تصدير

طُلب مني أن أقرأ كتاب وِرغِن أثناء إجازة كنت أقضيها في المكسيك. وقد أخذت المخطوطة لأقرأها أثناء رحلة بالحافلة تستغرق أربع ساعات من مكسيكو سيتي إلى موريليا، وهي بلدة في الجزء الشمالي من المكسيك. وفي مثل هذا الوقت، ما كنتُ أتوقَّع من القراءة عن كراسي الأقسام والتفكير فيها أن يكونا تلك الطريقة المغرية لتزجية الوقت. لكن ما أدهشني وأسرني هو أنَّ كتاب الأقسام الفاعلة: بناء ثقافات التميُّز وتعزيزها في البرامج الأكاديمية كان من تلك الكتب التي تدفعك لأن تلتهم صفحاتها. فهو ليس مجرَّد كتاب آخر عن القيادة القوية والجريئة والكارزمية. وذلك أمر حسن. فعلى الرغم من الإقرار بأهمية مثل هذه الخصال ورفعة قدرها، إلا أن الكتب التي تتناول مثل هذه القضايا الرفيعة المتعلقة بالشخصية غالبًا ما تخفق في تقديم تبصُّرات في الكيفية التي يمكن بها لأفراد ذوي نوايا حسنة وبعيدين عن البطولة الخارقة أن يشكِّلوا حافزًا لتحوُّلٍ مستديم.
وكتاب الأقسام الفاعلة كتاب فاعلٌ وبنَّاء. فكراسي الأقسام هي التي تتخذ القرارات المتعلقة بتفاصيل التعليم الجامعي وما بعده؛ من حيث برمجة المقررات، وإعطاؤها، ومراجعة البرامج، وتوفير الهيئة التعليمية المساعدة وإنهاء عملها، وتقويم أداء الهيئة التعليمية، والتعامل مع شكاوى الطلاب … إلخ. ويمكن النظر إلى هذه المسئوليات على أنها مهام ينبغي القيام بها، مهما تكن مزعجة ومنغِّصة. كما يمكن أن يُنظر إليها على أنها فرص لممارسة القيادة بحثًا عن التميُّز. وعلى سبيل المثال، فإنَّ من الممكن لكرسيٍّ في قسم أن يتعامل مع المراجعة التي تُطلب منه بعد تثبيته في منصبه على أنَّها إحدى القواعد الإضافية المفروضة من الخارج والتي يجد سبلًا للامتثال لها على نحوٍ ينأى بالواقع القائم عن أي خللٍ أو اضطراب. كما أنَّ من الممكن لهذا الكرسي أن يُقرر انتهاز هذه السياسة، مهما تكن غير موفَّقة، بوصفها فرصة لتناول قضايا أوسع تتعلق بالتدريس والبحث العلمي. والكراسي التي يستحوذ على تفكيرها الامتثال والقيام بما هو متوقع غالبًا ما تلجأ إلى استراتيجيات للقيادة مُكربة ومولدة للغم. وبالمقابل، فإنَّ كتاب وِرغِن يتناول كيفية تطوير الكراسي بحيث تغدو قيادات فاعلة وخلاقة يمكن لها أن تجترح فارقًا في نوعية أقسامها، على الرغم من قيود السلطة والقوة الرسمية الموروثة في مثل هذه الحالة.

تُشكل آراء وِرغِن في دور كرسي القسم والقيادة بديلًا طيبًا لتلك التصورات المعهودة التي تنظر إلى كرسي القسم على أنه ضرب من التطوع المدفوع بحسِّ الزمالة والإيثار، وإن يكن من غير حماس زائد، لتولي المرء دوره أو دورها في استلام هذا الكرسي. غير أنَّ القيادة السلبية المفتقرة إلى الخيال، وإن تكن تحفظ السلام، قد تكون بالغة الهشاشة والضعف في بيئة يغدو فيها التعليم العالي أشدَّ تنافسًا، وأبعد عن اليقين، وأنأى عن احتمال التنبؤ بمساره. والتميُّز ينمو ويزدهر في أوضاع دينامية متحركة، ثمرةً للجهد الجماعي؛ أمَّا الاكتفاء بحفظ السلام فيمكن أن يكون إقصائيًّا، مُضجِرًا، ومولدًا للكمد.

