الفصل الخامس

اعتلال الذاكرة

سيتناول هذا الفصل حالة «فقدان الذاكرة»، عندما لا تعمل الذاكرة بكفاءة نتيجة إصابة دماغية. بالرجوع إلى المكونات الفرعية المختلفة للذاكرة التي ناقشناها في فصول سابقة، سيكون التركيز هنا منصبًّا على فقدان الذاكرة فيما يسمى بمتلازمة النسيان التقليدية. سنستعرض استعارات وثيقة الصلة فيما يتعلق بأداء الذاكرة الطويلة الأجل، مع دمج الفرق الوظيفي الواسع بين «ماكينة الطباعة» (التي تخلق ذكريات جديدة طويلة الأجل) و«المكتبة» (التي تخزن ذكريات قديمة «مدمجة» طويلة الأجل). لقد عرفنا الكثير عن الوظائف العادية للذاكرة من خلال دراسة أفراد ذوي ذاكرة معتلة بسبب إصابة دماغية، وسيقدم هذا الفصل نظرة عامة على هذه النتائج المهمة. كما يستعرض هذا الفصل أيضًا الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها الظروف النفسية والحالات الإكلينيكية الأخرى على الذاكرة.

(١) الذاكرة والمخ

fig11
شكل ٥-١: الحصين هو أحد أهم مكونات المخ المرتبطة بالذاكرة، ويشار إليه بالخطوط المتقاطعة في صور المخ عاليه.

حتى الآن استعرضنا في هذا الكتاب بشكل أساسي الذاكرة من حيث عملياتها ومكوناتها الوظيفية؛ أي «برامج» الذاكرة، إن جاز التعبير. ولكننا نستطيع أيضًا أن نفكر في الذاكرة بمستوى آخر، من حيث «مكونات» الجهاز العصبي المركزي الذي يحفِّز الذاكرة. في أعماق أدمغتنا، تُصنف ذكرياتنا (أو تُدمج) في جزء من المخ يسمى «الحصين»، ويعمل بمنزلة «ماكينة الطباعة» للذكريات الجديدة. «يطبع» الحصين الذكريات المهمة، ثم يؤرشفها (على صورة «كتب») إلى أجل غير مسمى في «القشرة الدماغية». والقشرة هي الطبقة الخارجية من المخ، حيث تهتز شبكة أشبه بالنباتات المعترشة مكونة من مليارات الخلايا العصبية عن طريق النبضات الكهربائية والكيميائية لتحتفظ بالمعلومات. ويمكن اعتبار القشرة الدماغية بمنزلة «المكتبة» التي تحتفظ إلى أجل غير مسمى بتلك الذكريات («الكتب») المهمة الطويلة الأجل التي «طبعها» الحصين. (إن الدرجة التي يظل عندها الحصين مشتركًا في استرجاع هذه الذكريات على مدار فترات زمنية طويلة ما زالت — حتى وقت التأليف — محل جدال.)

ركز الكثير من بحوث الذاكرة على ما يفعله الناس ويقولونه ويحسُّونه ويتخيَّلونه نتيجة لتجاربهم السابقة. ولكن من المهم أيضًا التفكير في الكيفية التي تنعكس بها أحداث الماضي على نشاطنا المخي، لا سيما في سياق الظروف الإكلينيكية التي يمكن أن تؤثر سلبًا على الذاكرة. سنلتفت الآن إلى استعراض ما يمكن أن يحدث عندما تُصاب «مكونات» المخ الداعم للذاكرة بالتلف.

(٢) فقدان الذاكرة عقب الإصابة الدماغية: «متلازمة النسيان»

متلازمة النسيان هي أوضح مثال لاعتلال الذاكرة، وهي تنطوي على شكل من أشكال الإصابة الدماغية الخاصة (والتي عادةً ما تشمل تلك الأجزاء من المخ المعروفة ﺑ «الحصين» أو «الدماغ البيني»). في حالة متلازمة النسيان، يبدي المرضى فقدان ذاكرة حادًّا «للأحداث اللاحقة للإصابة» وقدرًا من فقدان الذاكرة «للأحداث السابقة للإصابة»: يشير فقدان الذاكرة للأحداث اللاحقة للإصابة إلى فقد الذاكرة للمعلومات التي اكتُسبت بعد وقت الإصابة الدماغية التي سببت فقدان الذاكرة، في حين أن فقدان الذاكرة للأحداث السابقة للإصابة يشير إلى فقد المعلومات التي اكتُسبت قبل الإصابة (انظر الشكل ٥-٢).
fig12
شكل ٥-٢: «فقدان الذاكرة للأحداث اللاحقة للإصابة» هو شكل من أشكال متاعب الذاكرة الذي لا يمكن بسببه تذكر الأحداث أو المعلومات المُقدَّمة بعد وقت الإصابة. على العكس من ذلك، فإن «فقدان الذاكرة للأحداث السابقة للإصابة» هو شكل من أشكال اعتلال الذاكرة الذي يعجز المرء بسببه عن تذكر المعلومات أو الأحداث المُقدَّمة قبل وقت الإصابة.
هذه قصة لمريض شهير مصاب بفقدان الذاكرة، يُدعى «إن إيه»، والذي تم تشخيص إصابته بفقدان الذاكرة بعد إصابة دماغية محددة وغير عادية إلى حد كبير:

