الفصل الرابع
يبدو أن الجرَّاح الميجور طومسون قد نسي موعده لفحص عينات أسرة المعسكرات؛ لأنه، بعد دقائق قليلة من تركه لجيرالدين وشقيقها، توقَّف به التاكسي أمام منزلٍ كئيب المظهر في أديلفي تيراس. ومن ثَم مرَّ عبر المدخل المفتوح، وصعد بسطتَي سُلم، وسحب مفتاحًا غريب الشكل إلى حدٍّ ما من جيبه وفتح بابًا أمامه. فوجد نفسه في قاعةٍ صغيرةٍ جدًّا، ليس هناك مخرجٌ منها إلا من خلال بابٍ آخر، فمر عبره ودخل إلى شقةٍ كبيرةٍ ولكن بسيطة المظهر. حيث وُضعت ثلاث خزائن كبيرة على طول أحد الجدران، وتناثرت أكوام من الصحف والخرائط على منضدة طويلة، كما وُضعت خريطة عتاد ضخمة للجبهتَيْن الفرنسية والبلجيكية على حامل. كان الساكن الوحيد في الشقة رجلًا يجلس أمام آلة كاتبة بمواجهة النافذة. فأدار رأسه ونهض عند دخول طومسون، وكان شابًّا قصيرًا إلى حدٍّ ما، يبدو عليه الذكاء، تعلو وجهَه بِضعُ ندوب نتيجةَ إصابته بالجدري، وله فمٌ صُلب وصارم، وعينان عميقتان ولامعتان.
«هل حدث شيء، يا أمبروز؟»
كان الردُّ المختصر: «برقية، يا سيدي.»
«هل هي من مكتب الحرب؟»
«لا يا سيدي، لقد جاءت مباشرة.»
هناك حاجة ماسةٌ إلى خمسين ألفَ سرير معسكر في حي لاجير. يرجى بذلُ قُصارى جهدكم من أجلنا، الأمر عاجل. مراتب مزدوجة إن أمكن. لندن.
لمدة نحو عشر دقائق انشغل طومسون بقلمه الرصاص وكتاب الشفرات. وعندما انتهى، درس بتمعُّنٍ البرقية التي فك شفرتها:
وصلت أنباء بخطط للهجوم على لاجير. أحبط الهجوم. نعتقد أن سميث في لندن.
سأل الشابُّ الجالس أمام الآلة الكاتبة: «هل هناك شيءٌ مهم يا سيدي؟»
أومأ طومسون برأسه لكنه لم يردَّ على الفور. إذ أتلف بعنايةٍ البرقية التي تلقاها أولًا، والورقة التي فكَّ عليها الشفرة، وراقب قِطع الورق تحترق إلى رماد. ثم أعاد كتاب الشفرات إلى الخِزانة، التي أغلقها بعناية، وتوجَّه نحو النافذة. ووقف عدةَ دقائق ينظر نحو نهر التيمز.
وأخيرًا قال: «لقد حدث الشيء نفسُه مرةً أخرى في لاجير.»
«هل هناك أي معلومة؟»
«كلا. يقولون إنه في لندن الآن.»
نظر الرجلان أحدُهما إلى الآخَر لحظةً في صمتٍ مطبق. ورجع أمبروز إلى الخلف في كرسيه وعبس بشدة.
«من خلال خطوطنا، ومن خلال بولونيا، وعبر القناة، ومن خلال محطة دوفر، ومن تشيرينج كروس، ومن خلال رجالنا وأفضل ما يمكن أن تقدمه سكوتلاند يارد لنا. في لندن، هذا أمرٌ عجيب أليس كذلك؟»
ارتجف وجه طومسون متشنجًا. وصكَّ على أسنانه.
وقال بصوتٍ أجش: «أنت لست بحاجةٍ إلى لعبِ دور مقر القيادة، يا أمبروز. أنا أعلم أن الأمر يبدو كأنه معجزة ولكنَّ هناك سببًا لذلك.»
سأل أمبروز: «ما هو؟»
تابع طومسون متأملًا: «بعد أسابيع قليلةٍ فقط من بدءِ الحرب، اثنان من الجنرالات الفَرنسيِّين، وأربعة أو خمسة كولونيلات، وأكثر من عشرين ضابطًا وضابط صف، حُوكموا عسكريًّا بتهمة التجسُّس. كان الفرنسيُّون حَذِرين من هذا النوع من الأشياء. بينما لم نفعل نحن. إن أحدًا من هؤلاء الرجال الذين يحكموننا اليوم، يا أمبروز، ما كان ليستمع إليَّ ولو لحظةً واحدة إذا تجرَّأتُ وقلت إن الخائن الذي نسعى إليه هو واحدٌ منا.»
