وهبطت سفن الفضاء

في ليلةِ اختفاء يوني مورجان، جلست ريا في منزلٍ لبيع الخمور بكارستيرز؛ حانة مانك، وهي عبارة عن منزل خشبي ضيق وأجرد بجدران متسخة حتى منتصفها بفِعل فيضان النهر المتكرر. أحضرها بيلي دُودْ إلى هناك. كان يلعب الورق عند أحد طرفَي الطاولة الكبيرة ودارَ الحديثُ عند الطرف الآخَر. جلست ريا جانبًا فوق كرسي هزَّاز، عند زاويةٍ بالجهة الأخرى بجانب الموقد الذي يعمل بالكيروسين.

قال رجل: «نداء الطبيعة. لِنَقُلْ نداء الطبيعة.» وقد قال في السابق شيئًا عن التغوُّط. أخبره رجل آخَر بأن ينتبه إلى ألفاظه. لم يلتفت أحدٌ إلى ريا، لكنها علمت أنها كانت السبب.

«ذهب عند الصخور ليلبِّي نداءَ الطبيعة، وكان يفكِّر أنه سيودُّ العثور على شيءٍ ما؛ شيء مفيد. على الرغم من ذلك لم يتوقَّع بالطبع أنه سيعثر عليه هناك. ماذا رأى هناك؟ رأى ذلك الشيء مبسوطًا فوق الأرض؛ ثَمَّة ألواحٌ منه مطروحة. ليتَه لم يكن الشيء عينه! مبسوطًا هناك في ألواح؛ لذا التقَطَه وحشره في جيوبه وفكَّرَ؛ هذا يكفي حتى المرة المُقبِلة. لم يفكِّر فيه بعد ذلك، وعاد إلى المعسكر.»

قال رجل عرَفَتْه ريا؛ الرجل الذي جرف الثلوج بعيدًا عن أرصفة المدرسة، خلال الشتاء: «أكان في الجيش؟»

«ما الذي جعلك تعتقدُ ذلك؟ لم أقل ذلك قطُّ!»

قال جارِفُ الثلوج: «قلتِ معسكرًا؛ معسكرًا للجيش.» كان اسمه دينت ماسون.

«لم أذكُرْ قطُّ معسكرَ الجيش؛ أتحدَّث عن معسكر لقَطْع الأخشاب، في الشمال بعيدًا بمقاطعة كيبيك. ماذا سيفعل معسكرٌ للجيش هناك؟»

«ظننتُ أنكِ قلتِ معسكرًا للجيش.»

«رأى أحدهم ما بحوزته. ما هذا الذي تخبِّئُه؟ فقال: حسنًا، لا أدري. من أين حصلتَ عليه؟ كان مبسوطًا فوق الأرض فحسب. حسنًا، ما هذا الشيء في اعتقادك؟ حسنًا، لا أدري.»

قال رجل آخَر عَرَفَتْه ريا بالنظر إليه — كان مُدرِّسًا سابقًا، ويعمل الآن في بيع الأواني والمقالي للطهي الجاف: «يشبه الحرير الصخري كثيرًا.» كان مريضًا بالسكري، ومن المفترض أن حالتَه خطيرةٌ للغاية لدرجة أنه كانت توجد دائمًا بطرف قضيبه قطرةٌ من السكر الخالص المتبلور.

قال الرجل الذي يروي القصة، باستياءٍ: «الحريرُ الصخري! وقد أسَّسوا في ذلك الموقع أضخم منجم للحرير الصخري في العالم بأسره، ومن ذاك المنجم صُنِعت الثروة!»

تحدَّث دينت ماسون مجددًا: «لكن ليس للرجل الذي عثر عليه. أؤكد لك هذا. لا يحدث هذا أبدًا. لم يصنع الشخص الذي عثر عليه ثروة.»

قال راوي القصة: «أحيانًا ما يحدث.»

قال دينت: «كلا البتة.»

أصرَّ راوي القصة: «عثر البعضُ على الذهب واستفادوا منه. أشخاصٌ كُثُر فعلوا ذلك! عثروا على الذهب وأصبحوا مليونيرات، مليارديرات؛ كالسير هاري أوكس مثلًا؛ عثر على الذهب وأصبح مليونيرًا!»

قال رجل لم يشترك حتى اللحظة في المحادثة: «أودى بحياته.» ضحكَ دينت ماسون وضحك آخرون، وقال بائع الأواني والمقالي: «مليونيرات؟ مليارديرات؟ وماذا استتبع ذلك؟»

صاح دينت ماسون وهو يضحك بأعلى صوته: «أودى بحياته. وهكذا استفاد من الذهب!» بسطَ راوي القصة يدَيْه وهزَّ الطاولة.

«لم أقل مطلقًا ذلك! لم أقلْ مطلقًا إنه لم يُقتَل! نحن لا نتحدَّث هنا عمَّا إذا قُتِل أم لا! قلتُ إنه عثر على الذهب، واستفاد منه، وأضحى مليونيرًا!»

أمسك الجميع بزجاجاتهم وكئوسهم كي لا تسقط من فوق الطاولة، حتى الرجال الذين كانوا يلعبون الورق توقفوا عن الضحك. جلس بيلي مديرًا ظهره لريا. تألَّقَتْ كتفاه العريضتان في القميص الأبيض، بينما وقفَ صديقه وين بالجانب الآخر من الطاولة يشاهد اللعبة. كان وين ابن كاهن الكنيسة المتحدة، من بوندي؛ وهي قرية غير بعيدة عن كارستيرز. ارتاد الكلية مع بيلي، كان سيصير صحافيًّا؛ لديه بالفعل وظيفة بصحيفة في مدينة كالجاري. مع استمرار الحديث المتعلِّق بالحرير الصخري، رفع وين بصره فالتقت عيناه بعينَيْ ريا، ومن تلك اللحظة فصاعدًا أخذ يراقبها بابتسامةٍ طفيفة متوتِّرة ومتواصِلة. لم تكن هذه المرة الأولى التي تلتقي فيها أعينهما، لكنه في العادة لم يكن يبتسم. كان ينظر إليها ثم يشيح بنظره عنها، في بعض الأحيان أثناء حديث بيلي.

ساعَدَ السيد مانك نفسه في النهوض؛ فقد أقعده مرضٌ أو حادثٌ ما فصار كسيحًا. كان يسير متَّكِئًا على عصًا، وينحني إلى الأمام، في زاويةٍ قائمةٍ تقريبًا، من عند خصره. في جلوسه، يبدو طبيعيًّا إلى حدٍّ بعيد، ولدى نهوضه، كان يسير مائلًا فوق الطاولة، وسط الضحكات.

نهضَ الرجلُ الذي كان يروي القصة في الوقت نفسه، وربما دون قصدٍ منه ألقى الكأسَ على الأرض فتحطَّمتْ، فصاح الرجال: «ادفع ثمنها! ادفع ثمنها!»

قال السيد مانك: «ادفع المرة القادمة.» بصوتٍ يهدف إلى تهدئة الجميع؛ صوتٍ عريض وودود لرجل ضعيف ومتلاشٍ.

وطأَ الرجلُ الذي أخبر بالقصة فوق الزجاج، وأزاحه جانبًا بقدمه، وأسرع — من جانب الكرسي الذي تجلس فوقه ريا — نحوَ الباب الخلفي وهو يصيح: «إنَّ عدد الحمقى في هذا المكان يفوق عدد العاقلين.» كان يشدُّ قبضته ويُرْخِيها وعيناه تترقرقان بالدموع.

أحضرتِ السيدة مانك المِكْنَسة.

في العادة، لم تكن ريا ستتواجد في هذا المنزل على الإطلاق، بل كانت ستجلس بالخارج مع لوسيل؛ رفيقة وين، إما في سيارة وين وإما في سيارة بيلي. من الممكن أن يدخل بيلي ووين لتناوُل شراب واحد، مع وعدٍ بأن يخرجا في غضون نصف ساعة (لا يؤخذ ذلك الوعد على مَحْمَل الجدِّ)، لكن في هذه الليلة — في أوائل شهر أغسطس — مكثَتْ لوسيل في المنزل لمرضها، وذهب بيلي وريا إلى الحفل الراقص بمدينة والي وحدهما، وبعد ذلك لم يُوقِفا السيارة، بل ذهبَا مباشَرةً إلى حانة مانك على الجهة الأخرى. تقع حانة مانك عند أطراف كارستيرز؛ حيث يسكن بيلي وريا. سكن بيلي في البلدة، أما ريا فقد سكنت في مزرعة الدواجن شمال الجسر الذي يمتد من صف المنازل على امتداد النهر.

عندما رأى بيلي سيارة وين واقفةً خارج حانة مانك، حيَّاها كما لو أنها وين نفسه؛ إذ صاح: «أوه أوه أوه! أيُّها الفتى وين!» ثم قال: «لنذهبْ إليها!» وضغط بيده على كتف ريا. قال: «سندخل إلى هناك، وأنتِ أيضًا.»

فتحت السيدة مانك الباب الخلفي لهما وقال بيلي: «أترين؛ أحضرتُ معي جارتكِ.» رمقت السيدة مانك ريا بنظرةٍ كما لو أنها حجر على الطريق. كانت لدى بيلي دُودْ أفكارٌ غريبة بشأن الأشخاص. كان يجمعهم معًا في فئة واحدة إذا كانوا فقراء — وهو ما كان ليُطلِق عليه فئة الفقراء — أو «الطبقة العاملة» (عرفت ريا هذا المصطلح من الكتب فقط). لقد جمع ريا مع آل مانك في فئة واحدة؛ لأنها عاشت أعلى التلة في مزرعة الدواجن، غير مُدرِك لحقيقة أن أسرتها لم تعتبر نفسها جيرانًا لهؤلاء الذين يقطنون بهذه المنازل، أو أن أباها لم يجلس طوال حياته قطُّ في هذا المنزل لاحتساء الخمر.

قابلت ريا السيدة مانك على الطريق في اتجاه البلدة، لكن السيدة مانك لم تتحدَّث إليها مطلقًا. لقد لفَّتْ شعرها الداكن الأشيب إلى الخلف، ولم تضع مساحيق التجميل. حافظت على قوامها النحيل، بعكس نساءٍ كثيرات في كارستيرز. كانت ملابسها نظيفة وبسيطة؛ لم تكن شبابية، على وجه التحديد، لكن من وجهة نظر ريا لم تكن ملائمةً لربَّات البيوت. ارتدَتْ في هذه الليلة تنورة مربعة النقوش وبلوزة صفراء بأكمام قصيرة. يعلو وجهها التعبير نفسه؛ تعبيرٌ غيرُ عدائي، لكنه جِدِّي ويدل على الانشغال، كما لو أنها تحمل عبئًا مألوفًا من خيبة الأمل والقلق.

قادت بيلي وريا إلى هذه الحجرة التي تتوسَّط المنزل. لم ينظر إليهما الرجالُ الجالسون عند الطاولة أو ينتبهوا إلى بيلي حتى جذب كرسيًّا؛ ربما كان ثمة شيءٌ من قبيل القواعد بشأن هذا الأمر. تجاهَلَ الجميعُ ريا. رفعتِ السيدة مانك شيئًا ما من فوق الكرسي الهزَّاز وأشارَتْ إليها كي تجلس عليه.

قالت: «أُحضِرُ لكِ كوكاكولا؟»

أحدث قماش البطانة الخشن أسفل فستان الرقص الأخضر المائل إلى الصفرة ضوضاء كصوتِ قشٍّ يتهشَّم أثناء جلوسها. ضحكت على سبيل الاعتذار، لكن السيدة مانك كانت قد استدارتْ بعيدًا عنها بالفعل. كان وين الشخص الوحيد الذي لاحَظَ هذه الضوضاء، والذي دخل الحجرة توًّا قادمًا من الردهة الأمامية. رفع حاجبَيْه الأسودين بطريقة ودودة لكن اتهامية. لم تعرف قطُّ ما إذا كان وين يحبها أم لا. حتى عندما رقصَ معها، بمعرض والي (قرَّرَ هو وبيلي أن يتبادَلَا إجباريًّا رفيقتَيْهما في الرقص لليلةٍ واحدة)، أمسكَ بها دون اكتراثٍ كما لو أنها طردٌ غير مسئول عنه. كان راقصًا فاترًا يفتقر إلى الحِسِّ والحيوية.