كنت أعمل جالسًا خلف مكتبي … ثم دخل رفيقي في الغرفة [و] أنزل أحد سيفي الشيش الصغيرين من على الحائط، وأعتقد أنه كان يحرك السيف على غرار سيرانو دي بيرجراك خلفي … شعرت فقط بضربة خفيفة على ظهري … فالتفتُّ فجأة … في نفس الوقت الذي كان يَخِزُّني فيه. استقبلت السيف في منخاري الأيسر تمامًا، فنفذ صاعدًا وثقب المنطقة المصفوية من مخي.

ما يلي مقتبس من الحوار الشائق والكاشف الذي دار بين المريض «إن إيه» والطبيب النفسي وين ويكلجرين الذي تم تقديمه ﻟ «إن إيه» في غرفة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية. سمع «إن إيه» اسم ويكلجرين وقال:
«ويكلجرين، هل هذا اسم ألماني؟»
أجاب ويكلجرين: «لا.»
«أيرلندي؟»
«لا.»
«اسكندنافي؟»
«أجل، إنه اسكندنافي.»
أعقب ذلك خمس دقائق أخرى من الحوار بين «إن إيه» وويكلجرين، ثم غادر ويكلجرين الغرفة، وبعد خمس دقائق عاد. كان من الواضح أن «إن إيه» ينظر إلى ويكلجرين كما لو أنه لم يره قط من قبل، ولهذا أُعيد تقديم الاثنين أحدهما إلى الآخر. ثم دار الحوار التالي:
«ويكلجرين، هل هذا اسم ألماني؟»
أجاب ويكلجرين: «لا.»
«أيرلندي؟»
«لا.»
«اسكندنافي؟»
«أجل، إنه اسكندنافي.»

لاحظ أنه — من القصة السابقة — لم تُمح كل أنواع الذاكرة لدى «إن إيه»؛ لأنه احتفظ بمعرفته باللغة؛ فمثلًا: كان يفهم ما يُقال له، كما أصدر تعابير شفهية مفهومة. فيما يتعلق بهذه النقطة، كانت ذاكرته الدلالية على الأقل محفوظة جزئيًّا (انظر الفصل الثاني). علاوة على ذلك، كانت قدرات الذاكرة العاملة لدى «إن إيه» محفوظة بدرجة كافية بحيث يستطيع متابعة ما يُقال في الحوار. ما يبدو أن «إن إيه» يفتقر إليه هو «القدرة الخاصة على الاحتفاظ بالمعلومات الجديدة على مدى فترة زمنية طويلة». بعبارة أخرى: كان يفتقر إلى القدرة على وضع المعلومات الجديدة في الذاكرة الطويلة الأجل. هذه إحدى السمات الجوهرية في متلازمة النسيان.

بصفة عامة، يظل الأفراد المصابون بمتلازمة النسيان محتفظين بالذكاء واللغة ونطاق الذاكرة الفورية، ولكن تكون الذاكرة الطويلة الأجل معتلة بشكل حاد. وتعتبر طبيعة هذا الاعتلال مسألة محل جدال كبير، حيث يذهب بعض المنظرين إلى حدوث فقدان انتقائي للذاكرة «العرضية» في حالة متلازمة النسيان (حيث تُعرف الذاكرة العرضية بأنها ذاكرة أحداث حياتك التي مررت بها؛ انظر الفصل الثاني). وعلى العكس من ذلك، يذهب باحثون آخرون إلى حدوث عجز أوسع نطاقًا في حالة فقدان الذاكرة التقليدي الذي يشمل الذاكرة «التقريرية» (التي تشير إلى ذاكرة الحقائق أو الأحداث أو الافتراضات التي يمكن أن ترد إلى الذهن ويتم التعبير عنها بشكل واعٍ؛ وهي تتداخل بشكل ملحوظ مع مفهوم الذاكرة الصريحة، الذي ناقشناه في الفصل الثاني). على النقيض، يبدو أن لمتلازمة النسيان تأثيرًا ضعيفًا على الذاكرة الإجرائية أو الضمنية (مثل تذكر كيفية القيادة)، وحتى الذكريات الإجرائية الجديدة يمكن تكوينها بكفاءة (أي يمكن اكتساب مهارات أو عادات جديدة بكفاءة، مثل — لنقل — التلاعب بالكرات في الهواء أو ركوب الدراجة أحادية العجلة).

