الفصل الثالث

تقويم النوعية في البرامج الأكاديمية

من البساطة الساذجة نصل إلى بساطةٍ أكثر عمقًا.

ألبرت شفايتزر

مدخل

انظر إذا ما كان هذا السيناريو يصف ما يحدث في قسمك: كلَّما مرت خمس أو سبع سنوات تدعو وحدتك إلى مراجعة رسمية للبرنامج. وهو حدث لا يثير كثيرًا من الحماس بين أعضاء الهيئة التعليمية. فإعداد الدراسة الذاتية يحتاج كثيرًا من العمل، وهناك الكثير من التذمُّر من تبديد الوقت والتطفُّل البيروقراطي. وهدف الجميع هو أن يخرجوا من هذه العملية بأقلِّ ما يمكن من الإثارة وحالة الشدة. وما إن تنتهي هذه العملية، حتى يختفي التقرير النهائي في أدراج الإدارة فلا يتغير شيء، لكن الهيئة التعليمية تكون قد ارتاحت لفترة على الأقل من هذا العناء. ومثل هذا الاستعراض الفارغ يتكرر، بقدر طفيف من التنويع، في حالة الاعتماد الرسمي المحلي والتخصصي، وتقويم نتائج الطلاب، وفي شتى مبادرات التخطيط الاستراتيجي التي تستهدف غرضًا محددًا.

إذا ما كان ذلك كله يبدو لك مألوفًا إلى حد مُكرِب، فلست وحدك. فثمة اليوم قدر من التقويم في التعليم العالي أكثر بكثير من ذي قبل، غير أنه أقل تأثيرًا على نحوٍ لافت، كما تشير دراسات عدَّة (المركز الوطني لتطوير ما بعد الثانوي، ١٩٩٩م، بيترسون وإينارسون، ٢٠٠١م). ففي دراسة قام بها هذا المركز، كشف مسح لأكثر من ١٠٠٠ موظَّف أكاديمي رئيس أنه بينما تقوم معظم المؤسسات على نحوٍ منتظم بجمع المعطيات المتعلقة بمهارات الطلاب التي تؤهلهم لدخول الكلية ومقاصدهم الأكاديمية، فإن المعطيات التي تُجمع حول تجارب الطلاب وما تعلموه هي أقل من ذلك بكثير (الثلث أو أقل). والمُحبط أكثر، أن معظم الذين تم استجوابهم لم يتمكنوا من ربط مجموع معطيات التقويم بالقرارات المتعلقة بالبرامج الأكاديمية أو الميزانية. وبدلًا من ذلك، فقد كان السبب الشائع الذي تمَّ إيراده كمبرِّر للتقويم هو الغايات المرتبطة بالاعتماد أو الاعتراف الرسمي التخصصي.

(١) المبررات المعتادة لعدم استخدام معطيات التقويم

يتساءل جوزيف بيرك (١٩٩٩م) فيما يدعوه «شذوذ التقويم»: «إذا ما كان الجميع يقومون بذلك، فلماذا لا نجد مزيدًا من النتائج؟» والحال، أنَّ هنالك نوعين من الشكوك المعتادة التي تقدَّم كمبرر لهذا الوضع المؤسف: صعوبة قياس نتائج تعلم الطلاب، ومقاومة الهيئة التعليمية المتواصلة القديمة. وسوف أتناول كلًّا من هذين الأمرين على حدة.

صعوبة قياس نتائج تعلم الطلاب

يسير الحِجاج المتعلق بهذا الأمر على النحو التالي: كان لاندفاع حركة التقويم أن يستبدل بالتركيز على عناصر الدَّخل، مثل الموارد والقدرات، تركيزًا على النتائج، أي التأثيرات على تعلم الطلاب، وكلُّ ذلك جيد وحسن، لكن المشكلة هي أننا لا نعرف كيف نقيس تعلم الطلاب ذلك القياس الدقيق، خاصةً حين نريد قياسه جملةً أو على وجه العموم، فإذا ما كان الهدف من تقويم نتائج الطلاب هو الكشف عما اكتسبه هؤلاء الطلاب كجماعة من تجربتهم في الكلية، والقيام بذلك على نحوٍ يفضي إلى بعض المفاضلة بين البرامج والمؤسسات، عندئذٍ تغدو التحديات التي يطرحها التقويم رهيبة ومريعة. وعلاوةً على ذلك، كما يمضي هذا الحجاج، فإن للتعلم الفعلي خصائصَ معينة لا يمكن وصفها، وتتحدى جميع محاولاتنا الخرقاء التي تستهدف قياسها.