لم يرحب وين وبيلي أحدهما بالآخر — كما اعتادَا — بصيحةٍ ولكمةٍ في الهواء؛ فقد توخَّيَا الحذر والتحفُّظ أمام هؤلاء الرجال الأكبر سنًّا.

إلى جانب دينت ماسون والرجل الذي يبيع الأواني والمقالي، عرفتْ ريا أيضًا السيد مارتن من متجر التنظيف الجاف، والسيد بولز الحانوتي. كانت للبعض وجوهٌ مألوفة، وللبعض الآخَر وجوهٌ غير مألوفة لها. لن يشعر أيٌّ من هؤلاء الرجال بالخزي لوجوده هنا؛ فحانة مانك ليست بمكان مُخْجِل. مع ذلك، فإن الحانة تترك وصمةً طفيفةً. ذُكِرَ ذلك وكأنه أُرِيدَ به توضيح شيء ما؛ حتى إذا كان رجلًا ناجحًا، فإنه «يرتاد حان مانك».

أحضرتِ السيدة مانك زجاجة كوكاكولا لريا ولم تحضر كوبًا. لم تكن مُثلَّجة.

ما أزاحته السيدة مانك عن الكرسي كي تجلس ريا كان كومةً من الملابس التي بلَّلتها وطوَتْها بغرض كيِّها؛ ومن ثَمَّ كانت تكوي الملابس هنا، وتؤدِّي غير ذلك من الأعمال المنزلية العادية. ربما تفرد عجينَ الفطائر فوق هذه الطاولة، وتعدُّ الوجبات كذلك. كان ثمة موقد خشبي، لكنه بارد الآن ووُضِعتْ فوقه الصحف، أما الموقد الذي يعمل بالكيروسين فيُستخدَم فترةَ الصيف. انتشرت في المكان رائحةُ الكيروسين والجَصِّ الرطب. ظهرت آثار المطر الغزير على ورق الحائط. كانت قِطَع الأثاث قليلةً، وكانت الستائر المعتمة ذات اللون الأخضر الداكن منسدِلة على أعتاب النوافذ. كذلك كانت هناك ستارة معدنية في إحدى الزوايا، لعلها تخفي وراءها طاولةَ تقديمٍ عتيقةً.

بالنسبة إلى ريا، كانت السيدة مانك هي أكثر الأشخاص الموجودين في الحجرة إثارةً للاهتمام. كانت ساقاها عاريتين، لكنها ارتدتْ حذاءً بكعب عالٍ. كان صوت طَرْقاتِ الكعب يُسمَع طوال الوقت فوق الأرضية الخشبية. سارت حول الطاولة جَيْئَةً وذهابًا من البوفيه وإليه؛ حيث وضعت زجاجات الخمر (متى توقَّفت تدوِّن أشياءَ فوق بطاقة ورقية؛ كوكاكولا لريا، الكأس المكسور). انطلقت عبر الردهة الخلفية إلى قبو تخزين لتعود منه حاملةً مجموعة من زجاجات الجعة في كلِّ يد. كانت حَذِرة كشخصٍ أصم وأبكم، وصامتة، تنتبه إلى كل إشارة حول الطاولة، وتلبِّي بإذعانٍ كل طلب، دون أن تبتسم. استدعى هذا إلى ذهن ريا الشائعاتِ التي دارت حول السيدة مانك، وفكَّرتْ في نوع آخَر من الإشارات التي من الممكن أن تصدر من أحد الرجال، فتضع السيدة مانك سترتها جانبًا، وتسبقه خارج الحجرة باتجاه الردهة الأمامية؛ حيث يوجد دَرَج يؤدِّي إلى غرف النوم، ويتظاهر الرجال الآخَرون، بمَن فيهم زوجُها، بأنهم لم يلحظوا شيئًا. تصعد الدَّرَج دون أن تنظر خلفها، وتدع الرجل يتتبع بعينَيْه مؤخرتها الجميلة في تنورة مُعلِّمة المدرسة. وبعد ذلك، وفوق سرير في غرفة الانتظار، تهيِّئ نفسَها دون أدنى تردُّد أو حماسة. هذا الاستعداد الممزوج باللامبالاة، وهذا المَسْكَن المثير، وفكرة مثل هذا اللقاء السريع المدفوع الثمن؛ رأته ريا أمرًا مشوِّقًا على نحوٍ مُخْجِل.

راقَ لها أن تنسطح على السرير وتُستغَل وهي تكاد لا تعرف مَنْ يفعل بها ذلك، وتأتَّى لها أن تستوعبَ الأمر برمته بتلك القدرة الخفية مرارًا وتكرارًا.

تذكَّرتْ وين وهو قادمٌ من الردهة الأمامية فور دخولها إلى الحجرة برفقة بيلي. فكَّرتْ؛ ماذا لو أنه كان قادمًا من الحجرة بأعلى؟ (لكنه أخبرها فيما بعدُ أنه كان يُجرِي مكالمةً هاتفية، كان يهاتف لوسيل، كما وعَدَها. أدركت لاحقًا أن تلك الشائعات خاطئة.)

سمعتْ رجلًا يقول: «انتبه إلى ألفاظك.»

«نداءُ الطبيعة إذن. لا بأس، نداءُ الطبيعة.»

•••

كان منزل يوني مورجان هو ثالث منزل بعد منزل مانك، وهو المنزل الأخير على الطريق. قالت والدة يوني إنها في منتصف الليل تقريبًا سمعت صوت إغلاق الباب السلك. سمعتْ هذا الصوت ولم تُلْقِ له بالًا. فكَّرتْ بالطبع أن يوني خرجتْ للذهاب إلى المرحاض. حتى في عام ١٩٥٣، لم يكن لدى آل مورجان صرفٌ صحي داخل المنزل.

لا شك أنَّه لا أحدَ منهم يخرج إلى المرحاض في ساعة متأخِّرة من الليل. جثمَتْ يوني والسيدة العجوز فوق العشب. روى الرجل العجوز الأشجار المزهرة الموجودة عند مدخل المنزل.

قالت والدة يوني لا بد أنني قد خلدتُ إلى النوم بعد ذلك، لكنني استيقظت فيما بعدُ وظننتُ أنني لم أسمعها وهي تدخل إلى المنزل.

ذهبتْ إلى الطابق السفلي وتجوَّلت في المنزل. كانت حجرة يوني تقع خلف المطبخ، لكن ربما تكون نائمة في أي مكان آخَر في ليلة حارة كهذه؛ ربما تكون راقدةً فوق الأريكة في الحجرة الأمامية، أو مستلقيةً فوق أرضية الردهة لتشعر بنسيم الهواء المتسلِّل من بين الأبواب، وربما خرجت إلى الشرفة حيث يوجد مقعدُ سيارةٍ رائعٌ عثر عليه أبوها منذ سنوات؛ حيث كان ملقًى بعيدًا على الطريق، لكنْ لم تستطع أمُّها العثورَ عليها في أي مكان. كانت ساعة المطبخ تشير إلى الثانية والعشرين دقيقة.

عادت والدة يوني إلى أعلى وهزَّت والد يوني حتى استيقظ.

قالت: «يوني ليست بالأسفل.»

قال زوجها: «أين هي إذن؟» كما لو أنه منوط بها معرفة ذلك. أخذت تهزُّه وتهزُّه لتمنعه من أن يعود مجدَّدًا إلى النوم. كان غيرَ مكترِث تمامًا بالأخبار، ومُحْجِمًا عن الإصغاء لما يقوله أي أحد، حتى عندما يكون مستيقظًا.

قالت: «انهض. انهض. علينا العثور عليها.» في نهاية المطاف رضخَ لها، ونهض وارتدى بنطاله وحذاءَه. أخبرته: «أَحْضِرِ المصباح اليدوي.» وهبط خلفها الدَّرَج مرةً أخرى، وخرجا إلى الشرفة ثم نحو الفناء. كانت مهمته أن يضيء المصباح ويسلِّطه على الأماكن التي أخبرَتْه بها. قادته على امتداد الطريق إلى المرحاض، الذي كان موجودًا وسط مجموعة من نبات الليلك وشجيرات التوت في نهاية حدود منزلهم. أشعلا الضوء داخل المبنى ولم يجدَا شيئًا، فحدَّقَا النظر بين جذوع الليلك المتينة وعلى امتداد الطريق، الذي فقدَا أثرَه الآن تقريبًا، والذي يؤدِّي عبر جزءٍ متراخٍ من السياج إلى النباتات البرية بمحاذاة ضفاف النهر. لم يكن ثمة شيء أو شخص.

عادَا عبر حديقة الخضراوات والضوء ينعكس فوق نباتات البطاطا التي تراكَمَ فوقها الثرى، ونبات الراوند الذي نَمَا كثيرًا وأصبح مُحمَّلًا بالبذور الآن. رفعَ الرجل العجوز ورقةَ الراوند بحذائه، وأضاءَ المصباح أسفلها. سألته زوجته إن كان قد فقَدَ عقله.

تذكَّرت أن يوني اعتادتِ السير أثناء النوم، لكن كان ذلك منذ سنواتٍ مضَتْ.

لاحظَتْ شيئًا يلمع في زاوية المنزل؛ كالسكاكين أو رجلًا يرتدي درعًا، قالت: «انظر هناك. انظر هناك. شيء يلمع هناك. ما هذا؟» لم تكن سوى درَّاجة يوني التي كانت تذهب بها كلَّ يوم إلى العمل.

ثم نادَتِ الأمُّ اسمَ يوني، صاحتْ به في مقدمة المنزل ومؤخرته. كانت أشجار البرقوق قد نمت بارتفاع المنزل وأمامه ولم يكن ثمة مَمْشًى جانبيٌّ، فقط ممرٌّ طينيٌّ بينها. تكدَّست جذوعها كالمتفرجين، وبدت كحيواناتٍ سوداء منحنية. بينما كانت تنتظر ردًّا على ندائها، سمعتْ صوتَ ضفدع قريب منها كأنه يجلس فوق هذه الأغصان. على بُعْد نصف ميل، كان هذا الطريق يؤدِّي إلى حقلٍ مليء بالمستنقعات ولا يصلح لأي استخدام، وشجرِ الحور الكثير الأعشاب النامي بين أَجَمة الصفصاف والبلسان. وفي الاتجاه الآخَر، يلتقي بالطريق القادم من البلدة، ثم يعبر النهر ويتجه صعودًا نحو التل إلى مزرعة الدواجن. وعند المسطحات النهرية كانت توجد الأماكن المخصَّصة للمعارض، وهي عبارة عن بضعة مدرجات مسقوفة مهجورة منذ الفترة السابقة على الحرب، فيما استحوَذَ المعرض الكبير بمدينة والي على المعرض هنا. لا يزال مضمارُ السباق مميَّزًا بين الحشائش.

في هذا المكان تأسَّسَتِ البلدة، منذ مئات الأعوام. وقفَتِ الطواحين والنُّزُل الريفية القديمة، لكن فيضانات النهر دفعت الناس إلى الانتقال إلى أراضٍ مرتفعة. ظلَّتْ قِطَع الأراضي الخاصة بالمنازل موضَّحة على الخريطة، ومُدَّتِ الطرق، لكنْ لا يزال صفٌّ وحيد من المنازل يقطنه أناسٌ هنا؛ أناس مُعدِمون للغاية أو يقاومون التغيير مقاومةً شديدة بطريقة أو بأخرى؛ أو يسكنون، من ناحية أخرى، هذه المنازل بصفة مؤقتة للغاية تجعلهم لا يمانعون في دخول الماء إليها.

