مقدمة

ما الذي يسهم في تحقيق تميُّز الأقسام الأكاديمية؟ إنَّ لدى معظم الهيئات التعليمية وكراسيها وعمدائها فكرة ما ولو ضمنية عمَّا يعنيه «التميُّز». غير أنَّ هنالك تنوُّعًا في القناعات المتعلقة بكيفية بناء هذا التميُّز وتعزيزه. فتميُّز القسم لا يقوم، عند بعضهم، على ما يتعدَّى الإنجازات المتراكمة التي يحققها أعضاء الهيئة التعليمية الأفراد، وهذا ما يجعل الطريقة المثلى لبناء التميُّز متمثِّلةً في الاهتمام بالفرد وتعهدُّه بالرعاية. وعليَّ أن أقول صراحةً: إن الذين يتمسَّكون بمثل هذا الرأي، لن يجدوا في هذا الكتاب ما يفيدهم.

غير أن بعضهم الآخر يرون أن التميز — أو نوعية البرنامج، كما سأعرفه لاحقًا — يتوقف على المدى الذي يصله القسم أو البرنامج في قيامه بوظائفه كجماعة تتشارك في عملها بالصورة التي تفيد أحسن الإفادة من مواهب أعضاء هذه الجماعة واهتماماتهم المتعددة. وما أحاول أن أُبينه في هذا الكتاب هو أن الطريقة الأنجع في بناء ثقافة التميز وتعزيزها هي تلك التي تتمثل بخلق ثقافة التفكير النقدي والتحسين المتواصل.

وربما كان عليَّ أن أعترف مباشرةً بأنني حين كنت أتأمل أول مرة في العناوين الممكنة التي يمكن أن يتخذها هذا الكتاب، كانت جميع هذه العناوين مشتملة على كلمة «النوعية» أو عبارة «التحسين المتواصل». غير أنه لم يمضِ وقت طويل حتى أدركت كم غدَت هذه الكلمات بارزة ومستهلكة. ومع أن النوعية والتحسين المتواصل في الأقسام والبرامج الأكاديمية يُشكلان الكثير مما يدور حوله هذا الكتاب في حقيقة الأمر، إلا أنني لا أودُّ إخافة الجمهور برطانة بالية، هي من بقايا درجة إدارية عابرة تم استيرادها إلى أكاديميا غير راغبة فيها على الأغلب؛ ولذلك أجل إنَّ هذا الكتاب هو عن النوعية والتحسين المتواصل، إلا أنني آمل أن أكون قد قدَّمت أفكاره بطريقة تصحُّ على الكيفية الحقيقية التي يعمل بها التعليم العالي بوجه عام، والأقسام الأكاديمية بوجه خاص.

كيف يمكن أن نبني ثقافة التفكير النقدي ونتعهدها بالرعاية في البرامج الأكاديمية؟ من الأشياء بالغة الأهمية بالنسبة للتفكير النقدي تلك الكيفية التي يتعلم بها برنامج من البرامج أمورًا عنه هو ذاته؛ مثل كيفية توصُّل الهيئة التعليمية إلى فهم مشترك لعملها الجماعي، والكيفية التي تسهم بها أعمال أفراد هذه الهيئة في العمل الكلي. ومثل هذه الضروب من الفهم تتوقف على المعطيات، خاصة تلك التي تفضي إلى أحكام قيمة نافعة. والمشكلة أنه في حين يمكن للمؤسسات أن تجمع قدرًا كبيرًا من المعلومات عن نجاعة البرنامج وفاعليته، إلا أن القليل من هذه المعلومات هو الذي يمكن أن يكون مفيدًا في القسم ذاته. ففي أواخر العام ١٩٩٨م، قمت بدراسة وطنية لممارسات تقويم الأقسام لصالح «اتحادات بيو الخيرية». وقد جُمعت في هذه الدراسة معطيات تتعلق بطرائق تقويم الأقسام من ١٣٠ مؤسسة تمثل جميع الأصناف التي ترعاها «كارنيجي»،١ من الكليات العادية إلى الجامعات المتخصصة بالأبحاث. وفي حين وجدنا، زميلتي جودي سوينغن وأنا، أن قدرًا وافرًا من التقويم يجري في هذه المؤسسات، من خلال نشاطات مثل مراجعة البرامج، وتقويم نتائج الطلاب، والاعتماد أو الاعتراف الرسمي التخصصي،٢ إلا أن الطرائق غالبًا ما كانت تعاني من مشكلات كثيرة توهن تلك النشاطات وتُضعِفها.