مقاومة الهيئة التعليمية

يسير الحِجاج المتعلق بمقاومة الهيئة التعليمية بوصفها عائقًا كبيرًا أمام التقويم المفيد (أو أمام أيِّ مبادرة أخرى) على النحو التالي: يعزُّ على أعضاء الهيئة التعليمية استقلالهم، وهم غير مستعدين لأن يتخَلوا عنه لمجرد أن بعض المديرين يتحدثون عن الحاجة إلى مزيد من المحاسبة. ويرى أعضاء الهيئة التعليمية أن التدريس هو ميدانهم الخاص أكثر من أي جانب آخر من جوانب عملهم، ويشعرون أن لديهم حقوقًا تخوِّلهم امتلاك مناهجهم الدراسية ذلك الامتلاك الحصريَّ. ودرجات الطلاب هي دليل كافٍ على التعلم؛ والمطالبة بأيِّ أدلة أخرى إنما يمثِّل تهديدًا خطيرًا محتملًا للحرية الأكاديمية.

(٢) الأسباب الأساسية وراء العقم الذي يسِم تقويم البرامج

كلٌّ من هذين العائقين فعليٌّ وموجود. والحجاجان اللذان يقفان خلفهما جديران بالاهتمام (انظر. دِل، ماسي، وليامز، وكوك ١٩٩٦م). غير أنهما ليسا العلة الحقيقية، كما أرى. فالأسباب الأساسية وراء غياب التأثير الذي يسم تقويم البرامج هي في مكان آخر.

عقلية الامتثال

ثمة تصوُّر مفاده أن الأسئلة التي تدفع كثيرًا من مراجعات البرامج، وسواها من أشكال التقويم الذي تخضع له هذه البرامج، هي أسئلتهم وليست أسئلتنا. فالمراجعة موجودة على جدول أعمال أحد ما آخر، كالإدارة العليا، والمجلس الحكومي، واللجنة التي تمنح الاعتماد أو الاعتراف التخصصي. ويعترف معظم أعضاء الهيئة التعليمية بضرورة مراجعة البرامج، لكنهم لا يرون ذلك بالضرورة على أنه عملية سوف تؤثِّر على ممارستهم بصورة إيجابية. المشكلة الثانية المرتبطة بهذه هي أن معظم مراجعات النوعية تظلُّ أمورًا أحادية الجانب، فلا تكون جزءًا أساسيًّا من حياة المؤسسة متكاملًا معها. وعلاوةً على ذلك، فإن اتسام المراجعة بكونها ارتجاعية (تتناول ما سبق وقوعه) وليست استباقية (تتناول ما هو محتمل الوقوع)، يفضي بالرغبة في إنجاز مثل هذا العمل إلى تبديد فرصة التأمل النقدي، فرصة أن نضع قيمنا الأكاديمية الراسخة قيد الاستقصاء المنهجي وأن نسائل الافتراضات التي نستخدمها. هكذا تتكشَّف العملية في أغلب الأحيان على نحوٍ يشجِّع المساهمين في هذه العملية على أن ينجزوها دون أن يزعجوا أنفسهم إلا بالحد الأدنى. فالدراسة الذاتية يُعهَد بها إلى هيئة منتقاة وإلى قلة من أعضاء الهيئة التعليمية الذين يُعطَون بعض الوقت، إذا ما كانوا محظوظين، كي ينجزوا هذه الدراسة ويكتبوا التقرير. وهكذا يغدو الأمر كلُّه مضجرًا، ومَضيعة للوقت، ولا تترتب عليه سوى نتائج طفيفة إذا ما ترتبت. كما يغدو طقسيًّا رتيبًا، وحدثًا خاصًّا لا يشكِّل جزءًا متمِّمًا لعمل الهيئة التعليمية. ويعبِّر ماسي عن هذه الظاهرة بالقول: إن «ثقافة الامتثال» تغدو «ثقافة الامتثال الواضح» (٢٠٠١م، اتصال شخصي).

