعد بها آرثر على السلم ويرمِّم بها السقف. حاولنا أن نفعل كلَّ ما هدانا تفكيرُنا إليه، حتى حارات لعبة البولينج الخلوية صنعناها لأجل تلك الأماكن الترفيهية. وبعدها اندلعت الحرب، ولم نستطع الصمود. استطعنا بيع كل آلات البيانو التي صنعناها، لكننا كنَّا بصدد صنع حقائب لأجهزة الرادار للبحرية. كنت لا أبرحُ المكتب مطلقًا.»

قال بنبرة بدت دبلوماسية: «لا بد أنه كان تحوُّلًا كبيرًا مقارَنةً بعملكِ في المكتبة.»

قالت: «العمل هو العمل، ما زلتُ أعمل. ربيبتي مطلقة، وهي بالكاد تدير البيت نيابةً عني. تخرَّج ابني أخيرًا في الجامعة. من المفترض أنه يتعرَّف على مجال عملنا حاليًّا، لكنه يستأذن للانصراف في منتصف النهار كلَّ يوم. وعندما أرجع إلى البيت وقت العشاء، تكون قوايَ قد خارت حتى إنني أكاد أسقط من فرط التعب، ويتناهى إلى مسامعي رنينُ مكعبات الثلج في كأسَيْهما وضحكاتهما من وراء السياج. فور أن تقع أعينهما عليَّ يقولان: «مَادْ، أيُّتها المسكينة! اجلسي واحتسي شرابًا.» يدعواني «مَادْ» لأنه الاسم الذي كان ابني يناديني به رضيعًا، لكنهما شبَّا عن الطوق الآن. أجدُ البيت باردًا عندما أعود إليه؛ إنه بيتٌ جميل إذا كنتَ تذكره، بُنِيَ من ثلاثة طوابق على شكل كعكة زفاف. ثمة بلاط من الفسيفساء في ردهة المدخل. لكن ذهني دومًا مشغول بالمصنع، ولا أنفك أفكر فيه؛ ماذا يمكن أن نفعل كي نصمد؟ هناك خمسة مصانع فقط في كندا متخصِّصة في صنع البيانو الآن، وثلاثة منها في مقاطعة كيبيك، وفيها خُفِّضت تكلفة العمالة، لا شك أنك تعرف كل ذلك. عندما أتخيَّل حوارًا يدور بيني وبين آرثر، فإنه يدور في فلك الموضوع نفسه. ما زلتُ قريبةً منه جدًّا، لكنَّ قُرْبي منه لا يكاد يكون روحانيًّا. قد تعتقد أنه مع الكِبَر يمتلئ العقل بما يدعونه الجانب الروحاني للأمور، لكن عقلي لا ينفك يميل إلى الجانب العملي أكثر فأكثر في محاولةٍ لحلِّ أية مشكلة. ما من شيءٍ يمكن أن يتحدَّث المرءُ عنه مع رجل فارَقَ الحياة!»

توقَّفَتْ، وشعرتْ بالحرج، لكنها لم تكن متأكدة من أنه أنصَتَ لكل ذلك، وحقيقة الأمر أنها لم تكن متأكدة من أنها قالت كلَّ ما قالت أساسًا.

قال: «ما جعلني أمضي قدمًا، وجعلني أنطلق في المقام الأول بما تمكَّنتُ من إنجازه أيًّا كان، هو المكتبة؛ ولذا، فإنني مَدِينٌ لكِ بالكثير.»

وضع يديه على ركبتيه، وترك رأسه تتداعى بين يديه.

قال: «آه، هذا هراء.»

أصدر أنينًا تحوَّلَ في نهاية المطاف إلى ضحكة.

قال: «أبي … لعلكِ تذكرين أبي، أليس كذلك؟»

«نعم، أذكره.»

«حسنٌ، أحيانًا ما أُحدِّث نفسي أن فكرته كانت صحيحة.»

وبعدها رفع رأسه وهزَّها، وقال: «الحبُّ لا يموت أبدًا.»

شعرتْ بنفاد صبرها لدرجةِ أنها أحَسَّتْ بالإهانة، فحدَّثَتْ نفسها قائلةً: هكذا إذن تحيل الخطب مَنْ يلقيها إلى شخصٍ يستطيع قول أشياء كهذه. الحبُّ يموت دومًا، أو على أية حال يحيد عن مساره أو يفتر، وفناؤه أمرٌ وارد.

قالت: «اعتاد آرثر زيارةَ المكتبة والمكوث فيها. في البداية، استفَزَّني جدًّا؛ كنت أتطلَّع إلى مؤخرة عنقه، وأتساءل ماذا لو تلقَّى ضربة ها هنا! لن تجد منطقًا في كلامي مطلقًا، لن تراه منطقيًّا. واتضح لي أن لديَّ رغبةً مختلفة تمامًا، أردت أن أتزوَّجه وأن أحيا حياة عادية.»