استسلَمَ والدا يوني. جلسا في المطبخ دون إشعال أي ضوءٍ. كانت الساعة بين الثالثة والرابعة؛ لا بد أن الأمر بَدَا وكأنهما جلسا في انتظار عودة يوني كي تخبرهما بما عليهما فعله. كانت يوني هي المسئولة عن ذلك المنزل، وكان يصعب عليهما أن يتذكَّرَا وقتًا كان الحالُ فيه خلاف ذلك. قبل تسعة عشر عامًا، اقتحمت يوني، حرفيًّا، حياتهما. اعتقدت السيدة مورجان أنها تمر بمرحلةِ انقطاع الطمث وتزداد بدانةً. كانت بدينةً بالفعل بدرجة كبيرة بحيث لم يُحدِث ذلك فارقًا كبيرًا. ظنَّتْ أن اضطراب معدتها هو ما يدعوه الناس عُسْرَ الهضم. عرفت كيف ينجب الناسُ الأطفال. لم تكن خرقاء، بل كل ما في الأمر أنها عاشت طويلًا دون أن يحدث شيءٌ كهذا لها. وفي أحد الأيام، في مكتب البريد، اضطرتْ إلى طلب كرسي. شعرت بالوهن واستبدَّتْ بها انقباضاتٌ في رحمها. بعد ذلك، انفجَرَ كيس السائل الأمنيوسي وأُخِذت على عجل إلى المستشفى، وخرجت يوني برأس أبيض الشعر بالكامل. لقد استرعَتْ يوني الانتباهَ منذ لحظة ولادتها.

•••

على مدار صيف بأكمله، لعبت يوني وريا معًا، لكنهما لم يعتبرا نشاطهما معًا لَعِبًا؛ أطلقتا عليه لعبًا لإرضاء الآخرين. كان لعبهما أكثر الجوانب جديةً في حياتهما، أما ما فعلته كلتاهما بقيةَ الوقت فقد بَدَا تافهًا وجديرًا بالنسيان؛ فعندما كانتا تنطلقان من فناء يوني تجاه ضفة النهر، كانتا تتحوَّلان إلى شخصين مختلفين، كلٌّ منهما تُدعَى توم. توم وتوم. كان توم لقبًا لهما، وليس مجرد اسم. لم يكن مذكرًا أو مؤنثًا. كان يعني شخصًا شجاعًا وذكيًّا على نحو خارق، لكن لا يحالفه الحظ دائمًا، ويكاد لا يُقهَر. خاضت توم وتوم معركةً لا تنتهي مع البانرشيز (ربما سمعت ريا ويوني بجنيَّات البانرشيز اللائي ينذرن بالشؤم وسوء الطالع). تسلَّل البانرشيز خُفيةً حول النهر وتجسَّدوا في صورة لصوص أو ألمان أو هياكل عظمية. كانت حِيَلهم وميولهم لا حصرَ لها. نصبوا الفخاخَ والكمائن وعذَّبوا الأطفالَ الذين اختطفوهم. أحيانًا كانت يوني وريا تُحضِران أطفالًا حقيقيين — أطفال آل ماكيز الذين عاشوا لفترة وجيزة في أحد المنازل الواقعة على ضفة النهر — وتقنعانهم بأن يسمحوا لهما بتقييدهم وجَلْدهم بنبات البوط، لكن أطفال ماكيز لم يستطيعوا أو رفضوا الإذعان للخطة، وسرعان ما شرعوا في البكاء أو هربوا وعادوا إلى المنزل، وهكذا أصبحت توم وتوم وحدهما مرةً أخرى.

بَنَت توم وتوم مدينةً من الطمي بجانب ضفة النهر، جدرانها من الصخور لصدِّ هجمات البانرشيز. ضمَّتِ المدينة قصرًا ملكيًّا، وحوضَ سباحة، وعَلَمًا، لكن بعد ذلك انطلقت توم وتوم في رحلةٍ وهدَمَ البانرشيز المدينة بأسرها (بالطبع اضطرت يوني وريا إلى تحويل نفسَيْهما إلى بانرشيز غالبًا). ظهر قائدٌ جديد؛ ملكة بانرشية، اسمها جويليندا، ومخططاتها كانت شيطانية؛ فقد دسَّتِ السُّمَّ في ثمار العليق التي نمتْ عند ضفة النهر، وأكلتْ توم وتوم بعضًا منها لشعورهما بالجوع وعدم اكتراثهما بما تأكلان بعد رحلتهما. رقدتا تتلوَّيان من الألم وتتعرَّقان بين الحشائش المبتلة من أثر السُّمِّ. ضغطتا بطنَيْهما فوق الطين الذي كان رخْوًا على نحو طفيف، ودافئًا كحلوى الفدج المصنوعة توًّا. شعرتا بأحشائهما تتقلَّص، وأخذَ جسداهما يرتجفان، لكن تعيَّن عليهما النهوض والترنُّح للبحث عن ترياق. جرَّبَتَا مضغَ عشب السيف — الذي كما يوحي اسمه يمكن أن يؤدِّي إلى تشريح جلدك — كذلك لطَّختا فمهما بالطين، وفكرتا في قضم ضفدع حي إذا استطاعتا الإمساك بواحد، لكن قرَّرتا في النهاية أن الكرز المُرَّ هو ما يمكن أن ينقذهما من الموت. تناوَلَتَا مجموعةً من الكرز المُرِّ الصغير، وشعرتا بلسعات داخل فمهما على نحوٍ مؤلمٍ، فاضطرتا إلى الركض نحو النهر لشرب الماء. ألقيتا بنفسيهما في النهر، في جزء مليء بالطمي بين نباتات زنبق الماء حيث يتعذَّر رؤية القاع. أخذتا تشربان الكثير من الماء بينما حلَّقَ الذبابُ الأزرق فوق رأسَيْهما مباشَرةً كالسِّهَام، ونجيا من الموت.

عندما خرجتا من هذا العالَم في أواخر الظهيرة، وجدتا نفسَيْهما في فناء منزل يوني حيث كان أبواهما لا يزالان يعملان، في عزق الأرض أو حرثها أو في إزالة الأعشاب الضارة من حول الخضراوات مجددًا. كانتا تتمدَّدان في ظِلِّ المنزل، وقد أنهكهما التعب كأنهما اجتازتا البحيرات سباحةً أو تسلَّقَتَا الجبال، تفوح منهما رائحةُ النعناع والثوم البري الذي سحَقَتَاه تحت أقدامهما، وكذلك الأعشاب النتنة الساخنة والطين الكريه الرائحة الموجود بمكان تفريغ الصرف. في بعض الأحيان، تدخل يوني إلى المنزل وتحضر شيئًا لتناوُله؛ شرائح الخبز بدِبْس الذرة أو العسل الأسود. لم تضطر قطُّ إلى السؤال إن كان بوسعها فعل هذا؛ كانت دائمًا تحتفظ بالجزء الأكبر لنفسها.

لم تكونا صديقتين، بمعنى الصداقة الذي دارَ بخَلَدِ ريا فيما بعدُ. لم تحاول إحداهما إرضاء الأخرى أو مواساتها قطُّ. لم تتشاطَرَا الأسرار، فيما عدا سِرَّ اللعبة، وحتى هذا لم يكن سِرًّا لأنهما سمحَا للآخرين بالمشاركة فيها، لكنهما لم تسمحَا للآخرين بتقمُّص دور توم؛ لذا ربما كان ذلك ما تقاسماه في تعاوُنهما اليومي المكثَّف؛ طبيعة وخطر كونهما توم وتوم.

•••

لم تَبْدُ يوني قطُّ خاضعة لوالديها، أو حتى مرتبطة بهما، كحال الأطفال الآخرين. ذُهِلتْ ريا من الطريقة التي تسيطر بها يوني على حياتها، والنفوذ الطائش الذي تحظى به في المنزل. عندما قالت ريا إنه يتعيَّن عليها أن تكون في المنزل في موعدٍ محدد، أو إن عليها إنجازَ أعمالٍ منزلية، أو تغييرَ ثيابها؛ شعرتْ يوني بالاستياء، واعترَتْها حالة من عدم التصديق. لا بد أن كلَّ قرار اتخذَتْه يوني كان من تلقاء نفسها. عندما كانت في الخامسة عشرة، امتنعت عن الذهاب إلى المدرسة وحصلت على وظيفةٍ في مصنع القفازات. تخيَّلَتْ ريا يوني وهي تعود إلى المنزل وتخبر والديها بأن هذا ما قد فعلَتْه. كلَّا، بل إنها لم تكن تخبرهما؛ فهما كانا سيعلمان بالأمر بطريقةٍ تفتقر إلى الكياسة، ربما عندما تشرع في العودة إلى المنزل في أواخر الظهيرة. وبعد أن أضحتْ تكسب المال اشترتْ درَّاجة، واشترتْ مذياعًا واستمعت إليه في غرفتها آخِر الليل. ربما أصغى والداها إلى أصوات الطلقات تتردَّد في الخارج وقتئذٍ، والمركبات تدوي في الشوارع. من الممكن أن تخبر والدَيْها بالأشياء التي سمعَتْها؛ أخبار الجرائم والحوادث والأعاصير والانهيارات الثلجية. لم تعتقد ريا أنهما اهتمَّا كثيرًا بهذه الأخبار؛ فقد كانا منشغلين وحياتهما حافلة بالأحداث، على الرغم من أن الأحداث بها كانت موسميةً ومرتبطةً بالخضراوات التي كانا يبيعانها في البلدة لكسب قوت يومهما؛ الخضراوات وتوت العليق والراوند. لم يكن لديهما متَّسَع من الوقت لشيء آخَر.

فيما كانت يوني لا تزال في المدرسة كانت ريا تقود درَّاجتها؛ لذا لم تكونا تسيران معًا على الرغم من أنهما كانتا تسلكان الطريق نفسها. عندما كانت ريا تمر بدرَّاجتها من جانب يوني، عادةً ما كانت يوني تصيح فيها بشيءٍ ينطوي على التحدِّي والسخرية: «هاي، يا صاحبة الدرَّاجة الفضية!» والآن وبعد أن امتلكت يوني درَّاجة، بدأت ريا في السير على قدمَيْها. ذاعت فكرة في المرحلة الثانوية أن أي فتاة تقود درَّاجة بعد الصف التاسع تبدو خرقاء ومثارًا للسخرية، لكن يوني كانت تنزل عن الدراجة وتسير بجانب ريا كما لو أنها تُسدِي إليها معروفًا.

لم يكن معروفًا على الإطلاق؛ فريا لم تكن ترغب في صحبتها؛ فلطالما كانت يوني محط الأنظار على نحو غريب؛ فقد كانت طويلةَ القامة مقارَنةً بعمرها، وكان لديها كتفان صغيرتان مدبَّبتان، وقمةُ رأسٍ يكسوها شعرٌ أبيض أشعث، وتعبير واثق يعلو وجهها، وفكٌّ طويل وضخم؛ ذلك الفك أضفى سُمكًا على الجزء السفلي من وجهها الذي بدا أنه انعكس في غلاظة صوتها وخشونته. عندما كانت أصغر سنًّا، لم يكن يهم أيٌّ من ذلك؛ فقناعتُها بأن كلَّ شيء منها هو الشيء الملائم هالتِ الكثيرين، لكنها الآن خمس أقدام وتسع أو عشر بوصات، شاحبة اللون، وتبدو كالرجال في بنطالها الفضفاض وعصابة الرأس. إنها تحظى بقدم كبيرة داخل ما بدا أنه حذاء رجالي، وصوت مخيف، ومَشية خرقاء؛ فقد انتقلت مباشَرةً من كونها طفلةً إلى شخصٍ غريبِ الأطوار. تحدَّثت مع ريا بأسلوبٍ تملُّكي أزعَجَها، سائلةً إياها أَلَمْ تسأم من الذهاب إلى المدرسة، أو ما إذا كانت دراجتها مُعطَّلة ولم يستطع والدها تحمُّل تكلفة إصلاحها. عندما حصلت ريا على تصفيفة شعر ثابتة، أرادت يوني معرفة ما حدث لشعرها؛ ظنَّت أن بوسعها فعل كل ذلك لحقيقة أنها وريا تعيشان على الجانب نفسه من البلدة ولعبتا معًا. في فترةٍ من الزمن بَدَا لريا أنها بعيدة للغاية ويمكن نسيانها، والأسوأ من ذلك عندما كانت يوني تشرع في قَصِّ رواياتٍ رأتها ريا مثيرة للضجر والحنق على حدٍّ سواء، عن حوادث القتل والكوارث وأحداث غريبة سمعتْ بها في المذياع. شعرت ريا بالحنق لأنها لم تستطع حمْلَ يوني على إخبارها عمَّا إذا كانت هذه الأمور قد حدثتْ بالفعل، أو حتى التمييز بينها بنفسها بقدر ما تعلم ريا.