الثقافة الفردانية

سبق أن أشرتُ في الفصل الأول إلى أن ثقافة الهيئة التعليمية في معظم الأقسام والبرامج هي ثقافة فردانية مفرطة الخصوصية. والتقويم يئول إلى الفرد وليس إلى الوحدة. والهيئة التعليمية تُكافَأ تبعًا للمساهمة التي تقدِّمها للاختصاص أو الفرع، وليس للمؤسسة. ولقد بلغ الأمر بمعلم مجهول الاسم حد القول: إن «الأقسام الأكاديمية هي عشائر من الخبراء المتعجرفين الذين يسعون إلى تعزيز امتيازاتهم الفردية على حساب أهداف المؤسسة». فهل ثمة إفراط في هذا القول؟ لا شك. غير أنني على ثقة بأنَّ المؤسسات لن تجد إفراطًا في وصف أقسامها بمثل هذا الوصف. وعلاوة على ذلك فقد أشار فايرويزر (١٩٩٦م) إلى أنَّه عندما يجري تقويم الوحدات ككل، عادةً ما يُحكم عليها على أساس محصلة أداء أعضاء الهيئة التعليمية الأفراد — كالإنتاجية البحثية، مثلًا — وليس بقياس المساهمات التي قدَّمتها الوحدة ككل للصالح العام. فالإلحاح لا يزال على الجدارة الفردية، وليس على الجدارة الجمعية وما تقدِّمه لرسالة المؤسسة. والنتيجة هي أننا لا نجد لدى الهيئة التعليمية سوى قدر ضئيل من التوظيف أو الاستثمار في النشاطات التي تقتضي فعلًا جماعيًّا.

غياب المقاييس الصحيحة التي تترتَّب عليها نتائج وآثار

يشير ميسيك (١٩٩٤م) إلى أننا نحتاج، فضلًا عن الأشكال التقليدية من الصحَّة والموثوقية في مقاييس التقويم، إلى أن نأخذ في الحسبان أثر المقياس على السلوك. لنفترض، مثلًا، أن قسم الشرطة في بلدتك قد قُوِّم على أساس معدَّل الاعتقالات التي يقوم بها الشرطي الواحد. فهل سيزداد معدَّل الاعتقال أم سينقص؟ أو لنأخذ مثالًا من ضمن الأكاديمية ونفترض أن الحكم على نوعية التدريس يتم على أساس معدَّلات الطلاب وحدها. عندئذ سوف تشعر الهيئة التعليمية بضغط كبير يدفعها إلى زيادة معدَّلات طلابها وتحسُّ بإغراء يحثُّها على القيام بكلِّ ما من شأنه تحقيق هذه النتيجة. وسوف تنتهي الهيئة التعليمية إلى مطاردة المقاييس وتعقُّبها، محولةً إياها إلى هدف بديل. ولقد بيَّنت الأبحاث أنَّ معدلات الطلاب يمكن التلاعب بها على الأقل (مكميلان، ورغن، فورسايث، وبراون، ١٩٨٦م) بطرائق قد لا يربطها أيُّ رابط بنوعية التعليم. والأسوأ من ذلك، أنَّ التركيز على المعدَّلات يمكن عمليًّا أن يعمل كعقبة تقف في وجه إنجاز العمل النوعي، حين تشعر الهيئة التعليمية بأنَّ إجراء تغييرات في مقرراتها الدراسية لا يستحقُّ ما سينجم عنه من هبوط يكاد أن يكون مؤكَّدًا (وإن يكن مؤقتًا) في معدَّلات الطلاب. وتُعرَف هذه الظاهرة في أدبيات الإدارة باسم «انزياح الهدف» (بلاو وسكوت، ١٩٦٢م). والأمثلة المستمدة من الأكاديمية على انزياح الأهداف وافرة وغزيرة. وما دامت المؤسسات تموَّل على أساس ساعات التدريس المعتمَدة فلن تشعر بحافز كبير يدفعها إلى مساعدة الطلَّاب على النجاح، أو الحدِّ من عدد المقررات الدراسية المكرورة، أو الحدِّ من عدد المقررات الدراسية المطلوبة للتخرُّج (فيرين وسلافينغز، ٢٠٠٠م). ولقد أشرت في الفصل الأول إلى أنَّ عقلية السوق قد خلقت فورة في المؤسسات الراغبة في تحسين مرتبتها بالصورة التي حُددت فيه المراتب من قبَل U.S. News and World Report. وبذلك غدت المراتب هي الأهداف، حتى لو لم يكن للمعايير التي تُحدَّد على أساسها سوى علاقة طفيفة برسالة المؤسسة الحقيقية. وفي الوقت ذاته، فإنه حين لا تؤخذ المقاييس على محمل الجِد ولا تترتب عليها أي نتائج على الإطلاق، لا بد أن يزول الحافز الذي يدفع إلى جمع المعطيات الصحيحة. ولقد كان لتجاهل النتائج غير المقصودة المترتبة على استخدام المقاييس البرنامجية والمؤسسية آثارها بعيدة المدى، والمؤذية في معظم الأحيان.