كرَّرَتْ عبارة «حياة عادية»، وبَدَا أن ثمة دوارًا خفيفًا يتمكن منها، غفران كامل للحماقة، يثير بشرة يدها التي يغطيها النمش، وأصابعها الجافة السميكة التي لا تبعد كثيرًا عن أصابعه على المقعد الفاصل بينهما. فوران غرامي للخلايا، ولنوايا قديمة. «أوه، لا يموت أبدًا.»

جاء جمعٌ من الناس يرتدون ثيابًا غريبة عبر الساحة المغطَّاة بالحصب، وكانوا يتحركون معًا ككتلة واحدة متَّشِحة بالسواد. ولم تُظهِر النساء شعرهن، كن يرتدين أوشحة سوداء أو قلنسوات تغطي رءوسهن، أما الرجال فكانوا يعتمرون قبعات عريضة وحمَّالات بناطيل سوداء، والأطفال كانوا يحاكون الكبار في ملبسهم، بل حتى في قلنسواتهم وقبعاتهم. كَمْ بَدَوْا مثيرين جميعًا في حُلَّاتهم هذه، كَمْ بَدَوْا مثيرين ومُغبَّرين ومُنهَكين وخجولين!

قال بشيء من السخرية وبنبرة مستكينة وحنونة: «شهداء تولبادل. حسنٌ، أعتقد أنه من الأفضل أن أذهب إليهم، وأتبادل أطراف الحديث معهم.»

هذه النبرة التي تنطوي على شيء من السخرية، وهذا الحنان المتململ، جعلاها تفكِّر في شخص آخَر. مَنْ هو؟ عندما رأت منكبيه العريضين من ظهره، ومؤخرته العريضة المستوية، عرفته على الفور.

إنه جيم فراري.

أوه، أيُّ خدعة كانت تتعرَّض لها؟ أو أيُّ حيلة كانت تمارسها على نفسها؟! لم يكن ليتحقَّق لها مرادها. استجمعت قواها، وتراءى لها أن كل هذه الثياب السوداء تذوب متحوِّلة إلى بركة صغيرة. كانت تشعر بالدوار والخزي، لن يتحقَّق لها مرادها.

لكن السواد لم يكن طاغيًا على المشهد، هكذا أدركت وهم يدنون منها. استطاعت أن تميِّز اللون الأزرق الداكن ممثلًا في قمصان الرجال، والأزرق الداكن والأرجواني في ثياب بعض النِّسوة. استطاعت أن تميِّز الوجوه؛ رجال يستترون وراء لحاهم، ونساء يعتمرن قلنسوات تغطي نصف رءوسهن. الآن عرفتهم، إنهم من طائفة المينونايت.

تعيش هذه الطائفة في هذا الجزء من البلدة على غير عادتهم مطلقًا. كان بعضهم يعيش حول قرية بوندي شمالي كارستيرز. سيعودون أدراجهم في الحافلة نفسها التي ستعود هي فيها.

أما هو فلم يكن معهم، بل لم يكن على مرأًى منهم.

خائنٌ بائس، رحَّال.

فور أن أدركت أنهم ليسوا مجموعة من الغرباء الضالين بل ينتمون إلى طائفة المينونايت، لم يوحِ مظهرهم لها بالخجل أو الكآبة. الواقع أنهم بَدَوْا مَرِحين جدًّا؛ حيث مرَّروا كيسًا من الحلوى، فطفق الصغير والكبير يأكل منه. جلسوا على المقاعد المحيطة بها.

لا عجبَ أنها كانت تشعر بحالة مزرية من البرد والرطوبة. أطاحت بها نوبة لم يلاحظها أحدٌ غيرها. يمكنك أن تقول أيَّ شيء حيال ما حدث، لكن ما حدث كان يرقى لأثر نوبة تعتري المرء. اعترتها النوبة، فتركت لمعانًا في بشرتها، وطنينًا في أذنَيْها، وخواءً في صدرها، واضطرابًا في بطنها. كانت تواجه ضربًا من الفوضى والحيرة الشديدتين، مآزقَ مفاجئةً وحيلًا مرتجلة وترضياتٍ متلاشية.

لكن تلك الصحبة من المحسوبين على طائفة المينونايت مُباركة. صوت مؤخراتهم وهي تتحرك على المقاعد، وطقطقة كيس الحلوى بين الأيادي، وصوت الشفاه وهي تمصمص بتأنٍّ، والحوارات الخافتة. اقتربت فتاةٌ صغيرة من لويزا ومدَّتْ إليها يدَها بكيسٍ من الحلوى دون أن تتطلَّع إليها، وتناولت لويزا النعناع المُحَلَّى بالزُّبد الاسكتلندي. دُهِشتْ لويزا إذ أمسكتْ بقطعة الحلوى في يدها، وفُوجِئتْ إذ تلفظت بكلمة «شكرًا»، وإذ تذوَّقتْ في فمها المذاقَ الذي كانت تتوقَّعه. طفقت تمصُّ قطعة الحلوى بتأنٍّ مثلهم تمامًا، وهو ما جعلَ هذا المذاق يدوم لبعض الوقت.