«هل سمعتِ ذلك في الأخبار، يا يوني؟ أهذه قصة؟ هل كان ذلك مسلسلًا إذاعيًّا أم تقريرًا؟ يوني، هل كان هذا حقيقيًّا أم كان مجرد مسرحية؟»

كانت ريا — وليس يوني على الإطلاق — هي مَنْ أرهقتها هذه التساؤلات. كانت يوني تركب درَّاجتها فحسب وتنطلق بعيدًا. «تودلي، أودلي! أراكِ في حديقة الحيوانات!»

من المؤكَّد أن وظيفة يوني لاءمتها. شغَلَ مصنعُ القفازات الطابقين الثاني والثالث من بنايةٍ بالشارع الرئيسي، وفي الأجواء الدافئة، عندما كانت النوافذ مفتوحةً، لم تكن تستطيع أن تسمع ماكينات الخياطة فحسب، بل أيضًا النكات العالية، والشجار، والإهانات، واللغة الفظَّة التي تشتهر العامِلاتُ هناك باستخدامها. كان من المفترض أنهن من طبقةٍ أدنى من النادلات، وأدنى كثيرًا من البائعات بالمتاجر. كُنَّ يعملن لساعاتٍ طويلة ويكسبن مالًا أقل، لكنَّ ذلك لم يجعلهن متواضِعات. كُنَّ بعيدات تمامَ البُعْد عن ذلك؛ فكُنَّ يتزاحمن عبر الدَّرَج وهنَّ يُطلِقن النكات ويندفعْنَ نحو الشارع. يصرخن في السيارات سواءٌ أكان بها أشخاص يعرفونهن أم أشخاص لا يعرفونهن. كُنَّ ينشرن الفوضى كما لو أنَّ لهن الحقَّ في ذلك.

أظهر الأشخاص القريبون من القاع؛ مثل يوني مورجان، أو الذين يعتلون القمة؛ مثل بيلي دُودْ، طيشًا مماثِلًا وفهمًا متبلِّدًا.

•••

أثناء السنة النهائية بالمدرسة الثانوية، حصلت ريا على وظيفة هي الأخرى. عملتْ في متجر الأحذية أيام السبت، فترةَ ما بعد الظهيرة. حضرَ بيلي دُودْ إلى المتجر، في أوائل الربيع، وقال إنه يرغب في شراء حذاءٍ مطاطي كالحذاء المُعلَّق بالخارج.

كان قد أنهى الدراسة بالكلية أخيرًا، ويدرس بالمنزل كيف يدير مصنع آل دود للبيانو.

خلع بيلي حذاءَه وكشفَ عن قدمَيْه اللذين كان يرتدي فيهما جوربًا أسود جميلًا. أخبرته ريا أنه من الأفضل ارتداء جورب صوف مع الحذاء المطاطي كي لا تنزلق قدمه؛ لأنه سيكون جوربًا سميكًا وعمليًّا. سألها هل يبيعون مثل هذه الجوارب، وقال إنه سيشتري زوجًا منها أيضًا، إذا أحضرتها ريا، ثم سألها إن كان بإمكانها أن تساعده في ارتدائه.

أخبرها فيما بعدُ أن كلَّ ذلك كان حيلة؛ لم يكن يحتاج إلى الحذاء أو الجورب.

كانت قدمه طويلة وبيضاء وطيبة الرائحة على نحو رائع؛ انبعثت منها رائحةُ الصابون الجميلة، ونفحةٌ من مسحوق التلك. اتكأ بظهره فوق مقعدٍ ما. كان طويلًا وأشقر، جميلًا ونظيفًا؛ هو نفسه ربما يكون منحوتًا من الصابون. جبهة محدَّبة عالية، وصدغ يخلو من الشَّعْر، وشَعْر بلَمْعةِ أشرطة الزينة، وجفون عاجية ناعسة.

قال: «هذا لطفٌ منكِ.» وطلب منها مرافقته إلى حفلٍ راقصٍ في تلك الليلة؛ الليلة الافتتاحية لموسم الرقص في معرض والي.

بعد ذلك، اعتادَا الذهاب معًا إلى الحفل الراقص بوالي في كل ليلة سبت. لم يخرجا معًا خلال الأسبوع؛ إذ تعيَّنَ على بيلي الاستيقاظ مبكرًا للذهاب إلى المصنع وتعلُّم المهنة — من أمه؛ التي تُعرَف بالمرأة الحديدية — وتعيَّنَ على ريا القيام ببعض الأعمال المنزلية لأبيها وأشقائها. كانت أمها ترقد بالمستشفى في هاميلتون.

كانت الفتيات تصحِن: «ها هو معشوقك الجذَّاب.» إذا مرَّ بيلي بسيارته أمام المدرسة عندما يكُنَّ بالخارج للَّعب لعبة الكرة الطائرة، أو إذا مرَّ بالشارع. وفي حقيقة الأمر، كان قلب ريا يخفق بالفعل لدى رؤيته، بشعره اللامع الذي لا تغطيه قبعة، وبيدَيْه النضَّتَيْن، لكن القويتين بالتأكيد، الممسكتين بعجلة القيادة، لكن كان قلبها يخفق أيضًا لفكرة أنها انتُقِيت بغتةً، واختيرتْ على نحوٍ غير متوقَّع تمامًا، وأصبح يعلوها بريق الفائز، وهو بريقٌ كان مختفيًا في السابق. أضحت سيداتٌ كبيرات في السن لا تعرفهن يبتسِمْنَ لها بالشارع، وفتياتٌ يرتدين خاتمَ الخطوبة يتحدَّثْنَ معها باسمها الأول، وفي الصباح تستيقظ ولديها شعورٌ بأنها وُهِبَتْ هدية كبيرة، لكن عقلها وضعها في علبة وأرسَلَها أثناء الليل، ولا تستطيع مطلقًا تذكُّر ماذا كانت تلك الهدية.

جلبَ لها بيلي الاحترام في كل مكان باستثناء المنزل. كان ذلك متوقَّعًا؛ فالمنزل، على حدِّ علم ريا، هو المكان الذي يحطُّون فيه من شأنك. حاكى أشقاؤها الصغار بيلي وهو يقدِّم لأبيها سيجارة: «تفضَّلْ سيجارة بال مال يا سيد سلرز.» ويلوحون أمامه بعلبة وهمية من السجائر الجاهزة. بدا بيلي دُودْ أمام صوتهم المتملق وإيماءاتهم الراضية كالأبله. أطلقوا عليه «بوتي»؛ في البداية أطلقوا عليه «بيلي السخيف»، ثم «بوتي السخيف»، ثم «بوتي» فقط.

قال والِد ريا: «توقَّفوا عن مضايقة أختكم.» ثم تولَّى الأمر بنفسه، بسؤال جِدِّي: «أتنوين الاستمرار في العمل بمتجر الأحذية؟»

قالت ريا: «لماذا؟»

«اعتقدتُ فحسب أنكِ ربما تحتاجين إلى الوظيفة.»

«لماذا؟»

«لإعالة ذلك الشاب؛ فبمجرد أن تموت أمه العجوز فإنه سوف يقود المصنع إلى الهاوية.»

طوال الوقت أبدى بيلي إعجابه الشديد بوالِد ريا؛ قال: «رجالٌ كأبيك، ممَّنْ يكدُّون في العمل، كي يتمكَّنوا بالكاد من تدبير أمورهم، دون توقُّع حدوث اختلاف على الإطلاق، ويتمتعون باللياقة ورباطة الجأش وطِيبة القلب؛ إن العالم مَدِين بالكثير لرجالٍ كهؤلاء.»

اعتاد بيلي دُودْ وريا ووين ولوسيل الذهاب إلى الحفل الراقص قرب منتصف الليل. كانوا يقودون السيارة إلى مكان انتظار السيارات، في نهاية طريق مُوحِل عند المنحدر الموجود أعلى بحيرة هورون. شغَّلَ بيلي مذياع السيارة بصوتٍ منخفض. دائمًا ما كان المذياع يعمل، حتى إن كان يخبر ريا بقصة معقَّدة. ارتبطتْ قصصه بحياته في الكلية، بالحفلات والمقالب المضحكة والمغامرات الكارثية التي استدعت تدخُّل الشرطة في بعض الأحيان. دائمًا ما كانت مرتبطةً بالثَّمَل. ذات مرة، تقيَّأ شخص ثَمِلٌ خارج نافذة السيارة، ولما كان الشراب الذي تناوَلَه بغيضًا للغاية أتلفَ طلاء السيارة من الجانب. لم تكن ريا تعرف من أطراف هذه القصة سوى وين، أما الفتيات، فكانت أسماؤهن تطرأ بين الحين والآخر، وحينئذٍ ربما تضطر إلى مقاطعته. رأَتْ ريا بيلي دُودْ أثناء عودته إلى المنزل من الكلية على مدار سنوات، بصُحبة فتيات، فُتِنت للغاية بمظهرهن أو ملابسهن، أو بأناقتهن أو سلوكياتهن الرقيقة، والآن اضطرتْ إلى سؤاله ما إذا كانت كلير هي الفتاة التي ارتدَتْ قبعةً صغيرة بغطاءٍ على الوجه وقفَّازًا أرجوانيًّا في الكنيسة، كما سألته عن الفتاة ذات الشعر الأحمر الطويل والمعطف الوبري، والأخرى التي كانت مرتدية الحذاء المخملي بجزئه العلوي المصنوع من الفِراء.

عادةً، لم يستطع بيلي أن يتذكَّر، وإذا استطرد بالفعل في إخبارها بالمزيد عن أولئك الفتيات، فربما قال أشياءَ لا تنطوي على شيءٍ من المجاملة.

عندما يوقفان السيارة، بل أحيانًا أثناء قيادة السيارة، يلف بيلي ذراعه حول كتفَيْ ريا، ويضمها بقوةٍ كأنه يقطع لها وعدًا. كان يقطع لها وعودًا أيضًا أثناء رقصهما معًا. لم يأنف أن يحكَّ أنفَه بوجنتَيْها، أو يطبع سيلًا من القبلات على شعرها. كانت قبلاته لها بالسيارة أسرع، فسرعتها وإيقاعها، والأصوات الصغيرة التي يمكن أن تتخلَّلها أظهرتْ لها أن تلك القبلات غير جدية، أو غير جدية جزئيًّا. يربِّت بأصابعه عليها، فوق ركبتَيْها، وأعلى نهدَيْها مباشَرةً، ويهمس بكلماتِ ثناءٍ ثم يُوبِّخ نفسه، أو يُوبِّخ ريا قائلًا إنه كان عليه إخفاء مشاعره عنها.

يقول: «يا لكِ من شريرة!» يضغط بشفتَيْه بقوةٍ على شفتَيْها كما لو أن مهمته هي إبقاء فمهما مغلقًا.

قال: «كيف أغويتِني؟» بصوتٍ ليس كصوته، صوت ممثل سينمائي معسول اللسان ومتذلِّل، ويُدخِل يده بخفة بين ساقَيْها، ويتحسَّس جسدَها فوق الجورب الطويل، ثم يَثِب ويضحك كما لو أن ذلك الجزء كان ساخنًا للغاية أو باردًا للغاية.

قال: «تُرَى إلى متى سيمكث وين هناك؟»

كانت القاعدة أنه بعد برهة من الوقت يطلق هو أو وين بوقَ السيارة، وبعدها يتعيَّن على الآخَر الرد عليه. هذه اللعبة — لم تدرك ريا أنها كانت سباقًا بينهما، أو أي نوع من السباق كان على أية حال — أخذت في نهاية المطاف تستحوذ على اهتمامه أكثر وأكثر. يقول لها وهو يُحدِّق في الظلام في السيارة المعتمة لوين: «ما رأيك؟ ما رأيك؛ هل أُطلِقُ البوق لذلك الفتى؟»

أثناء العودة بالسيارة إلى كارستيرز أو الحانة، تشعر ريا برغبةٍ في البكاء، بلا سببٍ، وتشعر بأن ذراعَيْها وساقَيْها كما لو أن أسمنتًا صُبَّ فوقها؛ فلو كانت تُرِكتْ وحدَها فإنها كانت ستستغرق — على الأرجح — في النوم، لكن لم يكن بوسعها أن تبقى بمفردها؛ لأن لوسيل كانت تخشى الظلام، وعندما يدخل بيلي ووين إلى حانة مانك تُضطر إلى البقاء برفقة لوسيل.