الدراسة التي قامت بها بيو (Pew)

كان ذلك كلُّه في الذهن حين شرعنا، مساعدتي جودي سوينغن وأنا، بدعم كريم من اتحادات بيو الخيرية، باستقصاء حالة تقويم البرامج في الولايات المتحدة؛ حيث قمنا بمراجعة الأدبيات، ودعونا شبكات شخصية من المخبرين، وأرسلنا رسائل إلكترونية إلى جميع رؤساء الجامعات، ودعوناهم إلى مشاطرتنا أمثلةً على الممارسة التقويمية الفعَّالة. وفي النهاية، قمنا بدراسة ١٣٠ مؤسسة من جميع الأصناف التي ترعاها كارنيجي، من الكليات العامة إلى الجامعات البحثية. وقد اكتفينا من بعضها بأخذ معلومات مدوَّنة على الورق، أما بعضها الآخر فأجرينا مقابلات هاتفية مع رجالاتها الأساسيين، وفي ثمان مؤسسات قمنا بكتابة دراسات مكثَّفة للحالة بناءً على زيارات للحرم الجامعي دامت الواحدة منها يومين. ويمكن للقارئ أن يجد الوصف الكامل لهذه الدراسة البحثية في كتابنا تقويم الأقسام: كيف تقوِّم بعض الكليات عمل الهيئة التعليمية الجماعي تقويمًا فاعلًا (ورغن وسوينغن،٢٠٠٠م). وسوف أقدِّم فيما يلي ملخصًا لهذه الدراسة، آخذًا بالحسبان أن مسافة سنتين باتت تفصلنا عنها.

في رأينا، أن التقويم الفعَّال هو ذاك الذي يطلق أحكامًا على النوعية تفضي من ثم إلى تحسين قيام الأقسام بعملها. ولقد وجدنا، باستخدام هذا المعيار، أن حالة تقويم البرامج في التعليم العالي هي حالة مُكرِبة حقًّا. فعلى الرغم من وفرة التقويم الجاري، إلا إن التململ حيال فائدته هو شعور سائد على نطاق واسع. ومن بين الأسباب الكثيرة لهذا الاستياء، ثمة سبب يلفت الانتباه أكثر من سواه، ألا وهو إخفاق معظم الأقسام والهيئات التعليمية في رؤية الصلة بين تقويم البرامج والعمل الذي يقومون به. ولقد ثبتت صحَّة شكوكنا الأولية، إذ تبيَّن أن تقويم الأقسام كان إلى حد بعيد ذلك التقويم الطقسي الروتيني المبدِّد للوقت، والذي يتم الإيعاز به من فوق، ولا تترتب عليه أي نتائج مهمَّة بالنسبة لحياة الهيئة التعليمية.

(٣) تحليل عمليات التقويم الفعالة المُجراة على مستوى الوحدة

على الرغم من هذه الصورة الكالحة، وجدنا بعض الاستثناءات اللافتة؛ حيث كان التقويم المُجرى على مستوى الوحدة قد أطلق أحكامًا جديرةً بالاهتمام وحسَّن قيام الأقسام بوظائفها، وهذا ما دفعنا إلى دراسة هذه الحالات عن كثب في محاولةٍ لأن نتبيَّن ما يجعلها تغرِّد خارج السرب. وقد وجدنا أن من المفيد أن يسير تحليلنا في مناحٍ ثلاثة: (١) تبيان الشروط الضرورية اللازمة لقيام التقويم الفعَّال. (٢) تحديد السياسات والممارسات المؤسساتية التي كانت أفضل العناصر المنبئة بالفعالية. و(٣) تعيين القضايا التي لا تزال إشكالية، حتى في المؤسسات التي يُضرب بها المثل.