أولًا، لم يتبين معظم الأقسام والهيئات التعليمية تلك الصلة التي تربط مثل هذه الممارسات بالعمل الخاص الذي تقوم به. وفي بعض الحالات، كانت الهيئة التعليمية شديدة الانشغال بأجندتها الخاصة، وفي حاجة لأن تقدِّم المعطيات لآخرين لكي يستخرجوا منها ما ينبغي استخراجه، بحيث ضاعت فكرة استخدام التقويم لمقاصد تكوينية. وعلاوة على ذلك، فإن الهيئة التعليمية غالبًا ما كانت تنظر إلى المقاييس المؤسساتية الخاصة بالنوعية بوصفها مقاييس خاطئة، لا تنسجم مع ما يمكن أن تكون عليه تعريفاتها الخاصة للنوعية. وأخيرًا، فقد كان ثمة تنوعات هائلة عبر الأقسام والهيئات التعليمية حتى في تلك المؤسسات ذات الأنظمة العملية والفعالة في مراجعة البرامج. والتالي، أن معظم العمليات الخاصة بمراجعة البرامج وتقويم النتائج لم يكن لها سوى تأثير هامشي على ممارسات الأقسام. وتبقى الاستثناءات المؤسساتية لهذا النموذج ذات قيمة تثقيفية بنَّاءة، ذلك أنها تنطوي على ثيمة مشتركة: فجميعها حققت النجاح لأن الهيئة التعليمية والأقسام كانت قد مارست تأثيرًا قويًّا على المقاصد، والعمليات، وطرائق التقويم، وعلى أسئلة التقويم التي طُرِحت. ولقد بدت السياسات الجامعية في بعض الأحيان كما لو أنها لا تنطوي على أيِّ فارق ذي أهمية؛ فما كان مهمًّا هو وحدة القيادة الفاعلة، سواء على مستوى الكلية أو القسم.

كيف يمكن للبرامج الأكاديمية أن تجعل التقويم أكثر فائدة، وبذلك تفسح مجالًا أوسع أمام التفكير النقدي؟ ذلك هو السؤال المركزي في هذا الكتاب. وباختصار، فإني أرى أن السبيل الوحيد لجعل النوعية الأكيدة قابلة للتعزيز حقًّا هو الإشاحة بإلحاحنا عن المقاربة التي تتجه من الخارج إلى الداخل (أي المقاربة التي تمثل استجابة للقياس والتقويم الذي تجريه الدولة أو من تنتدبه من المؤسسات) والتحول إلى مقاربة تتجه من الداخل إلى الخارج، وهي مقاربة تصممها وحدة الهيئة التعليمية ذاتها وتدخلها حيِّز التطبيق.

تنظيم الكتاب

لقد وصفت في الفصل الأول كيف غدت كلمة «النوعية» في التعليم العالي تلك الكلمة التي تعني كثيرًا من الأشياء المختلفة: أي كيف غدت مختلطة مع مفاهيم مثل الفعالية، والإنتاجية، وقابلية التسويق أو الرواج؛ وكيف ألقت الهيئة التعليمية عن كاهلها مسئولية ضمان النوعية الأكاديمية وتركتها لضروب من التصنيف والتقدير كتلك التي تنشرها مجلات الأخبار؛ ولذلك فإنني أقترح تعريفًا جديدًا للنوعية، وهو تعريف يركز على مشاركة القسم مع جمهوره.

ولقد قمت في الفصل الثاني بمراجعة ما نعرفه عن تحفيز الهيئة التعليمية، وذلك في محاولةٍ لحلِّ التناقض الظاهري المتمثل في أن أناسًا ذوي قدرة رفيعة على التفكير والتحليل يمكن لهم في كثير من الأحيان أن يتصرفوا بطرائق أبعد ما تكون عن تلك القدرة. ولقد تفحَّصت كلًّا من المحفِّزات الداخلية والخارجية التي تحفِّز عمل الهيئة التعليمية، ومفهوم التحفيز التنظيمي، والعوامل التي تقف وراء التماهي مع المؤسسة وتحفِّز على تقديم المساهمات لها.

أما في الفصل الثالث، فقد وصفت الممارسات الحالية في تقويم الأقسام الأكاديمية، وهي أحجار البناء في معظم الكليات والجامعات. ولقد عرضت هنا بإيجاز تجارب ١٣٠ مؤسسة من حيث مراجعة البرامج، وقياس نتائج الطلاب، والاعتماد أو الاعتراف الرسمي التخصصي، ومشكلات مشتركة معزولة في كلِّ جانب من هذه الجوانب. وبناءً على أفضل الممارسات المحدَّدة في هذه المؤسسات، عرضتُ لثلاثة عوامل حاسمة تميِّز التقويم الفعَّال للوحدات الأكاديمية: الوضع التنظيمي والثقافي، سياسات التقويم وممارساته، ومعايير التقويم ومقاييسه.

وفي الفصل الرابع، تفحصت الوضع التنظيمي والثقافي بمزيدٍ من التفصيل. ما الذي يلزم لخلق ثقافة المشاركة؟ كيف يمكن للقادة الأكاديميين أن يتعهدوا بالرعاية جوًّا من الاستقصاء النقدي؟ وأن يطوِّروا فهمًا مشتركًا لعمل الهيئة التعليمية؟ ويولدوا إحساسًا جمعيًّا بالمسئولية؟ ويُبدوا احترامًا للاختلاف؟ ويتوصَّلوا إلى فهم مشترك للكيفية التي يضفي بها القسم قيمة على المؤسسة؟

ولقد تناولت في الفصل الخامس موضوعًا قلما يتم تناوله في الكتب المعنية بالبرامج الأكاديمية، ألا وهو الكيفية التي ينبغي بها تعريف القيم الأكاديمية ومناقشتها. فمع وجود ضروب متعددة من الجمهور، لا بد للأقسام الأكاديمية من أن تواجه الواقعة المتمثلة في أن النوعية تختلف باختلاف الناظر: أي أن المساهمين بمصالحهم المختلفة، أو أسهمهم وحصصهم، فيما يفعله القسم، لا بد أن يقوِّموا عمل هذا القسم باستخدام معايير للقيمة مختلفة. ويصف هذا الفصل كيف يمكن التفاوض على قيم مختلفة، بل متصارعة في أغلب الأحيان.