كانت لوسيل فتاة نحيفة وشقراء، بشهيةٍ يصعب إرضاؤها، وطمث غير منتظم، وبشرة حسَّاسة. أُعجِبت بتقلُّبات جسدها وتعاملت معه كما لو أنه حيوان مدلَّل مزعج لكنه ثمين. كانت تحمل معها دومًا زيتَ أطفال في حقيبتها وتربِّت به فوق وجهها، الذي كان من الممكن أن يصير خشنًا، منذ فترة طويلة؛ بسبب شعر لحية وين؛ لذا انبعثَتْ من السيارة رائحةُ زيت الأطفال وثمة رائحة أخرى، كانت تبدو كرائحة عجين الخبز.

قالت لوسيل: «سأجعله يحلق لحيته بمجرد أن نتزوَّج، أو قبل الزواج مباشَرةً.»

أخبر بيلي دُودْ ريا أن وين أخبره بأنه مُعجَب بلوسيل طوال الوقت، وأنه سيتزوَّجها؛ لأنها ستكون زوجةً صالحة. قال إنها لم تكن أجمل فتاة في العالم، ومن المؤكَّد أنها لم تكن أشدهن ذكاءً؛ ولهذا السبب سينعم بالطمأنينة دائمًا في الزواج. لن تكون لديها قدرةٌ كبيرة على الجدال، ولم تكن معتادةً على أن يكون معها الكثير من المال.

قال بيلي: «ربما يرى بعض الناس أنه يسلك نهجًا ساخرًا، لكن ربما يعتبره البعض الآخَر نهجًا واقعيًّا. لا بد أن يكون ابن القَسِّ واقعيًّا، لا بد أن يشقَّ طريقَه لنفسه في الحياة. على أية حال، وين لن يتغيَّر.»

«وين لن يتغيَّر.» ردَّدَها بيلي بحبور كبير.

ذات مرة، استخبرت لوسيل ريا: «ماذا عنكِ؟ أتعتادين على الأمر؟»

قالت ريا: «أوه! أجل.»

«يقولون إن الأمر يكون أفضل في حال عدم ارتداء قفاز. أظن أنني سأكتشف ذلك بمجرد أن أتزوَّج.»

شعرت ريا بالحرج الشديد؛ ممَّا منعها من الإقرار بأنها لم تفهم على الفور ما كانتا تتحدَّثان عنه.

قالت لوسيل إنها عندما تتزوَّج ستستخدم الإسفنجات والجيلاتين. ظنَّتْ ريا أن هذا يبدو كالحلوى، لكنها لم تضحك؛ فقد علمت أن لوسيل ستعتبر مزاحها إهانةً. بدأت لوسيل في الحديث عن الصراع الدائر حول زواجها، حول ما إذا كانت وصيفاتُ العروس سترتدين قبعات عريضة أم أكاليل الزهور. أرادت لوسيل أن يضعن أكاليل الزهور، وظنَّت أن الأمر حُسِم، بعد ذلك حصلت شقيقة وين على تصفيفة شعر ثابتة تبيَّنَ أنها قبيحةٌ للغاية، وأرادتِ الآن ارتداء قبعة لإخفاء شعرها.

«ليست صديقتي حتى. ستحضر العُرْس فقط لأنها شقيقة وين، ولا أستطيع استبعادها. إنها أنانية.»

أصابت أنانيةُ شقيقة وين لوسيل بالبثور.

فتحتْ ريا ولوسيل زجاجَ السيارة لاستنشاق الهواء. بالخارج خيَّمَ الظلام وسُمِعَ صوت النهر البعيد عن مرمى البصر، وهو في أدنى انحسار له، بين الصخور البيضاء الضخمة، والضفادع وصراصير الليل تغني، والطرق الموحلة تلمع على نحوٍ خافت في امتدادها في الظلام، والمدرَّج المسقوف المتهدِّم في أراضي المعارض القديمة بارزٌ كبرج متداعٍ. أدركت ريا أن كل هذا يحيط بها، لكنها لم تستطع أن تُعِيره انتباهها؛ منعها من ذلك حديثُ لوسيل، وكذلك قبعات العُرس. كانت فتاةً محظوظة؛ فقد اختارها بيلي دُودْ، كما أسَرَّتْ إليها فتاةٌ مخطوبة، وأن حياتها لربما تتحوَّل إلى أفضل ممَّا تنبَّأ به أي شخص، لكن في أوقاتٍ كهذه تشعر بأنها معزولة وحائرة، كما لو أنها أضاعت شيئًا بدلًا من أن تكسب شيئًا. كان حالها كما لو أنها نُفيِتْ. مِن أين؟

•••

لوَّحَ وين بيده لها في الجهة المقابلة من الحجرة، في إشارةٍ تعني هل تشعرين بالظمأ؟ أحضر لها زجاجةً أخرى من الكوكاكولا وانزلق بجانبها على الأرض، قال: «اجلسي قبل أن أسقط على الأرض.»

فهمت من الرشفة الأولى، أو ربما من الرائحة الأولى، أو ربما قبل ذلك، أنَّ ثمة شيئًا آخَر في شرابها بخلاف الكوكاكولا. فكَّرَتْ ألَّا تحتسيه كله، أو حتى نصفه. ستشرب القليلَ منه فحسب بين الحين والآخَر؛ لتثبت لوين أنه لم يتسبَّب في حيرتها.

قال وين: «هل كل شيءٍ على ما يرام؟ أهذا النوع الذي تحبينه؟»

قالت ريا: «لا بأس، أحبُّ كل أنواع المشروبات.»

«كل الأنواع؟ هذا رائع. يبدو أنكِ الفتاة المناسِبة لبيلي دُودْ.»

قالت ريا: «هل يشرب كثيرًا؟ بيلي؟»

قال وين: «عليكِ صياغتها بهذه الطريقة: «هل البابا يهودي؟ كلا. انتظري. هل المسيح كاثوليكي؟» كلا. استمري. لا أرغب في ترك انطباع سيئ لديكِ، ولا أرغب أيضًا أن أكون فاترًا تجاه هذا الأمر. هل بيلي يحب الثَّمَل؟ هل هو مُدمِن على معاقَرة الخمر؟ كلا. هل هو أحمق؟ هل هو مُدمِن على الحمق؟ كلا، لقد أسأتُ التعبير في هذه أيضًا. لقد نسيتُ مع مَنْ أتحدَّث. معذرةً. تجاهلي الأمر. سولي.»

قال كل هذا بصوتين غريبَيْن؛ أحدهما عالٍ على نحوٍ متكلف ورتيب، وآخَر أجشُّ وجدِّي. لم تذكر ريا أنها سمعته يتحدَّث بهذا القدر من قبلُ، بأي صوت. عادةً ما تولَّى بيلي الحديث. تفوَّهَ وين بكلمةٍ بين الحين والآخر؛ كلمةٍ تافهة بدت مهمةً نظرًا للنبرة التي يقولها بها، ومع ذلك كانت هذه النبرة فارغةً تمامًا، ومحايدةً تمامًا، وبوجهٍ ما تخلو من أي تعبير. جعل هذا الأمرُ الناسَ يشعرون بالتوتُّر. كان هناك حسٌّ بالازدراء مكبوح. رأت ريا بيلي وهو يحاول جاهدًا الإطالة في قصته؛ يعدِّل فيها ويغيِّر وتيرتها؛ كل هذا في سبيل أن يحصل على همهمة التأييد من وين، أو ضحكته التي تعفيه من اللوم.

قال وين: «يجب ألَّا تستنتجين من كلامي هذا أنني لا أحبُّ بيلي. كلا. كلا. لا أرغب أبدًا أن تظني هكذا.»

قالت ريا في رضًا: «لكنك لا تحبه، لا تحبه على الإطلاق.» نبعَ شعورها بالرضا من حقيقةِ أنها تتجاذب أطراف الحديث مع وين. كانت تنظر إليه في عينَيْه، لا شيءَ آخَر؛ فقد جعلها تشعر بالتوتر أيضًا. كان من أولئك الأشخاص الذين يتركون انطباعًا أكثر ممَّا يوحي به حجمُهم أو مظهرهم، أو أي شيء آخَر يتعلَّق بهم. لم يكن طويلَ القامة للغاية، جسده مكتنز؛ ربما كان قصيرًا وبدينًا في طفولته، ومن الممكن أن يصير قصيرًا وبدينًا مرةً أخرى. كان له وجه مربع شاحب إلى حدٍّ ما، فيما عدا الآثار المائلة إلى الزرقة للحيته التي آلمت لوسيل. كان شعره الأسود مستويًا وجميلًا للغاية، وكثيرًا ما كان يرسو فوق جبهته.

قال في دهشةٍ: «لا أحبه؟ لا أحبه؟ كيف ذلك؟ كيف ذلك وبيلي شخص لطيف للغاية؟ انظري إليه هناك يحتسي الخمر ويلعب الورق مع أشخاص عاديين. أَلَا ترينه لطيفًا؟ أم هل تعتقدين أنه من الغريب بعض الشيء أن يكون الشخص لطيفًا طوال الوقت؟ طوال الوقت. ثمة مرة واحدة فقط رأيته فيها يقترف خطأً؛ وهذا عندما تضطرينه إلى الحديث عن إحدى حبيباته السابقات. لا تخبريني أنكِ لم تلحظي ذلك.»

وضع يده فوق ساق الكرسي الذي تجلس عليه ريا. أخذ يهزُّها.

ضحكت ريا وهي تشعر بالدَّوار من جرَّاء الاهتزاز، أو ربما لأنه أصابَ الحقيقة. وفقًا لما قاله بيلي، كانت الفتاة التي ترتدي قبعةً بغطاءٍ على الوجه والقفاز الأرجواني تفوح من فمها رائحةٌ يشوبها دخانُ السجائر، والفتاة الأخرى تتحدَّث بلغة وضيعة عندما تثمل، وثَمَّةَ فتاةٌ ثالثة مصابة بمرض جلدي — فطريات — تحت ذراعيها. أخبر بيلي ريا كل هذه الأشياء وهو يشعر بالأسف، لكن عندما أخبرها بأمر الفطريات أخذ يضحك. ضحكَ على مضضٍ، وفي رضًا يشوبه الشعور بالذنب.

قال وين: «إنه ينتقد حقًّا أولئك الفتيات المسكينات بشدة.»

«ساقها مكسُوَّة بالشعر، رائحةُ فمها كريهةٌ؛ أَلَا يُشعِركِ هذا أبدًا بالانزعاج؟ من جانب آخَر، أنتِ جميلة ونظيفة للغاية. من المؤكَّد أنك تزيلين الشعر عن ساقيك كل ليلة.» ثم مرَّرَ يده فوق ساقها، التي كانت — لحُسْن الحظ — قد أزالتْ منها الشعر قبل الذهاب إلى الحفل الراقص. «أم تضعين ذلك الشيء على ساقك، الذي يزيل الشعر؟ ماذا يُدعَى ذلك الشيء؟»

قالت ريا: «نيت.»

«نيت! أهذا اسمه؟ أليست له رائحة سيئة نوعًا ما؟ رائحة عفنة قليلًا أو كالخميرة، أو شيء من هذا القبيل؟ الخميرة. أليس هناك شيء آخر تضعه الفتيات؟ هل أسبِّب لكِ الحرجَ؟ يجب أن أتحلَّى بالتهذيب وأُحضِر لكِ مشروبًا آخَر. إذا استطعتُ الوقوف والسير، فسأُحضِرُ لكِ مشروبًا آخَر.»

قال عن مشروب الكوكاكولا الآخَر الذي أحضره لها: «هذا لا يوجد به أي ويسكي على الإطلاق. لن يؤذيك هذا.» ظنَّت أن الجملة الأولى كانت كذبة على الأرجح، لكن الثانية صادقة بالتأكيد. لا شيءَ يمكن أن يؤذيها، ولا شيءَ يمكن أن يؤثِّر فيها. لم تكن تعتقد أن وين كانت لديه أي نوايا حسنة، ومع ذلك كانت تمضي وقتًا طيبًا؛ كلُّ ما كان ينتابها من شعور بالحيرة والارتباك عندما تكون برفقةِ بيلي انطمس. شعرت برغبة في الضحك على كل شيء يقوله وين، أو تقوله هي؛ شعرت بالطمأنينة.