الشروط الضرورية: الأوضاع التنظيمية والثقافية

تبدو بعض الخصائص المؤسساتية أساسيةً على هذا الصعيد. فعلى الرغم من أنها لا تضمن وحدها قيام التقويم الفعَّال، إلا إنها تبدو ضرورية من غير شك. فقد وجدنا جامعات لم يمضِ فيها التقويم إلى أيِّ مكان، على الرغم من سياساتها التي يُضرب بها المثل، وقد تتبَّعنا العوائق وصولًا إلى الافتقار إلى القيادة الفعالة إما في الإدارة الأكاديمية المركزية، أو في الأقسام الأكاديمية، أو في كليهما. أما الجامعات التي تميَّزت بممارساتها الناجحة فقد عُنيت أولًا ببناء مناخ مؤسساتي يدعم تحسين النوعية ويؤازره. وعلى سبيل المثال، حين سألنا رئيس إحدى الجامعات البحثية الخاصة ذات التاريخ الناصع على صعيد مراجعة البرامج كيف يمكن أن يباشر تقويمًا في مؤسسة أخرى غير مؤسسته، أجاب: «آخذ أولًا مقياس المؤسسة ورؤيتها للمستقبل. أي هل هناك طموح للتغيير؟ وأحاول أن أجد سبلًا للإفصاح عن أرفع درجات الطموح؛ فإذا لم تكن ثمة شهية قوية تجاه ذلك، كان الفشل مصير مراجعة البرامج».

ولقد أشارت المؤسسات التي قمنا بدراستها إلى عناصر ستة يتميز بها المناخ المؤسساتي النوعي.

  • (١)
    القيادة القائمة على المشاركة: حيث يكون القادة قادرين على تحديد القضايا ضمن إطار واضح، وعلى وضع الهيئة التعليمية أمام خيارات واضحة، والانفتاح في مناقشة ما سيملي القرارات المتَّخذة. ومن بين عناصر المناخ التنظيمي جميعًا، كان هذا العنصر هو الأرفع شأنًا والأشد أهمية.
  • (٢)
    مشاركة الأقسام: تطرح الأقسام على نفسها أسئلة جوهرية تمامًا: «ما الذي نحاول أن نفعله؟ لماذا نحاول أن نفعله؟ لماذا نفعله على هذا النحو؟ كيف لنا أن نعلم أنه يؤتي أكُله؟» وحقيقة الأمر، أنَّ مثل هذه الأقسام قد خلقت جوًّا للتأمل والتفكير، وهذه فكرة سوف أتناولها بالتفصيل في الفصل السابع.
  • (٣)
    ثقافة الأدلة: (وهذا مصطلح كان رالف وولف أول من استخدمه). فالمؤسسات الناجحة تتميز بروح التأمل والتفكير والتحسن المتواصل المستند إلى المعطيات وإلى القبول الذي يكاد أن يكون بديهيًّا بالحاجة إلى الأدلة كأداة لاتخاذ القرار. ولقد وجدنا أن ثقافة الأدلة لا تربطها سوى علاقة واهية، إن كانت تربطها أيُّ علاقة، بمقدار الأدلة التي يتم جمعها؛ فالأساس يكمن فيما تفعله المؤسسة بالمعلومات التي تجمعها.
  • (٤)
    ثقافة التعاون النَّدي والمراجعة النَّدية: حيث تقوم معايير التقويم وأسسه على الفهم المشترك من قِبل أعضاء الهيئة التعليمية في القسم لعمل كلٍّ منهم. ولقد تميزت الأقسام الناجحة بثقافة تعاونية حقًّا؛ حيث لم يكن من الضروري أن يعملوا معًا بصورة جماعية، بل أن يكون لديهم إحساس واضح بما فعله زملاؤهم، وكيف يخلق مجموع الأعمال الفردية كلًّا متماسكًا، وكيف يسهم عملهم الخاص في ذلك الكلِّ (ويمكن للقارئ أن يجد مناقشة لافتة حول هذين التصورين للتعاون لدى بنسيمون وأونيل، ١٩٩٨م).
  • (٥)
    احترام الاختلاف: تتفاوت أدوار أعضاء الهيئة التعليمية، ما يؤدي إلى انزياح التركيز من العمل الذي يُحكَم عليه بمعايير خارجية بالنسبة للوحدة (الفضل) إلى مساهمة عضو الهيئة في رسالة الوحدة (الجدارة). وهذا التمييز بين الفضل والجدارة أساسي لفهم الفارق بين التخصص الجامح الذي ابتليت به الأقسام الأكاديمية في نصف القرن الماضي، وتفاوت الأدوار الحقيقي، الذي يأخذ بعين الاعتبار سياقات الأقسام. وسوف أتفحَّص هذه الفكرة مزيدًا من التفحُّص في فصل لاحق.
  • (٦)
    التقويم الذي تترتب عليه نتائج: ينبغي أن يكون للتقويم أثره الواضح والملموس على القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد. وهذا مبدأ على قدر من الوضوح يكاد يبرر عدم ذكره. غير أنَّه من المدهش، كما ذكرت من قبل، أنَّ شيئًا على هذه الدرجة من الوضوح غالبًا ما يتمُّ إهماله. ولقد اكتشفنا أيضًا أنَّ للنتائج حدودها: فمن غير الممكن أن تكون العملية كثيرة النتائج إلى الحد الذي يحوِّلها إلى تمرين سياسي عالي المخاطر. وحين يحصل ذلك، فإنَّ حوافر التحسين تضيع في الاندفاع وراء الظهور بأحسن حال يمكن التوصل إليه.