fig13
شكل ٥-٣: اقترح إسكواير نموذجًا يفرِّق داخل الذاكرة الطويلة الأجل بين الذاكرة التقريرية (أو الصريحة) والذاكرة الإجرائية (أو الضمنية)، مع تعرض الذاكرة التقريرية فقط للخطر في حالة متلازمة النسيان.
عادةً ما تنطوي متلازمة النسيان التقليدية على ضرر بالحصين ومناطق المخ شديدة الارتباط به مثل المهاد في الدماغ البيني؛ لهذا يبدو أن الضرر في الحصين والمهاد يمكن أن يعيق تكوين ذكريات واعية جديدة. علاوة على ذلك، عندما يتعلم الأفراد المصابون بفقدان الذاكرة مهارات جديدة، يبدو أنهم يحققون هذا دون وعي. استطاع «إتش إم»، الذي خضع لجراحة استئصال الحصين، أن يحل أخيرًا لغزًا معقدًا، يسمى الرسم المتطابق، كان يحاول حله على مدار عدة أيام (انظر الشكل ٥-٤). ومع هذا، ففي كل مرة يستلم فيها المهمة لإنجازها، كان ينكر تمامًا رؤيته لهذا اللغز من قبل!
fig14
شكل ٥-٤: عادةً ما يكون المرضى المصابون بمتلازمة النسيان قادرين على تعلم أداء مهمة معقدة، تسمى الرسم المتطابق، بعد محاولات تمتد عدة أيام، ومع هذا ففي كل مرة يستلمون فيها المهمة لإنجازها، فإنهم قد ينكرون حلها من قبل قط! (عادةً ما يكون أداء الأفراد المصابين بفقدان الذاكرة طبيعيًّا، أو يكون أقرب إلى الطبيعي، في مهام شديدة التنوع للذاكرة الضمنية أو الإجرائية.)1

هذه نقطة غاية في الأهمية عند تدبر الطريقة التي «تتجزأ» أو «تتفكك» بها الجوانب المختلفة من الذاكرة عقب الإصابة الدماغية، ويمكن أن تكون مفيدة عند تدبر الطرق المحتملة لإعادة تأهيل الأفراد المصابين باضطرابات الذاكرة. كما يمكن أن تقدم لنا أيضًا بعض المعلومات المهمة عن طريقة تنظيم الذاكرة في المخ السليم أو غير المتضرر. بصفة أكثر تحديدًا، تمت الإشارة على نحو معروف (من جانب كينيث كريك) إلى أنه — بالنسبة إلى أنظمة معقدة مثل المخ — قد نتعلم أكثر عن العلاقات الوظيفية في هذه الأنظمة (١) عندما تتوقف عن العمل كما ينبغي، وليس (٢) عندما يعمل كل شيء بسلاسة. علاوة على ذلك — كما رأينا في الفصل الثاني — فإن العديد من الفروق الوظيفية المقترحة في الذاكرة قد تم اقتراحها في محاولة لفهم النتائج التي تم التوصل إليها عند تقييم كل من (١) الأفراد الأصحاء و(٢) الأفراد المصابين بأشكال مختلفة من الإصابات الدماغية. قدم هذان المصدران من المعلومات نتائج مهمة فيما يخص تنظيم الذاكرة الإنسانية.

وفي موضوع وثيق الصلة، كانت هناك نزعة في الماضي نحو تصنيف جميع الأنماط الفرعية المختلفة لفقدان الذاكرة معًا حسب ما إذا كان الفرد قد واجه مشكلة وظيفية معروفة تتعلق بالذاكرة أم لا. ولكن من الواضح الآن أن الأنماط الفرعية المختلفة لفقدان الذاكرة تتمتع بسمات مختلفة، حسب الموضع الدقيق للإصابة المخية. في المستقبل، سنحتاج إلى وضع تصنيف أكثر إلمامًا بالاضطرابات المخية المختلفة المرتبطة بالذاكرة.