أُضِيئت المصابيح ولو أن المساء لم يُسْدِل أستارَه بعدُ. وفي الأشجار أعلى المقاعد الخشبية، علَّقَ أحدهم أسلاكًا تتدلَّى منها مصابيح صغيرة ملوَّنة لم تلاحظها لويزا إلا الآن؛ جعلتها تلك المصابيح تفكِّر في الاحتفالات، والكرنفالات، وقوارب المُنشِدين في البحيرة.

سألت المرأة الجالسة إلى جوارها: «ما هذا المكان؟»

•••

في اليوم الذي تُوفِّيت فيه الآنسة تامبلين تصادَفَ أنْ كانت لويزا مقيمة في الفندق التجاري. كانت تعمل مندوبة مبيعات متجوِّلة آنذاك لصالح شركةٍ تبيع القبعات والأشرطة والمحارم والإكسسوارات وملابس النساء الداخلية لمحلات التجزئة. سمعت الحوارات التي تدور في الفندق، وخطر لها أن المدينة سرعان ما ستكون بحاجةٍ إلى أمينة مكتبة جديدة. كانت مُنهَكة جدًّا من جرِّ حقائب عينات بضاعتها كلما استقلَّتْ قطارًا أو ترجَّلَتْ منه، ومُجهَدة من عرض منتجاتها في الفنادق وحَزْم حقائبها وفَكِّها. ذهبتْ فورًا وتحدَّثت إلى مسئولي المكتبة؛ السيد دُودْ والسيد ماكليود. بدا الاثنان وكأنهما يشكِّلان فريقَ استعراض مسرحي، ولو أن هيئتهما لم تُوحِ بذلك. كان الأجر زهيدًا، لكن حالها لم يكن على ما يرام وهي تعمل بنظام العمولة. أخبرتهم أنها أنهت دراستها الثانوية في تورونتو، وعملت في مكتبة إيتون قبل أن تغيِّر مسارها وتعمل مندوبة مبيعاتٍ متجوِّلة. لم تَرَ أنه من الضروري أن تخبرهم بأنها لم تعمل هناك سوى خمسة أشهر إذ اكتشفتْ أنها مصابة بالسُّل، وأنها أُودِعت مستشفًى لأربع سنواتٍ بعدها. على أية حال، شُفِيت من السُّل، وجَفَّت البُقَع التي أصابت جلدَها وقتَها.

نقلتها إدارة الفندق إلى إحدى غُرَف النُّزلاء الدائمين في الطابق الثالث. كان باستطاعتها أن ترى طبقات الثلوج المتراكمة أعلى أسطح المباني. كانت مدينة كارستيرز تقع في وادٍ نهري، وكان تعداد سكانها يتراوح بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة، وكان بها شارع رئيسي طويل يمتدُّ منحدرًا من أعلى التل مرورًا بالنهر وصعودًا إلى التل مرةً أخرى، وكان هناك مصنع متخصِّص في صناعة البيانو والأُرغن.

كانت البيوت قد بُنِيت منذ زمن بعيد، والساحات شاسعة رحبة، والشوارع تتراص على جانبيها أشجارُ الدردار والقيقب النضرة. لم تكن حاضرةً بالمدينة قطُّ كلما أثمرت الأشجار، بالتأكيد ذلك يصنع فارقًا كبيرًا. لا بد أن كثيرًا من الأشياء الظاهرة تخفيها الأشجار كلما أورقَتْ.

كانت سعيدة ببدايتها الجديدة، ومعنوياتها هادئة وممنونة، فقد سبق لها أن فتحت صفحاتٍ جديدة، ولم تفتح الحياةُ ذراعَيْها لها كما كانت تأمل، لكنها كان مؤمنة بالقراراتِ السريعة الحاسمة، وتدخُّلاتِ القَدَر غير المتوقَّعة، وتفرُّد مصيرها.

رائحة الخيول تفوح من المدينة. وبينما أسدَلَ الليلُ أستاره، كانت الخيول الضخمة المعصوبة العينين بحوافرها المُزدانة بالريش، تجرُّ المزالق عبر الجسر ومن أمام الفندق إلى ما وراء أعمدة الإنارة حيث الطرق الجانبية المظلمة. وفي مكانٍ ما في المدينة، سيتلاشى صوتُ أجراس الواحد منها في أجراس الآخَر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