قالت: «هذا منزل مسلٍّ.»

قال وين: «ما الغريب به؟ فقط ما الغريب بهذا المنزل؟ أنتِ الشخص الغريب.»

نظرت ريا إلى رأسه الأسود المتأرجح وضحكت؛ لأنه ذكَّرَها بكلبٍ رأَتْه قبل ذلك. كان شخصًا ذكيًّا لكنه اتَّسَمَ بشيءٍ من العناد الأقرب إلى الحماقة. ظهر عناد مشابِه لعناد ذلك الكلب، وكذلك شيء من الأسى في الطريقة التي أخذ يصدم بها وين رأسَه بركبتها الآن، ثم في هزِّها إلى الخلف ليزيح الشعر الأسود بعيدًا عن عينَيْه.

شرحت له — مع كثيرٍ من المقاطعات ضحكت خلالها من إمكانية الشرح نفسها — أن الغريب بهذا المنزل هو الستار المعدني في زاوية الحجرة. قالت إنها تظن أن هناك مصعدًا خلفه يصعد من القبو وإليه.

قال وين: «بمقدورنا الجثوم فوق الحافة. أترغبين في تجربة ذلك؟ بإمكاننا أن نطلب من بيلي إرخاء الحبل.»

نظرتْ مرةً أخرى إلى قميص بيلي الأبيض. بحسب اعتقادها، لم يستدِرْ بيلي للنظر إليها منذ أن جلس. جلس وين أمامَها مباشَرةً الآن، بحيث إذا استدار بيلي لا يتمكَّن من رؤية حذائها وقد خلعته ليتدلَّى من أحد أصابعها، بينما ينقر وين بأصابعه فوق باطن قدمها. قالت إنها تحتاج إلى الذهاب إلى المرحاض أولًا.

قال وين: «سأرافقكِ.»

أمسك بساقَيْها كي يساعد نفسَه على الوقوف، قالت ريا: «أنت ثَمِل.»

«لستُ أنا الثَّمِلَ وحدي.»

كان الحمَّام بمنزل مانك يقع في نهاية الردهة الخلفية. امتلأ حوض الاستحمام بصناديق الجِعة؛ لا لتبريدها، بل لتخزينها فقط. كان صندوق الطرد يعمل على نحوٍ جيد، خشيت ريا أن يكون معطَّلًا؛ فقد بَدَا أنه كان كذلك مع الشخص الأخير الذي كان بالحمام.

نظرتْ إلى وجهها بالمرآة التي تعلو الحوض وتحدَّثت إلى نفسها في تهوُّر واستحسان، قالت: «دَعِيه يفعل. دَعِيه يفعل.» أطفأتْ نورَ الحمام وخطَتْ نحو الردهة المظلمة. أمسكتْ بها أيدٍ على الفور، ووجَّهَتْها ودفعتها خارج الباب الخلفي، وعند جدار المنزل، أخذت هي ووين يتدافعان، ويمسك أحدهما الآخَر، ويُقبِّل أحدهما الآخَر. أحسَّتْ نفسها في ذلك الوقت أنها تُبسَط وتُطوَى، وتُبسَط وتُطوَى كآلة الأكورديون. شعرتْ أنها تتلقَّى تحذيرًا ما أيضًا؛ شيئًا بعيدًا لا علاقةَ له بما تفعله هي ووين، شيئًا يندفع وينخر، داخلَها أو خارجَها، محاولًا لفت الانتباه إليه.

كان كلب آل مانك قد حضرَ وأخذ يحكُّ أنفه بينهما. عرف وين اسمه.

صاحَ به: «انزل يا روري! انزل يا روري!» بينما كان يجتذب بطانة ثوب ريا.

جاءَ التحذيرُ من معدتها، التي ضُغِطت بقوةٍ بالجدار. فُتِحَ البابُ الخلفي، وتفوَّه وين بشيءٍ ما بوضوحٍ في أذنَيْها — لم تعرف قطُّ أيٌّ من هذا حدث أولًا — وفجأةً تحرَّرَتْ من قبضته وبدأت في التقيُّؤ. لم تكن تنوي التقيؤ حتى شرعت في ذلك، ثم جثمت على يدَيْها وركبتَيْها وتقيَّأت حتى شعرت بمعدتها تُعتصَر كقطعة قماش عَفِنة مهترئة. عندما انتهت، أخذت ترتعد كما لو أنها أُصِيبت بحمَّى، وابتلَّ ثوبها والبطانة حيث تناثَرَ القيء.

جذبها شخص آخَر — ليس وين — لأعلى ومسحَ وجهها بحافة الثوب.

قالت السيدة مانك: «اغلقي فمك وتنفَّسِي من أنفك.» ثم قالت لوين أو لروري: «اخرجا من هنا.» أعطتهما جميعًا الأوامر بنبرة الصوت نفسها؛ نبرة تخلو من تعاطُفٍ أو لوم. جَذبتِ السيدةُ مانك ريا من المنزل إلى شاحنة زوجها، ورفعتها جزئيًّا داخلها.

قالت ريا: «بيلي.»

فأجابتها السيدة مانك: «سأخبرُ صديقك بيلي، سأخبره بأنكِ شعرتِ بالتعب. لا تحاولي التحدُّث.»

قالت ريا: «لقد انتهيتُ من التقيُّؤ.»

قالت السيدة مانك: «لا يمكن التأكُّد من ذلك.» ورجعت بالشاحنة إلى الطريق. قادت الشاحنة بريا إلى أعلى التل، ثم إلى فناء منزلها دون أن تنطق بكلمةٍ أخرى. عندما استدارت بالشاحنة وتوقَّفت، قالت: «انتبهي عند الخروج؛ فالشاحنة أعلى من السيارة.»

دفعت ريا بنفسها إلى داخل المنزل، ودخلت إلى الحمَّام دون أن تغلق الباب، وخلعت حذاءها في المطبخ، ثم صعدت الدَّرَج. خلعت ثوبها والبطانة، ودفعت بهما بعيدًا أسفل السرير.

•••

استيقظ والِد ريا مبكرًا لجمع البيض والاستعداد للذهاب إلى هاميلتون، كما يفعل يوم الأحد كلَّ أسبوعين. ذهبَ الأولادُ معه؛ استطاعوا أن يركبوا على ظهر الشاحنة. لم تذهب ريا؛ لأنه لم يكن يوجد لها متَّسَع في المقعد الأمامي. أقَلَّ أبوها معه السيدةَ كوري، التي كان زوجها يرقد بالمستشفى نفسه الذي ترقد به والدة ريا. عندما كان يصطحب السيدة كوري معه، دائمًا ما كان يرتدي قميصًا ورابطةَ عنق؛ لأنه من الممكن أن يمروا بمطعمٍ في طريق عودتهم إلى المنزل.

اتجه إلى غرفة ريا وطرَقَ الباب كي يخبرها بخروجهم قائلًا: «إنْ شعرتِ بالملل، يمكنكِ تنظيف البيض الموجود فوق الطاولة.»

سار إلى مقدمة الدَّرَج ثم عاد. صاح عند بابها: «احتسي المزيد والمزيد من الماء.»

أرادتْ ريا أن تصرخ في وجههم جميعًا كي يخرجوا من المنزل. كانت لديها أشياء تودُّ تدبُّرها؛ أشياءَ داخل رأسها لا تستطيع إطلاق العنان لها نظرًا لما تمثِّله حقيقةُ وجودِ أشخاصٍ بالمنزل من ضغطٍ عليها. وهذا ما كان يسبِّب لها الشعور بمثل هذا الصداع. بعد أن سمعتْ صوت الشاحنة يخبو على امتداد الطريق، نهضتْ من فراشها بحذرٍ، ونزلت الدَّرَج بحرص، وابتلعتْ ثلاثة أقراص من الأسبرين، واحتستْ أكبرَ قدرٍ مستطاع من الماء، ثم عايرت القهوةَ داخلَ الإبريق دون أن تنظر إلى الأسفل.

كان البيضُ فوق الطاولة في سلالٍ سِعَتُها ستة أرباع جالون. كان البيضُ ملطَّخًا بفضلات الدجاج وثمة أجزاءٌ من القشِّ عالقة به، في انتظار أن يُنظَّف بأليافٍ سلكية.

أيُّ أشياء؟ الكلمات في المقام الأول؛ الكلمات التي أخبرها وين بها في اللحظة التي خرجت بها السيدة مانك من الباب الخلفي.

«كنتُ لَأَوَدُّ ممارسةَ الجنس معكِ لو لم تكوني دميمةً هكذا.»

ارتدتْ ثيابها، وعندما أضحت القهوة جاهزةً، سكبتْ فنجانًا وخرجت من المنزل إلى الشرفة الجانبية، التي كانت غارقةً في ظلِّ الصباح العميق. بدأ مفعول الأقراص يعمل، وبدلًا من شعورها بالصداع شعرت بمساحةٍ في رأسها؛ مساحةٍ واضحة غير مستقرة محاطة بأصواتٍ خافتة.

لم تكن دميمةً. عرفت أنها لم تكن دميمة. كيف للمرءِ أن يَثِقَ في أنه ليس دميمًا؟

لكن إنْ كانت دميمة، فهل كان سيواعِدها بيلي دُودْ في المقام الأول؟ تباهَى بيلي دُودْ بدماثة خلقه، لكن وين كان ثَمِلًا للغاية حين قال ذلك، والمخمورون يقولون الصِّدْق.

من حُسْن الحظ أنها لم تذهب لزيارة أمها ذلك اليوم؛ فإذا نجحت أمها في استدراج ريا لمعرفة ما بها — ولم تكن ريا لتتأكَّد أبدًا من أنها لن تُستدرَج — فسترغب والدتها إذن في إنزال العقاب بوين. من الممكن أن تتصل بوالِد وين؛ القَس. كانت ستزعجها عبارة «ممارسة الجنس» أكثر من إزعاج كلمة «دميمة». لن تفهم بيت القصيد.

ستكون ردَّةُ فعل والِد ريا أكثر تعقيدًا؛ فسيلوم بيلي على اصطحاب ابنته إلى مكانٍ مثل منزل آل مانك، الذين هم أصدقاء بيلي بدرجةٍ ما أو بأخرى. ستغضبه عبارة «ممارسة الجنس»، لكنه سيشعر بالخزي من ريا حقًّا؛ سيشعر بالخزي منها إلى الأبد؛ لأنَّ رجلًا دعاها بالدميمة.

يجب ألَّا يسمح المرءُ لوالدَيْه بالاقتراب من مواقف الإذلال الحقيقية له مطلقًا.

علمتْ أنها ليست دميمة. كيف يتسنَّى لها التأكُّد من أنها ليست دميمة؟

لم تفكِّر في بيلي أو وين، أو ما قد يعنيه هذا بينهما. لم تكن مَعنِيَّة بالتفكير في الآخرين حتى هذه اللحظة، بل فكَّرت بالفعل في أن وين عندما تفوَّهَ بتلك الكلمات استخدَمَ نبرةَ صوته الحقيقية.

لم ترغب في العودة إلى داخل المنزل حتى لا تضطر إلى النظر إلى سلالٍ ممتلئة ببيضٍ قَذِر. بدأت في السير في ممرِّ المنزل، تجفل في ضوء الشمس، تنكس رأسها بين بقعة ظلٍّ وأخرى. كانت كلُّ شجرة مختلفة هناك، وكل واحدة منها كانت مَعْلَمًا بارزًا عندما اعتادت سؤال أمها عن المسافة التي ستقطعها لملاقاة أبيها، عند مجيئه إلى المنزل عائدًا من البلدة، حتى شجرة الزعرور البري، فكانت أمها تخبرها بأنها ستقطع المسافة إلى شجرة الزان أو شجرة القيقب. كان أبوها يتوقَّف ويسمح لها بالصعود فوق المِرقاة.