وفي الفصل السادس، أقترح طرائق لطرح الأسئلة الصحيحة وجمع المعطيات الصحيحة. كيف تكشف الهيئة التعليمية ما هو مهم حقًّا وتنبغي معرفته؟ ما نوع المعلومات المفيدة في تناول الأسئلة المتعلقة بإنتاجية الهيئة التعليمية، وكفاءتها، ونوعية المنهاج والتعليم، وإنتاجية الطلاب، ونتائج التعلُّم؟ الإنجاز العلمي؟ كفاية المصادر؟ المساهمة في رسالة المؤسسة وأولوياتها؟ كما تناولت أيضًا قضايا الصِّحة والموثوقية، وركَّزت بوجه خاص على كيفية تقويم نوعية الأدلَّة المستخدمة في الدفاع عن القسم.

أما في الفصل السابع، فقد تطرقت إلى موضوع غالبًا ما يُهمَل في النقاشات التي تدور حول النوعية، وأعني بذلك قضية تحديد المقاييس وإضفاء المعنى على معطيات التقويم. فغالبًا ما يُزعم أن المقاييس سوف تنبثق بصورة طبيعية، ويجري التوافق الواسع عليها، في حين أن مسألة وضع المقاييس هي عملية سياسية رفيعة في حقيقة الأمر. ولقد ناقشتُ مصادر متنوعة لمقاييس النوعية وما تتَّسم به من قوًى وحدود، وبيَّنت أن إضفاء المعنى ليس تلك العملية التي يمكن أن نتركها للمصادفة والحظِّ.

أخيرًا، وفي الفصل الثامن، عرضت بإيجاز مادة الفصول السابقة وقدَّمت بعض التوصيات المحدَّدة للقادة الأكاديميين والهيئة التعليمية في القسم؛ حيث أشيرُ إلى ما يمكن لكلِّ مجموعة أن تقوم به لكي تطلق التفكير النقدي في وحداتها وتواظب عليه.

أما الملحق، وعنوانه الأقسام الفاعلة: ما ينبغي القيام به، فيلخص بإيجاز شديد تلك الأفكار التي سبق تقديمها في كلِّ فصل.

خاتمة

عليَّ أن أعترف أيضًا بما لديَّ من تحيُّزات خاصة في كتابة هذا الكتاب. فعلى الرغم من أنني تبوأت عددًا من المناصب الإدارية خلال حياتي العملية في الأكاديميا، إلا أن ولائي الأول والحقيقي هو للهيئة التعليمية. وتهمُّني إلى أبعد الحدود نوعية حياة هذه الهيئة، وأريد لها أن تتفتح وتزدهر. ومع أنني أطلق من حين لآخر بعض الأشياء المزعجة عن الهيئة التعليمية كجماعة، إلا أنني لا أفعل ذلك انخراطًا في تلك الرياضة الشعبية المتمثلة في تسفيه الهيئة التعليمية، بل لكي أشير إلى أن علينا أن نبذل مزيدًا من التفكير في العمل الذي نقوم به، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي. فذلك ليس في مصلحة جمهورنا وحسب، بل في مصلحتنا نحن أيضًا. وليس في مقدوري أن أتصوَّر طريقة يمكن بها لمدير ميكافيلي أن يضعف الهيئة التعليمية أفضل من الطريقة المتمثِّلة بتشجيعها على ثقافة يحكمها التشظي، والتخصص، والصراع على المزايا التنافسية. أما بذل الهيئة التعليمية المزيد من الاهتمام اليقظ والمتواصل بنوعية القسم والبرنامج فلا يقتصر على إبداء قابلية المحاسبة بل يتعدَّى ذلك إلى تعزيز الاستقلال والحرية الأكاديمية الفردية. وما آمله هو أن يكفَّ القارئ، مع نهاية هذا الكتاب، عن رؤية التناقض والمفارقة الساخرة في مثل هذا القول.

جون وِرغِن
ريشموند، فيرجينيا
نيسان ٢٠٠٢
١  مؤسسة كارنيجي للتقدم التعليمي، مؤسسة قامت عام ١٩٠٥م لتقديم معاشات للمدرسين الجامعيين ورعاية البحوث العلمية في مجال التعليم. (م)
٢  الاعتماد الرسمي (للمؤسسات التعليمية) accreditation، هو تحديد المستوى الأكاديمي لمؤسسة تعليمية وإقراره أو الاعتراف به من قِبل هيئة خارجية محايدة تحظى باحترام كبير. (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