(٣) التوصل إلى استنتاجات عن الذاكرة والمخ

كانت دراسة فقدان الذاكرة مهمة في السنوات الأخيرة بصفتها: (١) طريقة للتمييز بين أنواع معينة من عمليات الذاكرة و(٢) تربط صعوبات التذكر بهياكل عصبية محددة تكون غالبًا متضررة لدى المرضى المصابين بمشكلات في الذاكرة. علاوة على ذلك، فإن التطور في تقنيات تصوير المخ مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، قد أضاف معلومات «متقاربة» جديدة مهمة بتمكيننا من دراسة أجزاء المخ التي تنشط عندما يقوم الأفراد غير المصابين دماغيًّا بالتذكر. كما أثبت تصوير المخ أيضًا فائدته الكبيرة في دراسة عدد من الحالات والظروف الإكلينيكية الأخرى التي يمكن أن تكون فيها أنواع مختلفة من فقدان الذاكرة ضمنية، على سبيل المثال (لا الحصر) حالات واسعة النطاق مثل: الاكتئاب، والسكتة الدماغية، واضطراب ما بعد الصدمة، والإجهاد، وفصام الشخصية، وخداع ديجا فو (انظر الفصل الثالث). كانت هناك حتى بعض الاقتراحات المثيرة للجدل مؤخرًا بإمكانية استخدام التصوير الوظيفي لتقييم ما إذا كان مجرم محتمل مذنبًا أو بريئًا، عن طريق تحديد ما إذا كان الشخص يملك «ذاكرة» للأحداث و/أو المواقع المرتبطة تحديدًا بالجريمة.

لكن وضع تعميمات عن الذاكرة والمخ أمر صعب؛ لأن التذكر عملية معقدة، تنطوي على العديد من عمليات المكونات الفرعية المعرفية (انظر الفصول السابقة من هذا الكتاب) التي تساعدها كوكبة من الآليات المخية. بعبارة أخرى، تنشط أجزاء عديدة من المخ عندما يقوم شخص بالتذكر. ظهر هذا بوضوح من خلال دراسات تصوير المخ التي أجريت على مدار عدة عقود ماضية، مشيرة إلى عدة مناطق مخية لم تكن مرتبطة ارتباطًا قويًّا في السابق بالذاكرة (مثل القشرة الأمامية الجبهية، الموجودة فوق العين وخلفها تمامًا، في التشفير والاسترجاع)؛ لهذا من الصعب السعي إلى فصل النشاط العصبي الذي قد يكون إحدى سمات التذكر. ورغم هذه النقطة القيمة، تبدو أجزاء معينة من المخ مهمة بالفعل بالنسبة إلى الذاكرة، على وجه الخصوص.

(٤) اختبار فقدان الذاكرة

أوضح لنا المرضى المصابون بفقدان الذاكرة الناتج عن عطب في الفص الصدغي (مثل إتش إم في بوسطن، أو إس جيه الذي درسنا حالته في بيرث بأستراليا) الكثير عن الأساس العصبي للذاكرة. بصفة خاصة، يبدو أن العناصر المهمة في الذاكرة الطويلة الأجل يخدمها الحصين، الموجود في أعماق الفص الصدغي بالمخ. خضع المريض إتش إم لجراحة لعلاج مرض الصرع المستعصي في عام ١٩٥٣. استأصل الجرَّاح السطح الداخلي من الفص الصدغي في نصفي المخ، بما في ذلك أجزاء من الحصين، واللوزة الدماغية، والقشرة الأنفية. منذ ذلك الحين، لم يتذكر إتش إم أي شيء جديد تقريبًا، رغم أنه لم يزل يتذكر فيما يبدو بعض الأحداث من حياته التي وقعت قبل الإجراء الجراحي. وبدت مهاراته المعرفية الأخرى (مثل الذكاء واللغة ونطاق الذاكرة الفورية) غير متأثرة. علاوة على هذا — كما رأينا سابقًا — فإن الأشخاص المصابين بمتلازمة النسيان قادرون على تعلم مهارات حركية جديدة، مثل الرسم المتطابق (انظر الشكل ٥-٤)، ومهارات حسية مثل إكمال الصور — رغم أنهم لا يتذكرون قيامهم بهذا.