وسوف أتفحَّص هذه السمات بمزيد من التفصيل في الفصل التالي وأقترح سبلًا يمكن للأقسام من خلالها أن تطور ذاتها وتحسِّنها.

سياسات التقويم وممارساته

لقد سبق لكلٍّ منا أن خاض التجربة التالية؛ حيث ننهي دراسة، ونضعها جانبًا لبعض الوقت، ثم نعود إليها ونجد تبصُّرات جديدة. هذا ما كانت عليه الحال هنا. فقد غرقنا في تفاصيل دراستنا لدرجة أننا أغفلنا واقعة لا تخطئها العين: ففي المؤسسات التي وفَّرت الشروط الضرورية المذكورة آنفًا، كان ثمة عامل وحيد ميَّز المؤسسات التي كان فيها التقويم فعالًا من المؤسسات التي لم يكن فيها التقويم كذلك. وباختصار، فإنَّ ما جعل التقويم فعالًا في بعض الأماكن وغير فعال في بعضها الآخر هو درجة المرونة واللامركزية التي اتَّسمت بها سياسات التقويم. ففي مثل هذه المؤسسات، تمَّت دعوة الوحدات لكي تحدِّد لنفسها أسئلة التقويم النقدية، والمساهمين الأساسيين، ومصادر الأدلة، وإجراءات التحليل والتفسير الأشد ملاءمة.

وأوضح مثال وجدناه على ذلك هو جامعة خاصة صغيرة كانت قد واظبت لسنوات على سياسة تقليدية في مراجعة البرامج، سياسة كانت توعز بإجراء الأقسام دراسات ذاتية شاملة توضع قيد التدقيق والتمحيص، وتُنجَز تبعًا لمعايير توعز بها المؤسسة، ثم تتلو ذلك زيارة يقوم بها فريق مراجعة خارجي وتقرير واسع يوضع بين ملفَّات الإدارة المركزية. ولم يكن أحد في هذه المؤسسة سعيدًا بالنتائج التافهة المترتبة على توظيف كلِّ هذا القدر من الوقت والمال، بما في ذلك الإدارة، ولذلك فقد قرروا أن يقوموا بشيء آخر؛ مراجعة للبرامج مركَّزة، يكون فيها على الأقسام المعنية بالتقويم أن تُقدم في البداية اقتراحًا يحدِّد القضايا الأساسية التي تواجهها كأقسام وخطَّةً لدراسة هذه القضايا. ثم يُتخذ هذا الاقتراح، بعد مناقشته مع عميد القسم، كأساس لدراسة القسم الذاتية. والمطلب الكبير الوحيد الذي قدمَته المؤسسة هو أن تضمِّن الأقسام دراستها تحليلًا لكيفية مساهمتها في رسالة المؤسسة. وبعد تجربة هذه السياسة التجريبية على مدى سنتين، جاءت النتائج واضحة جليَّة: فالأقسام التي تبنَّت هذه المقاربة المركزة أجرت تغييرات مهمة في عملها الجماعي، أما الأقسام التي تبنَّت المقاربة التقليدية الشاملة فلم تجر مثل هذه التغييرات. ولقد بقي في هذه المؤسسة بعض المديرين المتشككين، الذين رأوا في البداية أنَّ هذه الفروق لا يمكن أن تكون ناجمة إلا عن أثر هاوثورن (الذي يقضي بأنَّ أي تغيير إيجابي هو نتيجة لإبداء الاهتمام بالمشكلة وليس لأيِّ شيء آخر)، لكن هذه الأقسام الضعيفة لجأت لاحقًا إلى استخدام المقاربة المركزة كطريقة لتفادي التمحيص في مشاكلها. وتبيَّن أن العكس هو الصحيح: حيث كانت الأقسام القوية هي تلك الأقسام التي اختارت المقاربة المركزة انطلاقًا من إدراكها الواضح للرسالة الجماعية ورأت في السياسة الجديدة فرصة لجمع المعلومات التي تساعدها على تحقيق مزيد من القوة.