سمعت ريا صوت بوق سيارة على الطريق؛ أهو شخصٌ يعرفها، أم فقط رجلٌ يمرُّ بسيارته؟ أرادت التواري عن الأنظار؛ لذا عبرتِ الحقل الذي التقَطَ منه الدجاجُ ما به من حبوب وأصبح زلقًا من جرَّاء فضلاتها. عند إحدى الأشجار بالجانب البعيد من الحقل، بنى أشقاؤها بيتًا على الشجرة؛ كان عبارة عن منصة ليس إلا، بألواح خشبية مثبَّتة بمسامير بجذع الشجرة لتسلُّقها. صعدت ريا فوق الألواح الخشبية حيث تسلَّقت إلى أعلى الشجرة وجلست فوق المنصة الخشبية. وجدَتْ أن أشقاءها صنعوا نوافذَ في الأغصان المورقة، بغرض التجسُّس. تمكَّنَتْ من رؤية الطريق بالأسفل، ورأت في الحال بضعَ سيارات تَقِلُّ أطفالَ الريف إلى البلدة لحضور مدرسة الأحد باكرًا بالكنيسة المعمدانية. لم يتمكَّن الأشخاص بالسيارات من رؤيتها. لن يتمكن بيلي أو وين من رؤيتها، إذا حضرَا دون موعدٍ للبحث عنها بتفسيراتٍ أو اتهاماتٍ أو اعتذاراتٍ.

في اتجاهٍ آخر، استطاعت رؤية وميض النهر وجزءٍ من أرض المعارض القديمة. كذلك كان من اليسير تبيُّن مسار مضمار السباق، بين الحشائش الطويلة، من هنا.

رأتْ شخصًا يسير على قدميه، يتتبَّع مضمار السباق. كانت يوني مورجان، وكانت ترتدي منامة. سارت بمحاذاة مضمار السباق، مرتدية منامةً فاتحة اللون، ربما لونها وردي فاتح، في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحًا. تتبعت المضمار حتى انحرافه، وذهبتْ إلى حيث كان مسار ضفة النهر، وتوارتْ بين الأدغال.

يوني مورجان بشعرها الأبيض الأشعث، شعرُها ومنامتُها تنعكس عليهما أشعةُ الشمس، كملاكٍ له ريش، لكنها كانت تسير بطريقتها المعتادة الخرقاء والواثقة؛ إذ كان رأسها مندفعًا إلى الأمام، وذراعاها يتأرجحان بحرية. لم تدرِ ريا ما يمكن أن تفعله يوني هناك، لم تدرِ أيَّ شيءٍ حول اختفاء يوني. بدتْ رؤيةُ يوني غريبة وطبيعية لها على حدٍّ سواء.

تذكرتْ كيف أنها في أيام الصيف الحارة اعتادت النظر إلى شعر يوني على أنه يشبه كرة ثلج، أو كخيوط ثلجٍ مدَّخَرة من فصل الشتاء، وكانت تودُّ أن تغرس وجهها به؛ كي يبرد جسدها.

تذكَّرَتِ الثوم والحشائش الساخنة وإحساس الفزع، عندما كانتا تتحوَّلان إلى توم وتوم.

•••

عادت إلى المنزل واتصلت بوين؛ ركنت إلى أنه في المنزل وبقية أفراد عائلته في الكنيسة.

قالت: «أودُّ سؤالك في أمرٍ ما وليس على الهاتف. ذهبَ أبي وأشقائي إلى هاميلتون.»

عندما وصل وين إلى هناك، كانت بالشرفة تنظِّف البيض، قالت: «أودُّ أن أعرف ما كنتَ تقصده؟»

قال وين: «بماذا؟»

نظرتْ ريا إليه واستمرت في التحديق وهي تحمل بيضة في يدٍ، وقطعة من السلك المعدني في اليد الأخرى. وضعَ وين قدمًا واحدةً فوق الدَّرَجة الأولى من السُّلَّم، ويده فوق الحاجز. أراد الصعود للهروب من أشعة الشمس، لكنها أعاقتْ طريقَه.

قال وين: «كنتُ ثَمِلًا، لستِ دميمةً.»

قالت ريا: «أعلم أنني لستُ دميمةً.»

«أشعرُ بالاستياء الشديد.»

«ليس من أجل ذلك.»

«كنتُ مخمورًا، وكانت مزحة.»

قالت ريا: «أنت لا ترغب في الزواج منها؛ أعني لوسيل.»

اتكأ فوق حاجز السلم. ظنَّت ريا أنه ربما يشعر بالإعياء، لكنه تجلَّدَ وتصنَّعَ رفع حاجبَيْه وابتسامته المحبِطة.

«حقًّا؟ بربكِ؟ إذن بماذا تنصحينني؟»

ردَّتْ ريا كما لو أنه سألها بجديةٍ تامة: «اكتُبْ رسالة، استقِلَّ سيارتك واتجه إلى كالجاري.»

«ببساطة هكذا.»

«إنْ شئتَ، فسأركبُ معكَ إلى تورونتو. بإمكانك توصيلي، وسأمكثُ في جمعية الشبان المسيحيين حتى أعثر على وظيفة.»

هذا ما عزمتْ على فعله، لطالما أقسمتْ أن هذا ما عزمت على فعله. شعرتْ برغبةٍ أكبر في الحرية الآن، وشعرتْ بدهشةٍ من نفسها أكثر ممَّا شعرت به في الليلة الماضية عندما كانت ثَمِلة. ذكرتْ هذه الاقتراحات كما لو أنها أيسر الأشياء في هذا العالم. سيستغرق الأمر أيامًا — ربما أسابيع — حتى تدرك الأمر برمته؛ كل ما قالته وفعلته.

قال وين: «هل نظرتِ إلى خريطةٍ من قبلُ؟ نحن لا نمرُّ بتورونتو في طريقنا إلى كالجاري. علينا عبور الحدود عند سارنيا، ثم الاتجاه شمالًا عبر الولايات إلى وينيبيج، ثم إلى كالجاري.»

«إذن سأنزل في وينيبيج. هذا أفضل.»

قال وين: «سؤالٌ واحد؛ هل خضعتِ مؤخرًا لاختبار السلامة العقلية؟»

لم تهتز ريا أو تبتسم، قالت: «كلَّا.»

•••

كانت يوني في طريقها إلى المنزل عندما رأتها ريا. اندهشَتْ يوني عندما وجدتْ مسارَ ضفة النهر ليس خاليًا، كما كانت تتوقَّع، بل نما به نبات العليق. عندما اندفعَتْ نحو فناء منزلها، كان على ذراعَيْها وجبهتها خدوشٌ وآثارُ دماء، وكان فتات أوراق الشجر بشعرها. كان جانبًا من وجهها متَّسِخًا؛ نتيجةً لدفعه بالأرض.

وجدَتْ بالمطبخ أمها وأباها وعمَّتها موريل مارتن، ونورمان كومز؛ قائد الشرطة، وبيلي دُودْ. بعد أن اتصلت أمها بالعمَّة موريل، تحرَّكَ أبوها وقال إنه سيتصل بالسيد دُودْ؛ فقد عمل في مصنع آل دُودْ في صِغَره، ويذكر كيف أن السيد دُودْ؛ والِد بيلي، كان يُستدعَى دومًا في حالات الطوارئ.

قالت والِدة يوني: «لقد مات. ماذا إذا ردَّتْ هي على الهاتف؟» (كانت تقصد السيدة دُودْ، التي كانت سريعةَ الغضب.) لكن والِد يوني اتصل على أية حال وأجابه بيلي دُودْ. لم يكن بيلي قد أوى إلى فراشه بعدُ.

اتصلت العمَّة موريل مارتن، عندما وصلت إلى هناك، بقائد الشرطة. قال إنه سيأتي إليهم بمجرد أن يرتدي ملابسه ويتناول إفطاره؛ استغرَقَ ذلك منه وقتًا طويلًا. مقتَ أيَّ شيء يثير الحيرة أو الإزعاج؛ أيَّ شيء ربما يُجبِره على اتخاذ قراراتٍ قد تُنتقَد فيما بعدُ، أو ينتج عنها أن يبدو كالحمقى. من بين جميع الأشخاص المنتظرين في المطبخ، ربما كان قائدُ الشرطة الأسعدَ بينهم لدى رؤية يوني عائدة إلى المنزل سالمةً، والأسعدَ بسماع قصتها. كان الأمر خارج نطاق اختصاصه تمامًا؛ فليس ثمة شيء لتتبُّعه، أو شخص لإدانته.

قالت يوني إن ثلاثة أطفال جاءوا إليها، في فناء منزلها، في منتصف الليل؛ قالوا إن ثمة شيئًا يرغبون في عرضه عليها. سألتهم عمَّا يكون وماذا يفعلون هناك في ساعةٍ متأخرة من الليل. لا تذكر ما أجابوها به.

وجدت نفسها مصحوبةً إلى هناك، دون أن تقول حتى إنها ستذهب معهم. أخرجوها من المنزل من الفجوة الموجودة بالسياج في زاوية الفناء ومضوا بمحاذاة مسار ضفة النهر. غلبتها الدهشة لدى رؤية المسار خاليًا على نحوٍ رائع؛ إذ لم تسلك ذلك المسار منذ أعوام.

اصطحبها صبيَّانِ وفتاة، بدت أعمارهم تتراوح بين العاشرة والحادية عشرة، وارتدوا جميعًا الزيَّ نفسه؛ زيًّا واقيًا من الشمس مصنوعًا من قماش قطني مخطَّط، وسترة عند الصدر، وأحزمة حول الكتف. كانت الثياب جميعها جديدة ونظيفة كما لو أنها كُوِيت توًّا، وكان شعرهم بُنيًّا فاتحًا ومستقيمًا ولامعًا. كان ثلاثتهم أكثر الأطفال نظافةً وتهذيبًا وجمالًا للغاية. لكن كيف تسنَّى لها معرفة لون شعرهم، وأن ثيابهم كانت مصنوعة من القماش القطني المخطَّط؟ فعندما خرجت من المنزل، لم تأخذ معها المصباح؛ لا بد أنهم جلبوا معهم شيئًا من قبيل الضوء. هذا ما ترسَّخَ لديها من انطباع، لكنها لم تستطع تحديد مصدر ذلك.

أخذوها على امتداد مسار النهر، ومنه إلى أرض المعارض القديمة، ثم أخذوها إلى خيمتهم، لكن بَدَا لها أنها لم تَرَ قطُّ تلك الخيمة من الخارج؛ فقد أصبحت فجأةً داخلها، ورأت أنها خيمة بيضاء، مرتفعة للغاية، وتهتز كشراع سفينة، وكذلك كانت مضاءة. ومجدَّدًا لم تعرف من أين أتى ذلك الضوء. بدا جزءٌ معين من هذه الخيمة أو البناية، أو أيًّا كانت، مصنوعًا من الزجاج. فعلًا! زجاج أخضر فاتح للغاية، كما لو أن ألواحًا منه انزلقت بين الشراع. ربما كانت الأرض زجاجيةً أيضًا؛ لأنها سارت بقدم عارية فوق شيءٍ بارد وأملس، ليس عُشبيًّا على الإطلاق، وبالتأكيد غير مفروش بالحصى.

فيما بعدُ، ظهرَ بالصُّحف رسمٌ، أو فكرة فنان، عن شيءٍ يشبه سفينة شراعية داخل صحن طائر، لكنْ لِمَ تدعوه يوني بالصحن الطائر، أو على الأقل عندما تحدَّثت عن الأمر بعدما حدث مباشَرةً. كذلك لم تذكر أيَّ شيء حول ما نُشِرَ فيما بعدُ، في كتابٍ عن مثل هذه القصص، فيما يتعلَّق بأَسْرِ جسدها وفحصه، وأخذ عينة من دمائها والسوائل بجسدها، واحتمال أن بويضة سرية أُخِذت منها وأُرسِلت بعيدًا، وقد تم تلقيحها في مكانٍ خارج الأرض، وأنه حدث تزاوُج دقيق أو مفاجئ، يتعذَّر وصفه على أية حال، أدَّى إلى وضع جينات يوني داخل مجرى الحياة الخاص بالغُزَاة.