إليك هذا المثال لمقابلة تقليدية لاختبار الذاكرة أجريت مع مرضى مثل إتش إم. قبل أن يبدأ الاختبار، يقدم إتش إم نفسه ويتحدث مع عالِم النفس العصبي لبضع دقائق، بما أنه لم يقابله من قبل. يسأل عالم النفس العصبي إتش إم عما تناوله على الإفطار في ذاك اليوم، فلا يتذكر. ثم يبدأ بعد ذلك الاختبار المنهجي للذاكرة. يُخرِج عالم النفس العصبي مجموعة صور لوجوه من حقيبته، ويعرض بعضها على إتش إم، الذي يتأملها بإمعان. ولكن بعد بضع دقائق، لا يستطيع إتش إم تحديد أي الوجوه قد رآها لتوه وأيها لم يره. كان أداؤه في هذه المهمة أدنى بشكل ملحوظ من مشارك متحكم من نفس سن ونوع إتش إم ويتمتع بنفس خلفيته، ولكنه ليس مصابًا بإصابة دماغية. تم التوصل إلى نفس النتائج باستخدام قائمة كلمات قرئت بصوت عالٍ أمام إتش إم، والتي طُلب منه لاحقًا تذكرها. بعد ذلك عرض عالم النفس العصبي على إتش إم رسمًا تخطيطيًّا أوليًّا وسأله إن كان يستطيع التعرف عليه. تعرَّف إتش إم بنجاح على هذا الرسم التخطيطي بصفته كرسيًّا. كذلك كان قادرًا على تكرار سلسلة من ستة أرقام بعد سماعها مباشرةً. يغادر عالم النفس العصبي الغرفة، بينما ينتظر إتش إم في الغرفة وهو يقرأ مجلة. بعد عشرين دقيقة، يعود عالم النفس العصبي. من الواضح أن إتش إم لا يتعرف على عالم النفس العصبي: حيث يقف إتش إم، ويقدم نفسه بأدب مجددًا. (توصلنا إلى نمط مماثل من النتائج في أستراليا الغربية مع المريض إس جيه.)

إن كلًّا من إتش إم وإس جيه على وجه الخصوص مريضان «مثاليان» مصابان بفقدان الذاكرة؛ أي إنهما مصابان بفقدان ذاكرة انتقائي حاد. الإصابة الدماغية لدى إس جيه أكثر انحصارًا في الحصين مقارنةً بإصابة إتش إم، ولكنهما يُظهران فيما يبدو سمات اختبارية وإكلينيكية مماثلة. فالذاكرة القصيرة الأجل لدى إتش إم وإس جيه سليمة، ولكن ذاكرتهما عن الأحداث اليومية تَلِفت على نحو كارثي. اقتُرح في البداية أن الإصابة الدماغية لدى إتش إم تركته عاجزًا تحديدًا عن دمج (أي: تخزين) ذكريات جديدة. مع هذا، فمنذ ذلك الحين، لوحظ أن إتش إم وغيره من المرضى المصابين بفقدان الذاكرة الناتج عن عطب في الفص الصدغي مثل إس جيه، يستطيعون تعلم مهارات جديدة وتأدية مهام الذاكرة الضمنية، كما لاحظنا سابقًا. ولهذا يبدو من غير المحتمل أن يفسِّر الفشل في الدمج المباشر جميع الأعراض لدى هؤلاء الأفراد.

مع هذا، ثمة جدل حالي فيما يتعلق بمدى الذكريات «القديمة» الذي يمكن لمرضى مثل إتش إم وإس جيه الوصول إليه قبل وقت الإصابة الدماغية؛ وبالتالي بعد أكثر من خمسين سنة من إجراء إتش إم للجراحة، لم يزل علماء الأعصاب غير متفقين حول السبب المحدد وراء إظهاره فقدان الذاكرة المميز الشديد. مع هذا، وجهت حالة إتش إم — وحالة مرضى آخرين مماثلين مصابين بمتلازمة النسيان — مزيدًا من الانتباه إلى الحصين كبنية جوهرية للذاكرة. ثبت أن هذه خطوة حاسمة من أجل زيادة معرفتنا ﺑ «مكونات» المخ التي تشكِّل الذاكرة، ومن أجل وضع نظريات علمية عصبية لتخزين المعلومات.

إن لفقدان الذاكرة تأثيرات فلسفية عميقة، بالنظر إلى درجة تشابك ذاكرتنا عن قرب بإحساسنا المتواصل بالفردية، والذات، والهوية. وعلى المستوى العملي، فإن فقدان الذاكرة مُوهِن للغاية بالنظر إلى نطاق الأنشطة اليومية التي تعتبر الذاكرة فيها مهمة، ويمكن أن يضع عبئًا كبيرًا على مقدمي الرعاية للمصاب. على سبيل المثال: قد يكون من المحبط للغاية بالنسبة إلى مقدم الرعاية أن يُسأل السؤال نفسه أو أن يفعل الشيء نفسه مرات ومرات ومرات؛ لأن شخصًا لا يستطيع تذكُّر أنه طرح هذا السؤال أو نفَّذ هذه المهمة من قبل. وقد وُجد أن بعض استراتيجيات الذاكرة فعالة بشكل موثوق به بالنسبة إلى الأشخاص المصابين بفقدان الذاكرة عقب إصابة دماغية، مثل تقنيات التعلم بلا أخطاء (انظر الفصل السابع). ويمكن أن تفيد المساعدات الخارجية، مثل المفكرة اليومية — التي تحث الأشخاص في أوقات محددة على الإتيان بأفعال معينة — في حالات فقد الذاكرة. ولكن الذاكرة ليست كالعضلة التي يمكن تقويتها بالتمرين المتكرر؛ وبالتالي فإن تذكر الكثير والكثير من أعمال شكسبير لن يحسِّن قدرة ذاكرتك العامة، ما لم تصمم في أثناء تدربك على أعمال شكسبير استراتيجيات أو تقنيات ذاكرة أكثر عمومية يمكن تطبيقها في نطاقات أخرى (مثل استخدام الصور البصرية؛ انظر الفصل السابع).