وكتاب الأقسام الفاعلة كتابٌ واقعيٌّ ومُلهِم. فعلى الرغم من إيمان وِرغِن بقدرة القادة على إحداث التغيير، إلا أن تصوُّره للقيادة لا يقوم على صورٍ للجرأة، والشجاعة، والكاريزما مثالية لا تربطها سوى علاقة واهية بالوقائع السياسية التي تعتمل في الأقسام الأكاديمية. وهو يقول لنا في حقيقة الأمر: إنَّ محاولتنا تحويل قسمٍ أكاديمي إلى فريق — وهذا مصطلح شاع استخدامه — ليست سوى أطروحة واهية مهلهلة. فالأقسام الأكاديمية لا تعمل عملها كفرق على طريقة المنظمات الرياضية، أو حتى على طريقة فرق العمل. وكتاب وِرغِن يتحدث عن القيادة بصوت جديد ومن نواحٍ مهمة. فبدلًا من أن يقول لكراسي القسم كيف يمكنها أن تكون مع التغيير والتحول، وأن تكتسب مزيدًا من القدرة، وتتدبَّر ثقافة ذلك القسم وتديرها، نجد أنه يركز دور كرسي القسم على كيفية خلق نوعية أكاديمية وتعزيزها، وهذا عملُ كثيرٍ من المساهمين، وليس عمل الكرسي وحده. وهو إذ يفعل ذلك، إنما ينهل من قاعدة معرفية متنوعة تتخير من كلِّ شيء أحسنه وتوفر للكتاب أساسًا فكريًّا بالغ الصلابة.
وكتاب الأقسام الفاعلة هو تجرِبة تعلم، والسبب الذي يجعل هذا الكتاب مختلفًا عن كتب القيادة التي تملأ رفوف المكتبات في المطارات إنما يتمثل، إلى حد بعيد، في كونه يستند إلى النظريات الخاصة بتعلم البالغين وليس إلى نظريات القيادة، وهذه مقاربة جديدة تتيح لنا أن نتصوَّر القيادة بصورة أكثر إنسانية وسهولة بعيدًا عن الروح الاستثنائية والأسطورية.
وإن وِرغِن لمُحق في قوله إن «النوعية الأكاديمية الحقَّة تنبع من مشاركة الهيئة التعليمية والطلاب تلك المشاركة الحقيقية والأصيلة في موضوع البحث ومع بعضهم بعضًا». غير أنَّ المشاركة ليست ذلك الشرط الذي تسهل إقامته. فهي أولًا وقبل كل شيء، تحتاج إلى الوقت وتقتضي خلق فرصٍ مناسبة لقيامها. وكراسي القسم هم أكاديميون في المقام الأول، وليسوا مهيئين لأن يأخذوا على عاتقهم مسئولية خلق سياقات المشاركة بمعزل عن قاعاتهم ومخابرهم. والمفارقة، أنَّ هذه القدرة على إِشراك الآخرين في السعي خلف التميُّز قد تكون الوجه الأهم بين أوجه الدور الذي يلعبه كرسي ما. وتتمثَّل القيمة الفريدة التي يتميَّز بها كتاب الأقسام الفاعلة في أنَّ وِرغِنْ يقدِّم لنا مناقشةً مكثَّفةً تتناول ما يحفِّز الهيئة التعليمية ويحثُّها، وذلك على نحوٍ يدفع النقاش بصورة طبيعية صوب فكرة المشاركة.

وقد يميل بعضهم إلى إهمال التوصيات التي يطرحها وِرغِن بوصفها مفرطة في مثاليتها؛ ومثال على ذلك توصيته بجعل التفكير النقدي جزءًا من منظومة الثواب والمكافأة، وتوصيته بإفساح الوقت للمحادثة الجماعية النقدية، غير أنَّ مثل هذه الأمور هي ما يفضي إلى قيام ورشة نابضة بالحياة. ومثل هذه النشاطات هي أيضًا ما يمكن أن تكون معرفة القسم بتنسيقه وتمكينه معرفةً واهيةً إلى أبعد الحدود.

إنَّ الآمال الجديدة لدى المؤسسات والهيئات التعليمية — تلك الآمال التي تنشأ من الاهتمام المتواصل بالمحاسبة، ونوعية التعليم، وقياس نتائج التعلم وثماره، وما شابه — لا بدَّ أن تخلق طلبًا على الكراسي التي تتميز، علاوةً على إدارتها الحازمة للموارد، بأنها تمتلك المهارات، وتعلم كيف تعزِّز ثقافات الأقسام التي تحفِّز التدريس الجيد وتكافئه، وتحرِّض على الإبداع، وتحافظ على الوافدين الجدد، وتحتفي بالالتزام. وكتاب الأقسام الفاعلة يخاطب هذا الجيل الجديد من كراسي الأقسام ويدافع عنهم. وهو يقوم بذلك بطريقة مثقَّفة، وعملية، وبالغة الفصاحة. وقارئ هذا الكتاب لن يجد فيه توصيفًا لمهارات القيادة التي يتَّسم بها أفراد استثنائيون ولا روايات تثير المشاعر عن أعمال القيادة الفذَّة. ما سيجده القارئ، وما يجعل قراءة هذا الكتاب متعةً من المتع، هو الصوت الذي يحملك على سماعه لأكاديميٍ قريب من الواقع، وقد أشبع موضوعه، وهو ثقافات الأقسام، بحثًا وتنقيبًا. إنَّ على كلِّ كرسي في قسم أن يمتلك نسخته من كتاب وِرغِن الأقسام الفاعلة: بناء ثقافات التميُّز وتعزيزها في البرامج الأكاديمية.
إستيلا مارا بنسيمون
جامعة كاليفورنيا الجنوبية

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