والحال، أنَّ ثمة درسًا واضحًا تُقدمه لنا هذه القصة، مفاده أنَّ على المؤسسات أن تحدَّ من تركيزها على المحاسبة المتعلقة بتحقيق نتائج معينة مسبقة التحديد وتزيد من تركيزها على الكيفية التي تجري بها الوحدات تقويماتها الذاتية إجراءً حسنًا وتستخدم المعطيات المتولدة عن هذه التقويمات، استخدامًا حسنًا. وعندئذ تأتي المكافآت إلى تلك الوحدات التي يمكن لها أن تبيِّن كيف استخدمت التقويم في حلِّ مشاكلها وحسم قضاياها.

ومثل هذا التصور قريب من إجراءات التدقيق الأكاديمية التي تُستخدَم الآن على نطاق واسع في أوروبا الغربية وهونغ كونغ، والتي حققت شعبية كبيرة في هذا البلد بين الهيئات التي تمنح الاعتماد أو الاعتراف التخصصي: فبدلًا من محاولة تقويم النوعية ذاتها، يتم التركيز على العمليات أو السيرورات التي يُعتَقد أنها تُنتج النوعية: «تمعن [عمليات التدقيق الأكاديمية] النظر عميقًا في قلب المشروع الأكاديمي. وتختبر ما إذا كانت المؤسسات وهيئاتها التعليمية على مستوى مسئولياتها العامة في مراقبة المقاييس الأكاديمية والارتقاء بتعلم الطلاب» (دِل، ماسي، وليامز، وكوك، ١٩٩٦م، ص٣٥).

معايير التقويم ومقاييسه

«المعايير» هي تلك الضروب من الأدلة التي تُجمَع كعلامات على النوعية، و«المقاييس» هي العلامات القياسية التي تُقارن الأدلة معها وتوضع إزاءها. ولقد وجدنا مشكلات كثيرة في استخدام الأدلة، حتى في الحالات التي يُضرَب بها المثل. ولم يكن الأمر أن المؤسسات تفتقر إلى المعلومات التي يمكن أن توجِّه الحكم على نوعية أقسامها؛ حيث تحتوي قاعدة المعطيات لدينا على أمثلة لأكثر من ١٠٠ مؤشر من مؤشرات النوعية، موزعة بإنصاف ومساواة على معايير الدخل (مؤهلات الهيئة التعليمية، مُعادلات التفرُّغ١FTEs)، والعملية (نوعية المنهاج الدراسي، واجبات الطلاب)، والخَرج (منشورات الهيئة التعليمية، تعلم الطلاب). وتتمثَّل المشكلة بالأحرى في أننا لم نجد ولو حالة واحدة دعت فيها إجراءات المؤسسة إلى تفحُّص نوعية الأدلة ذاتها! ويبدو أنَّ الافتراض الأساسي وراء ذلك هو أنَّه كلما زادت المعلومات التي يتم جمعها، كان ذلك أفضل، وأنَّ يدًا خفيَّة سوف تقود إلى الاستنتاجات الصحيحة والحقيقية.

ولقد وجدنا، علاوةً على ذلك، غيابًا شائعًا للوضوح والتوافق على ما ينبغي أن تكون عليه المقاييس. ومن ذلك مثلًا غياب التساؤل عن أنسب مقياس لإنتاجية القسم البحثية: هل هو مناقشة أهداف القسم مسبقًا مع العميد؟ أم أداء السنة الماضية؟ أم مدى تلاؤم البحث مع أولويات المدرسة أو خطة الجامعة الاستراتيجية؟ أم بلاء القسم ذلك البلاء الحسن بالمقارنة مع نظرائه في المؤسسات الأخرى؟ ولقد سبق أن أشرت في الفصل الأول إلى أنَّ المقاييس التي تعتبرها جماعةٌ معينة من المساهمين مهمةً وذات شأن قد لا تُعْتبَر كذلك لدى جماعة أخرى؛ ولذلك فإنَّ نوعية الأقسام سوف تبقى بحسب عين المساهم. وكما أنه من الخطر أن نتجاهل قضايا نوعية المعطيات، فإنَّ من الخطر أيضًا أن نفترض أنَّ لدى جميع المعنيين تلك المقاييس الضمنية ذاتها.