تقييم اضطرابات الذاكرة

من المهم في كل من الممارسات والبحوث الإكلينيكية إجراء عدد من التقييمات المنهجية للمرضى المصابين باضطرابات الذاكرة. وتحدث اعتلالات الذاكرة أحيانًا منفصلة، كما في حالة إتش إم أو إس جيه أو إن إيه، ولكنها تكون واقعة نادرة الحدوث للغاية. فمثلًا: إحدى أكثر صور اعتلالات الذاكرة شيوعًا توجد في «متلازمة كورساكوف»، التي تؤثر عادةً على قدرات نفسية أخرى بالإضافة إلى الذاكرة. لهذا، من المستحسن تقييم القدرات العقلية الأخرى مثل الإدراك والانتباه والذكاء — علاوة على اللغة والوظائف التنفيذية — لدى الشخص المصاب بفقدان الذاكرة.

وبالنسبة إلى المرضى المصابين بفقدان الذاكرة، غالبًا ما يبدأ علماء النفس تقييمًا باستخدام مقياس وكسلر للذاكرة (الآن في إصداره الثالث). ولكن هناك اختبارات أخرى مفيدة، مثل: مقياس وكسلر لذكاء البالغين (الآن أيضًا في إصداره الثالث) الذي يمكن أيضًا استخدامه، لكي يمكن مقارنة الأداء على مقياس وكسلر لذكاء البالغين في إصداره الثالث مع مقياس وكسلر للذاكرة في إصداره الثالث. ولو كان هناك فرق جوهري بين درجات مقياس وكسلر للذاكرة ومقياس وكسلر لذكاء البالغين، فإن هذا يشير إلى أن الشخص المصاب بفقدان الذاكرة لديه اعتلال محدد في الذاكرة، ولكن ليس في «الذكاء» بحد ذاته.

يجب تقييم الذكاء في كل من الوقت الحالي باستخدام مقياس وكسلر لذكاء البالغين (أو أداة مماثلة)، وقبل المرض (باستخدام مؤشر لمعدل الذكاء قبل المرض) لتحديد ما إذا كان هناك أي تدهور ملحوظ في الذكاء بمرور الوقت، كنتيجة للاضطراب الإكلينيكي.

يخضع كل من مقياس وكسلر لذكاء البالغين ومقياس وكسلر للذاكرة للتحديث الدوري، ويتم وضع معاييرهما بالنظر إلى الكثافة السكانية للأصحاء الطبيعيين. هذا شائع في معظم اختبارات القياس النفسي المتاحة تجاريًّا؛ وبالتالي يمكن استخدام مقياس وكسلر للذاكرة في إصداره الثالث أو مقياس وكسلر لذكاء البالغين في إصداره الثالث، ومقارنة النتائج مع الكثافة السكانية العامة. صُمِّمت مقاييس اختبارات وكسلر بحيث يكون متوسط الكثافة السكانية العامة هو ١٠٠، مع انحراف معياري يبلغ ١٥؛ وبالتالي فإن أي شخص يحرز ٨٥ على مقياس وكسلر لذكاء البالغين في إصداره الثالث، فإنه يحرز انحرافًا معياريًّا واحدًا تحت متوسط الكثافة السكانية العامة.

ومع هذا، فإن تقييم الذاكرة الذي يقدمه مقياس وكسلر للذاكرة في إصداره الثالث ليس شاملًا، وهناك اختبارات أخرى للذاكرة و(إن أمكن) لقدرات معرفية أخرى يجب أيضًا أن تُجرى عند تقييم فقدان الذاكرة. وهي تتضمن تقييم ذاكرة السيرة الذاتية البعيدة. ويمكن أيضًا أن تُنتِج الاستقصاءات الإكلينيكية حول الذاكرة معلومات قيمة لا تقدمها بالضرورة معايير القياس النفسي. وبصفة خاصة، يمكن إجراء هذه الاستقصاءات على مقدم الرعاية أو المريض نفسه؛ إذ بوسعهما تقديم ملاحظات مهمة حول الصعوبات اليومية التي يواجهها المريض. علاوة على ذلك، رغم أن الشخص المصاب باعتلال في الذاكرة قد لا يكون دقيقًا تمامًا عند إكمال هذه الاستقصاءات، فقد يكون المرء قادرًا على جمع بعض الملاحظات عن إدراك المريض نفسه لطريقة عمل ذاكرته من خلال استخدام هذه الأدوات.