أجلسوها فوق مقعدٍ لم تتبيَّنْه؛ لم تستطع تحديد ما إذا كان كرسيًّا عاديًّا أم عرشًا ملكيًّا، وبدأ أولئك الأطفال في نسج غطاءٍ حولها. كان يشبه الناموسية أو شيئًا من هذا القبيل؛ رقيقًا لكن قويًّا. استمرَّ ثلاثتهم في الحركة، يلفون ذلك الشيء أو ينسجونه حولها دون أن يصطدم بعضهم ببعض قطُّ. في ذلك الوقت كانت قد تجاوزت مرحلة طرح الأسئلة؛ أسئلة من قبيل: «ماذا تخالون أنكم فاعلون؟» و«كيف وصلتم إلى هنا؟» و«أين الكبار؟» تسلَّلت بعيدًا إلى مكانٍ لا تستطيع وصفه. ربما أخذت تغني أو تدندن، في رأسها، بشيءٍ يهدِّئ من روعها ويبعث على السرور، ولا بد أن كل شيء بَدَا طبيعيًّا تمامًا بحيث لا ترغب في الاستفسار عن أي شيء؛ كأنْ تقول: «ماذا يفعل إبريق الشاي هذا هنا؟» في مطبخ عادي.

عندما استيقظتْ لم تجدْ شيئًا حولها، ولا شيءَ فوقها. كانت ترقد في أشعة الشمس الحارة، في ساعة مبكرة من الصباح، فوق أرض المعارض الصلبة.

•••

قال بيلي دُودْ عدة مرات: «رائع.» فيما كان يراقِب يوني ويستمع إليها. لم يعلم أحدٌ ماذا يقصد تحديدًا بذلك. انبعثتْ منه رائحةُ الجِعة، لكنه بَدَا واعيًا ومنتبهًا للغاية، بل أكثر من منتبهٍ، ربما كان مفتونًا. على ما يبدو أن رُؤَى يوني الرائعة، ووجها المتَّسخ المتورد، ونبرة صوتها المتعجرفة قليلًا، منحت بيلي دُودْ منتهى البهجة. ربما كان يردِّد في نفسه: يا لها من راحة! يا له من فضلٍ أن يجد في العالَم وبالقرب منه هذا المخلوق الهادئ والغريب! «رائع!»

من الممكن أن ينبثق الحبُّ — أو قُلْ نمط الحب الذي يفضِّله بيلي — لتلبية احتياجٍ لا تدري يوني أنه لديها.

قالت العمَّة موريل إنه حان وقت الاتصال بالصُّحف.

قالت والِدة يوني: «ألن يكون بيل بروكتور في الكنيسة؟»

قالت العمَّة موريل: «يمكن أن ينتظر بيل بروكتور. أنا أتصل بصحيفة «فري بريس» اللندنية!»

اتصلت العمَّة موريل بالصحيفة، لكنها لم تتمكَّن من التحدُّث إلى الشخص المناسب، بل تحدَّثت إلى الحارس؛ ربما لأنه كان يوم الأحد. قالت: «سيندمون! سأتجاوزهم وأتحدَّث مع صحيفة تورونتو «ستار» مباشَرةً!»

تولَّتِ العمَّة موريل أمرَ القصة؛ سمحت لها يوني بذلك. بَدَتْ يوني راضية. عندما انتهت من إخبارهم بالقصة، جلست يعلو وجهها تعبيرُ رضًا غير مبالٍ. لم يتبادر إلى ذهنها أن تطلب من أي أحد أن يتولَّى أمرها، ويحاول حمايتها، ويُوليها الاحترام والحنان خلال ما ينتظرها أيًّا كان، لكن بيلي دُودْ كان قد قرَّرَ بالفعل أن يفعل ذلك.

•••

حظيت يوني ببعض الشهرة لبرهة من الوقت. حضرَ الصحفيون، وحضرَ كذلك كاتِبٌ، والتقط مصوِّر فوتوغرافي صورًا لأرض المعارض، ولا سيَّما مضمار السباق، الذي كان من المفترض أنه الأثر الذي خلفته السفينة الفضائية. كذلك التُقِطتْ صورةٌ للمدرج المسقوف، وقِيلَ إنه هُدِم أثناء هبوط السفينة الفضائية.

وصل الاهتمام بهذا النمط من القصص ذروته منذ سنواتٍ مضت، ثم تضاءل شيئًا فشيئًا.

قال والِد ريا، في خطابٍ أرسله إلى كالجاري: «مَنْ يدري ما حدث بالفعل؟ لكن الشيء الأكيد هو أن يوني مورجان لم تَجْنِ سنتًا واحدًا من هذه القصة.»

كان يكتب خطابًا إلى ريا. ما لبث أن وصل وين وريا إلى كالجاري حتى تزوَّجَا. كان يتعيَّن عليهما أن يكونا متزوِّجَيْن حينئذٍ حتى يحصلا على شقةٍ معًا — في كالجاري على الأقل — وقد اكتشفا أنهما لا يرغبان في العيش بعيدًا أحدهما عن الآخَر. سادَ هذا الشعور بينهما معظم الوقت، على الرغم من أنهما تناقَشَا في هذا الأمر — العيش منفصلين — أحيانًا، وهدَّد به أحدُهما الآخَر وحاولَا تطبيقه بضع مرات وجيزة.

ترك وين العمل بالصحيفة واتجه إلى العمل في التليفزيون. ربما ظهر على مدى سنواتٍ في نشرة الأخبار المسائية، وأحيانًا تحت الأمطار أو الثلوج في بارليامنت هيل يُذيع شائعةً أو معلومةً ما. سافَرَ فيما بعدُ إلى مدن أجنبية وفعل الأمرَ نفسه هناك، وبعد ذلك أضحى من الأشخاص الذين يجلسون بالمنزل ويناقشون ما تحمله الأخبار من دلالات، ومَنْ لا يسردون سوى الأكاذيب.

(أضحت يوني مولعة بالتليفزيون، لكنها لم تَرَ وين قطُّ؛ وذلك لأنها كرهت أن يتكلَّم الناس لمجرد الكلام فحسب، ودائمًا كانت تنتقل على الفور إلى قناةٍ بها حدثٌ جارٍ.)

•••

لدى عودة ريا إلى كارستيرز في زيارة وجيزة، وأثناء تجوُّلها في المقابر لتعرف الأشخاص الذين انتقلوا إلى هناك منذ معاينتها الأخيرة، تبيَّنَتِ اسمَ لوسيل فلاج فوق شاهد قبر، لكن لا بأس، لم تمتْ لوسيل؛ كان قبر زوجها، وحفرتْ لوسيل اسمَها وتاريخَ ميلادها فوق الشاهد بجانب اسمه، مقدمًا. يفعل الكثير من الناس الأمر نفسه؛ وذلك لأن تكلفة النحت على الأحجار في ازديادٍ مستمر.

تذكَّرَتْ ريا قصةَ القبعات وأكاليل الزهور، وشعرت بحنانٍ تجاه لوسيل لا يمكن أن تبادِلَها إياه أبدًا.

في ذلك الوقت، كانت ريا ووين قد عاشا معًا لما يزيد كثيرًا على نصف عمرهما. أنجبا ثلاثة من الأبناء، وخلال هذه الفترة دخل كلٌّ منهما في علاقاتٍ عاطفية كثيرة. الآن، وعلى نحو مفاجئ ومباغت، تقلَّصت جميع تلك الاضطرابات والنجاحات والتطلُّع المرتاب النابض بالحياة، وأدركت ريا أنهما بدآ يتقدَّمان في العمر. وقفت بين المقابر هناك وقالت بصوت عالٍ: «لا أستطيعُ الاعتيادَ على الأمر.»

ذهبا في زيارةٍ إلى آل دُودْ، وهم أصدقاء لهما، بطريقةٍ أو بأخرى، واتجه الزوجان إلى المكان الذي أُقِيمت فيه المعارض بالماضي.

ردَّدَتْ ريا الشيء نفسه هناك.

اختفت جميع المنازل التي كانت عند النهر؛ منزل آل مورجان، ومنزل آل مانك، اختفت جميع معالم تلك المستعمرة الأولى التي أُسِيئ التخطيط لها؛ فقد أضحتِ الأرض الآن سهلًا تغمره مياه الفيضان ويتبع هيئة بيرجراين للملاحة النهرية. لم يَعُدْ من الممكن بناء شيء هناك. متنزه فسيح، ضفة نهر مشذَّبة وحضارية، لم يَعُدْ ثمة شيء سوى بضع أشجار عتيقة تقف في المكان، لا تزال أوراقها خضراء، لكنها مثقلة بنداوة ذهبية اللون متناثِرة يحملها الهواء، في عصر ذلك اليوم من شهر سبتمبر في عامٍ على فترة غير بعيدة عن نهاية القرن.

قالت ريا: «لا أستطيعُ الاعتيادَ على الأمر.»

اشتعلت رءوسهم بالشيب الآن؛ الأصدقاء الأربعة جميعهم. كانت ريا امرأة نحيفة مندفعة، أفادَتْها أساليبُها المفعمة بالحياة والمتملِّقة في تدريس الإنجليزية كلغةٍ ثانية. أما وين، فكان نحيفًا أيضًا، وله لحية بيضاء جميلة، ودمث الخُلُق. عندما لا يظهر بالتليفزيون، ربما يذكِّرك براهبٍ من التبت، وأمام الكاميرا يتحوَّل إلى شخصٍ ساخرٍ، وقاسٍ أيضًا.

أما بيلي دُودْ وزوجته فكانا ضخمَي البنية، يتمتعان بمظهرٍ وقور وشبابي، وتكسو جسدَهما طبقةٌ من شحم صحي.

ابتسَمَ بيلي دُودْ لدى رؤية حماسة ريا، وتطلَّع حوله في نظرة استحسانٍ شاردة.

قال: «الزمن يمضي.»

ربَّتَ على ظهر زوجته العريض، في استجابةٍ لهمهمةٍ خافتة لم يسمعها الآخَرون. أخبَرَها أنهما سيعودان إلى المنزل على الفور؛ فهي لن تفوِّت مشاهدة البرنامج الذي تتابعه ظهيرةَ كلِّ يوم.

•••

كان والِد ريا مُحِقًّا فيما يتعلَّق بعدم كسب يوني أيَّ مال من تجاربها، وكان محقًّا أيضًا فيما تنبَّأ به بشأن بيلي دُودْ؛ فبعد وفاة والِدة بيلي، تضاعَفَتِ المشكلات وباع بيلي دُودْ كلَّ ما يملك، وأفلسَ الأشخاصُ الذين اشتروا المصنع منه بدورهم وأغلقَ المصنعُ أبوابَه. لم تَعُدْ تُصنَّع آلات بيانو في كارستيرز. ذهبَ بيلي إلى تورونتو وحصل على وظيفةٍ، قال والِد ريا إنها ذات صلةٍ بمصابي الفصام أو مدمني المخدرات أو المسيحية.

في واقع الأمر، عمل بيلي في دُور إعادة التأهيل ودور السكن الجماعي، وعلم وين وريا بذلك. حافَظَ بيلي على صداقته بهما، وكذلك حافَظَ على علاقة صداقة خاصة بيوني؛ فقد وظَّفَها لديه للاعتناء بشقيقته التي تُدعَى «بي» عندما بدأت في معاقرة الخمر كثيرًا؛ ممَّا جعلها غير قادرة على الاعتناء بنفسها (لم يَعُدْ بيلي يحتسي الخمر على الإطلاق).

عندما ماتت بي، ورثَ بيلي المنزل وحوَّله إلى دارٍ لرعاية كبار السن وذوي الإعاقة ممَّنْ لم يبلغوا من العمر أرذله، أو ممَّنْ يعانون من إعاقةٍ بالغةٍ تضطرهم إلى ملازَمة الفراش. كان غرضه أن يحوِّله إلى مكان يستطيعون التزوُّد فيه بالراحة والحنان، والقليل من المتعة والترفيه. عاد إلى كارستيرز واستقرَّ هناك لإدارة المكان.

عرضَ بيلي الزواجَ على يوني مورجان.

قالت: «أتمنَّى ألَّا يعطِّل زواجَنا شيءٌ؛ أي شيء.»

قال بيلي: «أوه، عزيزتي! أوه، عزيزتي! عزيزتي يوني!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