وسوف أناقش في الفصلين الخامس والسادس مسائل المعايير والمقاييس بشيء من التفصيل وأقدِّم بعض الأفكار المتعلقة بجعل الأدلة أكثر نفعًا والقرارات أشد سلامة.

(٤) نتائج

سوف يُتخذ البحث المشار إليه في هذا الفصل كعمود فقري لبقية فصول الكتاب. والمنطق الذي يقف وراء ذلك يسير على النحو التالي: إذا ما كانت المؤسسات المائة والثلاثين التي درسناها تمثل التعليم العالي الأميركي أيَّما تمثيل، فإنَّ العوائق الجوهرية التي تعوق النوعية تكون مرتبطة بالكيفية التي نفكر بها في موضوع التقويم. وما دمنا متمسكين بتركيز يتجه من الخارج إلى الداخل؛ حيث لا يُجرى التقويم والقياس إلا حين يوعز به من الخارج، وما دمنا متمسِّكين بعقلية الامتثال، التي تشجِّع مقاربةً للتقويم رتيبةً نتشوَّق للانتهاء منها، فلن نتمكَّن قط من أن نتأمَّل فيما نفعله ذلك التأمل الصحيح، ولن نحقِّق قط تلك الثقافة الأكاديمية التي يشكِّل فيها الاهتمام بالنوعية جزءًا من نسيجها؛ ولذلك سوف أعهد في الفصول المتبقية إلى تناول الموضوعات الأساسية التي طرحتها الدراسة التي قامت بها بيو وأشير إلى الكيفية التي يمكن بها للأكاديمية بوجه عام، والأقسام الأكاديمية بوجه خاص، أن تُعْنى بهذه الموضوعات على نحوٍ يفضي إلى ثقافات النوعية ويقود إليها.

المراجع

  • Bensimon, E. M., & O’Neill, H. F., Jr. (1998), Collaborative effort to measure faculty work, Liberal Education, 84, (4).
  • Blau, P. M., & Scott, W. R. (1962), Formal organizations: A comparative apparoch, San Francisco, CA: Chandler.
  • Burke, J. C. (1999, July/August), The assessment anomaly: If everyone’s doing it why isn’t more getting done? Assessment Update, 11, 4.
  • Dill, D. D., Massy, W. F., Williams, P. R., & Cook, C. M. (1996, September/October), Accreditation and academic quality assurance: Can we get there from here? Change, 28(5), 17–24.
  • Fairweather, J. (1996), Faculty work and the public trust: Restoring the value of teaching and public service in American academic life, Boston, MA: Allyn & Bacon.
  • Ferren, A. S., & Slavings, R. (2000), Investing in quality: Tools for improving curricular efficiency, Washington, DC: Association of American Colleges and Universities.
  • McMillan, J. H., Wergin, J. F., Forsyth, D. R., & Brown, J. C. (1986), Student ratings of instruction: A summary of literature, Instructional Evaluation, 9 (1), 2–9.
  • Messik, S. (1994), Validity of psychological assessment: Validation of inferences from persons’ responses and performances as scientific inquiry into score meaning, Research Report RR-94-45, Washington, DC: ERIC ED380496.
  • National Center for Postsecondary Improvement (1999, September/October), Revolution or evolution? Gauging the impact of institutional student-assessment strategies, Change, 53–56.
  • Peterson, M. W., & Einarson, M. K. (2001), What are colleges doing about student assessment? Does it make a difference? Journal of Higher Education, 72, 629–669.
  • Wergin, J. F., & Swingen, J. N. (2000), Departmental assessment: How some colleges are effectively evaluating the collective work of faculty, Washington, DC: AAHE.
١  معادِل التفرُّغ، full-time equivalent مصطلح يُستخدَم للتعبير عن حجم الهيئة التعليمية (أو حجم الكتلة الطلابية) في مؤسسة تعليمية، آخذًا في الاعتبار أنَّ بعض المدِّرسين (أو الطلاب) قد يكونوا غير متفرِّغين تمامًا. وبقسمة إجمالي وقت التدريس للمدرسين غير المتفرغين على عدد ساعات التدريس التي نتوقع أن يعطيها المتفرِّغون يمكن أن نحسب العدد المكافئ لهذه الساعات بالنسبة للمتفرغين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