كنظرة عامة على فقدان الذاكرة، لاحظ أنه:
  • قد يكون من المستحيل اكتساب معلومات جديدة على مدار فترة زمنية طويلة، رغم أن الأفراد المصابين بفقدان الذاكرة يستطيعون عادةً تكرار المعلومات بشكل طبيعي في نطاق ذاكرتهم العاملة.

  • قد يحتفظ الأفراد المصابون بفقدان الذاكرة بذكريات الطفولة جيدًا، ولكنهم عادةً ما يجدون أنه من المستحيل تقريبًا اكتساب ذكريات جديدة؛ مثل أسماء الأشخاص الذين قابلوهم للتو.

  • قد يتذكر الأشخاص المصابون بفقدان الذاكرة كيف يقرءون الساعة، ولكنهم لا يتذكرون الشهر أو التاريخ أو اليوم الحالي، ولا يستطيعون حفظ شكل بيت جديد.

  • قد يستطيع الأشخاص المصابون بفقدان الذاكرة تعلم مهارات جديدة مثل الكتابة على لوحة المفاتيح؛ ورغم الدليل السلوكي على هذا الاكتساب الجديد، فإنهم في المرة القادمة التي يجلسون فيها للكتابة قد ينكرون تمامًا أنهم استخدموا لوحة مفاتيح من قبل!

fig15
شكل ٥-٥: في حالة الشرود، يفقد المرء بوضوح إحساسه بهويته الشخصية والذكريات المصاحبة لها، وقد تنشأ هذه الحالة عن حدث صادم مثل حادثة أو جريمة. ويتجسَّد مثل هذا السيناريو في فيلم «الشك»، من إخراج ألفريد هيتشكوك.2

(٥) فقدان الذاكرة النفسي المنشأ

لا تنشأ جميع اضطرابات الذاكرة من المرض أو الإصابة الدماغية؛ ففي «فقدان الذاكرة النفسي المنشأ»، عادةً ما يكون هناك اعتلال وظيفي في الذاكرة، ولكن لا يوجد دليل ملموس على الإصابة الدماغية العصبية.

على سبيل المثال: هناك أمثلة لأفراد يعانون من «حالة انفصالية» يبدون فيها منفصلين جزئيًّا أو كليًّا عن ذكرياتهم. ينتج هذا غالبًا عن حدث ذي طبيعة عنيفة، مثل الاعتداء الجنسي أو الجسدي، أو ارتكاب جريمة قتل أو مشاهدتها. ومثال للحالة الانفصالية هو حالة الشرود، حيث يفقد المرء إحساسه بهويته الشخصية والذكريات المصاحبة لها. وعادةً ما يكون الأفراد المصابون بحالة الشرود غير واعين بوجود خلل، وغالبًا ما يتبنون هوية أخرى. لا يتضح الشرود إلا عندما «يستفيق» المريض، بعد أيام أو شهور أو حتى سنوات من الحدث المترسب — غالبًا — ليجد نفسه بعيدًا بعض الشيء عن المكان الذي كان يعيش فيه في الأصل (ومصطلح «الشرود» مشتق — في الواقع — من كلمة لاتينية تعني الهروب).

شكل آخر من الحالات الانفصالية هو «اضطراب تعدد الشخصية»، وفيه تظهر بوضوح عدة شخصيات لإدارة جوانب مختلفة من حياة الشخص الماضية. على سبيل المثال: في القضية المشهورة لخنَّاق التلال في لوس أنجلوس في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وُجهت لكينيث بيانكي تهمة اغتصاب وقتل أكثر من امرأة، ولكن رغم الأدلة القوية التي أدانته، أصرَّ على إنكار الذنب وادَّعى أنه لا يعرف شيئًا عن الجرائم. ومع هذا — تحت التنويم المغناطيسي — ظهرت شخصية أخرى اسمها ستيف. كان ستيف مختلفًا تمامًا عن كينيث، وادَّعى مسئوليته عن جرائم القتل. بعد إفاقته من غفوة التنويم المغناطيسي، كان من الواضح أن كينيث بيانكي لم يستطع تذكر الحوار الذي دار بين ستيف والمنوم المغناطيسي. إذا استطاعت شخصيتان أو أكثر أن توجد داخل نفس الفرد، فإن هذا يخلق بالتأكيد مشكلات قانونية كبيرة من حيث أي الشخصين يجب اتهامه بارتكاب الجريمة! مع هذا، جاء الحُكم في غير صالح بيانكي في هذه القضية؛ لأن المحكمة رفضت أن تقبل بأنه فعلًا يمتلك شخصيتين مختلفتين.