غمغم أمبروز: «أنت محق، لكن هل تُصدق ذلك؟»
أجاب طومسون مؤكدًا: «أجل. إن الأمر ليس فقط هو حقيقة أن الهجمات نفسَها قد فشلت، بل إنه معرفة الجانب الآخر بالضبط بأفضلِ السبل لمواجهة تلك الهجمات. إنه المعرفة الدقيقة التي لديهم بشأن ترتيباتنا، والتغيير الأكثر سريةً ومفاجأةً للتكتيكات. لقد عانينا بما فيه الكفاية، يا أمبروز، في هذا البلد من الجواسيس المدنيين … والحكومة هي المسئولة عن ذلك. لكن هناك الكثير من الأشخاص الذين يُجعجعون، ويعلنون أنه يجب شنقُ اثنين من وزرائنا في مجلس الوزراء، والذين سوف يُناقضون أنفسهم ويُدافعون بحياتهم إذا ألمحت لحظةً أن الشيء نفسَه يُوجد بدرجةٍ أسوأَ بكثير بين رجالٍ ممن يرتدون الزيَّ الرسمي للملك.»
تمتم أمبروز: «إنه أمر قبيح، قبيح وملعون!»
تابع الميجور طومسون حديثه وهو يُفكر بتمعُّن: «انظر إليَّ، كل سرٍّ مرتبطٌ بخططنا الحاليَّة والمستقبلية يمرُّ عمَليًّا بين يدي، ومع ذلك لا أحد يُراقبني. وعندما تهمس بكلمة في مكتب الحرب أنه ربما يكون من الجيد — لمدة أسبوع فقط، على سبيل المثال — إجراء فحصٍ لبعض تقاريري، فإنهم يضحكون مما قلت ويظهرون بمظهر الكائنات المتفوقة الذين يستمعون إلى ثرثرةِ رجلٍ أحمق. ومع ذلك ما المستحيلُ في ذلك؟ قد يكون لديَّ رذيلةٌ سرية — مثل الجشع الشديد، ربما. إن ألمانيا ستُعطيني ثمن مملكة مقابل كلِّ ما أستطيع أن أخبرهم به. ومع ذلك لأنني ضابطٌ إنجليزي فأنا فوق مستوى الشبهات. وهذا تقديرٌ رائع، يا أمبروز، لكنه حماقة تستحقُّ اللعنة.»
راقب الشابُّ رئيسه عدةَ لحظات. حيث يقف طومسون أمام النافذة، بينما ضوء الربيع البارد يسقط على وجهه، ذي الخطوط العصبية والملامح الثابتة الحادة. وشعر بشعورٍ غريب من عدم التحمُّس للكلام، نوع من الرغبة في الانتظار لسماع المزيد.
ومن ثَم تابع طومسون: «عقَبة واحدة في عقلي، نقطة ضعف سرِّية، وربما حتى قدر ضئيل من الجنون، يحول دون أن أُصبح أهمَّ جاسوس في العالم. لقد كنت في برلين قبل ستة أسابيع، يا أمبروز. وهي معلومة لا يعرفها أحد مطلقًا. ولم أقدم أيَّ تقرير، عن قصد.»
اقترح أمبروز بهدوء: «ربما علموا ولم يقولوا شيئًا.»
ساد الصمت لحظةً. بدا أن طومسون يتأمل في الفكرة بتركيزٍ غريب. ثم هز رأسه.
وقال بحسم: «لا أعتقد ذلك. عندما يُكتب تاريخ هذه الحرب، يا أمبروز، بعباراتٍ رنَّانة وبلاغة وافرة، ستكون هناك فصولٌ غير مكتوبة، أكثر دراماتيكية، لها تأثير مباشر على النتيجة الأخيرة أكثر حتى من المعارك الكبرى التي بدَت أنها العوامل المهيمنة. اجلس بثباتٍ هنا، يا أمبروز، وانتظر. فقد أذهب إلى بولونيا في أي ساعة.»
أزاح طومسون جانبًا من الستائر المعلقة كان يُخفي غرفةً داخلية، ومر من خلالها. وبعد ربع ساعة ظهر مرة أخرى، مرتديًا الزيَّ العسكري. وقد تغيرت نبرته، ومشيته، وطريقتُه بالكامل. حيث مشى بخطوةٍ نشطة، وهو يحمل عصًا قصيرةً ويصفر بصوتٍ خفيض لنفسه.
وقال: «سأذهب إلى مكان أو مكانين في طريق توتنهام كورت، بالتحديد، لفحص بعضِ العينات الجديدة من أسرة المعسكرات. يمكنك إخبارُهم، إذا اتصلوا من وايتهول، أنني سأُقدم تقريرًا لاحقًا في المساء.»
من الغريب، أن الرجل الآخر قد تغيَّر أيضًا، كما لو كان متعاطفًا مع قائده في احترامٍ. إذ أصبح ببساطة السكرتير المطيع والمجتهد.
فقال بسلاسة: «حسنًا، يا سيدي. سأبذل قصارى جهدي لإنهاء المهامِّ المخصصة قبل أن تعود.»