خلال محاكمة بيانكي، لفت عدد من علماء النفس الانتباه إلى أن شخصيته الأخرى ظهرت خلال جلسات التنويم المغناطيسي، التي ألمح فيها الطبيب بالفعل إلى بيانكي أنه سيكشف جانبًا آخر من نفسه. يعتبر التنويم المغناطيسي بحد ذاته تقنية مثيرة للجدل، من حيث كونه يستطيع بالفعل حث حالة من الوعي تتسم بالاختلاف النوعي. علاوة على ذلك، فإن المشكلة المحددة هنا هي ما إذا كانت آثار التنويم المغناطيسي ناتجة ببساطة عن إطاعة التعليمات التي يقدمها الطبيب، وهي مشكلة مماثلة لواحدة من المشكلات الرئيسية الخاضعة للبحث فيما يتعلق بالعديد من النتائج التي توصلت إليها إليزابيث لوفتس والآثار المترتبة عليها بخصوص معقولية شهادة شاهد العيان (انظر الفصل الرابع). وفي سياق حالة بيانكي، قد يكون التنويم المغناطيسي أتاح الإيحاء بوجود شخصية أخرى، وقد يكون بيانكي قد استغل الفرصة للاعتراف عن طريق هذه القناة. علاوة على ذلك، قد تكون معرفة بيانكي العامة عن المرض النفسي — إلى جانب معرفته بحالات سابقة مسجلة لتعدد الشخصيات — قد أمدته بأساس للرد بصدق تحت تأثير التنويم المغناطيسي (أي في الوقت الذي أوحى فيه الطبيب إلى بيانكي أنه سيكشف عن جانب آخر من نفسه).

fig16
شكل ٥-٦: «اضطراب تعدد الشخصية» هو حالة انفصالية مثيرة للجدل تظهر فيها عدة شخصيات بوضوح للتعامل مع جوانب مختلفة من حياة المرء؛ وتصور رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» صورة مبالغًا فيها من هذه المتلازمة.3

بسبب الطبيعة الدرامية التي يتسم بها ما يسمى ﺑ «اضطراب تعدد الشخصية»، فإنه كان مثار اهتمام واسع لوسائل الإعلام، وظهر عدد من الكتب الرائجة لتصف حالات فردية. ويعتبر «ثلاثة وجوه لحواء» و(حديثًا) «خوف بدائي» مثالين لأفلام ناجحة اعتمدت على هذا الاضطراب النادر. في الفيلم الحديث «خوف بدائي»، يصور الفيلم رجلًا متهمًا بالقتل «يتصنَّع» بنجاح اضطراب تعدد الشخصية، فتتم تبرئته من الجريمة التي كان في الواقع مسئولًا عن ارتكابها.

وفي الحياة اليومية، يبدو أن فقدان الذاكرة يكون أحيانًا تمارضًا أو «اصطناعًا»، وما زال اكتشاف التمارض أمرًا صعبًا في سياق الطب الشرعي. ونعني بالتمارض أو «تصنُّع المرض» أن يؤدي الشخص عن عمد في الاختبار النفسي أداءً ذا مستوى أقل من ذلك الذي كان سيؤديه نفس الشخص لو أنه بذل قصارى جهده. الأقل إثارة للجدل أنه في السنوات الأخيرة تمت الإشارة إلى هذه الظاهرة بأنها إظهار جهد أقل (أو مختزل) في اختبار فقدان الذاكرة، وهو مصطلح أكثر موضوعية وأقل عاطفية من التمارض. وإظهار جهد أقل قد ينتج عن عمد (مثلًا: من أجل مكافأة مالية، أو لجذب انتباه أكبر من مقدمي الرعاية)، أو قد يكون الدافع موجودًا عند مستوى أعمق من اللاوعي. وأيًّا كان مصدر الدافع ﻟ «تصنع المرض»، فلحسن الحظ أتيحت الآن تقنيات موثوق بها للمتخصصين العاملين بالمجال؛ لتمكينهم من التمييز بين أولئك الأفراد المصابين أو غير المصابين باعتلال الذاكرة الموضوعي، وأولئك الذين يبالغون.

هوامش

(1) Milner, 1968.
(2) © Selznick/United Artists/Kobal Collection.
(3) © John Springer Collection/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